الطبعة:الثانية مؤسسة الغدير العالمية - ايوب حائري
الناشر:مؤسسة السراج - بيروت لبنان
الرّحْمَ_َنُ * عَلّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلّمَهُ البَيَانَ
نستعرض هذه الآيات الكريمة بعضاً من تجليات رحمانية الله عز وجل ، متقدم تعليم القرآن ، وهو معجزة عالم التدوين على خلق الإنسان ، وهو معجزة عالم التكوين ، وتنوّه بعد تعليم القرآن بأعظم ما علَّمه الله للإنسان ، وهو تعليمه البيان؛ وهكذا يصطفي الله لقرآنه ، سيد من لطف بلغة القرآن ، محمداً القائل وقوله الصدق: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» .
ويختار الأئمة من بعده ، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب القائل وقوله حق:
«وإنا لأمراء الكلام وفينا تنشَّبت عروقه وعلينا تهدَّلت غصونه» .
ويأتي نهج البلاغة الذي اختاره وجمعه الشريف الرضي ، من كلام الإمام علي ؛ ليغدو المنهل العذب لكل عشَّاق الحقيقة ، في أجمل تعبير إنساني عنها ، يردونه ويصدرون عنه بما ينوِّر عقولهم ، وينضِّر قلوبهم ، ويهذِّب نفوسهم ، ويرقى بذوقهم ، وبيانهم ويعبِّد لهم الطريق إلى أعمق أسرار القرآن الكريم ، وأبعاد شخصية الرسول العظيم ؟ ، وإلى سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد شمَّر سماحة الشيخ أيوب الحائري عن ساعد الجد ، وحاول أن يظفر بقبسات من النهج ، هي بعض ما استضاء به ، واستشفه من دروس كلمات الإمام أمير الكلام ، وجعلها في خدمة عشاق الإمام ونهجه ، تستقرئ لهم أبعاداً موضوعية ، وتستكشف لهم آفاقاً معنوية ، وتحفزهم إلى الإقبال بأنفسهم على النهج ، وأنواره وأسراره.
فهنيئاً له هذا الجهد ينضم إلى جهود سبقت في التأليف الهادف النافع إنشاء الله تعالى ، وإلى مزيد من النجاح مع الدعاء له بالتوفيق والقبول.
د. نبيل
الحلباوي
تأليف:أي_______وب الح_____ائ____ري
الطبعة:الأولى 13/ رجب/ 1426ه_ - 2005م
الطبعة:الثانية مؤسسة الغدير العالمية
الناشر:مؤسسة السراج - بيروت لبنان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، سيما بقية الله في الأرضين صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه.
لا يخفى على أحد أهمية نهج البلاغة ، حيث أنه من جملة أولى المصادر التي يتعرف من خلالها الإنسان على نظرية الإسلام للفرد والمجتمع ، وعلاقاته بالله ومعاملته مع نفسه وكيفية ارتباطه بالآخرين ، وبحق ما قيل فيه بأنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ؟ ، وبحق هو زبدة منهاج القرآن الكريم ، والمعرّف بمبادئه وأهدافه ، ومن هنا لا يمكن لباحث عن مفردة من مفردات الإسلام أن يتجاهله ، إذ إن هذا السفر العظيم يسلط الضوء التام ، والنور الكامل على التوحيد والنبوة والعدالة والمعاد وغيرها من الأصول الإسلامية وفروعها والمعارف العالية للمفاهيم الإنسانية بشكل عام والمفاهيم الأخلاقية بشكل خاص.
ومن هذا المنطلق فقد أخذت الحوزة العلمية على عاتقها جعل نهج البلاغة من ضمن المناهج في الحوزات العلمية والمعاهد الإسلامية ، ترويجاً لفكر نهج البلاغة وثقافته.
فبدأت أبحث عن كتاب فيه ما يحقق أمنية الطلبة ، فحاولت جاهداً غير أني لم أجد ضالتي ، فتوكلت على الله تعالى وتوسلت بالحوراء زينب ؟ بنت صاحب النهج لكي أوفق لتدوين سلسلة بحوث موضوعية تحقق ما أطمح إليه ، فكانت هذه القبسات التي بين يديك ، آثرنا على طبعها تعميماً للفائدة وترويجاً لثقافة النهج ، بعد أن عزم علينا بعض الأعزة طباعته وقد اشتمل الكتاب على:
1- المدخل في تعريف نهج البلاغة.
2- خمسة قبسات من فكر نهج البلاغة وثقافته:
القبسة الأولى: علاقة الإنسان بربه.
القبسة الثانية: علاقة الإنسان بنفسه.
القبسة الثالثة: علاقة
الإنسان مع الآخرين.
القبسة الرابعة: التقوى وصفات المتقين.
القبسة الخامسة: المرأة وقضاياها الفكرية.
نسأل الله تعالى أن ينتفع به أخوتي في الإيمان ، وأن أنتفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وما توفيقي إلا بالله العلي القدير.
ونأمل من المولى العزيز أن يوفقنا لإكمال ما شرعنا به من سلسلة هذه الأبحاث إنه ولي التوفيق.
20 جمادى الثانية 1426ه_.ق
ذكرى ولادة فاطمة الزهراء
وحفيدها الإمام الخميني
دمشق - السيدة زينب
أيوب الحائري
1.كتاب نهج البلاغة
2.مصادر نهج البلاغة
3.السيد الرضي و نهج البلاغة
4.من جمع كلمات أمير المؤمنين قبل السيد الرضي؟
5.المؤلفات لكلام أمير المؤمنين بعد كتاب نهج البلاغة
6.حفظ وشرح نهج البلاغة وترجماته
7.نهج البلاغة عند الأدباء والعلماء
8.مميزات كلمات الإمام علي
9.أهم مواضيع ومباحث نهج البلاغة
هذه المجموعة النفيسة والجميلة التي هي الآن بين أيدينا باسم نهج البلاغة والتي قد عجز الزمان عن أن يبليها ، بل أصبح الزمان والأفكار المستحدثة النيرة يزيدها انكشافاً في قيمتها وبهاءها ، هي مجموعة منتخبة من خطب و وأدعية و وصايا و رسائل وكلمات قصار مولى المتقين الإمام علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، جمعها السيد الشريف الرضي رضوان الله عليه سنة أربعمائة للهجرة ، أي قبل وفاته بست سنوات ، ودوّنها وأعدّها بطريقة فنية رائعة في ثلاثة أبواب على النحو التالي:
* الباب الأول: يضم الخطب التي ألقاها الإمام ، وهي في 239 خطبة .
* الباب الثاني: الرسائل التي بعثها الإمام إلى الأصدقاء والأعداء ، والقادة العسكريين ، والولاة وسائر مسئولي الدولة ، وتسمى الكتب أيضا ، ومجموعها 79 رسالة.
* الباب الثالث: ويحوي على الكلمات القصار ، أو العبارات الرائعة المليئة بالحكم التي اشتهرت باسم «قصار الحِكَم» أيضاً ، وهي 480 حكمة.
وقد ألقى معظم هذه الخطب والكلمات القصار أي الحكم وما بعث من الرسائل في فترة تولّيه الحكم والخلافة ، وهي تتعلق بالشؤون السياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها المهمة للدولة الإسلامية.
ومع أن الشريف الرضي رحمة الله عليه أسمى مجموع الخطب والرسائل والكلمات الحكيمة القصار للإمام باسم نهج البلاغة فإن استعراضاً قصيراً للمعارف السامية الكامنة فيه يدلنا على أن هذا المصنَف يمكن وصفه بأسماء قيمة أخرى أيضا مثل: نهج السعادة ، نهج الشهادة ، نهج الخطابة
، نهج السياسة ، نهج الخلافة ، نهج الفلاح ، نهج الكفاح ، نهج الحياة و....
إن السيد الشريف الرضي ، بماله من غرام بالأدب عموماً ، وبكلام الإمام خصوصاً كان ينظر إلى كلامه من ناحية البلاغة والأدب ولذلك كان ينظر في اختياره من كلامه إلى هذه الخصوصية ، أي أن الذي كان يجلب انتباهه من كلامه هو ذلك القسم الذي يمتاز ببلاغة خاصة ، ومن هنا سمى مجموعة منتخباته نهج البلاغة.
ولهذا أيضاً لم يولِ اهتماماً بذكر مآخذ ومدارك وأسانيد الخطب والرسائل ، اللهم إلا في موارد محدودة يذكّر فيها بمناسبة خاصة اسم الكتاب الذي ذكرت فيه تلك الخطبة أو الرسالة.
ومن حسن الحظ أن تعهد وسعى في جمع أسانيده ومصادره رجال آخرون من المتأخرين ، وسنعرض هنا تلك الجهود والمساعي بنحو موجز.
إن أحد الأسئلة المطروحة حول كتاب نهج البلاغة ، أن الشريف الرضي لم يتعرض إلى ذكر أسانيد الخطب والرسائل ، مما يجعل اعتبارها في مهبّ الشك والتردد ، حتى قيل: إن نهج البلاغة كتاب مرسل ، ولا يمكن الاعتماد عليه فقهياً.
على أثر ذلك ، بذل المحققون جهوداً حثيثة ومشكورة بغية الإجابة عن هذا السؤال ، وقاموا باستخراج مصادر نهج البلاغة التي دونت قبل الرضيّ وبعده. ونكتفي هنا بالإشارة إلى نماذج من تلك الجهود:
1 استناد نهج البلاغة ، لامتياز علي خان العرشي
وهو أول من طرح كيفية جمع نهج البلاغة ، وإسناد كلمات نهج البلاغة إلى الإمام ، وأجاب فيه عن الشبهات المثارة حول نسبة ما في الكتاب إلى أمير المؤمنين ، ومن ثم تعرض إلى مصادر نهج البلاغة التي دوّنها كلا الفريقين قبل السيد الرضي.
2 مصادر نهج البلاغة وأسانيده ، للسيد عبد الزهراء الحسيني
الخطيب
طبع الكتاب في أربعة أجزاء ، وقسّم المؤلّف مصادر نهج البلاغة إلى أربعة أقسام:
أ المصادر المؤلفة قبل عام 400ه_ وهي متوفرة اليوم.
ب المصادر المؤلفة قبل كتاب نهج البلاغة ، وقد نقل عنها بالواسطة.
ج المصادر المدوّنة بعد السيد الرضي ، لكنها نقلت كلام الإمام بأسانيد متصلة دون أن يقع في طرقها السيد الرضي.
د المصادر المدوّنة بعد السيد الرضي ، ونقلت كلام الإمام علي مع بعض الاختلاف ، مع ما جاء في رواية الشريف ل_ نهج البلاغة.
3 الإنسان الكامل في نهج البلاغة ، لحسن زاده الآملي.
بذل المؤلّف جهوداً كبيرة في هذا المضمار ، ويقول في مقدمة كتابه:
لقد اطلعت على مصادر هائلة لنهج البلاغة من الجوامع الروائية ، وكتب السير والغزوات ، ومجاميع حديثية ، وسفن علمية وكان دأبي العثور على مصادر ومنابع دونت قبل السيد الرضي ، حتى حالفني التوفيق في الوصول إلى ثلثي تلك المصادر.
ونقلت قسماً منها في ثنايا تكملة منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة المطبوع في خمسة أجزاء
4 نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ، للعلامة المحقق الشيخ محمد باقر بن عبد الله المحمودي
وهو موسوعة تبلغ ثماني مجلدات ، والمهم في هذه الموسوعة الجامعة لكلمات أمير المؤمنين ، أن المؤلف قد ذكر مصادر نهج البلاغة.
إن هذا التراث الأدبي والعلمي الخالد للإمام علي المتمثل في الوقت الحاضر بخطبه ورسائله ، والقصار من كلماته المجموعة في نهج البلاغة وفي غيره من الكتب لهو أعظم تراث أدبي وديني وأخلاقي واجتماعي ، وسياسي بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
والسؤال هنا ، كيف جمعت كلمات الإمام من قبل الشريف الرضي؟ فما السبب الذي دعاه إلى ذلك؟
يجيب على هذا السؤال الشريف الرضي في مقدمته على كتاب نهج البلاغة فيقول:
«وكنت في عنفوان السن ، وغضاضة الغصن ، بدأت بتأليف كتاب خصائص الأئمة ؟ ، يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته إمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ، ومماطلات الأيام ، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبواباً وفصلته فصولاً ، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة ، فاستحسن جماعة من الأصدقاء والأخوان ما أشتمل عليه الفصل المقدم معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه . وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين ، في جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ ، وآداب علماً أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية مالا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين مشرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثم محاسن الحكم والأدب ، مفرداً لكل صنف من ذلك باباً ومفصلاً فيه أوراقاً لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلاً ويقع إليّ آجلاً... ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي.... ورأيت من بعد ، تسمية هذا الكتاب ب_«نهج البلاغة»...» .
لم يكن الشريف الرضي هو
السبّاق إلى جمع كلام أمير المؤمنين ، ولا الأول في تدوينه ، فقد عني الناس به عناية بالغة ، وحظي بما لم يحظ به كلام أحد من البلغاء على كثرتهم في الجاهلية والإسلام ، ودوّنوه في عصره ، حفظوه في أيامه ، وكتبوه ساعة إلقائه ، ومن هؤلاء زيد بن وهب الجهني كان من أصحاب الإمام وشهد معه بعض مشاهده حيث جمع كتاباً من خطبه ، والحارث الأعور الذي دوّن بعض خطب الإمام ساعة إلقائها ، والأصبغ بن نباتة وهو من خاصّة أمير المؤمنين روى للناس عهده للأشتر النخعي لمّا ولاّه مصر ، ووصيته لولده محمد بن الحنفية.
ومن الذين حفظوا كلام الإمام ورووه: شريح القاضي ، وكميل بن زياد النخعي وغيرهم.
وذكر الجاحظ أن خطب الإمام علي كانت مدوّنة محفوظة مشهورة. وأحصى المسعودي ما كان محفوظاً من خطه فقال:
«والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانون خطبة» .
من خلال هذه النصوص من الأعلام على اختلاف مذاهبهم ، وفيهم المتقدّم على الرضي بزمان طويل يظهر بأن خطب الإمام علي كانت مدوّنة محفوظة مشهورة بين الناس معروفة عندهم ، وأنها تنيف على أربعما ئة وثمانين بينما المذكور منها في الكتاب الذي جمعه الرضي لا يصل إلى هذا العدد.
وبهذا يتضح ما ذكرناه من أن الشريف الرضي لم يكن هو أول من جمع خطب الإمام علي ، بل كان هناك من سبقه إلى هذا العمل.
ويتّضح أيضاً بأن نهج البلاغة ليس من صنع الشريف الرضي ، وقد نسبه إلى الإمام علي كما يدعيه البعض.
وقد ذكر العلامة السيد عبد الزهراء الخطيب في كتابه مصادر نهج البلاغة وأسانيده أسماء المصنّفات والكتب التي جمعت كلام الإمام علي قبل زمن الشريف
الرضي ، وعددها اثنان وعشرون مؤلّفاً ومصنّفاً ، منها:
1-خطب أمير المؤمنين: لزيد بن وهب الجهني ، والظاهر أن هذا الكتاب أوّل كتاب جمع في كلامه ، لأن مؤلفه أدرك الجاهلية والإسلام.
2-خطب أمير المؤمنين : المروية عن الإمام الصادق ، وقد رواه أبو روح فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة ، وقد وصلت نسخة من هذا الكتاب إلى السيد علي بن طاووس عليه الرحمة ، وكتب عليها: أنها كتبت بعد المائتين من الهجرة .
