نهاية التحقيق
فيما جرى في أمر فدك للصدّيقة والصدّيق بالنصّ والتوثيق
تقديم وجمع وتحقيق
آية الله السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
محرر الرقمي: محسن حقاني فر
ص: 1
نهاية التحقيق
فيما جرى في أمر فدك للصدّيقة والصدّيق بالنصّ والتوثيق
تقديم وجمع وتحقيق
آية الله السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينْ
(أبتدئ بالحمد لمن هو أولى بالحمد والمجد والطول، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتداها، وسبوغ ألاء أسداها، وتمام منن والاها، جمّ عن الإحصاء عددّها، ونأى عن الجزاء أمدّها، وتفاوت عن الإدراك أبدّها. وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمدَ إلى الخلائق بإجزالها، وثنّى بالندب لأمثالها .....) بهذا ابتدأت سيدة النساء فاطمة الزهراء(عليه السلام)، خطبتها (الكبرى) الشهيرة في مسجد أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وإنّما ابتدأتُ أنا بما ابتدأت به هي صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، لأني أردت الوصول إلى ساحة قدسها، والدنو من رحمة بركتها في عملي هذا وهو توثيق أسانيد خطبتها(عليه السلام)، فعسى أن أحظى بنظرة عطف من لطفها، فتشملني بشفاعتها ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾(1)
ص: 3
فإنّ لها عند الله مقاماً عظيماً، وجاهاً كريماً، فصلّى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها وسلّم تسليماً.
(یا فاطمة الزهراء يا بنت محمد يا قرّة عين الرسول، يا سيدتنا ومولاتنا إنّا توجّهنا واستشفعنا وتوسلنا بكِ إلى الله وقدّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهة عند الله إشفعي لنا عند الله ).
ياسيدتي إنّ خطبتكِ في شأن فدك الّتي ألقيتِها في مسجد أبيك الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)، فأقمتِ بها الحجة وأنرتِ المحجة، فانقطع الخصوم عن الإدلاء بما عندهم ممّا يردون به القوارع التّي صدعتهم بها، فكان الكذب والإفتراء، وكان التعريض والإزدراء، ومرّت السنون، وذهب كلّ فريق ممّن أحبّ أو سخط بما يؤمنون فيما يعملون.
ونبتت نابتة لم تستمرئ طعم الإيمان على حقيقته، فلم يكن إيمانهم إلّا لعقا على ألسنتهم، لم يجاوز تراقيهم، فأنكروا الخطبة وأسبابها، وأحاطوها بشُبَه كنسج العنكبوت، فاستهووا بعض المغفلين، وهؤلاء قد يُعذرون لأنّهم لم يروا إلا ما حولهم، ولم يسمعوا إلا ما يتلوه عليهم وعّاظ السلاطين من خلال خطب الجمعات والأعياد، فلم يستطيعوا فكّ الرهان عن رقابهم، ولا رفع الغشاوة عن أعينهم، فأنّى لهم المعاينة؟ وأنّى لهم الموازنة؟ وهم في ظلام من التضليل مطبق، وفي متاهة وعلى شفا جرف هار، ولمّا كان الدين هو النصيحة لعامة المسلمين، أوجب عليَّ الحقُّ إجابةَ طلب المؤمنين، فأدليتُ بدلوي مع الواردين، عسى أن أوضح
ص: 4
لمن غفل أو تغافل وثاقة الخطبة من مصادر العامة والخاصّة، وأسأل الله تعالى أن يتقبل منّي عملي خالصاً لوجهه الكريم، وعسى أن يهتدي به مضلّل غافل، أو جاهل متغافل، فيتبع سبيل من أناب، فأثاب عليه أحسن الثواب، إنّ ربّي رحيم ودود.
ولقد حداني إلى هذا العمل كثرة ما أشيع وأذيع في وسائل الإعلام الكاذب في هذه الأيّام من أن الزهراء(عليها السلام)لم تمت وهي غضبى على الشيخين، بل إنّها كانت غضبى أوّلاً ولكنها رضيت عنهما حين أتياها عائدين، وبالتالي فإنّها لمّا ماتت صلّى عليها ،أبوبكر ، كما سيأتي ذكر هذا ضمن صور بعض النصوص الآتية – وبهذا ونحوه بدأ الوهم يتحول إلى الشك والشك يتسرب في نفوس البعض، ثمّ يتحول في طريقه إلى الظن، وربّما ينقلب إلى يقين بعد حين، والبلية والطامة هي أن نقرأ ذلك في منشورات هنا وهناك، وما أدري لماذا هذا في هذا الوقت، ثمّ ماذا من بعد الاستنكار يأتي غير الإنكار ؟ وما أدري كيف لنا توجيه ما ورد عن أئمتنا(عليهم السلام)بدءاً من أمير المؤمنين(عليه السلام)فيما قاله في تأبينها عند دفنها؟ وسيأتي ذكره في بعض النصوص الآتية، ثمّ ما ورد من ألفاظ زيارتها(عليها السلام)وهو عن أبنائها، وما ورد في ذكر مقامها يوم القيامة وشكايتها، وهذا ما روته مصادرنا عن أئمتنا، ومنه ما رواه ابن عباس(رحمه الله) وهو بحكم المرفوع
ص: 5
كما يراه غيرنا، ولقد سبق الناصر الأطروش (302 - 304) والقاضي محمّد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الإسكافيه وهو من قدماء أصحابنا إلى تأليف كتاب باسم (الظلامة الفاطمية)(1)، وقد نقل عن كتاب هذا الشيخ تقي الدين عبد الله الحلي في كتابه (2)بإسناده إلى أبي ذر الغفاري وفي أصل سُليم بن قيس وغيره، ما ينفي الشك واللبس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وبعد فهذه السطور نقرأ فيها تحقيقاً حول خطبة فدك، الّتي احتجّت بها سيدة النساء على ابي بكر والمهاجرين والأنصار، نصاً وتوثيقاً، لأن كثيراً من المعاندين يأبون التصديق بها، حيث أتت على بنيانهم من القواعد، فجعلته هشيماً رميماً تذروه الرياح.
ولمّا كان التاريخ الإسلامي قد تعرّض لذكر الأحداث الجسام، التي تزلزلت فيها الأقدام، فكان الإنقسام واشتد التجاذب بين القطبين - السني والشيعي - في كتب الكلام، حيث نجد التفريط والإفراط في الخصام، مما يزداد معه المرء حيرة، أيّ الفريقين أهدى وأقوم سبيلا، ومن لم يمتلك نحواً من الخُبرة، يكاد يقع في هوّة الحيرة، بعيدة القعر كذي طوى، وهو لا يملك حبل نجاة من الرشا، إلا قصيراً لا يبلغ المدى،
ص: 6
فيكاد يهوي في الحفرة ،مع كثرة الثغاء والرغاء، وتزاحم الرعاع والرعاء، الذين ما تزال أقلامهم تزيد العجيج والضجيج ، فكثر الشك، وحصل الريب، وربّما تنسف الحقيقة بجرّة من قلم، لدعوة حاكم ظلوم، أو تزلّفاً لذي سلطان غشوم، إمّا طمعاً في مغنم أو دفعاً لمغرم.
وفي هذه الحال لابد لمن يبتغي الوقوف على الحقيقة، أن يتريث صابراً، حتى يصدر الرعاء، ليرى كم ترك كل من القطبين المتجاذبين في التاريخ من أثر فيه خلل، وبصمات لطمس حادث جلل، ويرى كيف تصدّعت وحدة المسلمين من بعد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)خاتم النبيين، حيث حكم على آله من كان يرى أن لهم الحق في الحكم عليه باعترافه(1)، لكنها الأهواء وخطل الآراء، وهم فيما يرون ويروون، أشعلوا فتيل الفتنة، فكانت الهنات التي صدعت القناة من بعض الذوات، ثمّ كان لكل طائفة وفريق دعوة وحجة، محقة كانت أو غير محقة، فكادت تضيع معالم الإهتداء، التي تركهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عليها فقال:(تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها)(2) وكانت نتيجة تزاحم الرجال على نهب تراث أهل بيته، وتعدى بهم الإعتداء بعد سلبهم سلطانه، أن هددوا بإحراق أهل بيته ،
ص: 7
الإعتداء بعد سلبهم سلطانه، أن هددوا بإحراق أهل بيته وحرمانهم ابنته وبضعته ميراثها من أبيها، تمادياً في الغي واستضعافاً منهم لابن عمه وجرت خطوب لا تزال لها ندوب تدمى منها القلوب، فوضعت أحاديث مكذوبة ، وكثرت القالة عليه كما أخبر(صلی الله علیه وآله وسلم)من قبل حيث قال: ( ألا فقد كثرت عليَّ القالة ألا ومن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار)(1).
ولما كان طالب الحق (سنّياً كان أو شيعياً ) ليس له اطلاع على ما جرى في تاريخ تلك الحقبة، أو كانت معرفته من خلال الموروث هذا ما وجدنا عليه آباءنا لذلك رأيت لزاماً على أن أبحث له موضوع خطبة فدك من طريق السبيل الأقوم، وهو نبذ كل ما أنفرد به كل من طرفي النزاع، والأخذ بما اتفقا على روايته، لأنّ ذلك يزيدنا إيماناً وإطمئناناً ويقيناً، بأن الأمر كما رووه معاً، لا كما رواه كلّ على انفراد فاجتماع كلمتهم سوى، على غير ميعاد مع خُلف هوى، يكون هو الطريقة المثلى في نشدان الحقيقة لانّ في السنّة كما هو في الشيعة أيضاً تطرف بين القطبين المتجاذبين فمن أقصى الشمال إلى أقصى اليمين وفي هؤلاء وأؤلئك صح ورود( هلك فى اثنان محبُّ غال وعدو قال) وهذا ما عاشته الأمة طوال القرون، يتناظرون غضابا، ويتنافرون أحزاباً، وكأنهم لا يخشون حساباً، ولا شك إنّه كان في أولئك وهؤلاء بين ذَيّن وذَيّن نمرقة وسطى تقول
ص: 8
باعتدال، فإليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي، وهؤلاء يفيئون الى الحقّ، حين يقولون ما يعتقدون انّه الحقّ. لا يبغون عنه بَدلاً. ومن أحسن تمن دعا الى الحقّ قولاً وعملاً.
كما لا شك ان سلوك هكذا سبيل دون بقية الطرائق هو أقوم وأبعد عن خطر التهمة، وأقرب الى جمع الكلمة، ولم شَعَث الأمة بعد كشف غياهب الظلمة، دونما تجنّ أو تثريب، وهو طريق الى التقريب.
وإنّما فضّلت هذا السبيل لأنّي جربته من قبل فيما كتبت أول سطر فيما بحثت ونشرت فهو طريق سوي، وصراطه مستقيم، وحجته دامغة، وأعلامه قائمة، ليس فيه محاباة ولا مداجاة، فالإذعان للحقّ أولى من التعصب للباطل لك أو عليك، فإن الحقّ أحقّ أن يتّبع، وفي موضوع هذه الرسالة الّتي ليس لي فيها من جهد سوى جمع بعض النصوص الّتي لايتطرق إليها الريب من الفريقين، حيث تتفق الرواية وتوثقها الدراية، قد أخذت على نفسي أن لا أحيد عن ذلك السبيل الأقوم ان شاء الله تعالى وأنا أتلو قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إِلَى اللَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾(1).
ص: 9
التزاماً بما قدمت إيضاحاً عن سبيلي الّتي أدعوا إليها أبناء المسلمين جميعاً، فقد كان لزاماً أن أوضح منهجي في هذه الرسالة، وما هي الأبحاث الّتي سأذكرها. وقد رأيت اختصاراً مفيداً أن يكون المنهج في هذه الرسالة مشتملاً على مقدّمة استعرض فيها المعاني اللغوية لمفردات العنوان، لئلا يبقى حوار الخرسان مع الإنسان كحوار الطرشان
ثمّ أربعة أبواب يشتمل كل باب على موضوع يخصه وهي كما يلي:
الباب الأوّل: وفيه ما يلزمنا الوقوف عليه من جنايات في التاريخ وما يجب إنقاذه.
الباب الثاني: في الصديقية ومَن هو أحق بها؟ وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأوّل: في صدّيقية فاطمة الزهرا(عليها السلام)بعد تمهيد في معناها .
المبحث الثاني: في صديقية السيدة عائشة(رضی الله عنه).
المبحث الثالث: في صديقية أبي بكر(رضی الله عنه).
المبحث الرابع: في صدّيقية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).
الباب الثالث: في مصادر خطب الزهرا(عليها السلام)وذلك في ثلاثة مباحث بعد التمهيد:
المبحث الأوّل: مصادر النص عند الشيعة.
المبحث الثاني: مصادر النص عند السنّة .
المبحث الثالث صور النصوص المختارة.
ص: 10
الباب الرابع: في توثيق النصوص، ويشمل المباحث التالية:
المبحث الأول: تعدد الأسانيد.
المبحث الثاني: روعة الأسلوب.
المبحث الثالث: قوة الحجة القارعة.
الخاتمة في أدب الحجاج مع أهل الإعوجاج وترك اللجاج.
وقد احتطت - والاحتياط حسن في مثل هذا المقام - إذ نقلت النصوص من مصادرها المطبوعة مصورة حتى تصوير غلاف الكتاب المطبوع، لئلا يقول طاعن في قلبه مرض ليغطى الجوهر بالعرض، إنّي راجعت الكتاب (المصدر) فلم أجد ما تزعمون، وفي تعدد الطبعات الحديثة، نجد بعض التزويرات الخبيثة، وقد ازداد الأمر تفاقماً في شيوع التزوير، حتى في بعض مؤسسات الإصدار للأقراص الكمبيوترية.
وللتدليل على ذلك فليلاحظ الإصدار الأوّل (للمكتبة الألفية ) حيث يوجد حديث الثقلين بنصه وفصّه كما هو في مصادره المطبوعة المنقول عنها، ولكن في الإصدارات المتأخرة بعنوان (المكتبة الألفية) فراجع الحديث المشار إليه تجد اللعب تما يثير العجب، في تحريف للفظ (الثقلين) وجملة (لن تضلوا) أما بحذفها كلها وأمّا جعلها في سياقة جملة ليس لها اتساق معها، ممّا يفقد الحديث حجته وجدته، وإلى الله المشتكى.
ص: 11
أمّا شواهد التحريف في طبعات الكتاب الواحد، فقد أشرت في كتابي(المحسن السبط مولود أم سقط) إلى ما جرى في كتاب (مروج الذهب) للمسعودي في اعتذار عروة بن الزبير عن عزم أخيه عبد الله على تحريق بني هاشم حين حبسهم مرة في قبة الشراب بزمزم، ومرة حبسهم في شعب أبي طالب، وهددهم بالإحراق ، ان لم يبايعوه وقد نجوا من شره حين أتاهم أبو عبد الله الجدلي ومن معه منجداً من قبل المختار فاستنقذوهم وأزالوا الحطب عن الباب وأخرجوهم سالمين، وخاض الناس في ذلك ناقدين وناقمين فكان عروة يحتج بما صنعه عمر مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن كان معه في بيته وفاطمة(عليها السلام) وبنيها في البيت وعمر يهددهم باحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا أبا بكر، كيف جرى التلاعب في طبعات الكتاب كما ذكرت في الملحق الأوّل في آخر الكتاب الآنف الذكر حول كتاب (المعارف لابن قتيبة تما هو شاهد في المقام على ما يرام. ولو أردت استيفاء البحث في جرائم الأقلام والتزييف في الأقراص الكمبيوترية، بل وحتى في تصوير بعض الأفلام، الطال المقام.
ولا أظن أنّ القراء لم يروا ولم يسمعوا ما جرى في حوارات القناة التي تسمى (المستقلة) والتي كان الأولى بها أن تسمى (المستغِلَة) - بالغين المعجمة سواء كانت بالفتح أو بالكسر - فهي فيما أثارته من خصام ، على غير هدى من أساليب الجدل في علم الكلام، حتى تجاوز الحال في النقض
ص: 12
والإبرام، إلى اختلاط الحابل بالنابل ومباراة الشاهق بالصاهل، فكانت المصادر التي يعرضها المحاور المناور، فيها تحريف عند العرض، أو تلبيس وتدليس. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ص: 13
ص: 14
في المعاني اللغوية لمفردات العنوان
صحيح أنّ خير الكلام ما قلّ ودلّ، وهذا من أساليب حسن البيان في علوم البلاغة . وصحيح أنّ العصر الحاضر تخطى الحواجز بالتقنيات فاختصر حتى أنماط كيفية الحياة والتعايش معها. وصحيح ان الناس لايستسيغون الإسراف والفضول سواء كان في الكلام أو في الكتاب.
كلّ هذا لا أمنعه ولا أدفعه ولكن من كان هادفاً إلى إيضاح معنى لا تستوفيه لفظة واحدة، ولا يتم إلا بجملة واحدة أو أكثر، فلا لوم عليه بعد أن يجد له في الكتاب المجيد في جواب موسى(عليه السلام) ما فيه من التسديد قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِي فِيهَا مَارِبُ أُخْرَى﴾(1) في الآية المباركة (دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل لأنه قال: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ ذكر معاني أربعة وهي اضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا والتوكؤ، والهش، والمآرب المطلقة، فذكر موسى(عليه السلام) من منافع عصاه عُظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك)(2).
ص: 15
ولمّا كنت بصدد استيفاء ما في هذه الرسالة بجميع معانيها ومطاويها، وقل بجميع حذافيرها من خلال مفردات العنوان، ولا أظن قارئاً يجهل أن يكون معنى العنوان يحكي المعنون، فلا لوم على لو سميت الرسالة باسم نهاية التحقيق فيهما جرى في أمر فدك للصدّيقة والصدّيق، بالنص والتوثيق) والآن إلى بيان ما أجملت في العنوان من معاني الأسماء في اللغة:
1 - (نهاية) هي الغاية وآخر الشوط والمنتهى.
2 - (التحقيق) هو تفعيل طلب الحق، يقال حقق الشي تحقيقاً أوجبه وأكّده وأثبته.
3 - ( فدك) اسم قرية من قرى خيبر فتحت صلحاً، ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فهي خالصة الرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وسيأتي لها حديث في نصوص المصادر، وما جرى لها وعليها عبر تاريخها حتى القرن الثالث.
4 - (الصدّيقة) مؤنث.
5 - (الصدّيق) وهو الدائم التصديق (قال الراغب:فالصدّيق من كثر منه الصدق، وقيل: بل لا يكذب قط)(1). وقيل: بل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعودّه الصدق ، وقيل : لمن صدّق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله. قال تعالى : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾(2)
ص: 16
وقال: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾(1) وقال : ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾(2) فالصدّيقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة على ما بيّنت في الذريعة إلى (مكارم الشريعة) وحسبنا بهذا تعريفاً ولننظر ماذا عند المفسرين في ذلك:
قال الطبري(3)في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهَ وَكَفَى بِالله عَليما ﴾(4) ... والصديقون هم جمع صديق، واختلف في معنى الصدّيقين فقال بعضهم: الصدّيقون أتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم، فكأن الصدّيق فعيل على مذهب قائلي هذه المقالة من الصدق كما يقال رجل سكير من السكر إذا كان مدمناً على ذلك وشرّيب وخمّير.
وقال آخرون: بل هو فعيل من الصدقة، وقد روي عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بنحو تأويل من قال ذلك، وهو ما حدّثنا به سفيان بن وكيع ... عن ضباعة بنت الزبير وكانت تحت المقداد عن المقداد قال قالت النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) شئ سمعته منك شككت فيه، قال: إذا شك أحدكم في الأمر فليسألني
ص: 17
عنه، قال: قلت قولك في أزواجك إنّي لأرجو لهنّ من بعدي الصدّيقين، قال: من تعنون بالصدّيقين؟ قلت: أولادنا الذين يهلكون صغاراً.
قال : لا ، ولكن الصدّيقين هم المصدّقون.
قال الطبري: وهذا خبر لو كان إسناده صحيحاً لم نستجز أن نعدوه إلى غيره؟ ولو كان في إسناده بعض ما فيه، فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالصدّيق أن يكون معناه المصدّق قوله بفعله، إذ كان الفعيل في كلام العرب إنّما يأتي إذا كان مأخوذاً من الفعل بمعنى المبالغة، إمّا في المدح وإما في الذم ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ (1)وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا كان داخلاً من كان موصوفاً بما قلنا في صفة المتصدقين والمصدقين.
وقال أيضاً(2) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صديقة، والصديقة الفعيلة من الصدق، وكذلك قولهم فلان صديق فعيل من الصدق، ومنه قوله تعالى ذكره: ﴿وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾(3) وقد قيل : إن أبا بكر الصديق(رضی الله عنه) إنما قيل له الصديق لصدقه، وقد قيل : إنّما سمي صدّيقاً لتصديقه النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة وعوده إليها.
ص: 18
وعلى المعنى التصديقي للصديقية ورد في حقّ أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث أنّها صدّيقة كما في حديث جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): لا ينجو من النار وشدة تغيظها وزفيرها وقرنها وحميمها من عادى عليا(عليه السلام) وترك ولايته وأحب من عاداه. فقالت ميمونة زوج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : والله ما أعرف من أصحابك يا رسول الله من يحب عليّاً إلا قليلاً منهم، قال : فقال لها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم):القليل من المؤمنين كثير، ومن تعرفين منهم؟ فقالت: أعرف أبا ذر والمقداد وسلمان وقد تعلم أني أحبّ عليّاً(عليه السلام) بحبك إياه ونصيحته لك، قال: فقال لها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : صدقت أنت (إنّك - خ ل) صدّيقة امتحن الله قلبك للإيمان(1).
ولا غرابة في الخبر بعد أن نقرأ في البخاري في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب البر ومسند أحمد(2) وموارد أخر قوله(صلی الله علیه وآله وسلم) : (ما يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله عزّ وجلّ صدّيقاً، الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقاً).
ص: 19
وبعد ما نقرأ قوله(صلی الله علیه وآله وسلم): (من قرأ ألف آية ... كتب يوم القيامة مع النبيين والصدّيقين)(1).
وبعدما قال عن ابنه إبراهيم : (ولو عاش لكان صدّيقاً نبيّاً)(2). وقوله: (إنّ له في الجنّة من يتم رضاعه وهو صدّيق)(3). والشواهد كثيرة على معنى الصدّيقية الذي هو منبثق من الصدق وأجلى مظاهره التصدّيق. قال يحيى بن الحسن ابن البطريق : إعلم ان الصدق خلاف الكذب، والصديق الملازم للصدق الدائم في صدقه والصدّيق :من صدّق عمله قوله، ذكر ذلك أحمد بن فارس اللغوي(4) ، وذكره أبو نصر إسماعيل بن حّماد الجوهري(5). وإذا كان هذا هو معنى الصدّيق فالصدّيق أيضاً ينقسم ثلاثة أقسام : 1 - صدّيق يكون نبيّاً. 2 - صدّيق يكون إماماً. 3 - وصدّيق يكون عبداً صالحاً لا نبيّ ولا إمام.
فأمّا ما يدلّ على أوّل الأقسام فقوله سبحانه وتعالى:﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾(6) وكل نبي صدّيق، وليس كل صديق نبيّاً، وقوله تعالى : ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾(7).
ص: 20
وأمّا ما يدلّ على كون الصدّيق إماماً فقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ (1). فذكر النبيين ثم ثنى بذكر الصديقين، لأنه ليس بعد النبيين في الذكر أخص من الأئمة ويدلّ عليه أيضاً الأخبار الواردة بأنّ الصدّيقين ثلاثة: حبيب وحزقيل وعلي، وهو أفضلهم، فلمّا ذكر عليّا(عليه السلام) مع هذين المذكورين دخل معهما في لفظة الصدّيقين، وهما ليسا بنبيّين ولا إمامين، فأراد إفراده(عليه السلام)عنهما :بما لا يكون لهما وهي الإمامة، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): وهو أفضلهم. فليس في لفظة (الصديق) بينهم تفاضل،لأنه (صلی الله علیه وآله وسلم) قال : (الصدّيقون ثلاثة) فقد استووا في اللفظ، فأراد الإخبار عن اختلافهم في المعنى وهو استحقاق الإمامة فقال: وهو أفضلهم، تنبيهاً على كونه (عليه السلام)صديقاً إماماً(2).
6 - (النص) يقال: نص الشئ ينصّه نصّاً رفعه وأظهره.
7 - (التوثيق من قولهم: وثق الأمر توثيقاً أحكمه.
ص: 21
ص: 22
وفيه نقاط
ص: 23
ص: 24
قد حفلت مصادر الحديث في تراث الفريقين من الشيعة والسنة ، بأحاديث حول لقب الصدّيقة والصديق، والإختلاف في تعيين المرموز إليهم والمراد بهم ، ومن هم أصحاب ذلك اللقب؟ والسؤال الذي يفرض نفسه، من هو المقصود باللقب؟ هل هو واحد أم متعدد؟ وهل ثمة تعتيم وتضبيب حول أصحابه ؟ فثارت لذلك الشكوك من أجل ما نحا به کل فريق وجهةً هو مولّيها، فقالت الشيعة: إن الصديقة هي فاطمة الزهرا(عليها السلام)وإنّ الصديق هو الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وقالت السنّة : إنّ الصدّيقة هي عائشة بنت أبي بكر وأبوها هو الصديق (رضی الله عنه ).
ولدى إلقاء نظرة تحقيق على أحاديث الصدّيقة والصدّيق لدى الفريقين نجد التراث السنّي في هذا الجانب واهي العماد لعيوب في الإسناد، كما يقوله علماء التراث في الجرح والتعديل وسياتي بيان ذلك. وإذا أمعنّا النظر في الأحداث التي مرّت في الصدر الأوّل من تاريخ المسلمين نجد هناك عملية تزوير منظّمة طالت الخلفاء وأتباعهم، ونالت أهل البيت وأشياعهم، وكان معاوية هو الّذي أسّس مدرستها وتخرّج منها وعنها نماذج موبوءة ديناً، وأولئك هم الّذين أعانوه على تثبيت سلطانه بالقهر والغلبة لمن أبى، وبالعطاء والحباء لمن بايع وشايع، فإلى قراءة شئ عن مدرسة الكذب.
ص: 25
لقد روى ابن أبي الحديد المعتزلي(1) عن كتاب (الأحداث) للمدائني فقال: وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الأحداث) قال: (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة )(2)وقبل الاستمرار مع المدايني في روايته، نود أن نلفت نظر القارئ إلى ان عمال معاوية الذين كتب لهم جميعاً هم من نماذج عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن سمية وسمرة بن جندب وأضرابهم لعنهم الله ، تمن استبدلوا الدين بالدنيا، وأراقوا دماء المسلمين بالعرض الأدنى، فقتلوا على الظنة والتهمة، وأعلنوا سبّ الإمام أمير المؤمنين
ص: 26
(عليه السلام)على منابر المسلمين، ولا غضاضة علينا لو لعناهم لعناً صريحاً ، لأنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قد لعنهم وذلك في الحديث الصحيح عنه(صلی الله علیه وآله وسلم) قال :
(من سبّ عليّاً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أدخله الله نار جهنم وله عذاب عظيم )فأولئك اللعناء هم الذين كتب إليهم اللعين معاوية وإلى بقية عماله نسخة واحدة كما روى المدائني، فإلى قراءة ما رواه ابن أبي الحديد عن المدائني قال: وروى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الأحداث) قال: كتب معاوية نسخة واحدةً إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلّ كورة، وعلى كلّ منبر، يلعنون عليّاً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة عليّ(عليه السلام) ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم ،عارف لأنه كان منهم أيام عليّ (عليه السلام)فقتلهم تحت كلّ حَجَر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل ، وسَمَل العيون، وصَلَبهم على جُذوع النخل وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم. وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحدٍ من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل
ص: 27
ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنُوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفّعه فلبثوا بذلك حيناً .
ثمّ كتب إلى عمّاله إنّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفَشَا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليَّ وأقر لعيني، وأدحضُ لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدُّ إليهم من مناقب عثمان وفضله . فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشاعوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقى إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ص: 28
ثمّ كتب إلى عماّله نسخة واحدة إلى جميع البلدان أنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا ،به واهدِمُوا داره فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة ، حتى إنّ الرجل من شيعة على(عليه السلام) ليأتيه مَن يثق به، فيدخل بيته فيلقى إليه سرّه، ويخاف من خادمه و مملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القراء المراءون، والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والتُّسُك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ،ورووها، وهم يظنّون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها، ولا تدينوا بها.
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي(عليه السلام) ، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.
ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين(عليه السلام) ، وولَي عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك
ص: 29
والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغضّ من عليّ(عليه السلام)وعيبه والطعن فيه، والشنآن له حتى إنّ إنساناً وقف للحجّاج -- ويقال إنّه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب -- فصاح به أيُّها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليّاً، وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم - في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ،وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يُرغمون به أنوف بني هاشم.
هذا ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج نقلاً عن كتاب الأحداث للمدائني ، وعقب عليه بما ذكره نفطويه في كتابه نحوه(1). وقد أثار العجب حين ذكر بعد هذا إفتراءاً عجيباً، وذلك حين طعن الشيعة في الصميم فبهتهم بأنّهم أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل، وإن تعجب فعجب قوله في ما أورده في شرح النهج وإليك ذلك في النقطة.
ص: 30
قال:فصل فیما وضع الشیعه والبکریۀ من الأحادیث
واعلم أنّ أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنّهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم حملهم على وضعها خصومهم مثل حديث (السطل) وحديث (الرّمانة) وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، كما زعموا ب_ (ذات العلم) وحديث غسل سلمان الفارسي، وطيّ الأرض، وحديث الجمجمة ، ونحو ذلك.
فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث، نحو (لو كنت متخذاً خليلاً)، فإنّهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سدّ الأبواب فإنّه كان لعلى(عليه السلام)فقلبته البكرية إلى أبي بكر، ونحو (ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان). ثمّ قال : ( يأبّى الله تعالى والمسلمون إلّا أبا بكر)، فإنّهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه :( ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبداً )، فاختلفوا عنده. وقال قوم: منهم: لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله، ونحو حديث: (أنا راض عنك فهل أنت عنّي راض!)، ونحو ذلك. فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنّه فتله في عُنق خالد، وحديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية أم محمّد، وحديث: (لا يفعلنّ خالد ما أمر به)، وحديث الصحيفة الّتي علّقت عام الفتح بالكعبة، وحديث الشيخ الّذي صعد
ص: 31
المنبر يوم بويع أبو بكر، فسبق الناس إلى بيعته، وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعلى أدون الطبقات فيهم ، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في عليّ وفي ولديه ونسبوه تارة إلى ضعف العقل، وتارة إلى ضعف السياسة، وتارة إلى حبّ الدنيا والحرص عليها . ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه واجترحاه، ولقد كان في فضائل علي(عليه السلام) الثابتة الصحيحة، وفضائل أبي بكر المحققة المعلومة ما يغني عن تكلّف العصبية لهما، فإنّ العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل، ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوي والمقابح.
ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى وحبّ العصبية وأن يجرينا على ما عوّدنا من حبّ الحق أين وجد وحيث كان سخط بذلك من سخط، ورضي به من رضي بمنّه ولطفه(1) .
وبهذا الدعاء ختم ابن أبي الحديد كلامه وبلغ مرامه، ونحن أيضاً ندعو بدعائه، ولا نطيل الوقوف عند كلامه وحسبنا أن أرينا القارئ تناقضه فبينا هو قد ذكر أولاً عن المدائني أن معاوية هو الذي حمل الناس على الكذب في الفضائل وكتب إلى عماله نسخة واحدة...، وذكر من قهره واستذلاله للشيعة وقتلهم تحت كل حجر ومدر، إذا به يرمي الشيعة بأنهم هم أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل! إنّه أمر عجيب ومريب!
ص: 32
ولما كان قد شرح كلاماً للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)وقد سأله سائل عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر. ونحن نرضى بما قاله أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهو الحكم الفصل الذي ينير لنا السبيل في تمييز الطيب من الخبيث والخبر الصادق من الكاذب في الحديث، فإلى قراءة ذلك، ونستتبعه بقراءة ما شرح به ابن أبي الحديد ، ليتضح لنا، كيف نتعامل مع مرويات الأحاديث النبوية، فضلاً عن مرويات التاريخ التي عراها من الدوافع السياسية ما عراها .
الأصل: ومن كلام له(عليه السلام) وقد سأله سائل عن أحاديث البدع، وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال(عليه السلام) : إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَاماً وَخَاصَاً، وَمُحْكَما وَمُتَشَابِها، وَحِفْظاً وَوَهْماً، وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عَلَى عَهْدِهِ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). وَإِنَّمَا أَتَاكَ بِالحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَال لَيْسَ هُمْ خَامِسٌ : رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرُ لِلإِيمَانِ، مُتَصَنِّع بالأسلام، لا يَتَأَنَّمُ وَلَا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ الله (صلی الله علیه وآله وسلم) رَآهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ ، وَلَقِفَ عَنْهُ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ(عليه السلام)، فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزّورِ
ص: 33
وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوهُمُ الأَعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ المُلُوكِ وَالدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ.
وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله(صلی الله علیه وآله وسلم) شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَوَهِمَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ، يَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فَلَوْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ.
وَرَجُلٌ ثَالِثُ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله(صلی الله علیه وآله وسلم) شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْء، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لا يَعْلَمُ، فَحَفِظَ المَنسُوخَ، وَلَمْ يَحْفَظُ النَّاسِخَ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.
وَآخَرُ رَابِعٌ ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللهِ، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضُ لِلْكَذِبِ، خَوْفاً الله وَتَعظيماً لِرَسُولِ الله وَلَمْ يَهِمْ، بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ ، وَحَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ المَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، فَوَضَعَ كُلَّ شَئ مَوْضِعَهُ، وَعَرفَ الْمُتَشَابِهَ وَمُحْكَمَهُ.
وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ: فَكَلَامٌ خَاصٌ ، وَكَلَامُ عَامٌ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ بِهِ، وَلَا مَا عَنَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه وآله وسلم) فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَة بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِئ الأَعْرَاتُ أَوْ الطَّارِىءُ، فَيَسَأَلَهُ(عليه السلام)حَتَّى يَسْمَعُوا، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٍ إِلَّا سَأَلْتُ عَنْهُ وَحَفِظَتْهُ.
ص: 34
فَهَذِهِ وَجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلافِهِمْ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ.
الشرح : الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية، وهي العّام والخاصّ، والناسخ والمنسوخ، والصدق والكذب، والمحكم والمتشابه، موكول إلى فنّ أصول الفقه، وقد ذكرناه فيها أمليناه من الكتب الأصولية، والإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجَن .
قوله(عليه السلام): ( وحفظاً ووهماً) الهاء مفتوحة، وهي مصدر وَهِمتُ، بالكسر، أوْهُم، أي غلطت وسهوت، وقد روى: (وَهْماً) بالتسكين، وهو مصدر وهَمتُ بالفتح ،أوْهُم، إذا ذهب وهُمُك إلى شئ وأنت تريد غيره، والمعنى متقارب . وقول النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): ( فليتبوأ مقعده من النار )كلامٌ صيغته الأمر، ومعناه الخبر، كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ﴾(1) وتبوّأت المنزل : نزلته، وبوّأته منزلاً : أنزلته فيه.
والتأثم : الكفّ عن موجب الإثم، والتحرج مثله، وأصله الضّيق، كأنه يضيق على نفسه . ولقَفَ عنه : تناول عنه، وجنّب عنه : أخذ عنه جانباً.
و (إنْ) في قوله : (حتى إن كانوا ليحبّون) مخففة من الثقيلة، ولذلك جاءت اللام في الخبر والطارئ، بالهمز الطالع عليهم، طَرَأ أي طلع، وقد روى: (عللهم)، بالرفع عطفاً على (وجوه)، وروى بالجرّ عطفاً على (اختلافهم).
ص: 35
واعلم ان هذا التقسيم صحيح ، وقد كان في أيام الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) منافقون، وبقوا بعده، وليس يمكن أن يقال: إن النفاق مات بموته، والسبب في استتار حالهم بعده، أنه(صلی الله علیه وآله وسلم)كان لايزال يذكرهم بما ينزل عليه من القرآن، فإنّه مشحون بذكرهم، ألا ترى أنّ أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين، فكان السبب في انتشار ذكرهم وأحوالهم وحركاتهم هو القرآن، فلما انقطع الوحي بموته(صلی الله علیه وآله وسلم) لم يبقَ من يَنعَى عليهم سقطاتهم ويوبخّهم على أعمالهم، ويأمر بالحذر منهم، ويجارهم تارةً، ويجاملهم تارة، وصار المتولّى للأمر بعده يحمِلُ الناس كلهم على كاهل المجاملة، ويعاملهم بالظاهر، وهو الواجب في حكم الشرع والسياسة الدنيوية بخلاف حال الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف، ألا ترى أنه قيل له: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ﴾(1)! فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم ، وإلّا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق، والوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم، فليس مخاطباً بما خُوطب به(صلی الله علیه وآله وسلم) في أمرهم، ولسكوت الخلفاء عنهم بعده حمل ذكرهم، فكان قصارى أمر المنافق أن يُسرّ ما في قلبه ويعامل المسلمين بظاهره، ويعاملونه بحسب ذلك. ثمّ فُتحت عليهم البلاد، وكثرت الغنائم، فانشغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيّام رسول الله، وبعثهم الخلفاء مع
ص: 36
الأمراء إلى بلاد فارس والروم، فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تُنقَم منهم في حياة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، ومنهم من استقام اعتقاده، وخلصت نيته لما رأوا الفتوح وإلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة، والكنوز الجليلة إليهم، فقالوا: لو لم يكن هذا الدين حقاً لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. وبالجملة لما تَركُوا تُرِكُوا ، وحيث سُكت عنهم سكتوا عن الإسلام وأهله، إلا في دنية خفيّة يعملونها ، نحو الكذب، الذي أشار إليه أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإنّه خالط الحديث كذب كثير، صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة، قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد، وقَصَدَ به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. وقد قيل : إنّه افتُعِل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه، ولم يسكت المحدّثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراً من هذه الأحاديث الموضوعة، وبينوا وضعها، وأنّ رواتها غير موثوق بهم، إلّا أنّ المحدثين إنّما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون في الطعن على أحدٍ من الصحابة لأنّ عليه لفظ (الصحبة) على أنّهم قد طعنوا في قوم لهم صُحبة كبسر بن أرطاة وغيره.
فإن قلت: من هم أئمّة الضلالة، الذين يتقرّب إليهم المنافقون الّذين رأوا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)،و صاحبوه للزور والبهتان؟ وهل هذا إلّا تصريح بما تذكره الإمامية وتعتقده !
ص: 37
قلت: ليس الأمر كما ظننت وظنّوا، وإنما يعني معاوية وعمرو بن العاص ومَن شايعهما على الضلال، كالخبر الذي رواه من رواه في حق معاوية: (اللّهمّ قِهِ العذاب والحساب، وعلّمه الكتاب)، وكرواية عمرو بن العاص تقرّباً إلى قلب معاوية: (إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما وليي الله وصالح المؤمنين)، وكرواية قوم في أيام معاوية أخباراً كثيرة من فضائل عثمان، تقرباً إلى معاوية بها، ولسنا نجحَدُ عثمان وسابقته، ولكنّ-ا نعلم أنّ بعض الأخبار الواردة فيه موضوع، كخبر عمرو بن مرة فيه وهو مشهور وعمرو بن مرّة ممن له صحبة، وهو شامي .
وليس يجب من قولنا: إنّ بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل، فإنّا مع اعتقادنا أنّ عليّاً أفضل الناس نعتقد أنّ بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل ومختلق.
وقد روي أنّ أبا جعفر محمد بن عليّ الباقر(عليهم السلام)، قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ! إنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالات علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش، واحد بعد واحدٌ، حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحبُ الأمر
ص: 38
في صعود كئود، حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعُوهد ثمّ غدر به وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حقُّ قليل. ثم بايع الحسين(عليه السلام)من أهل العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثمّ لم نزل – أهل البيت - نُستذل ونُستضام، ونُقصى ونُمتهن، ونُحرم ونُقتل، ونُخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس، وكان عُظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن(عليه السلام)، فقُتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد، إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام)، ثم جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكل ظِنّة وتهمة، حتى إنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال: شيعة على، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير - ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً- يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سَلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت ، وهو يحسب أنها حقٌّ لكثرة من قد رواها من لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع.
ص: 39
قلت: ولا يلزم من هذا أن يكون علي(عليه السلام)يسوءه أن يذكر الصحابة والمتقدمون عليه بالخير والفضل، إلا أن معاوية وبني أمية كانوا يبنون الأمر من هذا على ما يظنونه في علي(عليه السلام) من أنّه عدوّ من تقدّم عليه، ولم يكن الأمر في الحقيقة كما يظنونه ولكنّه كان يرى أنه أفضل منهم ، وأنّهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم، ولا براءة منهم.
فأما قوله (عليه السلام): ( ورجل سمع من رسول الله شيئاً ولم يحفظه على وجهه فوهم فيه، فقد وقع ذلك. وقال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه: إنّ ابن عباس لما روي له هذا الخبر، قال: ذَهَل ابن عمر، إنّما مر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)على قبر يهودي، فقال: إنّ أهله ليبكون عليه، وإنّه ليعذب.
وقالوا أيضاً : إنّ عائشة أنكرت ذلك، وقالت : ذَهل أبو عبد الرحمن، كما ذهل في خبر قليب بدر ، إنّما قال(عليه السلام): (إنّهم ليبكون عليه، وإنّه ليعذب
بجرمه).
قالوا: وموضع غلطه في خبر القَلِيب أنه روى أنّ النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)وقف على قلیب ،بدر فقال:(هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّاً)؟ ثمّ قال: (إنّهم يسمعون ما أقول لهم)، فأنكرت عائشة ذلك، وقالت: إنّما قال: (إنّهم
ص: 40
يعلمون أنّ الّذي كنت أقوله لهم هو الحقّ)، واستشهدت بقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى﴾(1)
فأمّا الرجل الثالث، وهو الّذي يسمع المنسوخ ولم يسمع الناسخ، فقد وقع كثيراً، وكتب الحديث والفقه مشحونة بذلك، كالّذين أباحوا لحوم الحُمر الأهلية لخبر رووه في ذلك، ولم يرووا الخبر الناسخ .
وأمّا الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم .
وأمّا قوله(عليه السلام): (وقد كان يكون من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الكلام له وجهان)، فهذا داخلٌ في القسم الثاني وغير خارج عنه، ولكنّه كالتنّوع من الجنس، لأنّ الوهم والغلط جنس تحته أنواع.
واعلم أن أمير المؤمنين(عليه السلام)كان مخصوصاً من دون أصحابه رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)،لا يطلّع أحد من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثير والسؤال للنبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)عن معاني القرآن وعن معاني كلامه(صلی الله علیه وآله وسلم)، و إذا لم يسأل ابتدأه النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بالتعلم والتثقيف ، ولم يكن أحدٌ من أصحاب النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)كذلك، بل كانوا أقساماً، فمنهم من يهابه أن يسأله، وهم الّذين يحبّون أن يجئ الأعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون، ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمّة في النظر والبحث، ومنهم من كان مشغولاً عن طلب العلم وفهم المعاني، إمّا
ص: 41
بعبادة أو دنيا، ومنهم المقلّد الّذي يرى أنّ فرضه السكوت وترك السؤال، ومنهم المبغض الشّانئ الّذي ليس للدّين عنده من الموقع ما يضيّع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه، وأنضاف إلى الأمر الخاصّ بعليّ(عليه السلام) ذكاؤه وفطنته، وطهارة طينته، وإشراق نفسه وضوؤها، وإذا كان المحلّ قابلاً متهيّئاً، وكان الفاعل المؤثّر موجوداً، والموانع مرتفعة، حصل الأثر على أتمّ ما يمكن فلذلك كان علي(عليه السلام)- كما قال الحسن البصري - ربانيّ هذه الأمة وذا فضلها، ولذا تسميه الفلاسفة: إمام الأئمّة وحكيم العرب.
انتهى ما في شرح النهج لابن أبي الحديد وبه تمام الباب الأوّل.
ص: 42
وفيه أربعة مباحث
ص: 43
ص: 44
بعد تمهيد في معنى الصدّيقية وبعضه مستلّ من كتابنا (عليّ إمام البررة) مع ما أضيف إليه، قلنا في الكتاب المذكور:
الفضيلة الثالثة: وهي كونها (صدّيقة)، ومعنى الصدّيق والصدّيقة هو من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، فوافق قولَه فعلُه، وطابق ظاهره باطنُه، ومنزلته دون النبيّ وفوق الشهداء والصالحين، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾(1)
قال الآلوسي في تفسير الآية المذكورة في (روح المعاني) فالمنازل أربعة ، بعضها دون بعض.
الأولى منازل الأنبياء: وهم الذين تمدّهم قوة إلهية، وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية، ومثلهم كمن يرى الشي عياناً من قريب، ولذلك قال تعالى في صفة نبيّنا صلى الله عليه (وآله )وسلم:
﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يرى﴾ (2).
والثاني: منازل الصديقين: وهم الذين تأخروا عن الأنبياء(عليهم السلام)في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد، وإياه عنى على كرّم الله
ص: 45
وجهه حيث قيل له: هل رأيت الله تعالى؟ فقال: ما كنت لأعبد رباً لم أره.
ثمّ قال: لم تره العيون بشواهد العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
والثالث: منازل الشهداء: وهم الذين يعرفون الشئ بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشئ في المرآة من مكان قريب كحال من قال: كأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزاً. وإيَّاه قصد النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم بقوله: أعبد الله كأنك تراه.
والرابع: منازل الصالحين: وهم الّذين يعلمون الشئ بالتقليد الجازم، ومثلهم كمن يرى الشئ من بعيد في مرآة، وإيّاه قصد النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلم بقوله : فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.
قاله الراغب، ونقله الطيبي وغيره(1).
وإذا عرفنا معنى الصدّيقية، وأنّها مساوقة في الكمال المتناهي في النبوة، إلّا أنّها دونها في الرتبة، مع فارق آخر هو أنّ النبوة والرسالة لا تكون إلّا في الرجال، لأنّ مبناها الدعوة والظهور، والنساء لهن الصون، وعليهن الحجاب، فلم تكن لهن رسالة ولا فيهن نبوّة، وإن ذهب بعضهم فأغرب وقال بنبوة مريم(عليها السلام) بل وغيرها، وردّ ذلك عليه كما هو الحق.
ص: 46
وما تخيّل ذلك إلا من مخاطبة الوحي لها بالاصطفاء والاجتباء والتطهير، ولم يدرك أن ذلك يحصل للصديقين أيضاً كما يحصل للأنبياء(عليهم السلام) فقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾(1)لا يدل على نبوّتها، ولا غيره من خطاب روح الله القدس لها ومن حال اختصها به إنّما كان ذلك تكريماً لها، وإعراباً عن مكانتها الصدّيقية، كما سماها بذلك في قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ مَا المُسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيَّنُ هُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ (2). فسماها الله تعالى صديقة، ولم يسمها رسولاً كما سمّى ابنها المسيح عيسى (عليه السلام).
فالصدّيقية مقام سام في الكمال لا يناله إلا من اختصه الله بفضله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.
ولأجل هذا كانت فاطمة الزهراء لها أفضل من مريم(عليها السلام) ، لأنها كانت صديقة أيضاً، لاصطفاء الله تعالى لها مع أبيها وبعلها وابنيها، الذين خصهم بالتطهير، فعصمهم من كل رجس، وطهرهم تطهيراً.
وعلى ذلك كافة الشيعة وجمهرة كبيرة من أعلام المسلمين من غيرهم مستدلين بالآية الكريمة، وقد مرّ الكلام فيها، ومؤكدين ذلك
ص: 47
بالأحاديث النبوية الشريفة، نحو قوله(صلی الله علیه وآله وسلم)لعلي(عليه السلام): أوتيت ثلاثاً لم يؤتهنّ أحد ولا :أنا صهراً مثلي، ولم أوت أنا مثلي، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي، ولم أوت مثلها زوجة، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك، ولم أوت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم(1).فسماها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)( صدّيقة )، كما أنه شبّهها بمريم(عليها السلام) بقوله(صلی الله علیه وآله وسلم) لها في حديث الجفنة: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل.
فلنقرأ الحديث كما أخرجه الزمخشري والنظام النيسابوري وابن كثير في تفاسيرهم عن أبي يعلى بسنده عن جابر، واللفظ للأخير :
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سهل بن زنجلة، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن محمد بن المنكدر عن جابر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً. فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شئ آكله، فإنّي جائع؟ قالت: لا والله بأبي أنت وأمي. فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) وسلم على نفسي ومن عندي. وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، فرجع إليها فقالت بأبي أنت وأمي، قد أتى الله بشئ
ص: 48
فخبأته لك. قال: هلمي يا بنية قالت: فأتيته بالجفنة، فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليها بهتُ، وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصلّيتُ على نبيه، وقدّمته إلى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه حمد الله وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت يا أبت﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ . فحمد الله :وقال الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسُئلت عنه قالت: ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهَ إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(1) فبعث رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلى عليّ، ثمّ أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأكل عليّ وفاطمة وحسن وحسين، وجميع أزواج النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً. قالت وبقيت الجفنة كما هي قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً(2).
وروى الكرامة هذه الصابوني في تفسيره نقلاً عن ابن كثير في تفسيره، ثمّ قال: والقصة مشهورة(3).
ص: 49
أقول: ولم يقتصر ابن كثير على إيرادها في تفسيره فحسب، بل أوردها في تاريخه نقلاً عن الحافظ أبي يعلى، لكنه هناك لم يستسغ أن يمر حديث
الجفنة دون غمز ، فقال : وهذا حديث غريب إسناداً ومتناً(1).
وقد ذكر بعده عدة أحاديث عن سمرة بن جندب وغيره فيها ظهرت بركة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) في شبه ذلک من تكثير الطعام في قصة بيت الصدّيق أو غيره، فلم يستغرب ذلك لا سنداً ولا متناً، وكأن بركة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)كانت تعم سائر الناس إلا أهل بيته ؟! فالله المستعان. ولا نقول فيه شيئاً إلا ما قاله الخطيب الشربيني وقد ذكر القصة في تفسيره السراج المنير فقال بعدها : (فهذه كرامة لفاطمة(عليها السلام)(2)) ، ويقول الصابوني: (والقصة مشهورة،) وليقل ابن كثير ما يقول.
الفضيلة الرابعة والخامسة وهي كونها(عليه السلام)طاهرة ومعصومة، ولا نطيل المقام في استيعاب ما ورد في ذلك، وبيننا كتاب الله تعالى يغنينا بواضح بيانه وبيناته وحسبنا منه آية من آياته، وهي قوله تعالى: ﴿ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾(3) .
فهذه الآية الكريمة دالّة على طهارة أهل البيت(عليه السلام) وعصمتهم من درن الأرجاس ، وقد سبق لنا أن ذكرنا مفصلاً ما يتعلق بها، وشأن نزولها،
ص: 50
وفيمن نزلت وأردفناها بأحاديث نبوية وآثار صحابية تغنينا عن التكرار، فمن ابتغى المزيد والاستكثار فليرجع إلى هذا، ففيه الكفاية وبلوغ الغاية.
بقي علينا أن نختم الكلام في المقام بعرض أقوال الأعلام من أئمّة السنة والتفسير والكلام في المفاضلة بين كل من النساء الأربع، وبينهن وبين عائشة، وفي ذلك مسك الختام.
1 - قال الخازن في تفسيره بعد ذكره حديث الكمال ملحقاً بحديث الثريد نقلاً عن ابن ماجة، فعقب عليه بقوله:
وليس في هذا تصريح بتفضيلها - يعني عائشة - على مريم وآسية، لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم: حسبك من نساء العالمين مريم بنت ،عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون أخرجه الترمذي)(1).
2 – وقال الخطيب الشربيني في تفسيره (السراج المنير): (فائدة): أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية، إذ قيل بنبوّتها، ثمّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه (وآله )وسلم، ثمّ خديجة أمها، ثمّ عائشة، ثمّ آسية امرأة فرعون . فإن قيل: روى الطبراني: خير نساء العالمين: مريم بنت عمران،
ص: 51
ثمّ خديجة بنت خويلد ، ثمّ فاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه (وآله )وسلم، ثمّ آسية امرأة فرعون.
أُجيب :بأنّ خديجة إنّما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة. أه_(1).
أقول : لقد أغفل تقدير السؤال والجواب عن تفضيله عائشة على آسية، مع أنّها لم يرد ذكرها في حديث الطبراني ضمن النساء اللاتي هن خير نساء العالمين.
3 - وقال ابن جزي في تفسيره (التسهيل) في تفسير آية اصطفاء مريم في سورة آل عمران آية :42 يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصاً بأن وهب لها - يعني مريم - عيسى من غير أب، فيكون﴿ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمينَ ﴾عاماً، أو يكون الاصطفاء عاماً، فيخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة، أو يكون المعنى على نساء زمانها. وقد قيل بتفضيلها على الإطلاق، وقيل: إنّها كانت نبيّة لتكليم الملائكة لها. أه_(2).
4 - وقال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم يقول: خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد. وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله
ص: 52
صلّى الله عليه (وآله) وسلم أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون.
وأخرج ابن مردويه عن أنس مرفوعاً نحوه، وأخرج أحمد نحوه، والترمذي وصححه، وابن المنذر وابن حبان والحاكم من حديثه مرفوعاً.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه (وآله)وسلم كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وإنّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وفي المعنى أحاديث كثيرة كلّها تفيد أن مريم سيّدة نساء عالمها، لا نساء جميع العالم، ويؤيّده ما أخرجه ابن عساكر عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال: أربع نسوة سادات نساء عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد، وأفضلهن عالماً فاطمة(1).
5 - وقال الصابوني في تفسيره (تنوير الأذهان): وعن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) : (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وإنّما شُبّهت عائشة بالثريد لأنّ العرب كانوا لا يؤثرون على الثريد شيئاً ...
ص: 53
واستمر في بيان فضل الثريد وأوجه التشابه بين عائشة وبين الثريد، إلى أن قال : لكن الكمال المطلق إنّما هو لفاطمة الزهراء لها كما دلّ عليه الحديث المذكور(1).
6 - وقال الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) بعد إيراد معاني اصطفاء مريم(عليها السلام) ، وما قيل في تفضيلها على سائر نساء العالمين، وما استدلّ به على أفضليتها بعد خديجة وفاطمة(عليها السلام) ، قال : والذي أميل إليه أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدّمات والمتأخرات من حيث إنّها بضعة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم، بل ومن حيثيات أُخر أيضاً، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة، الجواز أن يراد بها أفضليّة غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات، وبه يجمع بين الآثار، وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضاً، إذ البضعية من روح الوجود وسيّد كل موجود لا أراها تقابل بشيء، وأين الثريا من يد المتناول؟
ومن هنا يعلم أفضليّتها على عائشة(رضی الله عنها) عن الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء)، وقوله عليه الصلاة والسلام: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، وبأن عائشة يوم القيامة في الجنّة مع زوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه (وآله وسلم، وفاطمة يومئذ فيها مع
ص: 54
زوجها عليّ كرّم الله تعالى وجهه وفرق عظيم بين مقام النبي صلّى الله تعالى عليه( وآله) وسلم ، ومقام عليّ كرّم الله تعالى وجهه(1).
ص: 55
قال: وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال، وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء.
أمّا أوّلاً: فلأنّ قصارى ما في الحديث الأوّل على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة من حيث يؤخذ منها ثلثا الدين وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلّى الله تعالى عليه (وآله) وسلم أنها لا تبقى بعده زمناً معتداً به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، ولو علم لربّما قال: (خذوا كل دينكم عن الزهراء) وعدم القول في حق من دلّ العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته، وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه، لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل، لقلّة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه (وآله) وسلم.
على أن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى ،وعترتي لا يفترقان حتى يردا علىَّ الحوض)، يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة كما لا يخفى كيف لا ، وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة.
وأمّا ثانياً : فلأنّ الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه
ص: 56
قال :قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه (وآله) وسلم: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين، بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية، وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف، لأنّ ذلك الخبر وإن كان ظاهراً في الأفضلية لكنه قيل - ولو على بُعد - : إن (أل) في (النساء) فيه للعهد، والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الإخبار، ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث.
وأمّا ثالثاً: فلأنّ الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعاً ولا قائل به .
ثمّ قال: وبعد هذا كلّه، الّذي يدور في خلدي أنّ أفضل النساء فاطمة ثمّ أمّها، ثمّ عائشة، بل لو قال قائل: (إنّ سائر بنات النبيّ صلّى الله تعالى عليه( وآله) وسلم أفضل من عائشة) ، لا أرى عليه بأساً، وعندي بين مريم وفاطمة توقّف، نظراً للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمتَ ما أميل إليه.
ص: 57
ثمّ قال : وقد سُئل الإمام السبكي عن هذه المسألة، فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمّد صلّى الله تعالى عليه (وآله) وسلم أفضل من أمّها ثمّ عائشة .
ووافقه على ذلك البلقيني، وقد صحح ابن العماد أنّ خديجة أيضاً أفضل من عائشة، لما ثبت أنّه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت: قد رزقك الله خيراً منها . فقال لها : (لا والله ما رزقني الله تعالى خيراً منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس)، وأيّد هذا بأنّ عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله تعالى عليه (وآله) وسلم من جبريل، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربّها.
ثمّ قال: وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها، وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الأستروشني منا وذهب ابن جماعة إلى أنّه المذهب الأسلم (؟!).
وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد، ولعلّ كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويله، وتأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل. أه_(1).
7 - وأخرج الموفق بن أحمد الخوارزمي بسنده عن عبيد الله القواريري، قال : اختلف أصحابنا – يعني يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي -
ص: 58
في عائشة وفاطمة أيهما أفضل ؟ فأرسلوني إلى عبد الله بن داود الخريبي، فسألته فقال : أمّا فاطمة فإنّ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قال : (إنّما فاطمة بضعة منّي)، ولم أكن أفضّل على بضعة من رسول الله أحداً(1).
8 - وقال السيوطي في كتابه (الحاوي للفتاوي) في مسألة المفاضلة بين فاطمة وعائشة وأمّا أيّهما أفضل فثلاثة مذاهب أصحها أنّ فاطمة (رضی الله عنها) أفضل(2).
9 - وقال القاضي زكريا الأنصاري الشافعي في (شرح البهجة) في زوجاته(صلی الله علیه وآله وسلم):وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لعائشة حين قالت له : قد رزقك الله خيراً منها : لا والله ما رزقني خيراً منها... الحديث، وعائشة أقرأها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل من ربّها السلام على لسان محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فهي أفضل.
قيل له :من أفضل خديجة أم فاطمة ؟ فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال لفاطمة( بضعة منّي) ، فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه (وآله )وسلم أحداً ، وعليه فهي أفضل أيضاً من عائشة(3).
ص: 59
10 - وقال السبكي الذي نختاره وندين الله به أنّ فاطمة بنت محمّد أفضل من أمها خديجة ثمّ عائشة(1).
11 - وقال ابن العماد وإنّما فضلت خديجة على فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة .
12 - وقال الفقيه عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري في (بهجة المحافل) ومذهب المحققين أنّها - يعني خديجة - أفضل من عائشة، وأن فاطمة أفضل من الجميع(2).
وأقره على ذلك جمال الدين محمّد الأشخر اليمنى في شرحه على ذلك، واستدل على صحته بنحو ما مرّ عن القاضي زكريا الأنصاري.
13 - وحكى السهيلي في الروض الأنف ما قاله أبو بكر بن داود وقد سُئل: عائشة أفضل أم خديجة ؟ فقال : عائشة أقرأها رسول الله صلى الله عليه (وآله)وسلم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربّها على لسان محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلم، فهي أفضل.
قيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه( وآله) وسلم قال: (إنّ فاطمة بضعة منّي)، فلا أعدل ببضعة من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم أحداً .
ص: 60
قال السهيلي: وهذا استقراء حسن، ويشهد لصحّة الاستقراء أنّ أبا لبابة حين ارتبط نفسه، وحلف ألا يحلّه إلّا رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم، فجاءت فاطمة لتحلّه، فأبى من أجل قسمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم :
(إنّما فاطمة بضعة منّي)، فحلّته، وقال: ويدل على تفضيل فاطمة قوله يا لها أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنّة إلّا مريم، فدخل في هذا الحديث أمها وأخواتها ... (1) إلى آخر ما قال.
قال أبو بكر - أحمد بن عبد العزيز الجوهري - وحدّثني المؤمل بن جعفر قال: حدّثني محمّد بن ميمون عن داود بن المبارك، قال: أتينا عبدالله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن، ونحن راجعون من الحجّ في جماعة فسألناه عن مسائل، وكنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر وعمر، فقال سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال : كانت أمي صدّيقة بنت نبيّ مرسل فماتت وهي غضبى على إنسان، فنحن غِضاب لغضبها وإذا رضيت رضينا.
قال ابن أبي الحديد بعد روايته لما تقدم، قلت: قد أخذ هذا المعنى بعض شعراء الطالبيين من أهل الحجاز أنشدنيه النقيب جلال الدين عبد
ص: 61
الحميد بن محمّد بن عبد الحميد العلوي قال أنشدني هذا الشاعر -وذهب عني اسمه-(1) قال:
يا أبا حفص الهوينا وما*** كنت مليّا بذاك لولا
أتموت البتول غضبي*** ما كذا يصنع البنون
قال ابن أبي الحديد يخاطب عمر ويقول له : مهلاً رويداً يا عمر، أي أرفق واتئد ولا تعنف بنا، وما كنت ملياً أي وما كنت أهلاً لأن تخاطب بهذا وتستعطف، ولا كنت قادراً على ولوج دار فاطمة على ذلك الوجه
ص: 62
الّذي ولجته عليها، لولا أنّ أباها الذي كان بيتها يحترم ويصان لأجله مات فطمع فيها من لم يكن يطمع.
ثمّ قال: أغدت أمنا وهي غضبى ونرضى نحن؟! إذن لسنا بكرام، فإنّ الولد الكريم يرضى لرضى أبيه وأمه، ويغضب لغضبهما.
ثمّ قال ابن أبي الحديد والصحيح عندي انها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر، وأنها أوصت أن لا يصلّيا عليها(1).
وروى الخوارزمي الحنفي في كتابه مقتل الحسين الا بسنده عن عائشة انها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قالت ما رأيت أحداً أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها(2)..
جاء في مصباح المتهجد(3): (اللهم صلّ على الصديقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأم أحبائك وأصفيائك، التي انتجبتها وفضلتها وأخترتها على نساء العالمين.
اللهمّ كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها، وكن الثائر - اللهمّ بدم أولادها، اللهمّ وكما جعلتها أم أئمة الهدى، وحليلة صاحب
ص: 63
اللواء، والكريمة عند الملأ الأعلى، فصلّ عليها وعلى أمها خديجة الكبرى، صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)، وتقر بها أعين ذريتها، وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام).
لقد أغار رواة السوء تزلفاً لزعانف الحكم ، فجعلوا من ألقاب السيدة عائشة (الصدّيقة) وسمّوها (الصدّيقة ابنة الصدّيق) وقد سمّى العقاد كتابه فيها بذلك، ولم يكن في ذلك بدعاً، فإن أبناء مذهبه ، سموها قبله بذلك، فقد جاء في مغني المحتاج(1) : فقد قبّل(صلی الله علیه وآله وسلم)، فاطمة ، وقبل الصدّيقُ الصدّيقة... ومثله في حواشي الشرواني و العبادي(2).
وجاء في حاشية رد المختار لابن عابدين(3) : قال في البحر وينبغي أن من اعتقد مذهباً يكفر به: إن كان قبل تقدم الاعتقاد الصحيح فهو مشرك. وإن طرأ عليه فهو مرتد أه_ . وبهذا ظهر أن الرافضي إن كان تمن يعتقد الإلوهية في عليّ، أو إنّ جبرئيل غلط في الوصي أو كان ينكر صحبة الصدّيق، أو يقذف الصدّيقة فهو كافر لمخالفته القواطع المعلومة من الدين بالضرورة، بخلاف ما إذا كان يفضل عليّاً أو سب الصحابة ،
ص: 64
فإنّه مبتدع لا كافر كما أوضحته في كتابي (تنبيه الولاة والحكّام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام )
وجاء في كشف القناع للبهوتي(1)(ووقفت عائشة) الصدّيقة بنت الصديّق... (حائضاً بأمر النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) ) .
فالآن إلى المبحث الثاني في صدّيقية عائشة
ص: 65
إنّ الباحث في أحاديث التراث السني، لا يجد حديثاً واحداً مرفوعاً حتى ولو كان مكذوباً - تذكر فيه السيدة عائشة بأنها صديقة، وأنّى يجد ذلك، وهذه دواوين الحديث والتراجم التي ذكرتها، لم يرد فيها شئ من ذلك، وإنّما الذي نجده هو أن أحد الرواة عنها كان يقول: حدّثتني الصدّيقة ابنة الصدّيق، وذلك هو مسروق بن الأجدع فمن هو مسروق ؟
هو مسروق بن الأجدع .. أبو عائشة الوداعي الهمداني الكوفي.. قال: لقيت عمر فقال: ما اسمك ؟ فقلت مسروق بن الأجدع، قال: سمعت : النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبدالرحمن. قال الشعبي فرأيته في الديوان(1) مسروق بن عبد الرحمن وعداده في كبار التابعين وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم). وكانت عائشة :قد تبنته فسمى بنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئاً وقالت له عائشة: يا مسروق إنّك من ولدي ، إنّك لمن أحبهم إليَّ ...
وكان إذا قيل له: أبطأت عن عليّ وعن مشاهده فيقول: أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
ص: 66
اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾(1) أكان ذلك حاجزاً لكم؟ قالوا: نعم، قال: فوالله لقد نزل ملك كريم على لسان نبيكم، وإنّها لمحكمة ما نسخها شي(2).
(أقول): وهذا نموذج من استدلال جهلة المتفيهقة من النواصب مع الإعراض عن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي إِلَى أَمْرِ اللَّهَ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾(3).
وتجاهل لأقوال النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم): ( عليّ مع الحقّ والحق مع عليّ) و (سلمك سلمي وحربك حربي).
ولولا خوف الإطالة لذكرت من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين ما يكشف زيف مسروق في فهمه ودينه، ألم يكن هو الذي سألته عائشة من هو الذي قتل المخدّج ذا الثدية، وقد لعنت عمر و بن العاص لأنه غشها في ذلك، وقد أخرج حديثه الحاكم في المستدرك(4)، والذهبي في تلخيصه بهامشه عن مسروق قال قالت لي عائشة إني رأيت على تل وحولي بقر ،تنحر، فقلت لها: إن صدقت رؤياك لتكونن حولك ملحمة قالت: أعوذ بالله من شرّك، بئس ما قلت، فقلت لها فلعله إن
ص: 67
كان أمراً سيسوؤك ، فقالت: والله لئن أخر من السماء أحبّ إليَّ من أن أفعل ذلك ، فلما كان بعد ذكر عندها ان عليّاً قتل ذا الثدية، فقالت: إذا أنت قدمت الكوفة فاكتب لي ناساً ممن شهد ذلك تمن تعرف من أهل البلد، فلما قدمت وجدت الناس أسباعاً، فكتبت لها من كل سبع عشرة ممّن شهد ذلك، قال: فأتيتها بشهادتهم فقالت: لعن الله عمرو بن العاص فإنّه زعم لي أنه قتله بمصر.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجّاه، ووافقه الذهبي على ذلك.
وفي شرح النهج للمعتزلي نقلاً عن كتاب صفين للمدائني عن مسروق أنّ عائشة قالت له لما عرفت أنّ عليّاً قتل ذا الثدية: لعن الله عمرو بن العاص، فإنّه كتب إليَّ يخبرني أنه قتله بالأسكندرية، إلا انه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول: ( يقتله خير أمتي من بعدي)(1) .
ولو أنّ مسروقاً تسامى عن نصبه وتدانى من أبي حنيفة في فقهه لقال كقوله : ( ما قاتل أحد عليّاً إلّا وعلي أولى بالحقّ منه، ولولا ماسار عليّ فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين، ولا شك أنّ عليّاً إنّما قاتل
ص: 68
طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه، وفي يوم الجمل سار عليّ فيهم بالعدل، وهو علّم المسلمين، فكانت السنّة في قتال أهل البغي)(1).
وليت مسروقاً وسع فهمه فقال كما قال سفيان الثوري: (ما قاتل عليّ أحداً، إلا كان عليّ أولى بالحق منه)(2).
وقد ذكرت مجموعة من أقوال أئمة المذاهب في الفقه والحديث والكلام في موسوعة ابن عباس كان من بينها قول ابن تيمية فقد ذكر في مجموع فتاواه(3) : حديث (عمّار تقتله الفئة الباغية) فقال: (وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة عليّ ووجوب طاعته، وإنّ الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار - وإن كان متأولاً - وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال عليّ، وعلى هذا فمقاتله مخطئ - وإن كان متأولاً - أو باغ بلا تأويل وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليّاً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين).
ولا عجب من مسروق بعد هذا لو قرأناه يقول: كنت مع أبي موسى أيام الحكمين، فسطاطي إلى جانبه ، فأصبح الناس ذات يوم قد لحقوا
ص: 69
بمعاوية، فرفع أبو موسی رفرف فسطاطه و قال يا مسروق قلت: لبّيك قال : إنّ الإمارة ما أتمر فيها، وإنّ الملك ما غلب عليه بالسيف.
ولا غرابة في فقهه إنّه زوّج بنته السائب بن الأقرع على عشرة آلاف اشترطها لنفسه قال جهز امرأتك من عندك وقال جعلها في المجاهدين والمساكين والمكاتبين وله في مصادر ترجمته، أخبار في صلاته وصيامه وفيها أنّه كان قاضياً، ولا يأخذ على القضاء رزقاً ، وقد عيب عليه تولي العمل لبني أمية ؟ فقال : لم يدعني ثلاثة: زياد وشريح والشيطان حتى أوقعوني فيه(1) . وروى ابن سعد بسنده عن شقيق قال: كنت مع مسروق بالسلسلة سنتين... فسمعته يقول : ما عملت عملاً قط أخوف عليَّ من أن يدخلني النار من عملي هذا، وما بي أن أكون أصبت درهماً ولا ديناراً، ولا ظلمتُ مسلماً ولا معاهداً، ولكن ما أدري ما هذا الحبل(2) الذي لم يسنه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لا أبو بكر ولا عمر قال: قلت فما ردك عليه وقد كنت تركته؟ قال: اكتنفني زياد وشريح والشيطان فلم يزالوا يزينونه حتى أوقعوني فيه(3).
هذا بعض ما ذكره ابن سعد والذهبي في ترجمة مسروق، وقد زاد ابن سعد عن مدى علاقة مسروق بعائشة انّه قال:
(لولا بعض الأمر لأقمت
ص: 70
على أم المؤمنين مناحة )(1) فمن كان بهذه المثابة والتفجع بموت عائشة، لا يستغرب منه لو غالى فيها حين يحدّث عنها فيقول : ( حدّثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة حبيب الله المبّرأة .. )(2).
وفي معجم الطبراني : ( حدّثتني المبّرأة الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة حبيب الله، وفي لفظ آخر : ( حدّثتني الصادقة بنت الصديّق البريئة المبرأة بكذا وكذا...)(3). ولم أجد أي راو آخر عن عائشة ذكر لها مثل ذلك، وإذا ازددنا علماً بحال مسروق وأنه كان مناوئاً للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، حتى ورد أنه وعبيدة السلماني وشريح القاضي وأبو وائل قالوا له : لئن فارقت سيرة الشيخين لنفار قنك، بل وذكر ان مسروق خذله وسار إلى معاوية يحرضه على حربه(4). فلا عجب ولا غرابة أن يقول في عائشة ما قال رافعاً بضبيعها بعد أن تبنته كما مرّ ذلك.
ولكن هلّم الخطب كيف للقارئ أن يصدّق بمسروق، وهو كما وصفوه متهم في مدحه لأمه ومنحه لها لقب الصديقية، وهي نفسها روت قصة الإفك وجاء في حديثها :(قالت: دخلت عليّ أم مسطح فخرجنا إلى حير عاد فوطئت أم مسطح على عظم أو شوكة فقالت: تعس مسطح،
ص: 71
فقلت بئس ما قلت رجل من أصحاب رسول الله لا ، فقالت: أشهد أنّك من الغافلات المؤمنات، أتدرين ما قد طار عليك؟ قلت: لا والله :قالت متى عهد رسول الله بك ؟ قلت: رسول الله يفعل في أزواجه ما أحب، يبدأ بمن أحبّ منهن، ويأتي من أحب، قالت: فإنّه طبق عليك كذا وكذا، فخررت مغشياً عليَّ، فبلغ أم رومان أمي فلما بلغها الأمر أتتني فحملتني، فذهبت إلى بيتها، فبلغ رسول الله أنّ عائشة قد بلغها الأمر، فجاء إليها، فدخل عليها وجلس عندها وقال: (يا عائشة إن الله قد وسّع التوبة) فازددت شراً إلى ما بي، فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو بكر فدخل عليَّ فقال: يا رسول الله ما تنظر بهذه التي خانتك وفضحتني؟ قالت: فازددت شراً إلى شر، قالت: فأرسل إلى عليّ، فقال: (يا علي ما ترى في عائشة)؟ قال: قد وسع الله النساء، ولكن أرسل إلى بريرة خادمتها فسلها، فعسى أن تكون قد اطلعت على شئ من أمرها، فأرسل إلى بريرة فجاءت فقال لها(أتشهدين إنّي رسول الله) ؟ قالت نعم قال:( فإني سائلك عن شئ فلا تكتميني) قالت: نعم يا رسول الله ما من شئ تسألني عنه إلاّ أخبرتك به، ولا أكتمك إن شاء الله، قال: (قد كنت عند عائشة فهل رأيت منها ما تكرهينه)؟ قالت لا والذي بعثك بالنبوة ما رأيت منها مذ كنت عندها إلّا خلّة، قال: (وما هي؟) قالت: عجنت عجيناً لي فقلت لعائشة : احفظي هذه العجينة حتى أقتبس ناراً فأخبز، فقامت تصلي، فغفلت عن الخمير، فجاءت شاة فأكلتها. فأرسل إلى
ص: 72
أسامة فقال: (يا أسامة ما ترى في عائشة)؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: لتخبرني بما ترى فيها قال: فإنّي أرى أن تمسك فيها حتى يحدث الله إليك فيها، قالت: فما كان إلا يسيراً، حتى نزل الوحي، فلم يزل يرى في وجه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) السرور وجاء عذرها من السماء - يعني من الله - فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : ( أبشري يا عائشة ، ثمّ أبشري يا عائشة، فقد نبأني الله بعذرك) فقلت : بغير حمدك وحمد صاحبك قالت فعند ذلك تكلمت وكانت إذا أتاها يقول:( كيف تيكم ؟ ) أه_.
لسنا ممّن يعجبه التطاول على مقامات أُمهات المؤمنين، وليس من حقنا ولا حق أي أحد أن يتجاوز حدود ما أنزل الله تعالى فيهن ولهن حيث قال:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرَّ حْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ * اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيما * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ هَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهَ بَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنكُنَّ الله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
ص: 73
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهَ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطيفاً خَبِيراً ﴾(1). ولا شكّ في أنهن لم يكنّ على مستوى واحد من الإيمان والعقل والفهم بل وحتى السلوك الزوجي، لذلك كنّ حزبين كما تقول عائشة فيما رواه عنها البخاري، وهذا من الطبيعي أن يكون بين الضرائر ، ولا شكّ انّ عائشة أخذت دوراً كبيراً في الحياة السياسية لم يكن لأي من بقية الأزواج سواء من كان في حزبها أو من كان في الحزب الآخر.
وقد مرّت بأحداث ظهرت لها فيها ذاتية خلدت ذكرها سواء رضيت بذلك أم أبت، فلا يتجنّى عليها من يروي عنها حديثها، في قصة الإفك، وفيه قول أبيها لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : ( ما تنتظر بهذه التي خانتك وفضحتني) وهذه الكلمة قالها أبوها فيها، وروتها عنه هي نفسها، وأيم الله لو كان القائل غير أبيها لأقامت الدنيا ولم تقعدها على رأس قائلها فقذف أبيها لها بتلك الكلمة الشائنة الشانئة ، لم تزعزع مكانته عندها، ولها عند موته كلام طويل عريض في مدحه والثناء عليه. ولم تزعزع مقام صديقيته المزعومة له خاصة، ولو أنا أنصفنا أنفسنا وقارنا بين كلمته هذه وبين ما قاله الإمام علي(عليه السلام)حين استشاره النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في هذه القصة في هذه
الرواية نفسها عن عائشة قالت فأرسل إلى عليّ فقال: يا علي ما ترى في عائشة؟ قال الله ورسوله أعلم قال لتخبرني ما ترى في عائشة. قال: قد وسّع الله النساء، ولكن أرسل إلى بريرة خادمها فسلها، فعسى أن تكون
ص: 74
قد اطّلعت على شي من أمرها ....) هكذا نص الرواية عن عائشة وقد أخرجها الطبراني(1)، والهيثمي(2)، وغير ،هما، ولو قارنا بين الكلمتين لرأينا البون شاسعاً، فأبوها يرميها بالخيانة وعلي لا يرميها، فبالله عليكم أيّ العبارتين أجرح لشعور عائشة؟ : (ما تنتظر بهذه التي خانتك وفضحتني) أو عبارة: (قد وسّع الله النساء، ولكن أرسل إلى بريرة خادمها فسلها .....) فما بال عائشة تحقد على عليّ قوله هذا؟ وهي مذ سمعته لم تزدد شراً إلى شر، بينما هي لما سمعت كلمة أبيها قالت: فازددت شراً إلى شر)؟ ولكنها كما قال أحمد شوقي مخاطبا الإمام(عليه السلام) :
يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل ***ماذا رمت عليك ربة الجمل
أثار عثمان الّذي شجاها ***أم غصةٌ لم ينتزع شجاها
وإن أم المؤمنين لامرأة ***وإن تك الطاهرة المبرأة
أخرجها من كنّها وسنّها*** ما لم يزل طول المدى من ضغنها(3)
ص: 75
لاشك في أن~ أبا بكر حاز لقب الصدّيق وعُرف به منذ أيامه، أما كيف كان مبدأ ذلك؟ ومن الذي لقبه بذلك؟ فهذا ما لم تتفق عليه الأخبار ولا تتسق في مضمونها مع الآثار، ولئلا يسئ بنا الظن ظان معاند، بأنا نحاول دفع أبي بكر عن صديقيته كما يحلو لمكابر جاحد، كلا، بل الذي نريده هو اطلاع القارئ على ما هو من إسفاف البكرية في حشر أخبار وآثار، فيها من التناقض والاضطراب مما لا يدع مجالاً للتصديق بما هو واقع، لكثرة الشك والإرتياب، وإنا في ذلك لنحفظ لأبي بكر مقامه في المسلمين ، كخالف تولى الأمر فقام بعد سيد المرسلين(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقد جرت بينه وبين أهل البيت (عليهم السلام)خطوب وخطوب، ولا تزال تنزف منها القلوب، وهذا لا يمنعنا من تسليط الضوء على ما صنعته مدرسة الكذب من إساءة إلى أبي بكر وإلى تاريخ المسلمين حين نسجوا من الخيال الحبال، وصنعوا من الذرة مجرّة، فاختلط الحابل بالنابل، وقمشوا الحق بالباطل من دون أن يرفعوا بضبع أولئك الرموز الذين تبنّوا نصرتهم فلم يحسنوا لهم صورة ، ولم يحسنوا إليهم وفيهم صنعاً، وخير مصدر يحسن بنا عرض ما فيه للقارئ في هذا المقام هو كتاب (الرياض النضرة في مناقب العشرة) للمحبّ الطبري (ت 649 )والكتاب مطبوع بمصر بعناية بدر الدين النعساني، وقد ضم الكتاب كثيراً من الغث ولم يخل من سمين، إذ جمع
ص: 76
فيه مؤلّفه ما حصل له، على جهد بالغ وهوى متبع، وإلى القارئ ما فيه ممّا يتعلّق بتحقيق لقب أبي بكر بالصديق فقال:
عن أبي هريرة (رضی الله عنه) ان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): اسكن حرا ، فما عليك إلا نبيّ أو صديق أو شهيد.
وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص ولم يذكر عليّاً، أخرجها مسلم وانفرد بإخراجه، وأخرجه الترمذي في مناقب عثمان ولم يذكر سعدا، وقال: اهدأ مكان أسكن، وقال حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي أيضاً عن سعيد بن زيد، وذكر أنّه كان عليه العشرة إلّا أبا عبيدة، وقال: البث حراء الحديث وأخرجه الخلعي عنه ولفظه انّه قال: تأمروني بسب إخواني، بل صلّى الله عليهم أو قال: غفر الله لهم، ثم ذكر انه كان على حرا فتحرّك فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : اسكن حرا، وذكر معناه، وذكر انّه كان عليه العشرة إلا أبا عبيدة وأخرجه الحربي عن ابن عباس(رضی الله عنه) ولفظه : كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)على حراء فتزلزل الجبل فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : اثبت حراء فما عليك إلا نبيّ وصديق وشهيد، وعليه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وأبو بكر وذكر العشرة إلّا أبا عبيدة.
ص: 77
وأخرجه الحافظ إسحاق بن إبراهيم البغدادي فيما رواه الكبار عن الصغار والآباء عن الأبناء عن أبي هريرة(رضی الله عنه) ولفظه : ان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وسعداً وسعيداً، كانوا - يعني على حراء – فتحرك الجبل، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : أسكن حراء فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد، فسكن حراء.
ثم قال المحب الطبري وسيأتي في مناقب الثلاثة نحو هذا الفضل فيهم في أجبل مختلفة، واختلاف الروايات محمول على قضايا متكررة والله أعلم. ألا ترى إلى اختلاف عدد الكائنين على الجبل في كل رواية، واثبات الصدّيقية لأبي بكر ظاهرة وبها اشتهر واثبات الشهادة للخمسة الذين تضمنهم الحديث الأوّل ظاهرة، فإنّهم قتلوا شهداء والثلاثة الأخر الذين تضمنهم باقي الأحاديث لم يقتلوا، فلعلهم داخلون في الصدّيقية أو شهداء بمعنى آخر غير القتل والله أعلم(1).
أقول: من العجيب الغريب أن يجهد المحب الطبري نفسه، ويتكلف في تعقيبه على اختلاف الروايات بما يحسبه توجيهاً مقبولاً، بينما كان عليه أن يمعن النظر في روايتي أبي هريرة الأولى والثانية التي ذكر فيهما الصعود على جبل حراء، وهذا هو جبل بمكة، وأبو هريرة لم يتفق له الحضور بمكة مع النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)لا قبل الهجرة ، ولا بعدها أما قبل الهجرة فمن الواضح لأنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة فأتى المدينة أيّام
ص: 78
خيبر، وبقي تلك السنة إلى أن خرج مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في السنة الثامنة في ذي القعدة فكان مؤذناً له، ولم يرجع إلى أيام عمر بن الخطاب حين استدعاه للشهادة على قدامة بن مظعون لأنه شرب الخمر فتنطع في الشهادة فأنبه عمر وقال له: قد تنطعت في الشهادة(1) فجميع مروياته في فترة غيابه ويزعم فيها السماع والحضور في مكة أو المدينة فهو مردود ومرذول غير مقبول، ولا يخدع القارئ بمن ذكرها في كتابه عنه، سواء كان من أصحاب الصحاح أو غيرهم.
وأما رواية سعيد فإن صحت سنداً عنه ففيها ما يشير إلى الضغط الحاكم عليه وعلى المسلمين من إعلان السبّ لمن سبّه - يعني سباً الله ولرسوله - كما في رواية أم سلمة(2). فإنّ لفظ الخلعي في رواية الرجل (تأمروني بسبّ إخواني) إذن فثمة أمر بالسبّ، فمن هو الآمر بالسب؟ ولمن كان ذلك السبّ؟ ولماذا يغفل الرواة عن سعيد الإفصاح عن تلك الأزمة الخانقة الحانقة التي ألمت بسعيد بن زيد وغيره يومئذ حين كانوا
ص: 79
يؤمرون بسبّ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)؟ إنّها مفارقات المؤرخين في ازدواجية المعايير حين يذكرون الصحابة بمن فيهم ممن لا تلتقي بذمه الشفتان من منافقين وفسّاق ندّدت بهم آيات القرآن المجيد وتكفي سورة براءة التي سماها ابن عباس (الفاضحة) وخل سورة المنافقين وسورة الحجرات وسورة الطلاق ،وو، ويمنعون من سبّهم، ثم هم لا ينكرون مسألة إعلان السبّ وفرضه على المسلمين الذي كان يأمر به معاوية بعد المهادنة التي كانت بينه وبين الإمام الحسن (عليه السلام) عام 41 وهو عام الفرقة كما سماه الجاحظ(1) ومهما يكن ذلك التهميش والتشويش على مسألة السبّ. فقد رووا انّ معاوية لما دخل الكوفة ومعه سعيد بن زيد وأبو هريرة والمغيرة وأضرابهم، وصعد المغيرة فسبّب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)فقام سعيد بن زيد وأنكر ذلك وروى لهم حديث العشرة المبشرة الذي طبلوا له كثيراً ونمقوه وزوّقوه بما يحلو لهم، ولا ريب أن أبا هريرة كان حاضراً ذلك المشهد، فلعله روى ما رواه سماعاً من سعيد بن زيد إلا أنه
ص: 80
دلسّ في سماعه فلم يذكره، وليس ذلك بغريب منه بعد أن عرفنا كذبه في جملة أحاديث رواها فأكذبه عمر وعلي وعائشة وآخرون(1) .
ثم عاد المحب الطبري فقال(2):
عن أنس بن مالك ان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)صعد أحداً فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) برجله وقال اثبت فما عليك الأنبي وصديق وشهيدان. وقال: خرجه أحمد والبخاري والترمذي وأبو حاتم.
وعن بريدة ان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كان جالساً على حرا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فتحرك الجبل فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): اثبت حرا فإنّه ليس عليك إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد.
وقال خرّجه أحمد ، ثم قال : وقد سبق في الباب الثالث من حديث مسلم وغيره عن أبي هريرة وفيه زيادة عليّ وطلحة والزبير وسعد.
وعن ثمامة عن عثمان بن عفان انّ النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى تساقطت حجار بالحضيض، فركضه برجله وقال: اسكن ثبير فإنّها عليك نبيّ وصدّيق وشهيدان.
خرجّه الترمذي والنسائي.
ص: 81
ثم قال( شرح )أحد جبل معروف بالمدينة وهو الذي قال فيه(صلی الله علیه وآله وسلم) أحد جبل يحبنا ونحبّه، وحرا وثبير جبلان متقابلان معروفان بمكة واختلاف الروايات نحمله على انها قضايا تكررت فيهن والله أعلم. والحضيض القرار من الأرض عند منقطع الجبل، وركضه برجله : أي ضربه بها والركض تحريك الرجل، وإنّما أسندنا الصدّيقية إلى أبي بكر حملاً لمطلق هذا الحديث على مقيد غيره.
أقول: هذا جميع ما ذكره المحب الطبري في محاولته اثبات صدّيقية أبي بكر، وهو لا يخلو من مناقشة سنداً ومتناً وإن حاول- فاشلاً - درءَ ذلك، إلا أن ما في(اللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) للسيوطي ج 1 في فضائل أبي بكر يأبى عليه تصحيح شئ من ذلك، وقد ناقش المرحوم الشيخ الأميني ذلك في موسوعته الغدير(1) وحسبنا إنصافاً له ولغيره من سائر المسلمين ممّن صدّقوا النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) في دعوته وآمنوا بنبوته، وعاضدوه على نشر رسالته من مهاجرين وأنصار وتابعين لهم بإحسان ولم يغيّروا من بعده أن يكونوا من الصدّيقين أمّا إذا أبينا العقلانية وأسففنا مع الذين أسفّوا فقالوا : ان أبا بكر سمّاه الله صدّيقاً في تنزيله فقال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾(2) فجاء عن عطاء الّذي جاء بالصدق محمّد، فأفاض من بركات أنوار صدقه على أبي بكر
ص: 82
فسمّي صدّيقاً(1) بينما ورد عن ابن عباس و مجاهد وأبي الطفيل عن عليّ وحتى عن أبي هريرة كما في الدر المنثور أنّ الآية نزلت في عليا(عليه السلام)(2)وأما إذا طرنا مع الذين وضعوا على لسان عليّ انّه كان يحلف بالله ان الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصدّيق(3) . وإذا ما عفنا الحياء لأهله فروينا للناس انّ أبا بكر كان يلقب في الجاهلية بالصديق(4).
فلا عجب ولا غرابة بعد هذا أن نجد الفيروزآبادي الشافعي يقول في خاتمة كتابه سفر السعادة في باب فضائل أبي بكر الصديق(رضی الله عنه)أشهر المشهورات من الموضوعات - ثم ذكر بعض الأحاديث ثم قال - وأمثال هذه من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل.
فالّذي ينسف كل تلك المقولات الفجة والدعاوى الفارغة والتي لاتغني ولا تسمن عند احتكاك المواقف ، واصكاك الحجة بالحجة ما نقرأ انّ الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام)طالبت أبا بكر الصديق بفدك، فلم يعطها وردّها، فهاهنا تسكب العبرات، فإمّا أن تكون الصدّيقة فاطمة صادقة في دعواها - وهذا ما اعترف لها به أبو بكر نفسه كما سيأتي قوله لها : (وأنت صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن
ص: 83
حقك، ولا مصدودة عن صدقك) فكيف إذن نصدق بالمزاعم السابقة في صدّيقية أبي بكر .
بقي علينا أن نشير إلى خبرين وردا في التراث الشيعي وصفا أبا بكر بالصدّيق وهما:
1 - خبر في كشف الغمة(1) قال : وعن عروة بن عبدالله قال سألت أبا جعفر محمد بن علي(عليه السلام)عن حلية السيوف ؟ فقال : لا بأس به، وقد حلّى أبو بكر الصديق(رضی الله عنه) سيفه، قلت: فتقول الصديق؟ قال: فوثب واستقبل القبلة وقال : نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة .اه_.
وهذا الخبر لو سلّم سنداً لكان حجة ما لم يصادمه واضح البرهان ولكن عروة بن عبد الله مجهول الحال عند أصحابنا فقد ترجمه سيدنا الأستاذ في معجمه(2) ولم يذكر له ما يشعر بتعريفه فضلاً عن توثيقه ليصحّ الأخذ بروايته.
وإذا رجعنا إلى رجال العامة نجد ترجمته وقد وثقه أبو زرعة، وذكره ابن حبان في الثقات(3)، ولو سلمنا جدلاً بوثاقته، فإنّ جهالة السند من
ص: 84
صاحب كتاب كشف الغمة المتوفى سنة 692 إلى عروة بن عبد الله تمنع من الاعتماد على الرواية والأخذ بها .
2 - خبر الجعفريات(1) ولفظه بعد السند عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: ان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)خرج إلى المصلى فاستسقى واستقبل القبلة ونظر إلى السماء وحوّل رداءه يمينه على شماله وشماله على يمينه اه، وهذا رواه السيد البروجردي(قدس سره)(2) وفيه قال جعفر بن محمد(عليه السلام) قال أبي : فعل ذلك أبو بكر الصديق بعده اه_.
ونحن أزاء قبول الخبر في حيرة من أمره، فإنّ الجعفريات من الكتب المعتبرة المعوّل عليها(3)فلا مناص من قبول أخبارها ما لم يصادمها واضح البرهان، وفي المقام قد حصل ذلك، إذ لم يذكر أحد ولا ورد في أن أبا بكر صلى صلاة الاستسقاء في أيامه،(4) على إن في حديث حبر الأمة عبد الله بن عباس(رحمه الله علیه) مع أم المؤمنين عائشة بعد حرب الجمل وقد أرسله أمير المؤمنين إليها يأمرها بقلة العرجة وتعجيل الرحيل - ما يشير إلى أن أبا بكر كان يدعى صديقاً أوّل أيامه، وإلى القارئ تلك المحاورة:
ص: 85
قال السيّد المرتضى في الشافي: فإنّ الواقدي روى بإسناده عن شعبة عن ابن عباس قال: أرسلني علي(عليه السلام) إلى عائشة بعد الهزيمة وهي في دار الخزاعيين يأمرها أن ترجع إلى بلادها، قال: فجئتها فوقفت على بابها ساعة لا تأذن لي، ثمّ أذنت فدخلت ولم توضع لي وسادة ولا شئ أجلس عليه، فالتفت فإذا وسادة في ناحية البيت على متاع فتناولتها ووضعتها ثم جلست عليها فقالت عائشة : يا بن عباس أخطأت السنة، تجلس على متاعنا بغير إذننا، فقلت لها ليست بوسادتك تركتِ متاعك في بيتك الذي لم يجعل الله لك بيتاً غيره. فقالت : والله ما أحبّ أنّي أصبحت في منزل غيره. قلت: أما حين اخترتِ لنفسكِ فقد كان الّذي رأيتِ.
فقالت: أيها الرجل أنت رسول فهلم ما قيل لك؟
قال: فقلت: إن أمير المؤمنين(عليه السلام) يأمرك أن ترحلي إلى منزلك وبلدك.
فقالت : ذاك إلى أمير المؤمنين عمر .
قال ابن عباس فقلت أمير المؤمنين عمر والله يرحمه، وهذا والله أمير المؤمنين، فقالت :أبيت ذلك.
فقلت: أما والله ما كان إباؤكِ إلا فواق ناقة غير غزير حتى ما تأمرين ولا تنهين، كما قال الشاعر الأسدي
ما زال إهداء القصائد بيننا ***شتم الصديق وكثرة
حتى تركت كأن أمركِ فيهم*** في كل مجمعة طنين ذباب
ص: 86
قال ابن عباس : فوالله يعلم البكت حتى سم حتى سمعت نشیجها فقالت: أفعل، ما بلد أبغض إليَّ من بلد لصاحبك مملكة فيه. وبلد قتل فيه أبو محمّد وأبو سليمان - تعني طلحة وابنه - .
فقلت: أنتِ والله ،قتلتهما قالت وأجلهما إلى سباق.
قلت: لا ولكنكِ لما شجّعوكِ على الخروج خرجت، فلو أقمت ما خرجا.
قال فبكت مرة أخرى أشدّ من بكائها الأوّل، ثمّ قالت والله لئن لم يغفر الله لنا لنهلكنّ ، نخرج لعمري من بلدكِ، فأبغض بها والله بلداً إليَّ وبمن فيها.
فقلت: والله ما هذا جزاؤنا وما هي بأيدينا عندك، ولا عند أبيك ؟
لقد جعلنا أباك صديقاً وجعلناكِ للناس أماً.
فقالت: أتمنون عليَّ برسول الله .
قلت: أي والله لأمننّ به عليك والله لو كان لكِ لمننتِ به.
قال ابن عباس وتركتها فجئت عليّاً فأخبرته خبرها وما قلت لها .
فقال لي :﴿ ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾(1)(2)
ص: 87
وهذه المحاورة أوردتها في موسوعة عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن) من عدة مصادر مرتبة على القرون بدءاً من القرن الثالث وحتى القرن التاسع وفي بعضها وردت جملة الصديقية هكذا (وجعلنا أباك صديقاً وهو ابن أبي قحافة، وجعلناك أم المؤمنين وأنت ابنة أم رومان) فراجع الموسوعة تجد تفصيل ذلك.
فنحن أمام هذا النص بالصدّيقية الذي يوحي بأنه بجعل من أهل بيت ابن عباس حيث يقول : (وجعلنا) فيا ترى ماذا يعني ذلك الجعل ؟ ولم يعهد ذلك الجعل تاريخياً فلابد أنّه كان يعني به دين الإسلام الذي أتى به محمد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فبلّغ الناس بشيراً ونذيراً، فآمن به من آمن وكفر به من كفر، وكان أبو بكر ممّن أسلم وإن لم يكن هو أوّل من أسلم بشهادة سعد بن أبي وقاص وبرواية الطبري في تاريخه وان إسلامه كان بعد أكثر من خمسين إنساناً.
فقد روى بسنده عن محمد بن سعد قال قلت لأبي أكان أبو بكر أولكم إسلاماً؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين(1).
إذن فابن عباس يقرّر لعائشة بأنّ أبا بكر صار صدّيقاً بفضل الإسلام أمّا متى حصل على ذلك اللقب؟ وكيف حصل ؟ ومن الّذي منحه؟ فثمة
ص: 88
أخبار مذكورة ولكنها مخدوشة الإسناد فكيف يصح إليها الإستناد، وقد ذكر المرحوم الشيخ الأميني طائفة منها وبين عوارها(1).
وقال السيد أحمد بن موسى ابن طاووس المتوفى (670) في كتابه : وتعلق - يعني الجاحظ - بقول ابن عباس لعائشة: (نحن سمينا أباك صديقاً) وهذا، إن ثبت فمعناه بطريقنا (سُمّي أبوك صديقاً) والقرائن دالّة على ذلك، إذ فنون كلمات ابن عباس تشهد لأمير المؤمنين - صلّى الله عليه - بعلوّ الدرجات الساميات، وأنّه الشمس التي لا تكسفها يد الحادثات، الصادق في اللهجات، وأنّ حال بني هاشم مع الذين تقدّم عليهم ظاهر في المعاينات (المعاتبات - ظ )(2) .
وعلينا أن نستحضر في المقام ما مرّ من كلمة الفيروزآبادي في خاتمة كتابه سفر السعادة في باب فضائل أبي بكر الصديق(رضی الله عنه)أشهر المشهورات من الموضوعات، وقال بعد ذكر أحاديث مفتعلة في فضائل أبي بكر وأمثال هذه من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل. ومثله.
ثمّ لنقرأ ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي بكر من قول ابن أبي عزة القرشي الجمحي:
شكراً لمن هو بالثناء خليق*** ذهب اللجاج وبويع الصدّيق
من بعد ما دحضت بسعد نعله*** ورجا رجاءً دونه العيّوق
ص: 89
جاءت به الأنصار عاصب*** فأتاهم الصدّيق والفاروق
وأبو عبيدة والذين إليهم*** نفس المؤمل للبقاء تتوق
كنا نقول لها على والرضى*** عمر وأولاهم بتلك عتيق
فدعت قريش باسمه فأجابها*** إن المنوّه باسمه الموثوق
ولكن مع الأسف أنّ الشاعر مجهول والشعر منحول، إذ لا يوجد في بني جمح من اسمه أبو عزة إلّا أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن أهيب، وهذا قتله رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يوم أحد صبراً، بعد أن كان قد من عليه يوم بدر فأطلقه على أن لا يخرج مع أعدائه، فخان يوم أحد فأمر بقتله.
وهذا الإنسان لاعقب له كما ذكر ابن حزم(1) ، وكذا قال غيره من النسّابين، فصار منح لقب الصدّيق لأبي بكر خاضعاً لعواطف سياسية تتلاعب بعقول الناس، وللسياسة دهاقينها يصرّفون الناس كما يشتهون.
فيوماً بحزوى ويوماً بالعقيق*** تردد أنغاماً لولهان عاشق
فأبو بكر اسمه عتيق لأنهم رووا عن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) انه قال : هذا عتيق من النار ؟! وأبو بكر لقبه الصدّيق لأنّهم رووا عن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) انّه قال ذلك له في أحاديث لم تسلم سنداً ولا متناً كما مرت الإشارة إلى ذلك.
والله أعلم بمن قال وما قال.
غير أنّ السمعاني ذكر في تفسير الآية ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾(2) فقال: والصدّيق كثير الصدق وهو للمبالغة، ومنه سمي أبو بكر الصديق صديقاً
ص: 90
وقيل سمي صديقاً لأنه قيل له إنّ صاحبك يقول أُسري بي إلى السماء فقال ان (هو قال ) ذلك فقد صدق.
والآن إلى المبحث الرابع في صدّيقية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وإلى القارئ ما ذكرته في كتاب ( علي إمام البررة) مما يتعلّق بالمقام:
ص: 91
«يا عليّ أنا وأنت أبوا هذه الأمة»
أكبر صديق أتاهُ لَقَباً*** مع النبيّ كان للناس أباً
إشارة منه دام ظله إلى فضيلتين خص النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بهما أمير المؤمنين(عليه السلام) : الأولى: لقبه بالصدّيق الأكبر. والثانية: جعله معه أباً للأمة.
أمّا الأولى: فقد ورد في عدة أحاديث أنه(صلی الله علیه وآله وسلم) لقّبه تارة بالصديق وتارة بالصدّيق الأكبر.
1 - أما ما ورد من تلقيبه بالصدّيق فمن ذلك ما رواه ابن عباس وأبو ليلى وجابر وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)قال : الصدّيقون ثلاثة حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب آل يس وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم (1).
ص: 92
2 - أما ما ورد من تلقيبه(عليه السلام) بالصدّيق الأكبر فمن ذلك ما ورد عنه(عليه السلام) : إنّ هذا - يعني عليّاً - أوّل من آمن بي، وأوّل من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين . وقد رواه غير واحد من الصحابة، منهم سلمان وأبو ذر وابن عباس وحذيفة وأبو ليلى الغفاري وغيرهم بألفاظ متفاوتة، ومنهم من سمعه يقول لعلي ما مرّ نقله، ومنهم من سمعه يقول له: أنت الصدّيق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل(1).
ص: 93
ولشيوع هذا اللقب وثبوته كان علي(عليه السلام)يفتخر به على المنبر، ويسمعه المسلمون، ويتحدّى به من يعانده، ولم يُؤثر أنّ أحداً أنكر عليه ذلك أو غمز فيه، فقد كان(عليه السلام) يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصدّيق الأكبر، وأنا الفاروق الأعظم، لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفتر، ولقد صلّيت قبل الناس سبع سنين، قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة(1).
ص: 94
ونختم الحديث عن اختصاص الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بلقب الصدّيق الأكبر بقول السيد الحميري ولنعم ما قال:
أشهدُ بالله وألائه ***والله عمّا قلته سائلی
إنّ علىّ بن أبي طالب*** لخير ما حاف وما ناعل
صدّيقنا الأكبر فاروقنا ***فاروق بين الحق والباطل(1)
هذا ما يتعلق بالفضيلة الأولى الّتي أشار إليها الناظم دام ظله بقوله:
أكبر صديق أتاه***
وأمّا الفضيلة الثانية: وهي التي أشار إليها بقوله:
........***مع النبي كان للناس أباً
فقد ورد عنه(صلی الله علیه وآله وسلم) قوله لعلى (أنا وأنت أبوا هذه الأمة)، أو قوله: (أنا وعلي أبوا هذه الأمة)، أو قوله: (أنا وهو أبوا هذه الأمة)(2) .
وأخرج القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة حديث أبي سعيد بن عقيصا، عن الحسين، عن أبيه قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): يا عليّ أنت أخي وأنا أخوك ... إلى أن قال أنا وأنت أبوا هذه الأمة. الحديث(3).
ص: 95
وأخرج القندوزي أيضاً في الينابيع عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده أمير المؤمنين علي(عليه السلام)قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): إن الله قد فرض عليكم طاعتي ، ونهاكم عن معصيتي، وفرض عليكم طاعة عليّ بعدي ونهاكم عن معصيته، وهو وصيي ووارثي، وهو منّي وأنا منه... إلى أن قال: وأنا وهو أبوا هذه الأمة(1).
وروى في غاية المرام نقلاً عن الخصائص للشريف الرضي(رحمه الله علیه)وقد أخرجه الشريف(2) بإسناء عن سلمة بن كهيل عن أبيه في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ﴾(3). قال : أحد الوالدين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)(4). وهناك أحاديث تؤكد هذا المعنى بلفظ : حقّ عليّ على هذه الأمة - على المسلمين - كحق الوالد على الولد - على ولده - .
وتلكم الأحاديث رواها من الصحابة عليّ(عليه السلام) ، وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد الله، وأبو أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك، كلّهم رووها عنه(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقد أخرجها الحفاظ في زبرهم(5) .
ص: 96
ص: 97
ص: 98
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث قبلها تمهيد في حيثياتها عدداً وزماناً ومكاناً وأسبابها، ثم آثارها في المجتمع، وتأثيرها على التاريخ.
وسوف نقرأ في المبحث الأول : المصادر في التراث الشيعي.
وفي المبحث الثاني: المصادر في التراث السنّي.
وفي المبحث الثالث: النصوص بصورها من المصادر المختارة.
سؤال قد يبدو مستغرباً لدى الكثير من القرآء، فهل هناك خطب متعددة؟ أو أنها هي خطبة واحدة خطبتها سلام الله عليها في مسجد أبيها على حشد من المهاجرين والأنصار ؟
والجواب: انها ثلاث خطب، أشهرها التي كانت في المسجد، والثانية والثالثة كانت في بيتها.
وتوضيح ذلك: انّ الخطبة الأولى كانت الوحيدة في شهرتها وبليغ بيانها وقوّة برهانها، كما أنّها الفريدة في طولها، وما جرى عليها وفيها من كلام ونقض وإبرام، وهي مدرسة لمن يريد تعلم أساليب الكلام في الجدل والخصام ووثيقة متكاملة في تسجيل أحداث تلك الحقبة العصيبة،
ص: 99
وتعرف بالخطبة (الكبيرة) وخطبة (اللمة) لقول الراوي في أوّلها يصف خروجها(عليه السلام)(في لمّة من حفدتها ).
أمّا الخطبة الثانية فهي كلام جرى مجرى الخطبة استعرضت فيه بيان ظلامتها، وتقريع خصومها، ألقتها على مسامع النساء اللواتي أتين لعيادتها من نساء المهاجرين والأنصار، وتسمّى بالخطبة (الصغيرة).
وأمّا الخطبة الثالثة فهي كلام لها مع عائشة بنت طلحة وقد دخلت عليها فرأتها باكية فقالت لها: بأبي أنت وأمي ما الّذي يبكيك؟ فانفجرت تبثها شكواها من صحابة أبيها الذين ما رعوا لها حرمة، وقد ذكرت الشيخين بما ينبئ عن مدى غيظها منهما وغضبها عليهما، كما سيأتي ذلك في محلّه. ولما كان هذا الكلام جرى مجرى ما تقدّم في معنى الخطبتين، فقد جعلته خطبة ثالثة وإن لم يعرف عنها من قبل إلّا القليل.
لقد كان زمان الخطبة (الكبيرة) وهى الأولى زماناً ومن حيث الترتيب أيضاً فهي بعد وفاة النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) بفترة ربّما جاوزت الشهر فما بعده لأن الزهراء(عليها السلام)لم تضطر إلى الخروج إلى المسجد لتعلن سخطها على أبي بكر ومن معه، إلا بعد أن أجمع أبو بكر على منعها فدكاً، وذلك بعد أن كانت قد استنفذت جميع وسائل المطالبة المتاحة لها - ففي حديث عائشة وقد
ص: 100
رواه ابن سعد(1) قالت - : ان فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فيها أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذٍ تطلب صدقة النبي التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ... فأبي أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ستة أشهر(2). ولم تفصح عائشة عن اسم الرسول الّذي أرسلته الزهراء(عليه السلام) إلى أبي بكر في ذلك، ويبدو لي أنّها(عليه السلام)لمّا رأت انّ ذلك لم يجد شيئاً مع أبي بكر، فقد أتت هي ومعها العباس، وهذا أيضاً روته عائشة قالت ان فاطمة(عليها السلام) والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر : سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال قال أبو بكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يصنعه فيه إلا صنعته .
قال : فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت (3).
ص: 101
ولمّا كان حديث المطالبة بفدك تعدّدت رواياته، وتفاوتت نصوصه، لتعدد مرات المطالبة ، وتعدد وجوه المطالبة فمن دعوى النحلة أولاً، ثم المطالبة بالميراث ثانياً، لهذا كلّه وقع الخلط بين الدعويين في التقديم والتأخير عند بعض الرواة، لعدم استيعاب كل واحد منهم جميع ما جرى فمنهم من روى ما حضره ، ومنهم روى ما بلغه، وفي أولاء وهؤلاء من لم يتفطن إلى حقيقة وجه المطالبة ، فروى ما عنده كيفما خُبره.
ولو أمعنا النظر في تلك الروايات لرأينا جملة منها تتفق في المضمون وتختلف في الأداء إجمالاً وتفصيلاً، وللدلالة على هذا سنذكر للقارئ رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)وردت في كتاب الاختصاص للمفيد وهو من التراث الشيعي وورد مضمون جانب منها باختصار في كتاب فتوح البلدان للبلاذري وهو من التراث السنّي، وفيهما معاً نجد مطالبة الزهراء(عليها السلام) بفدك لأنها نحلة فطلب أبو بكر منها البينة فجاءت بعليّ وأم أيمن، وهذا هو القدر المشترك بين روايتي التراث الشيعي والسنّي، أمّا مقدّمات المطالبة وكيف حدثت ؟ ومتى كانت؟ وإلى أين انتهت فهذا كله مسكوت عنه في رواية البلاذري - من التراث السني – لماذا؟ بينما هو مذكور في رواية المفيد في الاختصاص - من التراث الشيعى، وذلك كلّه قد استغرق زماناً طويلاً قبل أن تصحر السيدة الصدّيقة لا بدعواها في مسجد أبيها ، لذلك لا يمكن تصديق ابن أبي الحديد في ان الخطبة كانت بعد عشرة أيام من يوم وفاة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم).
ص: 102
فلنقرأ الّذي جاء في التراثين في هذا المقام. ففي كتاب الاختصاص (حديث فدك) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: لما قبض رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وجلس أبو بكر مجلسه بعث إلى وكيل فاطمة صلوات الله عليها فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة فقالت : يا أبا بكر ادعيت أنك خليفة أبي وجلست مجلسه، وأنك بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك وقد تعلم أنّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)صدق بها علي وأن لي بذلك شهوداً، فقال لها : ان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)لا يورث ، فرجعت إلى عليّ(عليه السلام)فأخبرته فقال: ارجعي إليه وقولي له : زعمت أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)لا يورّث وورث سلیمان داود، وورث يحيى زكريا، وكيف لا أرث أنا أبي ؟ فقال عمر: أنت معلمة. قالت: وإن كنت معلمة فإنّها علّمني ابن عمي وبعلي، فقال أبو بكر، فإنّ عائشة تشهد وعمر أنهما سمعا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو يقول : ان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)لا يورّث فقالت هذا أوّل شهادة زور يشهدان بها في الإسلام، ثم قالت: فإنّ فدك إنّما هي صدّق بها علىّ رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ولي بذلك بينّة، فقال لها: هلمي بيّنتك، قال: فجاءت بأم أيمن وعلي(عليه السلام)فقال أبو بكر يا أم أيمن إنّك سمعت من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول في فاطمة ؟ فقالا سمعنا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : انّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ثم قالت أم أيمن لمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدّعي ما ليس لها؟ وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلا بما سمعت من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فقال عمر : دعينا يا أم أيمن من هذه القصص بأي شئ تشهدان، فقالت: كنت جالسة في
ص: 103
بيت فاطمة ورسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)مجالس حتى نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد قم فإنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أخط لك فدكاً بجناحي فقام رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مع جبرئيل(عليه السلام) فما لبث أن رجع، فقالت فاطمة : يا أبة أين ذهبت؟ فقال: خط جبرئيل الي فدكاً بجناحيه وحدّ لي حدودها، فقلت: يا آبة إنّي أخاف العيلة والحاجة من بعدك فصدّق بها عليَّ . فقال : هي صدقة عليك، فقبضتها ؟ قالت: نعم، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)يا أم أيمن إشهدي ويا علي أشهد(1) . فقال عمر: أنتِ امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأما على فيجرّ إلى نفسه.
قال: فقامت مغضبة وقالت : اللهم انهما ظلما ابنة محمد نبيك حقها، فأشدد وطأتك عليهما. ثم خرجت وحملها عليّ على أتان عليه كساء له خمل، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين معهما وهي تقول: يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله فإنّي ابنة نبيّكم ، وقد بايعتم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم، ففوا لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بيعتكم.
قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها(2).
ص: 104
ففي هذا الحديث كانت دعوى النحلة، إلا انّ أبا بكر تذرع بأنّ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)لا يورث ، فردت عليه الزهراء فيلا بارث سليمان من داود ويحيى من زكريا ، ولما أراد عمر نصرته من حيث لا تنفع، ورأى أبو بكر نفسه مخصوماً زعم ان عائشة وعمر سمعا من النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)أنه لا يورث.
ولمّا طعنت في شهادتهما، عادت إلى دعواها الأولى وهي النحلة فطالبها بالبينة، فأتت بأم أيمن وعلي، وشهدا فلم يقبل أبو بكر تلك الشهادة، وفي هذه الحال منه أوقع أنصار الفقه السلطاني في حيص وبيص، إذ لم يكن له الحق أولاً في سلب فدك من مالكتها الصديقة للجهلنا لأنها صاحبة اليد، فهو طرد وكيلها منها ظلماً وعدواناً وأخذها غصباً فهذه مخالفة أولى وثانياً : طلب البيّنة من الزهراء لان على صدق دعواها مع انها سيدة نساء أهل الجنة، ومن كانت سيّدة نساء أهل الجنة لا تدعي ما ليس لها وهذا ما احتجت به أم أيمن(رحمها الله). وهذه مخالفة ثانية.
وثالثاً: ردّ شهادة أم أيمن وعلي، بحجة أنّه لايجيز شهادة امرأة .وحدها وأنّ عليّاً يجرّ إلى نفسه كما قال عمر، وكلاهما مشهود لهما بالجنة، ومن كان من أهل الجنة لا يشهد زوراً وهذه مخالفة ثالثة، وتتبعها رادفة وخالفة .
ورابعاً وخامساً... وهكذا فتق فتقاً لا يرتق وترك فقهاء السلاطين في حيرة من أمره فشرقّوا وغربّوا، وسيأتي بعض ما عندهم فيما ننقله من النصوص عن شرح النهج لابن أبي الحديد.
ص: 105
ولقد روى البلاذري هذا بصورة مختصرة فقال:( إنها قالت لأبي بكر ان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)اجعل لي فدك فأعطني إياها، وشهد لها علي بن أبي طالب، فشهدت لها أم أيمن، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله انه لا تجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فانصرفت)(1).
(أقول) أحسب انّها لما رأت انّ ذلك لم يغيّر من موقف أبي بكر شيئاً، فذهبت هي وعمّها العباس معها كما مرّ في حديث عائشة، ولما رأت انّ ذلك أيضاً لم ينفع مع أبي بكر لتصلبه بموقفه، وإصراره على عدم إرجاع فدك ولا غير فدك( حتى سهم ذوي القربي فأصحرت بظلامتها في مسجد أبيها، فصح إذن استعمال الرواة لصيغة (لمّا أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدكاً...) والمراد بالإجماع في المقام هو التصميم وسبق الإصرار عن عمد، وهذا لا يعرف عادة إلا بعد تكرار المراجعة سابقاً حول الموضوع، وهذا جميعه يستغرق وقتاً طويلاً ربما جاز الشهر على أقل التقدير.
هذا ما أراه في زمان الخطبة الكبيرة وهي الأولى زماناً، كما هي الأولى في نسق الترتيب الآن .
أمّا عن المكان الّذي خطبت فيه فهو المسجد النبوي الشريف، وهذا ما لا شك فيه ويبدو من بعض النصوص أنّه كان للمهاجرين مجلسهم الخاص وذلك هو مجلس أبي بكر، كما انّ للأنصار كان مجلسهم الخاص في جانب من المسجد، حيث دل على ذلك الفصل الثاني من الخطبة
ص: 106
واختصاص المخاطبة بأبي بكر والمهاجرين وزادنا تأكيداً ما جاء فى أول الفصل الثالث في مخاطبة الأنصار .( ثم عدلت إلى مجلس الأنصار).
وأما عن موضوع الخطبة فقد اشتملت على ثلاثة أنحاء من البيان استعرضت في الأوّل جانباً كبيراً من علل الأحكام في التشريع وفي الثاني احتجت على أبي بكر والمهاجرين الذين معه بقوارص الكلام مع قوة الحجة في البيان، وفي الثالث عاتبت الأنصار عتاباً ممضاً مما أيقظ فيهم الحسّ ،الخامل والجاهل الغافل ، كما سيتضح ذلك من قراءة النص.
هذا جميعه ما يتعلّق بالخطبة الأولى وهي التي حفلت بها المصادر الكثيرة.
وأمّا زمان الخطبة الثانية فهي في أيام مرضها(عليها السلام)، إذ كانت قالتها لنساء المهاجرين والأنصار وقد أتين لعيادتها، ومن المعلوم أنها لم تمرض عقب وفاة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بلا فصل ، وإن جل الخطب وعظم المصاب، لأنها كانت بعد الهجوم على بيتها يحملها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)ليلاً تستنصر الأنصار وهم في مجالسهم، فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو ان زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا عنه، فيقول علي - كرم الله وجهه - أفكنت أدع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه.
ص: 107
فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.(1)
فالخطبة في نساء المهاجرين كانت بعد هذا زماناً، وإذا اعتمدنا تعبير الوزير الآبي(2)في المقام فقد ذكر (قولها عند احتضارها) وهذا يعني ان النساء أتينها عائدات في أخريات أيامها(عليها السلام)ومكانها بيت الزهراء(عليها السلام)وموضوعها عتاب أقوى من سباب.
وأمّا الخطبة الثالثة وهي كلامها مع عائشة بنت طلحة فزمانها أيام شدّة بكائها لمصائب فقد النبي وغصب الوصي وهضمها من الصحابة، فلم يراعوا فضل القرابة، ومكانها هو بيتها لها ، وموضوعها كسابقتها.