3-مائة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب: اختارها أبو عثمان عمرو بن عثمان الجاحظ في كلام أمير المؤمنين ، واختار الشريف الرضي جملة منها ، وأثبتها في النهج.
4-رسائل أمير المؤمنين وأخباره وحروبه: لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن مسعود الثقفي الكوفي .
كما أن الشريف الرضي لم يكن أوّل من جمع وألّف في كلام الإمام علي كذلك لم يكن آخر من قام بذلك ، كما أنه لم تنحصر كلمات وحكم ومواعظ أمير المؤمنين بالذي جمعه الرضي فحسب ، كما صرح هو بذلك في مقدمته على النهج ، بل إن كلام الإمام ذو الطابع الخاص تميّز عن كلام غيره من الخطباء والبلغاء ، ولهذا فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مرّ العصور قبل عصر الرضي وبعده أن يفردوا لكلامه كتباً خاصة ودواوين مستقلّة ، بقي بعضها وذهب الكثير منها مع الأيام في جملة ما ذهب من الكتب الشيعية والإسلامية عموماً ، حيث تعرّضت للنهب والإحراق عند انقراض دولة الفاطميين وفي حكومة الأيوبيين .
وعلى أي حال فإنّه لو قدّر لأحد أن يحظى بكل ما ألّف حول كلام الإمام علي ، لاجتمع له مكتبة برأسها.
وقد ذكر هذه المؤلفات
في كلام الإمام السيد الأمين في أعيان الشيعة ، والسيد الخطيب في مصادر نهج البلاغة وأسانيده ، حيث أحصى ثمانية واربعين مؤلّفاً في كلام الإمام بالإضافة إلى ما ذكره غيرهم من العلماء.
وأهم هذه المؤلّفات:
1 دستور معالم الحكم ، ومأثور مكارم الشّيم من كلام أمير المؤمنين : وهو لأبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر الفقيه الشافعي ، المعروف بالقاضي القضاعي صاحب الشهاب المتوفي سنة 445 ه_.
2 كلام الإمام علي وخطبه: لأبي العباس يعقوب بن احمد الصيمري ، جمعه من كلام علي وخطبه ، ونقل عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في المجلد الثالث: 410.
3 نثر اللآلئ: للشيخ الإمام أمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، المفسّر المتوفي سنة 548.
4 غرر الحكم ودرر الكلم: لأبي الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد الآمدي.
5 منثور الحكم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد البكري ، الشهير بابن الجوزي من أفاضل علماء الحنابلة.
6 الحكم المنثورة: وهي ألف كلمة ختم بها عبد الحميد بن أبي الحديد كتابه شرح نهج البلاغة ، وقال قبل الشروع بذكرها ما هذا نصه: «ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه ، يعني إلى الإمام علي ، وبعضه مشهور عنه ، وبعضه ليس بذلك المشهور... الخ»
7 الصحيفة العلوية الثانية: للشيخ الجليل الميرزا حسين النوري ، ألّف هذا الكتاب لاستدراك ما فات السماهيجي في الصحيفة العلوية الأولى من أدعية أمير المؤمنين ومناجاته.
8 حكم علي بن أبي طالب: جمعها بعض أهل الفضل من المسيحيين ، ذكر ذلك الأستاذ يوسف إليان سركيس في معجم المطبوعات قال: وهو يشتمل على أربع رسائل.
9
نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: للعلامة المحقق الشيخ محمد باقر بن عبد الله المحمودي ، وهو موسوعة تبلغ ثماني مجلدات. والمهم في هذه الموسوعة الجامعة لكلمات أمير المؤمنين أن المؤلف قد ذكر مصادر نهج البلاغة.
ولكن على الرغم من القيمة العلمية والأهمية البالغة لهذه الكتب والمؤلّفات المذكورة. بقي كتاب نهج البلاغة الذي جمعه الرضي رحمه الله ، هو التراث الخالد الذي لا يبليه الزمان مهما طال عمره ، وكما قيل في المقايسة بينه وبين سائر المؤلفات في كلام الإمام :
«فإنّ أعظمها خطراً ، وأعلاها شأناً ، وأحسنها أبواباً ، وأبعدها وشأواً ، هو مجموع ما اختاره الشريف الرضي في كتابه نهج البلاغة».
بلغ كتاب نهج البلاغة قمّة العظمة والتقديس والتبجيل ، ما لم يبلغه كتاب بعد القرآن الكريم والسنة النبوية ، وذلك لمحتوياته الثمينة ، ومضامينه القيّمة.
ومن هنا قام العديد من الأعلام بحفظه ، وحث الناس على الأخذ به وتعلّمه ، فكان ممن حفظته القاضي «جمال الدين بن الحسين بن محمد القاشاني» وهو من المعاصرين لزمن المؤلف المرحوم الرضي ، ومن حفّاظه في القرون المتقدمة: أبو عبد الله محمد الخطيب المتوفي 564ه_.
وهكذا غيرهم من الذين حفظوا النهج ممن لا يتّسع المجال لذكرهم ، وهكذا أيضاً توالت وتضافرت الشروح حول النهج منذ عهد قريب من عصر المؤلف إلى عصرنا الحاضر ، وأول من قام بشرحه هو الشريف الرضي الجامع لنهج البلاغة ، ومن ثم علماء آخرون ذكر أسمائهم وشروحهم على النهج العلامة الأميني في كتابه القيم الغدير ، والشيخ آقا بزرگ في كتابه الذريعة إلى تصانيف الشيعة.
وأهم تلك الشروح هي كالآتي:
1-شرح نهج البلاغة ، لعبد الحميد بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي المتوفى
656ه_.
2-شرح نهج البلاغة ، لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني المتوفى 699ه_ ، يعدّ المؤلّف من فلاسفة الإمامية ومتكلميهم ، ومن هنا نجد أن شرحه مشحون بموضوعات كلامية وفلسفية.
3-شرح نهج البلاغة ، للشيخ محمد عبده المتوفى 1323ه_ من علماء الجامع الأزهر.
وقد ذكر السيد الأمين بعض هذه الشروح في الأعيان ، كما أنه ترجم الكتاب إلى لغات أخرى .
على أثر صدور كتاب نهج البلاغة من قبل السيد الرضي ، شاع في الناس ذكره ، ونال إعجاب العلماء والأدباء ، فتدارسوه في كل مكان وزمان ، لما اشتمل عليه من عجائب الألفاظ ، وما احتواه في سحر البيان وجوامع الكلم في أسلوب قلّ نظيره إن لم يكن معدوماً لولا ما في القرآن الكريم من الذروة والقمة في البيان والبلاغة والأدب.
ونظراً لما قاله الكثير من العلماء والأدباء في حق نهج البلاغة نرى لزاماً علينا أن ننقل ولو الشيء القليل من هذا المدح والثناء ، لبيان مدى ما أحرزه كلام الإمام علي من منزلة لدى هؤلاء.
فهذا الدكتور علي الجندي رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة ينقل: أن عبد الحميد سُئل: أنى لك هذه البلاغة فقال: «حفظ كلام الأصلع» .
وكان الجاحظ _ وهو الأديب العارف بالكلام وفنونه ، والذي يعد نابغة في الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري ، ويعدّ كتابه البيان والتبيين أحد أركان الأدب الأربعة _ يكرر في كتابه الإعجاب والثناء على كلام الإمام .
وللسيد الشريف الرضي ره جملة معروفة في وصف كلام الإمام والثناء عليه ، يقول:
«كان أمير المؤمنين مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ
بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا ، لأن كلامه الذي عليه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام النبوي»
وللسيد المرتضى علم الهدى أخو الشريف الرضي شعر يمدح ويصف فيه نهج البلاغة:
نهج البلاغة نهجة لذوي البلاغة واضح
وكلامه لكلام أرباب الفصاحة فاضح
العلم فيه زاخر والفضل فيه راجح
وغوامض التوحيد فيه جمعها لك لايح
ووعيده مع وعده للناس طراً ناصح
تحظى به هذي البريّة صالح أو طالح
لا كالعريب ومالها فالمال غادٍ رايح
هيهات لا يعلو على مرقى ذراه مادح
إن الرضي الموسوي لمائه هو مايح
لاقت به وبجمعه عدد القضاء مدائح
وكان ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري ، أديباً ماهراً وشاعراً بليغاً. وهو كما نعلم مغرم بكلام الإمام مكرراً إعجابه به في كتابه ، وقال في مقدمته على كتابه شرح نهج البلاغة:
«وأما الفصاحة: فهو إمام الفصحاء وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة...» .
وكما سردنا بعض ما قاله الأدباء والعلماء المتقدمين حول كلامه ، نعكس الآن هنا قليلاً مما قاله فيه ذوو الأنظار والأفكار في عصرنا هذا أيضاً.
يقول الدكتور علي الجندي رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب علي بن أبي طالب ، شعره وحكمه: «في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذاً ، وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعراً».
وينقل الدكتور طه حسين الأديب والكاتب المصري الشهير في كتابه علي وبنوه خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ؟ وشكا شكه ذلك إلى الإمام علي وسأله: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة
وعائشة على باطل؟
فقال : «إنه أمر ملبوس عليه إن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق فاعرف الحق تعرف أهله» .
وبعد أن ينقل الأستاذ هذه الكلمات عن الإمام يقول: «ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته ، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته ، بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء.
وأمير البيان شكيب أرسلان ، من كتّاب العرب المعروفين في هذا العصر ، يتفق في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مصر أن يرقى أحد الحاضرين المنصة ، ويقول فيما يقول: «رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب أمير البيان: أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب ، وشكيب أرسلان»!
فيقوم شكيب أرسلان من مجلسه غاضباً ويذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي قام بهذه المقارنة بينه وبين الإمام ويقول: «أين أنا وأين علي بن أبي طالب! أنا لا أعدُّ نفسي شسع نعلٍ لعلي »!
وكتب ميخائيل نعيمة الكاتب اللبناني المسيحي المعاصر في مقدمة كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية لجورج جرداق ، يقول: بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب ، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه ، وطهارة وجدانه. وسحر بيانه ، وعمق إنسانيته ، وحرارة إيمانه ، وسمو دعته ، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم ، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق
وكان معاوية بن أبي سفيان _ وهو ألد أعدائه _ معترفاً بفصاحته وجمال أسلوبه:
فقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام وأقبل على معاوية وقال له وهو يريد أن يفرح قلبه الفائر بالحقد على الإمام : جئتك من عند أعيا الناس.
وكان هذا التملق من القبح بمكان لم يقبله حتى
معاوية ، فقال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره !
ولا نطيل أكثر من هذا بنقل ثناء الأدباء والعلماء من الأصدقاء والأعداء على كلام الإمام ، ونختمه بكلمة منه في هذا الموضوع:
قام يوماً أحد أصحاب الإمام ليتكلم ، فتلجلج وأعيى! فقال الإمام :
«لا وإن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النطق إذا اتسع. وإنا لأمراء الكلام وفينا تنشبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه».
تمتاز كلمات الإمام أمير المؤمنين منذ أقدم العصور بميزتين تعرف بهما وهما: البلاغة والشمول.
ويكفي كل واحدة من هاتين الميزتين فخراً لكلام الإمام وشرفاً ، وهذا هو الذي جعل كلامه قريباً من حد الأعجاز ، ومن هنا أيضاً عد كلامه في الأوسط فوق كلام المخلوق وتحت كلام الخالق فقالوا فيه: «هو فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق» .
1 الفصاحة والجمال والنفوذ والتأثير:
لا تحتاج هذه الميزة في نهج البلاغة إلى التوضيح لمن كان عارفا بفنون الكلام وجمال الكلمة فإن الجمال يدرك ولا يوصف إن لنهج البلاغة اليوم ، وبعد أربعة عشر قرنا من عهده نفس الحلاوة واللطف الذي كان فيه للناس على عهده ، ولسنا نحن الآن في مقام إثبات هذا الكلام ولكنا بمناسبة البحث نورد هنا كلاماً في مدى نفوذ كلامه في القلوب ، وتأثيره في تحريك العواطف والأحاسيس ، والمستمر من لدن عهده إلى اليوم مع كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق ولنبدأ بعهده.
لقد كان أصحابه خصوصاً من كان منهم عارفاً بفنون الكلام مغرمين بكلامه ، منهم ابن عباس الذي كان -كما ذكر الجاحظ في البيان والتبين - من الخطباء الأقوياء على الكلام .
فإنه لم يكن يكتم عن
غيره شوقه إلى استماع كلامه والتذاذه بكلماته حتى أنه حينما ألقى الإمام خطبته المعروفة بالشقشقية كان حاضراً ، فقام إلى الإمام رجل من أهل العراق وناوله كتاباً ، فقطع بذلك كلام الإمام ، فقال ابن عباس: «يا أمير المؤمنين! لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت» فقال : «هيهات! إنها شقشقة هدرت ، ثم قرت» ولم يطرد في كلامه ذاك ، فكان ابن عباس يقول: «والله ما ندمت على شيء كما ندمت على قطعه هذا الكلام».
وكان يقول في كتاب بعث به إليه الإمام : «ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام» .
كان الذين يجلسون إلى منبره فيستمعون إليه يتأثرون بكلامه كثيراً ، إذ كانت مواعظه تهز القلوب وتسيل الدموع.
والآن أيضاً من ذا يسمع وعظه أو يقرأه فلا يهتز له؟! وهذا السيد الرضي ره يقول عند نقله الخطبة المعروفة بالغراء .
وفي الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب.
وكان همام بن شريح في أصحابه من أولياء الله وأحبائه متيّم القلب بذكره ، فطلب من الإمام بإصرار أن يرسم له صورة كاملة للمتقين ، وكان الإمام يخاف عليه أن لا يتحمل سماع كلماته ، فاقتصر على جمل مختصرة إذ قال: «اتق الله يا همام وأحسن ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» ولكن لم يقنع بهذا همام ، بل ازداد شوقه إلى كلامه أواراً وضراماً ، فأصر عليه أكثر من ذي قبل حتى اقسم عليه! وبينما يستمر
الإمام بكلامه وفجأة قرعت أسماع الحاضرين صرخة مهولة جلبت أنظارهم إلى صوب همام ولم يكن الصارخ سوى همام فلما وقفوا عليه رأوا أن روحه قد خرجت من جسمه إلى رحمة الله
ورضوانه.
فقال الإمام : «أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: هكذا تفعل المواعظ البليغة بأهلها».
نعم هكذا كان أثر نفوذ كلام الإمام في نفوس سامعيه.
2 الشمول والأبعاد المتعددة في كلام الإمام
من مميزات كلام الإمام أنه ذو أبعاد متعددة وليس ذا بعد واحد وإن هذه الخصيصة ، خصيصة الشمول والاستيعاب في كلام الإمام ليس مما اكتشف حديثاً ، بل هو أمر كان يبعث على العجب منذ أكثر من ألف عام ، فهذا السيد الشريف الرضي ره الذي هو من علماء الإمامية في المائة الرابعة ، أي قبل ألف سنة يلتفت إلى هذه النقطة فيعجب بها ويقول:
«ومن عجائبه التي انفرد بها ، وأمرنا المشاركة فيها: أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكّر فيه المفكّر ، وخلع من قلبه: أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل ، لا يسمع إلاّ حسّه ولا يرى إلاّ نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال ، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال! وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد» .وقال صفي الدين الحلي _ المتوفي في القرن الثامن الهجري _ بهذا الصدد:
جمعت في صفاتك الأضداد
ولهذا عزت لك الأنداد
زاهد حاكم! حليم شجاع!
فاتك ناسك! فقير جواد!