لاشك في أنّ التاريخ الإسلامي خضع في تسجيله لعواطف محسوبة ولم يكتب بنزاهة تامة، ولم يأتنا بجميع حذافيره صحيحاً، ولذلك طالب كثيرون بإعادة كتابة التاريخ من جديد، وحتى هذه المطالبة أيضاً خضعت لأهواء وآراء لست بصدد البحث عنها فعلاً، وحسبنا أن نقول بما قاله المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه فقد قال: (وقد بدت نزعة غريبة تزعم ان التاريخ الإسلامي قد زيّف إذ عمد العباسيون إلى
ص: 108
تشويه أعمال الأمويين، وسعى خلفاء العباسيين إلى الإساءة لأعمال هؤلاء، وقصد الشيعة إلى العبث بكل أفعال وأقوال السنة وهكذا... إن دعوى تزييف التاريخ الإسلامي لإخفاء وقائع ضد الإسلام تعمل من حيث تدري أو لا تدري على توطيد احتمالات عودة مثل هذه الوقائع وتكرارها ما دامت لا تستنكرها ولا تستهجنها، ولا تعرف انها ضد الإسلام ذاته)(1).
(لكن الحقيقة ستبقى واضحة، وإنّ من عمل المسلم الحقّ - وصحيح إيمانه - أن يرفض كل ما هو مضاد للإسلام مناف للشريعة، حتى ولو كان صدر من صاحب شأن أو مكانة، أو كان قد تكرر على مدى التاريخ الإسلامي حتى أخفى وراءه الحقيقة، لقد صاحب هذا الإنكار دفاع عن الأمويين وغيرهم من الطغاة، كأنها ذكر مظالم الظالمين دون التبرّؤ منها يسئ إلى الإسلام ولا يطهره منها ومنهم )(2).
والذي يعنينا في المقام ما يتعلّق بخطب الصدّيقة فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، وقلت انّها كوثائق تاريخية عن حقبة تاريخ الصدر الأوّل، الّذي تحاشى المؤرخّون اقتحام البروج العاجية لرموزه فيما لهم وعليهم، غير أنّ بعض الأقلام الحرّة نفثت بما يكنّه أصحابها ممّا ينبغي أن نسوقه في المقام شاهداً، داعياً إلى قراءة واعية في التاريخ من جديد عن حقبة صدور الخطب
ص: 109
الفاطمية فيها تمهيداً لمعرفة أسبابها ومسبباتها وآثارها سلباً وايجاباً، فإنّ تاريخ تلك الحقبة عليه من التعتيم السياسي ما يشوّش الرؤية، وحتى تفاوت الناس في قبوله ورفضه كلاً أو بعضاً، فلابد لنا من قراءة بعض نفثات تلك الأقلام الحرّة والجريئة قراءة واعية.
1 - قال محمّد فريد وجدي بعد أن ذكر خطبة أبي بكر يوم السقيفة نقلاً عن كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة فقال: (يرى المتأمل في خطبة أبي بكر انه لم يشر إلى حديث الخلافة في قريش، مع انه كان أمضى سلاح له في ذلك اليوم الصعب، الأمر الذي يجعلنا نشك في صحته، وان الكتاب الذي نقل منه هذه الخطبة هو من أقدم الكتب وأوثقها في مسائل الخلافة الإسلامية)(1).
ثم قال ناقداً أبا بكر في خطبته فقال : يؤخذ من خطبة أبي بكر(رضی الله عنه) انّه احتج بفضل المهاجرين على الأنصار، أنهم أول من آمن برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وأجابوه .. ولكن هذا شئ والصلاحية للخلافة شئ آخر، فربّما سبق قوم إلى خير ولم يوجد فيهم من يصلح للملك(2).
وقال أيضاً: (وظن أكثر المسلمين انّ الإنسان يأثم إن انتقد أحد الصحابة أو رأى خلاف رأيه، واستحال لديهم هذا الظن إلى وسوسة حسنت لهم أن ينظروا لحوادث ذلك التاريخ من خلال حجب مموهة
ص: 110
حتى يروا فيه كل شيء حسناً، وكل عمل متقناً، وقد غلا بعضهم فقال: قاتلهم ومقتولهم في الجنة، والحقيقة أنهم بشر مثلنا، وإن كانوا أفضل منّا تقوى وإيمانًا وحباً للحق وقربهم من النور المحمدي، ولكن لا يقول أحد أنّهم منزهون عن الخطأ، وبأن جميع أعمالهم حسنة، مع انه قد ثبت لنا أنهم تجادلوا وتشاتموا وتضاربوا، وقتل بعضهم بعضاً، ومرّ عليهم زمن كانت فيه المجازر بينهم على أشد ما يكون بين المتخاصمين من الشعوب المتعادية)(1).
وقال أيضاً: يقول عمر(رضی الله عنه) : (والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم) وهذا الكلام عليه رائحة من التمييز بين القبائل، فقوله من غيركم - أي يا معشر الأنصار - مع انّ الأنصار والمهاجرين وجميع سكان جزيرة العرب هم عرب لا جدال في أصلهم، فكيف يسوغ أن يقال للأنصاري نبينا من غيركم، وقد محا الله التمايز بالقبائل؟ ولم يمح الله التمايز بين قبائل العرب فقط، بل محاها من بين جنسيات جميع المسلمين فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ - ولم يقل يا أيها العرب - إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾(2)(3) . ولم يقل (أن أكرمكم عند الله من كان قرشيا ) .
ص: 111
2 - قال عليّ عبد الرازق في كتابه: كانوا يومئذٍ - يوم السقيفة - إنّما يتشاورون في أمر مملكة تقام، ودولة تُنشأ ، وحكومة تُنشأ، ولذلك جرى على لسانهم يومئذ ذكر الإمارة والأمراء والوزارة والوزراء... وتذاكروا قوة السيف ، والعزة والثروة، والعدد والمنعة، والبأس والنجدة، وما كان ذلك إلاّ خوضاً في الملك، وقياماً بالدولة، وكان من أثر ذلك ما كان من تنافس المهاجرين والأنصار، وكبار الصحابة بعضهم مع بعض، حتى تمت البيعة لأبي بكر ... فكان أول ملك في الإسلام(1).
3 - قال عبد الكريم الخطيب في كتابه :وإنّما كانوا يتنازعون في الحكم والإمارة، إذ لم تكن كلمة (خليفة) من الألفاظ التي وقعت في خواطر المسلمين، أو جرت على ألسنتهم في اجتماعهم يوم السقيفة(2).
4 - قال أحمد أمين المصري في كتابه:( ومن مظاهر هذا - يعني عصبية العرب في تولية الأمر نقلاً عن ابن خلدون - ما كان من خلاف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول،( وكان هذا ضعف لياقة منهم إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول، ولكن كان عذرهم في ذلك العمل على ضم الشمل وجمع الكلمة ، فلما مات النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)حصل هذا الاختلاف، فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس، وكان هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر : إنّها غلطة وقى الله المسلمين شرّها، وكذلك كانت
ص: 112
غلطة بيعة أبي بكر لعمر ، وإن كان قد استشار كبار الصحابة في ذلك فبعضهم حمده وبعضهم خاف من شدته ...)(1).
5 - وقال الدكتور طه حسين في كتابه: (وما أريد أن أتزيد ولا أنّ أتكلف، ولا أن أوذي بعض الضمائر، ولا أن أحفظ بعض الصدور، ولكني مع ذلك ألاحظ انّ جماعة من أصحاب النبيّ قد حسن بلاؤهم في الإسلام حتى رضي النبيّ عنهم وبشّرهم بالجنة أو ضمنها لهم، ثم طال عليهم الزمن، واستقبلوا الأحداث والخطوب، وامتحنوا بالسلطان الضخم العظيم والثراء الواسع العريض، ففسدت بينهم الأمور، وقاتل بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وساء ظن بعضهم ببعض، إلى أبعد ما يمكن أن يسوء ظن الناس بالناس، فما عسى أن يكون موقفنا نحن من هؤلاء؟
لا نستطيع أن نرضى عن أعمالهم جميعاً، فلا نلغي عقولنا وحدها، وإنّما نلغي معها أصول الدين التي تأمر بالعدل والإحسان وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنّه قد خطئ لمكانتهم من النبي أولاً، ولما بشّرهم به النبي من الجنة ورضا الله ثانياً.
ولحسن ظنّهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسوله وإيمانهم بالجنة التي بشّروا بها.
ص: 113
وما نحب أن نذهب في أمرهم مذهب الذين عاصروهم من خصومهم وأنصارهم ، فنحكم على بعضهم بالخير، ونحكم على بعضهم بالشر. فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألم بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يُسخطون حسب مكانهم من أولئك أو هؤلاء.
أما نحن فلسنا نعاصر هم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاماً، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوّب من نصوّب منهم من هذه الجهة وحدها، دون أن نقضي في أمر دينهم بشئ ، فإنّ الدين الله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار، ذلك شئ لا نخوض فيه، وليس لنا أن نخوض فيه وإنّما أمره إلى الله وحده.
فأمّا الّذي إلينا فهو أن نتبيّن من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم الحقّ والعدل والصواب وما لا يلائمها. وهذا في نفسه كثير، ولكن لابدّ
ممّا ليس منه بدّ)(1).
هكذا قال طه حسين ونحن لا نصادقه على جميع قوله ولكن نأخذ من كلامه ما ختم به( فهو أن نتبين من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم
ص: 114
الحقّ والعدل والصواب، وما لا يلائمها، وهذا في نفسه كثير ولكن لا بد ممّا ليس منه بدّ).
ونصادقه على قوله : ( ولكن أبا بكر لم يبايع بالخلافة عن مشورة من المسلمين، وإنّما كانت بيعته فلتة وقى الله المسلمين شرها كما قال عمر كما أن عمر نفسه لم يبايع عن مشورة من المسلمين، وإنّما عهد إليه أبو بكر فأمضى المسلمون عهده... ولم تكن الشورى التي تمت بها خلافة عثمان مقنعة ولا مجزئة، فقد اختص عمر بها ستة من قريش على أن يختاروا واحداً منهم...)(1).
كما أنا نوافقه في قوله: (إنّ عليّاً كان أقرب الناس إليه - النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)- او وكان ربيبه، وكان خليفته على ودائعه، وكان أخاه بحكم تلك المؤاخاة، وكان ختنه وأبا عقبه، وكان صاحب لوائه، وكان خليفته في أهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبيّ نفسه، لو قال المسلمون هذا كله واختاروا عليّاً بحكم هذا كله لما أبعدوا ولا انحرفوا... وكان كل شئ يرشح عليّاً للخلافة، قرابته من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وسابقته في الإسلام، ومكانته بين المسلمين وحسن بلائه في سبيل الله وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنّة، واستقامة رأيه).
ص: 115
وقوله: (فكان بنو هاشم قد أبعدوا عن هذا الأمر عمداً، أبعدتهم عنه قريش، مخافة ان تظل لبني هاشم رعيّة، وألا تكون الخلافة في حي آخر من أحيائها)(1).
وقال: (وكانوا - الناس - كذلك يعرفون أنّ قريشاً قد صرفت الخلافة عن بني هاشم بعد وفاة النبي إيثاراً للعافية، وكراهة أن تجتمع النبوّة والخلافة لهذا البطن من بطون قريش، وكانوا يرون أن الله قد آثر بني هاشم بنبوة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)فاختصها بخير كثير، وأنّ بني هاشم ينبغي لهم أن يقنعوا بما آثرهم الله به من الخير الضخم والفضل العظيم)(2).
6- وقال الدكتور صبحي الصالح (أستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية) : (لقد كانت بيعة أبي بكر للخلافة أول فتنة أو (فلتة) وقى الله المسلمين شرها، وكانت مقدماتها كنتائجها ذات طابع سياسي يتلخص في اختيار شخص دون شخص للخلافة)(3).
وقال وهو يتحدث عن تولية أبي بكر لعمر واختلاف الناس فيه :(على أنّ نفراً من الناس في تلك الفترة العصيبة بدؤوا يعتقدون أن السلطة الدينية يجب أن تفرضها على الناس سلطة إلهية، فجعلوا السلطة بذلك
ص: 116
مفروضة لا منتخبة تعيّنها إرادة السماء كما تعيّن الأنبياء وتصطفي المرسلين)(1).
7- وقال حسن فرحان المالكي في كتابه الصحبة والصحابة بين الأطلاق اللغوي والتخصيص الشرعي في (مبحث الصحابة) :من المباحث والموضوعات ذات الأهمية البالغة في التراث والفكر الإسلامي قديماً وحديثاً لما يترتب عليه من قضايا فقهية وحديثية وإيمانية وجوانب أخرى تتصل بالجوانب الفقهية والسياسية والشوروية والاقتصادية في الفكر الإسلامي...
إنّ موضوع (الصحبة والصحابة) من أكبر الموضوعات أهمية ، وأشدها حرجاً عند كثير من مفكري وعلماء المسلمين، بل عند سائر المهتمين بالإسلام ودراسته من غير المسلمين...)(2).
وقال أيضاً: ( وكانت السياسة تلعب أيضاً الدور الأكبر في توسيع الفجوة بين علماء المسلمين وعوامهم، ولم يكن الساسة يشتهون الفرقة بين المسلمين لمجرد الإفساد بينهم، ولكن كانت لهم مصالح في تأييد هذه الجماعة أو تلك، ومنها إظهار الحاكم نفسه بمظهر الحريص على سلامة العقيدة، والحامي لها ضد الطوائف الأخرى، فلذلك شكّل مغفلّوا
ص: 117
الصالحين والعوام الساعد الأيمن لكلّ سلطة تستغل هذه القضية على مرّ التاريخ، سواءً كان هؤلاء من السنّة أو الشيعة أو المعتزلة أو النواصب أو الخوارج...
وقضية (الصحابة )من القضايا المستثمرة في تصفية الخصوم أو كبتهم أو التضييق عليهم، أو التشكيك في عقائدهم، وتنفير الناس عنهم، وعن علمهم، دون النظر إلى حججهم وأدلّتهم.
ولذلك نجد انّ عبارة ( فلان يطعن في الصحابة) تكفي للقضاء على كل إبداع بحثي عند أهل السنّة، كما تكفي عبارة (فلان يثني على أعداء أهل البيت) للقضاء على الإبداع نفسه عند الشيعة.
والشيعة والسنّة يشكلان أهم فرقتين إسلاميتين من حيث الانتشار وكثرة الانتاج الفكري مع تقدم زمانهما وبداياتهما الهادئة من أياّم الخلافة الراشدة، بل إنّ جذورهما الأولى تمتد منذ عهد النبوة)(1).
وقال أيضاً: (حقاً أنّ تعميم فضل الصحبة ومنزلتها على كل من لقي النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من المسلمين أدى إلى اختلاف بين كثير من الفرق الإسلامية، ولا زال الاختلاف بينهما إلى يومنا هذا، إذ أدّى هذا التعميم في المديح إلى
ص: 118
تعميم فرق أخرى كالشيعة لنصوص أخرى في الذم وأصبح الناجون عندهم أفراداً قلائل)(1) .
وقال أيضاً: (وهناك أناس صحبوا النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) قبل الحديبية لكنهم أساؤا الصحبة، أو تغيّروا وبعضهم نافق وبعضهم تذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن أبرز أولئك - ثم ذكر أكثر من سبعين اسماً ثم قال - : وغيرهم وأغلب هؤلاء متهمون بالنفاق مع ان لهم صحبة قبل الحديبية، بل بعضهم مذكور في أهل بدر، وبعضهم قيل إنّه تاب، أما أسباب إتهامهم بالنفاق فمختلفة، فبعضهم قتل نفساً بغير حقّ، وبعضهم اعترض على النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)أو لم يرض بحكمه، وبعضهم ساءت سيرته ونحو هذا)(2).
وقال أيضاً: (وكثير من الطلقاء لم يحسنوا الإسلام فهم الذين طلبوا من النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يجعل لهم ذات أنواط ، وسرقة ثلاثة منهم جملاً يوم حنين(سرقه أبو سفيان وابنه معاوية وأخوه عتبة )حتى دعا عليهم النبيّ(3) وحاول بعض الطلقاء اغتيال النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) وبقي بعضهم مستهزءاً بالنبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى لعنه ونفاه إلى الطائف، وهو الحكم بن أبي العاص، وركل بعضهم قبر حمزة بن عبد المطلب وقال : قد عدنا يا حمزة، وأثر عن
ص: 119
هذا الشخص انّه قال: تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فليس هناك من جنة ولا نار(1).
وأخذ النواصب والشاميون ومغفّلوا الصالحين من أهل السنّة يحاولون تحسين صورة الطلقاء، وأنّه حسن إسلام جميعهم مرددين الحديث الشريف: (الإسلام يجب ما قبله) متناسين الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود(2): (قال: قال أناس لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام، وقد غفل عن هذا الحديث ومثله كثير من الناس)(3).
8 - وقال الشيخ محمود أبو رية في كتابه: (والصحابة ناس يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من التابعين وغير التابعين - وقد أثبت التاريخ والقرآن يؤيّده - انّه قد وقع منهم مثل ما وقع من سائر خلق الله من الأناسي أجمعين، فكان منهم المنافقون، وكان منهم من ارتكب الكبائر وكان منهم من قاتل بعضهم بعضاً، وكفّر بعضهم بعضاً، ثم كان منهم المرتدون، وغير ذلك مما يعلم من تاريخهم، ولا يستطيع عاقل منصف أن يدافع عنهم، وقد أشبعنا القول في أمر عدالة الصحابة، فارجع إلى
ص: 120
الفصل الّذي عقدناه لذلك في كتابنا (أضواء على السنّة المحمّدية - الطبعة الثالثة)(1).
وقال أيضاً: (وممّا قالوه فيهم: إنّ بساطهم قد طوي!! كأن العدالة موقوفة عليهم، والعصمة مختصة بهم وكأنّهم في ذلك قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية، فلا يعتريهم ما يعتري كل إنسان من سهو أو خطأ أو وهم أو نسيان، ولا نقول الكذب والبهتان فحاشاهم من ذلك !!
وماذا يقولون فيما جاء في القرآن الكريم عنهم ووصفه لأعمالهم، وأنه قد نزلت سورة خاصة بالمنافقين منهم وإن سورة براءة قد سمّيت
(بالفاضحة)(2)لأنّها فضحت جماعة منهم - وإنّ أكثرهم قد ارتدّ بعد موت الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)،وكذلك ما ورد فيهم من أحاديث صحيحة وأخبار متواترة.
إذا جابهتهم بذلك نبحوك ولعنوك ، وقالوا مرتد وزنديق وفاسق ثم قذفوك بسبابهم وشتائمهم)(3) .
9 - وقال الدكتور هشام جعيط (تونسي) في كتابه:
ص: 121
(ولم يكن العقائديون الشيعيون هم الوحيدين الذين فكروا بالأمر، ولن يظلوا الوحيدين، لقد اغتصب حق عليّ في الخلافة، إنّها فكرة شائعة حتى في أيامنا في الضمير الإسلامي قاطبة عند الشيعة والسنيين معاً، كما أنّ من الصعب على السنيين أن يتبعوا عقيدتهم التي تضع علياً بعد عثمان من حيث الفضل في الواقع يتمتع علي بحب المسلمين كافة إما لأن التشيع فرض رؤيته للإنسان - في أفريقية في مصر، في العراق – بعد مروره فيها، وإما نتيجة الأسطورة الملحمية الحيّة على الدوام التي اتخذت موضوعها، وإما لأنه تعذب من جراء رفضه وخسارته بينما كان حبيب النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)(1)
10 - وقال خالد محمد خالد في كتابه: لقد كانت حياته - الإمام علي - في دورها الأخير وقفاً على قضية كبرى... أن يعيد للإسلام حقيقته، وللمسلمين وحدتهم، وللدولة الإسلامية تماسكها وشرعيتها واستقامتها.
أجل، كانت القضية التي نذر لها حياته هي ذي: أن يردّ الإسلام إلى حقيقته، وأن يرد المسلمين إلى الإسلام، ولم يترك سلماً ولا حرباً يبلغان به
ص: 122
غايته النبيلة، هذه إلا توصل بهما في عدالة وشرف، ولقد كانت قضيته واضحة المحيّا، مشرقة الجبين، ناصعة الحجة طاهرة الضمير ...)(1) .
هذه عشرة شواهد من نفثات الأقلام الحرّة الجريئة على ما تعرض له تاريخ رموز الصحابة في تاريخ الإسلام السياسي من تضبيب وتعتيم ودون كشف الحجاب فشهروا مقولة ( عدالة الأصحاب) وكأنها آي من وحي الكتاب، ولو أغمضنا عن كل ما قيل ويقال في حق الصحابة، وما جرى منهم مع القرابة، فكيف بنا ونحن نقرأ لهم اعترافات خطيرة تكشف زيف الكثير من رموز تاريخ الإسلام السياسي ولما كانت الأعمال بخواتيمها كما في الحديث النبوي الشريف، فإنّ كثيرا من الصحابة زلزلت الدنيا ،أقدامهم فخاضوا غمارها وراء الأهواء، ولما أحسوا بدنو أجالهم، ندموا على ما فرطوا ولات ،مندم فكانت منهم اعترافات بالخطأ، وأنهم أحدثوا بعد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ما لم يكن ينبغي لهم أن يحدث، وهذا هو الذي حذرهم منه(صلی الله علیه وآله وسلم)كما في جملة أحاديث الحوض التي رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، وسيأتي ذكر بعضها. وقبل ذلك، فلنقرأ نماذج من الاعترافات الخطيرة.
ص: 123
لقد عاش المسلمون تاريخهم الإسلامي السياسي من خلال الحكام الذين بذلوا للمرتزقة، فرووا لهم أحاديث مكذوبة على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)تمجد بالصحابة نكاية بالقرابة، حتى زرعوا في النفوس بذرة (عدالة الصحابة ولكنهم لسوء حظهم لم يراعوا نبتتها وسقايتها، وحذف الدخيل عنها كما يصنع البستاني في مراعاة زرعه، بل جمعوا الصحابة تحت خيمة الإسلام السياسي حتى الذين مردوا على النفاق، وهذا عصفت به رياح أحاديث الحوض، وحسب القارئ منها ما رواه البخاري في صحيحه في عشرة موارد كما في (قطف الروض من أحاديث الحوض) وإليه ثلاثة منها أحدها عن ابن عباس:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير آخر سورة المائدة باب قوله تعالى:﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾(1) بسنده عن ابن عباس قال خطب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فقال :﴿ يا أيها الناس إنّكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، ثم قال: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾(2)إلى آخر الآية ثم قال: ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يقوم القيامة إبراهيم، ألا وأنه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا ربّ أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال
ص: 124
العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾(1) فيقال ان هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)(2).
وثانيها عن أبي هريرة في كتاب الرقاق باب الحوض عن النبي الا الله قال : بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلّم فقلت أين؟ قال: إلى النار والله قلت وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم، قلت أين؟ قال: إلى النار والله قلت ما شأنهم ؟ قال : انّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النَعم(3) .
وثالثها عن ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر(رضی الله عنه) قالت قال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): إنّي على الحَوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم وسيؤخذ ناس دوني فأقول يا ربّي منّي ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم، فكان ابن أبي مليكة يقول: اللّهمّ انّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا.
ص: 125
فهذه الأحاديث لا تلتقي مع فكرة عدالة الصحابة أجمعين أكعتين أبصعين، وتكشف عن زيف عقيدة الطحاوي وأضرابه ممّن أفرط في حبّهم حتى جاز حدّ الغلو فقالوا: (ونحبّ أصحاب الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) ولا نفرّط في حبّ أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبّهم دين وإيمان ،وإحسان وبغضهم كفر و نفاق وطغيان)(1) .
ويقول أحمد بن حنبل :( لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص، فمن فعل ذلك أدب، فإن تاب وإلا خُلّد في الحبس حتى يموت أو يرجع)(2).
وقال ابن حجر في الإصابة: اتفق أهل السنّة على ان الجميع عدول ،ولم يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة.... ومع الأسف الشديد، إنّ هذا الإطراء والثناء، إنّما هو هباء في الهواء، لأنّ القرآن الكريم أكذب هذه الأحدوثة فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾(3) إلى غير ذلك من آيات فصلت - بدون محاباة أو ممالاة - مراتب الصحابة، فذكرت السابقين من
ص: 126
المهاجرين والأنصار فقال تعالى في سورة التوبة: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (1)وهذا مدح عظيم، وليس لكلّ الصحابة فقد فضّل بعضهم على بعض فقال تعالى في سورة الأنفال (الآية 72) :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهَ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَا يَتِهِمْ مِنْ شَيْ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ إلى غير ذلك من آيات المدح والثناء على من استحق ذلك، وليس كل الصحابة كذلك فمنهم من ينكث من بعد مبايعته(2) ، ومنهم ﴿الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾(3) ، ومنهم من كان يرفع صوته على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لجهالته وسمّى أيضاً منهم الفاسق (4) وشنّع عليهم فرارهم يوم حنين في نفس السورة.
ص: 127
وأمّا سورة التوبة فحسبنا قول ابن عباس فيها : ما زالت تنزل حتى ظننا لن تترك أحداً إلا فضحته لذلك سميت الفاضحة، ودع عنك آيات في آل عمران (121 - 122 / 152 - 153 / 155) وفي سورة (الأحزاب /57) وسورة (مريم / 4 - 10) و سورة (الجمعة /11) وسورة المنافقين إلى غير ذلك من آي الذكر الحكيم.
فمع هذا كله كيف يصحّ قول النووي في التقريب: (الصحابة كلّهم عدول من لابس الفتنة وغيرهم)؟
وكيف يصح هذا مع قول ابن أبي مليكة: أدركت أكثر من خمسمائة من أصحاب النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)كل منهم يخشى على نفسه النفاق لأنه لا يدري ما يختم له (1).
وكيف يصح الغلو في الصحابة مع ما أخرجه الطبراني عن أم الفضل وعبد الله بن عباس عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)انّه قام ليلة بمكة من الليل فقال: (اللّهم هل بلّغت؟ ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوّاها - فقال : اللهم نعم فحرصت وجهدت ونصحت، اللهم نعم فحرصت وجهدت ونصحت، فأصبح فقال : (ليظهرنّ الإيمان حتى يردّ الكفر إلى مواطنه، وليخاض البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن فيعلمونه ويُقرؤونه، ثم يقولون قد قرأنا وعلمنا فمن ذا الّذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير ؟ )
ص: 128
قالوا :يا رسول الله من أولئك؟ قال: (أولئك منكم وأولئك هم وقود النار)(1). فبعد هذا لا غرابة في قول الصدّيقة الزهراء لها الصحابة أبيها في خطبتها في المسجد وقد حملتهم مسؤولية الانحراف (حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه، أطلع الشيطان رأسه، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم غضاباً فوسمتم غير أبلكم، ووردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب والكَلَم ،رحيب والجرح لما يندمل، إنّما زعمتم خوف الفتنة﴿ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(2)(3) فهم في الفتنة سقطوا وهم في النهاية كما في بقية الآية، فلا عتاب بعد هذا على من رأى في بيعة السقيفة الفتنة هي السبب الأقوى والأول في تفريق كلمة المسلمين إلى يوم الدين.
وهذا ما اقتبسه دعبل الخزاعي فقال في تاثيته العصماء ما يشير إليه:
وما سهّلت تلك المذاهب فيهمُ*** على الناس إلّا بيعة الفلتات
وما نال أصحاب السقيفة إمرة*** بدعوى تراث بل بأمر ترات
ولو قلّدوا الموصى إليه أمورَها*** لزّمت بمأمون عن العثرات
أخا خاتم الرسل المصفّى من*** ومفترس الأبطال في
فإن جحدوا كان الغدير شهيده*** وبدرٌ وأحد شامخ الهضبات
ص: 129
وآيٌ من القرآن تتلى بفضله ***وإيثاره بالقوت في اللزّبات
وغرُّ خلالِ أدركته بسبقها*** مناقب كانت فيه مؤتنفات(1)
إذن ليس من الافتئات على بعض الصحابة حين يذكرهم شاعر أو ناثر فيحمّلهم مسؤولية الإنحراف حين غاب الرسول عن أمته فخالفوه في وصيته كيف يعاتب أو يعاب عليه وهو يذكر عن بعضهم اعترافه بذلك، وهي اعترافات جد خطيرة تنسف تاريخ الإسلام السياسي والسيرة نسفا كما مرّ في العنوان، ولتوثيق تلك الاعترافات نسوقها من مصادر التراث السنّي الذي يدين لأصحابها بالمحبة والولاء، فضلاً عن التراث الشيعي الذي هو مظنة الافتراء فلتقرأ الإعترافات بعين القلب المفتوحة، وليتدبر القارئ ما تحمل حروفها اليسيرة من معان خطيرة، وليتجرد من رواسبه الموروثة وليصحح تلك المغالطات التي عاشها في تاريخه الإعلامي المخادع الذي كانت تمليه عليه السلطة، فشبّ على ذلك وحتى نمت فروعه على أصوله. وإنّ في هذا البلاغ مبين لمن اهتدى ، ومن ضل فما أنا عليه بوكيل.
ص: 130
1 - أبو بكر بن أبي قحافة، أخرج مالك بن أنس في الموطأ في كتاب الجهاد باب الشهداء في سبيل الله بسنده عن مولى عمر بن عبيد الله أنّه بلغه ان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال الشهداء أحد : ( هؤلاء أشهد عليهم فقال أبو بكر: ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): ( بلي ، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي فبكى أبو بكر ثم بكى، ثم قال: أثنا لكائنون بعدك(1)
أقول: فهذا الحوار في الكلام مع النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) ،ثم الجوار بالبكاء وكله من أبي بكر، هو الذي بخّرته الأيام القليلة فنسيه أبو بكر أو تناساه، فخاض غمرة الحياة بأساليب ما كان له ولاينبغي لمثله في مكانته وقرباه من النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يخوضها، ولكنها الدنيا تصيّدت رجالاً بفخّها، فألهتهم بزينتها وزخرفها، وهم سرعان ما ندموا على مماشاتها ولات حين مندم.
فماذا عن ندم أبي بكر ؟ فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المبارك والمتقي الهندي ان ابا بكر قال: (والله لوددت أنّي كنت شجرة إلى جانب الطريق مرّ عليّ جمل فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني، ثم أخر جني بعراً ولم أكن بشرا) لماذا هذا الجزع ؟ وممّ هذا الخوف؟ وعلى م هذا الندم؟
ص: 131
والجواب نسمعه منه من دون مواربة أو مداجاة فقد أخذ بلسانه وينضنضه ويقول: ها إنّ ذا أوردني الموارد)(1).
ومن تلك الموارد المحزنة المخزية خطبته التي تحامل فيها ظالماً على الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)من بعد ما سمع قوارص الكلم والتقريع من الزهراء (عليها السلام)في خطبتها فصعد المنبر وقال: (أيّها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلّم، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه، مربّ لكل فتنة، هو الذي يقول كروّها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحبّ أهلها إليها الغوي - البغي - ألا وإنّي لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، إنّي ساكت ما تُركت ثم التفت إلى الأنصار فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أنتم ، فقد جاءكم فاويتم ونصرتم، ألا وإنّي لستُ باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا؟ ثم نزل(2) . وهنا تعقيب لأم سلمة أم المؤمنين وهذا رواه الطبري الإمامي قال: فأطلعت أم سلمة رأسها من بابها وقالت المثل فاطمة يقال هذا؟ وهي الحوراء بين الأنس والأنس للنفس، رُبيّت في حجور الأنبياء، وتداولتها
ص: 132
أيدي الملائكة، ونمت في المغارس الطاهرات، نشأت خير منشأ، ورُبيّت خير مربّى. أتزعمون أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)حرّم عليها ميراثه ولم يعلّمها وقد قال الله له: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾(1) أفأنذرها وجاءت تطلبه؟ وهي خيرة النسوان وأم سادة الشبان وعديلة مريم ابنة عمران، وحليلة ليث الأقران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحرّ ،والقرّ، فيوسدها يمينه ويدثرها شماله، رويداً فرسول الله بمرأى لأعينكم، وعلى الله ،تردون فواها لكم وسوف تعلمون).
قال: فحرمت أم سلمة تلك السنة عطاءها .
قال أبو جعفر - مؤلّف الكتاب - نظرت في جميع الروايات فلم أجد فيها أتم شرحاً، وأبلغ في الإلزام، وأوكد في الحجة من هذه الرواية. ونظرت إلى رواية عبد الرحمن بن كثير فوجدته قد زاد في هذا الموضع أنسيتم قول رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وبدأ بالولاية : أنت مني بمنزلة هرون من موسى، وقوله : إني تارك فيكم الثقلين ما أسرع ما أحدثتم، وأعجل ما نكثتم، وهو في بقية الحديث على السياقة (2) .
وثمة تعقيب آخر لا بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي على ذلك أيضاً قال: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له بمن يعرّض؟ قال: بل يصرح .
ص: 133
قلت: لو صرّح لما سألتك، فضحك وقال : بعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، قلت: هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله ؟ قال : نعم، إنّه الملك يا بني، قلت : فما مقالة الأنصار ؟ قال : هتفوا بذكر عليّ، فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم(1) .
فكلام أبي بكر غير مقبول منه ولا يمكن الاعتذار عنه، ولعلّ هذا هو مبعث الندم فأخذ لسانه ينضنضه ويقول: ها أن هذا أوردني الموارد، وأصرح من ذلك ندماً قوله في مثلثاته التي نفث بها في حديثه مع عبد الرحمن بن عوف، فقد جاء فيها : (فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد غلقوه على حرب ....)(2) .
2 - عمر بن الخطاب، وهو كصاحبه في شدة الاضطراب من مغبة الانقلاب الّذي حدث بعد وفاة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، وحسبنا قوله وقد أخذ تبنة من الأرض فقال : ليتني هذه التبنة، ليتني لم أك شيئاً، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسياً منسيا(3).
وأصرح من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه باب هجرة النبيّ وأصحابه إلى المدينة بسنده عن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري، قال
ص: 134
قال لي عبد الله بن عمر هل تدري ما قال أبي لأبيك ؟ قال قلت لا قال: فإنّ أبي قال لأبيك يا أبا موسى هل يسترك إسلامنا مع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه بَردَ لنا يرد لنا - كما في دليل القاري : (520 وان كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس. فقال أبي (أبوك - ظ) : لا والله قد جاهدنا بعد رسول الله و وصلّينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وانا لنرجو ذلك. فقال أبي : لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت ان ذلك بَرَد لنا، وانّ كل شئ عملناه بعد نجونا منه كفافاً رأساً برأس فقلت إنّ أباك والله خير من أبي(1). ومعنى (برد لنا ) : أي ثبت لنا ثوابه ودام وخلص.
وفي حديث الفلتة الذي رواه عمر جاء فيه قوله : (انّ الله أبقى رسوله بين أظهرنا ينزل عليه الوحي من الله يحلّ به ويحرم ثم قبض الله رسوله فرفع معه ما شاء أن يرفع، وأبقى منه ما شاء أن يبقى فتشبثنا ببعض وفاتنا بعض ...)(2) .
ص: 135
وأخرج الهيثمي في حديث قال فيه عمر : وددت إنّي خرجت منها كفافاً لا لي ولا عليَّ وإن صحبة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)سلمت لي(1).
3- أنس بن مالك قال: ما نفضنا الأيدي من دفن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)حتى أنكرنا قلوبنا(2) . وسمعه أبو عمران الجواني يقول : ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال له : أين الصلاة؟ قال: أولم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم(3) .
وذكر الشاطبي في كتابه عن أنس بن مالك قال : ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) غير قولكم : لا إله إلا الله قلنا : بلى يا أبا حمزة؟ قال: قد صلّيتم حتى تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) (4).
4 - ابو الدرداء قال : لو خرج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس، فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان(5).
أقول: فكيف لو أدرك هؤلاء هذا الزمان.
ص: 136
5 - أبي بن كعب قال: فوالله ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ قبض رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وأيم الله لئن بقيت إلى يوم الجمعة لأقومن مقاماً أقتل فيه، فمات يوم الخميس(1) (الأقولن قولاً لا أبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني).
وقال: كان وجهنا على عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) واحداً، فلمّا توفي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) توجهنا هاهنا وهاهنا(2).
6 - البراء بن عازب، أخرج البخاري في صحيحه عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك صحبت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وبايعته تحت الشجرة فقال : يابن أخ إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده (3).
7 - أبو سعيد الخدري لقيه المسيب قال له: هنيئاً لك برؤية رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وصحبته ، قال : إنك لا تدري ما أحدثنا بعده(4).
8 - - الزبير بن العوام قال: لقد قرأنا قرآناً زماناً وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيّون بها: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ (5)قال البلاء والأمر الذي هو كائن (6).
ص: 137
9 - حذيفة قال: ربّ يوم لو أتاني الموت لم أشك، فأما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري على ما أنا فيها وأوصى أبا مسعود فقال: عليك بما تعرف، وإياك والتلوّن في دين الله .(1)
10 - عائشة أم المؤمنين لما احتضرت جزعت فقيل لها: أتجزعين يا أم المؤمنين وابنة أبي بكر ؟ فقالت: إن يوم الجمل لمعترض في حلقي ليتني مت قبله وكنت نسياً منسيا(2).
وعن أنس قال: دخل جماعة على عائشة لها وهي محتضرة يبكون عندها فقال شخص يا أماه ألا ندفنك عند رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ؟ فقالت: إني أحدثت بعده(صلی الله علیه وآله وسلم)أموراً فأنا أستحي من لقائه(3).
هذه عشرة نماذج من اعترافات الصحابة وهم من علية القوم يقرون على أنفسهم بأنّهم أحدثوا بعد موت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ما لا ينبغي أن يحدث، فما بالك بالآخرين دونهم، إنّها لفتنة عمياء أظلتهم، وطخية سوداء غشيتهم، وما أحراهم بما وصفتهم به فاطمة الزهراء لما في خطبتها- الكبيرة - :(أتقولون مات محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) فخطب جلیل استوسع وهنه، واستنهر فتقه ،
ص: 138
وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته،... فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة، أعلى بها كتاب الله جلّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم يهتف في أفنيتكم هتافاً وصراخاً، وتلاوة وألحاناً، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حتم. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ (1).
لعلّ أكثر القّراء الذين يقرأون تاريخ الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، سيجدون تظلّمها ممّن ظلمها منصباً على المطالبة بحقها من فدك وسهم ذوي القربى، ولما منعها ذلك أبو بكر صارت تبثّ شكواها للمسلمين تستنصرهم عليه فتارة تخرج إلى المسجد النبوي لتعلن ذلك أمام الملأ من مهاجرين وأنصار، وأخرى تنفجر أمام النساء العائدات لها، وثالثة تميّز غيضاً على الشيخين فتقول في كلامها مع عائشة بنت طلحة : (ان نُحيف تيم وأحيوك عدي ....) هذا ما يدركه عامة القرآء لكلامها ويفسّرونه إنّه وليد انفعال هاج بها الحزن لفقد أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) و غصب نحلتها فقالت ما قالت، وطالبت ما طالبت .
ص: 139
ولكن لو تخطينا حواجز ظواهر الألفاظ قليلاً وأمعنا النظر في سياق المعاني من خلال خلفيات الإعلان المحموم في المواطن كلها لتلك الظلامة مع استذكار السلوك الحياتي لتلك الصدّيقة أم أبيها وهي بضعة منه أدركنا أنّ الأمر أعمق من ذلك، وأعلا من النهج الساذج لمجريات الأحداث. ولو رجعنا إلى فهم شخصية تلك الإنسانة الفذة من خلال فهمنا لتحديدها على ضوء ما قاله أبوها في حقها، لتبيّن لنا الوجه الآخر وراء تلك المواقف الصاخبة الناحية.
فأبوها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الذي عصمه الله تعالى من كل وصمة، فكان مثال كمال العصمة ، إذ يقول الوحي فيه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهْوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾(1)، وهو يقول في ابنته: (فاطمة بضعة مني، يربيني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها )(2)
و قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : ( إن فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني)(3).
فهذا القول لم يكن مجرد عاطفة أبوية، خصها بها من دون البقية.
بل إنّه يعني منحها بحكم كونها بضعة منه نفس السمة التي كان يتمتع بها في التعامل مع الناس في تطبيق أحكام الدين، فإن أطاعوا الله تعالى سرّه ذلك، وإن عصوه ساءه ذلك، فحبه وبغضه في الله تعالى ورضاه
ص: 140
وسخطه الله تعالى، فهو لا يغضب إلا لله، فكذلك كانت ابنته التي هي بضعة منه. ومن الطبيعي إنّ انحراف المسلمين عن نهج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الذي أمرهم بالتزامه، موجب لغضبه، فكذلك ابنته وقد رأت الإنحراف ظاهراً منذ بيعة السقيفة، وغصب الإمام أمير المؤمنين على(عليه السلام)حقه الشرعي، لأنه الخليفة الذي عينه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، لذلك غضبت لا لفوات الخلافة فحسب بل لما يترتب على ذلك الغصب من سلبيات تمس الجوهر، فهي إن غضبت لتعلن للملأ إنّ انحرافكم عن عليّ وهو صاحب الحق الشرعي سوف يؤدي بكم إلى مزالق خطيرة، وسوف تنحدرون إلى مهوى سحيق، حتى يتولى أموركم من لا حريجة له في الدين. وهذا ما قد حصل .
إذن فالمطالبة بفدك كانت وسيلة لا غاية وهذا ما أدركه الشيخان قبل غيرهما، فلم يستكينا لحجتها على قوتها ومع اعترافهما بصدقها، ولم يستلينا الحرمتها مع عظمتها ، بل أصرّا - وأيّ إصرار - على منعها فدكاً، وردّ دعواها بكلّ ما أوتيا من قوّة وقد كلفهما ذلك الرد جهداً بالغاً في حياتهما، ونقداً لاذعاً بعد وفاتهما، حتى ممّن يدين بخلافتهما.
فهذا ابن أبي الحديد - وهو من أشد المحامين عنهما في شرحه نهج البلاغة - قال: وسألت عليّ بن الفارقي مدرّس الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ، ثم ّقال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه
ص: 141
وحرمته وقلة دعابته، قال : لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرد دعواها، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يمكنه الإعتذار والموافقة بشيء، لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود.
ثم قال ابن أبي الحديد وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل(1).
فهذا الّذي أدركه الشيخان أوردهما والمسلمين معهما المهالك، لأنّ ذلك أغضب لا فاطمة لها ، و من أغضب فاطمة أغضب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ومن أغضب النبي أغضب الله تعالى، ومن أغضب الله فله عذاب أليم قال تعالى: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(2). ورسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال لفاطمة (عليها السلام): إنّ الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك )(3).
ولا ينقضي العجب من الشيخين حين أتيا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) فقال له عمر - والقول له بروايته - : ما تقول فيما ترك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ؟
ص: 142
قال :(نحن أحق الناس برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)) فقلت: والذي بخيبر ؟ قال (والذي بخيبر) ، قلت : والذي بفدك؟ قال: (والذي بفدك فقلت: أما والله حتى تحزّوا الرقابنا بالمناشير(1).
ولا شك أنّها علمت بذلك فهي لم تخرج لتطالب بفدك وحدها، ولم توبخ المسلمين على عدم نصرتها من أجل استردادها، بل كانت صريحة في خطبتها و وسبب إقامة دعواها، فهي حين تقول في فصلة من خطبتها بعد أن بيّنت ما أنعم الله به على المسلمين من نعمة الإسلام وذكرتهم بما كانوا عليه من شظف العيش وتفاهة الحياة وذلة النفوس(2).
(فلما اختار الله لنبيه دار ،أنبيائه ومحل أصفيائه، ظهرت حسيكة النفاق، وانسمل جلباب الدين، وأخلق عهده، وانتقض عقده، ونطق كاظم، ونبغ خامل، وهدر فنيق الباطل، يخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه، صارخاً بكم، فألفاكم لدعوته مصغين، وللغرّة ملاحظين، واستنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فخطمتم غير إبلكم، وأوردتموها غير شربكم بداراً زعمتم خوف الفتنة ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾(3)هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يُقبر.
ص: 143
هيهات منكم، وأين بكم، وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم زواجره قاهرة وأوامره لائحة وأدلته واضحة وأعلامه بينة أرغبة - ويحكم - عنه﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾(1) .
ثم لم تريثوا بعد اجتهاد، إلا ريثما سكنت ،نفرتها، وأسلس قيادها، تسترون حسواً في ارتغاء، ونحن نصبر منكم على مثل وخز المدى، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ولا حظ ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهَ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ (2).
ثم إنها ليها قد عاشت تلك الأيام التي أوصى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فيها أصحابه في حياته برعايتها ومؤدتها فخالفوه ولم يمتثل إلا القليل ممن امتحن الله قلبه بالإيمان، أما الرموز التي برزت على الساحة من بعده، فكانت معلنة للمخالفة، بالرغم من التهديد والوعيد في كتاب الله تعالى لمن يخالف أمره كقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(3).
ص: 144
فهل نسيت فاطمة(عليها السلام)يوم دعاهم - وهم مجتمعون عنده في الحجرة - ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، فخالفوه أمره، وقال قائلهم كلمته النابية الجافية (إنّ الرجل يهجر ! ) (1)؟
و هل نسيت لنعنه(صلی الله علیه وآله وسلم) من تخلف عن جيش أسامة، وقد سمّى أناساً بأسمائهم ليخرجوا في ذلك الجيش وكان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسمى آخرين من وجوه الصحابة، فلم يخرجوا؟
أم هل خفي عنها ما طرحه القوم بعد وفاة أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) من إنكارهم الوصية(2)، وأنه قد ترك الأمر للأمة في سياسة الرعية؟
كل ذلك كان بمرأى منها ومسمع، وهي تعلم جيداً عواقب ذلك الخلاف، وماذا سينجم عنه من مآسي وويلات تطال الأمة جميعاً، فهي جنها كانت بدافع الحرص على سلامة الأمة من شرور الأهواء وخطل الآراء تعلن عن نهج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)الذي أمر بالتزامه، وبينه لهم قولاً وعملاً منذ يوم غدير خم حين نصب عليّاً إماماً وهادياً من بعده وقرن موالاته بموالاته ومعاداته بمعاداته، وهذا ما سمعه كل من كان في ذلك
ص: 145
اليوم وهم مائة ألف أو يزيدون، وأقام ثلاثة أيام فلم يريم، يأمرهم بمبايعة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وشاعره حسّان بن ثابت يهتف قائلاً:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟*** فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا*** ولم تلق منّا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنّني*** رضيتك من بعدي إماماً
فمن كنت مولاه فهذا وليّه*** فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللّهمّ وال وليّه *** وكن للّذي عادى عليّاً معاديا(1)
وهي(عليها السلام)إنّما تذكّرهم بآيات الله البينات، وما أنزل الله تعالى من ترغيب وترهيب في اتباع أوامر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)و الإنزجار عن نواهيه حرصاً على سلامتهم ، ومَن منهم ينكر ما أنزل الله في ذلك اليوم من قرآن يتلى إلى يوم القيامة ، وهو قوله تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ﴾(2)(3)
ص: 146
وهي(عليها السلام) إنّما تبكي حزناً على أبيها صلّى الله عليه وعليها، لأنّها رأت أتعابه كادت أن تذهب أدراج الرياح وإنّ الناس كثير منهم عادت إليهم جاهليتهم، واستزلهم الشيطان فألفاهم لدعوته مصيخين كما مرّ من قولها شاهداً على ما نقول. ولم لا تبكى وقد أحدق الخطر بالمسلمين وداهمهم الأعراب من خارج المدينة، ومن داخلها الذين مردوا على النفاق حتى قال عمرو بن ثابت أبي المقدام(1) :( كفر الناس بعد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إلا أربعة - وفي رواية ابن حجر إلا خمسة -) ومهما يكن العدد فإنّ ذلك يكشف عن عمق الشرخ الذي خلفته السقيفة، والجرح الذي لم يندمل ولن يندمل ، ولولا موقف الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) الحازم بفكره والحاسم بصبره لذهب كل فريق بما يهوى واختفت كلمة الشهادتين في ضبابية الموقف لذلك أغضى عن منازعة القوم على الخلافة يومئذٍ ، وأرجأ الأمر إلى حين حفاظاً على وحدة الكلمة ولم يترك واجبه في نصرة الزهراء(عليها السلام) ، فقد شاركها آلامها وأحزانها لفقد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)كما انها (عليها السلام)لم تترك نصرته في المطالبة بحقه كما في صريح فقرات من خطبها – كما ستأتي – وحتى في
ص: 147
بكائها قد اتخذت منه وسيلة إعلامية تفضح غاصبيها إرثها وغاصبي زوجها حقه وكانت تثير ببكائها العواطف، وتستذرف الدموع ، وتنبه الحس الخامل عند الناس، ولم يخف هذا على الخالفين، فحاولا منعها بحجة انهم لا يقر لهم قرار لبكائها في الليل والنهار، وسألوا الإمام(عليه السلام)أن يسألها إما البكاء ليلاً أو نهاراً، فكانت(عليها السلام)تخرج إلى البقيع وتستظل بظل أراكة هناك عن حرارة الشمس فتبكي أباها فعمدوا إليها فقطعوها فبنى لها الإمام بيتاً سمّي بيت الأحزان، وفي أدبيات التراث الشيعي شواهد عديدة على ذلك، كقول بعضهم :
ومذ ألفت ظل الأراكة لم تطب*** نفوس القوم إلا بقطعها
وقول الآخر:
لا تراني اتخذت لا وعلاها*** بعد بيت الأحزان بيت سرور
فكانت (عليها السلام) بتلك الحال وبالرغم من معاناتها تستنطق الأحاسيس، فتتجاوب معها بالبكاء، وهذا ما يبعث على الأمل والرجاء في يقظة الضمير ولو على أضعف الإيمان. وهذا ما قد حدث، فقد روى ابن الأثير وغيره أنها لها بعد خطبتها الكبيرة انكفأت إلى قبر أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) متمثلة بقول صفية بنت عبد المطلب وقيل أمامة:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطُبُ
ص: 148
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها*** وغاب مذغبت عنّا الوحي
تهضمتنا رجال واستخفّ بنا*** إذ بنت عنا فنحن اليوم نغتصب
أبدت رجال لنا فحوى*** لما فقدت وحالت دونك الكثب(1)
قال الرواة: فما رأينا يوماً أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.(2)
فهذا بعض من إيجابيات خطبتها، فإنّ ندبتها لأبيها عقب خطبتها، والناس بعد على إجتماعهم يتطلعون إليها ماذا بعد لديها، ففاجأتهم بموقفها على قبر أبيها، وتنشدهم رسالتها الشعرية شاكية إليه ما لحق بها من الأذى بعد غيابه عنها، معبّرة عن حرارة فقد الأب ولا يستشعرها إلا من حظي بنعمة الأبوة وحنانها وطعم لسانها. فكان الإمام(عليه السلام) كما قلنا وهو يشارك الصدّيقة حرارة الفاجعة ويشاطرها ألم المصاب الفادح، يعاني مع ذلك الأمرين حرارة غصب الخلافة منه، وهو الذي محلّه منها محل القطب من الرحى، ومرارة الردة التي كادت تغزو المدينة بخيلها ورجلها . فرأى بالموازنة الصحيحة والموفقة الإغضاء عن المطالبة بحقه إلى حين، وينصر كلمة الإسلام الذي هو أوّل من آمن به وضحى في سبيله حتى استوت دعائمه وقام ،قائمه وهذا ما قاله(عليها السلام) في كتابه إلى أهل مصر حين ولى مالك الأشتر عليها:
ص: 149
(أما بعد فإنّ الله سبحانه بعث محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين، فلما مضى(صلی الله علیه وآله وسلم) تنازع المسلمون الأمرين بعده فوالله ما كان يُلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده(صلی الله علیه وآله وسلم)عن أهل بيته، ولا أنهم مُنحوه عنّي من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محقق دين محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولا يتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل ،وزهق، واطمأن الدين و تنهنه )(1) .
فيما قرأنا عن أسباب الخطب، عرفنا ارتباطها الوثيق بأحداث بيعة الفلتة – كما سمّاها عمر وغير عمر، وسمّاها أحمد أمين بالغلطة وهي كذلك وأصدق تعبيراً - فكان ما أصاب الأمة من بعدها من نتائج سيئة لا يتحمل وزرها إلا من باء بها منذ يوم السقيفة وحتى اليوم وإلى يوم القيامة، وقد أشارت الصدّيقة(عليها السلام) في خطبتها الكبيرة والصغيرة إلى جملة
ص: 150
ممّا سيحدث نتيجة ذلك الإنحراف، فأي تعبير صادق كان منها وأيّ إنذار صارخ أبلغ من قولها لنساء المهاجرين والأنصار:
(أما لعمر إلهكنّ، لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً، وذعافاً ممقرا، هنالك يخسرالمبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأوّلون، ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً، وطامنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم و هرج شامل و استبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم، وأنّى بكم، وقد عُميت عليكم، أنلز مكموها وأنتم لها كارهون، والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين إنذار مخيف وقعه كوقع صاعقة عاد وثمود، وتشأوم من مستقبل مظلم بتداعياته ومبتدعاته، إنها نبوءة صادقة من لدن نبي مرسل، وهو عن وحي منزّل﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(1)، فقد كان يسّر إليها ما يخصها به من أسرار الكائنات المستقبلية دون غيرها من أزواج فضلاً عن غيرهن من الحضور، وهذا ما حدثت به عائشة، وهي شاهدة ذلك المشهد.
ص: 151
فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن عروة عن عائشة (رضی الله عنها) قالت : دعا النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فاطمه ابنته في شكواه التي قبض فيها ، فسارّها بشئ فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت، ...(1)
وقد روى مسلم هذا أيضاً بسنده عن مسروق عن عائشة قالت: كن أزواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) شيئاً ، فلما رآها رحّب بها فقال: مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه - أو عن شماله - ثم سارها فبكت بكاءً شديداً، فلما رأى جزعها سارّها الثانية فضحكت فقلت لها:
خصك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) من بين نسائه بأسرار ثم أنتِ تبكين فلما قام رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) سألتها ما قال لك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، سرّه قالت فلمّا توفي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قلت عزمتُ عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، وأنّه عارضه الآن مرتين وإنّي لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقى الله واصبري فإنّه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال : يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة، قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيتِ.
ص: 152
وأعاد مسلم الخبر بسند آخر عن مسروق عن عائشة وفيه: (وإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي)(1).
ولمّا كانت لنا معصومة بنص آية التطهير(2) وصدّيقة بنص قول
النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)(3) فهي حين تقول أمراً غيبياً، فهي تفرغ عن لسان أبيها، وتما علّمها واختصها به فكانت تتلقى ذلك وتكتبه في أوراق جمعتها فسميت بمصحف فاطمة، وهو ليس فيه من القرآن ،آية إنّما اشتمل على علم ما سيكون من أحداث، فهي تخبر عما فيه، ولا بدع في ذلك ولا غرابة.
ألم يكن(صلی الله علیه وآله وسلم) يخبر المسلمين عما سيصيبهم من فتنة؟ ألم يقل لهم: (إنّي أوشك أن أدعى فأجبيب، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير خبّرني انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(4).
ألم يقل لهم : ( إنّي فرطكم على الحوض من مرّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم،
ص: 153
فأقول إنّهم منّي ، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي )(1) .
ألم يقل لهم: (التتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟(2)
ألم يخرج الشيخان عن أسامة بن زيد قال : أشرف النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) على أطم من آطام المدينة فقال : (هل ترون ما أرى؟) قالوا لا، قال: (فإنّي أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر )(3).
ولقد كان من هو دون فاطمة شأناً يعلمه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من المغيبات فهذا حذيفة بن اليمان يقول : (كان الناس يسألون رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني؟ فقلت: يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشرّ فجاء الله بهذا الخير. فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَن ، فقلت : وما دخنُه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف
ص: 154
منهم وتنكر فقلت هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها .
فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
قلت :يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ فقال: فأعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وهذا الذي حدّث به حذيفة فقد أدركه وابتلي بما ابتلي به عامة المسلمين حين انحرفوا عن نهج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ولنقرأ حديثه الآخر قال: كنا مع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): فقال : أحصوالي كم يلفظ الإسلام؟ قال: فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة والسبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا، قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلّي إلا سترا)(1).
وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة أيضاً قال: (أخبرني رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شئ إلا وقد سألته، إلا أني لم أسأله ما يُخرج أهل المدينة من المدينة؟(2).
ص: 155
وحذيفة هذا هو صاحب سر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) في معرفة المنافقين ، فكان يقول ( ما من صاحب فتنة ... ألا ولو شئت أن أسميه باسمه واسم أبيه ومسكنه إلى يوم القيامة ، كل ذلك مما علمنيه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ولو أحدثكم بما أعلم لافترقتم عليّ ثلاث فرق : فرقة تقاتلني ، وفرقة لا تناصرني ، وفرقة تكذبني ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعنه في كنز العمال برقم (31327).
ولم يكن حذيفة وحده الذي أخبره النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بغيب الكائنات من بعده، فقد روى عمرو بن أخطب الأنصاري قال : (صلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)يوماً الفجر، وصعد على المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلّی ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلّى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: فأعلمنا أحفظنا)(1).
إذن فلا غرابة فيها أنذرت به سيدة النساء فاطمة(عليها السلام)أمة أبيها، تما سيصيبها من البلاء، ويحدق بأقطارها نتيجة الإعراض عمّا نهجه لهم خاتم الأنبياء (صلی الله علیه وآله وسلم).
فمن العدل والإنصاف ، وبعيداً عن التعنت والاعتساف، ومن دون اشتطاط في الحكم أو تفريط أو افراط فلتقرأ الخطب بوعي وإمعان،
ص: 156
المعرفة ما فيها من فصاحة ،بيان وقوّة ،برهان فالخطوط البيانية العريضة التي رسمتها الصدّيقة(عليها السلام)في خطبتها الكبيرة في ثلاثة محاور مهمة: أولها: ما تعلّق بالتشريع سراً وحكمة وعلة وبياناً، إمتثالاً وعصياناً، في العبادات والمعاملات والأخلاق.
ثانيها : ما تعلّق بالمجتمع المسلم من مهاجرين وأنصار، وماذا لهم في الإسلام من حقوق وماذا عليهم من واجبات فهم إذ نالوا حقوقهم ونعموا بها بفضل الإسلام الذي جاء به أبوها، فا بالهم قصروا في الواجبات عليهم أزاءها ، فقد تركوها لذلك عذلتهم وما عذرتهم وعنقتهم بما وسع المقام من قوارص التعنيف.
ثالثها: ما تعلّق بالجدل السياسي مع أبي بكر ومطالبته بالنحلة ثم بالميراث ثم بسهم ذوي القربى وفي كل ذلك تدلي بحجتها، وتقارعه سوط عتاب بلهجتها، فقصر عن مجاراتها، فاستظهر عليها بقوّة المخاتلة والمخادعة وزيف الحديث وفوق ذلك بقوة السلطة.
ومن ثنايا خطبها نعرف زيف ما أشيع وأذيع بعد ذلك التاريخ من زعم الاختيار، وخدعة ،الشورى وكذب الفلتة، وقد كشفت حقيقة المعادلة المنظورة يومئذ بين المهاجرين والأنصار في تنازعهم الحكم والمساومة (منا الأمراء ومنكم الوزراء) وإنّما كانت خداعاً في خداع لاقتناص السلطة ونتيجة تآمر سابق وأمر قد دبر بليل كما يقول المثل.