شيم ما جمعن في بشر قط
ولا حاز مثلهن العباد
خلق يخجل النسيم من اللط_
_ف وبأس يذوب منه الجهاد
جل
معناك أن يحيط به الش_
_عر ويحصي صفاتك النقاد
وقد أعجب الشيخ محمد عبده بهذا أيضاً ، حيث إن القارئ في نهج البلاغة يسير به في عوالم عديدة ، وقد أبدى إعجابه بهذا في مقدمته فقال:
«... فتصفحت بعض صفحاته ، وتأملت جملاً من عباراته ، من مواضع مختلفات ، ومواضع متفرقات ، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبّت وغارات شنّت ، وأن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة... وإن مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .
إن المباحث المطروحة في نهج البلاغة ، والتي صبغت هذه الكلمات السماوية بصبغة مختلفة في كل فصل عن الفصل الآخر ، كثيرة يستحق كل واحد منها البحث والتحقيق ، وأهم هذه المباحث حسب الترتيب الذي جاء به الشهيد المطهري في كتابه القيم في رحاب نهج البلاغة حيث قسم موضوعات نهج البلاغة إلى العناوين العامة التالية:
1- مباحث التوحيد ، وماوراء الطبيعة
2- نظام العبادات.
3- نظام الحكم والإدارة.
4- أهل البيت والخلافة.
5- المواعظ والحكم.
6- الدنيا ، والزهد فيها.
7- الحرب والحماسة.
8- الملاحم والمغيبات.
9- الأدعية والمناجاة.
10- الانتقاد والشكوى من الناس.
11- القواعد الاجتماعية في نهج البلاغة.
12- الإسلام ، والقرآن في نهج البلاغة.
13- الأخلاق وتهذيب النفس.
14- الشخصيات في نهج البلاغة.
من الواضح أن نظام الإسلام هو نظام العلائق والارتباطات والحقوق ، وهذه الروابط على أنحاء ثلاثة ، فهي أولاً: روابط مع الله ، ويمكن أن نطلق عليها علاقة الإنسان بربه أو ما يصطلح عليها ب_ العرفان ، وثانياً علاقة الإنسان بنفسه ، ويمكن أن يصطلح عليها ب_تزكية النفس ، أو الجهاد الأكبر على حد تعبير بعض الروايات ، وثالثاً علاقة الإنسان مع الآخرين ، ويطلق عليها الأخلاق والآداب الاجتماعية.
ونظرا لأهمية هذه الأبحاث الثلاثة ، من حيث أنها توقف الإنسان على حقيقة الحقوق الملقاة على عاتقه ، والمسؤولية التي سيسأل عنها سنبحثها من خلال كلمات أمير المؤمنين في نهج البلاغة ، ونبدأ بالموضوع الأول وهو علاقة الإنسان بربه ، لأنّه بلا أدنى ترديد ، إن علاقة الإنسان بالناس وتعامله معهم ، مرتبطةٌ أشدّ الارتباط بعلاقته بالله سبحانه وتعالى ، وتعامله معه ، ومشروطة بها ، فإنّ واجبه أن يعرف قدر ربّه وعظمته ، فيطعه ، ويخلص الدين له ، ويوقن به ويحبّه ، ويحسن
معاملته ، ويحصل ارتباطه به ، لكي تنعكس آثار ذلك على جميع جزئيات حياته ، ومنها تعامله مع بني نوعه.
يقول أمير المؤمنين : «من أصلح ما بينه وبين الله ، أصلح الله ما بينه وبين الناس ، ومن أصلح أمر آخرته ، أصلح الله أمر دنياه ، ومن كان له من نفسه واعظ ، كان عليه من الله حافظ» .
وهناك طرق متعددة لارتباط العبد بربه ، ولعله الأفضل أن يبدأ هذا الارتباط بمعرفة الله بقدر الميسور ، ثم إطاعته فيما أمر ونهى مطلقاً ، ثم عبادته كما يريد هو ، وفيما يلي نركز الحديث حول هذه الطرق والمراحل الثلاثة في الارتباط مع الله سبحانه وتعالى.
إنّ معرفة الله أو ما يصطلح عليه العرفان ، ينقسم إلى قسمين ، العرفان النظري ، وهو الذي يبحث في وجود الله والعالم والانسان ، والعرفان العملي وهو عبارة عن ذلك الذي يوضح ويبيّن ارتباط الإنسان وعلاقته بنفسه وبالعالم وبالله ، ويسمى بعلم «السير والسلوك» ، وفي هذا القسم من العرفان يتضح للسالك كيفية الوصول إلى مرحلة بحيث لا يرى فيها إلاّ الله عزّ وجلّ.
وفي كلا القسمين من المعرفة نجد كلاماً هامّاً للنبي وأئمّة أهل البيت ؟ خصوصاً للإمام أمير المؤمنين حيث هو إمام العارفين والسالكين إلى الله.
وفي الحقيقة إن العرفان الإسلامي الحقيقي هو ما جاء به هؤلاء الأولياء المقربون لله عزّ وجلّ ، وفيما يلي _ بما يناسب موضوع المقال _ نعرض بعض النصوص الواردة عن الإمام علي في أهمية معرفة الله وفضلها وآثارها الدنيوية والأخروية ، ونبدأ بقصار الكلمات حيث يقول في فضل معرفة الله: «من عرف الله كملت معرفته» وقال : «معرفة الله سبحانه أعلى المعارف» .
وابلغ
ما ورد في فضل معرفة الله حديثاً جامعاً عن الإمام الصادق ، وهو قوله: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا مَدُّوا أَعْيُنَهُمْ إِلَى مَا مَتَّعَ اللَّهُ بِهِ الأَعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا ، وَكَانَتْ دُنْيَاهُمْ أَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَطَئُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ ، وَلَنُعِّمُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَتَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي رَوْضَاتِ الْجِنَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ آنِسٌ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ وَصَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ ، وَنُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ ، وَقُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ ، وَشِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ» .
وقال الإمام علي فيما يختص بآثار معرفة الله: «ثمرة المعرفة العزوف عن دار الفناء» .
وقال : «عجبت لمن عرف ربه كيف لا يسعى لدار البقاء» .
وقال : «من سكن قلبه العلم بالله سكنه الغنى عن خلق الله» .
وقال : «من كان بالله أعرف كان من الله أخوف» .
وقال : «البكاء من خيفة الله للبعد عن الله عبادة العارفين» .
وقال : «العارف وجهه مستبشر متبسم ، و قلبه وجل محزون» .
وقال الإمام أمير المؤمنين فيما يختص بكيفية معرفة الله: «اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ وَأُولِي الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» .
قال الكليني في معنى اعرفوا الله بالله: «اللّه خلق الأشخاص والأنوار و الجواهر و الأعيان فالأعيان الأبدان و الجواهر الأرواح وهو جلّ و عزّ لا يشبه جسماًو لا روحاً و ليس لأحدٍ في خلق الرّوح الحسّاس الدّرّاك أمرٌ و لا سببٌ هو المتفرّد بخلق الأرواح و الأجسام فإذا نفى عنه الشّبهين شبه الأبدان و شبه الأرواح فقد عرف اللّه باللّه و إذا شبّهه بالرّوح أو البدن أو النّور فلم يعرف اللّه باللّه» .
وقال
الصدوق رضوان الله عليه بعد ذكر أحاديث باب «أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ به»: القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال: عرفنا الله بالله؛ لأنّا إن عرفناه بعقولنا فهو عزّ وجلّ واهبها ، وإن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه ورسله وحججه ؟ فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججاً ، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ محدثها ، فبه عرفناه» .
الثانية: طاعة الله سبحانه
تقوم علاقة الإنسان بالله تعالى بعد معرفته على أساس طاعة المخلوق لخالقه مطلقاً من دون قيدٍ أو شرط ، لأنّه عزّ شأنه مبدأ كل خير ورحمة ، ولا يريد لهذا الإنسان إلاّ ما فيه نفعه في الحياة الدنيا والآخرة ، فالطاعة في مصلحة الإنسان ، لأن الله تعالى غنيٌّ عن عباده.
وقال تعالى: يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ .
فإذا أراد الإنسان سلوك الطريق المستقيم مع خالقه عزّ وجل فعليه أن يؤدّي حق الطاعة له ، ولازم ذلك أن يرفض رغبات النفس وأهوائها ويحيد عن خطوات الشيطان وما يمليه من وساوس. وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين : «سارعوا إلى الطاعات ، وسابقوا إلى فعل الصالحات ، فإن قصّرتم فإيّاكم وأن تقصّروا عن أداء الفرائض» .
وقال : «طوبى لمن وفّق بطاعته وبكى على خطيئته» .
وقال : «عليك بطاعة الله سبحانه فإنّ طاعة الله فاضلةٌ على كل شيء» .
وقال : «ثابروا على الطاعات ، وسارعوا إلى فعل الخيرات ، وتجنّبوا السيّئات ، وبادروا إلى فعل الحسنات وتجنّبوا ارتكاب المحارم» .
وفي النهي عن اتّباع الشيطان يقول : «وما كلّفك الشيطان علمه ، مما ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنّة النبي وأئمّة الهدى أثره فكلّ علمه إلى
الله سبحانه. فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك» .
إن العلاقة والارتباط بالله تعالى ليست مجرد سلسلة مراسم وتقاليد وعادات لا روح فيها ، بل إن جميع العبادات تهدف إلى إيصال المرء إلى حقيقة الخضوع ولاخشوع لله تعالى ، وبسط حكومته على أسراره وظواهره ، وتبعية قراراته لإرادته ، بحيث يصبح وجود العبد فانياً ومندكاً في وجود الله تعالى ، وهذا معنى الوصول إلى درجة الافتقار المطلق إلى الله تعالى ، قد قال رسول الله: «الفقر فخري» ويعني به ما ذكرناه ، ويقول أمير المؤمنين : «كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً» .
وللعبادة مراتب لأنّ الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك ، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعاوضة التي يقع فيها التساوم بين العمل والأجر عليه ، فيعبدوا الله إما طمعاً في جنته فيصبحوا كالتجار وإمّا خوفاً من عقابه فيصبحوا كالعبيد.
وهذا هو نوع التصور الجاهل للعبادة عند العوام وهو ناشئ عن عدم المعرفة بالله.
والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله ، والعبادة عند هؤلاء قربان الإنسان ومعراجه وتعاليه وصعوده إلى مشارق أنوار الوجود ، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية ، وهي مظهر حب الإنسان الكامل ومسيره اللانهائي.
العبادة في نهج البلاغة:
إن عالم العبادة في نهج البلاغة عالم آخر مليء باللذة الروحية ، لذة لا تقاس باللذة المادية.
إن صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى ، بل نقول: إن منبع الإلهام لتصور العارفين بالله من العبادة في الإسلام _ بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله _ هو كلام أمير المؤمنين .
ولتتضح لنا صورة العبادة في نهج البلاغة نأخذ في ذكر نماذج من كلمات الإمام ،
ونبدأ كلامنا هنا بكلمة منه في اختلاف تصورات الناس عن العبادة.
يقول الإمام : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد ، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» .
وقد جاء في نهج البلاغة الكثير عن أهل العبادة ، وصور كثيرة عن ملامح العبادة والعبّاد ، فتارة: عن سهر لياليهم ، وأخرى: عن خوفهم وخشيتهم ، وثالثة: عن شوقهم ولذتهم ، ورابعة: عن حرقتهم والتهابهم ، وخامسة: عن آهاتهم وأناتهم وزفراتهم وحسراتهم ، وسادسة: عن تلك العنايات الإلهية الغيبية التي يحصلون عليها بالعبادة والمراقبة وجهاد النفس ، وسابعة: عن أثر العبادة في طرد الذنوب وآثارها ، وثامنة: عن اثر العبادة في علاج الأمراض النفسية والخلقية ، وتاسعة: عن لذتهم وبهجتهم الخالصة غير المحسودة والتي لا شائبة فيها...
يقول الإمام في وصف العبّاد والمتقين: «أما الليل: فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً ، وظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فهيا تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم. وأما النهار: فحلماء علماء ، أبرار أتقياء».
ثم يقول: «لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب ، وخوفاً من العقاب» .
نستخلص من مجموعة كلمات أمير المؤمنين أنّ هناك طرق متعددة لارتباط العبد بربه ، ويمكن إيجازها بثلاثة طرق وهي: الارتباط
بالله على أساس الخوف ، وهذا النوع من الارتباط يسميه الإمام بعبادة العبيد...
والطريق الثاني: الارتباط بالله على أساس الطمع وطلب الجنة ، فتلك العبادة عند الإمام هي عبادة التجار.
والطريق الثالث: الارتباط بالله لأجل الله وعلى أساس الشكر لأنعم الله ، فتلك العبادة يسميها الإمام عبادة الأحرار ، وهذه هي عبادة المحبة والعشق الإلهي ، فيرى العابد أنّ ليس هناك إله غير الله مستحقاً للعبادة فيعبده لأنّه أهلاً للعبادة ، فتلك عبادة العرفاء ، وكان أمير المؤمنين إمام العارفين وعبادته عبادة العارفين بالله ، ولذا كان يخاطب ربه عزّ وجلّ: «إلهي ما عبدتك حين عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» .
عبادة الله بالدعاء:
إن من أسمى وأرقى العلائق التي يبنيها الإنسان مع خالقه الدعاء والتضرّع ، حيث يقف الإنسان بين يدي ربه مخاطباً إيّاه بلهجة العبد الخائف المطيع المعتصم بالله وحده دون ما سواه.
يقول الإمام علي :
«الدعاء سلاح الأولياء» و«سلاح المؤمن الدعاء» وقال : «أعلم النّاس بالله أكثرهم له مسألة» .
بهذه المسائل التي ذكرنا بعضها نختصر علاقة الإنسان بخالقه في مجمل كلمات أمير المؤمنين ، ولا ريب أن العابد لله ، والمنحني أمام عظمته ، والخاشع لقدرته ، والرافض لكل أنواع المعاصي والرذائل التي نهى عنها سبحانه وتعالى ، يشكّل في نظر الإمام علي وفي نظر الإسلام نموذجاً للإنسان الكامل والفرد الصالح الذي يريد من خلاله أن يكوّن مجتمعاً مثالياً يتشكّل من مثل هذا الفرد.
وهذا ما يميّز النظرية الإسلامية عن غيرها من النظريات في رؤيتها لتكوين المجتمع الصالح. وذلك عبر شعور الإنسان بالرهبة والخوف من الله في كل حركة وفعل يقوم به.
من مبادئ الإسلام ، وأوليات
الدين أن جعل حقوقاً للإنسان على نفسه ، فقد أولى لهذه النفس اهتماماً بليغاً ، وذلك لأنّها منطلق الأعمال والممارسات ، فإذا صلحت صلحت حياة الإنسان ، ومتى ما طهّر الإنسان نفسه وهذّبها وجعلها تحت إمارة العقل والدين والتقوى ، استطاع أن يهيّئ الأرضية الصالحة لعمله وتعامله مع الناس بشكل أحسن وناجح ، فقد جعل الإسلام معيار تغير المجتمع ما يحقق تغير النفس ، قال تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ، فكان تغيير المجتمع من الانحطاط والانحراف معلولاً لتغيّر نفوس أصحابه ، كما أن العكس كذلك ، فإن تغيّر المجتمع من التكامل والإيمان والنعم إلى الانحطاط والانحراف مقرون بتغير النفوس من الإيمان إلى الضلال ، قال تعالى: ذلكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
وهذا يكشف عن أهمية النفس في الإسلام ، فإن في صلاحها صلاح المجتمع ، كما أن في فسادها فساده ، ومن هنا كان علينا أن نتعرف على حقيقة النفس وخواصها وكيف نصلحها ونخضعها للحق تبارك وتعالى.
وكلام الإمام علي عن النفس الإنسانية ، وضرورة محاسبتها ومراقبتها ، وبالتالي تعويدها وتدريبها على الخير ، يهدف إلى بناء الشخصية المثالية التي تحترم ذاتها ، وتعمل على إصلاح سريرتها وباطنها ، وقد أراد الإمام أن ينطلق من صلاح الباطن الذي هو بمثابة وضع حجر الأساس في عملية الإصلاح الاجتماعي ، فمن الباطن يبدأ الإنسان رحلته لبناء العلاقات الاجتماعية النموذجية التي هي انعكاس واضح لصلاح النفس الإنسانية.
وفي أول خطوة يخطوها الإنسان في مجال الارتباط بالنفس وإصلاحها ، هو معرفة النفس ومراتبها لأن معرفة النفس توجب معرفة الرب ، بل
توجب معرفة الآخرين ، كما جاء ذلك عن أمير المؤمنين حيث يقول: «من عرف نفسه عرف ربه» ، وقال : «من عرف نفسه كان لغيره أعرف» ، والمراد بالنفس هنا معرفة الإنسان ذاته وقدراتها.
وللنفس مراتب ودرجات وحالات وتغييرات ذكرتها الآيات والروايات وهي كالتالي:
النفس الملهمة والنفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفس المطمئنة ، وينبغي للإنسان أن يجاهد نفسه حتى تستكمل وتصبح جوهرة ثمينة ، تقبل الحق ، وتتوجه إليه وتطمئن به ، وحينئذٍ يأتي لها الخطاب بقوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ، ولا يحصل الإنسان على هذه المرتبة العليا للنفس إلاّ بعد مراقبة ومحاسبة وجهادٍ مستمر.
اهتم الإسلام كثيراً في جهاد هذه النفس ، ونقلها من مرتبة الأمر بالسوء إلى مرتبة الاطمئنان والانقياد للعقل والشرع ، حتى أطلق على هذا الجهاد «الجهاد الأكبر» في قبال الجهاد مع أعداء الدين فقد سمي «الجهاد الأصغر» ، وسرّ ذلك أن النفس أعدى الأعداء ، كما يقول أمير المؤمنين : «أعدى أعداءك نفسك الّتي بين جنبيك» ، ولهذا يروى أن النبي أرسل بسرية فلما رجعت قال: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر ، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس» .
وقال : «أفضل الجهاد من جاهد نفسه الّتي بين جنبيه» ، وقال أمير المؤمنين : «جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو عدوّه ، وغالبها مغالبة الضد ضده ، فإن أقوى الناس من قوي على نفسه» ، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الّتي تحث على مجاهدة النفس وإصلاحها ، وقد حدّدت هذه الأخبار أيضاً الغاية والثمرة الّتي لأجلها أمرنا
بالمجاهدة ، وهي قهر النفس وانصياعها واطاعتها للحق تعالى ، فقد قال أمير المؤمنين : «ثمرة المجاهدة قهر النفس» ، وقال رسول الله : «بالمجاهدة صلاح النفس» ، وقال أمير المؤمنين : «جاهد شهوتك وغالب غضبك ، وخالف سوء عادتك تزك نفسك ، ويكمل عقلك ، وتستكمل ثواب ربك»
كيفية جهاد النفس:
هناك عدة أمور لابد أن يقوم بها كل من سعى وخاض غمار المجاهدة للوصول إلى غايتها وقد جاءت كلمات الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة لكيّ تحدّد النقاط التي يسلكها الإنسان للتغلب على هوى النفس وطغيانها ، وحينئذٍ تتحقق سعادته في الدنيا والآخرة ، وهذه النقاط هي كالتالي:
أولاً: مراقبة النفس ومحاسبتها
وذلك بأن يقوم الإنسان بمراقبة نفسه ومحاسبتها بصورة دائمة ، بحيث في كل يوم يمر عليه يسائل فيه نفسه عما عملته من الطاعات والمعاصي ، والموازنة كيفاً وكّماً.
فإن رجحت كفّة الطاعات ، شكر الله على توفيقه لها ، وفوزه بشرف طاعته ورضاه.
وإن رجحت كفّة المعاصي أدّب نفسه والتأنيب على إغفال الطاعة ، والنزوع للآثام.
يقول الإمام علي : «اجعل من نفسك على نفسك رقيباً ، واجعل لآخرتك من دنياك نصيباً» .وقال : «من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن خاف أمِن ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم» .
وقال : «عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا» .
وقال : «ما أحق الإنسان أن تكون له ساعةٌ لا يشغله عنها شاغل ، يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها» .
وقال : «حاسبوا أنفسكم بأعمالها ، طالبوها بأداء المفروض عليها ، والأخذ من فنائها لبقائها ، وتزوّدوا
وتأهبوا قبل أن تبعثوا» .
وقال : «من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر» .
ثانياً: مجاهدة النفس
في داخل كل واحد منّا ، قوى متصارعة ومتضاربة ، مكوّنة من العقل والفطرة والنفس والغريزة.
والذي يحدث داخل أعماق الإنسان هو وقوف العقل والفطرة وجنودهما وهم يشكّلون جبهة الإنسانية بكل أبعادها وأعماقها ، وفي المقابل يقف الشيطان وقبيله ، مع النفس وغرائزها ، في صف واحد لتشكيل جبهة الحيوانية والصراع بينهما لأجل حكومة الإنسان ، فالشيطان يريد أن يفرض حكمه على هذه المملكة ، وفي المقابل العقل والفطرة يريدان أن يحكمان هذه المملكة
ثم يتفجر الصراع ، حتى إذا تغلّبت إحدى الطائفتين على الأخرى ، أخذت زمام الفرد ، وساقته إلى حيث تشاء.
وهذا الصراع إنّما يحدث من أجل أن يستكمل الواحد منّا رحلته في الحياة... وفي الحقيقة إنّ التكامل لا ينمو ، إلاّ في ظل الصراع والمنافسة والتغلب على النفس الأمّارة بالسوء ، وهذا ما نسمّيه بمجاهدة النفس.
قال الإمام علي في وصية له إلى شريح بن هانئ: «و اعلم إنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروه ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر ، فكن لنفسك مانعاً رادعاً ، ولنزوتك عند الحفيظة ، واقماً قامعاً» .
وقال عن صفات المتقّي: «إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره ، لم يعطها سؤلها فيما تحب... نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة» .
وقال :«إن طاعة النفس ومتابعة أهويتها أسس كلّ محنة ، ورأس كل غواية» .
وقال :«إنّك إن ملّكت نفسك قيادك أفسدت معادك ، وأوردتك بلاءً لا ينتهي وشقاءً لا ينقضي» .
وقال :«خالف نفسك تستقم ، وخالط العلماء تعلم» .
ثالثاً:تعويد النفس على الطاعة والعبادة
النفس الإنسانية أشبه
شيء بالطفل المولود حديثاً ، فإنّ شخصيته في المستقبل المنظور تتأثر بنوعية التربية التي يتلقاها ، والأدب الذي يتربى عليه ، والأمور التي يتعوّد عليها من أهله والمحيط الذي يعيش فيه ، لذا فإن من الضروري ترويضه وتدريبه وتعويده على كل صفات الخير.
وهكذا النفس فإن تكوينها يتأثّر ويتفاعل مع القضايا التي يعوّدها عليها صاحبها. فإنّ عوّدها على طاعة الله كانت نفساً طيّبة طاهرة ، وإلا كانت نفساً أمّارة بالسوء.
يقول الإمام علي :«عباد الله ، إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه ، وإنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه؛ والمغبون من غبن نفسه ، والمغبوط من سلم له دينه» .
وقال :«وخادع نفسك في العبادة ، وارفق بها ولا تقهرها ، وخذ عفوها ونشاطها ، إلاّ ما كان مكتوباً عليك في الفريضة ، فإنّه لابد من قضائها ، وتعاهدها عند محلّها» .
رابعاً:ترويض النفس على التقوى وأعمال البرّ
قال الإمام علي : «أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه» .
وقال :«وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر» .
وقال :«أسهروا عيونكم ، وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ، ولا تبخلوا بها عنها» .
خامساً:ترك اتباع الهوى وطول الأمل
ينبغي أن يعلم بأن هناك أموراً بين الإنسان وبين تهذيب نفسه. فعليه إذن أن يكون حريصاً من اختراق الشهوات لعمله ، وإماتة الدنيا لقلبه ، واستعباد النفس له ، فأفضل طريق للإنسان لأجل صلاح نفسه أن لا يتّبع الهوى وطول الأمل.
«إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فأمّا أتباع الهوى فيصدّ عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة» .
سادساً: اجتناب الدنيا والعزوف عنها
إن أهم ما ينبغي على
المجاهد القيام به اجتناب الدنيا والعزوف عنها ، والنظر إليها على واقعيتها ، فإن واقع الدنيا هو الفتنة والإغواء ، وما من بلاء في هذه الدنيا إلاّ سببه حب الدنيا والميل إليها ، كما ورد عن النبي : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» ، فأوّل مراحل المجاهدة هو الابتعاد عن الدنيا وترك الحرص عليها ، قال الإمام علي : «سبب صلاح النفس العزوف عن الدنيا» .
سابعاً:التصعيب على النفس
لا ينبغي في مقام المجاهدة أن يعطي الإنسان نفسه ما تريد وترغب ، بل لابد وأن يضيّق عليها ، ولا يطيعها ولا يعطيها سؤلها ، قال أمير المؤمنين : «إذا صعبت عليك نفسك فأصعب لها تذلّ لك ، وخادع نفسك عن نفسك تنقاد لك» ، وقال : «أقبل على نفسك بالإدبار عنها» .
ثامناً:ترك مخالطة أبناء الدنيا
فقد قال أمير المؤمنين : «ينبغي لمن أراد صلاح نفسه وإحراز دينه أن يتجنب مخالطة أبناء الدنيا» .
تاسعاً:القناعة والاقتصاد في المعيشة
إن الإسراف في العيش والسعي للمزيد يخلق في النفس الميل إلى الملذات ، وقد تنجرّ من مباحاتها إلى محرماتها ، فكان حرمانها من الملذات يسهل عليها ترك المحرمات ، وإقناعها بالقليل يهدّ من شهواتها ، قال أمير المؤمنين : «إذا رغبت في إصلاح نفسك فعليك بالاقتصاد والقنوع والتقلل» ، وقال : «أعون شيء على صلاح النفس القناعة» ، وقال : «كيف يستطيع صلاح نفسه من لا يقنع بالقليل» .
عاشراً: ترويض الجوارح
من الواضح جداً أن أجهزة صدور الأفعال في الإنسان جوارحه ، فكل معصية لابد وأن تكون صادرة عن اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن ، وكذا كل طاعة تبرز وتظهر وتخرج من مدافن الإنسان إلى الخارج عبر أحد هذه الأعضاء
، من هنا يلزم في عملية تهذيب النفس تأديب هذه الجوارح وتربيتها على التخلّق بالفضائل ، واجتناب الرذائل ، قال الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً .
ولنبحث هذه الجوارح التي بها يطاع الله وبها يعصى:
1-ترويض السمع: ومن الجوارح المؤثرة على النفس الأذن ، فإن السماع يؤثر على النفس إما تكاملياً كسماع القرآن والمواعظ والإرشاد ، وإما يؤثر تأثيراً تسافليّاً كسماع الغناء والغيبة والنميمة..... ، فعلى المؤمن أن يروض أذنه على عدم سماع المحرمات كي يستكمل بذلك تهذيب نفسه ، وأخص بذلك الغناء ، هذا المرض الخطير المستشري ، فإنه على الرغم من كثرة الآيات والروايات الدالة على أنه من الكبائر ، نجد الناس منشدة إليه ، وكأنهم أمروا بسماعه.
2-ترويض البصر: لعل العين من أكثر جوارح الإنسان تأثيراً على قلبه ، إذ الملذات المرئية والمشاهدة كثيرة جداً ، فكل نظرة إليها يخلق في القلب شهوة ، وقد تدعوه بعد ذلك نفسه إلى تحقيقها وتحصيلها ، فيقع في المحرمات إذا كانت من الصنف المحرم ، وهذا معنى قول الإمام علي : «العين بريد القلب» ، فإن كل ما يقع على النظر ينتقش في القلب ، ولهذا وجب الحذر كل الحذر من خطورة النظر ، وقد أمرنا المولى تبارك وتعالى بغضه فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ.. ، وبهذا نفهم أن الطريق الوحيد لتطهير العين من النظر إلى الحرام هو الغض.
3-ترويض اللسان: إن أكثر ما يقع فيه ابن آدم من لسانه ، ففي كل صباح تناديه الأعضاء فتقول له: «إتق الله فينا ، فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا» .
وما دام اللسان خطيراً إلى
هذا الحد الكبير ، فعلى المؤمن أن يختم عليه ، ويكون قلبه حارساً على لسانه فلا ينطق قبل أن يفكر بما سيقول ، ولأجل ذلك كان لسان الأحمق يسبق قلبه ، كما قال الإمام علي : «لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب الأحمق وراء لسانه» .
النتيجة:إذا حقق الإنسان هذه الطرق يكون مجاهداً لنفسه ، وينتصر عليها فتزك وتعظم وتنقاد إلى العقل والحق ، وتصل إلى مرحلة الاطمئنان فتنعم برضا الله ورضوانه ، وتدخل جنة ربي الّتي أعدها لها ، وأما إذا أهمل نفسه وخانها فتتسلط النفس حتى تدخله المهالك ، وتجعله عند الله أهون هائن.
فهذه الأمور التي ذكرناها حول جهاد النفس ومراقبتها ومحاسبتها لها فضائلها وآثارها الإيجابية على السلوك في الطريق إلى الله تعالى ، لأنّ ردع النفس عن كثير مما تحبّ يؤدّي إلى عدم سيطرة الأهواء والشهوات على الإنسان ، وعدم وقوعه في المهالك والمعاصي.
من الأمور المهمة التي وضع لها الإسلام نظاماً ، وبرنامجاً تعليمياً وتربوياً متكاملاً ، ورسم لها خطوطاً توجيهيةً واسعةً ، هي علاقة الإنسان بربه ثم علاقته بنفسه مقدمة لعلاقة الإنسان بالآخرين ، وقد يسأل السائل ، ولماذا نحتاج إلى هذا البرنامج التعليمي والتربوي لتنظيم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه؟ وما شأن ذلك وارتباطه بعلاقة الإنسان مع الآخرين؟
والجواب: إن الارتباط بالله والخضوع لأوامره ونواهيه ، ومن ثم تهذيب الإنسان نفسه وتربيتها تربية إلهيةً لها انعكاسات إيجابية ، مؤثرة على علاقة الإنسان مع الآخرين ، بل يصبح هذا الارتباط المقدس مع الله سبحانه مرآةً للعلاقة بين الإنسان وأفراد المجتمع.
ومن هنا فقد أشار الإمام أمير المؤمنين وسيد المتقين علي بن أبي طالب إلى جملةٍ من حقوق الله على الإنسان ، التي من
خلالها تتحدد وظيفة الإنسان تجاه ربه وخالقه وكيفية سلوكه معه ، وكذلك يشير الإمام إلى جملةٍ من الأمور ، والنقاط التي يجب أن يسير عليها الإنسان ، للتغلب على هوى النفس ومشكلاتها ، وحينئذ تتحقق سعادته ورفاهيته في الحياة الدنيا ، ويفوز في الحياة الأخرى ، وقد سبق الحديث عن هذين الموضوعين.