ص: 157
وإذا تجرّد الإنسان من رواسبه وفكر جيدّاً في تاريخ تلك الحقبة، كما رواه المؤرخون وعاش أجواء تلك الخطب التي تلتها الصدّيقة الزهراء في ذلك المجتمع يومئذ يجدها حقبة مليئة بالمفارقات وتاريخها ملئ بالمغالطات، وأصدق الأنباء ما قالته سيدة النساء، فقد قالت ما كشف الزيف من خلال ما لحقها من الحيف فخطبها بحق تعتبر وثائق متكاملة تحكي واقعاً مريراً وتنذر الأمة شراً مستطيرا، وهذا ما حدث، ولم يكن يومئذ من يملك قدرتها وقوتها على ما بها من ضعف الجسم والمزاج واعتلال الحال ولكنها مع ما بها من آثار الحزن ،والمرض تنبعث من موقف قوة، تقيم الحجة، وتسوق البرهان، وتكيل العتب، وتنحي باللائمة، وتأتي بالدليل تلو الدليل، وتخاطب الخالف خطاب ازدراء فتقول لأبي بكر وهو الخليفة (يا بن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي) وتقول له: (لقد جئت شيئاً فرياً فدونكها مخطومة ،مرحولة، تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكلّ نبأ مستقر وسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) وهذا ما حدا بابن أبي الحديد المعتزلي أن يقول: لم يكن ذلك اليوم - أعني يوم حضور فاطمة(عليها السلام)، وقولها لأبي بكر ما قالت - يوم تقية وخوف، وكيف يكون يوم تقية وهي تقول له - وهو
ص: 158
الخليفة - يابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي، وتقول له : لقد جئت شيئاً فرياً)(1) .
(أقول) وبموقفها يومئذ نسفت الكثير من المفاهيم الخاطئة التي أشاعها الإعلام السلطوي يومئذ ومن بعد ذلك.
وتبين منذ ذلك الموقف زيف الدعاوي التي قيلت أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) مات ولم يوص إلى أحد، وبدت تثمر خطبها (عليها السلام) ثمارها، من خلال تعالي أصوات الاستنكار، بدءاً من بني هاشم كما ستأتي الشواهد على ذلك، ولا غرابة لو انتصر الهاشميون للزهراء(عليها السلام)في موقفها من خلافة أبي بكر، فلم يبايعوه إلا بعد مبايعة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وذلك بعد موت الصدّيقة بستة أشهر كما في رواية البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة وبعد أن أعرض الناس عن الإمام(عليه السلام) بعد موت الصديقة(عليها السلام)فكان الحصار الإجتماعي عليه وعلى بني هاشم هو الذي اضطره إلى المبايعة، مضافاً إلى تأزم الموقف بسبب الردة.
كما لا غرابة لو تكاثرت أصوات النكير بعد ذلك حتى صار يوم السقيفة مضرب الأمثال لكل أساس فُرقة وأقتناص سلطة، وقيل في الأحداث التالية، إن ذلك من يوم السقيفة ونظرة عابرة على تاريخ تلك الحقبة التي عاشتها الصديقة(عليها السلام) بآلامها، نجد من بني هاشم رجالاً
ص: 159
ونساءاً تسابقاً في أستنكار بيعة أبي بكر علانية بين جماهير المسلمين وفي مجامع حشدهم.
فهذا العباس بن عبد المطلب قال حين بويع لأبي بكر
ما كنت أحسب أن الأمر*** عن هاشم ثم منها عن أبي
أليس أول من صلّى لقبلتكم*** وأعلم الناس بالآثار والسنن
وأقرب الناس عهداً بالنبيّ ومَن*** جبريل عون له في الغُسل
من فيه ما في جميع الناس كلّهم ***وليس في الناس ما فيه من
ماذا الّذي ردّكم عنه فنعرفه*** ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتن(1)
وهذا ابنه الفضل بن العباس قال: (يا معشر قريش وخصوصاً يا بني تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها دونكم.. وانا لنعلم ان عند صاحبنا عهداً وهو ينتهي إليه)(2).
وفي ترجمة الإمام في الاستيعاب نسبت الأبيات السابقة إليه، كما نسبت إلى عتبة بن أبي لهب في تاريخ اليعقوبي في خبر السقيفة.
وهذا العباس بن عتبة اللهبي أعلن عن المأساة بقوله:
من مبلغٌ عنا النبيَّ محمّداً*** انّ الورى عادوا إلى العدوان
ص: 160
إنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا*** لم يعدلوا إلّا عن الإيمان
غصبوا أمير المؤمنين مكانه ***واستأثروا بالملك والسلطان
بطشوا بفاطمة البتول وإحرَزوا*** ميراثها طعنا على القرآن(1)
وما كانت نساء الهاشميات بأقّل رفداً ونصرة للزهراء(عليه السلام) من رجالهن، فهذه صفية بنت عبد المطلب خرجت وهي تلمع بثوبها - يعني تشير به وتقول : - عند قبر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم):
قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لوكنت شاهدها لم تكثر
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلَها*** واختلّ قومك فأشهدهم فقد
قد كان جبريلُ بالآيات يؤنسنا*** فغاب عنا فكلّ الخير محتجب
وكنت نوراً وبدراً يُستضاء به *** عليك تنزل من ذي العزة
فقد رزئنا بما لم يرز ذو شجن*** من البرية لا عجمٌ ولا عرب (2)
وقد تمثلت الصدّيقة ببعض هذا الشعر عندما يئست من نصرة الأنصار وقد خذلها المهاجرون فانعطفت على قبر أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) قائلة:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختلّ قومك فأشهدهم ولا
وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتاً ثالثاً:
ص: 161
فليت بعدك كان الموت صادفنا*** لما قضيت و حالت دونك
وتوالت نفثات الاستنكار لبيعة السقيفة من بني هاشم رجالاً ونساءاً من يومها الأول كما قدمنا، وبقي الاستنكار لدى أولادهم وأحفادهم يظهرون غضبهم على من غصب الخلافة منهم، وحرمهم من حقوقهم التي فرضها الله لهم.
فقد روى ابن أبي الحديد -في شرح النهج - عن أبي بكر محمّد بن عبد العزيز الجوهري - صاحب كتاب السقيفة - بسنده عن داود بن المبارك قال : أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ونحن راجعون من الحجّ في جماعة، فسألناه عن مسائل، وكنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر وعمر فقال : سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال : كانت أمي صدّيقة بنت نبي مرسل، فماتت وهي غضبي على إنسان، فنحن غضاب لغضبها، وإذا رضيت رضينا(1).
وجاء في مطلع البدور(2) في ترجمة علي بن حمزة بن وهاس (ومن شعره البيتان السائران في آل محمّد مسير الأمثال :
يا أبا حفص الهويني وما*** كنت مليّا لولا الحمام
أتموت البتول غضبى ونرضى*** ما كذا يصنع البنون الكرام
ص: 162
وجاء في الهامش: ( وقد روي معناهما لكامل أهل البيت - ويعني به محمّد النفس الزكية ابن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى - والإمام القاسم بن إبراهيم عليا - وهو القاسم الرسي – وهو قولها لمن سألهما قول أهل البيت في شأن فاطمة الزهراء والمشائخ، فقالا: كانت لنا أم صدّيقة ابنة صدّيق ماتت غضبانة ونحن غاضبون لغضبها).
ولابن عباس كلام مع معاوية حين سأله عن وجه ادعاء بني هاشم أمر الخلافة دون غيرهم فقال ابن عباس : (ندعي هذا الأمر بحق من لولا حقه لم تقعد مقعدك هذا ونقول كان ترك الناس أن يرضوا بنا ويجتمعوا علينا حقاً ضيّعوه وحظاً حُرموه.... فأما الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله(عليه السلام) فعهدٌ منه إلينا، قبلنا فيه قوله، ودنا بتأويله، ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه ولا يعاب أحد على ترك حقه، إنّما العيب من يطلب ما ليس له وكل صواب نافع وليس كل خطأ ضار. انتهت القضية إلى داود وسليمان فلم يفهمها داود وفهمها سليمان ولم يضر داود..).
إذن فلولا خطبة الصدّيقة في مسجد أبيها على ملأ من المسلمين لما بقى ما يثبت حقاً لأهل البيت(عليهم السلام)أو يميط عنهم باطلاً، لأن التعتيم الإعلامي السلطوي كان قد شق طريقه إلى النفوس تدعمه الرشاوى، والنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وباعة الضمائر يسيل لعابهم للأصفر الرنّان، وقليل ما هم أمثال تلك العجوز الأنصارية من بني
ص: 163
عدي بن النجار التي رفضت ما بعث به إليها أبو بكر من مال وقالت: أتراشونني عن ديني)(1).
وقد أيقظت السيدة الزهراء(عليها السلام)بخطبتها بعض الضمائر، فتحركت تلك الضمائر على استخذاء واستحياء فهتفت الأنصار باسم علي(عليه السلام) وكانت يقظة متأخرة، ونصرة فاترة، لذلك رفضتهم الصديقة(عليها السلام)موبخة إياهم بعنف حين قال قائلهم :( لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يُبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره) فصفعتهم على وجوههم الشوهاء صفعة الإزدراء قائلة: إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم)(2).
وفي رواية الطبري الإمامي قال لها رافع بن رفاعة الزرقي وقد تبعها :( يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن تكلّم في هذا الأمر وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ما عدلنا به أحداً فقالت بردنها: إليك عني فما جعل الله لأحد بعد غدير خم من حجة ولا عذر) .
بعد هذا الموقف الرهيب ، الذي كشفت فيه زيف المبطلين في مزاعمهم و تركت القضية بتمام حجمها ودلالتها ، وما سوف يتبعها من تداعياتها أمام جميع المسلمين ، منذ يوم أصحرت بها وستبقى إلى يوم يبعثون ، يعيشها كل مسلم واع داخل ضميره فيفرّق بين الحق والباطل ، ثم هو
ص: 164
ليحاسب نفسه أمام هذه القضيّة ، لمعرفة المحقّ من المبطل ، فإن الله تعالى يقول : ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (آل عمران / 154)
ولا شك أن قلب المؤمن غير قلب المنافق، وان جمعتهما هوية الإسلام ولكن الله ليميز الخبيث من الطيب فلا بد لهما من امتحان ، فقد قال سبحانه :﴿ ألم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (1)
ص: 165
من الطبيعي أن يكون للباحث في التراث الشيعي كبير الأمل بكثرة مصادر النصّ للخطب الفاطمية، أكثر مما حفلت به مصادر التراث السنّي ، ولكن لدى التحقيق ومقارنة ما بين التراثين في فترة ما بين العهدين - عهد الصدور وعهد آخر المسطور - نجد التفاوت غير ذي بال، خصوصاً إذا لاحظنا الرواة في مصادر التراثين، حيث تتداخل الأسماء فيهما، ويروى كل تراث عن رجال التراث الآخر، ولعلّ الغرابة أن نجد التراث الشيعي يرجع في أصوله الأولى إلى مصدرين قديمين من مصار التراث السنّي وهما بلاغات النساء لابن طيفور وكتاب السقيفة للجوهري كما سيأتي الحديث عنهما، مع أنا نجد فيه ذكر اهتمام أهل البيت الله برواية الخطب الفاطمية، فكانوا يتداولونها حفظاً ويأمرون أبناءهم بحفظها، فلماذا إذن الرجوع إلى مصادر التراث السنّي مع الغنى عنه برواية الخطب بالأسانيد الشيعية؟ سؤال يفرض نفسه، ولكن الجواب بكل بساطة إنّما ذلك من باب إلزام الخصم المعاند، المشكك في صحة الصدور. فإذا ما اتفقت رواية الفريقين للنصّ، يحصل اليقين بصحة المروي، ولا مجال للطعن والتشكيك، كما لا معنى للتحوير والتزوير في المضامين لصراحتها التي تأبى التفسير بغير ما هو صريح العبارة بلا تعتيم أو إشارة.
ص: 166
والآن إلى القارئ ذكر من روى الخطبة الكبيرة بفصولها الثلاثة أو بعضها، ثم نذكر من روى الخطبتين الأخريين بعد ذلك:
رواة الخطبة الكبيرة وهم بحسب تسلسلهم الزمنى .
1 - الشيخ الجليل محمد بن جرير الطبري الإمامي من أعاظم علماء الإمامية في القرن الخامس، فقد أخرج الخطبة بتمامها في كتابه دلائل الإمامة (1)بستة أسانيد، تنتهي إلى ابن عباس وإلى زينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام). وإلى عبد الله - المحض - ابن الحسن المثنى - ابن الحسن السبط عن آبائه.
وإلى زيد بن علي بن الحسين عن آبائه وسيأتي ما يتعلّق برجال هذه الأسانيد في الباب الرابع في محاور التوثيق.
2 - الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي المتوفى سنة 381 أخرج الفصل الأوّل من الخطبة - المتضمن بيان علل الشرائع وأصول الأحكام - في كتابه علل الشرائع بثلاثة أسانيد تنتهي إلى زينب بنت علي ، وسيأتي النص عنه في النصوص المختارة.
3 - أبو عبد الله محمّد بن عمران المرزباني (ت 384) روى الفصل الثاني من الخطبة قال: حدثني محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثني أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي، قال: حدثنا الزيادي قال: حدّثنا شرقي بن
ص: 167
قطامي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: لما بلغ فاطمة(عليها السلام)اجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها ...
قال المرزباني: وحدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي، قال: حدثنا أبو العيناء محمّد بن القاسم اليمامي قال: حدثنا ابن عائشة قال: لما قبض رسول الله هلال الليل و أقبلت فاطمة(عليها السلام)في لمة من حفدتها ... - وذكر تمام الفصل الثاني من الخطبة - . ثم ساق المرزباني ما اتفقت عليه روايتا عروة عن عائشة وأبي العيناء عن ابن عائشة، إلى قولها لها : (وأنتم في رفاهة فكهون آمنون وادعون) قال المرزباني إلى هاهنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة. وزاد عروة عن عائشة (حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه... وذكر باقي الفصل برواية عروة عن عائشة... وسيأتي بقية الكلام للمرزباني حول توثيق الخطبة في الباب الرابع في محاور التوثيق.
4 - أبو سعد منصور بن الحسين الآبي(ت 421) روى من الخطبة الفصل الثاني والثالث في كتابه نثر الدر(1).
5 - الشريف المرتضى (ت 436 )أخرج الفصل الثاني من الخطبة بروايته عن المرزباني السابق ذكره بأسانيده المذكورة آنفاً(2).
ص: 168
6 - الشيخ الطوسي (ت 460 ) (1)- أخرج - ما ذكره الشريف المرتضى - في كتابه تلخيص الشافي .
7 - الشيخ الطبرسي ( من أعلام القرن السادس) روى تمام الخطبة في كتابه الاحتجاج(2).
8 - السيد ابن طاووس (ت 664) روى الخطبة في كتابه الطرائف(3).
9 - علي بن عيسى الإربلي (ت 692) روى الخطبة بتمامها في كتابه كشف الغمة(4) . وهو نقلها عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلّفها في ربيع الآخر سنة 322 ه_ . وهناك مصادر أخرى كثيرة، نقل عنها الشيخ المجلسي في بحار الأنوار(5) وقد تناولها جمع بالشروح والتعليق(6).
وأما مصادر الخطبة الثانية في التراث الشيعي فلاحظ :
1 - معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ت 381) .
2- دلائل الامامة للطبري الامامي من علماء القرن الخامس الهجري.
ص: 169
3- نثر الدر للوزير الدبي.
4 - كشف الغمة للإربلي.
5- الاحتجاج للطبرسي .
وأما مصادر الخطبة الثالثة ففي امالي الشيخ الطوسي ج 1 / 384 ط النعمان.
ص: 170
(فإنّها من محاسن الخطب وبدايعها عليها مسحة من نور النبوة، وفيها عبقة من أرج الرسالة، وقد أوردها المؤالف والمخالف) هكذا تحدث عنها الإربلي (ت 692 )وقد أوردها في كتابه كشف الغمة نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلّفها في ربيع الآخر
سنة 322 روى عن رجاله من عدة طرق.
ولا امتراء في توثيق الجوهري وأنّه عالم محدث كثير الأدب ثقة ورع أثنى عليه المحدّثون، ورووا عنه مصنفاته كما قاله ابن أبي الحديد وهو قد روى الخطبة عن عمر بن شبة، وهذا أيضاً وثقه الدارقطني وابن أبي حاتم والخطيب وغيرهم كما في تهذيب التهذيب 7 / 460 ،وذكرنا في كتاب المحسن السبط نقل ما قالوه فيه أيضاً وذكرنا أن وفاته كانت في جمادى الآخرة سنة (262) ، فيعد هو أوّل من وصلت إلينا الخطبة عن طريقه من التراث السنّي، ومن بعده يأتي ابن طيفور (ت 380) فقد رواها في بلاغات النساء، بإسناده كما سيأتي ذكره في النصوص(1) - وثالث القوم - بعد عمر بن شبة وابن طيفور - هو ابن قتيبة (ت 276) فقد أشار إلى
ص: 171
الخطبة في كتابه ( غريب الحديث)(1) فقال : لمة الرجل من النساء مثله في السنّ. ومنه قيل في الحديث الموضوع على فاطمة رحمها الله، إنها خرجت في لمة من نسائها تتوطأ ذيولها، حتى دخلت على أبي بكر فكلمته بذلك .الكلام. وقد كنت كتبته وأنا أرى أن له أصلاً، ثم سألت عنه رجال الحديث فقال لي بعض نقلة الأخبار: أنا أسنّ من هذا الحديث وأعرف من عمله !
أقول: ليت ابن قتيبة سمّى لنا من ذا الذي سأله من رجال الحديث؟
وما اسم ذلك البعض من نقلة الأخبار الذي قال له هو أسن من الحديث؟ ثم لماذا لم يسمّ له من عمله ما دام يزعم معرفته؟
وأخيراً ما دام قرّ عند ابن قتيبة أنه موضوع معتمداً على مقالة مجهول عن مجهول، فلماذا استشهد به ما دام موضوعاً؟
والغريب أن يقول ابن قتيبة ذلك، ومعاصره ابن طيفور ذكر الخطبة في کتاب ( بلاغات النساء) وهو كتاب مطبوع بمصر قبل قرن تقريباً، ثم ان ابن قتيبة ذكر بعدما تقدّم أنّ فاطمة(عليها السلام)قالت بعد موت أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر
ص: 172
إنّا فقدناك فقد الأرض*** واختل قومك فأشهدهم (1)
وهذا الكلام قالته بعد كلامها الذي زعم أنه موضوع فعمن رواه؟ ولماذا ذكره ؟
والرابع من رواة الخطبة في تصانيفهم هو أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري المتوفى سنة 323(2) المشار إليه آنفاً فقد روى الخطبة في كتابه السقيفة، وعنه نقلها الإربلي كما تقدم.
ورواه ابن أبي الحديد في شرح النهج نقله عن الجوهري(3) .
والخامس أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي الشافعي المتوفي (346) رواها في كتابه أخبار الزمان كما أشار إلى ذلك في كتابه مروج الذهب فقال: ( في آخر أخبار أبي بكر وقد أعرضنا عن ذكر كثير من الأخبار في هذا الكتاب طلباً للاختصار والإيجاز فيها.... وعدد أموراً كثيرة إلى أن قال .... وما كان من فاطمة وكلامها متمثلة حين عدلت إلى قبر أبيها(عليه السلام)من قول صفية بنت عبد المطلب :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب(4)
ص: 173
والسادس أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الأصفهاني المتوفى سنة 410 أخرج من الخطبة الكبيرة الفصل الثاني وهو ما جرى لها مع أبي بكر دون الفصل الأوّل في محاسن التشريع وعلل الأحكام، ودون الفصل الثالث في كلامها مع الأنصار.
ورواها عنه أخطب خوارزم الحنفيت 568(1) وهو :
السابع من رواة الخطبة ، وقد روى منها الفصل الثاني فقط بإسناده .
والثامن من رواة الخطبة ابن الأثير أبو السعادات المبارك بن محمّد المتوفى سنة 606 رواها في كتابه منال الطالب في شرح طوال الغرائب وستأتي صورة ما عنده وقد ضمت الفصلين الأخيرين دون الفصل الأوّل الذي هو في حكمة التشريع وقال : افتتحت الكلام بالحمد لله والثناء عليه، والصلاة على رسوله في كلام طويل من الثناء والتحميد(2).
والتاسع سبط ابن الجوزي المتوفى سنة 654 ه_ روى عن الشعبي مرسلاً شيئاً من الخطبة وستأتي روايته الكاشفة عن صورته الكاسفة.
والعاشر عبد الحميد بن أبي الحديد المتوفى سنة 655 روى الخطبة مرتين أولاهما نقلاً عن كتاب فدك والسقيفة للجوهري وستأتي روايته وثانيتهما
ص: 174
برواية الشريف المرتضى في الشافي بإسناده، وستأتي روايتهما معاً عند ابن أبي الحديد للتفاوت فيما بينها في بعض الألفاظ.
والحادي عشر ابن الدمشقي الباعوني المتوفى سنة 876 روى من الخطبة الفصل الثاني في كتابه جواهر المطالب(1).
وأخيراً لا آخراً وهو الثاني عشر عمر رضا كحالة في كتابه أعلام النساء ذكر ترجمة السيدة فاطمة بنت محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب لا اله الا الله ، وذكر الفصلين الثاني والثالث من الخطبة الكبيرة وتمام الخطبة الثانية(2).
ولم تخل الترجمة من رواسب الهمهمة والغمغمة، كما أنّه لم يكن هو الوحيد من المتأخرين الذين ذكروا من الخطبة الفصلين الثاني والثالث معاً، فثمة جماعة من الكتاب الباحثين المحدثين ذكروا ذلك:
1 - فمنهم الكاتب المصري الشهير عباس محمود العقاد(3). وذكر من الخطبة فصلها الثاني ثم الثالث وحسبهما روايتين لخطبة واحدة وفاته أنهما فصلان من خطبة واحدة نقلاً عن بلاغات النساء، وله تعقيب عليها سيأتي في الباب الرابع في محاور التوثيق في الأسلوب.
2 - ومنهم توفيق أبو علم(4).
ص: 175
3- ومنهم أحمد حسين يعقوب(1).
4 - ومنهم عبد المنعم حسن(2).
5 - ومنهم طارق بن زين العابدين(3).
6 - ومنهم محمّد محمد بيومي المصري(4).
ومنهم ومنهم... إلى غير هؤلاء.
فأقدم من رواها أحمد بن أبي طاهر ابن طيفور (ت 280) في المختار الثالث مما اختاره من كلام الصدّيقة(عليها السلام)(5)، قال: وحدثني هارون بن مسلم بن سعدان عن الحسن بن علوان عن عطية العوفي قال: لما مرضت فاطمة (عليها السلام).
ورواها أبو بكر محمد بن عبد العزيز الجوهري (ت 323) في كتابيه السقيفة وفدك، وهو رواها عن محمد بن زكريا (وهو الغلابي المتوفى سنة
ص: 176
298) عن محمّد بن عبدالرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين (عليه السلام). وقد رواها ابن أبي الحديد (1).
وقد مرّ في مصادر هذه الخطبة في التراث الشيعي روايتها عن بعض رجال العامة، فلاحظ معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ت 381) ودلائل الإمامة للطبري ونثر الدر للوزير الآبي والاحتجاج للطبرسي وكشف الغمة للإربلي (ت 692) وغيرهم.
وهي كلامها مع عائشة بنت طلحة، وهذا لم أقف عليه في مصدر من التراث السنّي بل هي مروية في التراث الشيعي كما مرّ(2).
ص: 177
لقد سبق منا في المبحثين السابقين ذكر مصادر الخطب الفاطمية في التراث الإسلامي - الشيعي والسني - وتبين أن القطبين يتجاذبان الخطب رواية وتسجيلا، وكادا أن يكونا متقاربين في العرض والعدد وفي كل منهما ما هو مسلسل الإسناد منذ صاحب الكتاب وحتى الرواة الأوائل، ومَن رواها مرسلة فإنّما ذلك، لثبوتها لديه، لأنّ شهرتها تغنيه عن ذكر السند.
وأنا الآن أمامي صور مجموعة النصوص من مصادرها المطبوعة في التراثين ونظراً لكثرتها، ووحدة ما فيها إجمالاً - وان تفاوت النص فيها أحياناً - سأختار من التراث الشيعي نصاً واحداً، وهو في أقدم ما وصل إلينا من المصادر في التراث الشيعي وصاحبه من رجال القرن الخامس الهجري، وهو محمّد بن جرير الطبري الإمامي، ويمتاز بذكره أسانيده لرواية الخطب، وهي تسعة أسانيد ساقها بتفصيل، زيادة في التوثيق وستأتي أسماء رجالها في الباب الرابع في محاور التوثيق، وقفة مع الاسناد، ولم أجد في جملة المصادر في التراثين من ضاهاه في هذه الناحية، فقد يذكر المؤلّف سنداً واحداً أو سندين ولا يتعداهما أمّا الطبري الإمامي فقد جاز القنطرة - إن صحّ التعبير - وأتى بما لم نجده عند غيره. ثم أذكر ما عند
ص: 178
الشيخ الصدوق من شرح الخطبة الثانية. واتبعه بما في أمالي الشيخ الطوسي من كلامها(عليها السلام)مع عائشة بنت طلحة.
أمّا عن التراث السنّي فأعرض أمام القارئ خمسة نصوص مصوّرة عن مصادرها المطبوعة، دفعاً للشك والشبهة، ولئلا يقول متنطع هلا أتيت بها إن كنت صادقاً، أو انك أتيت بها محوّرة ومزّورة، وهذه نغمة شاعت في العصور المتأخّرة، وتلك بلية المفلسين إذا أبلسوا عند قيام الحجة فليس لديهم إلا الإنكار والإستكبار ، ولو أنهم آمنوا واتبعوا الحق لكان خيراً لهم، ولكنّ حبائل الشيطان تردي الإنسان.
والنصوص التي سأعرضها مصوّرة عن مصادرها هي:
1 - رواية الشعبي (ت 103 ، 104، 105، 106، 107) ، وقد ذكرها سبط ابن الجوزي (ت 654 )مرسلاً في كتابه تذكرة الخواص وهي على اختصارها تنبئ عن وقاحة الشعبي لعدم روايته فصل الخطبة كما هو، وقباحة فعل السبط إذ اختار هذه الرواية المرسلة دون بقية الروايات المسندة التي هي أكمل منها .
2 - صورة النص عن كتاب ( بلاغات النساء لابن طيفور (ت 280).
3- صورة النص عن كتاب (السقيفة) للجوهري (ت 323) برواية ابن أبي الحديد الشافعي في شرح نهج البلاغة وما عقب به من كلام يكشف عن تعصبه المقيت على من خالف هواه.
ص: 179
4 - صورة النص عن كتاب مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي (ت 568 )
5 - صورة النص عن كتاب (منال الطالب )لابن الأثير (ت 606).
6 - صورة النص عن كتاب أعلام النساء لعمر رضا كحالة وسأذكرها وما كتبه في ترجمتها كما هو .
وإنّما أكثرت من ذكر الصور من التراث السنّي دون الشيعي ، لأن أكثر المشككين هم من السنّة، فكثرة صورها ومن مصادرها السنّية أبلغ في إقامة الحجة من باب من فمك أدينك ولو أنّ المشكك أنصف نفسه وتلا الخطب بإمعان، لآمن بصحتها لبلاغتها وفصاحتها، كما سيأتي مزيد بيان عن هذا الجانب في الباب الرابع في روعة الاسلوب وقوة الحجة.
والآن إلى مختار النصوص من التراث
ص: 180
(دلائل الإمامة) لأبي جعفر محمّد بن جریر بن رستم الطبري من أعاظم علماء الإمامية في المائة الخامسة .
حديث فدك
حدّثني أبو المفضل محمّد بن عبد الله ، قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عثمان بن سعيد الزيات، قال: حدثنا محمّد بن الحسين الغصباني، قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي السكوني، عن أبان بن عثمان الأحمر، عن أبان بن تغلب الربعي عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما بلغ فاطمة (عليه السلام) إجماع أبي بكر على منع فدك...
وأخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدثنا أبي(رضی الله عنه) ، قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال حدّثني محمّد بن المفضل بن إبراهيم بن المفضل بن قيس الأشعري قال: حدّثنا عليّ بن حسان عن عمه عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد(عليه السلام) عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن عمته زينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) ، قالت لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة(عليها السلام)فدكاً...
قال أبو العباس: وحدثنا محمد بن المفضل بن إبراهيم الأشعري، قال:
ص: 181
حدّثني أبي، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عمرو بن عثمان الجعفي، قال: حدّثني أبي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن عمته زينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وغير واحد أن فاطمة لما أجمع أبو بكر على منعها فدكاً...
وحدّثني القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر بن سهل ابن حمران الدقاق، قال: حدثتني أم الفضل خديجة بنت محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قالت: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الصفواني، قال: حدّثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري، قال: حدّثنا محمّد بن زكريا قال: حدثنا جعفر بن عمارة الكندي، قال: حدّثني أبي، عن الحسن بن صالح بن حي - قال : وما رأت عيناي مثله - قال: حدثني رجلان من بني هاشم، عن زينب بنت عليّ(عليه السلام) قالت: لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منع فدك، وانصراف وكيلها عنها، لاثت خمارها ... وذكر الحديث.
قال الصفواني: وحدثني محمّد بن محمد بن يزيد مولى بني هاشم، قال: حدثني عبد الله بن محمّد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عن عبد الله بن الحسن بن الحسن عن جماعة من أهله... وذكر الحديث.
ص: 182
قال الصفواني: وحدثني أبي، عن عثمان(1)، قال: حدثنا نائل بن نجيح عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر(عليه السلام) عن آبائه وذكر الحديث.
قال الصفواني: وحدّثنا عبد الله بن الضحاك(2)، قال : حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه وعوانة(3).
قال الصفواني: وحدثنا ابن عائشة(4) ببعضه.
وحدّثنا العباس بن بكار،قال: حدثنا حرب بن میمون، عن زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام)، قالوا : لما بلغ فاطمة (عليها السلام)إجماع أبي بكر على منعها فدك، وانصراف عاملها منها، لاثت خمارها، ثم أقبلت في لمّة(5) من حفدتها(6) ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشية رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ،
ص: 183
حتى دخلت على أبي بكر ، وقد حفل حوله المهاجرون والأنصار، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت حتى هدأت فورتهم، وسكنت روعتهم، افتتحت الكلام فقالت:
(( أبتدئ بالحمد لمن هو أولى بالحمد والمجد والطول، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم والثناء على ما قدم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وإحسان منن والاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأى عن المجاراة أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، استدعى الشكور بإفضالها(1)، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ،وأمر بالندب إلى أمثالها .
وأشهد أن لا إله إلا الله كلمة جعل الاخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأبان في الفكر معقولها الممتنع من الأبصار رؤيته ومن الألسن صفته، ومن الأوهام الإحاطة به، ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة [امتثلها ](2)، وضعها(3) لغير فائدة زادته، بل إظهاراً لقدرته، وتعبداً لبريّته، وإعزازا لأهل دعوته، ثم جعل
ص: 184
الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة(1) لعباده عن نقمته، وحياشة(2) لهم إلى جنته .
وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله اختاره قبل أن يجتبله(3)، واصطفاه قبل أن يبتعثه، وسماه قبل أن يستنجبه(4)، إذ الخلائق في الغيب مكنونة. وبسد الأوهام(5)مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله في غامض الأمور، وإحاطة من وراء حادثة الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور.
ابتعثه الله إتماما لعلمه، وعزيمة على إمضاء حكمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة الله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد ظُلَمَها، وفرج عن القلوب بهمها(6) ، وجلا عن الأبصار عُممها، وعن الأنفس عمهها.
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة ورحمة، واختيار ورغبة لمحمد عن تعب هذه الدار موضوعاً عنه أعباء الأوزار محفوفاً بالملائكة الأبرار. ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، أمينه على الوحي، وصفيه
ص: 185
ورضيه، وخيرته من خلقه ونجيه، فعليه الصلاة والسلام(1)، (ورحمة الله وبركاته).
ثم التفتت إلى أهل المجلس(2)، فقالت لجميع المهاجرين والأنصار :( وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، زعيم الله فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم كتاب الله بينة بصائره وآي منكشفة سرائره، وبرهان فينا متجلية ظواهره مديم للبرية استماعه وقائد إلى الرضوان أتباعه ومؤد إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان حجج الله المنورة، ومواعظه المكررة وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وأحكامه الكافية، وبيناته الجالية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، ورحمته المرجوة، وشرائعه المكتوبة.
ففرض الله عليكم الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزييدا في الرزق والصيام إثباتا للاخلاص والحج تشييداً للدين، والحق تسكينا للقلوب، وتمكينا للدين، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا لما للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على الاستيجاب(3)، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة والنهي عن المنكر
ص: 186
تنزيها للدين والبر بالوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد، وزيادة في العمر، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذور(1)تعرّضا للمغفرة، ووفاء المكيال والميزان تغييرا للبخس(2)والتطفيف، واجتناب قذف المحصنة حجابا عن اللعنة والتناهي عن شرب الخمور تنزيها عن الرجس، ومجانبة السرقة إيجابا للعفة والتنزه عن أكل مال اليتيم والاستئثار به إجارة من الظلم والنهي عن الزنا تحصنا من المقت والعدل في الأحكام إيناسا للرعية، وترك الجور في الحكم إثباتا للوعيد، والنهي عن الشرك إخلاصا له تعالى بالربوبية.
فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا تتولوا مدبرين وأطيعوه فيما أمركم ونهاكم، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره ابتغى من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، فنحن وسيلته في خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجة غيبه، وورثة أنبيائه).
ثم قالت: (أنا فاطمة وأبي محمّد ، أقولها عودا على بدء، وما أقولها إذ أقول سرفا ولا شططا﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم﴾(3) إن تعزوه تجدوه أبي دون
ص: 187
نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، بلغ النذارة(1) صادعا بالرسالة، ناكبا عن سنن المشركين، ضاربا لأثباجهم(2)، آخذا بأكظامهم (3)، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجذ(4) الأصنام، وينكت الهام،(5) حتى انهزم الجمع، وولوا الدبر ، وحتى تفرّى(6) الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه(7)، ونطق زعيم الدين، وهدأت فورة الكفر، وخرست شقاشق الشيطان (8)، وفهتم بكلمة الاخلاص .
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها نبيه، تعبدون الأصنام، وتستقسمون بالأزلام ، مذقة الشارب(9)، ونهزة(10) الطامع، وقبسة
ص: 188
العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الرنق(1) ، وتقتاتون القدة(2)، أذلة خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم بنبيه محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)بعد اللتيا والتي(3) وبعد ما مني ببهم(4) الرجال، وذوبان العرب(5)،﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾(6) ، وكلّما نجم(7) قرن الضلالة، أو فغرت(8) فاغرة المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها(9) بأخمصه، ويخمد لهبها بحده مكدودا في ذات الله قريباً من رسول الله، سيدا في أولياء الله، وأنتم في بلهنية(10) آمنون وادعون ،فرحون تتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال على الأعقاب، حتى أقام الله بمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)عمود الدين.
ص: 189
ولما اختار الله (عز وجل) له دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت حسيكة(1) النفاق، واسمل جلباب(2) الدين، وأخلق ثوبه، ونحل عظمه، وأودت رمته(3)، وظهر نابغ، ونبغ خامل ، ونطق كاظم(4)، وهدر فنيق(5) الباطل يخطر(6) في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم، فألفاكم غضابا، فخطمتم(7) غير إبلكم، وأوردتموها غير شربكم بداراً(8)، زعمتم خوف الفتنة﴿ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بالْكَافِرِينَ ﴾(9)
هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، و الجرح لما يندمل، فهيهات منكم وأين بكم، وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم، زواجره لائحة، وأوامره ،لامحة، ودلائله واضحة، وأعلامه بينة، وقد خالفتموه رغبة عنه،
ص: 190
فبئس للظالمين بدلا، ثم لم تلبثوا(1) إلّا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، تسرون(2) حسوا بارتغاء(3)، أو نصبر منكم على مثل حز المدى، وزعمتم أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾(4)إيها(5) معشر المسلمين، أأبتز إرث أبي، يا بن أبي قحافة؟! أبى الله (عز وجل)(6) أن ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا، جرأة منكم على قطيعة الرحم ونكث العهد، فعلى عمد ما تركتم كتاب الله بين أظهركم ونبذتموه، إذ يقول الله(عز وجل): ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾(7). وفيما قص من خبر يحيى وزكريا إذ يقول﴿ربّ.. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً﴾ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ
ص: 191
رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ المُوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾(1).
وقال (عز وجل):﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾(2) ، وقال تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾(3). فزعمتم أن لاحظ لي، ولا أرث من أبي ! أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها ؟!
أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون (4)؟! أو لست وأبي من أهل ملة واحدة؟! أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم من النبي ؟! فدونكها دونكها(5) مرحولة مزمومة(6)تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، ونعم الزعيم (7)محمّد، والموعد القيامة، وعما قليل تؤفكون ما تحسرون، و﴿ لِكُلِّ نَيَا مُسْتَقَر﴾(8)﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
ص: 192
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(1). ثم التفتت إلى قبر أبيها (صلوات الله عليها)، وتمثلت بأبيات. صفية بنت عبد المطلب (رحمها الله تعالى):
قد كان بعدك أنباء وهنبثة(2)*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها ***واجتث أهلك مذ غُيّبت
أبدت رجال لنا فحوى(3) ***لمّا نأيتَ وحالت بيننا الكُثُب
تجهّمتنا لِبال واستَخفّ بنا ***دهر فقد أدركوا منا الّذي طلبوا
قد كنت للخلق نورا يستضاء به ***عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا*** فغاب عنا فكل الخير محتجب
فقال أبو بكر لها: صدقت يا بنت رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، وكان - والله - إذا نسبناه
ص: 193
وجدناه أباك دون النساء، وأخا ابن عمك دون الرجال آثره على كل حميم، وساعده على الأمر العظيم، وأنتم عترة نبي الله الطيبون، وخيرته المنتجبون، على طريق الجنة أدلتنا، وأبواب الخير لسالكينا.
فأما ما سألت، فلك ما جعله أبوك، وأنا مصدّق قولك، لا أظلم حقك، وأما ما ذكرت من الميراث فإن رسول الله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ).
فقالت فاطمة : (يا سبحان الله ما كان رسول الله لكتاب الله مخالفا، ولا عن حكمه صادفا ، فلقد كان يلتقط أثره، ويقتفي سيره، أفتجمعون إلى الظلامة الشنعاء والغلبة الدهياء(1)، اعتلالا بالكذب على رسول الله وإضافة الحيف(2)إليه ؟!
ولا عجب إن كان ذلك منكم، وفي حياته ما بغيتم له الغوائل، وترقبتم به الدوائر، هذا كتاب الله حكم عدل، وقائل فصل، عن بعض أنبيائه إذ قال:﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾(3) .
و فصل في بريته الميراث مما فرض من حظ الذكور والإناث، فلم سولت لكم أنفسكم أمرا ؟ ! فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون(4).
ص: 194
قد زعمت أن النبوة لا تورث، وإنما يورث ما دونها، فمالي أمنع إرث أبي ؟ أأنزل الله في كتابه إلا فاطمة بنت محمد؟ فدلني عليه أقنع به).
فقال أبو بكر لها: يا بنت رسول الله ، أنت عين الحجة، ومنطق الحكمة لا أدلي بجوابكِ، ولا أدفعك عن صوابك، ولكن المسلمون بيني وبينك هم قلدوني ما تقلدت، وأتوني ما أخذت وتركت. قال: فقالت فاطمة عليها لمن بحضرته : ( أتجتمعون إلى المقبل بالباطل والفعل الخاسر ؟! لبئس ما اعتاض المسلمون، وما يسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، أما والله لتجدن محملها ثقيلاً، وعبأها وبيلاً، إذا كشف لكم الغطاء، فحينئذ لات حين مناص ، وبدا لكم من الله ما كنتم تحذرون ).
قال: ولم يكن عمر حاضرا، فكتب لها أبو بكر كتاباً إلى عامله برد فدك ، فأخرجته في يدها، فاستقبلها ،عمر، فأخذه منها وتفل فيه ومزّقه ،وقال لقد خرف ابن أبي قحافة، وظلم.
فقالت له : (مالك؟ لا أمهلك الله تعالى، وقتلك، ومزّق بطنك) . وأتت من فورها ذلك الأنصار ، فقالت: (معشر النقيبة، وأعضاد الملة، وحضنة الاسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة(1) عن ظلامتي، أما كان
ص: 195
رسول الله أمر بحفظ المرء في ولده؟ فسرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة (1).
أتقولون مات محمّد فخطب جلیل، استوسع وهيه(2)، واستنهر فتقه(3)، وفقد راتقه، فأظلمت الأرض لغيبته، واكتأب خيرة الله لمصيبته، وأكدت الآمال(4)، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأذيلت (5)الحرمة بموت محمد، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في أفنيتكم ممساكم ومصبحكم هتافاً. ولقبل ما خلت به أنبياء الله ورسله ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾(6).
أبني قيلة(7)، أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع تلبسكم الدعوة ،ويشملكم الجبن، وفيكم العدة والعدد، ولكم الدار والجنن(8) وأنتم
ص: 196
لنا أهل
النخبة التي امتحن، ونحلته التي انتحل، وخيرته التي انتخب لنا أ البيت، فنابذتم فينا العرب، وناهضتم الأمم ، وكافحتم البهم، لا نبرح وتبرحون، ونأمركم فتأتمرون حتى دارت بنا وبكم رحى الاسلام، ودر حلب البلاد، وخضعت بغوة الشرك، وهدأت روعة الهرج وخبت نار الحرب، واستوسق(1)نظام الدين، فأني جرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، عن قوم ﴿ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ هُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ (2).
ألا أرى والله أن [قد] أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فعجتم(3) عن الدين ومججتم(4) الذي استوعيتم ودسعتم(5) ما استرعيتم، ألا و ﴿إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ* أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ بِمَا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾(6).
ص: 197
ألا وقد قلت الّذي قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم ولكنها فيضة النفس ، ونفثة ،الغيظ، وبثة الصدر، ومعذرة الحجة، فدونكم فاحتقبوها (1)دبرة الظهر(2)، ناقبة الخف باقية العار، موسومة بشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة .
فبعين الله ما تفعلون،﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾(3)، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لَنْ عُقْبَى الدَّارِ ، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ﴾(4)وكان الأمر قد قصر. ثم ولت، فأتبعها رافع بن رفاعة الزرقي، فقال لها: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن تكلم في هذا الأمر وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد، ما عدلنا به أحدا.
فقالت له بردنها : ( إليك عني، فما جعل الله لأحد بعد غدير خم من حجة ولا عذر) !
ص: 198
قال: فلم ير باك ولا باكية كان أكثر من ذلك اليوم، وارتجت المدينة، وهاج الناس، وارتفعت الأصوات !
فلما بلغ ذلك أبا بكر قال لعمر تربت يداك، ما كان عليك لو تركتني، فربما رفأت الخرق ورتقت الفتق ؟! ألم يكن ذلك بنا أحق؟!
فقال عمر: قد كان في ذلك تضعيف سلطانك، وتوهين كافتّك، وما أشفقت إلا عليك . قال : ويلك، فكيف بابنة محمّد وقد علم الناس ما تدعو إليه، وما نجن(1) لها من الغدر عليه . فقال : هل هي إلّا غمرة(2). انجلت، وساعة انقضت، وكأن ما قد كان لم يكن، وأنشده:
ما قد مضى مما مضى كما مضى ***وما مضى مما مضى قد أقم الصلاة وآت الزكاة، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، ووفر الفئ وصل القرابة، فإنّ الله يقول: ﴿إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾(3). ويقول: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(4) وقال: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
ص: 199
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(1).
ذنب واحد في حسنات كثيرة، قلدني ما يكون من ذلك.
قال: فضرب بيده على كتف ،عمر، ثم قال: رُبّ كربة فرجتها يا عمر .
ثم نادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ما هذه الرعة(2) ، ومع كل قالة(3) أمنية؟! أين كانت هذه الأماني في عهد نبيكم؟! فمن سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم كلا بل هو ثعالة شهيده ذنبه(4) لعنه الله، وقد لعنه رسوله، مربّ(5) لكل فتنة، يقول: كروها جذعة(6)، ابتغاء الفتنة من بعد ما هرمت كأم طحال(7) أحبّ أهلها الغوى (8)، ألا لو شئت أن أقول لقلت، ولو
ص: 200
تكلمت لبحت وإني ساكت ما تركت، يستعينون بالصبية(1)ويستنهضون النساء، وقد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، فو الله إن أحق الناس بلزوم عهد رسول الله لأنتم، لقد جاءكم الرسول فآويتم ونصرتم، وأنتم اليوم أحق من لزم عهده، ومع ذلك فاغدوا على أعطياتكم ، فإني لست كاشفا قناعاً، ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً إلا على من استحق ذلك ، والسلام.
قال: فأطلعت أم سلمة رأسها من بابها وقالت: ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا، وهي الحوراء بين الإنس والإنس(2) للنفس، ربيت في حجور الأنبياء، وتداولتها أيدي الملائكة، ونمت في المغارس الطاهرات ونشأت خير منشأ، وربيت خير مربى؟! أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها ؟! وقد قال الله له: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾(3) ؟ أفأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان وأم سادة ،الشبان وعديلة مريم ابنة عمران وحليلة ليث الاقران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، فيوسدها يمينه ویدثرها بشماله رويداً فرسول الله بمرأى لأعينكم، وعلى الله تردون فواها لكم وسوف تعلمون.
ص: 201
قال: فحرمت أم سلمة تلك السنة عطاءها، ورجعت فاطمة(عليها السلام)إلى منزلها فشکت.
قال أبو جعفر(1) : نظرت في جميع الروايات، فلم أجد فيها أتم شرح وأبلغ في الالزام، وأوكد في الحجة من هذه الرواية، ونظرت إلى رواية عبد الرحمن بن كثير فوجدته قد زاد في هذا الموضع:
أنسيتم قول رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وبدأ بالولاية : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وقوله (إنّي تارك فيكم الثقلين... )؟! ما أسرع ما أحدثتم وأعجل ما نكثتم ! وهو في بقية الحديث على السياقة.
ص: 202
عيادة نساء المدينة لها وخطابها لهن
حدّثني أبو المفضل محمّد بن عبدالله قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني، قال حدّثني محمد بن الفضل بن إبراهيم بن الفضل بن قيس الأشعري، قال: حدّثنا علي بن حسان عن عمه عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبدالله جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين قال: لما رجعت فاطمة إلى منزلها وشكت – وتوفيت في تلك الشكاية – دخلن عليها النساء المهاجرات والأنصاريات عائدات، فقلن لها: كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟ فقالت:
أصبحتُ والله عايفة لدنياكنّ ، قالية لرجالكنّ، شنأتهم بعد أن عرفتهم، ولفظتهم بعد أن سبرتهم، ورميتهم بعد أن عجمتهم، فقبحاً لفلول الحد وخطل الرأي، وعثور الجد، وخوف الفتن لبئس ما قدمت لهم أنفسهم إذ سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، لاجرم والله لقد قلدتهم ريقتها، وشنّت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين، بالوحي المبين، الطبن بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، ما الّذي نقموا من أبي الحسن نقموا والله منه شدة وطأته، ونكال وقعته، ونكير سيفه، وتبحره في كتاب الله، وتنمره في ذات الله، وأيم الله لو تكافّوا عن زمام نبذه إليه رسول الله لا اعتلقه، ثم سار بهم سيراً سجحاً، لا يُكلَمُ خشاشه، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا، رويا
ص: 203
صافياً فضفاضاً تطفح ضفتاه، ثم لأصدرهم بطانا بغمرة الشارب، وشبعة الساغب، ولانفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ولكنهم بغوا فسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ألا فاسمعن، ومن عاش أراه الدهر العجب، وإن تعجبن فانظرن إلى أي نحو اتجهوا، وعلى أي سند استندوا، وبأي عروة تمسكوا ، ولمن اختاروا ، ولمن تركوا لبئس المولى ولبئس العشير استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون،﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1)، ألا لعمر الله لقد لقحت، فانظروها تنتج واحتلبوا لطلاع القعب دماً عبيطاً، وذعافاً ممقراً، هنالك خسر المبطلون، وعرف التالون، ما أسس الأولون، فليطيبوا بعد ذلك نفساً، وليطأمنوا للفتنة جأشاً، وليبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا خسرى لكم وكيف بكم وقد عميت عليكم ﴿أَلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ هَا كَارِهُونَ ﴾(2) .
وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر الباقرحي، قال: حدّثتني أم الفضل خديجة بنت أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج ،قالت: حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني، قال: حدثنا أبو أحمد
ص: 204
عبدالعزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثني محمّد بن زكريا، قال: حدثني محمّد بن عبدالرحمن المهلبي، قال: حدّثنا عبد الله بن محمّد بن سليمان المدايني، قال: حدّثني أبي، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين قالت: لمّا اشتدت علّة فاطمة اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار وقلن لها كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ فقالت : أصبحت عائفةً لدنياكن ، قاليةً لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم وسئمتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحدّ، وخور القناة، وخطل الرأي، لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم، أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً، وذعافاً ممقراً ، فهنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون ما أسّس الأولون، فطيبوا عن أنفسكم نفساً، واطمأنّوا للفتنة جأشاً، وابشروا بسيف قاصل وهرج شامل واستبدال من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا خسرى لكم، وأنّى لكم، وقد عُميّت عليكم، ﴿أنلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ هَا كَارِهُونَ﴾، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على أبي سيّد المرسلين.
شرح الشيط الصدوق للخطبة
قال: [باب - معنی قول فاطمة(عليها السلام)لنساء المهاجرين والأنصار في علتها ]
ص: 205
1 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمّد الحسيني، قال: حدّثنا أبو الطيب محمّد بن الحسين بن حميد اللخمي، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن زكريا ، قال : حدثنا محمد بن عبدالرحمن المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين(عليها السلام) قال : لما اشتدت علّة فاطمة بنت رسول الله (صلوات الله عليها )اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علتك ؟ فقالت:
أصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم لفظتهم قبل أن ،عجمتهم وشنأتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحد وخور القناة وخطل الرأي، وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم ،خالدون لا جرم لقد قلدتهم ،ريقتها، وشننت عليهم عارها، فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين، ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحى الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما نقموا من أبي حسن نقموا والله منه نكير سيفه وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله عزّوجلّ ، والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)لاعتلقه ، ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، قد تخيّر لهم الري غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء وردعة سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات
ص: 206
السماء والأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون، ألا هلم فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب وإن تعجب وقد أعجبك الحادث، إلى أيّ سناد إستندوا ؟ وبأية عروة تمسكوا؟ إستبدلوا الذنابي والله بالقوادم والعجز ،بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون،﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1)، أما لعمر إلهكن لقد لقحت فنظرة ريثما تنتجوا، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً وزعافاً ممقرا، هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون، غبّ ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم [أ] نفساً، واطمأنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم و هرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وزرعكم
، حصيداً، فيا حسرتي لكم وأنى بكم وقد عميّت عليكم ﴿أَنلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَا كَارِهُونَ﴾(2) .
وحدّثنا بهذا الحديث أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الحسن المعروف بابن مقبرة القزويني قال : أخبرنا أبو عبدالله جعفر بن محمد بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)قال: حدثني محمد بن علي الهاشمي، قال: حدثنا عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قال : حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي
ص: 207
طالب(عليه السلام) قال : لما حضرت فاطمة(عليها السلام)الوفاة دعتني فقالت: أمنفذ أنت لها وصيتي وعهدي؟ قال: قلت: بلى، أنفذها، فأوصت إليَّ وقالت: إذا أنا متّ فادفني ليلاً ولا تؤذنن رجلين ذكرتهما، قال: فلما اشتدت علتها اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار فقلن : كيف أصبحت يا بنت رسول الله من علتك ؟ فقالت: أصبحت والله عائفة لدنياكم وذكر الحديث نحوه.
جاء في أمالي الطوسي مايلي: هذا حديث وجدته بخط بعض المشايخ رحمهم الله ذكر انه وجده في كتاب لأبي غانم المعلم الأعرج، وكان مسكنه بباب الشعير، وجد بخطه على ظهر كتاب له حين مات، وهو :
انّ عائشة بنت طلحة دخلت على فاطمة(عليها السلام) فرأتها باكية فقالت لها: بأبي أنتِ وأمي ما الّذي يبكيكِ؟ فقالت لها صلوات الله عليها: أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر، وحفي بها السائر، ورفع إلى السماء أمراً، ورزئت في الأرض خبرا، أن نحيف تيم وأحيوك عدي جاريا أبا الحسن في السباق، حتى إذا تقرّبا بالخناق أسرا له الشنآن وطوياه الإعلان، فلما خبل نور الدين، وقُبض النبيّ الأمين، نطقا بنورهما ونفثا بسورهما، وأدلاً بفدك، فيا لها لمن ملك، تلك إنّها عطية الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي، وإنّها ليعلم الله وشهادة
ص: 208
أمينة، فإن انتزعا منّي البلغة، ومنعاني اللمظة، واحتسبتها يوم الحشر زلفة، وليجدّنها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم.
( وبها تم الجزء السابع من الأمالي)(1).
والآن فلنرجع البصر نحو التراث السنّي، لنختار منه خمسة نصوص تكفي في رد متردية القول، والمشككين في صحة الخطب الفاطمية، ونبدأ برواية الشعبي وهو ناصبي وقح كما ستأتي ترجمته في الباب الرابع في محاور التوثيق مع ترجمة صاحب المصدر الذي روى روايته، وهو سبط ابن الجوزي الحنفي ، وكلاهما بعيدان عن تهمة اختلاق الخطبة.
ص: 209
رواية الشعبي
يوسف بن قزاوغلى سبط ابن الجوزي (ت 654) قال في كتابه تذكرة خواص الأمة بذكر خصائص الأئمة : ... وقال الشعبي : لما منعت ميراثها لاثت خمارها على رأسها - أي عصبت – يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثاً أي عصبها، وقيل اللوث الاسترخاء، فعلى هذا يكون معنى لاثت أي أرخت – وحمدت الله تعالى وأثنت عليه، ووصفت رسول الله لا اله الا اول بأوصاف فكان مما قالت (كان كلّما فغرت فاغرة من المشركين فاها أو نجم قرن من الشياطين وطئ صماخه بأخمصه، وأخمد لهيبه بسيفه وكسر قرنه بعزمته، حتى اذا اختار الله له دارَ أنبيائه، ومقر ،أصفيائه، أطلعت الدنيا رأسها اليكم فوجدتكم لها مستجيبين، واخرروها ملاحظين، هذا والعهد قريب، والمدى غير بعيد، والجرح لما يندمل ، فأنى تؤفكون – تكونون كذا - وكتاب الله بين أظهركم.
يابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي، ودونكها مرحولة مذمومة، فنعم الحاكم الحق، والموعد القيامة، ولكلّ نبأ مستقر وسوف تعلمون).
ص: 210
ثم أومأت إلى قبر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وقالت :
والروم
قد كان بعدك أنباء وهنيئة*** لو كنت شاهدها لم تكبر النوبُ
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واغتيل أهلك لما اغتالك التّربُ
ولقد رزينا بما لم يرزه أحد *** من البرية لا عجم ٌولا عرب ُ
ثم انّها اعتزلت القوم، ولم تزل تندب رسول الله وتبكيه حتى لحقت به(1).
ص: 211
کتاب
(بلاغات النساء )
(وطرائف كلامهن وملح نوادرهن واخبار ذوات الرأى منهن )
( واشعار هن فى الجاهلية وصدر الاسلام )
تألیف
( الامام أبي الفضل احمد بن ابي طاهر المولود ببغداد سنة 204 )
( والمتوفى سنة 280 هجرية )
صححه وشرحه
( احمد الالفى)
«النساء رياحين عطرة بعبير الخير فى العمران وشذى السعادة للانسان وهذا السفر صفوة مختارة من اعطر ازهار هذه الرياحين احفله مؤلفه بلاغات يحفل بها انصار اللغة والادب ومحاضرات يهش لها محبو السمر والطرب وقد طرزته بتفسير وملحقات تجعل قطوف فوائده دانية لمتناوليها واخرجته لاناس مجلوا في طبع جميل على ورق صقيل ليكون في منظره ومخبره حبيب النفس والحس » الالفي
( طبع على نفقة شارحه و حقوق طبعه محفوظة له )
1908 - ه_1326
مَطَبَعَة مَدْرَسَة والدة عباس الأول
( بالطرقة الشرقية بشارع خيرت بالقاهرة )
ص: 212
(كلام فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعليها السلام).