خلق الله الإنسان مفطوراً على حب الاجتماع ، فالطبع الاجتماعي من ضمن هيكليته الفطرية ، فتجده يألف الآخرين ويميل إلى لقائهم ، وينفر من الوحدة والانفراد ، وترجع هذه الرغبة إلى أسباب حياتية ونفسية وغيرها ، لا يهمنا التعرض لها ، إلاّ أن المهم أن نتعرف على أن لهذا الاجتماع والتآلف حقوقاً على كل فرد من أفراده ، وأن صونها يوجب صون المجتمع عن الفساد والانحراف ، كما أن التقصير في تحصيلها يوجب تردي المجتمع ، وفساده وانحرافه ، ومن هنا كان كل إنسان مكلفاً من جهته بالقيام بالأعمال التي من شأنها النهوض بالمجتمع إلى أرقى ، وأطور ما يمكن أن يصل إليه.
وأيضاً لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بتوثيق ، وتمتين العلاقات بين الإنسان وأقربائه وأرحامه ، ووضع لهذه العلاقة حدوداً وشروطاً ، وأحكاماً على أساس الحب ، والتعاون المتبادل ، وذلك لسلامة وسعادة الفرد والأسرة والمجتمع.
وقد أكد الإسلام على حسن العلاقة والمعاشرة بدءاً بالأقرباء من الناس من ذوي الأرحام ، خصوصاً الوالدين ، ثم أفراد الأسرة كالزوجة والأولاد وغيرهم من الأقرباء ثم بعد ذلك الاهتمام بحسن العلاقة والمعاشرة مع جميع الناس حتى غير المسلمين.
وقد نرى الاهتمام والتأكيد على هذا الجانب من دعوة الإسلام في كلمات الإمام علي ، حيث دعا الإمام في كلماته وأقواله إلى الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية البناءة ومعاشرة الناس بأحسن
وجه ، حيث يقول في وصيّة لأبنائه: «عاشروا الناس بالمعروف معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم» ، ثم هده المعاشرة الحسنة ، الأفضل أن تبدأ في المرحلة الأولى بالأقرباء في ضمن علاقات الإنسان الخاصة بأرحامه وأفراد عائلته ، ثم في المرحلة الثانية الارتباط والمعاشرة مع الآخرين على أساس المحبة والمودة والاحترام في ضمن العلاقات الاجتماعية العامة ، وفيما يلي نبدأ الحديث حول المرحلة الأولى:
المرحلة الأولى: العلاقات الخاصة
إنّ أهمّ علاقات الإنسان الاجتماعية علاقته بالأقرباء ، وتتلخص وتتمحور في محورين أساسيين ، وهما الأول: علاقة الإنسان مع أرحامه خصوصاً الوالدين ، والثانية: علاقة الإنسان مع زوجته وأفراد عائلته قد دعا الإمام علي في كلماته وأقواله إلى الاهتمام بهذين الأمرين اللذين يقعان في ضمن علاقات الإنسان الخاصة وفيما يلي نعرض وجهة نظر الإمام من خلال بعض ما جاء من كلماته مع مراعاة الاختصار في البحث.
إن من أوجب الواجبات علاقة الفرد بأرحامه ، ويمكن تحقق هذا الواجب بزيارتهم وتفقدهم ، وقضاء حوائجهم ، وهذا ما يعبر عنه في الكتاب والسنة بصلة الأرحام ، وقد أكد القرآن الكريم وأحاديث المعصومين على ذلك ، وحث على الاهتمام بها ، وحذّر الإنسان من تركها ، وقد جاء هذا التأكيد والحث والاهتمام بصلة الأرحام في كلمات ، وأقوال أمير المؤمنين ، وفيما يلي نعرض باختصار البعض من تلك الأقوال:
قال : «إنّ صلة الأرحام لمن موجبات الإسلام ، وإن الله سبحانه أمر بإكرامها ، وإنّه تعالى يصل من وصلها ، ويقطع من قطعها ، ويكرم من أكرمها» .
وقال : «صلة الرحم تدرّ النعم ، وتدفع النّقم» .
وقال : «قطيعة الرحم تزيل النعم» .
وقال : «في قطيعة الرحم حلول النقم» .
وقال
: «قطيعة الرحم تورث الفقر» .
وقال : «فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة ، وليحسن منه الضيافة ، وليفكّ به الأسير والعاني ، وليعط منه الفقير والغانم» .
إن علاقة الإنسان بعائلته وبالعكس هي علاقة قائمة على الفطرة الإنسانية ، والحب المتبادل بين كل فرد وآخر فيها ، فالزوج يحب زوجته ، وكلاهما يحبان الأولاد ، والأولاد يحبون الآباء.
ولكي تكون هذه العلاقة مأمناً وملجأً للإنسان يحتمي بها ، ويؤمّن فيها حاجته للسكون والستر والمودّة ، والرحمة وضع الإمام علي تنظيماً لهذه العلاقة المقدّسة من خلال بعض النصائح ، التي وجّهها لكلّ من الرجل والمرأة ، والآباء والأبناء وفيمايلي نشير إلى بعضها.
نصائح للرجل والمرأة:
يشير الإمام في نصيحته إلى الرجل حول كيفية اختياره للزوجة عند إرادة التزويج ، وهي أن لا ينظر فقط إلى جمال المرأة ، وما لها ، بل لابد أن يجعل المقياس في الاختيار هو الدين.
حيث يقول : «لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ ، ولا لأموالهنّ فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وانكحوهنّ على الدين ، ولأمةٌ سوداء خرماء ذات دينٍ أفضل» .
أن يكون من أهل المعروف معها.
قال أمير المؤمنين : «من سعادة المرء أن يضع معروفه عند أهله» ، لأنّ أفراد العائلة هم أولى الناس بالمعروف ، فمن الإجحاف أن يقدم الإنسان معروفه إلى الآخرين ، ولا يقدمه إلى أقاربه وأفراد عائلته ، وتقول الحكمة الشهيرة: «الأقربون أولى بالمعروف» ، ويقول الإمام علي في وصيته لابنه الحسن : «ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك» .
وقال : «عليك بلزوم الحلال ، وحسن البرّ بالعيال ، وذكر الله في كل حال».
وقال : «الزوجة الموافقة إحدى الراحتين».
وقال : «أنعم الناس عيشاً من
منحه الله سبحانه القناعة ، وأصلح له زوجه».
وقال : «صيانة المرأة أنعم لحالها وأدوم لجمالها» .
وقال : «جهاد المرأة حسن التبعّل» .
أ حق الوالدين على الولد
1_ بر الوالدين.
حيث يقول الإمام علي : «بر الوالدين أكبر فريضة» .
وقال : «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم» .
2_ الطاعة للوالدين إلاّ في معصية الله سبحانه.
«إن للولد على الوالد حقّاً ، وإنّ للوالد على الولد حقّاً ، فحقّ الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء ، إلاّ في معصية الله سبحانه... » .
3_ أن لا يضيّع حقّهما ولا يعقّهما.
قال : «من العقوق إضاعة الحقوق» .
4_ الاستفادة من تجارب الوالدين والانتفاع من مواعظهم.
ففي وصيته لولده الحسن : «.. والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثم ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم يكلّفوا».
ب حق الولد على الوالدين
يقول : «حقّ الولد على الوالد أن يحسّن اسمه ، ويحسّن أدبه ، ويعلّمه القرآن» .
وفي وصيته لولده الحسن يقول: «... وأن ابتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيرك» .
أجمع الباحثون والمحققون على أن للتربية في سنّ الطفولة دور كبير في بناء شخصية الإنسان ، وتكوين صفاته ، لأنها كالأرض الخالية بالنسبة إلى الفلاّح ، فعلى طبق ما يزرع تكون نتيجة الحصاد.
ففي وصيته لولده الحسن يشير الإمام إلى مضمون هذا الكلام حيث يقول: «... أي بني: إني بادرت بوصيتي إليك ، وأوردت خصالاً منها قبل أن يسبقني إليك بعض غلبات الهوى ، وفتن الدنيا ، فتكون كالصّعب النّفور ، وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما ألقي فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل
أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك.. فما طاب سقيه ، طاب غرسه وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه ، خبث غرسه وأمرّت ثمرته» .
ثم يذكر أهم أهداف التربية والتعليم فيقول: «.. . فبادرتك بالأدب... لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب ، وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذاك ما قد كنّا نأتيه ، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه» . وقال : «خير ما ورّث الآباء الأبناء الأدب» .
فالملاحظة المهمة في كلمات أمير المؤمنين هي تنبيه الوالدين ، لأن يعطيا اهتماماً لتربية وتعليم أولادهما منذ الصغر ، ويتيحا لهما فرصة كافية لبروز المواهب التي أودعها الله تعالى فيهم.
رغم التأكيد والاهتمام البالغ الذي رأيناه في كلمات الإمام علي على صلة الرحم ، وعلى جعلها من المسائل المهمة في حياة الإنسان ، لكن ذلك مرهون بحدود وشروط معيّنة ، وهي أن لا يجعل الإنسان من القرابة عاملاً للابتعاد عن الدين ، بحيث يجعلها الإنسان شغله الشاغل ، وهمّه الأكبر الذي يصرفه عن أمور دينه ، ولهذا يقول : «لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك وولدك ، فإن يكن أهلك ، وولدك أولياء الله ، فإن الله لا يضيّع أولياؤه ، وإن يكونوا أعداء الله ، فلما همّك وشغلك بأعداء الله؟» .
وأما الأمور التي يجب أن يقدمها الإنسان على القرابة والرحّم ، فهي ما لو اقتضى الإسلام أن يقف الإنسان موقف العداء من قرابته الذين هم في خط أعداء الله ، فحينئذ لا يجوز تقديم القرابة على الدين الذي هو المقياس الأساس في خط الإنسان.
ويتحدّث الإمام علي عن الزمن الأول الذي بعث فيه النبي محمد
، وكيف أن الإنسان المسلم كان يواجه بعقيدته كل الناس حتى أقربهم إليه في سبيل الحفاظ على الإسلام ونشره ، حيث يقول : «لقد كنّا مع رسول الله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً» .
المرحلة الثانية: العلاقات الاجتماعية العامة
كما نظم الإسلام العلاقات الخاصة للمجتمع ، كذلك نظّم العلاقات الاجتماعية العامة ، وقد صنفها إلى أصناف كثيرة ، فقد نظّم علاقة الجيران فيما بينهم ، ونظم العلائق بين المعلّم والتلميذ ، والعامل والمستأجر ، والمشير والمستشير ، والمؤمن مع أخيه ، وجميع هذه العلائق تعرّض لها الإمام زين العابدين في رسالته القيمة «رسالة الحقوق» ، ونحن هنا سنقتصر على البعض من تلك العلاقات الهامة.
الأولى: علاقة الجار بالجار
إنّ من أهمّ الارتباطات والعلائق الاجتماعية بعد الأقرباء الاهتمام بحسن المعاشرة والتعامل مع الجيران ، حيث جاء في الكثير من الروايات الحث على تفقد الجار ، وكف الأذى عنه ، وتحمل الأذى منه ، ومراعاة جميع حقوقه.
وتعرّض الإمام زين العابدين إلى تلك الحقوق في رسالته القيّمة «رسالة الحقوق» والتي جاء فيها: «أمّا حقّ جارك ، فحفظه غائباً ، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوما ، ولا تتّبع له عورة ، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شديدة ، وتقيل عثرته ، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة» .
وقال الإمام علي عند وفاته: «الله الله في جيرانكم ، فإنّهم وصيّة نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم» .
وقال : «حريم المسجد أربعون ذراعاً والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها» .
الثانية: الاهتمام بأمور المسلمين
اعتبر الإسلام الاهتمام بأمور المسلمين حقاً
لهم على كل مسلم ، فحثّ عليه وجعله عدل الإسلام والإيمان ، وطلب من المؤمن أن يتخلّق بهذا الخلق يودخل في جماعة المسلمين ويناصرهم ويعينهم ، ويبذل لهم من نفسه وماله ما يحتاجونه ، تعبيراً عن مودته ورحمته وحبه لهم ، والخلاصة أن يشاركهم في أفراحهم وأحزانهم.
وقد جاء هذا المعنى في كثير من كلمات أمير المؤمنين ، من خطبه وقصار جمله ورسائله ، خصوصاً الكتاب الذي بعثه إلى مالك الاشتر حين ولاّهُ مصر.
الثالثة: علاقة المسلم بغير المسلمين
إنّ أهل الذمة من مختلف الأديان قد احترمهم الإسلام وصانهم وصان عرضهم ومالهم ، يعيشون ويحيون بين المسلمين وفي بلادهم ل_هم مالهم ، وعليهم ما عليهم ، وينعمون بحمى الإسلام ، وينتصف ل_هم الحاكم من كل من ظلمهم ، ولم يمنع عنهم السلام ، ولا حرّم على المسلمين الاختلاط بهم ، وهذا ما أدب به النبي وأهل بيته الكرام المسلمين ، من صون حقوقهم وعدم التعدي عليهم ، فقال علي : «الناس... صنفان ، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» ، فنحن نعيش مع أهل الذمة لوجود مناظرة خلقية ، أي الذمي إنسان كما نحن ، وكما أن الإنسان المسلم محترم لشخصه كذلك الإنسان يحترم لشخصه ، إلاّ أن يسقطه بما يضمره من سوء ، كما في الكافر الحربي ، كذلك أهل الذمة يحترمون بشخصهم وإنسانيتهم وآدميتهم.
ومن هنا كان أهل البيت قد استوعبوا كل الناس بأخلاقهم وجميل صنيعهم ، فأمير المؤمنين علي يأتي إلى المدينة مع يهودي ولمّا يبلغ المدينة ، يستمر علي في السير معه ، فيقول اليهودي: ألم تقل أنك تريد المدينة ، فقال علي : نعم ، فقال اليهودي ، فلماذا تمشي
معي في طريق الخروج منها ، فيقول أشايعك إلى أن تخرج منها ، فقال: ما هذه الأخلاق الّتي لم نعهدها ، فقال : هكذا علمنا الإسلام ونبيه محمد.
قبس...
التقوى لغةً الوقاية ، وهي الحذر ، والاحتراز والبعد والاجتناب ، ولها مراتب بحيث كلما كان الحذر والاجتناب أكثر كانت التقوى أكمل.
وفي الاصطلاح الإسلامي هو اجتناب ما حرّم الله وإتيان ما أوجبه على العبد وباختصار هو ترك ما ثبتت حرمته وفعل ما ثبت وجوبه ، كما جاء هذا المعنى في كثير من الروايات ، وإذا ترك الإنسان المحرمات والمكروهات وحتى المشتبهات وعمل بالمستحبات فهذا هو الورع الذي دعا إليه النبي في خطبته الشعبانية ، وعبّر عنه بأفضل الأعمال في شهر رمضان المبارك.
إن كلمة التقوى من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى أعتني به أكثر من التقوى ، كما أنه ليس هناك كتاب _ بعد القرآن الكريم _ يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة ، غير أن أمير المؤمنين لا يطرح التقوى على أنه مفهوم يرادف الحذر والاجتناب ، وفق ما يذكره أهل اللغة ، بل التقوى في نهج البلاغة عبارة عن قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب ، وعليه فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمةً للحصول على هذه المرتبة الروحية العالية ، وليست التقوى في منظور نهج البلاغة عبارة عن الحذر والاجتناب الذي يؤدي بالإنسان إلى اعتزال المجتمع والحياة العامة خوفاً من الوقوع بالمعصية ، وفوات التقوى ، بل التقوى في مفهومه قوة يخلقها الحذر إلى أن تصل إلى درجة الملكة فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال ، إذ هو يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع ، فمن كانت تقواه بمعنى الحذر الذي يمنعه من مخالطة مجتمعه ، ويحدو به إلى الانزواء ، كان
كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح أعني الوصول إلى درجة الملكة والقوة المانعة عن الذنوب ، كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده ، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو إلى اجتناب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم مما هم فيه من الألم الممرض.