قال ابو الفضل ذكرت لابى الحسين زيد بن على بن الحسين بن على بن ابي طالب صلوات الله عليهم كلام فاطمة عليها السلام عند منع ابي بكر اياها فدك(1)وقلت له ان هؤلاء (2)يزعمون انه مصنوع وانه من كلام ابى العيناء « الخبر منسوق البلاغة على الكلام »(3) فقال لى رأيت مشايخ آل ابی طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه ابناءهم وقد حدثنيه ابى عن جدى يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل ان يولد جد ابى العيناء وقد حدث به الحسن ابن علوان عن عطية العوفي انه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن ابيه ثم قال ابو الحسين وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يرون من كلام عائشة عند موت ابيها ما هو اعجب من كلام فاطمة يتحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت ثم ذكر الحديث قال لما اجمع ابو بكر رحمه الله على منع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها قدك وبلغ ذلك فاطمة لانت خمارها(4)على رأسها واقبلت في لمة من حفدتها(5)تطأ ذيولها ما تخرم (1) من مشبة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى دخلت على ابي(6) بكر وهو في حشد (7)من المهاجرين والانصار فنيطت(8)دونها ملاة ثم انت انة اجهش القوم لها بالبكاء وارتج المجلس فأمهلت حتى سكن نشيج(9)القوم وهدأت فورتهم فافتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد القوم في بكاء هم فلما امسكوا عادت في كلامها فقالت لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه
ص: 213
ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فان تعرفوه تجدوه ابي دون آباءكم(1) واخا بن عمى دون رجالكم فبلغ النذارة(2)صادعا بالرسالة ماثلا على مدرجة (3)المشركين ضاربا لتجهم آخذا بكظمهم يهشم الاصنام وينكث الهام(4) حتى هزم الجمع وولوا الدبر وتغرى الليل عن صبحه(5)واسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق(6) الشياطين وكنتم على شفا(7)حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان(8) وموطى الاقدام تشربون الطرق(9)وتقتاتون الورق اذلة خاشعين(10) تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فانقذكم الله برسوله صلى الله عليه وسلم بعد اللتيا والتي وبعد ما منى ببهم الرجال(11)وذوبان العرب (ومردة اهل الكتاب)(12) كلما حشوا(13) ناراً للحرب اطفأها ونجم قرن(14) المضلال وفغرت فاغرة من المشركين قذف باخيه في لهواتها (15)فلا ينكفى، حتى يطأ صماخها باخمصه ويخمد لهبها(16)مجده مكدودا(17)في ذات الله قريبا من رسول الله سيداً في أولياء الله وانتم فى بلهنية(18) وادعون آمنون حتى اذا اختار الله لنبيه دار انبيائه ظهرت خلة النفاق وسمل(19)جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الافلين وهدر فنيق (20) المبطلين فخطر في عرصاتكم(21)وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه(22) صارخا بكم فوجدكم(23) لدعائه
من
ص: 214
مستجيبين وللغرة فيه ملاحظين(1) فاستنهضكم فوجدكم خفاقا واجمشكم(2) فالفاكم غضا با فوسمتم (3)غير ابلكم وأوردتموها غير شر بكم(4) هذا والعهد قريب والكلم(5) رحيب والجرح لما يندمل(6) بدار (وفى نسخة انما) زعمتم خوف الفتنة الا في الفتنة سقطوا(7) وان جهنم لمحيطة بالكافرین فهيهات منكم وانى بكم وأني تؤفكون(8)وهذا کتاب الله بين أظهر كم وزواجره بينة وشواهذه لائحة وأوامره واضحة ارغبة عنه تدبرون أم بغيره تحكمون بئس للظالمين بدلا ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ثم لم تريثوا(9) الاريث ان تسكن نفرتها تشربون حسوا وتسرون في ارتفاء ونصبر منكم على مثل حز المدى وأنتم الآن تزعمون ان لا ارث لنا افحكم الجاهلية تبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون و بها معشر المهاجرین أأبتز ارث أبي(10) افي الكتاب ان نرث اباك ولا ارث ابي لقد جئت شيئاً فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ثم انحرفت(11) الى قبر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وهى تقول
قد كان بعدك أنباء وهنبتة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (12)
انا فقدناك فقد الارض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (13)
قال فما رأينا يوما كان اكثر باكيا ولا باكية من ذلك اليوم (حدثني) جعفر بن محمد
ص: 215
رجل من أهل ديار مصر لقيته بالرافقة قال حدثنى ابى قال اخبرنا موسى بن عيسى قال اخبرنا عبد الله بن يونس قال أخبرنا جعفر الاحمر عن زيد بن علىّ رحمة الله عليه عن عمته زينب بنت الحسين عليهما السلام قالت لما بلغ فاطمة عليها السلام اجماع ابى بكر على منعها فدك لائت خمارها وخرجت في حشدة نسائها ولمة من قومها(1) تجر اذراعها (2) ما تخرم(3) من مشبة رسول الله صلى الله عليه شيئاً حتى وقعت على ابي بكر وهو في حشد من المهاجرين والانصار فانت انة اجهش لها القوم بالبكاء فلما سكنت فورتهم (4) قالت أبدأ بحمد الله ثم اسبلت بينها وبينهم سجفا (5)ثم قالت الحمد لله على ما انعم وله الشكر على ما الهم والثناء بما قدم من عموم نعم ابتداها وسبوغ آلاء اسداها(6) واحسان منن والاهاجم (7) عن الاحصاء عددها ونادى عن المجازاة أمدها (8)وتفاوت(9) عن الأدراك امالها واستثن الشكر بفضائلها(10)واستحمد الى الخلائق بأجزالها وثنى بالندب الى امثالها (11) واشهد ان لا اله الا الله كلمة جعل الاخلاص تأويلها وضمن القلوب موصولها(12) وأنى فى الفكرة معقولها(13)الممتنع من الابصار رؤيته ومن الاوهام الاحاطة به ابتدع الاشياء لا من شيء قبله واحتذاها بلا مثال(14)لغير فائدة زادته الا اظهاراً لقدرته وتعبداً لبريته واعزازاً لدعوته ثم جعل الثواب على طاعته والعقاب على معصيته زيادة (15) لعباده عن نقمته وجياشاً(16) لهم الى جنته واشهد ان ابي محمداً عبده ورسوله اختاره قبل أن يجتبله (17) واصطفاه قبل أن ابتعثه وسماه قبل ان استنجبه (18) اذ الخلائق بالغيوب مكنونة وبستر الاهاويل(19) مصونة وبنهاية العدم مقرونة علما من الله عز وجل بمايل الامور(20) واحاطة بحوادث الدهور ومعرفة
ص: 216
بمواضع المقدور ابتعثه الله تعالى عزوجل اتماما لامره وعزيمة على امضاء(1) حكمه فرأى الاسم صلى الله عليه فرقاً في اديانها عكفا (2)على نيرانها عابدة لاوثانها منكرة لله مع عرفانها فأنار الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه ظلمها وفرج عن القلوب بهمها(3) وجلى عن الابصار غمها(4) ثم قبض الله نبيه صلى الله عليه قبض رأفة واختيار رغبة بابى صلى الله عليه عن هذه الدار موضوع عنه العبء والاوزار محتف (5) بالملائكة الابرار ومجاورة الملك الجبار ورضوان(6) الرب الغفار صلى الله على محمد نبي الرحمة وامينه على وحيه وصفيه من الخلائق ورضيه صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته ثم انتم عباد الله ( تريد أهل المجلس ) نصب امر الله(7) ونهيه وحملة دينه ووحيه وامناء الله على انفسكم وبلغاؤه الى الامم زعمتم حقا لكم الله فيكم عهد(8) قدمه اليكم ونحن بقية أستخلفنا عليكم ومعنا كتاب الله بينة بصائره (9)وآي فينا (10) منكشفة سرائره و برهان منجلية ظواهره مديم البرية اسماعه قائد الى الرضوان اتباعه مؤد إلى النجاة استماعه فيه بيان حجج الله المنورة وعزائمه المفسرة ومحارمه المحذرة وتبيانه الجالية (11) وجمله الكافية وفضائله المندوبة (12)ورخصه (13) الموهوبة وشرائعه المكتوبة ففرض الله الايمان تطهيرا لكم من الشرك والصلاة تنزيها عن الكبر والصيام تثبيتاً للاخلاص والزكاة تزييداً فى الرزق والحج تسلية للدين والعدل تنسكا للقلوب وطاعتنا نظاما وامامتنا أمنا من الفرقة وحبنا عزاً للاسلام والصبر منجاة والقصاص حقنا للدماء (14) والوفاء بالنذر تعرضاً للمغفرة وتوفية المكاييل والموازين تعبيرا للنحسة (15) والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس وقذف المحصنات اجتنابا للعنة وترك السرق ايجابا للعفة(16) وحرم الله عز وجل الشرك اخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون واطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه فانه انما يخشى الله من عباده العلماء ثم قالت ايها الناس انا فاطمة وابى محمد
ص: 217
صلى الله عليه اقولها عوداً على بدء لقد جاءكم رسول من انفسكم ثم ساق الكلام على ما رواه زيد بن على عليه السلام في رواية ابيه ثم قالت في متصل كلامها افعل محمد (1) تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم اذ يقول الله تبارك وتعالى وورث سليمان داود وقال الله عز وجل فيما قص من خبر يحيى بن ذكريا رب هب لي من لدنك وليا(2) يرثنى ويرث من آل يعقوب وقال عز ذكره واولوا الارحام بعضهم أولى بعض في کتاب الله وقال يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين وقال ان ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين وزعمتم ان لاحق ولا ارث لى من ابى ولا رحم (3) بيننا افخصكم الله بآية اخرج نبيه صلى الله عليه منها أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون أو لست أنا وابي من أهل ملة واحدة لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي صلى الله عليه افحكم الجاهلية تبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون أأغلب على ارثي جوراً وظلما وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وذكر انها لما فرغت من كلام ابى بكر والمهاجرين عدلت الى مجلس الانصار فقالت معشر البقية(4) واعضاد الملة (5) وحصون الاسلام ماهذه الغميرة (6) في حقى والسنة(7) عن ظلامتى اما قال رسول الله صلى الله عليه المرء يحفظ في ولده سرعان(8)ما اجدبتم فاكديتم وعجلان ذا اهانة(9) تقولون مات رسول الله صلى الله عليه فخطب جليل استوسع وهيه(10) واستنهر فتقه (11) وبعد وقته واظلمت الارض لغيبته واكتأبت خيرة الله(12)لمصيبته وخشعت الجبال واكدت الامال(13) وأضيع الحريم وأذيلت الحرمة(14) عند مماته صلى الله عليه(15)وتلك(16) نازل علينا بها كتاب الله في افنيتكم (17) في ممساكم و مصبحكم يهتف بها في اسماعكم وقبله حلت بانبياء الله عز وجل ورسله وما محمد الا رسول
ص: 218
قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرین أيها بني قیلة أأهضم تراث ابيه(1) وانتم بمرأى منه ومسمع تلبسكم الدعوة وتثملكم (2)الحيرة وفيكم العدد والعدة ولكم الدار و عندكم الجنن(3) وانتم الألى نخبة الله التى انتخب لدينه وانصار رسوله وأهل الاسلام والخيرة التي اختار لنا أهل البيت فباديتم العرب(4) ونا هضتم(5) الامم وكافحتم البهم(6) لا نبرح نأمركم وتأمرون(7) حتى دارت لكم بنا رحا الاسلام و درّ حلب الانام وخضعت نعرة(8)الشرك و باخت(9) نيران الحرب وهدأت دعوة الهرج واستوسق(10) نظام الدين فأنى(11)حرتم بعد البيان ونكصتم(12)بعد الاقدام واسررتم بعد الاعلان لقوم نكثوا (13) ايمانهم اتخشونهم فالله أحق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين الاقد أري ان قد اخلدتم الى الخفض(14)وركتم الى الدعة فعجتم (15)عن الدين وبحجتم الذي وعيتم و دسعتم (16) الذي سوغتم(17)فان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا فان الله لغنى حميد الا وقد قلت الذى قلته على معرفة مني بالخذلان الذى خامر(18) صدوركم واستشعرته قلوبكم ولكن قلته فيضة(19) النفس ونغثة (20)الغيظ وبثة(21) الصدر ومعذرة (22) الحجة فدونكموها (23) فاحتقبوها(24) مدبرة الظهر ناكية (25) الحق باقية العار موسومة بشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع علي الافئدة فبمين الله ماتفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وانا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا انا عاملون وانتظروا انا منتظرون قال ابو الفضل وقد ذكر قوم ان ابا العيناء ادعى هذا الكلام وقد رواه قوم وصححوه وكتبناه على مافيه وحدثني عبد الله
ص: 219
ابن احمد العبدى عن حسين بن علوان من عطية العوفي انه سمع أبا بكر رحمه الله يومئذ يقول لفاطمة عليها السلام يا ابنة رسول الله لقد كان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤفا رحيما وعلى الكافرين عذابا اليما واذا عزوناه(1) كان اباك دون النساء واخا ابن عمك (2)دون الرجال آثره على كل حميم(3) وساعده على الأمر العظيم (4) لا يحبكم الا العظيم السعادة ولا يبغضكم الا الردئ الولادة وانتم عترة الله(5) الطيبون وخيرة الله المنتخبون على الآخرة أدلتنا وباب الجنة لسالكنا واما منعك ما سألت فلا ذلك لى(6) واما فدك(7)وما جعل لك ابوك فان منعتك فانا ظالم وأما الميراث فقد تعلمين انه صلى الله عليه قال لانورث ما أبقيناء صدقة(8)قالت ان الله يقول عن نبي من انبيائه يرثنى ويرث من آل يعقوب وقال وورث سليمان داود فهذان نبيان وقد علمت ان النبوة لا تورث وانما يورث مادونها فمالى امنع ارث ابي أأنزل الله في الكتاب الا فاطمة بنت محمد فتدلني عليه فاقنع به فقال يا بنت رسول الله انت عين الحجة ومنطق الرسالة لا يدلى بجوابك (9)ولا ادفعك عن صوابك ولكن هذا ابو الحسن بيني وبينك(10) هو الذي اخبرني بما تفقدت (11)وأنبأني بما أخذت وتركت قالت فان يكن ذلك كذلك فصبرا لمر الحق والحمد لله اله الخلق « قال ابو الفضل» وما وجدت هذا الحديث على التمام الا عند ابي حفان وحدثني هارون بن مسلم بن سعدان عن الحسن بن علوان عن عطية العوفي قال لما مرضت فاطمة عليها السلام المرضة التى توفيت بها دخل النساء عليها فقلن كيف اصبحت من علئك يا بنت رسول الله قالت اصبحت والله عائفة (12)لدنياكم قالية(13) لرجالكم لفظتهم بعد ان عجمتهم(14) وشننئتهم بعد ان سبرتهم (15) فقبحا لقلول الحد (16) وخور القنا (17) وخطل الرأي(18) و بئسما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله
ص: 220
عليهم وفي العذاب هم خالدون لاجرم(1) لقد قلدتهم ربقتها (2) وشنت(3) عليهم عارها فجدعا وعقرا(4) و بعدا للقوم الظالمين ويحهم أني زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الامين الطبن (5) بأمور الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين وما الذى نقموا(6) من ابى الحسن نقموا والله منه نكير(7) سيفه وشدة وطأته ونكال(8) وقعته وتنمره في ذات الله(9)و يا لله لوتكافؤا(10) على زمام نبذه رسول الله صلى الله عليه لسار بهم سيرا سجحاً(11) لا يكلم خشاشه(12) ولا يتمتع(13) راکبه ولا وردهم منهلا رويا فضفاضاً(14) تطفح ضعتاه ولا صدرهم بطانا (15) قد تحرى بهم الري غير متحل منهم بطائل بعمله الباهر وردعه سورة الساغب(16) ولفتحت عليهم بركات من السماء وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون الا هامن(17) فأسمعن وما عشتن أراكن الدهر عجبا الى أى لجأ لجأوا واسندوا و بأي عروة تمسكوا (18) ولبئس المولى (19) ولبئس العشير استبدلوا والله الذنابي بالقوادم(20) والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم (21) يحسبون انهم يحسنون صنعا الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم افمن يهدي الى الحق أحق ان يتبع أمن لايهدى الا ان يهدي(22)فما لكم كيف تحكمون ، أما لعمر الهكن (23) لقد لقحت فنظرة رثيما تنتج ثم احتلبوا (24) طلاع
ص: 221
القعب (1) دماً بمبيطا (2) وذعافا ممقرا (3) هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب (4) ما أسس الأولون ثم الطيبوا (5) عن انفسكم نفسا وطامنوا للفتنة جأشا (6) وابشروا بسيف صارم و بقرح شامل (7) و استبداد من الظالمين يدع فيكم زهيدا و جمعكم حصيداً فيا حسرة لكم واني بكم وقد عميت عليكم انلزمكموها وانتم لها كارهون ثم امسكت عليها السلام
ص: 222
لابن أبی الحدید
بتحقيق
محمد أبو الفضل ابراهيم
الجزء السادس عشر
1962
دار احياء الکتب العربية
عیسی البابی الحلبی و شرکائۀ
ص: 223
قال: بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ اَلسَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَ نِعْمَ اَلْحَكَمُ اَللَّهُ وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ وَ اَلنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا اَلْحَجَرُ وَ اَلْمَدَرُ وَ سَدَّ فُرَجَهَا اَلتُّرَابُ اَلْمُتَرَاكِمُ وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ اَلْخَوْفِ اَلْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ اَلْمَزْلَقِ .
الشرح :
الجدث : القبر، وأضغطها الحجر : جعلها ضاغطة ، والهمزة للتعدية ، ويروى : «وأضغطها ».
و قوله : مظانها في غد جدث»، المظان :جمع مظنة ،و هو موضع الشي ء ومأطقه الذي يكون فيه، قال :
فإن يك عامر قد قال جهلا *** فإن مظنة الجهل الشباب (1)
يقول لا مال لي، و لا اقتنيت فيما مضى مالاً، و إنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم، أي بخلت و سخت عنها نفوس آخرين ،سامحت و أغضت. و ليس يعني هاهنا بالسخاء إلا هذا، لا السخاء الحقيقي لأنه (عليه السلام) و أهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا و قسرا؛ و قد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم ،و هو يعني الخلافة بعد وفاة 14رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).
ص: 224
ثم قال :« و نعم الحكم الله»، الحكم : الحاكم، و هذا الكلام كلام شاك متظلم ثم ذكر مال الإنسان و أنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات و الأموال فإنه يصير عن قريب إلى دار البلى و منازل الموتى .
ثم ذكر أن الحفرة ضيقة، و أنه لو وسعها الحافر لألجأها الحجر المتداعي و المدر المتهافت، إلى أن تضغط الميت و تزحمه .و هذا كلام محمول على ظاهره، لأنه خطاب للعامة. و إلا فأي فرق بين سعة الحفرة و ضيقها على الميت: اللهم إلا أن يقول قائل: إن الميت يحس في قبره، فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس هو الذي يوسع الحفرة ،و إن كان الحافر قد جعلها ضيقة فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة، و من يحمل الأمور على ظواهرها.
ثم قال :(و إنما هي نفسي أروضها بالتقوى)، يقول: تقللي و اقتصاري من المطعم و الملبس على الجشب و الخشن رياضة لنفسي، لأن ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس في الدنيا، فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى، لا بنفس التقلل و التقشف، لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر ،و تثبت في مداحض الزلق .
[ذكر ما ورد من السير و الأخبار في أمر فدك ]
و اعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول:
الفصل الأول فيما ورد في الحديث و السير من أمر فدك: و الفصل الثاني في هل 14النبي ص يورث أم لا ؟و الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة من 14رسول الله ص 15لفاطمة أم لا؟
( 14 - نهج - 16 )
ص: 225
الفصل الأول: فيما ورد من الأخبار و السير المنقولة من أفواه أهل الحديث و كتبهم، لا من كتب الشيعة و رجالهم ، لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك، جميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في و فدك ؟و ما وقع من الاختلاف و الاضطراب عقب وفاة 14النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)؛و أبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون و رووا عنه مصنفاته
قال أبو بكر: حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن بشر، قال: حدثنا يحيى بن آدم ،قال: أخبرنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق ،عن الزهري قال: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا ،فسألوا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يحقن دماءهم و يسيرهم ،ففعل، فسمع ذلك أهل فدك(1) فنزلوا(2) على مثل ذلك ،و كانت للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم) خاصة، لأنه لم يوجف عليها ب خَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ . قال أبو بكر: و روى محمد بن إسحاق أيضا أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لما فرغ من قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فبعثوا إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فصالحوه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق، أو بعد ما أقام بالمدينة، فقبل ذلك منهم، و كانت فدكلرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) خالصة له ،لأنه لم يوجف عليها بخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ .
قال: و قد روى أنه صالحهم عليها كلها، الله أعلم أي الأمرين كان.
قال: و كان مالك بن أنس يحدث عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه صالحهم: على النصف فلم يزل الأمر كذلك حتى أخرجهم عمر بن الخطاب و أجلاهم بعد أن عوضهم عن النصف الذي كان لهم عوضا من إبل و غيرها.
ص: 226
و قال غير مالك بن أنس: لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الأموال، بعث أبا الهيثم بن التيهان، و فروة بن عمرو، و حباب بن صخر ،و زيد بن ثابت، فقوموا أرض فدك و نخلها، فأخذها عمر ،و دفع إليهم قيمة النصف الذي لهم، و كان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم، أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق، و أجلاهم إلى الشام.
قال أبو بكر: فحدثني محمد بن زكريا قال :حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال: حدثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حي، قال: حدثني رجلان من بني هاشم، عن زينب بنت علي بن أبي طالب(عليه السلام ) .قال :و قال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه . قال أبو بكر :و حدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي(عليه السلام). قال أبو بكر :و حدثني أحمد بن محمد بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه ،عن عبد الله بن حسن بن الحسن . قالوا جميعا: لما بلغ فاطمة(عليه السلام)إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، و أقبلت في لمة من حفدتها و نساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر و قد حشد الناس من المهاجرين و الأنصار، فضرب بينها و بينهم ريطة بيضاء -و قال بعضهم: قبطية، و قالوا :قبطية بالكسر و الضم- ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ،ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم ،ثم قالت: أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد و الطول و المجد، الحمد لله على ما أنعم، و له الشكر بما ألهم. و ذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها: ف اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ،و أطيعوه فيما أمركم به ،فإِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ ،و احمدوا الله الذي لعظمته و نوره يبتغي من في السموات و الأرض إليه الوسيلة، و نحن وسيلته في خلقه، و نحن خاصته، و محل قدسه، و نحن حجته في غيبه، و نحن ورثة
ص: 227
أنبيائه، ثم قالت: أنا فاطمة ابنة محمد، أقول عودا على بدء، و ما أقول ذلك سرفا و لا شططا، فاسمعوا بأسماع واعية ،و قلوب راعية، ثم قالت :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾(1) فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم، و أخا ابن عمي دون رجالكم ،ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني،تقول في آخره: ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي ؛﴿ أَ فَحُكْمَ اَلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾(2) إيها معاشر المسلمين، ابتز إرث أبي، أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبي ،لقد جئت شيئا فريا! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم !الحكم الله، و الزعيم محمد ،و الموعد القيامة، و عند الساعة يَخْسَرُ اَلْمُبْطِلُونَ، و لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ !ثم التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة:
قد كان بعدك أنباء و هينمة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (3)
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم*** لما قضيت و حالت دونك الكتب
تجهمتنا رجال و استخف بنا *** إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب
قال: و لم ير الناس أكثر باك و لا باكية منهم يومئذ .ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت :يا معشر البقية ،و أعضاد الملة، و حضنة الإسلام ،ما هذه الفترة عن نصرتي، و الونية عن معونتي ،و الغمزة في حقي، و السنة عن ظلامتي! أما كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يقول:« المرء يحفظ في ولده »: سرعان ما أحدثتم، و عجلان ما أتيتم ،ألأن مات رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أمتم دينه! ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه.
ص: 228
و استبهم فتقه، و فقد راتقه، و أظلمت الأرض، له و خشعت الجبال، و أكدت الآمال. أضيع بعده الحريم، و هتكت الحرمة ،و أذيلت المصونة، و تلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، و أنبأكم بها قبل وفاته، فقال :( وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى َ أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى َ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ )(1) إيها بني قيلة: اهتضم تراث أبي، و أنتم بمرأى و مسمع ،تبلغكم الدعوة ،و يشملكم الصوت، و فيكم العدة و العدد ،و لكم الدار و الجنن، و أنتم نخبة الله التي انتخب، و خيرته التي اختار! باديتم العرب، و بادهتم الأمور، و كافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام ،و در حلبه ،و خبت نيران الحرب ،و سكنت فورة الشرك ،و هدأت دعوة الهرج، و استوثق نظام الدين، أفتأخرتم بعد الإقدام ،و نكصتم بعد الشدة ،و جبنتم بعد الشجاعة ،عن قوم نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ .ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، و ركنتم إلى الدعة، فجحدتم الذي وعيتم، و سغتم الذي سوغتم و إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ، ألا و قد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، و خور القناة ،و ضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ،ناقبة الخف ،باقية العار، موسومة الشعار ،موصولة بنار الله الموقدة، اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ، فبعين الله ما تعملون (وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ).
قال: و حدثني محمد بن زكريا قال :حدثنا محمد بن الضحاك قال :حدثنا هشام بن محمد ،عن عوانة بن الحكم قال: لما كلمت فاطمة (عليه السلام) أبا بكر بما كلمته به حمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال: يا خيرة النساء، و ابنة خير الآباء ،و الله ما عدوت رأي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، و ما عملت إلا بأمره و إن الرائد
ص: 229
لا يكذب أهله، و قد قلت فأبلغت ،و أغلظت فأهجرت ،فغفر الله لنا و لك. أما بعد، فقد دفعت آلة رسول الله و دابته و حذاءه إلى علي (عليه السلام)،و أما ما سوى ذلك فإني سمعت رسول الله ص يقول:( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا و لكنا نورث الإيمان و الحكمة و العلم و السنة )فقد عملت بما أمرني، و نصحت له وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ .
قال أبو بكر: و روى هشام بن محمد، عن أبيه قال: قالت فاطمة لأبي بكر: إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أعطاني فدك، فقال لها :يا ابنة رسول الله ،و الله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أبيك، و لوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، و الله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري، أتراني أعطي الأحمر و الأبيض حقه و أظلمك حقك، و أنت بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، إن هذا المال لم يكن للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) و إنما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال، و ينفقه في سبيل الله، فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وليته كما كان يليه. قالت :و الله لا كلمتك أبدا! قال: و الله لا هجرتك أبدا؛ قالت :و الله لأدعون الله عليك ؛قال: و الله لأدعون الله لك ،فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي عليها ،فدفنت ليلاً، و صلى عليها عباس بن عبد المطلب، و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان و سبعون ليلة .
قال أبو بكر: و حدثني محمد بن زكريا قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال: أيها الناس ،ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)
ص: 230
ألا من سمع فليقل ،و من شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة ،هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، و يستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي. ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، و لو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت .ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ،و أحق من لزم عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أنتم، فقد جاءكم فآويتم و نصرتم، ألا إني لست باسطا يدا و لا لسانا على من لم يستحق ذلك منا ثم نزل ؛ فانصرفت فاطمة عليها السلام إلى منزلها.
قلت :قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري و قلت له :بمن يعرض؟ فقال: بل يصرح قلت: لو صرح لم أسألك. فضحك و قال : بعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، قلت :هذا الكلام كله لعلي يقوله !قال :نعم ،إنه الملك يا بني، قلت :فما مقالة الأنصار: قال :هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم. فسألته عن غريبه ،فقال: أما الرعة بالتخفيف، أي الاستماع
و الإصغاء ؛و القالة :القول، و ثعالة :اسم الثعلب علم غير مصروف ،و مثل ذؤالة للذئب، و شهيده ذنبه ،أي لا شاهد له على ما يدعي إلا بعضه و جزء منه، و أصله مثل قالوا :إن الثعلب أراد أن يغرى الأسد بالذئب فقال: إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك ،و كنت حاضرا قال :فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه و عليه دم، و كان الأسد قد افتقد الشاة ،فقبل شهادته، و قتل الذئب، و مرب :ملازم، أرب بالمكان. و كروها جذعة أعيدوها إلى الحال الأولى، يعني الفتنة و الهرج، و أم طحال: امرأة بغي في الجاهلية، و يضرب بها المثل فيقال: أزنى من أم طحال
ص: 231
قال أبو بكر: و حدثني محمد بن زكريا قال: حدثني ابن عائشة قال: حدثني أبي، عن عمه قال: لما كلمت فاطمة أبا بكر بكى ثم قال: يا ابنة رسول الله ،و الله ما ورث أبوك دينارا و لا درهما، و إنه قال: إن الأنبياء لا يورثون، فقالت: إن فدك وهبها لي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال: فمن يشهد بذلك ؟ فجاء علي بن أبي طالب(عليه السلام) فشهد، و جاءت أم أيمن فشهدت أيضا ،فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف فشهد أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)كان يقسمها، قال أبو بكر: صدقت يا ابنة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) و صدق علي، و صدقت أم أيمن ،و صدق عمر، و صدق عبد الرحمن بن عوف، و ذلك أن مالك لأبيك كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يأخذ من فدك قوتكم ،و يقسم الباقي، و يحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها قالت: أصنع بها؟ كما يصنع بها أبي؛ قال :فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك ،قالت :الله لتفعلن ! قال: الله لأفعلن، قالت :اللهم اشهد؛ و كان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم ،و يقسم الباقي، و كان عمر كذلك ،ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علي كذلك، فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها ،و أقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ،و أقطع يزيد بن معاوية ثلثها، و ذلك بعد موت الحسن بن علي (عليه السلام) ؛فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه ،فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز، فلما ولي عمر بن العزيز الخلافة ،كانت أول ظلامة ردها دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)- و قيل: بل دعا علي بن الحسين(عليه السلام)- فردها عليه، و كانت بيد أولاد فاطمة(عليه السلام) مدة ولاية عمر بن عبد العزيز فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها ،حتى انتقلت الخلافة عنهم، فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله
ص: 232
إبن الحسن بن الحسن ،ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث، ثم ردها المهدي ابنه على ولد فاطمة(عليها السلام)،ثم قبضها موسى بن المهدي و هارون أخوه، فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون، فردها على الفاطميين .
قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا قال: حدثني مهدي بن سابق قال: جلس المأمون للمظالم، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكى و قال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خف تعزى فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتج عليه و هو يحتج على المأمون؟ ثم أمر أن يسجل لهم بها فكتب السجل و قرئ عليه؟ فأنفذه؟ فقام دعبل إلى المأمون فأنشده؟ الأبيات التي أولها:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** برد مأمون هاشم فدكا
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار و كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بيده ،فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل، فصرم (1) عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر، و وجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرمه، ثم عاد إلى البصرة ففلج .
قال أبو بكر: أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا سويد بن سعيد و الحسن بن عثمان قالا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة(عليه السلام) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) و هي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالمدينة و فدك، و ما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر
ص: 233
أبو بكر :إن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال: «لا نورث ما تركناه صدقة»، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، و إني و الله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، و لأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت من ذلك على أبي بكر و هجرته فلم تكلمه حتى توفيت، و عاشت بعد أبيها ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي(عليه السلام)ليلا، و لم يؤذن بها أبا بكر .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن أحمد، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة و العباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) و هما حينئذ يطلبان أرضه بفدك و سهمه بخيبر فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول)« لا نورث، ما تركنا صدقة»، إنما يأكل آل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)من هذا المال، و إني و الله لا أغير أمرا رأيت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يصنعه إلا صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عمر بن عاصم، و موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح عن أم هانئ ،أن فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي و أهلي ؛ قالت: فما لك ترث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) دوننا قال يا ابنة رسول الله، ما ورث أبوك دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضة، قالت :بلى سهم الله الذي جعله لنا، و صار فيئنا الذي بيدك ،فقال لها :سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يقول:« إنما هي طعمة أطعمناها الله، فإذا مت كانت بين المسلمين ».
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال :حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن الفضل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: أرسلت فاطمة إلى أبي بكر:
ص: 234
أنت ورثت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أم أهله ؟قال: بل أهله؛ قالت :فما بال سهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال: إني سمعت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول:« إن الله أطعم نبيه طعمة »، ثم قبضه ،و جعله للذي يقوم بعده، فوليت أنا بعده على أن أرده على المسلمين، قالت: أنت و ما سمعت من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أعلم . قلت: في هذا الحديث عجب ، لأنها قالت له: أنت ورثت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أم أهله؟ قال: بل أهله؛ و هذا تصريح بأنه ص موروث يرثه أهله، و هو خلاف قوله :«لا نورث »و أيضا فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أن الله أطعم نبيا طعمة أن يجري رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عند وفاته مجرى ذلك النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه، كما فهم من قوله في خطبته :إن عبدا خيره الله بين الدنيا و ما عند ربه، فاختار ما عند ربه، فقال أبو بكر: بل نفديك بأنفسنا .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: أخبرنا القعنبي قال :حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، أن فاطمة طلبت فدك من أبي بكر، فقال: إني سمعت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول:« إن النبي لا يورث»، من كان النبي يعوله فأنا أعوله، و من كان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ينفق عليه فأنا أنفق عليه، فقالت :يا أبا بكر، أيرثك بناتك و لا يرث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بناته فقال :هو ذاك . قال: أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا فضيل بن مرزوق قال :حدثنا البحتري بن حسان قال: قلت لزيد بن علي(عليه السلام)و أنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة(عليه السلام)فقال :إن أبا بكر كان رجلا
ص: 235
رحيما، و كان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فأتته فاطمة فقالت :إن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أعطاني فدك، فقال لها :هل لك على هذا بينة ؟فجاءت بعلي ع فشهد لها، ثم جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان أني من أهل الجنة !قالا: بلى- قال أبو زيد: يعني أنها قالت لأبي بكر و عمر -قالت: فأنا أشهد أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أعطاها فدك فقال: أبو بكر: فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية. ثم قال أبو زيد : و ايم الله لو رجع الأمر إلي لقضيت فيها بقضاء أبي بكر .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل، عن كثير النوال قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي(عليه السلام): جعلني الله فداك! أرأيت أبا بكر و عمر، هل ظلماكم من حقكم شيئا- أو قال: ذهبا من حقكم بشي ء ؟فقال: لا ،و الذي أنزل القرآن عَلى َ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، ما ظلمنا من حقنا مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ؛ قلت :جعلت فداك
أفأتولاهما؟ قال: نعم ويحك، تولهما في الدنيا و الآخرة و ما أصابك ففي عنقي ثم قال: فعل الله بالمغيرة و بنان فإنهما كذبا علينا أهل البيت .
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)أردن لما توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن- أو قال ثمنهن- قالت :فقلت لهن: أليس قد قال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)« لا نورث» ما تركنا صدقة.
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي، و بشر بن عمر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قال:« لا يقسم ورثتي دينارا و لا درهما ما تركت بعد نفقة نسائي و مئونة عيالي فهو صدقة ».
ص: 236
قلت: هذا حديث غريب ، لأن المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده .
قال أبو بكر :و حدثنا أبو زيد، عن الحزامي، عن ابن وهب ،عن يونس عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول: (و الذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا ما تركت صدقة قال و كانت هذه الصدقة بيد علي (عليه السلام)غلب عليها العباس و كانت فيها خصومتهما فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس و غلب عليها ع ثم كانت بيد حسن و حسين ابني علي(عليه السلام)ثم كانت بيد علي بن الحسين(عليه السلام) و الحسن بن الحسن كلاهما يتداولانها(1)ثم بيد زيد بن علي(عليه السلام) . قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال :حدثنا يونس عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار، قال :فدخلت عليه و هو جالس على سرير رمال ليس بينه و بين الرمال فراش، على وسادة أدم ،فقال: يا مالك، إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة، و قد أمرت لهم برضخ (2) فاقسمه بينهم ،فقلت :يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري ،قال: اقسم أيها المرء .
قال: فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ ،فقال: هل لك في عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبير يستأذنون عليك :قال :نعم: فأذن لهم ،قال، ثم لبث قليلا، ثم جاء فقال: هل لك في علي و العباس يستأذنان عليك قال: ائذن لهما، فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني و بين هذا -يعني عليا- و هما يختصمان في الصوافي(3) التي أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى َ رَسُولِهِ
ص: 237
من أموال بني النضير، قال: فاستب علي و العباس عند عمر،. فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما و أرح أحدهما من الآخر، فقال عمر: أنشدكم الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض ،هل تعلمون أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال:« لا نورث ؤما تركناه صدقةؤ يعني نفسه ؟قالوا :قد قال ذلك ،فأقبل على العباس و علي فقال: أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا ؛نعم؟ قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، أن الله تبارك و تعالى خص رسوله(صلی الله علیه وآله وسلم) في هذا الفي ء بشي ء لم يعطه غيره، قال تعالى : ﴿ وَ مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى َ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى َ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ عَلى َ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ﴾(1) و كانت هذه خاصة لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فما اختارها دونكم و لا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها و ثبتها فيكم حتى بقي منها هذا المال و كان ينفق منه على أهله سنتهم، ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله
عز و جل، فعل ذلك في حياته ثم توفي فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقبضه الله، و قد عمل فيها بما عمل به رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، و أنتما حينئذ، و التفت إلى علي و العباس تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر، و الله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد، تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا أولى الناس بأبي بكر وبرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فقبضتها سنتين -أو قال سنين من إمارتي- أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم). و أبو بكر ثم قال: و أنتما و- أقبل على العباس و علي -تزعمان أني فيها ظالم فاجر، و الله يعلم أني فيها بار راشد تابع للحق ثم جئتماني و كلمتكما واحدة و أمركما جميع فجئتني- يعني العباس- تسألني نصيبك من ابن أخيك و جاءني هذا -يعني عليا -يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال:« لا نورث ما تركناه صدقة»، فلما بدا لي أن
ص: 238
أدفعها إليكما قلت: أدفعها على أن عليكما عهد الله و ميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و أبو بكر، و بما عملت به فيها و إلا فلا تكلماني فقلتما: ادفعها إلينا بذلك، فدفعتها إليكما بذلك، أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك !و الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فأنا أكفيكماها .
قال أبو بكر:و حدثنا أبو زيد قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال :حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثني يونس، عن الزهري قال: حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه؛ قال: فذكرت ذلك لعروة فقال :صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة تقول: أرسل أزواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مما أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك فقلت: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كان يقول:« لا نورث ما تركناه صدقة»، يريد بذلك نفسه ؛إنما يأكل آل محمد من هذا المال، فانتهى أزواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى ما أمرتهن به.
قلت: هذا مشكل، لأن الحديث الأول يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان فقال: نشدتكم الله ،أ لستم تعلمون أن رسول الله ص قال:« لا نورث ما تركناه صدقة» يعني نفسه فقالوا :نعم. و من جملتهم عثمان،فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) يسأله أن يعطيهن الميراث اللهم إلا أن يكون عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه و حسن الظن ،و سموا ذلك علما لأنه قد يطلق على الظن اسم العلم .
ص: 239
فإن قال قائل: فهلا حسن ظن عثمان برواية أبي بكر في مبدإ الأمر فلم يكن رسولا، لزوجات النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) في طلب الميراث ؟
قيل له: يجوز أن يكون في مبدإ الأمر شاكا، ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصديقه، و كل الناس يقع لهم مثل ذلك .
و هاهنا إشكال آخر و هو أن عمر ناشد عليا و العباس هل تعلمان ذلك؛ فقالا: نعم، فإذا كانا يعلمانه . فكيف جاء العباس و فاطمة إلى أبي بكر يطلبان الميراث على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر و قد أوردناه نحن و هل يجوز أن يقال :كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه؟ و هل يجوز أن يقال :أن عليا كان يعلم ذلك و يمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه ،خرجت من دارها إلى المسجد، و نازعت أبا بكر، و كلمته بما كلمته إلا بقوله و إذنه و رأيه . و أيضا فإنه إذا كان(صلی الله علیه وآله وسلم)لايورث فقد أشكل دفع آلته و دابته و حذائه إلى علي ع لأنه غير وارث في الأصل و إن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضه أن ترث« لو لا الخبر» فهو أيضا غير جائز، لأن الخبر قد منع أن يرث منه شيئا قليلا كان أو كثيرا .
فإن قال قائل :نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا.
قيل: هذا الكلام يفهم من مضمونه أنهم لا يورثون شيئا أصلا ،لأن عادة العرب جارية بمثل ذلك، و ليس يقصدون نفي ميراث هذه الأجناس المعدودة دون غيرها ،بل يجعلون ذلك كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئا ما على الإطلاق .
و أيضا فإنه جاء في خبر الدابة و الآلة و الحذاء أنه روي عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لا نورث ما تركناه صدقة. و لم يقل لا نورث كذا و لا كذا و ذلك يقتضي عموم انتفاء الإرث عن كل شي ء .
ص: 240
و أما الخبر الثاني و هو الذي رواه هشام بن محمد الكلبي عن أبيه: ففيه إشكال أيضا ،لأنه قال: إنها طلبت فَدَك و قالت إن أبي أعطانيها و إن أم أيمن تشهد لي بذلك فقال لها أبو بكر في الجواب: إن هذا المال لم يكن لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و إنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل (1) به الرجال و ينفقه في سبيل الله . فلقائل أن يقول له: أيجوز للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)أن يملك ابنته أو غير ابنته من أفناء الناس ضيعة مخصوصة أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين، لوحي أوحى الله تعالى إليه أو لاجتهاد رأيه على قول من أجاز له أن يحكم بالاجتهاد أو لا يجوز للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ذلك فإن قال: لا يجوز قال ما لا يوافقه العقل و لا المسلمون عليه و إن قال: يجوز ذلك قيل فإن المرأة ما اقتصرت على الدعوى بل قالت أم أيمن تشهد لي فكان ينبغي أن يقول لها في الجواب: شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة؛ و لم يتضمن هذا الخبر ذلك بل قال لها: لما ادعت و ذكرت من يشهد لها هذا مال من مال الله لم يكن لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)و هذا ليس بجواب صحيح .
و أمّا الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة؟ ففيه من الإشكال مثل ما في هذا الخبر لأنه إذا شهد لها علي(عليه السلام)و أم أيمن أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وهب لها فدك لم يصح اجتماع صدقها و صدق عبد الرحمن و عمر و لا ما تكلفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم لأن كونها هبة من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) لها يمنع من قوله:« كان يأخذ منها قوتكم و يقسم الباقي و يحمل منه في سبيل الله »، لأن هذا ينافي كونها هبة لها لأن معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها ،و أن تتصرف فيها خاصة دون كل أحد من الناس و ما هذه صفته كيف يقسم و يحمل منه في سبيل الله .
( 10 - نهج - 16 )
ص: 241
فإن قال قائل: هو ص أبوها و حكمه في مالها كحكمه في ماله و في بيت مال المسلمين فلعله كان بحكم الأبوة يفعل ذلك!
قيل: فإذا كان يتصرف (1) فيها تصرف الأب في مال ولده لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده ،فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد، لأنه ليس باب له فيتصرف في ماله تصرف الآباء في أموال أولادهم على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب أن يتصرف في مال الابن .
و هاهنا إشكال آخر، و هو قول عمر لعلي ع و العباس و أنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر ثم قال لما ذكر نفسه :و أنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال:« لا أورث »إن هذا لمن أعجب العجائب و لو لا أن هذا الحديث -أعني حديث خصومة العباس و علي عند عمر- مذكورٌ في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه، إذ لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته و إنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك .
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا ابن أبي شيبة قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة ،عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: جاء العباس و علي إلى عمر، فقال العباس: اقض بيني و بين هذا الكذا، و كذا أي يشتمه فقال الناس: افصل بينهما فقال: لا أفصل بينهما قد علما أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال :«لا نورث ما تركناه صدقة» .
قلت :و هذا أيضا مشكل، لأنهما حضرا يتنازعان لا في الميراث، بل في ولاية صدقة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)أيهما يتولاها ولاية لا إرثا! و على هذا كانت الخصومة،
ص: 242
فهل يكون جواب ذلك قد علما أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال:« لا نورث» .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال حدثني يحيى بن كثير أبو غسان قال :حدثنا شعبة عن عمر بن مرة عن أبي البختري قال: جاء العباس و علي إلى عمر و هما يختصمان فقال عمر لطلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعد: أنشدكم الله، أسمعتم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول كل مال نبي فهو صدقة إلا ما أطعمه أهله إنا لا نورث فقالوا: نعم ،قال: و كان رسول الله يتصدق به ،و يقسم فضله، ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) و أنتما تقولان: أنه كان بذلك خاطئا و كان بذلك ظالما و ما كان بذلك إلا راشدا ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) و عهده الذي عهد فيه فقلتما :نعم ،و جئتماني الآن تختصمان يقول هذا :أريد نصيبي من ابن أخي و يقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي و الله لا أقضي بينكما إلا بذلك .
قلت: و هذا أيضا مشكل لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده ،ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى إن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. و قال شيخنا أبو علي لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة فخالفه المتكلمون و الفقهاء كلهم و احتجوا عليه(1) بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده:« نحن معاشر الأنبياء لا نورث». حتّى إنّ بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا فقال قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة(عليه السلام) قال أنشد الله امرأ سمع من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في هذا شيئا! فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمعه من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) . و هذا الحديث ينطق بأنه استشهد
ص: 243
عمر و طلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعدا ،فقالوا : کسمعناه من رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة فاطمة ع و أبي بكر روى من هذا شيئا .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن يحيى(1) عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن الزهري، عن عروة ،عن عائشة أن أزواج النبي ص أرسلن عثمان إلى أبي بكر فذكر الحديث قال عروة ،و كانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبي بكر مما تركه النبي ص فقال لها: بأبي أنت و أمي و بأبي أبوك و أمي و نفسي، إن كنت سمعت من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شيئا أو أمرك بشي ء لم أتبع غير ما تقولين و أعطيتك ما تبتغين، و إلا فإني أتبع ما أمرت به .
قال أبو بكر، و حدثنا أبو زيد قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، عن شعبة ،عن عمرو بن مرة ،عن أبي البختري قال :قال لها أبو بكر لما طلبت فدك : بأبي أنت و أمي أنت عندي الصادقة الأمينة إن كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عهد إليك في ذلك عهدا أو وعدك به وعدا صدقتك و سلمت إليك فقالت لم يعهد إلي في ذلك بشي ء و لكن الله تعالى يقول: ﴿ يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ﴾(2)فقال أشهد لقد سمعت (3)رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول:« إنا معاشر الأنبياء لا نورث» .
قلت : و في هذا من الإشكال ما هو ظاهر لأنها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) في ذلك أعظم العهد، و هو النحلة فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سألها أبو بكر و هذا أعجب من العجب .
ص: 244
قال أبو بكر: و حدثنا أبو زيد: قال حدثنا محمد بن يحيى ،قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الأنصاري عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: سمعت عمر و هو يقول للعباس و علي و عبد الرحمن بن عوف و الزبير و طلحة: أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)قال إنا لا نورث معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته (1)، ثم يجعل ما بقي في بيت المال! قالوا: اللهم نعم ،فلما توفي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قبضها أبو بكر ،فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك ،و جئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها !و زعمتما أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا. و الله لقد كان امرأ مطيعا ،تابعا للحق، ثم توفي أبو بكر فقبضتها، فجئتماني تطلبان ميراثكما، أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من ابن أخيك، و أما علي فيطلب ميراث زوجته من أبيها ،و زعمتما أني فيها خائن و فاجر ،و الله يعلم أني فيها مطيع تابع للحق ، فأصلحا أمركما، و إلا و الله لم ترجع إليكما، فقاما و تركا الخصومة و أمضيت صدقة .
قال أبو زيد: قال أبو غسان :فحدثنا عبد الرزاق الصنعاني، عن معمر بن شهاب، عن مالك بنحوه ،و قال في آخره: فغلب علي عباسا عليها، فكانت بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم كانت بيد الحسين، ثم علي بن الحسين ،ثم الحسن بن الحسن ،ثم زيد بن الحسن .
قلت :و هذا الحديث يدل صريحا على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية ،و هذا من المشكلات، لأن أبا بكر حسم المادة أولا، و قرر عند العباس و علي و غيرهما أن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)لا يورث، و كان عمر من المساعدين له على ذلك، فكيف يعود
ص: 245
العباس و علي بعد وفاة أبي بكر يحاولان امرأ قد كان فرغ منه و يئس من حصوله اللهم إلا أن يكونا ظنا أن عمر ينقض قضاء أبي بكر في هذه المسألة و هذا بعيد لأن عليا و العباس كانا(1)في هذه المسألة(2) يتهمان عمر بممالأة أبي بكر على ذلك، ألا تراه يقول :نسبتماني و نسبتما أبا بكر إلى الظلم و الخيانة ،فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر و يورثهما.
و اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين: في الميراث و النحلة ،و قد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث، و منعها أبو بكر إياه أيضا و هو سهم ذوي القربى قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري أخبرني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عمير قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني صدقة أبو معاوية عن محمد بن عبد الله: عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة(عليه السلام) أتت أبا بكر فقالت لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات و ما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ثم قرأت عليه قوله تعالى: ﴿ وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى َ﴾ (3) الآية فقال لها أبو بكر بأبي أنت و أمي و والد ولدك السمع و الطاعة لكتاب الله و لحق رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) و حق قرابته و أنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرءين منه و لم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا قالت أفلك هو و لأقربائك؟ قال: لا بل أنفق عليكم منه و أصرف الباقي في مصالح المسلمين قالت: ليس هذا حكم الله تعالى، قال: هذا حكم الله، فإن كان رسول الله عهد إليك
ص: 246
في هذا عهدا أو أوجبه لكم حقا(1)صدقتك و سلمته كله إليك و إلى أهلك قالت:إن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لم يعهد إلي في ذلك بشي ء ،إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية :«أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى» قال أبو بكر: لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا، و لكن لكم الغنى الذي يغنيكم و يفضل عنكم و هذا عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك، و انظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر فعجبت فاطمة ع من ذلك و تظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك و اجتمعا عليه .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال: حدثنا هارون بن عمير قال: حدثنا الوليد عن ابن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال :أرادت فاطمة أبا بكر على فدك و سهم ذوي القربى، فأبى عليها ،و جعلهما في مال الله تعالى .
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم، عن جويبر، عن أبي الضحاك ،عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ع أن أبا بكر منع فاطمة و بني هاشم سهم ذوي القربى ،و جعله في سبيل الله في السلاح و الكراع.
قال أبو بكر: و أخبرنا أبو زيد قال :حدثنا حيان بن هلال، عن محمد بن يزيد بن ذريع عن محمد بن إسحاق قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي ع قلت أرأيت عليا حين ولي العراق و ما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى! قال: سلك بهم طريق أبي بكر و عمر ؛قلت: و كيف ؟و لم و أنتم تقولون ما تقولون !قال: أما و الله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه ؛فقلت :فما منعه قال: كان يكره
ص: 247
أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر و عمر . قال أبو بكر: و حدثني المؤمل بن جعفر، قال: حدثني محمد بن ميمون، عن داود بن المبارك قال: أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن و نحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل و كنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر و عمر فقال سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال :كانت أمي صديقة بنت نبي مرسل فماتت و هي غضبى على إنسان فنحن غضاب لغضبها ،و إذا رضيت رضينا .
قال أبو بكر: و حدثني أبو جعفر محمد بن القاسم قال: حدثني علي بن الصباح قال: أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت:
أهوى عليا أمير المؤمنين و لا *** أرضى بشتم أبي بكر و لا عمرا(1)
و لا أقول و إن لم يعطيا فدكا ***بنت النبي و لا ميراثها كفرا (2)
الله يعلم ما ذا يحضران به *** يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا (3) .
قال ابن الصباح: فقال لي أبو الحسن: أتقول: إنّه قد أكفرهما في هذا الشعر! قلت: نعم ،قال: كذاك هو .
قال أبو بكر: حدثنا أبو زيد، عن هارون بن عمير، عن الوليد بن مسلم ،عن إسماعيل بن عباس، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح عن مولى أم هانئ ،قال:دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما استخلف، فسألته ميراثها من أبيها فمنعها فقالت له لئن مت اليوم من كان يرثك ؟قال: ولدي و أهلي، قالت: فلم ورثت أنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) دون ولده و أهله قال فما فعلت يا بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قالت بلى إنك عمدت إلى فدك و كانت صافية لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فأخذتها و عمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا فقال يا بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)
ص: 248
(صلی الله علیه وآله وسلم)،لم أفعل ،حدثني رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)أن الله تعالى يطعم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الطعمة ما كان حيا، فإذا قبضه الله إليه رفعت، فقالت: أنت و رسول الله أعلم ما أنا بسائلتك بعد مجلسي، ثم انصرفت .
قال أبوبكر: و حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي، عن عبد الله بن حماد بن سليمان، عن أبيه ،عن عبد الله بن حسن، بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) قالت لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله الوجع و ثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين و الأنصار فقلن لها كيف أصبحت يا ابنة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قالت: و الله أصبحت عائفة(1) لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم (2)و شنئتهم (3) بعد أن سبرتهم (4) فقبحا لفلول الحد و خور القناة و خطل الرأي و بئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون لا جرم قد قلدتهم ربقتها و شنت عليهم غارتها فجدعا و عقرا و سحقا للقوم الظالمين! ويحهم أين زحزحوها عن رواسي الرسالة، و قواعد النبوة ،و مهبط الروح الأمين، و الطيبين بأمر الدنيا و الدين ، أَلاَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ !و ما الذي نقموا من أبي حسن! نقموا و الله نكير سيفه و شدة وطأته و نكال وقعته و تنمره في ذات الله و تالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) لاعتلقه و لسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم حشاشته و لا يتعتع راكبه و لأوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه ،و لأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي، غير متحل بطائل، إلا بغمر الناهل ،و ردعه سورة الساغب ،و لفتحت عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ، و سيأخذهم الله بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. ألا هلم فاستمع و ما عشت
ص: 249
أراك الدهر عجبه :و إن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أي لجإ استندوا، و بأي عروة تمسكوا لَبِئْسَ اَلْمَوْلى َ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ ،و لبئس لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم، و العجز بالكاهل؛ فرغما لمعاطس قوم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً،﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾، ويحهم ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى َ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج (1)ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا و ذعاقا ممقرا هنالك يَخْسَرُ اَلْمُبْطِلُونَ و يعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا، و اطمئنوا للفتنة جأشا، و أبشروا بسيف صارم و هرج شامل و استبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا و جمعكم حصيدا، فيا حسرة عليكم، و أنى لكم و قد عميت عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ! وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، و صلاته على محمد خاتم النبيّين، و سيّد المرسلين .
***
قلت: هذا الكلام و إن لم يكن فيه ذكر فدك و الميراث، إلا أنه من تتمة ذلك ،و فيه إيضاح لما كان عندها ،و بيان لشدّة غيظها و غضبها، فإنه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضي القضاة و المرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا! و نحن لا ننصر مذهبا بعينه و إنما نذكر ما قيل، و إذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه .
و اعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث و ثقاتهم ،و ما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه، و هو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث، و أمّا ما يرويه رجال الشّيعة و الأخباريّون منهم في كتبهم من قولهم :إنّهما أهاناها و أسمّعاها كلاماً غليظا و إنّ أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا ،فكتب لها بفدك كتابا، فلمّا خرجت به وجدَها عمر فمد يده إليه ليأخذه مغالبة، فمنعته، فدفع بيده في صدرها
ص: 250
وأخّذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها ،و إنها دعت عليه فقالت: بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي؛ فشي ء لا يرويه أصحاب الحديث و لاينقلونه، و قدر الصحابة يجل عنه، و كان عمر أتقى لله ؛و أعرف لحقوق الله من ذلك ،و قد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة التي يذكرونها شعرا أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أوّلها (1)
يا ابنة القوم تراك *** بالغ قتلي رضاك (2) .
و قد ذيل عليها بعض الشيعة و أتمّهّا و الأبيات :
يا ابنة الطاهر كم تق***رع بالظلم عَصاكِ
غَضِبَ الله لَخطبٍ ***ليلة الطَّفَ عَراكِ
و رعى النارَ غداً قط*** رعى أمسٍ حماك
مرّ لم يعطفه شكوا *** و لا استحيا بكاكِ
و اقتدى الناس به بع***د فأردَى وَلَداكِ
يا ابنة الرّاقي إلى السد***رة في لوح السكاكِ
لهف نفسي و على مث***لِك فلتبكِ البَواكي
كيف! تقطع يدٌ مدَّ*** إليك ابن صحاك
فرحوا يومَ أهانو***كِ بما ساء أباكِ
و لقد أخبرهم أن*** رضاه في رضاكِ
دفعا النصّ على إر*** ثك لمّا دفعاكِ
و تعرضت لقدرٍ*** تافهٍ و انتهراكِ
ص: 251
و ادّعيت النّحلة المشهود *** فيها بالصّكاكِ
فاستشاطاً ثمّ ما إن *** كَذَبا إن كذّباكِ
فزوى الله عن الرحمة *** زنديقاً ذواكِ
و نفى عن بابه الوا***سع شيطانا نفاكِ.
فانظر إلى هذه البلية التي صبّت من هؤلاء على سادات المسلمين، و أعلام المهاجرين! و ليس ذلك بقادح في علو شأنهم ،و جلالة مكانهم، كما أن مبغضي الأنبياء و حسدتهم، و مصنّفي الكتب في إلحاق العَيبِ و التهجين لشرائعهم لم تزدد لأنبيائهم إلّا رفعة، و لا زادت شرائعهم إلّا انتشارا في الأرض، و قبولا في النفس، و بهجة و نورا عند ذوي الألباب و العقول .
و قال لي علويّ في الحلة (1) يُعرف بعلي بن مهنإ ذكيّ ذو فضائل: ما تظنّ قصد َأبي بكر و عمرَ بمنع فاطمة فدّك ؟قلت: ما قصدا ؟ قال: أرادا ألا يظهرا - لعلي و قد اغتصباه الخلافة-رقّة ولينا و خذلانا و لا يرى عندهما خورا، فأتبعا القرح بالقرح .
و قلت لمتكلم من متكلّمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل (2) :و هل كانت فدك إلا نخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير فقال لي: ليس الأمر كذلك ،بل كانت جليلة جدا، و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ،و ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى علي بحاصلها و غلتها على المنازعة في الخلافة، و لهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي و سائر بني هاشم و بني المطلب حقهم في الخمس، فإنّ
ص: 252
الفقير الذي لا مال له تضعف همّته و يتصاغر عند نفسه، و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب عن طلب الملك و الرئاسة، فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء، و هو داء لا دواء له، و ما أكثر ما تزول الأخلاق و الشيم، فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها!
ص: 253
محمد مهدي الخرسان
مقتل الحسين
للخوارزمى
أبي المؤيد الموفق بن احمد المكي اخطب خوارزم
المتوفى سنة ه_568
الجزء الاول
طبع على ثغقة
السيد محمد رضا السيد ما عمان و محمد الهادي الامري و مرزه الخليلي
رئيس تحرير ( الدليل ) صاحب مطبعة الزهراء
ساجد
عني بملاحظه والتعليق عليه
العلامة المحقق الكبير
الشيخ محمد السماوي حفظه الله
مطبعة الزهراء محمد النجف
367 ه_ 1948 م
ص: 254
سمعوا هذه المقالة اسرعوا الى سيوفهم فجرّدوها وقالو صبوت الى دين محمد الساحر الكذاب فقال لهم والله يا بني سليم ما هو بساحر ولا كذاب ان إله محمد خير آله وان محمداً خير نبي اتيته جائعاً فاطعمني وعارياً فكساني وراجلا حملني ثم شرح لهم قصة الضب وما قاله وقال لهم يا معشر بني سليم اسلموا تسلموا من النار فاسلم ذلك اليوم اربعة آلاف رجل وهم اصحاب الرايات الخضر حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ( وروي ) في المراسيل ان الحسن والحسين كان عليهما ثوبان خلقان وقد قرب العيد فقالا لامهما فاطمة ان بني فلان خيطت لهم ثياب فاخرة للعيد افلا تخيطين يا اماه لنا ثيابا للعيد فقالت لهما يخاط لكما انشاء الله فلما جاء العيد جاء جبرائيل بقميصين من حلل الجنة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )فقال له رسول الله ما هذان يا اخي يا جبرائيل فاخبره بقول الحسن والحسين الفاطمة وبقول فاطمة يخاط لكما انشاء الله قال جبرائيل فلما سمع الله قولها قال لا تكذبن فاطمة بقولها فقد شئت. وعن ابي هريرة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )قال اول شخص یدخل علي الجنة فاطمة مثلها في هذه الأمة كمثل مريم بنت عمران في بني اسرائيل . ( واخبرنا ) سيد الحفاظ ابو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي فيما كتب الي من همدان جزاه الله خيراً اخبرنا محي السنة ابو الفتح عبدوس بن عبدالله الهمداني كتابة اخبرنا ابو منصور اخبرنا علي بن مكي اخبرنا القاسم اخبرنا ابراهيم أخبرنا اسماعيل ابن بنت السدي اخبرنا بشر بن الوليد الهاشمي اخبرنا عبد النور المسمعي عن شعبة بن الحجاج عن عمرو بن مرة عن إبراهيم بن علي عن مسروق قال لما قدم علينا عبد الله بن مسعود الكوفة قلنا له حدثنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )فذكر الجنة ثم قال سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، فلم ازل اطلب الشهادة للحديث فلم ارزقها سمعته يقول في غزوة تبوك ونحن نسير معه يقول ان الله أمرني
ص: 255
ان ازوج فاطمة من علي ففعلت فقال لي جبرائيل ان الله قد بنى جنة عدن من لؤلؤ قصب رطب بين كل قصبة الى قصبة لؤلؤة من ياقوت مشذرة بالذهب فلبنة من در ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد ، ثم جعل فيها عيوناً تنبع في نواحيها وحيطت بالانهار وجعل الانهار قباباً قد شعبت بسلاسل الذهب وحفّت بانواع الشجر وبين كل غصنين بيت وجعل في كل اريكة من درة بيضاء غشاؤها السندس والاستبرق و فُرشت ارضها بالزعفران وفتيق المسك والعنبر وجعل في كل قبة حوراء، والقبة لها مائة باب على كل باب جاريتان وشجرتان وفي كل قبة مفرش وكتاب مكتوب حول القباب اية الكرسي فقلت يا جبرائيل لمن بنى الله هذه الجنة فقال هذه جنة بناها الله لعلي وفاطمة ابنتك ، سوى جنانهما تحفة لهما اتحفها الله بها يا محمد . ( واخبرني ) الامام شهاب الاسلام ابو النجيب سعد بن عبد الله الهمداني فيما كتب اليّ من همدان اخبرني الحافظ سلیمان بن إبراهيم فيما كتب الي من اصبهان سنة ثمان وثمانين واربعمائة اخبرنا الحافظ ابو بكر أحمد بن موسى بن مردويه فيما اذن لي قال حدثت عن جعفر بن محمد بن مروان أخبرنا أبي أخبرنا سعيد بن محمد الجرمي اخبرنا عمر و بن ثابت عن أبيه عن حبة عن علي (عليه السلام) قال غسلت النبي فى قميصه فكانت فاطمة تقول ارثي القميص فاذا شمته غشي عليها فلما رأيت ذلك غيبته ( و بهذا ) الاسناد عن الحافظ ابي بكر هذا اخبرنا عبدالله بن اسحاق اخبرنا محمد بن عبيد اخبرنا محمد بن زياد اخبرنا شرقي بن قطامي عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت لما بلغ فاطمة ان ابا بكر أظهر منعها فدكاً لائت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها واقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ماتخرم مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )حتى دخلت على ابي بكر وهو فی حشد من المهاجرين والانصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة ثم انت انت اجهش لها القوم بالبكاء ثم امهلت هنيهة حتى اذا سكنت فورتهم افتتحت كلامها
ص: 256
بحمد الله والثناء عليه ثم قالت ( لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ) فان تعزوه تجدوه ابي دون نسائكم ، واخا ابن عمي ، دون رجالكم ، فبلغ الرسالة ، صادعا بالنذارة مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضاربا لحدتهم ، يجد الاصنام، وينكث الهام ويدعو الى سبيل ربه ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، حتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وتمت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار ، نهزة الطامع ، ومذقة الشارب ، وقبسة العجلان ، وموطئ الاقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القد ، اذلة خاسئين ، حتى استنقذكم الله ورسوله ، بعد الليتا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال ، وذوبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، كلما اوقدوا نارا للحرب ، وفغرت فاغرة ، قذف اخاه في لهواتها فلا ينكفي ، حتى يطا صماخها باخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، وانتم في رفاهية آمنون، وادعون حتى اذا اختار الله لنبيه دار انبيائه ، اطلع الشيطان رأسه ، فدعاكم فالفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم غضابا فوسمتم غير ابلكم ، ووردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، انما زعمتم خوف الفتنة ، ( الا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين) ثم لم تلبثوا حيث تسرون حسواً فى ارتغاء و نصبر منكم على مثل حز المدى ، وانتم تزعمون انّ لا ارث لنا ، افحكم الجاهلية تبغون ، ( ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون ) يامعشر المسلمين أأبتر ارث أبي الى الله أن ترث اباك ، ولا ابي ، لقد جئت شيئاً فريا، فدو نكها مر حولة مخطومة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، ( وعند الساعة يخسر المبطلون ) ثم انكفات الى قبر ابيها تقول :
قد كان بعدك اناء وهنيئة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
انا فقدناك فقد الارض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
ص: 257
منال الطالب
في شرح طوال الغرائب
لمجد الدين أبي السَّعَادات المبارك بن محمد
ابن الأشير
544-606ه_
الجزء الثاني
في أحاديث الصحابة والتابعين
رضي الله عنهم
تحقيق
الدكتور محمود محمد الطناحي
اناشر مكتبة الخامجى بالقاهرة
ص: 258
دون رجالكم ، ولنعم المَعْزِيُّ إليه صلي الله عليه . فبلغ النذارة ،صادِعاً بالرسالة ، ناكِباً عن سنن المشركين ، ضارباً لأثباجهم ، آخِذًا بأكظامهم، داعياً إلي سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يفُضُ الهام ، وَيَجُدُّ الأصنام ، حتى انهزم الجمعُ ، ووَلَّوا الدُّبُر ، وحتى تَفَرّي الليل عن صُبحِه ، وأسْفَر الحَقُّ عن مَخضِه ، ونَطَق زعيم الدِّين ،وخَرِسَتْ شَقاشقُ الشياطين ، وفُهتم بكلمة الإخلاص ، وكنتم على شفا حُفْرة من النارِ ، مَذقَةَ الشّارب ، ونُهْزة الطامع ، وقَبْسَةَ العَجْلان ، ومَوْطيء الأقدام .
تشربون الطُرقَ(1) ، وتَقْناتُونَ القَدُ ، أَذِلَّةٌ خاشعين ،
يتخطفكم الناسُ مِن حولكم ، فأنقذكم الله بنبيه صلي الله عليه ، بعد اللّتيّا والتي ، وبَعْدَ ما مُني بِبُهم الرّجال ، وذُوبان العرب ، ومَرَدةِ أهل الكتاب .
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَاهَا الله ﴾(2) أو نَجَم قَرْنٌ للضَّلالة ، أو فغَرَتْ فاغرة للمشركين ، قذف أخاه عليّا في لَهَواتِها(3) فلا ينكفيءُ، حتى بطأ ضماخَها بأخْمَصه ، ويُحْمِدَ لهبها بحدّد ، مَكْظُوظاً (4) في طاعة الله وطاعة رسولِه ، مُشمَرّاً ،
ص: 259
ناصِحاً ، مُجدّا ، كادِحاً ، وأنتم في بُلَهْنِيَةٍ وادِعُون ، وفي رفاهيةٍ فَكِهون ، تأكلون العَفْوَ، تأكلون العَفْوَ ، وتشربُون الصَّفْوَ، تَتَوَكَّفُون الأخبار
وتنكصون عند النِّزال .
فلمّا اختار الله لنبيِّه دار أنبيائه ، ومَحلَّ أصفيائه ، ظَهَرَتْ حسيكةُ النّفاق ، وانْسَمَلَ (1) جِلْبَابُ الدِّين ، وأَخْلَق عَهْدُه ، وانتقضَ عَقدُه ، ونَطَق كاظمٌ ، ونَبَغِ خَامِل ، وهَدَر فَنِيقُ البَاطِل ؛ يَخْطِرُ في عَرصاتِكم ، وأطلَعَ الشَّيْطانُ رأسَه مِن مَغْرِزه ، صارخاً بكم ، فألفاكم لدعوتِه مُصِيخين(2) ، وللغِرَّةِ مُلاحظين ، واستَنْهَضكُم فَوَجَدَكم خِفافاً ، وأَحْمَشَكُم فألْفاكم غضابا ، فَخَطَمْتُمْ(3) غير إبِلكم ، وأورَدتُموها غير شربِكم . بداراً زعمتُم خوفَ الفِتنة ،﴿ ألاَ في الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنْ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾(4)
هذا ، والعَهْدُ قريبٌ ، والكَلِّمُ رَحِيبٌ ، والجُرْحُ لَمَّا يَنْدِمِل ، والرسولُ لَمَّا يُقْبَرُ .
هيهاتَ منكم ، وأين بِكم ، وأنّي تُؤْفَكُون ؟ وكتابُ اللهِ بينَ أظْهُرِكم ، زواجرُه قاهِرةً ، وأوامِرُه لائحةٌ ، وأدِلَتُه واضحةٌ ، وأعلامُه بينةٌ ، أرغبةٌ - ويحكُم -عنه ؟ هو﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدلاً ﴾(5).
ص: 260
ثم لم تَرِيثُوا بعد اجتهادٍ ، إلا ریثما سَكَنَتْ نَفْرَتُها ، وأَسْلَسَ قيادها.
تُسِرون حَسواً في ارْتِغاءِ ، ونحن نَصْبُرُ منكم على مِثْلِ وَخْز(1) المُدَي ، وأنتم الآن تزعُمون أن لا إرْثَ لَنا ، ولاحظّ . ﴿ أَفَحُكْم الْجَاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ (2)
ويهاً (3) مَعْشَرَ المُسلِمة ، أأبتزُ إرْثِيَة ؟ أفي كِتابِ(4) الله أن تَرِثَ أباك ولا أرثَ أبية ؟ لقد جئتَ شيئًا فَريًّا (5)
جُرأةٌ منكم علي قطيعةِ الرَّحِم ، ونَكْثِ العَهْدِ ، فعَلي عَمْدٍ ما تركتم كتاب اللهِ بين أظهُرِكم ونَبذتُموه .
فدُونَكَها مَرْحُولَةٌ مَزْمُومةٌ (6) ، تكون معك في قَبرِك ، وتَلقاكَ يوم حَشرِك ، فنعم الحَكَمُ الله ، ونعم الزعيمُ محمدّ ، والمَوْعِدُ القيامة، وعند الساعة ما يَخْسرُ المُبْطِلُون ، و﴿ لكُلِّ نبأٍ مُسْتَقَرٌّ وسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾(7)
ص: 261
ثم عدلَتْ إلى مجلس الأنصار ، فقالت : يا مُعْشَرَ الفِئَّةِ (1) وأعضادَ المِلَّة ، وحَضنَةَ الإسلامِ ، ما هذه الغَمِيزَةُ فِي حَقِّى ، والسَّنَةُ عنظلامَتِي ؟ أما قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : « المرء يُحْفَظُ في ولده » ؟ لسرعان ما أحْدَثْتُم ! وعَجْلانَ ذا إهالةً !
اتقولون : مات محمد ؟ لَعَمْرِي ، خَطبٌ جليلٌ ، اسْتَوْسَعَ وَهيُه ، واسْتَنْهَرُ فَتْقُه ، وفَقِد رايقه ، وأظلمت الأرضُ لغيبته ، واكتابَتْ خِيرَةُ اللهِ المُصيبته ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال وأضيعَ الحَرِيمُ ، وأذيلَت الحُرْمَةُ ، فتلك نازلةٌ عَلَنَ بها كتاب الله في أفنيتكم ، مُمْساكُم ومُصبَحَكُم ، متافاً هِتافاً .﴿ وَمَا مُحمدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضْرُ اللَّهُ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكرين ﴾(2)
إيهاً بني قَیْلَةَ : أأهْتَضَمُ تُراثَ أبي وأنعم بمرأَي منِّي وَمَسْمَع ؟ تشمَلُكم الدعوةٌ ، وينالُكم الخَبرُ ، وفيكم العَدَدُ والعُدَّةُ ، ولكم الدارٌ ، وعندكمُ الجُنَنُ ، وأنتم نُخْبةُ اللهِ التي انتَخَب لدينهِ ، وأنصارُ رسُولِه ، وخِيرتُه التي انتَجَب لنا أهلَ البيت ، فنابَذْتُم فِينَا صَمِيمٌ العرب ، وناهَضتُم الأُمَمَ ، وكافَحْتُم البُهمَ ، لا نَبرَحُ ولا تَبرَحُون ، ونأمُرُكم فتَأْتَمِرُون ، حتى دارَتْ لكم بِنا رَحَي الإسلام ، ودَرَّ حَلَبُ
ص: 262
الأيّام ، وخَضَعَتْ نَخُوةُ الشَّرْك ، وباخَت نيرانُ الحَرْبِ ، وهَدَات رَوْعَةُ الهَرْج ، واسْتَوْسَقَ نِظام الدين.
فأني جُرِّتُم بعد البيان ، ونَكَصتُم بعد الإِقدام ، عن قومٍ نكثُوا أيمانهم ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مؤمنين ﴾(1).
الا قد أري - والله - أن قد أخْلَدتُم إلى الخَفض ، وركنتُم(2) إلي الدَّعَةِ ، وعُجْتُم عن الدّين ، ومَجَجْتُم الذي عَرفْتُم ، ولَفَظْتُم (3) الذي سُوغتُم ، ف﴿ إن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَعَني حَمِيدٌ ﴾(4).
الا وقد قُلْتُ الذي قلتُ ؛ علي معرفةٍ بالخِذلَة التي خامَرتُكم ولكنّها فَيْضَةُ النَّفْسِ ، ومُنْيَةُ الغَيْظ ، ونَفْثَةُ الصَّدْرِ ، ومَعْذِرَةُ الحُجَّة، فدونكم فاحْتَقِبُوها مُدْيرةَ الظُّهْرِ ، مَهِيضَةَ العَظمِ ، خَوْراءَ القَناةِ ، ناقبة الخُفِّ ، باقية العارِ ، موصولةٌ بشنارِ الأَبَد ، متصلة ًبنارِ اللهِ ،
فبعَينِ اللهِ ما تَفْعَلُون ، واعْمَلُوا إنا عامِلون ، وانتظرُوا إِنَّا مُنتَظِرُون ، وأنا ابْنَةُ نذيرٍ لكم بين يَدَيْ عذاب شديد ، ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ
تُنْظِرُونِ ﴾(5) ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ )(6)
ص: 263
ثم الكفات إلى قبر أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) ، متمثلةً بقول صفيَّة بنت عبد المطلب ، وقيل : أُمامة:
قد كان كان بعدَكَ أنباء ٌوهنبئةٌ*** لو كُنتَ شَاهِدَها لم تكثُرِ الخُطب
إنا فقدناكَ فَقدَ الأرض وابِلَها*** وغاب مدغِبتَ عناّ الوَحْيُ والكُتُبُ (1)
تَهَضَمَتنا رجالٌ واستُخفَّ بنا*** إذ بنتَ عنّا فنحن اليوم نُعْتَصَبُ
أبْدَتْ رِجالٌ لَنا فَحْوي صُدُورِهِمْ*** لمَّا فُقِدْتَ وحالَتْ دُونَك الكُتُبُ
قال : فما رأينا يوماً أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم .
***
هذا الحديث أكثرُ ما يُروي من طريق أهل البيت ، وإن كان قد رُويَ من طُرُقٍ أخري ، أطولَ من هذا وأكثر .
وأهل الحديث يقولون : إنه موضوع علي فاطمة.
وقال ابن قُتيبة : قد كنتُ كتبتُه وأنا أري أنَّ له أصلاً ، وسألتُ عنه رجال الحديث ، فقال لي بعضُ نَقَلَةِ الأخبار : أنا أُسَنٌ مِن هذا الحديث ، وأعرِفُ مَن عَمِله والحديث بتمامه ذكره ابن أبي الحديد، في موضعين من شرح نهج البلاغة ، 211/16 -213،249-251 ، وانظر منه أيضا 43/6 ، وانظر الفائق 331/3، 116/4 وبلاغات النساء ص 16 (2)
ص: 264
قلت : هذا الحديث وإن كان موضوعاً كما ذكروا ، فهو من أفصحِ الكلام وأحسَنِه مأخذاً ، واحتجاجاً ، ولعل واضِعَه لا ينقُصُ درجةً عن الحجّاج بن يوسف الثقفّي ، وكُتبُ غريبِ الحديثِ مشحونةٌ بشرح ِكلامهِ وخطيه (1) ، فلا بأس أن يُجري هذا الحديث ُمجراها ، في شرح غريبه ومعانيه ، ولعلّ أكثر ما يُروي من أحاديث الغريبِ الطّوال جارية ٌهذا المجري ، في التصنُّع (2) . والله أعلم
شرحه
الزهراء : تأنيثُ الأزهر ، وهو النّيرُ المُشْرِقُ من الألوان، وأراد به إشراق نُورٍ إيمانها ، وإضاءتَه علي إيمان غيرها .
وفَدَكُ : اسمٌ قريةٍ من قُري خَيبر ، كانت هي وغيرُها من قراها خاصةً لرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقعت في سهمه من خيبر ، فلذلك طلبَت فاطمةُ سَهْمَها من ميراثها.
ولا ثت المرأةُ خِمارها : إذا لوَتْه علي وجهها ورأسِها ، ولاث الرجل عمامته : إذا أدارها على رأسِه.
ص: 265
واللمَةُ ، بضم ٌاللام وتخفيف الميم : الجماعةُ من النِّساء ، ما بين الثلاثة إلى العَشرة . قيل : أَصلُها فُعْلَةٌ ، من الملاءمة ، وهي الموافقةُ والاجتماع .
قال الجوهريٌ : الهاء عوضٌ من الهمزة الذاهبة من وسطها.
والحَفَدَةُ : الأَنْبَاعُ والخَولُ ، جَمْع حافِدٍ وحافِدةٍ ، سُمُّوا به من الحَفدِ : الإسراع في الخدمة والعَملِ . يُقال : حَفَدْتُ وأحفَدْتُ.
ووطؤُ الذّيل في المشي : من آثار الحياء والخَفَر ، وكان ذلك من عادة نساء العرب .
وقولُها : « لا تَخْرِمُ مِشيَةَ رسولي الله» أي لا تترك ولا تُخالِف ، وكانت مشيتها تُشبه مِشيتَه.
والحَشدُ ، بسكون الشَّين : الجَمْع ، واحتشَدَ القومُ : إذا تجمّعوا.
ولُطِّتْ : أي مُدَّتْ وسُتَرتْ ، يقال : لَطِّ الحَقِّ بالباطل : إذا سَتَره به .
ويُروي :« نبطَتْ » أَي عُلّقتْ ، يقال : ناطَ به كذا ينوطُه نَوْطاً : إذا علقه .
والمُلاءَةُ : الإِزار .
والأنينُ : صوتُ المتوجِّع الشّاكي.
وأجهَشَ بالبكاء : إذا نهيّاً له ، يقال : جَهشتُ ، وأَجْهَشْتُ ، وأصلُه أن يفزع الإنسانُ ، ويلجأ إلى غيره ، وهو مع ذلك يريد البكاء ،
كما يفزعُ الصبيُّ إلي امّه من شيء يخافه .
ص: 266
والنَّحيبُ : الصوتُ في البكاء
وفَوْرةُ الشيء : أَوَّلُه ، وحِدتُه ، ومنه فَوَرانُ القِدْرِ ، وغَليانُها .
والرّوعَةُ : المَرَّةُ من الرَّوع : الفَزَع.
وقولُها :« عَوْداً علي بَدْءٍ » أي مرّةٍ بعد مرة ، وآخراً بعد أوّل.
والسِّرْفُ : ضِدُّ القَصْدِ ، والسُرفُ : الإغفالُ والخطأ ُ
والشَّطْطُ : البُعدُ عن الحَقِّ ، والجَوْرُ ، والظُّلم .
والعَنَتُ : الإِثْمُ ، والوقوع في أمرٍ شاقٌ ، وقد عَنْتَ هو ، وأعنتَه غيرُه .
وعَزَوْتُ الشيءَ أَعْزِيه ، وأَعْزُوه ، فهو مَعْزِي وَمَعْزُرُ : إِذا أَسْنَدْتَه إلي غيرك . أي إن نسبتُم رسول الله الله إلي أحدٍ من النَّساء والرِّجال، فأنا وعليٌّ ابن عمّي أقربُ إليه من نسائكم ورِجالكم .
والنذارةُ : الإنذارُ ، يقال : انْذَر يُنذِرُ إنذاراً ، ونِذارةٌ : إذا أعْلَمَ بالأمر . والإنذار أيضاً : التخويفٌ .
والصَّدْعُ في الأصل : الشَّقُ . وصادِعاً بالرسالة : أي مُبَلغاً لها ، على أكمل وَجه ، وأتمِّ قضيَّة ، ومنه قوله تعالي : ﴿ فَاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ﴾ (1)
والنَّاكِبُ : العادِلُ عن الشيء .
والسُّننُ : الطريقُ الواضحُ .
ص: 267
والأَثْباجُ : جَمْع ثيج ، وهو الوسطُ ، وما بين الكتفين من الظَّهر .
والأکظامُ : جمع كَظمِ ، بالتّحريك ، وهو مَخْرجُ النَّفْسِ مِن الحلَق.
والفَضُّ : الكسرَ ، والفَتْحُ.
والهامُ : الرؤوسُ ، جمع هامةٍ
والجَذٌ : القَطعُ والاستنصالُ ، والكَسرُ .
والجَمْعُ : الجَيش ُ.
وتوليةُ الدُّبُرِ : الانهزامُ.
وتَفَرّي اللّيلُ عن صُبحه : أي انكشَفَ ، وانشَقَّ ، يقال : فَريتُ الشيءَ : إذا شَققتَه للإِصلاحِ ، وأفريتُه : إذا شقَقْتَه للإفسادِ(1)
والمَحْضُ : الخالِصُ.
والإسفارُ : الإضاءةُ ، والظُهورُ ، ومنه إسفارٌ الصُّبح .
وزعيمُ المقوم : رئيسُهم ، ومُقَدَّمُهم .
وشقاشِقُ الشَّیاطين : ما يتكلَّمون به ، وأصلُه مِن الشَّفْشِيقَةِ التي يُخرجُها الجَمَلُ مِن جَوْفِه ، وهي جِلْدةٌ حمراءُ يَنْفُخُ فيها ، وتَظْهَرُ مِن شِدقِه ، فشَبَّه بها الكلامَ ؛ لخُروجِه من الفَم .
وفاةَ بالقولِ يفُوه به ، وتفوَّه : إذا تكلَّم ، وهي مبنيةٌ من لفظِ الفَم (2)
ص: 268
وكلمةُ الإخلاص : شهادة أن لا إله إلا الله .
وشَفَا كلّ شيءٍ : حَرْفُه ، وجانبُه.
والمَذْقَةُ : الشَّربةُ اليَسيرةُ ، مِن اللَّبن المَمْذُوق ، وهو المخلوطُ بالماء .
والتَّهْزَةُ : الفُرْصَةُ ، وأَخَذُ الشيء مُبادَرَةً ، وأَصلُ النَّهْر : الدَّفْعُ .
والقَبْةُ : المَرَّةُ من اقتباس النار ، وبالضم : الاسم ، وهي الشُّعلةُ.
أي إنكم كنتم علي حَرفِ من الهلاكِ ، المُوقع في النار ، وكنتم مُهملين ، بمنزلة ما يأخذه ذائقُ اللَّبن ليختبره ، وكنتم فُرصةً للطامِع فيكم ، وبمنزلة اقتباس المستعجل لأخذِ الشُّعلة من النار .
والطَّرْقُ : الماءُ الكَدِرُ الذي خاضَته الإبلُ ، وبالَتْ فيه ، وبَعَرت .
ويُروي : « الرِّنْقُ » ، وهو الماءُ الكَدِرُ ، والرنقُ ، بالتحريك : المَصْدَرُ ، وقد رَنِقَ الماءُ يَرنقُ.
والاقتباتُ : أكل القوت.
والقَدُّ بالفتح : الجِلْدُ غيرُ المَدْبُوعَ ، كانوا يأكلونه في الجَدْبِ والمجاعة .
وقيل : هو جِلْدُ السُّخْلة والماعِزةِ .
والقِدُّ ، بالكسر : سيّرٌ يُقْطَعُ من جِلْدِ غير مَدْبُوعَ .
والخُشوعُ : الذُّل ، والخُضُوعُ .
ص: 269
والتُخطفُ : الاستِلابُ ، وأَخْذُ الشيء بسُرعة ، وقد خَطِفَ الشيءَ يَخْطَفُه ، وخَطَفه يَخْطِفُه(1)
والإنقاذُ : الإنجاءُ ، والتخليصُ.
وبعد الَّلتيّا والَّتي(2) : أي بعد الشّدائدِ ، والأمورِ العظيمة ، وهي كلمةٌ تُقالُ في الأمرِ الصَّعب المُستبعَد.
الَّلتيّا: تصغير الَّتي، ولم يستعملوا معها الصَّلةَ والعائد ؛ ليوهِمُوا أن الأمرَ بلَغَ مِن الشَّدَّةِ ما تَقْصُرُ العِبارةُ عن وصفه .
وتقديرُه : بعد الَّتي من شدَّتها كَيْتَ وكَيْتَ .
ومُني الرجلُ بكذا : أي بُليَ به. يُقال : مَنَوْتُه ومَنيْتُه : إذا ابتلَيتَه ، وكأنّه من المَنَا : القَدَرِ ، قال :
ص: 270
« حتّي تُلاقي ما يَمْني لك الماني» (1)
أي ما يُقدِّر لك المُقَدِّر(2)
والبُهَم : جَمْعُ بُهمةٍ ، بالضمّ ، وهي مُشكِلاتُ الأمورِ فاستعارَتها لشِدادِ الرِّجالِ .
وإن كانت الهاءُ ساكنة ٌ، فهي جمعُ بَهِيم ، وهو الذي لا يُخالِطُ لونَه لونٌ سِواه .
والذوبان : جَمْعُ ذِئبِ (3) . وتُريدُ به لُصوصَ العَرب ، وأشرارهم
ص: 271
والمَرْدَةُ : جمع مارِدٍ ، وهو الشيطانُ الدَّاهِي مِن الإنس والجن .
وأهلُ الكتاب : اليهودُ والنصاري .
وحشَّ النارَ يَحُشُها : إذا أوْقَدَها .
ونَجَمَ القَرْنُ ، والنَّبتُ : إذا طلعا.
فاستعارَتْ طُلُوعَ القَرْنِ لمَن يَخْرُجُ من الناس ، يبتغي الفِتنۀَ والشَّرُ ؛ ولذلك جعلته للضّلالة .
وفَغَر فاهُ يَفْغَرُه : إذا فَتَحه ، وفَغَرتِ السِّنُ : إذا طَلَعت ، كأنه يَنْفَطِرُ ، وينفتحُ للِّنبات . فاستعارته لظهورِ أهلِ الشِّرك .
والقذفُ : الرَّميُ ، والإلقاءُ بقُوَّة .
والهَوَاتُ : جَمْع لَهاةٍ ، وهي سَقْفُ أَقْصَى الفمِ ، فاستعارَتها لغاية الحَربِ، وشِدَّتِها.
ويُروي : « في هواتِها » ، جَمْع هُوَّة ، وهي الوَهْدَةُ ، والحُفْرة فاستعارتها للوَرطة التي لا مَخلَصَ مِنْها.
والانكفاء : الرُّجُوعُ .
والصَّماخُ : الأُذُنُ ، وقيل : ثَقْبُها ، فكَنَتْ به عن الرأس ؛ لأنه منه .
والأَخْمَصُ : المُتَقعر مِن أسْفَلِ القَدَمِ .
تُريدُ : كُلَّما ظَهَر صاحب ضلالةٍ ، أو طَلَعَ للمشركين طالعٌ . ألقَي عليًّا في نُحُورِهِم ، ووَرَطاتِهم ، فلا يرجعُ حتّي يطأَ رُؤوسَهم بقَدَمِه ، ويُطفي، نيران َحربهم بسَيفه .
ص: 272
019
والمَكْظُوظُ : المُهْتَمُّ . وأصلُ الكَظِّ : الامتلاءُ ، والكَرْبُ والثِّقل(1).
ويُروي : ( مَكْدُوداً ) ، وهو ، وهو المُتعَبُ ، وقد كَدَّه يَكُده كدا . وقولُها : « في ذاتِ اللهِ » أي في جَنْبِ نُصْرَةِ دِينِه ، والوُقُوفِ عند حُكمه .
وقد اختلَفَ أهلُ العربيّة في إطلاقِ لفظةِ « الذَّاتِ » علي الله تعالي ، فمَنَع منه أكثرُهم ؛ لأنَّ التاء فيها للتأنيث ، وقد وردَت في غير موضعِ من الحديثِ الصَّحيح ، وذلك دليل جَوازِها ، ولا تكون التاءُ فيها للتأنيث ؛ فقولهم :« في ذاتِ اللهِ » أي في الله ، كما يُقالُ : ذاتُ زَيْد، أي نفْسه ، وعينُه ، ومنه شعر ُخُبَيبٍ الأنصاريّ :
وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ يُبارِك علي أوصالِ شِلوِ مُمَزَّع (2)
والمُجِدُّ : ضِدُّ الهازل ، يُقال : جَدَّ في الأمرِ ، وأجَدَّ ، بمعني .
والكَدْحُ : الاجتهاد في السَّعي والعَمَلِ .
والبُلَهْنِيَۀ : الراحةُ ، وسَعَةً العيش .
ص: 273
والوادِعُ : السَّاكِنُ ، والدَّعَةُ منه ، والهاءُ فيها عِوَضٌ من الواوِ المحذوفة .
والرِّفاهِيَةُ : التَّنْعُمُ ، وطيبُ العيشِ ، وأصلُه الخِصبُ.
والفكهُ : الطَّيِّبُ النَّفْس ، والفَكِهُ أيضاً : الأشرُ البَطِرُ، والفاكهين(1) : النَّاعِمين.
والعَفوُ : السَّهلُ الهنيء ُ.
والتَّوكُفُ : استعلامُ الأخبارِ ، وتوقَّعُها(2)
والنَّكُوصُ : الرُّجُوعُ إلي وراء.
والنّزالُ : القِتالُ.
ودارُ الأنبياءِ : الدارُ الآخِرة ؛ خُصُّوا بها لرَغبتهم في الذَّهاب إليها ؛ ولأنَّهم أحَقُ بها.
والحَسِيكَةُ : العداوة ، والْحِقُدُ ، يقال : هو حَسكُ الصَّدْرِ ،وحسيكه
والجِلبابُ : الإزارُ.
وأَسْمَلَ الثَّوْبُ ، وسَمَل ، وانْسَمَلَ : إِذا أَخْلَقَ ، وَبَلِيَ .
وإخْلاقُ العَهْدِ : كِنايةٌ كناية عن ضَعفِه ، وإهمالِ العمل به .
ص: 274
والكاظِمُ : المُمْسكُ عن الكلام على غيظ .
وتبع الشيءُ : إذا طَلّع وظَهَر .
والحَامِلُ : الوضيعُ ، الذي لا يكاد يُعْرَفُ .
والفنيق : الفَحْلُ مِن الإبل.
والهَديرُ : تَرْدِيدُ صَوْتِه في حَنجرتِه.
وخَطَر يَخْطِرُ : إِذا تَبَخْتَر فِي مَشيهِ ، مُعْجَباً بنفسِه.
والعَرَصاتُ : جمع عَرْضَةٍ ، وهي الفُسْحَةُ مِن الدارِ ، لابناء فيها
ومَغْرِزُ الرَّأْسِ : مُنْتَهى العُنُقِ مِن أعلاه ، كأنَّ رأسَه كان مُنْخَفِضا فأَطْلَعَه .
والصراخ : الصَّوتُ العالي .
والإصاحةُ : الاستماع
والغِرَّةُ : الغَفْلَةُ .
والمُلاحظَةُ : النظر بلحاظ العين ، وهي مُوخِرُها ، ولا تكون المُلاحظة إلا مع ترقب وتوقع وأَحْمَشَكُم ، بالشين المعجمة : أي أغْضَبكم ، يقال :
أحْمَشْتُ الرجلَ ، وحَمتُه ، إخماشاً ، وتحميشاً.
والخَطْمُ : تَرْكُ الخِطامِ ، وهو كالمِقودِ في رأس البعير.ح
ويروي :« فَوَسَمْتُم غير إيلكم » مِن الوَسمِ : الكي ، أي أخذتم غير حقَّكم ؛ لأن الإنسان إنما يَخْطِمُ ، أو يَسيمُ مِن الإِبل ما هو مِلكُه ، ولذلك قالت : « وأورَدْتُموها غير شيربكم » أي جمعتم بينَ اغتصابها وسَقيها غير مائِكم.
ص: 275
والكلمُ : الجُرْحُ .
والرحيب : الواسعُ .
واندمالُ الجُرْحِ: بُرؤُه وصلاحُه.
وقولُها : « والرسولُ لَمَّا ُقْبَرُ » تقريب الزمن وفاته .
و « لَمَّا» حرف جَزْمٍ ، مثل « لم » ؛ إلّا أنّ « لم » جوابُ « فَعَلَ » و « لَمَّا» جواب « قد فَعَلَ » فزادوا « ما » بإزاء
« قَدْ » ، فتضمَّنت بذلك معني التوقُّعِ والانتظار.
والبدارُ : السُّرْعةُ ، والعَجَلَةُ . تُريد أنَّهم إنَّما عَقدُوا البيعة َلأبي بكرٍ ، خوفاً من الفِتنة ،واختلافِ المسلمين في طلب الخلافة.
وتُؤْفَكُون : بمعني تُصرَفُون ، ويُذْهَبُ بكم .
والزَّواجِرُ : النَّواهِي .
ووَيْحٌ : كلمة رحمةٍ ، تُقَدَّمُ علي الخِطاب ، يُقال : وَيْحٌ له . ووَيْحاً له ، ووَيْحَهُ .
وبِئْسَ : كلمةُ مُبالَغَةٍ فِي الذَّمِّ ، نَقِيضُ « نِعْمَ » .
و« بَدَلاً » منصوبٌ علي التمييز .
والريْثُ : الإبطاء ُ، يقال : راث الأمرُ ، يَريثُ ، وتُضافُ إليها « ما » ليصحٌ وُقوعُ الفَعلِ بعدَها (1).
ص: 276
والمعني : لم تَلْبَثُوا إلّا بقَدْرِ ما سَكَنَتْ نَفْرَةُ الحال الحاضرة.
وأسْلَسَ قِيادُها : أي سَهُلَ أمرُها ، وهانَ صَعْبُها.
وقولُها : « تُسرُّونَ حَسْواً في ارْتِغاء » ، هذا مَثَلٌ قديمٌ(1)، ومعناه : تُظهرون خلاف ما تُضمِرُون .
والارْتِعاءُ : شَرْبُ رُغْوَةِ (2) اللَّبِن .
وأصلُه الرجلُ يُوتي باللَبن ، فيُظْهِرُ أنه يُريدُ الرُّغوةَ خاصةً ، لايُريدُ غيرَها ، فيشربها ، وهو مع ذلك يَحْسُو مِن اللَّبن سِرّا.
والوَخْرُ : النَّخْسُ .
والحَزّ : قَطْعُ الشيء من غير أن يَبِينَ.
والمُدَي : جَمْع مُدْيَةٍ ، وهي السَّكينُ .
والابتغاءُ : الطَّلَبُ .
ووَيْهاً : كلمةٌ يقولُها المُغْرِي بالشيءِ ، والمُنْكِرُ له ، علي القوم ِالمُخاطبين.
وإيهاً : كلمةُ تحريضِ ، وحَثَّ ، واستِزادة .
والمُسْلِمةُ ، والمُهاجرةُ : تُريدُ بهما الأمَّةَ المسلمةَ ، والطائفةَ المهاجرة َ.
ص: 277
والابتزاز : السَّلْبُ ، والأخُذُ ، يقال : بَزَّه ثَوبَه ، وابتزَّه. ثُوبَه
والهاء في « إرْثِيَّة » و « أبيه » هاءُ السُكتِ والوقِف ، كقولِه تعالي : ﴿ مَا أَغْنَي عَنِّي مَالِيه ﴾(1).
والأمرُ الفَريُّ: العظيمُ.
والجُرَّأةُ : الإِقدام على الأمرِ.
وقَطْعُ الرَّحِمِ : ضِدُّ وَصلِها ، وهو عُقُوقُ الأهل والأقارب ،وتَركُ بِرّهِم ، والإحسانِ إليهم .
ونَكْثُ العَهْدِ : نَقْصُه .
والعَمْدُ : القصدُ ، وهو ضِدُّ الخطأ.
والنَّبذُ : الرَّمىُ ، والإلقاءُ.
والهاءُ في « فدُونَكَها » راجعةٌ إلى الحالةِ ، والقَضيّةِ الموجودِة.
والمَرْحُولَةُ المَخْطُومَةُ : الناقةُ التي شَدَّ عليها رَحْلُها ، وعُمِلَ في رأسِها خِطامُها ، فهي مُعَدَّةٌ للرُّكُوب ، والقَوَدِ .
والمَزْمُومةُ : التي جُعِل في رأسِها زِمامُها.
والزِّعيم ، ها هنا : الكفيلُ ، الضّامِن .
وقولُها للأنصارِ : « يا مَعْشَرَ التَّقِيَّة»(2) أي يا أهلَ التَّقْوَي ، أو الاتّقاء ، الذين يُدْفَعُ الجَوْرُ بِكم .
ص: 278
وأعضادُ المِلَّةِ : أنصارُها ، وحُماتُها
وحَضَنَةُ الإسلام : حافِظُوه ، ورابوه ، جَمْعُ حاضين ، وهو كافِلُ الطِّفْلِ ، كأَنَّهم جَعَلُوا الإسلام في حِضنِهم.
والغَمِيزَةُ : العَيْبُ ، والتُّهمةُ ، مِن العَمْرِ : العَيبِ ، يقال : ليس في فُلانٍ غَمِيرَةٌ ، ومَغْمَزٌ ، أَي مَطْعَنٌ ، ومَعَابٌ .
والسَّنَةُ : أوّلُ النَّومِ ، وهي مِن الوَسَنِ ، والهاءُ عِوَضٌ من الواو . أي ما هذا النَّومُ ، والإغضاءُ عن كَشْفِ ظُلامَتِي ؟
والسِّرعانُ : بمعني سَرُعَ ، يقال : سَرعانَ ذا خُرُوجاً ، بالفتح ، والضَّمّ ، والكَسْرِ
قال الجوهريُّ : نُقِلتُ فَتحةُ العَيْنِ إلى النُّون ؛ لأنه معدولٌ مِن سَرعَ ،فبُنَي عليه . ولَسَرعانَ ما صَنَعْتَ كذا : أي ما أَسْرَعَ ! ويقال : سَرعَ ما صَنَعْتَ كذا ، أراد : سَرُعَ ، فخَفَّف (1)، وقد رُويَ كذلك.
والمعني : ما أَسْرَعَ مُخالفتكم ما كان عليه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)! وقولُها : « عَجْلانَ ذا إهالَةٍ »(2)عَجْلان : مِن عَجِل ، كسَرعان : مِن سَرُعَ
ص: 279
والإهالَةُ : الدُّهْنُ ، والوَدَك الجامدُ(1)
والخَطْبُ : الشَّأْنُ ، والحال.
والوَهْيُ : الخَرْقُ ، وقد وَهَي الشَّيءُ يَهِي : إذا هَلَكَ ،أو كاد .
واسْتَنْهَر فَتْقُه : أي اتَّسَعَ ، فصار كالنَّهْرِ ، مَجْري الماءِ .
والرائق : السَّادُ ، ضِدُّ الفاتِق .
واكتابَتْ : أي صارَتْ كتيبةٌ حَزينةً ، يُقال : كَتِبَ ،واكتاب .
والإكْداءُ : الخَيْبةُ ، وأصله من حافِرِ البئرِ ، ينتهي إلى كدية من الأرض ، وهي القِطْعَةُ الصَّلبَةُ ، فلا يُمْكِنُه الحَفْرُ ، فيتركه ، يقال : اكدي الحافِرُ : إِذا بَلَغَ الكُدْيَةَ .
والحَرِيمُ : الأهل ، والنِّسَاءُ .
والإذالة : الإهانةُ ، والإذلالُ.
وقولُها : « عَلَنَ بها كِتابُ اللهِ » هكذا رُوِيَ ، فإن صَحَّ فهو مِن عَلَنَ(2) الأمرُ ، يَعْلُنُ عُلُوناً : إذا ظَهَر ، وعَلِنَ يَعْلَنُ عَلَنَا ، وأعلَنْتُهُ أنا : إذا أظهرته .
والهتافُ ، بالكسر : الصَّياحُ ، وتكرارُه للتأكيد.
ص: 280
ومُمْساكُم ومُصْبَحُكم : مصدرٌ ، أي تَرونَه عندَ المساءِ والصَّباح .
وبنو قَيْلَة : هم الأنصارُ ، وقيلَةُ : أَمُّهمُ الأُولي ، وهي قَيْلَةُ بنت کاهِل .
والهَضْمُ : الوَضَعُ ، والاطْراحُ . تُريدُ به مَنْعَها مِن حَقِّها.
والجُنَنُ : جَمْعُ جُنَّةٍ ، وهو ما يُدْفَعُ به الأذي.
ونُخْبةُ الشيء : خالِصه.
و خيرته : ما اختِيرَ(1) منه.
والانتجابُ ، بالجيم : الخِيارُ ، وأخذُ النَّجيب مِن الشيء .
والمُنابَذَةُ : المُقاتَلَةُ ، والمُخاصَمَةُ.
وصَمِيمُ العَربِ : أَصلُهم ، وخالِصَهم .
والمُناهَضَةُ : مُفاعلةٌ من النُّهوض في الأمر ، والقيامِ به .
والمُكافحةٌ : المُقاتلةٌ ، والمُدافَعَةُ .
والبُهمُ : الجَمَاعَةُ ، وقد تقدَّم (2)
ودَوَرانَ رَحا الإسلام : كنايةٌ عن انتظامِ أمرهم ، واستِمرارِه .
ودُرُورُ حَلَبِ الأيامِ : كنايةٌ عن اتِّساعِ الرِّزق ، والخير .
والنَّخوةٌ : الحَميةُ ، والكبرُ .
وباخت النَّارُ : إذا فَتَرتُ وسكَنَ لَهَبُها .
ص: 281
والهَرْجُ : الاختلافُ ، والقتلُ .
واسْتَوْسَقَ الأمرُ : إِذا تَمَّ ، وَكَمُل .
والنِّظامُ : العِقدُ.
والجَوْرُ : الظُّلْمُ .
وإن كان بالحاء المهملَة : فهو من الضِّلال عن الطَّريق ، والحيرةِ فيه .
وأَخْلَدَ إلى الأمرِ : إذا مالَ إليه ، وألقى نَفْسَه نَحْوَه .
وخُلِبْتُم بالدَّعَةِ : أَي خُدِعْتُم بالسُّكون والراحةِ .
والعَوْجُ : العَطْفُ ،يقال : عُجْتُ البعيرَ ، أعُوجُه عَوْجاً ، ثم استعُير للرُّجُوع . يقال : فلانٌ ما يَعُوجُ عن كذا ، أي ما يَرْجِعُ عنه.
والمَجُ : إلقاء ُما في الفَمِ ، أو الجَوْفِ .
ويُرْوَي : « جَمْجَمْتُم » ، وهو تركُ الإِفصاحِ بالقول.
والْلفظُ : الرَّمْيُ ، يقال : لَفظْتُ الشيء ، ألْفِظُه : إذا رَمَيْتَه.
وسُوْغُتُم : أي جُعِلَ لكم سائغاً ، هَنِيءَ البَلْع .
ويروي : « دَسَعْتُم » ، أي دفَعْتُم ، يقال : دَسَعَهُ دَسْعاً ، إذا دَفَعه .
والخِذْلَةُ : الحالةُ مِن الخِذْلان.
والمُخامَرَةُ : المُخالَطَةُ .
والفَيْضُ : الامتلاءُ ، والجَرْيُ (1)
ص: 282
والمُنيةُ : فعلةٌ من التَّمنّي.
والنَّفْئَةُ : المَرَّةُ مِن النَّفْثِ ، وهو أقلٌ البَصْقِ .
والمَعْذِرَةُ : مَفْعِلَةٌ مِن الاعتذار.
تريدُ : إنما قلتُ هذا القولَ ؛ لأنَّ نَفْسي امتلأت ففاضَتْ ، وغَلَبني الغَيظُ ، فأعطيتُه مُناه ، وامتلأ صَدْرِي فَبَصَقْتُ ، وَأَظْهَرْتُ الحُجَّةَ ؛ ليقومَ عُذْرِي فيما قلتُ .
والاحتقابُ : الادّخارُ ، والاقتناءُ ، يُقال : حَقَبَ الشيءَ ،واحتَقَبه.
والضميرُ راجعٌ إلى الحالِة ، كالضَّمير المتقدِّم .
والمُدْبِرَةُ الظَّهِرِ :ناقِةٌ التی دَبرَ (1) ظَهرُها ، وانْعَقَر.
والمَهِيضُ : المَكْسُورُ : المُهانُ .
والحوراءُ : اللَّينَةُ الضَّعيفةُ ، من الْخَوَرِ : الضَّعف .
والقناةُ : استعارة لصُلبِها ، أو قوائِمِها.
والنَّاقِبَةُ الخُفْ : هی التي حَفِيَ خُفُّها ، نَقِبَتْ فهي ناقِبَةٌ، وأنْقَبَ الرجلُ ، وأَدْبَرَ : إِذا حَفِي خُفٌ بعيره ، وانعَقَر ظَهْرُه .
والعارً ، والشَّنارُ بمعنيً.
والنذيرُ : الْمُنْذِرُ ، فَعِيلٌ بمعني مُفْعِل .
والكَيْدُ : المَكْرُ .
والإِنظارُ : التأخير.
ص: 283
والهَنبثَّةُ : الأمرُ العظيمُ ، المختلفُ ، وجمعُها : هنابِثُ .
ويُروي : « هَيْنَمَةٌ » وهي الكلام الذي لا يُفهمُ لخفائِه ، كالدُّنْدَنة ، والياءُ زائدةٌ.
والوابِلُ : المَطَرُ الغزيرُ.
والتّهَضُمُ : الإِذلالُ ، والانتِقاصُ.
وفَحْوي الكلامِ: مفهومُه ، دُونَ صَريحه .
ص: 284
اعَلَامُ النِّسَاءِ
في عَالمي العرب والإسلام
الجزء الرابع
تأليف
عمر رضا کحّاله
الطبعة الثانية
المطبعة الهاشمية بدمشق
1378ه_ -1959م
ص: 285
أصلح بينهما ثم خرج . فقيل له : دخلت وأنت على حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك . فقال : وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي .
و خطب علي بن أبي طالب بنت أبي جهل بن هشام (1) فاستأذن بنو هشام ابن المغيرة في ذلك رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فلم يأذن لهم . وسمعت فاطمة بذلك فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكح بنت أبي جهل فخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)مغضباً حتى رقى المنبر واجتمع الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإن ابنتي بضعة مني يريبني مارابها ويؤذيني ما آذاها وأن تجتمع بنت نبي الله مع بنت عدو الله إني أخاف أن تفتن فاطمة في دينها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وابنة عدو الله في مكان واحد أبداً (2)
فترك علي الخطبة . وتزوج ابنة أبي جهل عتاب بن أسيد . وظلت فاطمة الزهراء الزوجة الوحيدة لعلى بن أبي طالب طيلة حياتها ولم يتخذ على عليها زوجة حتى
ص: 286
ولما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلث الفدك واقطع عمر و بن عثمان بن عفان ثلثها واقطع يزيد بن معاوية ثلثها وذلك بعد موت الحسن بن علي فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم ايام خلافته فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز .
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب فقال : إن فدك كانت مما أفاء الله على رسوله ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فسألته إياها فاطمة فقال : ما كان لك أن تسأليني وماكان لي أن أعطيك فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل ثم ولي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ثم ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك فصارت لي وللوليد وسليمان فلما ولي الوليد سألته حصته منها فوهبها لي وسألت سليمان حصته منها فوهبها لي فاستجمعتها وما كان لي من مال أحب إلي منها فاشهدوا أني قد رددتها إلى ما كانت عليه .
فكانت بيد أولاد فاطمة مدة ولاية عمر بن عبد العزيز فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى أنتقلت الخلافة عنهم .فلما ولي ابو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن ثم قبضها جعفر المنصور لما حدث من بني حسن ما حدث ثم ردها المهدي ابنه على ولد فاطمة ثم قبضها موسى بن المهدي وأخوه . فلم تزل في ايديهم حتى ولي المأمون فردها على الفاطميين سنة 210 ه_ و كتب بذلك إلى قُشَم بن جعفر عامله على المدينة :
ص: 287
اما بعد فإن امير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم) والقرابة به اولى من استن سنته ونفذ امره وسلم لمن منحه منحةّ وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته و بالله توفيق امير المؤمنين وعصمته وإليه في العمل بما يقربه إليه رغبته وقد كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) اعطى فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)فدك وتصدق بها عليها وكان ذلك امراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)ولم تزل تدعي منه ما هو اولى به من صُدق عليه فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم تقرباً إلى الله تعالى فإقامة حقه وعدله وإلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)بتنفيذ أمره وصدقته فأمر بإثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلى عُماله فلئن كان ينادي في كل موسم بعد أن قبض الله نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عِدَته إن فاطمة لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)لها. وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فَدَك على ورثة فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)بحدودها وجميع حقولها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب و محمد بن عبد الله بن الحسن بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها لأهلها فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب إليه وإلى رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم)وأعلمه مَن قبلك وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري
ص: 288
وأعنهما على مافيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله والسلام . وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة 210ه_ فلما استخلف المتوكل على الله أمر بردها إلى ما كانت عليه قبل المأمون .
ثم أمر المنتصر بردها سنة ه_248 إلى ولد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب .
ثم انكفأت فاطمة الزهراء إلى قبر أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) . فقالت :
قد كان بعدك أنباء وهنبئة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وروى حرمى بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتاً ثالثاً .
فليت بعدك كان الموت صادقنا*** لما قضيت و حالت دونك الكتب
ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت : يا معشر البقية وأعضاء الملة وحضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي والغمزة في حقي والسنة عن ظلامتي أما كان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول المرء يحفظ في ولده سرعان ما أحدثتهم وعجلان ما أتيتم الآن مات رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أمتم دينه ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهيه واستنهر فتقه و بعد وقته وأظلمت الأرض له وخشعت الجبال وأكدت الآمال اضيع بعد الحريم وهتكت الحرمة واذيلت المصونة وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته وأنباكم بها قبل وفاته فقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
ص: 289
أو قتل انقلبتكم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين . ايها بني قیلة اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت وفيكم العدة ولكم الدار والجنن وأنتم نخبة الله التي انتخب و خيرته التي اختار . باديتم العرب و بادهتم الأمور وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام و در حلبه وخبت نيران الحرب وسكنت فورة الشرك وهدأت دعوة الهرج واستوثق نظام الدين أفتأخرتم بعد الاقدام ونكصتم بعد الشدة وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكصوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون . ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ور كنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم ودسعتم الذي سوغتم وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ، ألا وقد قلت لكم ماقلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ناقبة الخف باقية العار موسومة الشعار موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فبعين الله ما تعملون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ثم قال عمر لأبي بكر انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها . فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام فتكلم أبو بكر فقال : ياحبيبة رسول الله والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي ولوددت يوم مات أبوك أني مت ولا أبقى بعده أقتراني أعرفك
ص: 290
وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله إلا إني سمعت أباك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول لا نورث ما تركنا فهو صدقة . فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه و تفعلان به ؟ قالا نعم . فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضاء فاطمة من رضائي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني قالا : نعم سمعناه من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكو نكما إليه . فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه تزهق وهي تقول : والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها . ثم خرج ابو بكر باكياً فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه لاحاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي . قالوا : ياخليفة رسول الله بعدما سمعت ورأيت من فاطمة . وأما الأخباريون من الشيعة فقد ذكروا أن أبا بكر وعمر أسمعا فاطمة كلاماً غليظاً وأن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضراً فكتب لها بفدك كتاباً فلما خرجت به وجدها عمر فمد يده إليه ليأخذه مغالبة فمنعته فدفع بيده في صدرها وأخذ الصحيفة فحرقها بعد أن تقل فيها فمحاها وأنها دعت عليه فقالت : بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي .
و قال علي بن مهنأ العلوي : ماقصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا أن يتقوى على بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة .
ص: 291
ومناقب فاطمة كثيرة فقد عادها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وهي مريضة فقال لها : كيف تجدينك يا بنية ؟ قالت : إني لوجعة وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله . قال : يابنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين ؟ قالت : يا أبت فأين مريم بنت عمران ؟ قال: تلك سيدة نساء عالمها و أنت سيدة نساء عالمك أما و الله لقد زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة (1) .
وقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني(2) .
ودخل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل فيكي وقال : تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة(3). وأقبلت فاطمة فوقفت بين يدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها وعليها صفرة من شدة الجوع فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : ادن يا فاطمة . فدنت حتى قامت بين يديه فرفع يده فوضعها موضع القلادة وفرج بين أصابعه ثم قال : اللهم مشبع الجماعة ورافع الضيق ارفع فاطمة بنت محمد(4) .
ص: 292
وقسم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) من أموال خير الكتبة وهي واد خاص بين قرابته و بين نسائه و بين رجال من المسلمين و نساء أعطاهم منها فقسم رسول الله لفاطمة ابنته مائتي وسق ولعلي بن أبي طالب مائة وسق ولعائشة مائة وسق ولأبي بكر الصديق مائة وسق . وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يأتي فاطمة ثم يأتي أزواجه . وقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) كل بني أم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم(1)
وطلب أبو سفيان أن يجيرها عند النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وذلك قبل فتح مكة فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة وعندها ابنها الحسن يدب بين يديها فقال : يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت بني والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).
وقالت عائشة : ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من فاطمة وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها كما كانت تصنع هي به(صلی الله علیه وآله وسلم) وسئلت عائشة أي الناس كان أحب إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ؟ قالت : فاطمة قيل : ومن الرجال ؟ قالت : زوجها (2). وقالت عائشة : ما رأيت قط أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها(3)
وقال ابن الجوزي : كان للنبی(صلی الله علیه وآله وسلم) بنات فضلتهن فاطمة وزوجات سبقتهن
ص: 293
عائشة(1). وجاء في شرح المصابيح لزين العرب : أن فاطمة سميت بتولاً لانقطاعها عن نساء الأمة فضلاً وديناً وحسباً .
وجاء في حاشية ابن عابدين : وقيل : إن فاطمة أفضل ويمكن إرجاعه إلى الأول : وقيل بالتوقف التعارض الأدلة واختاره الاستروشنى من الحنفية وبعض الشافعية كما أوضحه مثلا علي القاري في شرح الفقه الأكبر وشرح بدر الأمالي .
وجاء في المعلمة الاسلامية ما معناه : أن فاطمة في نظر الشيعة المثل الأعلى للنفس البشرية وأن ولادتها من خوارق العادة وقرانها بعلي بن أبي طالب كان بأمر الهي. وزعمت بعض فرق الشيعة أتباع الشريق : أن الله حل في خمسة أشخاص وهم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وقالوا : إن هؤلاء الخمسة آلهة ولها أضداد خمسة واختلفوا في أضدادها(2)وكان الطالبيون يحتجون على بني العباس بقرابتهم من فاطمة فكتب أبو جعفر المنصور : من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد ابن عبد الله بن حسن : أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت كلامك فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة ، والآباء كالعصبة والأولياء لأن الله جعل العم أباً وبدأ به في القرآن على الوالد الأدلى ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن لكانت آمنة أقربهن رحماً وأعظمهن حقاً وأول من يدخل الجنة غداً ولكن اختار الله لخلقه على قدر علمه الماضي لهن ....
ص: 294
وقال المأمون يوماً لعلي بن موسى الرضي : يم تدعون هذا الأمر ؟ قال : لقرابة علي من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وبقرابة فاطمة . فقال المأمون : إن لم يكن هاهنا شيء إلا القرابة ففي خلف رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) من أهل بيته من هو أقرب إليه من على فمن هو في القرابة مثله وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله فإن الحق بعد فاطمة الحسن والحسين وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان وإذا كان الأمر على ذلك فإن علياً قد ابتزهما جميعاً و هما حيان صحيحان واستولى علي على مالا يجب له . فما أحار علي بن موسى نطقاً .
وروت عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) العثمانية عشر حديثاً(1)أخرج لها منها في الصحيحين حديث واحد متفق عليه في مسند عائشة . وروى لها الترمذي وابن ماجه وأبو داود .
وروى عنها ابناها الحسن والحسين وأبوهما علي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين وسلمى أم رافع وأنس بن مالك وأم سلمة وأرسلت عنها فاطمة بنت الحسين وغيرها .
ولما مرضت فاطمة المرضة التي توفيت بها دخل النساء عليها فقلن كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله ؟ قالت : أصبحت والله عائفة لدنياكم قالية لو جالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحد وخور القنا أو كسره وخطل الرأي و بشما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لاجرم لقد قلدتهم وبقتها وشنت عليهم عارها فجدعها وعقراً
ص: 295
و بعداً للقوم الظالمين ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين الطين بأمور الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين وما الذي نقموا من أبي الحسن نقموا والله منه نكير سيفه وشدة وطأته و نكال وقعته وتنمره في ذات الله . وبالله لو تكافؤا على زمام نبذه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه ولا يتمتع راكبه ولأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولأصدرهم بطاناً قد تحرى بهم الري غير متحل منهم بطائل بعمله الباهر وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون . ألا هلمن فاسمعن وما عشتن أراكن الدهر عجباً إلى أي لجأ لجأوا وأسندوا بأي عروة تمسكوا ولبئس المولى ولبئس العشير استبدلوا والله الذنابي بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحقِ أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن لا يهدي فمالكم كيف تحكمون أما لعمر اله_كن لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا طلاع العقب دماً عبيطاً وذعافاً ممقراً هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم أطيبوا عن أنفسكم نفساً وطامنوا للفتنة جأشاً وأبشروا بسيف صارم و بقرح شامل واستبداد من الظالمين يدع فيكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة لكم وإني بكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون . والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين.
ص: 296
ولما توفيت فاطمة جاءت عائشة فمنعتها أسماء بنت عميس . فشكتها عائشة إلى أبي بكر وقالت : هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فوقف أبو بكر على الباب وقال يا أسماء ما حملك على أن منعت أزواج النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) أن يدخلن على بنت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وقد صنعت لها هودجاً ؟ قالت : هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد وأمرتني أن أصنع لها ذلك ، قال : فاصنعي ما أمرتك وغسلها علي واسماء . ودفنت ليلاً في زاوية في دار عقيل وبين قبرها و بين الطريق سبعة أذرع.
و لما دفنت فاطمة الزهراء قال علي بن أبي طالب : السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك قل يارسول الله عن صفيتك صبري ورق عنها تجلدي إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزٍ فلقد وسدتُك في ملحودة قبرك وفاضت بين نحري وصدري نفسك فإنا لله وإنا إليه راجعون . فلقد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة أما حزني فسرمد وأما ليلي فَمُسَهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال هذا ولم يطل العهد ولم يخلُق منك الذكر والسلام عليكما سلام مودع لا قالٍ ولا ستمٍ فإن أنصرف فلا عن ملامة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين .
ثم تمثل عند قبرها فقال :
لكل اجتماع من خليلين فرقة*** وكل الذي دون الممات قليل
و إن افتقادي واحداً بعد واحد*** دليل على أن لا يدوم خليل
ص: 297
إنما یخشی الله من عبادة العلماء
لنشر الكتب الإسلامیۀ
مؤسسة الامامين العسکریین
الخُطط السیاسیۀ
لتوحید الامۀ الاسلامیۀ
*الخطۀ الإلهیه* خطة أهل بيت النبي *خطة قادة التاريخ الإسلامي
تالیف المحامی
استاد احمد حسين يعقوب
الناشر
دارالفجر
الطبعة الثانية - 1415
ص: 298
23 - حتى تحزوا رقابنا بالمناشير
جاء في مجمع الزوائد للهيثمي مجلد 9 صفحة 39 عن عمر ، أنه لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول في ما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله ! قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك قال : والذي بغدك ! فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير ! ! !
24 - قرارات اقتصادية لابد منها
1- لإجبار الآل الكرام على الإحتكام للسلطة ، بغض النظر عن طبيعة القرارات التي ستصدر عنها .
2-تجريد الآل الكرام من سلاح خطير وهو المال ، فإذا استعمله الآل الكرام ، فقد يؤلفون به قلوب المسلمين ويستميلونهم لصالح قضيتهم.
3- ربط الآل الكرام بالسلطة الحاكمة، وجعل رغيفهم بيد هذه السلطة، لتضمن السيطرة الكاملة عليهم، وتحييدهم وإلغاء دورهم كقيادة سياسية شرعية .
4- عزل الآل الكرام شعبياً ، حتى تميل عنهم أعين الناس
5- الحيلولة العملية بين الآل الكرام والمطالبة بالجمع بين النبوة والخلافة .
25 - تحقق هذه الأهداف
فقد فاوض الآل الكرام واحتكموا إلى السلطة . فحكمت السلطة بتنفيذ قراراتها الإقتصادية وحرمانهم من التركة. ومن المنح . ومن سهم ذوي القربى ! وبموت فاطمة انصرف الناس عن علي ، فشق بنفسه طريق المصالحة. وبايع هو وبنو هاشم وسلموا بالأمر الواقع ! ! فعاء أن يتمكن يوماً من إطلاع الأمة على الحقيقة المرة ، وأن يبصّر
ص: 299
الناس بالتقاطيع الأساسية للمنظومة السياسية الإلهية ، فيقارنوا بينها وبين ما حدث في التاريخ !!
26 - احتجاج الزهراء على القرارات الإقتصادية والملجأ الجديد
لما قرر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حرمان أهل البيت الكرام من ميراث النبي ومصادرة المنح التي منحها لهم النبي حال حياته ، وتجريد الآل الكرام من حقهم في كل ممتلكات النبي ، وحرمانهم من حقهم في الخمس الوارد في آية محكمة( لائت الزهراء خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، واقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر . وهو في حشد من المهاجرين والأنصار ، فنيطت دونها ملاءة فجلست . ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس ، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم قالت )كما أورده أبو بكر الجوهري في سقيفته ، وأحمد بن أبي طاهر البغدادي في بلاغات النساء ، راجع شرح النهج مجلد 4 صفحة 87 ، وبلاغات النساء صفحة 12 - 15 ، وكما أجمع على مضمون ذلك أئمة أهل البيت الكرام. وإن كانت نصوص احتجاجها وخطبتها متفاوتة على حسب ما حفظه الرواة ، أو سمحت بوصوله إلينا قيود الحكومات .
27 - النص الحرفي للإحتجاج
الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم ، من عموم نعمٍ ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها. وتمام مِنَنٍ والاها ، جَمَّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أمدها ، وتدبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها . وثنى بالندب إلى أمثالها :
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها، وضَمَّنَ القلوب موصولها ، وأنار في الفكر معقولها . الممتنع من الأبصار رؤيتُه ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها
ص: 300
أيها المسلمون الأغلب على إرث أبي ؟ يابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟(لقد جئت شيئاً فرياً) أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء
ظهوركم إذ يقول (وورث سليمان داود) وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا(عليه السلام) إذ قال (رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)وزعمتم أن لاحظوة لي ، ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ! ! أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي ! ! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان ! ! أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ! ! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟
فدونَكَها مخطومةٌ ، مَرْحُولةٌ ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد . والموعد القيامة ، وعند الساعة ما تحيرون، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه ، ويحل عليه عذاب مقيم !
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت :
يا معاشر الفتية، وأعضاء الملة ، وأنصار الإسلام. ما هذه الغميزة في حقي؟ والسَّنَةُ عن ظلامتي ؟ أما كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)أبي يقول (المره يحفظ في ولده) سرعان ما أحدثتم وعَجْلَانَ ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوةٌ على ما أطلب وأزاول ! اتقولون مات محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)فخطبٌ جليلٌ استوسع وهبه ، واستشهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت النجوم لمصيبته، وأكدَتِ الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم، في ممساكم ومصبحكم، هتافاً وصراخاً وتلاوة وألحاناً، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل ، وقضاء حسم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو
ص: 301
قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين )
إيهاً بني قَيْلَةَ أأهضم تراث أبي ، وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدك ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووا العدد والعدة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجلبة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، وأنتم معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الأمم ، وكافحتم البهم. فلا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون ، حتى دارت بنا رحى الإسلام ، ودر حلب الأيام، وخصصت نصرة الشرك، وسكنت فوارة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين .
فأنى جَسَرْتُم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم . وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة ! أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض . وخلوتم بالدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فججتم ما وعيتم ، ودَسَعْتم الذي توغتم (فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) !
ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم . والقَدْرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس ، ونفئة الغيظ ، وخَوْرُ القنا، ويثة الصدور، وتقدمة الحجة .
فدونكوها فاحتقبوها دَبِرَةَ الظهر ، نَقِبَةَ الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الله ، وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة . فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد (فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ! ! !)
ص: 302
2 - جواب أبي بكر
يا ابنة رسول الله ، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً لبعلك دون الأخلاء ، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبكم إلا كل سعيد ، ولا يبغضكم إلا كل شقي ، فأنتم عترة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الطيبين ، والخيرة المنتجبون ، على الخير أدلتنا ، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ما عدوت رأي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الكتاب والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر ، بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح ، يقاتل به المسلمون، ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة ثم الفجار ، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالى ومالي هي لك وبين يديك ، لا نزوي عنك ، ولا تذخر دونك ، وأنت سيدة أمة ابيك، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع مالك من فضل، ولا يوضع من فرعك وأصلك ،حكمك نافذ في ما ملكت يدي ، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك. فقالت(عليهم السلام) : سبحان الله ما كان رسول الله عن كتاب صادقاً، ولا لأحكامه مخالفاً . بل كان يتبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته ، شبيه بما بقي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً فصلاً يقول ( يرثني ويرث من آل يعقوب)، (وورث سليمان داود) فبين عزوجل ما وزع عليه من الأقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علة المبطلين، وأزال النظني والشبهات في الغابرين ، ولا (بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون) .
ص: 303
فقال أبو بكر : صدق رسول الله وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجة، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر ولا مستبد ، ولا مستأثر وهم بذلك شهود !
فالتفتت(عليهم السلام) وقالت : معاشر الناس المسرعة إلى قبل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر ،( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )كلا بل وان على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه اعتضتم ، لتجدن والله محمله ثقيلاً ، وغبه وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراء الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تخشون ، وخسر هنالك المبطلون .
ثم عطفت على قبر رسول الله وقالت :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم وقد نَكَبُوا
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم*** لما مضيت وحالت دونك الترب
تجهمتنا رجال واستُخِفَّ بنا *** لما فُقِدتَ وكلُّ الأرض مغتصب
وكنت بدراً ونوراً يستضاء به*** عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات ينبئنا*** فقد فقدت فكل الخير محتجب
إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن*** من البرية لا عجمٌ ولا عرب
29 - كلامها مع نساء المهاجرين والأنصار
زارتها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها : يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علتك ؟ فقالت (عليها السلام)أصبحت والله عائفةٌ لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم قبل أن عجمتهم ، وشنأتهم بعد أن سَبَرْتُهم ، فَقَبْحاً لفُلُول الحد ، وخور القناة ، وخَطَل الرأي ،
ص: 304
بئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . لاجرم لقد قَلَّدَتْهُم ربقتها ، وسنت عليهم عارها ، فجدعاً وعقراً، وسحقاً للقوم الظالمين . ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة ، ومهبط الوحي الأمين ، والطبين بأمر الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين . وما نَقِموا من أبي الحسن ، نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدة وطئه ، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله عزوجل .
والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لاعتلفه ، ولسار بهم سيراً سجحاً . لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً . تطفح ضفتاه . ولأصدرهم بطاناً ، قد تحير بهم الري ، غير منحل منه بطائل إلا بغمر الماء ، وردعة شررة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض . وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون .
ألا هلمَّ فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث . إلى أي سناد استندوا ، وبأي عروة تمسكوا ، استبدلوا الذنابا والله بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ! الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ! أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون ! !
أما لعمر إلهك لقد لقحت ، فَنَظرةٌ رَیّثَماً تنتج ، ثم احتلبوا طلاع القصب دماً عبيطاً . وذعافاً محقراً. هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما سن الأولون ، ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً ، وطامنوا للفتنة جأشاً وأبشروا بسيف صارم ، وهرج شامل . واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً ، وزرعكم حصيداً ، فيا حسرتي لكم ، وأنى بكم وقد عميت عليكم ! أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ! ! ! راجع شرح النهج لابن أبي الحديد مجلد 16 صفحة 234 ، وبلاغات النساء صفحة 19 ، والإحتجاج للطبرسي مجلد 1 صفحة 147 - 149
ص: 305
ص: 306
ص: 307
ص: 308
ماذا نقرأ في المحاور؟
المحور الأوّل: توثيق أصحاب المصادر .
المحور الثاني: توثيق المصادر.
المحور الثالث: توثيق الأسانيد .
المحور الرابع: روعة الأسلوب
المحور الخامس: قوّة الحجة .
الخاتمة بين العقاد والنقاد .
ص: 309
لاشكّ إنّ أقوى وسيلة لإقناع الخصم بصحة المدعى هي توثيق أصحاب المصادر التي تثبت الدعوى، وأما المصادر فهي لا تكون من وسائل الاقناع ما لم يكن أصحابها من الموثقين، ومن خلال معرفتهم تكون الحجة أقوى، ويتم الإذعان بصحة ما ذكروه في مصادرهم، ولا تبقى للخصم حجة في الإنكار، بل تنقطع السبيل التي ينق فيها المشككون لأنّ أهمّ معطيات التاريخ الصحيح أن يكون عن مصادر تؤمن بالحيادية أو هي مصادر الخصم فتدينه بما فيها لا أن تكون مسجلة حسب أهواء الحاكمين، والاحتكام إلى ما في تلك المصادر يقطع أصابع الاتهام، ولما كانت خطبة الصديقة (عليها السلام) ممّا أثير حولها لغط ولغو من القول، كان علينا أن نقرأها بنصوصها من المصادر المختارة، وقد مرّت صورها في الباب الثالث .
ولئلاّ يقول عابث معاند ، لولا أثبت وثاقة من ذكرت لنرى حاله ثم ترى مقاله، لذلك أعرض شيئاً بوجازة عن أولئك النخبة المختارة، بما يعرفهم ولو على نحو الإشارة، وأبدأ أوّلاً بأصحاب المصادر في التراث السنّي، لأنهم أبعد عن شبهة التهويل والتضليل ، والقال والقيل، وأدنى إلى ثقافة العامة وهم:
ص: 310
(أوّلاً) سبط ابن الجوزي الحنفي من رجال القرن السابع إذ توفى سنة 654 وإنّما قدمت ذكره لأنه روى أقدم نص للخطبة مقتضباً باختصار مشين وقد رواه عن الشعبي المتوفى سنة 103 - 107/6/5/4) وهو المتهم بجنحة التغيير والتقصير، وإلا فالسبط المذكور أثنى عليه مترجموه فقد قال ابن خلكان عنه: (الواعظ المشهور ، حنفي المذهب، وله حديث وسمعته في مجالس وعظه وقبول عند الملوك وغيرهم)(1) .
ووصفه الموفق بن أحمد أخطب خوارزم بقوله : (الشيخ الإمام شمس الدين، والإمام الحافظ )(2). وكتابه (تذكرة خواص الأمة في خصائص الأئمّة) يدلّ على حبّه لأهل البيت(عليهم السلام)واعتداله في كتابه يقتضي حسن الثناء عليه ويبعد عنه إصابع الإتهام لكن روايته للخطبة عن الشعبي تثير الاستغراب، ولم يذكر لها سنداً أو أخذها عن كتاب، لأن الشعبي
وهو عامر بن شراحيل من شعب همدان بالكوفة كان من مشهوري التابعين، وفي ركاب الأمويين من الطالعين ولي لهم القضاء وتولى تأديب ولد عبد الملك بن مروان وكان قاضيه بالكوفة أيام الحجاج، فهو وإن أثنى عليه ابن حجر كغيره فقد أطنب في ترجمته في تهذيب التهذيب 5/ 65 - 69 ، وذكر الكثير من القول في اطرائه وحكى توثيقه عن غير واحد حتى قال فيه العجلي. ولا يكاد الشعبي يرسل إلأ صحيحاً... ومع
ص: 311
ذلك الإطراء فقد غمز قناته غير واحد فقال ابن أبي حاتم وسئل أبي عن الفرائض التي رواها الشعبي عن عليّ فقال: هذا عندي ما قاسه الشعبي على قول عليّ، وما أرى عليّاً كان يتفرّغ لهذا وقال ابن معين: قضى الشعبي لعمر بن عبدالعزيز وساق أقوالاً كثيرة في عدم سماعه من جماعة من الصحابة، وقال العلاء بن هارون ولي الشعبي القضاء فما قام له ولا قوي عليه ومن قبيح قوله وقد أنكر عليه جوره في القضاء فأتاه الأحنف ليفهمه وقال له: فاقض بينهما بما أراك الله ، قال : لست برأي ربّي أقضي ،وإنّما أقضي برأيي(1).
وقد ذكرت جانباً من تاريخه الفقهي في كتابي ( علي إمام البررة)(2).
وذكرت ما يدلّ على نُصبه في كذبه عن عليّ وشيعته وحزبه، فمن كان كذلك لايُرجى منه الأمانة في نقل خطبة الصديقة(عليها السلام) كما هي بنصها وفصها ولا غرابة منه كما هي الغرابة من سبط ابن الجوزي كيف اكتفى في المقام برواية الشعبي، دون رواية غيره ممن رواها تامة الفصول كاملة المقول .
ص: 312
(ثانياً) أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر البغدادي ابن طيفور المتوفى سنة 280 ه_ ترجمه الخطيب البغدادي في تاريخه وأثنى عليه بقوله : (كان أحد البلغاء الشعراء الرواة ومن أهل الفهم المذكورين بالعلم ...)(1).
وذكره ابن النديم في الفهرست وياقوت في معجم الأدباء وذكراله قائمة من الكتب تزيد على 56 كتاباً ... ) ( ولم يبق من هذا الجهد كلّه سوى جزء من كتاب هو القسم السادس من كتاب بغداد وقد طبع ... وكتاب بلاغات النساء، وقد طبع قبل قرن من الزمان تقريباً بمصر، وعن تلك الطبعة نقلت النص كما مر وطبع الكتاب أيضاً في النجف وبيروت كما سيأتي في توثيق المصادر في المحور الثاني.
وأهمية ابن طيفور انّ مصادر معلوماته استقى معظمها رواية عن عمر بن شبة وان غمز ياقوت وابن النديم في رواياته التي لا يسندها، ومهما يكن فالرجل معدود من الرعيل الأول من المؤرخين البلدانيين(2).
(ثالثاً) أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري المتوفى سنة 323 لقد مرّ ذكره في كتابي (المحسن السبط مولود أم سقط )(3) وهناك ذكرت ما قيل في توثيقه ونضيف هنا ما قاله أبو هلال العسكري في كتابه شرح ما يقع فيه
ص: 313
التصحيف والتحريف)(1) :( قرأت على أبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري، وكان ضابطاً صحيح العلم ...)
ولا يفوتني التذكير بما قاله ابن أبي الحديد وقد روى الخطبة عن كتابه (السقيفة وفدك) للجوهري فقال: (الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم ، لا من كتب الشيعة ورجالهم لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك وما وقع من الإختلاف والاضطراب عقب وفاة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب ثقة ورع أثنى عليه المحدّثون ورووا عنه مصنفاته) (2). وقال أيضاً: (واعلم أنا إنّما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث وثقاتهم وما أودعه أحمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتابه وهو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث)(3).
( رابعاً) أبو المؤيد الموفق بن أحمد أخطب خوارزم الحنفي المتوفى سنة 568 ه_ ترجمه كثيرون كالقفطي والصفدي والسيوطي ، وذكروا له مديحا وإعجابا بفضله، وذكروا انه يعرف بخليفة الزمخشري أخرج الخطبة في كتابه مقتل الحسين(عليه السلام)وسيأتي توثيق المصدر في المحور الثاني إن شاء الله .
ص: 314
(خامساً) أبو السعادات مجد الدين المبارك بن الأثير الشافعي المتوفى سنة 606 ه- عالم أديب مشارك في تفسير القرآن والحديث والفقه واللغة والنحو وغير ذلك هكذا ذكروا في ترجمته في جملة من المصادر منها وفيات الأعيان لابن خلكان ومعجم الأدباء لياقوت وطبقات الشافعية للسبكي وغيرها وله عدة تصانيف طبع منها جامع الأصول في الحديث والنهاية في غريب الحديث ومنال الطالب في شرح طوال الغرائب ومنه أخذنا النص كما سيأتي توثيق المصدر في المحور الثاني إن شاء الله .
( سادساً) عمر رضا كحالة باحث معاصر شهير عرف بكتابه (معجم المؤلّفين) المطبوع بدمشق أوّلاً في 16 جزءاً.
توثيق أصحاب المصادر من التراث الشيعي
1 - الوزير أبو سعد منصور بن الحسين الآبي من وزراء مجد الدولة بن بويه توفي سنة 421 ه_ وفي كشف الظنون سنة 422 صنف (تاريخ الري) و (نثر الدر في المحاضرات) و (نزهة الأديب) كان يلقب بالوزير الكبير ذي المعالي زين الكفاة ترجمه الثعالبي في تتمة اليتيمة ترجمة مطولة وذكره ياقوت في معجم البلدان (آبة) وذكره كاتب جلبي في كشف الظنون وجاء في رياض العلماء: الوزير السعيد ذو المعالي زين الكفاة أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، فاضل عالم فقيه وله نظم حسن، قرأ على شيخنا الموفق أبي جعفر الطوسي وروى عنه الشيخ المفيد عبدالرحمن
ص: 315
النيسابوري قاله منتجب الدين اقول: ولي في التوفيق بين سنة وفاته 421 وقراءته على الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 ه_ نظر وإن لم يكن التوفيق ممنوعاً لكنه بعيد غايته(1).
2 - الطبري الإمامي: هو محمّد بن جرير بن رستم الطبري الآملي ذكره صاحب ریاض العلماء فقال: محمّد بن رستم الطبري الكبير دين فاضل(2) وليس هو صاحب التاريخ من كتبه (المسترشد) في الإمامة دلائل الإمامة الفاضح قاله ابن شهر آشوب (3).
أقول - والقائل هو صاحب الرياض - وقد ذكره العامة وطعنوا عليه لأجل تشيعه وقد نسب إليه المؤلّف في فهرس كتاب الهداة كتاب مناقب فاطمة وولدها وينقل عنه فيه مع تركه في هذا الموضع (4). ثم أنّه ذكره صاحب الرياض مرة أخرى في الألقاب (الطبري) فقال : وقد يطلق على الشيخ أبي جعفر محمد بن جریر بن رستم بن جرير الطبري الإمامي صاحب كتاب مناقب فاطمة لا وولدها وكتاب (دلائل الإمامة) وغير ذلك من المؤلّفات وفي الأخير أشهر . انتهى(5)
ص: 316
قلت: وهذا الذي ذكره من طعن العامة عليه لتشيعه ليس كذلك بل ذلك كان في ابن جرير العامي المؤرخ الشهير كما قال أبو الفدا في تاريخه في حوادث سنة 307ه_ . ولما مات تعصبت عليه العامة ورموه بالرفض وما كان سببه إلا انه صنف كتاباً فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال: لم يكن أحمد بن حنبل فقيهاً وإنما كان محدّثاً فاشتبه ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشنّعوا عليه بما أرادوه. وأين منه التشيّع وهو( يذهب في الإمامة إلى إمامة الأربعة حسب ترتيبهم في الحكم وما عليه أصحاب الحديث في التفضيل وكان يكفّر من خالفه .. من الروافض والخوارج ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم وذكر ذلك في الشهادات وفي الرسالة وفي أوّل ذيل المذيّل)(1).
ومؤلف الدلائل لم تذكره كتب العامة حتى يطعنوا عليه وقد ترجمه الشيخ الطوسي في الفهرست(2) وكذلك النجاشي في رجاله(3) وروى عنه كتبه بواسطتين وهما أقرب زماناً وأكثر احاطة وإصابة من صاحب الرياض.
ص: 317
لقد مرّ بنا توثيق أصحابها في المحور الأول فلماذا اللبث عندها لتوثيقها ؟ ألا يكفي توثيق أصحابها في توثيقها؟ فنقول: نعم كان ذلك يكفي يوم كانت الأمانات مرعية ولكن بعد أن شاعت الخيانة فضاعت الأمانة وتلاعب أصحاب الضمائر الميتة ممن لا يخشون حساباً ولا يرجون ثواباً فحشروا أنفسهم بين صفوف الناشرين وصبغوا أنفسهم بصبغة المحققين وتولوا مراكزهم في مؤسسات اصدار الأقراص الكمبيوترية فحرّفوا وصحفوا وخرّفوا وخربوا وللتدليل على ذلك فلتقابل الطبعات القديمة للكتاب مع الطبعات الحديثة فالفرق واضح والتلاعب لائح وقد مرّت منا الإشارة إلى نموذج واحد في كتاب( المحسن السبط مولود أم سقط) فذكرنا ما وجب تما أصاب كتاب (مروج الذهب) فذهب منه في مورد واحد ما ذهب فراجع لترى العجب.
وفي الأقراص الكمبيوترية فليقارن بين الإصدار الأول للمكتبة الألفية والإصدار الثاني فكم من شاهد على التلاعب والخيانة! وحسب الباحث أن يلاحظ حديث الثقلين في الإصدارين ليرى الفرق رأي العين.
أمّا عن جنايات بعض المحققين فتلك بليّة ما فوقها بليّة ولسوف یندمون ولات مندم. فهذا الحال هو الذي دعاني لتصوير النصوص من
ص: 318
مصادرها مع الصفحة الأولى ذات العنوان التي يجد القارئ فيها سنة طبع الكتاب ومكانه وبلده مع باقي خصوصياته ولزيادة التنبيه على ذلك نستعرضها الماماً فنقول عن مصادر التراث السنّي:
1 - ( غريب الحديث) لابن قتيبة المتوفى سنة 276 ه_ وقد طبع ببغداد في سلسلة مطبوعات وزارة الأوقاف العراقية بتحقيق الدكتور عبد الله الجبوري وقد يؤخذ علينا عدم ذكر صورة النص عنه مع مصادر النصوص، لأن مؤلّفه لم يذكر تمام الخطبة بل حاول إنكارها فذكرت ما عنده والردّ عليه فيما تقدم في أوّل النصوص، وليعلم أنّ المطبوع من غريب الحديث فيه نقص دلل على ذلك ابن الأثير حين نقل عنه بعض الأحاديث في كتابه (منال الطالب) ولم توجد في المطبوع منه(1) .
ص: 319
2 - (بلاغات النساء ) لابن طيفور أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر البغدادي المتوفى سنة 280 ه_ وهذا الكتاب كاد أن يكون هو المرجع الأول لدى المتأخرين نظرا لقدم مؤلّفه ثم وصول نسخته سالمة من العثّ والعبث وإن لم تسلم من بعض سهو النساخ وقد طبع لأول مرة بمصر قبل قرن من الزمان تقريباً كما جاء في صفحة العنوان: طبع 1326 ه_ - 1908م. وتكرر طبعه في بلدان أخرى وأزمان متأخرة فقد طبع في النجف الأشرف سنة 1353 وفي بيروت سنة 1972م وربما في غيرهما مما لم نقف عليه. وقد اعتمدنا الطبعة المصرية القديمة.
3 - (مقتل الحسين(عليه السلام) ) لأبي المؤيّد الموفق بن أحمد أخطب خوارزم الحنفي المتوفى سنة 568 ه_ وقد طبع الكتاب قبل ستين عاماً في النجف الأشرف بمطبعة الزهراء سنة 1367 ه_ وقد عني بملاحظة التعليق عليه العلامة المحقق الكبير الشيخ محمد السماوي (رحمۀالله علیه ) وعن هذه الطبعة أخذت صورة النص.
4 -( منال الطالب في شرح طوال الغرائب) لابن الأثير 606 طبع محققاً بتحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي ونشرته المملكة العربية السعودية / جامعة الملك عبد العزيز الكتاب الثامن من التراث الإسلامي (مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي) كلية الشريعة والدراسات الإسلامية مكة المكرمة. وأعيدت طبعاته بالقاهرة أيضاً دار
المأمون للتراث.
ص: 320
5- (أعلام النساء) لعمر رضا كحالة طبع بدمشق وإنّما أذكره مع المصادر القديمة مع العلم بأنه اعتمد كتاب بلاغات النساء لابن أبي طاهر البغدادي في رواية الخطبة، للتأكيد على مصادقة المتأخرين للمتقدمين على روايتها. وقد مرّ بنا ذكر غيره من أصحاب الدراسات الحديثة كالعقاد في كتابه (فاطمة والفاطميون) وتوفيق أبو علم في كتابه (أهل البيت(عليهم السلام)) وغيرهما ممن ذكر الخطبة معتمداً على رواية الأوائل.
والآن إلى توثيق المصادر في التراث الشيعي:
ولما كانت تلك المصادر كثيرة ومتنوعة فقد اخترت منها نصاً برواية الطبري الإمامي من أعلام القرن الخامس، حيث ذكر الخطبة بتسعة أسانيد كما سيأتي بيانها، وأشرت إلى نص آخر لمعاصر له وهو الوزير الآبي صاحب (نثر الدر) في المحاضرات حيث ذكر الخطبة في الجزء الرابع ولتوثيق المصدرين نبين للقارئ ما يلي:
1 - (دلائل الإمامة) وقد طبع لأوّل مرة في المطبعة الحيدرية في النجف سنة 1369 ه_ وهي طبعة يصح القول معها إنّها بدائية من حيث الإخراج ولكنها سدّت الفراغ في حينها فجزى الله الناشر خيراً وقد ذكرت النص مأخوذاً عنها ثم قارنته مع الطبعة الثانية المحققة المطبوعة كتب عليها بتحقيق قسم الدراسات الإسلامية نشر مؤسسة البعثة بقم ط الأولى سنة 1413 ه_ وهي أيضاً لا تخلو من ضربة لازب في بعض الأخطاء ولكنها خير من الأولى إخراجاً.
ص: 321
وعسى أن يوفق الله تعالى من يعيد طبع الكتاب مرة أخرى بمزيد من العناية تفوق ما سبق تحقيقاً وتعليقاً وتوثيقاً لرجال الأسانيد وفق الله العاملين انه ولي التوفيق.
2 - (نثر الدرّ للآبي) المتوفى سنة 421 وقد طبع الكتاب أولاً بالقاهرة ما بين سنتي 1978 و 1991 طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب في سبعة أجزاء.
وطبع ج 7 من هذا الكتاب في تونس الدار التونسية - مطبعة الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1983 بتحقيق عثمان بوغانجي وفيه عرض وتقديم كل المجلدات السبعة ثم تحقيق المجلد السابع ومقارنته موضوعاً بالمؤلفات الأخرى من نوعه). وطبع كاملاً أيضاً في بيروت سنة 2004 ،1424 بتحقيق خالد عبد الغني محفوظ في سبعة أجزاء من منشورات محمد علي بيضون لنشر كتب السنّة والجماعة - دار الكتب العلمية بيروت والخطبة في أول الجزء الرابع في الباب الأول كلام النساء الشرائف فاطمة ابنة رسول الله (عليها السلام)خطبتها لما منعها أبو بكر فدكاً ثم ذكر الخطبة الكبيرة.
ص: 322
قد يظن البعض أن لا قيمة للإسناد بعد شهرة الحدث شهرة عظيمة لايسع المنكر إنكارها لاستفاضة النقل والإذعان لآثارها وقد يكون ذلك الظان الخاطئ متمسكاً بمقولة: ربّ مشهور لا أصل له لذلك اعتمدت توثيق الإسناد محوراً من محاور التوثيق لأنه يرفع إصر التبعة عن صاحب الكتاب ويزيد الثقة بصحة المسند والمسند إليه وقد شاع لدى المحدثين قول : لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .
وقد تميّز التاريخ الإسلامي في تسجيل أحداثه أخذا عن الرواة ناهجاً نهج الحديث في ذلك حتى صار الإسناد جزءاً من الخبر وبه صار الباحث يميز الصحيح من السقيم ولا يخلط الحابل بالنابل.
وثمة فائدة كبيرة سيحصل عليها الباحث من خلال معرفة رجال الإسناد فيدرك أنّ الإسناد كما يقوي الحجة يصدق رجاله ويدفع التهمة عنهم بمعرفة حالهم ويعين على فهم النص على حقيقته بملاحظة ضبط الرواة للخبر فهو أيضاً يلقي الضوء على أساس تسجيل الحدث في كشف أسباب النزاعات الدينية والخصومات السياسية ومدى تأثير هوى السلطة على الرواة ومدى تجاوبهم معها وذلك يعرف من معرفة هوياتهم القبلية وأهوائهم الدينية وقد مرّت الإشارة إلى مدرسة الكذب التي شيّد
ص: 323
صرحها معاوية بن أبي سفيان الذي كتب إلى الآفاق ما ذكره المدائني:( ومهما قيل في معاوية ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر وبعض أهل السنّة من وضعه في نسق صحابة رسول الله فإنّ الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً ولكنّه لم يستطع أكثر من هذا)(1). وما حديث مساومته مع سمرة بن جندب في جعله تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله﴾ (2)في ابن ملجم وتفسير﴿ وَهُوَ الدُّ الخِصَامِ﴾ في عليّ(عليه السلام) إلّا بعض إغوائه وإغرائه لحثالات الرجال ممن لا تلتقي بذكرهم الشفتان إحتقاراً لهم ومن شاء معرفة بعضهم فليرجع إلى شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي الأصولي الشافعي الفروع ليقف على أسماء المنحرفين عن عليّ(عليه السلام) وبعض مروياتهم(3). إذن فالخبر الخالي عن الإسناد يتهاوى أمام النقد الموضوعي لأنه مرسل وليس المرسل كالمسند فهذا هو الذي دعاني لأتخذ توثيق الإسناد أحد محاور التوثيق الخمسة.
وقد مرّ في المحور الأول توثيق أصحاب المصادر التي أخذت صور النصوص منها، كما مرّ في المحور الثاني توثيق المصادر من خلال معرفة طبعاتها لما عرى تعدّد الطبعات من السيئات ما عراها وممّا أفاض على
ص: 324
الطبعات الأولى من الحسنات ما أعلاها وأغلاها ومنه يعرف جواب ما قد يثيره فضول قاصري العقول فيقال: لماذا كل هذا الاهتمام بهذا الجانب والتأكيد على تعيين طبعاتها؟ فنقول له أيضاً إنّ الخطب الفاطمية في مجموعها تمثل بيان حقبة من تاريخ المسلمين حدثت فيها المفاجأة المؤلمة بعد انتقال الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى فكانت ردة وكان انقلاب، وكان ما كان من تفرق المسلمين وتمزق وحدتهم فمثلت تلك الخطب بمجموعها صورة ما حدث من تغيّر في ملامح المجتمع الإسلامي يومئذٍ في خضم المعترك الجدلي بين الإسلام الحقيقي الديني وتمثله الزهراء الجهل وكافة أهل البيت ومن تابعهم وشايعهم، وبين الإسلام السياسي ويمثله الشيخان ومن انضوى إليهما كما لا تهمل الخطب بمجموعها الفريق الحائر الخاثر والخاسر وهم غالب الأنصار الذين تذبذبت علاقاتهم مع الفريقين المتخاصمين فكانت مواقفهم متناقضة في تذبذبها إلى حد السلب والإيجاب في النصرة والخذلان وهذا ما كشفت عنه الخطب بمجموعها.
وحيث عرفنا أهميتها فلا غرابة من بذل مزيد اهتمام في إثباتها لأنّ المنكرين لجوا في إنكارها ولا غرابة في فهم موقفهم منها لأنها تنسف أبراج هياكلهم المزيّفة وتدحر جميع حججهم في مقولاتهم الزائفة والتي عاشت ونمت في ظل باهت الألوان ولكن بيان الخطب بصريحه وفصيحه كشف الزيف ودمّر الزائفة ولم تستطع عملية التسجيل الحاكم
ص: 325
بمليخه(1) وصريخه(2)أن يخفي الأمر الواقع في تلك الخصومة الحادة لأنّ أدوات التسجيل التي سجلت الحدث بنصه وفصّه فذكرت الخطب كانت أقوى بياناً وأفصح لساناً وأحد سناناً فلم تغطها غاشية النقول ولا زبارج المنقول فانصاعت مذعنة أدوات التسجيل الحاكم إلى ذكر الخطب غير متأثرة بضبابية الأهواء لأن صرخة الألم كانت أقوى من أن تطوى بجرة من القلم .
ونحن بقراءة حال الرجال الرواة ستظهر أمامنا شفافية المرآة الصافية والصادقة في نقل الصورة من دون رين أو تضبيب وإذا ما أصاب بعض رواتها من جهالة حال لتعتيم أخفت ضوء المصباح الهادي إلى واقع الحال ولم نقف له على ذكر في كتب الرجال والتراجم، وأحسب أنّ وهم النساخ أو الرواة في تسجيل أسماء ذلك البعض هو الذي سبب لنا معاناة البحث وهذا ما لم تسلم منه كتب السابقين واللاحقين وما كتب معرفة التصحيف والتحريف إلا دليل على ذلك مضافاً إلى بلية عصر المطابع التي أصبحت أخطاؤها في كل كتاب ضربة لازب ولا يعني عدم الوقوف على حال أحد في سند ما أو معرفته معرفة كافية شافية يكون نقصاً من قدر بقية رجاله ومن أحتج باستفاضة النقل عند الخاصة والعامة فقد أتى بما لا تتهاوى عنده النقول إذ لا يغني بذل المزيد من
ص: 326
البحث سوى العناء وهذا يقنع المنصف في نفسه وإن لم يزد المنكر إلا فساداً ﴿ قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾(1) فالمطلوب هو حصول الوثوق من الطرق المستفيضة، ولا شك أنه أقوى من حصوله من خبر صحيح واحد .
ثم إن وجود مجهول أو مقدوح فيه لجهالته، لا يستلزم كذب جميع الرواة، بل يكون تعدّد الأسانيد دليلاً على صدقه، قال الحافظ موفق الدين قدامة في أول كتابه (إثبات صفاة العلوّ الله) : (وإعلم رحمك الله إنه ليس من شروط صحة التواتر الذي يحصل به اليقين أن يوجد التواتر في جزء واحد، بل متى أتت أخبار كثيرة في معنى واحد من طرق يصدق بعضها بعضاً، ولم يأت ما يكذبها أو يقدح فيها حتى أستقر ذلك في القلوب، وأستيقنته فقد حصل التواتر، وثبت القطع واليقين، فإنا نتيقن وجود حاتم وإن كان لم يرد به خبر واحد مرضي الإسناد لوجود ما ذكرنا، وكذلك عدل عمر وشجاعة علي)(2).
الآن الى المزيد من معرفة الأسانيد حسب تسلسل ورود صور النصوص:
ص: 327
لمحمّد بن جرير الطبري الإمامي من أعلام القرن الخامس الهجري:
لقد أورد الخطبة بتسعة أسانيد تنتهي رواية رجالها إلى أعلام من بني هاشم ، ومن غيرهم، وهم على ترتيب ما في الكتاب مجملاً:
أ - ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن.
ب - ج - د - عن زينب بنت أمير المؤمنين(عليها السلام).
ه_ - عن عبد الله بن الحسن المثنى عن جماعة من أهله.
و - عن أبي جعفر الباقر عن آبائه(عليهم السلام) .
ز - عن زيد بن على عن آبائه (عليهم السلام).
ح - عن عوانة (بن الحكم).
ط - عن ابن عائشة (البصري).
ولا مناص للباحث من معرفة هوية رجال الأسانيد التسعة بدءاً من صاحب الكتاب وانتهاء بآخر السند فنقول:
قال صاحب الكتاب: وهو أبو جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبري الأملي الإمامي كان وجهاً من وجوه الإمامية وعيناً من عيونهم قال
ص: 328
النجاشي: جليل من أصحابنا كثير العلم حسن الكلام ثقة في الحديث)(1) وحسبنا بهذا في تعريفه وتوثيقه وقد روى الخطبة في كتاب دلائل الإمامة(2) فقال في حديث فدك : ( حدثني : (أبو المفضل محمّد بن عبدالله) هذا هو الشيباني المتوفى سنة 385 ه_ وقد أدركه النجاشي المتوفى سنة 450 ه_ وذكره في كتابه الرجال وروى عنه بالواسطة رعاية للاحتياط كما أدركه الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 ه_ وذكره في الفهرست فقال : كثير الرواية حسن الحفظ غير أنّه ضعفه جماعة من أصحابنا له كتاب الولادات الطيبة، وله... وغير ذلك أخبرنا بجميع رواياته عنه جماعة من أصحابنا(3) وطريق الشيخ إليه صحيح في مشيخة التهذيب(4).
أقول: وهذا روى الخطبة فقال : ( حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني) وهذا هو الحافظ المعروف بابن عقدة الزيدي أمره في الثقة والجلالة وعظم الحفظ أشهر من أن يذكر(5)وقال: له كتب كثيرة منها ... وله كتاب من روى عن فاطمة(عليها السلام)من أولادها.
ص: 329
أقول: وطريق الشيخ إلى كتبه ورواياته صحيح وقد ذكره الذهبي في الميزان وحكى عن الدارقطني قوله : أجمع أهل الكوفة انه لم يروا من زمن ابن مسعود أحفظ من أبي العباس ابن عقدة وقال الدارقطني أيضاً: ابن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده وأطال الذهبي في ترجمته فقال: مات سنة 332 عن أربع وثمانين سنة.
أقول وهذا روى الخطبة فقال : ( حدثنا أحمد محمد بن عثمان بن سعيد الزيات) ولم أقف على ذكر له في كتبنا الرجالية وأظن تصحيفاً وقع في نسبه في محمّد بن عثمان وصوابه عن عثمان وبناءً على هذا فيكون أحمد بن محمّد الذي روى عنه ابن عقدة هو أحمد بن محمد بن يحيى الحازمي (الخازني )(1) و عثمان بن سعيد الزيات هو العمري ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الهادي وأصحاب العسكري(عليه السلام) وقال جليل القدر ثقة وورد في معجم الطبراني حديثه في مسائل(2) وجهها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) عن أشياء من أمر المرؤة وقد أخرجها القضاعي(3) والديلمي في مسند الفردوس والهيثمي(4).
ص: 330
أقول: وهذا روى الخطبة : ( قال : حدثنا محمد بن الحسين القصباني (لم أقف فعلاً على من ذكره).
وهذا روى الخطبة : (قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي السكوني ذكره الشيخ النجاشي فقال: أحمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر زيد مولى السكون أبو جعفر المعروف بالبزنطي كوفي لقي الرضا وأبا جعفر(عليه السلام) وكان عظيم المنزلة عندهما ... ومات أحمد بن محمد سنة 221 ه_ ...
(أقول) : وهذا روى الخطبة عن أبان بن عثمان الأحمر) وهذا قال فيه النجاشي: أبان بن عثمان الأحمر البجلي مولاهم أصله كوفي كان يسكنها تارة والبصرة تارة وقد أخذ عنه أهلها : أبو عبيدة معمر بن المثنى وأبو عبدالله محمد بن سلام وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن(عليه السلام)له كتاب حسن كبير يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردة أخبرنا بها أبو الحسن التميمي قال حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال : حدثنا الحسن بن علي بن فضال قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن زرارة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بها...
وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست بنحو ما مر وذكر كتبه فقال : وما عُرف عن مصنفاته إلا كتابه الذي يجمع المبدأ(المبتدأ) والمبعث والمغازي والوفاة والسقيفة والردة أخبرنا بهذه الكتب - وهي كتاب واحد -
ص: 331
الشيخ أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيد الله جميعاً عن محمد بن عمر بن يحيى العلوي الحسيني قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن سعيد قراءة عليه.
أخبرنا أحمد بن محمّد بن موسى قال أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن فضال قال: حدّثنا محمّد بن عبدالله بن زرارة قال: حدّثنا محمّد بن أبي نصر عن أبان.
قال عليّ بن الحسن بن فضّال: وحدّثنا إسماعيل بن مهران قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن أبي نصر ومحمّد بن سعيد بن أبي نصر جميعاً عن أبان الأحمر...
أقول: وأبان هذا روى الخطبة : ( عن أبان بن تغلب الربعي) قال النجاشي: أبان بن تغلب بن رباح أبو سعيد البكري الجريري مولى بني جرير بن عبادة ... عظيم المنزلة في أصحابنا لقي عليّ بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبدالله(عليهم السلام) وروى عنهم وكانت له عندهم منزلة وقدم...).
أقول: وله في كتب رجال العامة إطراء حسن(1)ذكره البلاذري قال: روى أبان عن عطية العوفي قال له أبو جعفر(عليه السلام) : إجلس في مسجدا
ص: 332
لمدينة وأفت الناس فإنّي أحب أن يُرى في شيعتي مثلك. وقال أبو عبدالله(عليه السلام)- لمّا أتاه نعيه - أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان.
وكان قارئاً من وجوه القرّاء فقيهاً لغوياً سمع من العرب وحكى عنهم. وكان (رحمۀ الله علیه ) مقدّماً في كل فن من العلوم في القرآن والفقه والحديث والأدب واللغة والنحو وله كتب منها تفسير غريب القرآن وقد استشهد عليه بالشعر هو على نحو ما صنع ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق الخارجي.
وله كتاب الفضائل وكتاب صفّين وغير ذلك وأبان هذا روى الخطبة: (عن عكرمة) وهذا هو مولى ابن عباس ، ولما كان لابن عباس مولیان اسم كل واحد منهما عكرمة ، أحدهما هو المشهور الذي ترجمه ابن حجر(1) وأطال الكلام في ترجمته التي استغرقت عشر صفحات واستعرض فيها أقوال الناس فيه مدحاً وقدحاً وحسب القارئ أن يعرف أنّه كان خارجياً يرى رأي نجدة والصفرية من الخوارج وهو الذي أدخله إلى أهل المغرب ومهما قيل عنه من كذبه على مولاه ابن عباس فهو غير متهم في روايته لهذه الخطبة والخطبة الشقشقية فقد رواهما معاً عن مولاه ابن عباس لأنهما على خلاف هواه ورأيه فهو حين يرويهما نقبل روايته وننبذ رأيه فلنا في المقام حديثه وعليه بدعته كما يقول علماء
ص: 333
الدراية فإن كان هو الذي روى الخطبة فهو مقبول . وإن كان هو عكرمة الآخر غير المشهور وكان مستقيماً ، فهو مقبول أيضاً .
(عن ابن عباس )وهذا هو حبر الأمة وترجمان القرآن وشأنه أعلى شأن ويقصر عنه اللسان والبيان وقد وفقت بحمد الله تعالى إلى جمع أخباره وآثاره في موسوعة باسمه صدرت الحلقة الأولى منها في خمسة أجزاء وأرجو التوفيق لأن أدفع بباقي الحلقات في نفس الطريق إن شاء الله تعالى.
وهذا الحبر والبحر(رحمۀ الله علیه) روى الخطبة عن:( السيدة زينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) قال أبو الفرج الإصفهاني(1) في حديثه عن هذه العقيلة (والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك فقال حدّثتني عقيلتنا زينب بنت عليّ...
قال مؤلّف الكتاب - أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري) وقد تقدّمت ترجمته في أوّل السند الأول - : (وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى التلعكبري) ذكره النجاشي في ترجمة أحمد بن محمد بن الربيع وترحم عليه فقال:
ص: 334
(أحمد بن محمّد بن الربيع الأقرع الكندي له كتاب نوادر أخبرنا أحمد بن عبدالواحد قال: حدثنا علي بن محمد القرشي قال: حدثنا علي بن الحسن عن أحمد بن محمد بن الربيع قال أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى (رحمه الله علیه) قال : أبي .
قال أبو عليّ بن همّام :حدثنا عبد الله بن العلاء قال: كان أحمد بن محمّد بن الربيع عالماً بالرجال) أقول : ولا يبعد أن يكون محمّد بن هارون هو الورّاق الذي له عدّة كتب منها : كتاب السقيفة ومهما يكن فهو روى الخطبة عن أبيه .
(قال حدثنا أبي ) وهذا قال فيه النجاشي: (كان وجهاً في أصحابنا ثقة معتمداً لايطعن عليه) وقال فيه الشيخ الطوسي في رجاله: (جليل القدر عظيم المنزلة، واسع الرواية، عديم النظير ثقة)
روى جميع الأصول والمصنفات مات سنة / 385 أخبرنا عنه جماعة من أصحابنا ...
أقول: وهذا روى الخطبة:
(قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني) وهذا هو الحافظ ابن عقدة الزيدي وقد تقدمت ترجمته في السند الأول..
(قال: حدثني محمّد بن المفضّل بن إبراهيم بن قيس الأشعري) وقيس هو ابن رمانة والمترجم له يكنى أبا جعفر ثقة له كتب ترجمه النجاشي
ص: 335
وذكر انّ ابن عقدة روى عنه كتابه وقال سيدنا الأستاذ (قدّس سرّه) وروى الشيخ في التهذيب بسنده عن أبي جعفر محمد بن المفضّل بن إبراهيم الأشعري قال: حدّثنا الحسن بن عليّ بن زياد وهو الوشاء الخزاز وهو ابن بنت الياس وكان وقف ورجع فقطع... الحديث(1).
أقول: والقائل هو الأستاذ... محمد بن المفضّل والطريق إليه صحيح...اه_.
أقول: وهذا روى الخطبة : ( قال : حدثنا علي بن حسان) ترجم السيّد الأستاذ (قدّس سرّه)(2)على بن حسان وعلى بن كثير وعلي بن حسان الواسطي وذكر الإختلاف في حال أصحاب الاسماء وانتهى إلى اشتراك رجلين في اسم عليّ بن حسان وللتمييز بينهما ذكر الذي يروي عن عمه بن كثير) هو الهاشمي المطعون فيه والآخر هو الواسطي وهو الثقة ونبه في ص 332 على ان علي بن حسان الهاشمي وقع في إسناد كامل الزيارات روى عن عمه عبدالرحمن بن كثير و مولى أبي جعفر(عليه السلام) وروى عنه الحسن بن علي الكوفي الباب 43 في أنّ زيارة الحسين(عليه السلام) فرض وعهد لازم الحديث 4 ثم قال: ولكنه مع ذلك لا يمكن الحكم بوثاقته لمعارضة شهادة ابن قولويه فيه بشهادة النجاشي وابن الغضائري بضعفه وشهادة ابن فضال بأنه كذاب ثم عاد في ص 333 فقال: أنّه ظهر ممّا
ص: 336
ذكرنا انّ عليّ بن حسان اسم لرجلين أحدهما ثقة وهو الواسطي والآخر لم تثبت وثاقته وهو الهاشمي الذي يروي عن عمه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي ولكنه يناقض ذلك ما ذكره الصدوق من رواية علي بن حسان الواسطي عن عمه عبدالرحمن بن كثير(1) .
وما ذكره في المشيخة من رواية عليّ بن حسان الواسطي عن عمه عبدالرحمن بن كثير الهاشمي ولأجل ذلك جزم المجلسي الأول على ما حكى عنه الوحيد (قدّس سرّه) بالاتحاد وأنّ الهاشمي والواسطي رجل واحد.
ثم رأى السيّد الأستاذ (قدّس سرّه) التعدّد وقبول خبر الواسطي ورفض خبر الهاشمي وانتهى إلى التوقف فيما كان الأمر ملتبساً.
وهو تحقيق حقيق بالتصديق لكني وجدت في شرح مشيخة الفقيه(2) ترجمة عليّ بن حسّان الواسطي أبو الحسين القصير المعروف بالمنمس عمّر أكثر من مائة سنة روى عن أبي الحسن الرضا وأبي جعفر الجواد له كتاب روى عنه أحمد بن عبد الله ومحمد بن الحسن الصفار وغيرهما وهذا ظاهر في الاتحاد لما رواه الصدوق وحكي عن المجلسي. ومهما يكن فعليّ بن حسان روى الخطبة:
ص: 337
( عن عمّه عبدالرحمن بن كثير ) ترجمه النجاشي وذكر غمز الأصحاب فيه وذكر له عدة كتب منها كتاب فقدك ... ولما كان ورد ذكره في كامل الزيارات لابن قولويه في الباب 43 في انّ زيارة الحسين(عليه السلام) فرض وعهد لازم وكذلك ورد ذكره في تفسير القمي في سورة النمل في قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾(1). فهو كمن سبقه يمكن تمشية حاله لورود ذكره في الكتابين اللذين ضمن مؤلّفاهما وثاقة من في كتابيهما من الرجال وإن ناقش ذلك سيّدنا الأستاذ(قدّس سرّه)ومهما كان حاله فقد روى الخطبة:
( عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن عمته زينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) .
لقد اختصر المؤلّف ذكر السند من أوّله إلى ابن عقدة المتقدم ذكره في السندين السابقين فابتدأ السند الثالث بقوله:
(وقال أبو العباس) وهذا هو ابن عقدة الزيدي كما تقدّم:
( وحدثنا محمد بن المفضّل عن إبراهيم الأشعري) وهذا أيضاً تقدم ذكره في السند الثاني
ص: 338
(قال: حدثني أبي ) ولم أقف على ذكره مترجماً بما يكشف حاله فعلاً. وقد روى الخطبة :
(قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عمرو بن عثمان الجعفي) وهذا كسابقه وقد روى الخطبة
(قال: حدثني أبي) وهو كحال ابنه المتقدم الذكر مجهول الحال فعلاً وهو روى الخطبة :
( عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده عليّ بن الحسين عن عمته زينب بنت أمير المؤمنين وغير واحد انّ فاطمة لما أجمع أبو بكر على منعها فدكاً....
قال المؤلف : ( وحدّثني القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر( بن مخلد) بن سهل بن حمران الدقاق) وهذا هو الباقرحي من مشايخ الخطيب ترجمه في تاريخه فقال: وكان صدوقاً صحيح الكتاب حسن النقل جيد الضبط ومن أهل العلم والمعرفة بالأدب... وكان ينتحل في الفقه مذهب محمّد بن جرير الطبري... وسمعته يقول: ولدت سنة 302 ... توفّى سنة 410 ودفن ... في مقبرة الخيرزان بقرب قبر أبي حنيفة.
ص: 339
أقول: وترجمه السمعاني بنحو ذلك(1)كما ذكره الذهبي(2)أقول: هذا روى الخطبة:
(قال: حدّثتني أم الفضل خديجة بنت محمّد بن أحمد بن أبي الثلج )
وقد روت الخطبة( قالت: حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني) قال صاحب رياض العلماء: انّجلالة قدر الصفواني هذا وثقته تما لا شبهة فيه ونقله أصحاب الرجال وغيره وكان تلميذ الكليني(3). أقول: وهذا روى الخطبة :
(قال: حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري) وهذا شيخ البصرة وأخباريها له أكثر من مائة كتاب في السير والأخبار والفقه وهو ثقة في حديثه(4) توفي بعد 330 وهو روى الخطبة .
(قال: حدثنا محمّد بن زكريا) وهذا هو الغلابي وكان وجهاً من وجوه أصحابنا بالبصرة كما قاله النجاشي(5) وهو روى الخطبة
ص: 340
(قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة الكندي) لم أقف عليه في كتب رجالنا وهو روى الخطبة .
(قال: حدّثني أبي) وهو كسابقه وقد روى الخطبة
(عن الحسن بن صالح بن حي قال: وما رأت عيناي مثله )وهذا من رجال الزيدية وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست وقال له أصل روينا عن ابن محبوب عن الحسن بن صالح بن حئ وقد ترجمه الذهبي في ميزانه فرجحت كفة إحسانه حيث حكى عن أبي حاتم قوله فيه :ثقة حافظ متقن وعن أبي زرعة قوله : اجتمع فيه إتقان وفقه وعبادة وزهد.
وما حكاه من أقوال الجرح لا تخدش الرجل ومنها ما حكاه عن وكيع قال فيه: هو عندي إمام فقيل له انّه لا يترحم على عثمان فقال: أفتترحم أنت على الحجاج؟!
أقول: وهذا روى الخطبة.
(قال: حدثني رجلان من بني هاشم )لم يذكر اسميهما ولا يبعد أن يكونا هما عبدالله بن الحسن وزيد بن عليّ لأنه معاصر لهما وقد أخذ عنهما وهما ممن رويا الخطبة عن آبائهما .
(عن زينب بنت علي قالت لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منع فدك وانصرف وكيلها عنها لاثت خمارها ... الحديث).
ص: 341
وهو يبدأ من الصفواني وقد تقدم ذكره في السند الرابع. قال:
(وحدثني محمد بن محمد بن يزيد مولى بني هاشم) لم أقف عليه في كتب رجالنا ويبدو ان ثمة تصحيف في اسم محمّد فهو أحمد كما في شرح النهج كما في سند الجوهري لرواية الخطبة وهو روى الخطبة
(قال): حدثني عبدالله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن) وهذا السيد الشريف روى الحديث عن أبيه عن جده وتجد في خصال الصدوق(1)ومعاني الأخبار له أيضا(2)، والأمالي أيضاً(3)، وأمالي المفيد (4)بعض حديثه وهو ممن روى الخطبة ( عن أبيه)
(عن عبد الله بن الحسن بن الحسن) وهذا هو الملقب بالمحض شيخ الطالبيين في عصره ذكره الطوسي في أصحاب الإمام الباقر
(عليه السلام) وترضى عنه وهو روى الخطبة عن جماعة من أهله وأمه فاطمة بنت الحسين(عليه السلام)ممّن تروي الخطبة عن عمتها زينب(عليها السلام) ، كما ان أبوه الحسن المثنى هو أيضاً يرويها عن أبيه الإمام الحسن السبط - وسيأتي مزيد بيان عن المحض وأبيه.
ص: 342
وهو كسابقه يبدأ من الصفواني الذي تقدم ذكره في السند الرابع والخامس قال: (قال : وحدثني أبي ) وهو أحمد بن عبدالله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمال وهو ممن روى الخطبة
( عن عثمان) وفي شرح النهج ابن عمران العجيفي ولم أقف على حاله في كتب رجالنا .
(قال: حدثنا نايل بن نجيح) لم تذكره كتب رجالنا وهو مذكور في كتب رجال غيرنا فقد ذكره ابن حجر(1) وحكى توثيقه عن أبي حاتم وعن ابن عدي وقال ثقة كان أصحابنا يكتبون عنه ثم ذكر تجريحه بما لم يفسّر والجرح غير المفسّر غير مقبول وهذا ممن روى الخطبة الكبيرة
(عن عمرو بن شمر) الجعفي من أصحاب الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)وحكى سيدنا الاستاذ اعتماد الشيخ المفيد على رواياته(2). وهو ممن روى الخطبة.
(عن جابر الجعفي) هو ابن يزيد أبو عبد الله ثقة له أصل من أصحاب الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)وثقه الشيخ المفيد (رحمۀ الله علیه ) .
ص: 343
وحكى ابن حجر عن سفيان قوله ما رأيت أورع في الحديث منه(1). وعن شعبة: جابر صدوق في الحديث وعنه أيضاً كان جابر إذا حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس ثم حكى ابن حجر أقوال الجارحين لأنه كان يؤمن بالرجعة ولأنه كان عنده أحاديث كثيرة منها في المهدي(عجل الله تعالی فرجه)وبالتالي تشيعه ؟!
و جابر هذا ممّن روى الخطبة
( عن أبي جعفر عن آبائه(عليه السلام) وذكر الحديث.
ويبدأ كسوابقه من الصفواني. قال الصفواني: وحدثنا عبد الله بن الضحاك )وفي شرح النهج( محمّد بن الضحاك) ولم أقف على حاله فعلاً وهو تمن روى الخطبة ( قال حدثنا هشام بن محمّد) هو الكلبي المشهور بالفضل والعلم وكان يختص مذهبنا وكان أبو عبد الله - الصادق(عليه السلام)- يقربّه ويدنيه ويبسطه وله كتب كثيرة كذا قاله النجاشي.
وله تراجم في مصادر التراث السنّي لا تخلو من تجريح وهو تمن روى الخطبة ( عن أبيه وهو أبو النضر محمّد بن السائب بن بشر الكلبي من أصحاب الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)وقد روى الخطبة هو
ص: 344
( وعوانة) وفي شرح النهج ( عوانة بن الحكم وهو أبو الحكم الكوفي الضرير وصفوه بأنّه كان عالماً بالأخبار والآثار ثقة وكان عثمانياً وكان يضع أخباراً لبني أمية وله كتاب (سير معاوية وبني أمية) وقد روى عنه هشام بن محمّد الكلبي(1).
ويبدأ من الصفواني أيضاً وقد تقدم ذكره مكرراً هكذا قال الصفواني وحدّثنا ابن عائشة ببعضه) وابن عائشة هذا هو عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي - نسبة إلى عائشة بنت طلحة احدى جداته – وهي التي سيأتي ذكرها في الخطبة الثالثة – وقد وثقه ابن حجر في تقريب التهذيب وقال رُمي بالقدر مات سنة 228 وجاء في سير أعلام النبلاء: أنه روى عنه محمّد بن زكريا الغلابي حديث فدك وهو رواه عن أبيه عن عمه(2)
( وحدثنا العباس بن بكار ) هذا هو الضبي وله رواية في الفقيه(3) ولم يذكر في كتبنا عن حاله شيئاً . وهو روى الخطبة ( قال: حدثنا حرب بن میمون) وحاله كسابقه عندنا وهو روى الخطبة (عن زيد بن عليّ عن
ص: 345
آبائه (عليهم السلام) قالوا: لما بلغ فاطمة(عليها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدك وانصراف عاملها لاثت خمارها ثم أقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها ... إلى آخر الخطبة. وبهذا انتهى الكلام عن أسانيد الطبري الإمامي لروايته الخطبة الكبيرة .
أسانيد أبي بكر الجوهري المتوفى سنة 323 في كتابه (السقيفة وفدك).