يقول سعدي الشيرازي واصفاً التقوى بالمعنى الأول:
رأيت يوماً عابداً في الجبال
مقتنعاً عن دهره بالرمال
فقلت هل تنزل يوماً لكي
ترى البلاد والمنى والمنال
فقال لي لا إن فيها لمن
بنات حوّا كل ذات جمال
وحينما يكثر وحل الطريق
يزلق فيه الفيل قبل الرجال
إذاً فالتقوى في منظومة نهج البلاغة ، قوة معنوية وروحية تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج منها تيسير الحذر من الذنوب لا أنها هي بنفسها الحذر.
وفيما يلي بعض النصوص للإمام علي تؤكد هذا المعنى:
قال الإمام علي :
«إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم...» ، وقال : «إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم....».
حيث أكد في هذه المقطوعة أن الحذر من الحرام ، والخوف من الله تعالى من لوازم وآثار التقوى ، لا أن نفس الحذر والخوف هو التقوى.
وهناك الكثير الكثير في نهج البلاغة ما يؤكد على أن التقوى عند أمير المؤمنين عبارة عن قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام ، إقدام على القيم المعنوية ، وإحجام عن الدنايا المادية ، وهي آلة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلط بها على نفسه ويمتلكها. ومن ذلك قوله: «إن التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه»
، وهذه نماذج من نهج البلاغة عن المعنى الحقيقي للتقوى ، وهناك الكثير من هذا القبيل.
إن للتقوى آثار عظيمة جداً تعود فوائدها إلى الفرد المتقي ، والمجتمع المتقي ، وقد ذكر القرآن الكريم آثاراً كثيرة وجمة وإليك بعضها:
1_ بالتقوى خروج من الضيق: الإنسان في هذه الدنيا غالباً ما يتطوق بالمصائب والابتلاءات ، وهذه الابتلاءات على نوعين ، فمنها ما يتمكن الإنسان من حله ، ورفع مشاكله ، وهي قليلة جداً ، ومنها ما لا يتمكن من حله ، ويقف عاجزاً أمام هذا النمط منها ، وليس ل_ه أدنى حول ، إلاّ أن يغيثه الله تبارك وتعالى ، ويخرجه من هذا الضيق ، وبالتقوى يخرج المتقون من هذا الضيق ، وتحل مصائبه ومشاكله بعدما كانت مبرمة ، يقول تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ ل_ه مَخْرَجاً ، أي من الضيق ، لمصائبه ومحنه ، ويقول تعالى أيضاً: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ ل_ه مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ، وقال أمير المؤمنين لأبي ذر: «... ولو أن السماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل الله ل_ه منهما مخرجاً...» .
2_ بالتقوى تدر الأرزاق: إن من أكثر ما يشغل بال الفرد في المجتمع الرزق ، وكم يسعى لتحصيله ، وكم ينفق من عمره في سبيل تحصيل قوته وقوت عياله ، ويمكننا القول بأن حركة المجتمعات البشرية في معظم الأوقات تفرّغ في سبيل تحصيل الرزق والقوت ، مع أن هناك طريقاً سهلاً قويماً يحقق للإنسان رزقه وما يكفيه ، وهو التقوى ، فبالتقوى تدر الأرزاق ، وبالتقوى تحصّل الأقوات ، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ ل_ه مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .
3_ بالتقوى تقبل الأعمال: لا
شك أن أهم ما يهتم به المؤمن أن يقبل الله أعماله التي يقوم بها من الصلاة والصيام والزكاة والحج... ، ودائماً يخاف الإنسان من أن لا تكون هذه الجهود من عباداته موضع قبول الله تعالى ، وأيضاً هناك الكثير من الروايات التي أكدت على أن المؤمن ينبغي أن يهتم بقبول العمل ، بغض النظر عن قلته أو كثرته ، فلا ينفع عمل مهما كثر إذا رده الله تعالى ، كما أن العمل القليل قد يغني الإنسان إذا كان محققاً للقبول.
والطريق الذي رسمه الله تعالى لقبول الأعمال التقوى ، قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، فالتقوى سبب من أسباب القبول ، بل هي السبب الوحيد لدلالة «إنّما» على الحصر ، وقد وردت هذه الآية في قصة هابيل وقابيل ابنا آدم حيث اختلفا في أمر فحكّما فيه أباهما آدم ، فأشار عليهما أن يقدما قرباناً إلى الله فمن تقبل الله قربانه يكون هو الصائب ، فقدم قابيل كبشاً عظيماً ظناً منه بأن عظمة ما يقدمه وغلائه يكون موضع رضى وقبول الله تعالى ، وقدم هابيل سنابل القمح ، وكانت علامة القبول ، أن يضعا القربانين على جبل فإذا نزلت النار وأكلت قربان أحدهما دل ذلك على قبول الله له ، وفعلاً نزلت النار على قربان هابيل وأكلت سنابل القمح ، فتعجب قابيل ، واستغرب من قبول الله السنابل التي لا تعدل شيئاً أمام الكبش ، فقال ل_ه أخوه هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .
فعظمة العمل وكثرته لا تعدو شيئاً عند الله إلاّ بالتقوى ، ومن هنا قال علي : «لا يقل عمل مع التقوى ، وكيف يقل ما يتقبل» ، ومما أوصى به رسول
الله أباذر ، قال: يا أباذر كن للعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل» .
4_ بالتقوى تنال كرامة الله تعالى: لقد خلق الله تعالى الإنسان كريماً ، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وإنّما يذل ويهان بالمعاصي والذنوب ، وهذه الكرامة أعطاها ووهبها لجميع البشر على نمط واحد ، وبحد متساوي ، غير أنه بامكان كل فرد من الطاقم البشري أن يصبح أكرم من سائر البشر ، وذلك بالتقوى ، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ .
5_ بالتقوى تنال رحمة الله: ليس هناك أوسع من رحمة الله تعالى ، وبالتقوى تنال وتستحصل ، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ .
6_ بالتقوى ينال الإنسان الجنة: قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وقال عز من قائل: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ .
وهناك آثار أخرى عزفنا عن ذكرها مراعاة للاختصار.
ولعل أعظم الآثار للتقوى تعكسها خطبة المتقين لأمير المؤمنين :
كلام أمير المؤمنين في صفات المتقين :
رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُقَالُ ل_ه هَمَّامٌ كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ ل_ه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا هَمَّامُ ، اتَّقِ اللَّهَ وأَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ ، وصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ قَالَ :
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ ولَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ
أَطَاعَهُ ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ ، ووَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ ، فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ ، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ ، ولَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ ، عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً ، أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً ، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا ، وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا ، أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا ، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ، ويَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً ، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً ، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِم ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَكُفِّهِمْ ورُكَبِهِمْ وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ ، وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ ، قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ ، بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ ، فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ ، ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ
ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ ، فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ ، ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ ل_ه فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي ، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ ، واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ ، فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى ل_ه قُوَّةً فِي دِينٍ ، وحَزْماً فِي لِينٍ ، وإِيمَاناً فِي يَقِينٍ ، وحِرْصاً فِي عِلْمٍ ، وعِلْماً فِي حِلْمٍ ، وقَصْداً فِي غِنًى ، وخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ ، وتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ ، وصَبْراً فِي شِدَّةٍ ، وطَلَباً فِي حَلَالٍ ، ونَشَاطاً فِي هُدًى ، وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، وهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي ، وهَمُّهُ الشُّكْرُ ، ويُصْبِحُ وهَمُّهُ الذِّكْرُ ، يَبِيتُ حَذِراً ويُصْبِحُ فَرِحاً ، حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ ، وفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ والرَّحْمَةِ ، إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ ، وزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى ، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ ، والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ ، تَرَاهُ قَرِيباً ، أَمَلُهُ قَلِيلًا ، زَلَلُهُ خَاشِعاً ، قَلْبُهُ قَانِعَةً ، نَفْسُهُ مَنْزُوراً ، أَكْلُهُ سَهْلا ، أَمْرُهُ حَرِيزاً ، دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ ، والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ ، إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ ، يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ ، ويُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ ، ويَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ ، بَعِيداً فُحْشُهُ ، لَيِّناً قَوْلُهُ ، غَائِباً مُنْكَرُهُ ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ ، مُقْبِلًا خَيْرُهُ ، مُدْبِراً شَرُّهُ ، فِي الزَّلازِلِ وَقُورٌ ، وفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ
، وفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ ، لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ ، ولَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ ، يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ ، لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ ولَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ ولَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ ، ولَا يُضَارُّ بِالْجَارِ ، ولَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ ، ولَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ ، ولَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ ، إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ ، وإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ ، وإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ ، والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ ، وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ ، بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ ، ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ ورَحْمَةٌ ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وعَظَمَةٍ ، ولَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وخَدِيعَةٍ ،
قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ :
أَمَا واللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا ، فَقَالَ ل_ه قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ.
لا غرو في ذلك فإن المفرغ لهذا الكلام هو سيد المتقين وضياء المتهجدين ونور العارفين أمير المؤمنين ، وهل يوجد شخصية بعد رسول الله اتصف بهذه الأوصاف غير علي وأهل بيته ، فكان ما قاله لهمام نابع من ذلك القلب السليم ، فأثر ما أفرغه منه في الضمائر الحية والقلوب السالكة إلى الله تعالى.
قد حمل نهج البلاغة نصوصاً تتعلق بالمرأة وقضاياها لابد من محاولة استعراض بعضها بالبحث والتحقيق ، ولكن لابد وأن يعلم مسبقاً بأنّ التعليقات والتحليلات والقراءات
الموجودة عند الباحثين لا يمكنها التعبير عن عمق وكنه الرؤية الإسلامية تجاه هذا الموضوع ، ولا تمثّل إدراك الموقف الشمولي له ، وإنما نحاول قدر المستطاع إعطاء الوجهة التقريبة لذلك على ضوء الخلفيات الثقافية التي تعطيها النصوص ، والتي تعطي بدورها الرؤيا الموضوعية لنظرة الإسلام تجاه الإنسان ككل ، وفيما يلي عرض لبعض النصوص التي يظهر منها طرحاً مستهجاً لموضوع المرأة وفسلجتها.
لعل الرواية الأكثر جدلاً حول نقصان المرأة هي الرواية التي تضمّنتها الخطبة الثمانون من نهج البلاغة ، وهي الأكثر صراحة في هذا المعنى ، حيث جاء فيها: «معاشر الناس ، إن النساء نواقص الإيمان ونواقص الحظوظ ونواقص العقول ، فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيام حيضهنّ ، وأمّا نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد ، وأما نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرجال» .
وقد روى علماء السنّة عن النبي ، في مصادرهم الحديثية _ مثل سنن ابن ماجة _ ما هو قريب من هذا النص.
وأيضاً ورد في كتاب الكافي صريحاً في وصف المرأة بالنقص في العقل ، والضعف في الدين: «ما رأيت ضعيفات الدين وناقصات العقول أسلب لذي لبّ منكن» .
ومما يوهم دلالته على نقصان عقل المرأة ، ما يرويه السيد عن الإمام في الخطبة 27 في صدد ذمّ رجال تقاعسوا عن واجب الجهاد قال : «يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال» .
ينسب السيّد الرضي في نهج البلاغة إلى الإمام القول: «إياك ومشاورة النساء ، فإنّ رأيهنّ إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن ، واكفف عليهن بأبصارهن بحجابك إيّاهنّ ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن.. » .
كما أورد الحديث كلٌ من الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» ، والمجلسي في «بحار الأنوار» ، رواه الحر العاملي في «وسائل الشيعة» أيضاً ، مع بعض الاختلاف ، إضافة إلى أن مضمون هذه الرواية جاء في بعض النصوص الأخرى.
وظاهرها على ما يبدو في الوهلة الأولى وبالنظر البسيط التحذير من مشاورة النساء ، لما وصف به رأي المرأة وعزمها من أفن ووهن ، والأفن هو النقص
والضعف ، وعليه فالمرأة على هذه الرواية لا تتسم بالكمال والتمامية في رأيها ومشورتها.
ينتقل السيد الرضي في النهج عن الإمام أيضاً قوله: «لا تهيجوا امرأة بأذى ، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم ، فإنهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول.. » ، وهذه الرواية تعطي طابعاً آخر في المرأة ، ورؤية أصعب مما تضمنته الرواية الأولى ، ذلك أنها تصف المرأة بالضعف على مستوى القوى والنفس والعقل ، ولعل هذا المعنى يوضح بشكل أكثر السبب في ترك مشورة النساء الوارد في الرواية السابقة.
إن من أغرب ما جاء حول المرأة ، ما قد يُفهم منه أمرٌ صريحٌ بترك المعروف ، لو كانت المرأة هي الداعية إليه ، فلا ينبغي أن تطاع حتى في المعروف ، والنص المعتمد هنا هو ما ينقله السيّد الرضي أيضاً عن الإمام علي في نهج البلاغة: «اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهنّ على حذر ، ولا تطيعوهنّ في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر» .
ومن النصوص التي توهم ذم المرأة ما ينقله السيد عن الإمام في النهج «المرأة عقرب حلوة اللَّسْبة» وأيضاً ورد عنه قوله: «المرأة شرّ كلّها وشرّ ما فيها أنه لابد منها» ، وقوله : «اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر» ، وهذا يكشف عن أن المرأة مركز الشر وعنصره ، وأن أعظم الشَّر أنَّ الرجل بحاجة إليها. .
هذه جملة من الأحاديث الواردة عن الإمام علي في كتاب نهج البلاغة وغيرها من الكتب ، ونسعى في التحليل الآتي ، إلى تقديم صورة تخفف ما يمكن أن يطرأ على الإنسان من استغراب ، عند قراءة مثل هذه الروايات.
والنظرة الأولية لما أسلفناه هنا من الروايات الواردة عن الإمام علي ، توحي أنّ المرأة في شخصيتها ، تُتَّصف بأفنٍ في رأي ، ووهن في عزيمة ، ونقص في عقل ، وعجز في نفس ، مما يبرِّر بشكل طبيعي جداً ، أن تكتمل الصورة النظر الرجال بضرورة الابتعاد عن مشاورتها والحث على مخالفة رأيها ، وإن كان ذلك الرأي مما يصدق عليه المعروف الذي هو من أقدس وأهم المفردات الإسلامية ، ذلك أن إنساناً موصوفاً بما قد مرّ من خصال سيئة ، وقابلة للإفساد والتدمير المعنوي ، من الواضح تجنبه ، والسعي لعدم إشراكه في شيء من تقرير الحياة.
هذا ما تركَّز لدى بعض الناس ، بل العلماء مما دفع بهم إلى أحد أمرين: إما القول بدونية المرأة وأنّها إنسان من الدرجة الثانية ودون الرَّجل في الجانب الجوهري ، وإما الاعتقاد بأن مثل هذه الروايات ضعيفة ، وغير قابلة للاحتجاج العلمي والإسناد المعرفي ، فيجب رفضها كلياً ، والقول الأخير هو الأكثر رواجاً واعترافاً في الأوساط المعاصرة على أقل
تقدير ، وإن كان عدد لا بأس به يعبّر عن إضعاف هذه النصوص بحذرٍ وحيطةٍ ، ولكنه لا يغير من واقع الموقف شيئاً كثيراً.
وفيما يلي نعرض بعض مفردات هذه الروايات ، ونجيب عن تلك التساؤلات باختصار وقبل الدخول في البحث لابد من التمهيد التالي: قد يكون الشيء مذموماً حسب شرائط وعلل وأسباب خارجية ، وليست طبيعة الشيء قابلة للذم ، بمعنى أن الذم فيه ليس ذماً ذاتياً ، وتوضيح ذلك أنه ربّما يمدح أو يذم زمان أو مكان أو أشخاصاً إثر وقائع تاريخية وحسب شرائط وعلل وأسباب خاصة ، وهذا ليس معناه أن طبيعة ذلك الزمان أو المكان أو الشخص قابلة للمدح والذم ، بل ذلك المدح والذم عرض لتلك الطبيعة لعلل وأسباب وشرائط خاصة ، ولذا فإنَّ هذا المدح والذم ليس أبدياً أن يفارق تلك الطبيعة ، وعليه فإذا رأينا في نهج البلاغة أو بعض الروايات ذمّاً لبعض الأمكنة والأفراد ، فلعلّ ذلك من هذا القبيل ، فالقضية في هذه الروايات تصبح قضية شخصية أو خارجية ، وليست قضية حقيقية.
فذم الكوفة وأهلها والبصرة وأهلها في نهج البلاغة قد جاء إثر قضايا وحوادث تاريخية خاصة ، وما جاء عن أمير المؤمنين بعد فراغه من حرب الجمل يذم فيه النساء: «معاشر النّاس ، إن النساء نواقص الإيمان ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول.. » من هذا القبيل ، إذ ليس المقصود منه تحقير المرأة وانتقاصها بما هي امرأة ، وليس ناظراً إلى طبيعتها وواقعيتها ، بل لهذا الذم أسباب وعلل وتفسير يلزم تبينه وتوضيحه على ضوء الكتاب والسنة والعقل والواقع التاريخي ، وهذا ما سنقوم به ضمن الإجابة على المواضيع التالية:
1-ما معنى نقصان إيمان المرأة؟
2-لماذا
حظ المرأة من الإرث نصف حظ الرجل؟
3-ما معنى نقصان عقل المرأة؟
4-لماذا ورد النهي عن مشاورة النساء؟
5-لماذا ورد النهي عن إطاعة النساء؟
6-ما معنى القول: بأنّ المرأة شرّ؟
قضية نقصان إيمان المرأة المعلّل في الرواية بقعودها عن الصلاة والصيام أيام الحيض لا يعتبر في الواقع إنتقاصاً للمرأة ، لأنه أولاً: حرمان مؤقت قابل للجبر ، وثانياً: لأنّه حكمة إلهية.
توضيح ذلك: أنّ الله قد كلّف الإنسان حسب طاقته واستعداده ، ولذا نرى أن تكاليف الأنبياء والأوصياء تختلف مع تكاليف سائر الناس ، فمثلاً أداء صلاة الليل واجبة على الرسول ، ومستحبّة مؤكّدة على سائر المسلمين ، لأنّ هذا التكليف لا يطيقه إلاّ الرسول الأعظم .
وعلى هذا الأساس فإنّ المرأة تجب عليها العبادة وتكون مكلّفة قبل الرجل بست سنين. وهذا في الحقيقة يعدّ شرفاً لها للحضور بين يدي الله عزّ وجلّ ، وأمّا قعودها عن الصلاة والصيام أيّام عادتها فلا يدلّ على نقصان منزلتها ، لأنّه يمكن جبران ذلك ، أمّا الصيام فيقضى ، وأمّا الصلاة فإن المرأة يستحبّ لها أيّام الحيض أن تتوضّأ وتجلس في محراب صلاتها ، وتشتغل بذكر الله تعالى بمقدار الصلاة الواجبة ، كما أن المسافر إذا سبّح التسبيحات الأربعة ثلاثين أو أربعين مرّة يجبر بذلك نقصان الركعتين في السفر. أضف إلى ذلك أنّ المرأة اليائسة والحامل لا يجرى عليهما هذا الحكم ولا يسلب منها توفيق العبادة ، وعليه فالأيام التي تكون فيها المرأة يائسة أو حاملاً مع السنوات الست التي تكلّف فيها المرأة قبل الرجل ، كل هذه جابرة للأيّام التي حرمت فيها من العبادة.
أضف إلى ذلك أنه يمكن أن تكون هناك حكمة إلهية في عدم إلزام المرأة ببعض التكاليف الشرعية ، وهي مراعاة
حالها ، لأنّ المرأة كما جاء في الحديث: «ريحانة وليست بقهرمانة» . فمع هذا التوجيه والتوضيح للرواية ، فلا يكون نقصان عبادة المرأة وإيمانها ، بمعنى ذمّها وانتقاصها كما يفهمه البعض ، بل إن المرأة تستطيع أن تنال أعلى درجات الإيمان والكمالات الإنسانية ، كما يحدثنا القرآن عن أمّ عيسى مريم بنت عمران حيث كانت الملائكة في المحراب ، تحدثها وتأتيها رزقها من الله تعالى ، وهذا يدلّ على ما بلغته من الدرجات العالية حتى أن نبي زمانها قد احتار في أمرها ، وأمر طعامها الغير المعهود أوانه ، وهكذا يحدثنا القرآن الكريم عن آسية امرأة فرعون التي قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، فإن هذا إنما يدل على صلابة إيمانها.
ويحدثنا التاريخ الإسلامي عن خديجة الكبرى ؟ ، وكيف أنها وصلت إلى مراتب الكمال العرفاني ، وكذا يحدثنا التاريخ عن الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء ؟ أنها بلغت درجة من الكمال لم يبلغها أي رجل من الرجال عدا الرسول الأعظم والإمام أمير المؤمنين ووصلت إلى مرتبة الحجية كسائر أبناءها المعصومين ؟ ، ومقام الاصطفاء.
فلو كان النساء كمن ذكرنا
لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
ويمكن القول بأن مقدمات السلوك الإيماني ، وقبليات الوصول إلى القرب الإلهي والحصول على ملكة التقوى في كثير من النساء أقوى من الرجال ، وذلك لشدة العواطف المختزنة في نفوسهن وسرعة تأثرهن وتغيرهن وانفعالهن بمجالس الوعظ والعزاء والذكر والتوسل وقراءة القرآن والمحاضرات الأخلاقية والدينية والعقائدية ، فهذه الأمور في المرأة تؤهلها وتجعلها أكثر وصولاً إلى الحق والقرب الإلهي ، والانقطاع إلى الله تعالى.
وعلى ما ذكرناه فإن الظاهر من
نصوص القرآن الكريم الذي يوجه الخطاب إلى المرأة كالرجل بأن الأفضل عند الله هو الأتقى ، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ، فالأتقى هو الذي يبلغ مقام التكريم سواء كان رجلاً أو امرأة ، وهذا يكشف عن أن استعدادات المرأة لبلوغ هذه المرتبة على حد سواء مع استعدادات الرجل ، وأن قعودها عن بعض العبادات لا يمنع من تحقيق هذه الكرامة الإلهية ، وإلا لما ناسب شمولها في الخطاب المذكور ، ما دام هناك معوقات تسلب توفيقها لهذه الدرجة ، بحيث دائماً يكون الرجل محققاً للأتقى.
وبعد هذا لابد وأن نفهم هذا البيان لنقصان إيمان المرأة على ضوء هذه الآية وسائر النصوص الأخرى المتوجهة إلى الإنسان بمعزل عن كونه رجلاً أم امرأة ، ولهذا فيمكننا عرض احتمالات لفهمها:
الاحتمال الأول: أن يكون المقصود من نقص الإيمان مجرد ترك أفعال الإيمان على مستوى السلوك ، دونما تأثير النقص على الكمالات التي استحصلتها من سلوكها العبادي الذي كانت تمارسه في غير أيام عذرها ، كما لا يؤثر هذا النقص على ملكاتها الإيمانية القلبية ، ويمكن فهم ذلك من العلة التي ذكرها الأمير لنقص الأيمان ، وذلك بالجمود على ألفاظها ، وبهذا لا يكون الخطاب لبيان انتقاص المرأة ، بل لبيان حقيقتها وواقعها ، وهذا المقدار من النقص مما لا ينكره أحد حتى المرأة نفسها.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد النظر إلى المرأة في زمن أمير المؤمنين ، وأن هذا النقص من الإيمان يؤثر عليها في سلب الكمالات عنها ، ولا ينظر إلى حقيقة المرأة بشكل عام كما بيّنا من أن ملحوظ أمير المؤمنين الحالة
الخارجية للمرأة دونما النظر إلى حقيقية المرأة بشكل عام.
وهناك احتمالات أخرى غيرها.
قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ .
والسبب في تحديد الإسلام سهم المرأة وجعله نصف سهم الرجل ، هو الوضع الخاص للمرأة من حيث المهر والنفقة وبعض القوانين الجزائية وغير ذلك ، ولمّا جعل الإسلام المهر شرطاً في العقد ، وأوجب النفقة على الرجل ورفعها عن ذمة المرأة ، وفرضهما على الرجل أراد أن يجبر ذلك عن طريق الإرث فجعل سهم الرجل ضعف سهم المرأة وهذا المعنى قريب من الجواب الذي قاله الإمام الصادق لابن أبي العوجاء حين اعترض على الإسلام ، فقد روى الصدوق في علل الشرائع بسنده عن هشام بن سالم عن الأحوال ، قال: «قال لي ابن أبي العوجاء ما بال المرأة الضعيفة لها سهم واحد ، وللرجل القوي الموسر سهمان؟ قال الأحول: فذكرت ذلك للصادق فقال: على الرجال النفقة والعاقلة والجهاد ، وعدّ غيرها وقال: وليس هذا عليها ، فلذلك جعل له سهمان ولها سهم».
وروى فيه بسنده عن عبد الله بن سنان قال «قلت للصادق لأي علة صار الميراث للذكر مثل حظ الانثيين؟ قال : لما جعل لها من الصداق» .
وروى فيه بسنده عن محمد بن سنان أنه كتب إلى الرضا بمسائل فكتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: «علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث ، لأن المرأة إذا تزوجت أخذت ، وأعطاها الرجل ، فلذلك وفّر عليه ، ولأن الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت فعليه أن يعولها وعليه نفقتها ، وليس على المرأة أن تعول الرجل ، وإن احتاج فلا تؤخذ هي بنفقته فلذلك وفّر عليه» .
إذن تأخذ المرأة ثلث الثروة
الموروثة لتنفقها على نفسها ، ويأخذ الرجل ثلثي الثروة لينفقها أولاً على زوجته ، أي على المرأة ، وثانياً على أسرته فأيهما يصيب أكثر من الآخر بمنطق الحساب والأرقام؟ فهل بقيت بعد ذلك شبهة في القدر الحقيقي الذي تناله المرأة من مجموع الثروة ، وهل هو امتياز حقيقي في حساب الاقتصاد أ يكون للرجل مثل حظ الأنثيين ، وهو مكلف بما لا تتكلفه الأنثى؟!
على أن هذه النسبة إنما تكون في المال الموروث بلا تعب ، فهو يقسم حسب أعدل قانون وصلت إليه البشرية اليوم وهو: «لكل حسب حاجته» أما المال المكتسب فلا فرق بين الرجل والمرأة لأنه يتبع مقياساً آخر هو المساواة بين الجهد والجزاء قال تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ .
هذا وفي كثير من الفروض يتساوى الرجل والمرأة في الإرث منها أن الأبوين يتساويان في الإرث وهو السدس ، ومنها أن المرأة والرجل من أقرباء الأم يتساويان في الإرث.
إذن فلا ينبغي أن يتوهم وجود أي ظلم وإهانة في مسألة تقسيم الإرث بين الذكر والأنثى ، وليس معنى قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ، وقول الإمام : «النساء ناقصات الحظوظ» ، أن قيمة المرأة هي نصف قيمة الرجل في حساب الإسلام ، كما يفهمه العوام ويقوله أعداء الإسلام.
في ضوء قراءة تاريخية للتجارب الموجودة والنصوص الشرعية المعتبرة ، المتعلقة بالتاريخ المعاصر لهذه النصوص ، ، جميعها لا تؤيد اعتبار أن المرأة أقل حظّاً من الرجل في امتلاك العقل ، حيث أن شخصيات تاريخية من النساء استطعن إثبات عكس ذلك ، وهذا بحد ذاته شهادة تاريخية على أن الظروف مؤاتية ومناسبة للمرأة لكي تثبت غير الذي ذكر ، إلى جانبه توافر
نماذج نسائية ، هي قمة في العقل والتعقل وهو أقوى دليل ، على امتناع وصف المرأة كجنس كلي بهذه الخصوصية وعدم صحة ، إصدار حكم نقصان العقل في حق كل النساء ، والمسألة تبقى منحصرة في إطار البعض ، ليس باعتبارهنّ نساء ، ولكن باعتبارهنّ موصوفات أحياناً بأوصاف خاصة ، وهذا ما سنوضحه.
إنَّ نقصان العقل ، في حال ثبوته ، لا يطرأ على المرأة كجنس من الإنسان له خصوصياته العاطفية والحساسية ، حسب تعبير السيد الطباطبائي في معرض حديثه عن هذا الموضوع وفي تفسير الآيات 228 إلى 243 من سورة البقرة.
ولا شك أنّ مثل هذا التقلب والاهتزاز قد يحصل بفعل وجود مسببات وعلل خاصة من شأنها عرقلة عملية الإدراك ، أو الخضوع له والنزول عنده ، والمسألة لا تتعلق بالمرأة فقط ، إنما تتعلق بما تتصف به في حالات كثيرة ، تتجاوز ما يصاب به الرجل من حالات الهيجان والثوران في العاطفة الإنسانية المقدسة ، والأمر القابل للتبني ، ليس أكثر من قبول أن أكثر النساء وليس كل النساء في أكثر الحالات وليس كل الحالات يقعن تحت تأثير العاطفة الشديدة والإحساس القوي وضغطهما أشدّ من أكثر الرجال ، لأن بعض النساء قد لا يتأثرن بهذا المستوى ، وبعض الرجال ، من جهة أخرى قد يتأثرون بمشهد عاطفي فيسقطون عنده ، ويصبحون غير قادرين على أي انطلاق عقلي... وهذه الاستثناءات كافية لتدل على أن الحكم وإن كان غالبياً ، لكنّه لا علاقة بينه وبين النساء كجنس أو الرجال كجنس ، إنّما العلاقة بين الإحساس والعاطفة اللذين إذا اشتدا في الإنسان مطلقاً عرقلا العملية العقلية في تلك اللحظات والحالات فحسب.
الجرائم الكبيرة التي يرتكبها الرجال في حالات كثيرة
، منها ما يقع لنقص عقل فاعليها في لحظة الارتكاب كسبب أساسي ، فمن الطبيعي أن يتأثر الإنسان بعواطفه ، فيتعثر في قراره ، ولا أظنّ أننا في حاجة إلى إثبات وجود علاقة بين التصرف اللاعقلائي الشَّاذ ، وبين تلاطم الوضعية العاطفية وتحرك العاطفة النفسية سلباً أو إيجاباً.
والنقطة الجوهرية هنا؛ هي إثبات أن المسألة غير مرتبطة بالمرأة؛ بما هي امرأة ، وإنّما ترتبط بشدة العاطفة والإحساس الرقيق لديها ، مما يؤثّر في إمكانية أخذ القرار العامل والصائب عادتاً وهذا مما يؤخرها عن الرجل في لحظة حرجة وصعبة تنطوي على مشاهد عاطفية كبيرة ، قد تسبّب تجريح عاطفة المرأة وخدشها ، مما يجعل الرجل أكثر صلاحية في هذه الحالات الصعبة ، والمقتضية للخشونة ، والمواجهة والعنف ، وسيطرة القدرة.
كما أنّ شهوة الرجل وإعجابه بنفسه يسلبان إمكانية التعقل لديه والتأمل ، وأخذ القرار الصائب تماماً ولذا فقد جاء عن علي : «إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله» ، وفي آخر: «لا عقل مع شهوة» .
إن أكثر الرجال في تأمين العيش والحماية والمواجهة أشد أهلية وتلاؤماً من أكثر النساء ، وهن أكثر إطاعة للحب والعاطفة والعشق باتجاه الخير وأشد انسجاماً في طباعهن مع تحمل الشدائد والصعاب في سبيل ادارة البيت وتربية الأولاد وتأمين متطلبات الرجل النفسية والروحية ليسكن إليها ، ولعل قول الإمام علي في نهج البلاغة يشير إلى طبيعة هذا الدور ، حيث يقول: «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة» .
ولعل المراد من كلام أمير المؤمنين من: «إنّ النساء نواقص العقول» ، هو نقصان الذاكرة كما يستفاد من آية 283 من سورة البقرة ، والدليل على ذلك هو التعليل الذي يذكره الإمام لنقصان عقل النساء ، وهو كون
شهادة المرأتين كشهادة رجل واحد ، ولقد علّل القرآن ذلك بقوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأُخْرى ، والضلال هنا يقابل التذكّر ، فهو يخالفه أي: الضلال عن التذكّر ، يعني النسيان ، كما نصّ عليه الطوسي في التبيان ، والطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في التفسير الكبير.
وسواء كان نقصان عقل المرأة بمعنى قلة التعقل بسبب العاطفة ، أو بمعنى النقصان في الذاكرة فهو ليس انتقاصاً ومذمة للمرأة ، بل هو بيان لحقيقة ينبغي أن يتعرف عليها كل من الرجل والمرأة لكي يعرف كل منهما الدور الذي ينبغي أن يقوم به في الحياة الزوجية وفي المجتمع.
فالنتيجة: على ضوء الآيات والروايات والعلم والتجربة لابد من التسليم ، بأن هناك تفاوتاً بين عقل الرجل والمرأة إلاّ أن هذا التفاوت يحصل بسبب الأمور العارضة لها لا بسبب خلقتها ، فليس كل امرأة فيها هذا النقص والتفاوت ، وإن كان هو الغالب فيها وهذا ما تحتاجه في حياتها سيما في الأمور الزوجية والأمور التعليمية والتربوية ، وهذا لا يعد انتقاصاً وذماً للمرأة كما يتصوره البعض ، بل هو بمقتضى المصلحة الإلهية للمرأة والرجل ، وكيان الأسرة والمجتمع.
فالرجل يحتاج إلى عاطفة المرأة والمرأة ، تحتاج إلى عقل الرجل وتدبيره ، وبعبارة أخرى نقصان عقل المرأة إذا صح التعبير بالنقص بسبب العاطفة والإحساس ، يتم بعقل الرجل ، ونقصان عاطفة الرجل يتم بعاطفة المرأة ، فكلّ منهما مكمّل للآخر. وبذلك يحصل الاطمئنان والسكون المطلوب في الأسرة.
قال تعالى: هُنّ لِبَاسٌ لّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لّهُنّ .
إن وجود النصوص من الأحاديث التي تحث على عدم مشاورة النساء في رأيهن ، وهي – دون شك- لا تمثل تخصيص الرجل بالأمر الشرعي في
آيات القرآن الكريم والسنة الشريفة بالمشاورة ، والمشاركة في عقول الناس مما يعني بكل يقين أن ما جاء في هذا الصدد يرمي إلى تجنيب الرأي الصائب من التأثر بالحلات العاطفية القوية القابضة على كيان المرأة وشخصيتها فيمتنع أن يكون السبب فيها أن المرأة كائن إنساني ناقص في عقله لا ينبغي مشاورته! .
لا أشك في أنها _ إن صحت _ فإنها تشير إلى حالات خاصة تطرأ على المرأة كثيراً لكنها غير داخلة في الجوهر ، ولا تدل على دونية المرأة في الحالة العادية في القدرة على التعقل.
إن النهي عن مشاورة النساء لا يعني إلاّ عدم إدخال العواطف والاحساسات الشخصية للمرأة في اتخاذ القرار في المسائل الحيوية والأعمال المهمة ، سواء كانت مرتبطة بالأسرة أو بالمجتمع كما يجب على الرجل أيضاً أن لا يسلط عواطفه وأحاسيسه على عقله وتفكيره ، والمرأة لما كانت عواطفها وأحاسيسها غالباً تغلب على عقلها ، فالروايات لا تنهى عن مشاورة النساء بصورة مطلقة ، ومع أي امرأة كانت ، لأن هذا ينافي قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ، إذ يدل على عموم المشاورة مع الرجال والنساء ، ولم يثبت التخصيص بالرجال.
أضف إلى ذلك أن هناك ما يدل على حسن المشاورة مع بعض النساء لا سيما المرأة التي جربت بكمال العقل ، وخصوصاً في الأمور التي تخص النساء والقضايا الزوجية وما يتعلق بالأسرة وتربية الأولاد وتدبير المنزل والمعيشة مع الزوج وغيرها من الأمور التي ينبغي أن يكون للمرأة دوراً ورأياً فيها. لقد روى عن الإمام علي أنه قال: «إياك ومشاورة النساء إلا من جربت بكمال عقل» ، وقال : «حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه علوم الحكماء»
، ونقل أنه كان رسول الله يأخذا بآراء النساء ويشاورهن من ذلك ففي أثناء صلح الحديبية اقترحت أم سلمة اقتراحاً وافقها النبي الأكرم عليه واتبعه فقد كانت أم سلمة _ زوجته _ معه في أثناء صلح الحديبية ، فدخل خيمتها وكان غاضباً غضباً شديداً فنهضت إليه وخاطبته: «يا رسول الله ما بك فقال أمره عجيب!! لقد أمرت الناس مراراً أن ينحروا قرابينهم ، وقص شعورهم ويحلوا إحرامهم فلم يستجب لأمري أحد ، ولم يطيعوني مع أنهم سمعوا قولي وهم ينظرون إلي».
فقالت أم سلمة: «يا رسول الله ، قم وانحر قربانك وسيتبعك الناس حتماً» ، فتناول الرسول السكين ، وساق هديه ، وحين رأي الناس ما يفعله رسول الله أقبلوا على هديهم ينحرونها ، فلو كانت مشورة النساء مذمومة لما قبل النبي بمشورة زوجته.
إنّ ما نقلناه من النهي عن ترك إطاعة المرأة في المعروف فضلاً عن المنكر ، وإن كان غريباً من نوعه ولكن يمكننا حله بتخفيف الجزمية في دلالة ألفاظ الحديث ، ومعرفة الوجوه المتكثرة التي تتحملها كلمة المعروف ، مثلاً حيث إن الأمر بالمعروف واجب شرعي دون تدخل الآمر بالمعروف في امتثال الإنسان له فمجرد ثبوت المعروف يوجب على العارف به ، والمأمور به أن يطيع ذلك أما المعروف المطلوب مخالفته ، أو عدم إطاعته في كلام الإمام علي في حالة تأكد النقل فإنه خارج عن نطاق المعروف الشرعي الواجب امتثاله قطعاً ، فالمراد من الحديث هو المعروف العرفي الرائج في المجتمع فلا بأس بإطاعة الرجل للمرأة فيه ، ولكن لا ينبغي للرجل أن يكثر من الإطاعة للمرأة في هذا النوع من المعروف بحيث تستغل كثرة هذه الإطاعة من الرجل فتطمع بإطاعة الرجل
لها في جميع متطلباتها ، ولو اقتضى ذلك ارتكاب المنكر ، ولذا نرى هناك روايات كثيرة عن إطاعة المرأة ، ولا شك في أن المراد من تلك الروايات إطاعتها بالأمور التي تخالف الشرع والعقل التي يكون منشؤها غالباً العواطف والاحساسات والتعلقات الإنسانية والتي تمنع من اتخاذ تصميم وقرار سليم وصائب ، منها ما جاء عن رسول الله «من أطاع امرأته أكبه الله على وجهه في النار فقيل ما تلك الطاعة؟ قال: تطلب منه....... الثياب الرقاق فيجيبها» .
ورد عن أمير المؤمنين بعض ما يظهر منه نسبة الشر إلى المرأة ، كما في قوله : «المرأة شر وشر ما فيها أنه لابد منها» وغيره ، وهذه الروايات ، لابد من النظر فيها لفهم دلالتها ، هذا إذا سلمت من الاشكال في سندها ، حيث أن بعض هذه الأخبار لا تقف أمام البحث السندي وقبل الخوض في معنى الخير والشر وأنواعه لا بد من تمهيد.
تمهيد:
ينظر الإسلام إلى أن الوجود كله خير ، لأن الوجود إما أنه هو الله عز وجل وإما أنه مخلوقاته ، وكلها خير. ونستطيع أن نستكشف هذه الحقيقة من خلال الجمع بين آيتين كريمتين ، حيث يقول تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ .
فما عدا الله سبحانه من سائر الموجودات مخلوقة لله تعالى.
وفي آية أخرى يقول تعالى: الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ..
حيث تؤكد هذه الآية الشريفة على أن كل ما خلقه الله فقد خلقه حسناً وخيراً. إذن كل الموجودات هي حسنة وخير.
أنواع الخير والشر:
إن الخير والشر على نحوين:
النحو الأول: الخير المطلق والشر المطلق. أما الخير المطلق فهو الوجود الغير متناهي ، وهو وجود الله سبحانه وتعالى. وأما الشر المطلق فهو العدم المطلق ،
وهذا غير متحقق في الخارج أصلاً.
النحو الثاني: الخير النسبي والشر النسبي. أما الخير النسبي فهو الوجود ، المحدود وكذلك الشر النسبي فهو ينطبق على الوجود المحدود. مثلاً وجود الإنسان بما إنه محدود فخيره نسبي وشره نسبي ، ومثال الشر النسبي وجود الشيطان ، فبما إنه موجود حي مختار فهو خير ، لأنه من مخلوقات الله ، وبما أنه قد عصى أوامر الله سبحانه باختياره فهو شر. والصدق أيضاً كذلك فهو يتصف بالخير ، ولكن في ظروف أخرى يتصف بالشر كما لو كان يترتب على الصدق مفسدة كبيرة ، مثل ما لو كان مستلزماً لقتل مؤمن ، كما أن الكذب يتصف بالشر ، ولكن في ظروف أخرى يتصف بالخير كما لو كان يترتب عليه مصلحة معينة ، كالإصلاح بين المؤمنين ، أو إنقاذ حياة مؤمن ، وأيضاً هناك موجودات هي من جهة خير ومن جهة أخرى شر ، كما في الحشرات فإن وجودها من جهة الإنسان شر ، ولكن لنفسها خير ، وهذا ما يطلق عليه الموجودات والصفات المتصفة بالخير والشر باعتبار الجهات أو الخير والشر الإضافي.
والآن هل وجود المرأة واتصافه بالخير أو الشر من النحو الأول أو الثاني؟ من الواضح جداً أن المرأة كالرجل في أن اتصافهما بالخير أو الشر نسبي بلحاظ الظروف والجهات ، فإذا كان وجودهما لأجل الله تعالى ، واتصفا بالإيمان والتقوى والعطاء فوجودهما خير ، وأما إذا ارتكبا المعاصي والطغيان والتمرد وخلع زيّ العبودية فيتصف وجودهما بالشر ، من دون أدنى فرق بين الرجل والمرأة ، وأما اتصاف المرأة بالشر محضاً فليس بصحيح ولا واقع ، وما ورد في بعض النصوص من وصف المرأة بالشر فهي روايات غير ناظرة إلى ذاتها
وواقع وجودها ، بل بلحاظ الافتتان بها والتعلق بها الذي قد يصل إلى درجة تبعد الإنسان عن ربه وعن عشق خالقه ، ومن هنا عطف بعض النصوص الذاكرة لشر المرأة القول: وشر ما فيها أنه لا بد منها؛ إذ هذه اللابدية ليست ذاتية في المرأة ، وإنما هو وجه من وجوه التعلق والارتباط بها ، فإن كل موجود لا يستلزم بالنظر إلى ذاته أنه لا بد من الحاجة إليه بل الحاجة إليه تكون من جهة عارضة عليه ، فالنص _ على فرض صدوره _ ناظر إلى هذه الجهة ، لا إلى أن المرأة شر من كل الجهات بل في أمور وظروف خاصة وخصوصيات وصفات تطرأ على المرأة كسائر الموضوعات التي تطرَّقنا حولها ، والله هو العالم بحقائق الأمور..
إذن يمكن القول بأن هذه الروايات لا يمكن أن يكون المقصود منها جنس المرأة وإنما صدرت على نحو الغالب ، على نحو قوله تعالى: إِنّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ أي جاحد وكافر ، مع أنه ليس كل إنسان كافراً. فالمرأة التي وهبها الله العاطفة القوية إذا هي انساقت وراءها كما حدث لبعض زوجات النبي والأنبياء السابقين ، فإنها توردها موارد الهلاك والفساد ، فتصير شراً ، لأنها غلّبت همها الدنيوي على همها الأخروي ، فهي المقصودة في مثل هذه الروايات ، ولا تنافي بينها وبين الواقع.
ولذا نرى بأن المرأة إذا كبحت جماح عاطفتها ، وسارت وفق موازين عقلها ، كانت مؤمنة فاضلة ، بل فاقت الكثيرين من الرجال في الفضل. ولذلك ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون والسيدة مريم من الأولين ، في مقابل السيدة خديجة والزهراء ؟ من الآخرين.
وبهذا يتم ما أردنا تحريره من سلسلة هذه البحوث ،
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لكتابة سائر بحوث نهج البلاغة ، كما اسأله أن ينفع فيه الاخوة والأخوات ، وأن يجعله خالصاً لوجه الكريم ، وينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
18 ذي الحجة 1424ه_ ذكرى عيد الغدير المبارك
دمشق _ أيوب الحائري
القرآن الكريم
مفاتيح الجنان
نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد
شرح نهج البلاغة/ محمد عبده
في رحاب نهج البلاغة/ مطهّري
الإنسان الكامل في نهج البلاغة/ حسن زاده الآملي
غرر الحكم/ الآمدي التميمي
تصنيف غرر الحكم/ مصطفى درايتي
أصول الكافي/ الكليني
الخصال/ الشيخ الصدوق
بحار الأنوار/ العلامة المجلسي
ميزان الحكمة/ محمد الريشهري
منتخب ميزان الحكمة/ محمد الريشهري
سنن ابن ماجة/ ابن ماجة
أعيان الشيعة/ سيد محسن الأمين
الذريعة إلى تصانيف الشيعة/ الشيخ الطهراني
مروج الذهب/ المسعودي
البيان والتبيين/ الجاحظ
التبيان/ الطبرسي
الميزان/ العلامة الطباطبائي
التفسير الكبير/ فخر الرازي
لسان العرب/ ابن منظور
ديوان صفي الدين الحلي
عشرون سؤالاً وشبهة حول المرأة/ أيوب الحائري