فقد روى الخطبة بثلاثة أسانيد توثيقاً لروايته وقد مرّت صورة النص فيما سبق نقلها عن ابن أبي الحديد الذي قال في شرح النهج توثيقاً لما ينقله (فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز عبدالعزيز الجوهري في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والإضطراب عقب وفاة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب ثقة ورع أثنى عليه المحدّثون ورووا عنه مصنفاته) أما الأسانيد فهي كما يلي:
قال أبو بكر: فحدثني محمد بن زكريا - هذا هو الغلّابي وقد مرّ ذكره في أسانيد ابن جرير الإمامي عن الصفواني فراجع السند الرابع - قال : حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي وساق السند بعين ما مرّ في
ص: 346
السند الرابع المشار إليه آنفاً عن الحسن بن صالح بن حي وإلى آخر ما قاله الحسن ثم قال الحسن : وقال جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين عن أبيه وقد مرّ تعريف رجاله.
قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ(عليه السلام) .
أقول: وهذا هو عين السند السادس من أسانيد ابن جرير الإمامي في دلائل الإمامة وقد رواه عن الصفواني عن أبيه عن عثمان إلى آخر السند وقد مرّ تعريف رجاله.
قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمّد بن يزيد عن عبدالله بن محمّد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن الحسن وهذا هو عين السند الخامس من أسانيد ابن جرير الإمامي في دلائل الإمامة وقد رواه عن الصفواني عن محمّد بن محمد بن يزيد مولى بني هاشم وهذا هو الذي روى عنه أبو بكر باسم أحمد بن محمد... وقد مرّ تعريف رجاله.
ثم قال أبو بكر : قالوا جميعاً لما بلغ فاطمة(عليها السلام) هنا إجماع أبي بكر على منعها فدك ...
ص: 347
لقد روى ابن أبي طاهر في كتاب بلاغات النساء فصولاً من الخطبة بأسانيده الخاصة وساق في ثوثيق روايته فقال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)كلام فاطمة (عليها السلام)عند منع أبي بكر إيّاها فدك وقلت له: إنّ هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنّه من كلام أبي العيناء( الخبر منسوق البلاغة على الكلام).
فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أبناءهم وقد حدثنيه أبي عن جدي يبلغ به فاطمة على هذه الحكاية ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جد أبي العيناء.
وقد حدّث به الحسن بن علوان عن عطية العوفي أنّه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه.
ثم قال أبو الحسين : وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة لا فينكرونه، وهم يروون من كلام عائشة عن موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة(عليها السلام)فيحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت؟ ثم ذكر الحديث قال: لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فدک وبلغ ذاك فاطمة(عليها السلام)لاثت خمارها على رأسها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم من مشية رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)شيئاً حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار و فنيطت دونها ملاءة ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء وارتجّ المجلس فأمهلت حتى سكن
ص: 348
نشيج القوم وهدأت فورتهم فافتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فعاد القوم في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾(1) ثم ساق الخطبة بهذا السند ثم قال:
حدثني جعفر بن محمّد عن رجل من أهل ديار مصر لقيته بالرافقة قال: حدثني أبي قال أخبرنا موسى بن عيسى قال : أخبرنا عبدالله بن يونس قال: أخبرنا جعفر الأحمر عن زيد بن علي(عليه السلام)عن عمته زينب بنت الحسين (عليها السلام)(2)، قالت : لما بلغ فاطمة(عليها السلام)إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها وخرجت في حشدة من نسائها ولمة من قومها تجرّ أدراعها ما تخرم من مشية رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شيئاً حتى وقفت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار فأنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء فلما سكنت فورتهم قالت:
أبدأ بحمد الله - ثم أسبلت بينها وبينهم سجفا - ثم قالت: الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها (ثم ساق الخطبة إلى آخرها وهي أجمع مما في الرواية السابقة ثم قال:
ص: 349
قال أبو الفضل : وقد ذكر قوم إنّ أبا العيناء ادّعى هذا الكلام وقد رواه قوم وصححوه وكتبناه على ما فيه.
وحدثني عبدالله بن أحمد العبدي(1) عن الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع أبا بكر يومئذ يقول لفاطمة(عليها السلام)يا بنية رسول الله (إلى آخر ما مرّ نقله في صورة النص ثم قال ابن أبي طاهر وما وجدت هذا الحديث على التمام إلا عند أبي هفّان.
المتوفى سنة 436 في كتابه (الشافي)
قال(قدس سره) : وقد روى أكثر الرواة الذين لايتهمون بتشيع ولا عصبية فيه من كلامها(عليها السلام) في تلك الحال وبعد انصرافها يدلّ على ما ذكرناه.
(أخبرنا جماعة عن أبي عبد الله محمّد بن عمران المرزباني)
ص: 350
أقول: هذا من مشايخ المفيد المتوفى سنة 413 ه_ الذي هو استاد المرتضى وقد أكثر النقل عنه في الأمالي وكان يعد من محاسن الدنيا صادق اللهجة ثقة في الحديث واسع المعرفة مائلاً إلى التشيع كما في ترجمته عند ابن خلكان قال : وهو أول من جمع شعر يزيد بن معاوية؟ وله كتب كثيرة توفي سنة 384 ه_ وهو روى الخطبة(1)
قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب ذكره ابن خلكان في ترجمة يحيي بن مندة وقال: سمع منه منه أبو طاهر محمّد بن أحمد بن محمد بن عبدالرحيم الكاتب(2)... وإذا عرفنا ان ابن مندة هو - كما قال ابن خلكان - محدّث
ابن محدّث ابن محدّث ابن محدّث ابن محدّث وكان جليل القدر وافر الفضل واسع الرواية ثقة حافظاً فاضلاً مكثراً صدوقاً... فإذا عرفنا ابن مندة بما وصف لا نشك في أنّه لا يروي عمّن هبّ ودبّ بل يأخذ عمّن هو أهل للأخذ عنه ومنهم شيخه محمّد بن أحمد الكاتب هذا وهو يروي الخطبة:
ص: 351
(قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي) أبو جعفر المعروف بأبي عصيدة تولى تأديب المعتز وقال ابن النديم كان مؤدب المنتصر أوردله الذهبي في ترجمة الأصمعي حديثاً منكراً وقال: أحمد بن عبيد ليس بعمدة إلا أنّ ابن عدي قال: هو عندي من أهل الصدق وروى أبو داود في المسند عن أحمد بن عبيد عن محمد بن سعد كلاماً فقيل فقيل هو هو هذا. (أقول) ولننظر ما هو ذلك الحديث المنكر ؟
قال الذهبي في ترجمة الأصمعي : وقال الأزدي ضعيف الحديث وروى له أحمد بن عبيد بن ناصح عن الأصمعي عن ابن عون عن محمّد بن أبي هريرة أن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)كفّن زُرّ عليه قميصه وهذا حديث منكر وقد ثبت أنه(عليه السلام)كفّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص فأحمد بن عبد الله (كذا في طبعة الهند سنة 1308 ه_ ) والصواب عبيد ليس بعمدة وقد روى الحسين الكوكبي عن أحمد بن عبيد قال : سئل أبو زيد الأنصاري عن أبي عبيدة والأصمعي فقال : كذابان وسئلا عنه فقال : ما شئت من عفاف وتقوى. وهذا يروي الخطبة .
(قال : حدثنا الزيادي) هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي النحوي البصري توفي سنة 129 ه_ ذكره ابن حجر (1) وحكى عن ابن حبان ذكره
له في الثقات وهو روى الخطبة
ص: 352
(قال: حدثنا الشرقي بن القطامي) - كذا في الطبعة الحجرية والصواب الشرقي بن قطامي - ترجمه الخطيب(1) وقال: كان عالماً بالنسب وافر الأدب ضم المنصور إليه المهدي فيأخذ من أدبه وترجمه الذهبي وحكى تضعيفه عن جماعة إلا انه ختم ترجمته بما قاله الخطيب وقال: اسمه الوليد بن الحصين(2).
وروى الخطبة : ( عن محمّد بن إسحاق) وهذا من أوائل مدوني السيرة والتاريخ وعده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) و ترجمه ابن خلكان :وقال وكان ثبتاً في الحديث عند أكابر العلماء وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته فيهما... وقال سفيان بن عيينة : ما أدركت أحداً يتهم ابن إسحاق في حديثه وقال شعبة بن الحجاج : محمّد بن إسحاق أمير المؤمنين - يعني في الحديث - توفى ببغداد سنة 151 ه_
وهذا روى الخطبة: (قال: حدثنا صالح بن كيسان) المدني ترجمه الذهبي وقال: أحد الثقات العلماء رمي بالقدر ولم يصح ذلك عنه (3).
وفي معجم رجال الحديث للسيّد الأستاذ عده من أصحاب السجاد(عليه السلام) وأنه مجهول.
ص: 353
وهذا روى الخطبة : ( عن عروة) هو ابن الزبير بن العوام أثنى عليه مترجموه من العامة مع أنه معدود في المنحرفين عن أهل البيت الله وله مع ابن عباس ما ينبئ عن نُصبه وحدّث عنه ابنه يحيى بن عروة قال: كان أبي إذا ذكر عليّاً نال منه وقال لي مرة يا بني والله ما أحجم الناس عنه إلاّ طلباً للدنيا ... قال يحيى فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ومن عيبه له وانحرافه عنه(1) وحسبنا بهذا شاهداً من أهله فهو غير متهم في قوله كما انّ أباه غير متهم في روايته الخطبة وتعد روايته توثيقاً لها لأنها في غير صالحه وهو يرويها :
( عن عائشة) فهي إحدى أمهات المؤمنين وكانت رأس أحد الحزبين من نساء النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) كن حزبين كما في البخاري في كتابه الهبة عنها قالت ان نساء رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر: أم سلمة وسائر نساء رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) (2)ومن المعلوم أن تلكم البواقي هنّ زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية.
ص: 354
وكان يقال: لو كان أبناء أبي بكر كبناته لعزّ على عمر نيل الخلافة لأنّ عائشة صاحبة يوم الجمل وأسماء هي التي حضت ابنها عبدالله بن الزبير على صدق القتال(1).
فرواية عائشة للخطبة مع العلم بمواقفها المعروفة المتشنجة مع أهل البيت(عليه السلام)وخاصة مع علي وفاطمة (عليهم السلام) دليل صحة الرواية من خلال هذه الرؤية خصوصاً والسند إلى روايتها ليس في رجاله من يتهم بالوضع عليها في هذا المقام .
هذا هو السند الأول الذي رواه المرزباني وله سند آخر وهو كما يلي:
قال المرزباني: وحدثني أبو بكر محمد بن أحمد المكي) هكذا ورد اسمه في النسخة الحجرية من مطبوعة الشافي للشريف المرتضى(رحمه الله) ولكن ثمة تصحيف وقع فيه والصحيح هو أحمد بن محمد المكي وهذا ترجمه الخطيب البغدادي فقال: (أحمد بن محمّد بن عيسى بن خالد أبو بكر المعروف بالمكي كان ينزل بين السورين(2)..
وحدّث عن أبي العيناء محمّد بن القاسم... وروى عنه... والمرزباني ثم حكى عن الدارقطني قوله فيه : لا بأس به مات سنة 322 .
ص: 355
وهذا روى الخطبة : (قال : حدثنا محمّد بن القاسم اليمامي أبو العيناء) البصري وهذا هو الراوية الشهير الأديب الماهر من ظرفاء الأذكياء كان حاضر النكتة سريع الجواب توفي بالبصرة سنة 282 وقيل غير ذلك ويبدو أن روايته للخطبة جلبت عليه تهمة الرفض حتى جرى له مع المتوكل في ذلك ما رواه ياقوت في ترجمة إبراهيم بن سعدان(1)
قال: وحدّث المرزباني عن الصولي عن أبي العيناء قال: قال لي :المتوكل بلغني أنك رافضي فقلت: يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة ومنشئي مسجد جامعها وأستاذي الأصمعي وجيراني باهلة؟
وليس يخلو الناس من طلب دين أو دنيا فإن أرادوا ديناً فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وتأخير من قدموا وإن أرادوا دنياً فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك أبوك مستنزل الغيث(2) وفي يديك خزائن الأرض وأنا مولاك.
فقال: ان ابن سعدان زعم ذلك فيك فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرّق ذلك بين الإمام والمأموم والتابع والمتبوع إنما ذلك حامل درّة ومعلم صبية وآخذ على كتاب الله أجرة.
فقال : لا تفعل لأنه مؤدّب المؤيد.
ص: 356
فقلت: يا أمير المؤمنين إنّه لم يؤدبه حسبة وإنّها أدبه بأجرة فإذا أعطيته حقّه فقد قضيت ذمامه
فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء لا والله ما صدق أمير المؤمنين في شئ مما حكاه عنّي ثم أقبل على المتوكل فقال: أي شئ أسهل عليك يا أمير المؤمنين من أن ينقضي مجلسك على ما تحبّ ثم يخرج هذا فتقطعني قال: فضحك المتوكل.
وقد روى الخبر الصفدي في الوافي بالوفيات أيضاً.
وهذا الخبر وإن ذكره من ذكره في سياق سرعة جواب أبي العيناء وجرأته وهو كذلك إلا أنه ينمّ عن أنّ المتوكل الذي كان يقتل الناس بتهمة الرفض ولا يبعد أنه قد بلغه عن أبي العيناء ما يشم منه رائحة الرفض لروايته الخطبة مثلاً ومهما يكن فإنّ أبا العيناء روى الخطبة:
(قال: حدّثنا ابن عائشة) هو عبيد الله بن محمّد بن حفص التيمي نسبة إلى عائشة بنت طلحة وهي من جدّاته وثقه ابن حجر في التقريب جدا وقال ورمي بالقدر ولم يثبت وهذا كان من أهل البصرة فقدم بغداد وحدّث بها ثم عاد إلى البصرة وكان أديباً عارفاً بأيام الناس مات سنة 228 أو 282 قال : لما قبض رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أقبلت فاطمة(عليه السلام)في لمة من حفدتها ونسائها...
ص: 357
أقول: لما كان الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ذكر الخطبة بنفس ما تقدّم من سند الشافي فلا حاجة إلى إعادة ذكر أسانيده
تعقيب على التكذيب :
قال الشريف المرتضى( قدس سره) : وأخبرنا جماعة عن أبي عبيد الله بن المرزباني قال: حدّثني علي بن هارون قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد (بن علي بن الحسين بن زيد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كلام فاطمة(عليها السلام)عند منع أبي بكر إياها فدك وقلت: إنّ هؤلاء يزعمون أنه موضوع وأنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة) فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه أبناءهم.
وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة(عليها السلام)على هذه الحكاية ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جد أبي العيناء وقد حدّث به الحسين بن علوان عن عطية العوفي انه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه.
ثم قال أبو الحسين: وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة (عليها السلام) فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة(عليه السلام) فيحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه.
ص: 358
أقول : فالآن إلى معرفة من ورد ذكرهم في كلام أبي الحسين زيد وهم:
الحسين بن علوان: وهذا هو الكلبي عامي ثقة ذكره الطوسي في الفهرست وقال له كتاب وصحح سيّدنا الأستاذ طريق الشيخ إليه(1).
(عن عطية العوفي) هو عطية بن سعد بن صفادة العوفي الكوفي خرج مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمّد بن القاسم الثقفي : ادع عطية فإنّ سبّ عليّ بن أبي طالب وإلا فاضر به أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته فاستدعاه فأبى أن يسبّ فامضى حكم الحجاج فيه ثم خرج إلى خراسان فلم يزل بها حتى ولي عمر بن هبيرة العراق فقدمها فلم يزل بها إلى أن توفي سنة 111 أو 127 ه_ (2)وقد روى الخطبة عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أبو محمد تابعي من أهل المدينة أمه فاطمة بنت الحسين بن علي(عليه السلام) كان من العباد وله شرف وعارضة وهيبة توفي في حبس المنصور بالهاشمية سنة 145 ه_ قبل مقتل ابنه محمّد النفس الزكية بأشهر(3).
وقد روى الخطبة عن أبيه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)ويعرف بالحسن المثنى قال المفيد: انه كان جليلاً رئيساً فاضلاً ورعاً ولم يدرك زمان الصادق(عليه السلام)كان يلي صدقات أمير المؤمنين(عليه السلام) وقد زوجه
ص: 359
عمه الحسين ابنته فاطمة(عليه السلام) وقد خرج معه إلى الطف فجرح وأرتث بجراحته فانتزعه أسماء بن خارجة من بين الأسرى فقال عمر بن سعد ( لعنۀ الله ) دعوا لأبي حسان ابن أخته ومضى الحسن ولم يدّع الإمامة ولا ادعاها له مدّع وردت ترجمته في كثير من المصادر منها مقاتل الطالبيين وعمدة الطالب وغيرهما.
وقد روى الخطبة عن أبيه الإمام الحسن السبط الزكي سلام الله عليه.
عند الخطبة
روى السيد ابن طاووس(رحمه الله) في كتابه الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف الخطبة بإسناد خاص من العامة ولم يرد ذكره من قبل فنحن نذكره وله تعقيب عليه لا يخلو من محاكمة صارخة نفثت بها حمية ذلك العلوي قال (رحمه الله)(1): ومن طرائف ما رووه في حضورها بنفسها عند أبي بكر وتألمها وطلبها لحقها ما ذكره الشيخ أسعد بن سفروه في كتاب الفائق عن الأربعين عن الشيخ المعظم عندهم الحافظ الثقة بينهم أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الاصفهاني في كتابه المناقب قال أخبرنا إسحاق بن عبدالله بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال: حدثنا الزيادي محمد بن زياد :قال حدثنا شرقي بن قطامي عن صالح بن
ص: 360
كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة انّها قالت لما بلغ فاطمة انّ أبا بكر قد أظهر منعها فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء من قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس ثم أمهلت هنيئة حتى سكنت فورتهم افتتحت كلامها بحمد الله وأثنت عليه ثم قالت: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون آباءكم وأنا ابنته دون نساءكم وأخوه ابن عمي دون رجالكم فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم آخذاً بأكظامهم وساق الخطبة إلى قوله: ثم انكفأت إلى قبر أبيها (صلی الله علیه وآله وسلم) فقالت :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنا فقدناك فقد الأرض وابلها واختل قومك فاشهدهم فقد
ثم قال السيد وفي بعض الروايات المشار إليه زيادة هذه ألفاظها :
أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول الله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾ (1)وقال فيما اقتص من خبر يحيى وزكريا إذ قال: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ
ص: 361
رَضِيّاً ﴾(1) وقال: ﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾(2) وقال: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ﴾(3) ثم عطفت على قبر أبيها وبكت وتمثلت بقول صفية بنت أثاثة وقيل : أنابة :
وكان جبريل بالآيات *** فقد فقدت وكل الخير
وكنت بدراً ونوراً يستضاء*** عليك تنزل من ذي
تجهمتنا رجال واستُخِفّ*** لمّا فقدت وكل الإرث
أبدت رجال لنا فحوى*** لما مضیت و حالت
إنّا رزئنا بما لم يرز ذو شجن*** من البرية لا عجمٌ ولا
وسوف نبكيك ما عشنا*** منّا العيون بتهمال لها
(قال عبد المحمود) - وهو الاسم الذي اختاره السيد لنفسه يومئذ لظروفه الخاصة فكنّى عن نفسه بذلك فقال: أنظر رحمك الله وفكر فيها قد رووه عن رجالهم وثقاتهم من هذا التألّم العظيم من فاطمة(عليه السلام) وما تقدّم من روايتهم له في صحاحهم من هجرانها لأبي بكر ستة أشهر حتى ماتت فهل ترى هذا حديث من كان عندها شبهة في أنهم ظلموها عمداً وقصداً؟ وهل ترى هذا الكلام منها كلام من قد قبلت لهم عذراً؟
وهل ترى هذا حديث من لا يعرف صحة دعواها وثبوت حجتها؟
ص: 362
وهل كان يحسن أن يسمع مثل هذا الكلام منها وتمنع تما طلبت أو العوض عنه ؟
ولو كانت قد وفدت بهذا الكلام والاسترحام على أعظم ملوك الكفّار أما كان تشهد العقول أنّه كان يرفع شأنها ويشرف مقامها ويحسن جائزتها ؟
أفيليق بمسلم أن يكون جواب هذا الكلام منعها وسوء معاملتها و تهوين حضورها و خطابها والقساوة عليها وترك التلطف بها على كل حال؟ ما يقولون لو أن محمداً (صلی الله علیه وآله وسلم)أباها رآها وهي تبكي وتقول مثل هذا الكلام؟ أكان يغضب لغضبها كما رووه في صحاحهم؟ أو كان يرضى عنهم؟
إنّما تشهد العقول أنّه كان يشق عليه غضبها ويهجرهم بهجرانها ويستعظم إقدامهم على تكذيبهم لها وظلمها وكسرها وإسقاط منزلتها فاختر لنفسك أيّها المشفق على نفسه هل توافق رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في ذلك ويكون لك فيه أسوة حسنة ؟ أو تكون في زمرة من أغضبها وأغضبه ؟
(أقول) ولكلامه هذا بقية نافعة تحسن مراجعتها لمن شاء المزيد من كلامه المفيد.
ص: 363
لقد مرّ بنا أنّ السيد روى الخطبة عن الشيخ أسعد بن سقروة نقلاً عن كتابه الفائق. فروايته وجادة على مصطلح أهل الدراية حيث هو صريح نقله من كتاب الفائق فمن هذا الشيخ؟ وأين كتابه؟ قال شيخنا الحجة الرازي(رحمۀ الله علیه)(1):
(الفائق على الأربعين في مناقب أمير المؤمنين(عليه السلام) أو كتاب الفائق لأبي السعادات أسعد بن عبد القاهر بن سفرويه الاصفهاني(2) قال السيد ابن طاووس في الطرائف: ان فيه نصوص صريحة من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بالخلافة لعليّ ومناقب جليلة رأيت نسخته بالخزانة (الغروية) في مشهد علي(عليه السلام)وأبو السعادات هذا من مشايخ ابن طاووس يروي في سنة 635 ه_ .
وجاء في رياض العلماء(3) : الشيخ أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الاصفهاني أبو السعادات كان عالماً فاضلاً محققاً له كتب منها كتاب رشح الولاء في شرح الدعاء وكتاب توجيه السؤالات في حل الإشكالات وكتاب جامع الدلائل ومجمع الفضائل وغير ذلك.
يروي عنه علي بن موسى بن طاووس وقرأ عنده المحقق نصير الدين الطوسي وميثم بن عليّ البحراني.
ص: 364
أقول - والقائل هو صاحب الرياض - قال السيد ابن طاووس في كتاب اليقين في اثبات حديث ينقله عن كتاب تفسير محمّد بن ماهيار ما هذا لفظه وهذا الكتاب أرويه بعدة طرق منها عن الشيخ الفاضل أسعد بن عبدالقاهر المعروف جده بسفرويه الاصفهاني حدثني بذلك لما ورد إلى بغداد في صفر سنة 635 بداري بالجانب الغربي من بغداد التي أنعم بها علينا الخليفة المستنصر ... فهذا روى الخطبة وكتابه الفائق نقلاً عن رواية الحافظ ابن مردويه في كتابه المناقب فمن هو ابن مردويه وما هو كتابه ؟
أما ابن مردويه فهو (الحافظ المجوّد العلامة محدّث أصبهان كان من فرسان الحديث فهما يقظاً متقنا كثير الحديث جداً ومن نظر في تواليفه عرف محله من الحفظ) هكذا قال عنه الذهبي(1) وحكى عن أبي بكر الذكواني الأصبهاني قوله : ( هو أكبر من أن ندلّ عليه وعلى فضله وعمله وسيره وأشهر بالكثرة والثقة من أن يوصف حديثه).
وأمّا عن كتابه المناقب فهو كما عرّفه السيد ابن طاووس في كتابه الطرائف: (ولقد تصفحت شيئاً يسيراً من كتاب أبي بكر بن مردويه - وهو من أعيان المذاهب الأربعة - فوجدت فيه /182) منقبة رواها عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)... ثم ظفرت بأصل لكتاب المناقب لابن مردويه فوجدت ثلاثة - كذا - مجلدات وهي عندي).
ص: 365
(أولاً)
قال أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري : وحدثنا محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبدالله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) قالت لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)الوجع وثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها كيف أصبحت يا ابنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟
قالت: والله أصبحت عائفة لدنياكم قالية لرجالكم ... الخ(1) .
نظرة إلى رجال السند:
لقد روى أبو بكر الجوهري هذه الخطبة عن محمد بن زكريا الغلابي وقد تقدم ذكره وحاله في أول أسانيد الجوهري والغلابي روى هذه الخطبة قال: حدثنا محمّد بن عبدالرحمن المهلبي وهو عن عبدالله بن حمّاد بن سليمان عن أبيه
ص: 366
عن عبد الله بن الحسن بن الحسين عن أمه فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) ...
ونجد في ثاني السندين رواية المؤلّف منه إلى محمّد بن زكريا الغلابي قد مرّ ذكرهم في السند الرابع من أسانيد الخطبة الكبيرة والغلابي روى هذه الخطبة عن محمّد بن عبد الرحمن المهلبي إلى آخر ما مرّ في سند الجوهري فراجع.
(ثانياً) سند دلائل الإمامة
(أ) قال - محمد بن جرير مؤلف الكتاب - : حدثني أبو المفضل محمد بن عبد الله قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني قال: حدثني محمّد بن المفضل بن إبراهيم بن المفضل بن قيس الأشعري قال: حدثنا علي بن حسان عن عمه عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبدالله جعفر بن محمد(عليه السلام)عن أبيه عن جده علي بن الحسين(عليه السلام)قال: لما رجعت فاطمة إلى منزلها فتشكت وكان وفاتها في هذه المرضة دخل إليها النساء المهاجرات والأنصاريات فقلن لها ... الخ.
(ب) قال (المؤلّف) وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر الباقرحي قال حدثتني أم الفضل خديجة بنت أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج قالت: حدثنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني قال: حدثنا أبو أحمد عبدالعزيز بن يحيى الجلودي قال: حدّثني محمّد بن زكريا قال
ص: 367
حدثنا محمّد بن عبد الرحمن المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن محمّد بن سليمان المدائني قال: حدثني أبي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين قالت: لمّا اشتدت علة فاطمة(عليها السلام) اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها ...
ونظرة عابرة على رجال إسنادي ابن جرير الإمامي الرواية هذه الخطبة الصغيرة نجد في أولهما رواية المؤلّف عن المفضل محمد بن عبدالله وهذا هو الشيباني وقد تقدم ذكره في السند الأول لرواية الخطبة الكبيرة وهو قد روى هذه الخطبة عن الحافظ ابن عقدة وهذا أيضاً تقدم ذكره هناك. وقد روى ابن عقدة هذه الخطبة عن محمّد بن المفضل بن إبراهيم وهذا مرّ ذكره في السند الثاني من أسانيده الخطبة الكبيرة وهو روى هذه الخطبة الصغيرة عن علي بن حسان عن عمه وقد مرّ حالهما معاً أيضاً في السند لثاني من أسانيد الخطبة الكبيرة فراجع.
ص: 368
لقد نشأتُ في بيئة علمية وأنا طالب علم في مدينتي النجف الأشرف التي هي مثوى باب مدينة عالم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فأسمعُ فيها الشعر والنثر في شتى مناسبات الأفراح والأتراح بل وحتى المناسبات الخاصة ببعض الأعلام فكان الخطباء والشعراء لهم من أفانين الكلام في تشنيف الأسماع، بأساليب الفصاحة والبلاغة شعراً ونثراً فكان ذلك الجو العلمي الأدبي مدعاة لتعلّم شيئ من تلك الروائع، ويستظهر السامع بعضها عند الشاهد والمثل وكان( لنهج البلاغة) الأطروحة الخالدة القدح المعلّى في الاستحواذ على المشاعر، فضلاً عن روائع الشعر العربي بدءاً من المعلقات ومروراً بأشعار الكميت والسيد الحميري ودعبل وأبي فراس وكذلك المتنبي وأبي تمام والمعري والبحتري والرضي والمرتضى ومهيار إلى عشرات أمثالهم وانتهاءً بشعراء القرن الرابع عشر الهجري من المحدثين فإنّ سماع أشعارهم يولّد عند السامع نشوة يخيل إليه أن أشعارهم وهي مستوحى، لأنه يشدّ القارئ مع السامع شداً يستحوذ على المشاعر، في نفوذ المعاني إلى النفس مع جزالة لفظ وقوة معنى.
وبطبيعة الحال كان النشر في مرتبة الشعر إن لم يكن بعض الخطب والرسائل تفوقه في قوة التأثير خصوصاً ذلك الذي تأثر بآي القرآن
ص: 369
الكريم في أسلوبه وقوة حجته وغرر حكمه ودرر كلمه وذكرت فيما ذكرت آنفاً مثلاً (نهج البلاغة ) والآن أعود إلى ذكر نمط آخر في روعة الجلال اسلوباً وحجةً وبياناً هو ما ورد عن السيّدة الصديقة الزهراء هلاما خصوصاً في خطبتها الكبيرة التي لا تزال رغم تمادي السنين الطويلة على إنشائها، تنفض عنها غبار السنين حين تلاوتها وتجلجل في الأسماع بصوت صاحبتها سيدة النساء بتلك النبرات الحزينة وهي تخطب في مجتمع الصحابة في مسجد أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم) وكذلك خطبتها الصغيرة في بيتها على مسامع نساء المهاجرين والأنصار.
ففي كلتا الخطبتين وحتى كلامها مع عائشة بنت طلحة التي رأتها تبكي فسألتها عن سبب بكائها، فانفجرت عن ذلك ببيان لا يقصر عما في الخطبتين فصاحة وبلاغة فهي في جميع ذلك كانت هي بضعة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) الذي لا أوتى جوامع الكلم وهو أفصح من نطق بالضاد فكأنها تفرغ عن لسان أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم)، وهي بعد حليلة وصيّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الذي ما سنّ الفصاحة لقريش إلّا هو كما شهد بذلك عدوّه اللدود معاوية بن أبي سفيان في حديثه مع محفن بن أبي محفن(1).
فلا عجب ولا بدع أن امتازت الخُطب الفاطمية في روعة الأسلوب وجلال المعنى وفصاحة البيان ولا عجب ولا بدع لو شكك المغرضون في خصوص الخطبة الفاطمية (الكبرى).
ص: 370
ألم يقولوا في نهج البلاغة ما قالوا ؟ ويعجبني إطلاع القارئ على بعض ما قاله ابن أبي الحديد المعتزلي(1) في دفع معرّة المكذبين بصحة نسبة ما في النهج إلى الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال بعد كلام له في الذود عن النهج (لأن كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدَث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بينات الطريق ضُلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول:
لا يخلو إمّا أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وقد نقل المحدّثون كلّهم أو جلّهم والمؤرخون كثيراً منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني يدلّ على ما قلناه لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولّد وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلام الجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلابد أن يفرّق بين الكلامين ويميز بين الطريقتين.
ص: 371
ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسه وطريقته ومذهبه في القريض.
ألا ترى انّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم انه ليس من ألفاظه ولا من شعره. وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحولاً إلى أمير المؤمنين(عليه السلام).
واعلم ان قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنه متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أبداً و ساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك وكل أمر جعله هذا
ص: 372
الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء فلناصري أمير المؤمنين(عليه السلام)أن يستعد إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره وهذا واضح.
وعودة إلى روعة الأسلوب في خطبة الصدّيقة الزهراء الملك فقد قال الكاتب الإربلي وهو شيعي( انّها من محاسن الخطب وبدايعها عليها مسحة من نور النبوة وفيها عبقة من أرج الرسالة وقد أوردها المؤالف والمخالف).
هذا نموذج واحد لكاتب يحتل مكانة عالية في الأدب كما قال مترجموه بأنه كان كاتباً وشاعراً وعالماً عاش بعد صدور الخطب قرابة سبعة قرون فسجّل انطباعه عنها وهو شيعي، ولو طوينا سبعة قرون أخرى سنجد في القرن الرابع عشر الهجري كاتباً آخر يحتل مكانة رفيعة أيضاً في الأدب وهو عباس محمود العقاد صاحب المجموعة الكاملة في سبعة مجلدات ضمّت العبقريات وغيرها وهو سنّي فماذا قال عن خطبة الزهراء(عليها السلام)(1) فقد افتتح الكلام في( بلاغتها) فقال:
قال الإمام أبو الفضل أحمد بن (أبي) طاهر في كتاب بلاغات النساء (.... لمّا أجمع أبو بكر...) فساق الخطبة وهي تتضمن الفصل الثاني من
ص: 373
الخطبة الكبيرة ثم قال : هذه رواية الخطاب الزهراء(1) وفي الكتاب نفسه رواية أخرى مخالفة في لفظها ومعناها للرواية السابقة(2) وقبل إيراد الروايتين قال أبو الفضل : ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم كلام فاطمة من وقلت له إن هؤلاء - يشير إلى قوم في زمانه يغضّون من قدر آل البيت - يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أبناءهم، وقد حدثنيه أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جد أبي العيناء وقد حدّث به الحسن(3) بن علوان عن عطية العوفي انّه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه.
ثم قال أبو الحسين: وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة يتحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت)؟
ص: 374
ثم ذكر العقاد بعض الأبيات الشعرية المنسوبة إلى السيّدة فاطمة(عليها السلام) وعقب على ذلك بقوله(1):
نقول: إنّ الخلاف في أمر هذه الخطب وهذا الشعر كثير ولا نحب أن نخوض فيه لأنه خلاف على غير طائل وقد يحسمه أن نذكر في هذا الباب ما يقل فيه الخلاف بين جميع النقاد فإنّه أجدى من اللهو في جدال لا سند له يسلّمه جميع المخالفين.
فيقّل الخلاف ولا شك حين نذكر أنّ ذلك الخطاب ليس ممّا يبدر من اللسان عفو الخاطر وأنّ قائله يعدّه في نفسه قبل القائه كما كان يصنع الخطباء قبل استخدام الكتابة في التحضير.
ويقلّ الخلاف ولا شك حين نذكر أنّ سامع هذا الخطاب لا يستظهره عند سماعه فإن حفظه فإنّما يحفظه منقولاً أو مكتوباً بعد حفظه.
فإذا قلّ الخلاف في هذا فعلام إذن يكثر الخلاف؟
أتراه يكثر حين يقال إنّ السيّدة فاطمة تحسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل لها وتعدّها في خلدها؟
إنّ هذا النصيب من البلاغة إذا استكثر على السيّدة فاطمة فما من أحد في عصرها لا يستكثر عليه .
ص: 375
لقد نشأت وهي تسمع كلام أبيها أبلغ البلغاء وانتقلت إلى بيت زوجها فعاشت سنين تسمع الكلام من إمام متفق على بلاغته بين محبيه وشانئيه.
وسمعت القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات وتحدّث الناس في زمانها بمشابهتها لأبيها في مشيهاوحديثها وكلامها ومنهم من لا يحابيها ولا ينطق في أمرها عن هوى.
جاء في الجزء الثالث من العقد الفريد عن (الرياشي عن عثمان بن عمرو عن إسرائيل بن ميسرة بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين انّها قالت:( ما رأيت أحداً من خلق الله أشبه حديثاً وكلاماً برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من فاطمة وكانت إذا دخلت عليه أخذ يدها فقبلها ورحّب بها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده وقبلتها فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فأسرّ إليها فبكت ثم أسر إليها فضحكت.
فقلت: كنت أحسب لهذه المرأة فضلاً على النساء فإذا هي واحدة منهنّ بينما هي تبكي إذا هي تضحك فلمّا توفي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)سألتها فقالت: أسر إليَّ فأخبرني انه ميت فبكيت ثمّ أسر إليَّ انّي أوّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت )(1) .
ص: 376
وما قالته السيّدة عائشة عن المشابهة بين الزهراء وأبيها قيل على ألسنة الثقات جميعاً ويزاد عليه في حديث السيّدة عائشة انّ امرأة في فضلها واعتزازها بنفسه كانت ترى للزهراء فضلاً على سائر النساء في حلمها ورصانتها ففيم يكثر الخلاف على مثل ذلك النصيب من البلاغة إذا نُسب إليها ؟
ولماذا تُستعظم على من نشأت سامعة الحديث محمد مطبوعة على مشابهته في حديثه؟
ولماذا تستعظم على زوجة الإمام الذي كان المتفقون على بلاغته أكثر من المتفقين على شجاعته وهي مضرب الأمثال؟
ولماذا تُستعظم على سامعة القرآن الكريم بالليل والنهار مع الذكاء واللبّ الراجح؟
هذا ما قاله العقّاد، وسيأتي منا ما يتعلق به في الخاتمة.
ص: 377
مادام الإنسان في تقويم شخصيته يخضع لعوامل الوراثة والتعليم والمحيط وفاطمة الزهراء لها وإن كانت هي سيدة النساء فهي إنسانة وبنت أشرف إنسان فأبوها سيّد المرسلين وخاتم النبيين(صلی الله علیه وآله وسلم) وأمها خديجة الكبرى أفضل أمهات المؤمنين بل وإحدى النساء الأربع اللواتي فضلهنّ ربّ العالمين فعن أبي هريرة انّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: (خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد)(1) .
وغني عن البيان تعريف هكذا إنسان من حيث الوراثة بعد أن قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : ( إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى هاشماً من قريش واصطفاني من بني هاشم(2).
وقوله(صلی الله علیه وآله وسلم) وقد بلغه بعض ما يقوله البعض فصعد المنبر فقال: من أنا؟ قالوا :أنت رسول الله فقال: (أنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب إنّ الله خلق الخلق وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل
ص: 378
فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً فأنا خيركم بيتاً وأنا خيركم نفساً وفي رواية : ( فأنا خيار من خيار من خيار )(1) .
و قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : (نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد)(2).
أمّا عن التعليم فمن نافلة القول الحديث في ذلك بعد أن نعرف بأنّ تربيتها كانت في حجر الأبوين الكريمين خاتم الأنبياء وخديجة أم المؤمنين سيّدة النساء والعناية بها بلغت مبلغاً جعلتها أم أبيها في قوّة شخصيتها وفي منزلتها عنده يعرب عنها قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): بضعة منّي ولمّا كان هو(صلی الله علیه وآله وسلم)أفصح من نطق بالضاد فماذا ترى مبلغ ما تعلمته منه السيّدة فاطمة الزهراء التي شابهته في جملة خصاله حتى في مشيتها فكانت ما تخرم مشيتها مشية أبيها كما مرّت الإشارة إلى ذلك في حديث عائشة.
وأمّا عن المحيط فالبيئة التي نشأت فيها كانت هي بيئة الإسلام ومن بيتها منطلقه ومعلوم مدى تأثير بيئته عليها بدءاً من ولادتها وحتى وفاتها فكانت لها الخصائص الفاطمية التي تميزت بها عن بقية لداتها وأخواتها حتى كانت أقرب الناس إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) سمتاً .
وقد سئلت عائشة أم المؤمنين عن ذلك فقيل لها أي الناس كان أحبّ إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)؟ قالت فاطمة فقيل من الرجال؟ قالت :زوجها إن كان ما علمت صواماً قواماً(3).
ص: 379
وعن عائشة أيضاً قالت: كنا أزواج النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) عنده لم تغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)شيئاً فلما رآها رحّبَ بها فقال مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها ....(1).
وعن عائشة أيضاً قالت ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قالت: وكانت إذا دخلت على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه و كان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها(2).
وعن عائشة أم المؤمنين قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها (صلی الله علیه وآله وسلم)(3)
ص: 380
ص: 381
ص: 382
لقد ذكر العقّاد في كتابه (فاطمة والفاطميون) في بلاغتها فصلاً من الخطبة الكبيرة نقله عن الإمام أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتابه( بلاغات النساء) ثم ذكر فصلاً آخر هو من نفس الخطبة بعينها إلا أنه بسند آخر لابن أبي طاهر فظنّه العقاد رواية أخرى لخطبة ثانية فوهم في عد الروايتين بالسندين خطبتين منفصلتين لتغاير إسنادهما ولو انه تنبه إلى ما في أوّل الروايتين من قول الراوي في الرواية الأولى:
(لمّا أجمع أبو بكر على منع فاطمة... فدك: لاثت خمارها على رأسها وأقبلت في لمّة من حفدتها تطأ ذيولها ما تخرم من مشية رسول الله شيئاً ...).
وقول الراوي في الرواية الثانية:
(لمّا بلغ فاطمة(عليها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها وخرجت في حشدة نسائها ولمّة من قومها تجر أدراعها ما تخرم مشيتها من مشية رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)....).
أقول: لو أنّه تنبّه إلى ذلك لعرف من الديباجة أنّ الروايتين هما الخطبة واحدة تفاوت الرواة في نقل بعض ألفاظها ويكفي ملاحظة جملة (لاثت خمارها وأقبلت في لمّة ...) فيهما معاً حتى سمّيت الخطبة بخطبة اللمة وقد مرّ التنبيه على ذلك في محلّه كما مر نقل ما عقّب به على الخطبة في دفع
ص: 383
الإشكالية الجدلية حول صحتها وحاول إثباتها عن طريق نفي الاستبعاد من خلال بلاغتها في روعة الأسلوب وقوّة الحجة ولكنه مع ذلك أستبعد أن تكون الخطبة بنت ساعتها وساحتها وجرت على لسان صاحبتها بعفو الخاطر وبرّر ذلك بقوله:
(فيقلّ الخلاف ولا شك حين نذكر أنّ ذلك الخطاب ليس ممّا يبدر من اللسان عفو الخاطر وأنّ قائله يعدّ في نفسه قبل القائه... كما كان يصنع الخطباء قبل استخدام الكتابة في التحضير ويقلّ الخلاف ولا شك حين نذكر أنّ سامع هذا الخطاب لا يستظهره عند سماعه فإنّ حفظه فإنّما يحفظه منقولاً أو مكتوباً بعد حفظه فإذا قل الخلاف في هذا فعلامَ إذن يكثر الخلاف؟) ثم أطنب في التبرير فقال:
( أتراه يكثر حين يقال إنّ السيّدة فاطمة تحسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل بها وتعدّها في خلدها؟ إنّ هذا النصيب من البلاغة إذا استكثر على السيّدة فاطمة فما من أحد في عصرها لا يستكثر عليه.
لقد نشأت وهي تسمع كلام أبيها وهو أبلغ البلغاء وانتقلت إلى بيت زوجها فعاشت سنين تسمع الكلام من إمام متفق على بلاغته بين محبيه وشانئيه وسمعت القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات وتحدّث الناس في زمانها بمشابهتها لأبيها في مشيها وحديثها وكلامها ومنهم من لا يحابيها ولا ينطق فى أمرها عن هوى).
ص: 384
ثم ذكر خبراً ورد في العقد الفريد عن عائشة( قالت: ما رأيت أحداً من خلق الله أشبه حديثاً وكلاماً برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من فاطمة وكانت إذا دخلت عليه أخذ يدها فقبلها ورحّب بها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده و قبلتها ...).
وما قالته السيدة عائشة عن المشابهة بين الزهراء وأبيها قيل على ألسنة الثقات جميعاً ويزاد عليه في حديث السيّدة عائشة انّ امرأة في فضلها واعتزازها بنفسها كانت ترى للزهراء فضلاً على سائر النساء في حلمها ورصانتها.
ففيم يكثر الخلاف على مثل ذلك النصيب من البلاغة إذا نسب إليها ؟
ولماذا تُستعظم على من نشأت سامعة لحديث محمد مطبوعة على مشابهته في حديثه؟
ولماذا تُستعظم على زوجة الإمام الذي كان المتفقون على بلاغته أكثر من المتفقين على شجاعته وهي مضرب الأمثال؟
ولماذا تُستعظم على سامعة القرآن الكريم بالليل والنهار مع الذكاء واللبّ الراجح ؟
بهذا أنهى العقاد كلامه في دفع الجدل حول بلاغة خطبة الصدّيقة الزهراء (عليها السلام).
ص: 385
وبهذا يكون قد قارب وسدّد وهذا يكون مقبولاً منه من حيث وجهة نظره في شخصيّة الصدّيقة وحسب منظوره الإجتماعي الخاص بالنسبة إليها فهي سيدة النساء وهي بضعة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)و هي التي كان أبوها يحبها ويجلّها وهي التي قالت عنها عائشة كذا وكذا وهي كذلك وفوق ذلك.
لكنّ العقّاد في المقام كمن حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء إذ فاته أنها كانت معصومة في أقوالها وأفعالها من خلال المنظور الديني وقد دلّ على ذلك حديث (فاطمة بضعة مني...) وهذا الحديث الصحيح الوارد في الصحاح وغيرها أناط من طرف جلي وليس بخفي معرفة البضعة بمعرفة أبيها(صلی الله علیه وآله وسلم)فكما كان هو سيد الأنبياء كانت هي سيدة النساء فمن استوعب مقام النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الرسالي أدرك مقام الصدّيقة من خلال تلك المعرفة حيث ميّزها أبوها عن سائر نساء العالمين فقال عنها (سيدة نساء العالمين) وهو لم يميزها عن هوى ولا قال (فاطمة بضعة منّي ) عن عاطفة مجردة عن إيحاء لأنه (صلی الله علیه وآله وسلم)كما وصفه القرآن الكريم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَن الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(1)إِذن كما لا غرابة في أنّها(عليها السلام)قد شابهت أباها (صلی الله علیه وآله وسلم) في بعض صفاته من مشية وحديث كذلك لا غرابة أيضاً في أنّها شاركته في بعض خصائصه وفضائله منذ بدء الخلقة وقبل أن يخلق الله الخلق فكانت أحد الأشباح الخمسة الذين كانوا أنواراً
ص: 386
محدقين بعرش الله تعالى(1) وذلك من فضل الله تعالى عليهم إذ منحهم من الكمال والجمال ما سموا به إلى معارج القُرب من ذي الجلال، ونوّه بفضلهم في عدة آيات من الذكر الحكيم أنزلها في القرآن العظيم تتلى إلى يوم القيامة كآية التطهير من الرجس وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(2) وآية المودة وهي قوله :تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(3)
وآية المباهلة وهي قوله تعالى:﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهَ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾(4).
وفاطمة الزهراء هل هي أحد هؤلاء الذين خصهم الله تعالى بمزيد من فضله لم يعطه أحداً من العالمين فهي وأبوها وبعلها وبنوها كانوا أصحاب الكساء وهم أصحاب آية المودة وهم أصحاب آية المباهلة ثم هم أصحاب سورة هل أتى(5) وفيهم أنزل الله قوله تعالى:﴿أَمْ يَحْسُدُونَ
ص: 387
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(1) وهي صاحبة البيت الذي نوّه به أبوها بأنه من أفاضل البيوت التي أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ - إلى قوله - وَالآصَالِ فقد روى أنس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله له الا الله هذه الآية فقام رجل إليه وقال : أي بيوت هي يا رسول الله؟ فقال: بيوت الأنبياء فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها - يعني بيت علي وفاطمة - ؟ فقال : نعم من أفاضلها(2). إلى غير ذلك من آي الذكر الحكيم التي نوّهت بفضلهم وتفضيلهم حتى قال مادحهم :
ولو لاهم لم يخلق الله آدماً*** ولا كان زيد في الوجود ولا عمرو (3)(4)
وما أحسب أنّ العقاد في ألمعيته ولوذعتيه وهو الأديب الأريب لم يقرأ ما قاله شيخ المعرة في خلق هؤلاء الخمسة الأشباح قبل خلق الخلق حين قال مادحاً أبا إبراهيم العلوي:
وعلى الدهر من دماء الشهيدين على ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجران وفى أولياته شفقان
یابن مستعرض الصفوف ببدر ومبيد الجموع من
أحد الخمسة الذين هم الأغراض في كل منطق والمعاني
ص: 388
والشخوص التي خلقن ضياءً قبل خلق المريخ والميزان
قبل أن تخلق السماوات أو تبدأ أفلاكهنّ في الدوران(1)
ولعلّ العقاد قرأ ما قاله فيلسوف المعرة ولم يستسغه لأنّه لم يستمرئ طعم الإيمان على حقيقته الذي يزكو بروح مادحهم فيقول:
بأبي خمسة هم جنبوا الرجس وطهروا تطهيرا
أحمد المصطفى وفاطمة ثم عليّاً وشبّراً وشبيرا
من تولّاهم تولاه ذو العرش ولقّاه نضرة وسرورا
وعلى مبغضيهم لعنة الله وأصلاهم المليك سعيرا
وإنّ القلم ليتعثّر واللسان ليعيى حين يعرض لتلك الشخوص بالتعريف بعد ما ورد فيهم من ذي الجلال وواهب الكمال أسمى آيات التشريف فقال تعالى: ﴿أإِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (2)و ما بعد قول الحق إلا الضلال وليقل العقاد في طرحه ما شاء ما دام يقرأ التاريخ من وراء نظارته السوداء.
وليتني أراه ما يقول ويكتب إذا ما قرأ ما جاء في آخر أوراق ملحقة بكتاب (شوق العروس وأنس النفوس) للحسين بن محمد الدامغاني المتوفى سنة 478 ، ونسخته في المكتبة الظاهرية بدمشق (في 155 ورقة برقم 7843) فقد ورد في ورقة منها( ذكر وفاة فاطمة) ومما جاء فيها ذكر
ص: 389
وداع الحسنين لأمّهما فاطمة (عليها السلام)عند وفاتها وبكائهما وسماع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) النداء من العلي بأن ينحيها عنها، لأن الملائكة أنتحبت لبكائهما.
وهذا ما ورد في بعض الكتب أن ذلك كان بعد الوفاة، وبعد الغسل وقبل عقد الكفن .
ومهما كان أمر الوقت في ذلك، فإنه لم يعهد ولم يسمع أن ذلك جرى لغير فاطمة المهنا، وأن الملائكة انتحبت لبكاء الحسنين على أمهما فهل يؤمن العقاد بذلك؟ وهو الذي لا يرى فاطمة (عليها السلام)في منظوره الخاص إلاّ أن تعدّ الخطاب لما يدور في خلدها.
ونعود إلى خلل طرحه في رفع الخلاف من خلال المنظور التاريخي، فنقول : انّه يتلخص في النقاط التالية:
1 - إنّ الخطاب ليس مما يبدر على اللسان عفو الخاطر وأن قائله يعدّ في نفسه قبل القائه.
2 - إنّ سامع الخطاب لا يستظهره عند سماعه فإنّ حفظه إنّما يحفظه منقولاً أو مكتوباً بعد حفظه.
3 - إنّ الزهراء لا يستكثر عليها أن تحسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل بها وتعدّها في خلدها.
ص: 390
وذكر فيما يراه الأسباب التالية:
أ - إنّها نشأت وهي تسمع كلام أبيها وهو أبلغ البلغا.
ب - وانتقلت إلى بيت زوجها فعاشت سنين تسمع الكلام من إمام متفق على بلاغته بين محبيه وشانئيه.
ج - وسمعت القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات.
د - وتحدّث الناس في زمانها بمشابهتها لأبيها في مشيها وحديثها وكلامها وفيهم من لا يحابيها ولا ينطق في أمرها عن هوى.
أقول: وهذه النقطة بالذات مسوقة فيما أرى للاستشهاد بحديث السيدة عائشة وهي المعنية بالوصف (من لايحابيها ولا ينطق في أمرها عن هوى )ولو أنه قال من لا يحبّها بدل من لا يحابيها لكان أصدق تعبيراً في المقال وتصوير الحال والشواهد على ذلك موجودة حتى في المصادر التي يعتمدها من تراث أهله وحسبنا شاهداً واحداً في المقام :
فقد روى الحافظ المحبّ الطبري:
(عن عائشة(رضی الله عنها) قالت قلت يا رسول الله مالك إذا قبلت فاطمة جعلت لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلاً فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) : إنّه لمّا أسري بي أدخلني جبريل الجنة فناولني تفاحة فأكلتها فصارت نطفة في
ص: 391
ظهري فلمّا نزلت واقعت خديجة ففاطمة من تلك النطفة كلّما اشتقت إلى تلك التفاحة قبلتها )(1) .
قال المحّب الطبري: خّرجه أبو سعد في شرف النبوة.
(وعن ابن عباس (رضی الله عنه) قال : كان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)يكثر القبل لفاطمة فقالت له عائشة : إنّك تكثر تقبيل فاطمة ؟ فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): إنّ جبريل ليلة أسري بي أدخلني الجنة فأطعمني من جميع ثمارها فصار ماءً في صلبي فحملت خديجة بفاطمة فإذا اشتقت لتلك الثمار قبّلت فاطمة)(2) .
( وعن عائشة (رضی الله عنها)أن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)قبّل يوماً نحر فاطمة فقلت له: يا رسول الله فعلت شيئاً لم تفعله؟ فقال: يا عائشة إذا اشتقت إلى الجنة قبّلت نحر فاطمة)(3). هذه الحال التي روتها عائشة وبهذه اللغة الجافة التي خاطبت بها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)( مالك إذا قبلت فاطمة جعلت لسانك في فيها كأنّك تريد أن تلعقها عسلاً) أوليس ذلك ممّا ينبئ عن غيرة مختزنة في صدرها، ومحزنة لها في أمرها وإذا لم يكن كذلك فبماذا يفسّر العقاد ومن على شاكلته قول عائشة (إنّك تكثر تقبيل فاطمة) وقولها الآخر: (فعلت شيئاً لم تفعله؟) فلماذا هذه المساءلة منها وحدها دون باقي نسائه؟ وماذا
ص: 392
كان يضيرها تقبيل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)لا بنته ؟ لكنها الغيرة التي حدثت بها هي عن نفسها فقالت :
(ما غرت على امرأة من نساء النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)إلا على خديجة وإن لم أدركها قالت وكان رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوماً فقلت خديجة ؟ فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : إنّي قد رزقت حبّها(1) وقولها الآخر : (ما غرت للنبيّ على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها و ما رايتها قط)(2).
وما قولها الثالث بدون ذلك (.... فقالت عائشة : وكنت أحسدها لكثرة ذكره لها فقلت یا رسول الله لا تزال تذكر خديجة كأن لم يكن على ظهر الأرض غيرها فقال : قومي عنّي فقامت إلى ناحية منه في البيت...)(3).
فمن كانت تغار من امرأة قد ماتت فلم تشاطرها في قِسَم الليالي وتحسدها لأنّ زوجها يحن إليها بوفائه، حتى لم تطق أن تراه يذكر صديقات زوجته وهنّ نساء أجنبيات لا يزاحمنها في حال ولا مال فهل تطيب نفساً حين ترى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)يقبّل ابنته تلك التي تغار منها أشدّ الغيرة وتحسدها أشد الحسد؟ فهي لا تحبّها لما يحتمل في نفسها من غيرة
ص: 393
على أمها وإن فلت على لسانها أحياناً بعض ما يشعر بيقظة ضمير فهو مماراة وليس محاباة.
والآن عودة إلى النقاط التي مرّت بتلخيص من طرح العقاد فنقول :
(أوّلاً) قال : (إنّ الخطاب ليس مما يبدر على اللسان عفو الخاطر وإن قائله يعد في نفسه قبل إلقائه...) لست أدري كيف قال العقاد ذلك وهو في جامعيته الثقافية لا يخفى عليه تفاوت الناس في الفهم وتميّز بعضهم على بعض في المواهب من قوة الذكاء وحدته والذاكرة النادرة وفيهم من تتدفق لديه المعاني والمباني وتنساب الكلمات كعذب السلسال مع فصاحة بيان وقوة جنان فيقول مرتجلاً ما يبلغ به حاجته دون عيّ أو إحصار أو تلكؤ أو تلعثم ينحدر كالسيل وهذا ما لا يسع العقاد إنكاره لكثرة شواهده التي زخرت بها أصول الأدب والتاريخ ... ولا أخاله لم ير بينها حديث الصبية العامرية التي لم تتعد دور الحداثة في سنها وتميّزت بقوّة بداهتها ودقة فطنتها واستحضارها الشواهد الشعرية على إثبات مرامها والإزدراء بمحاورها وملخص خبرها: أن رجلاً من بني تميم حلّ ضيفاً على امرأة من بني عامر فأكرمت مثواه وأحسنت قراه ولما هم بالرحيل قال متمثلاً شعراً يهجوها به :
لعمرك ما تبلى سراويل عامر*** من اللؤم ما دامت عليها
ص: 394
فقالت الجاريتها قولي له: ألم تحسن إليك وتفعل وتفعل هل رأيت تقصيراً؟ قال: لا، قالت: فما حملك على البيت؟ قال: جرى على لساني فخرجت إليه جارية من بعض الأخبية فحدثته حتى أنس واطمأن ثم قالت له ممن أنت يا ابن عم؟ قال: رجل من بني تميم قالت: أتعرف الذي يقول:
تميم بطرق اللؤم أهدى من*** ولو سلكت سُبل المكارم ضلّت
أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى*** خلال المخازي عن تميم تجلّتِ
ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملة*** یکّر على صفيّ تميم لولّتِ
ولو جمعت يوماً تميم جموعها*** على زمرة مربوطة لاستقلتِ
تمیم کجحش السوء يرضع أمه*** ويتبعها بالرغم إن هي ولّتِ
ذبحنا فسمّينا على ما ذبيحنا*** وما ذبحت يوماً تميم فسمتِ
قال: والله ما أنا من تميم قالت ما أقبح الكذب بأهله فممن أنت ؟ قال: رجل من بني ضبّة قالت: أفتعرف الذي يقول:
لقد زرقت عيناك يابن مكعبر ***كما كل ضبيّ من اللؤم أزرق
قال: لا والله ما أنا من بني ضبة قالت : فممن ؟ قال: من بني عجل قالت: أفتعرف القائل:
أرى الناس يعطون الجزيل وإنّما*** عطاء بني عجل ثلاث وأربع
إذا مات عجلي بأرض فإنّما*** يخط له فيها ذراع وأصبع
ص: 395
وعلى هذا المنوال والحال استمرت المحاورة فهي تسأله ممن أنت؟ فيقول من بني فلان فتأتي بشاهد من الشعر في ذم القبيلة التي يذكرها حتى ساق أكثر من ثلاثين قبيلة والصبية تقرأ له الشعر في ذمها فينتسب إلى قبيلة أخرى إلى أن أعجز فقال لها: أنا رجل من الشيطان الرجيم قالت: فعليك لعنة الله وعلى الشيطان الرجيم أفتعرف الذي يقول:
ألا يا عباد الله هذا عدوكم*** وذا ابن عدو الله إبليس خاسئا
قال: الله الله أقيليني العثرة فوالله ما ابتليت بمثلك قط(1).
فلنسأل العقّاد هل كانت الصبيّة العامرية قد أعدّت لذلك الموقف عدته من قبل؟ ولندع خبرها فربّما يراه العقّاد خبراً مصنوعاً ولنسأله فيهما كتبه هو في ( عبقرية الصدّيق) في (ثقافته) حيث قال: فثقافته في زمانه هي ثقافة الفقيه الأديب المؤرخ بما اصطلحوا عليه من معنى التاريخ في ذلك الزمان... ولكن النسب الذي كان يعلمه الصديق كان هو النسب المحيط بالمحامد والمثالب في القبائل العربية كافة... لما خرج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ليعرض نفسه على القبائل في أوّل الدعوة الإسلامية كان معه أبو بكر وعلي بن أبي طالب أسبق الناس إلى الإسلام.
قال علي(رضی الله عنه): ( فرفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلّم وكان مقدّماً في كل خير وكان رجلاً نسابة فقال : ممّن القوم؟ قالوا من ربيعة قال: وأي ربيعة أنتم ؟ أمن هاماتها أم من لهازمها؟ قالوا: من
ص: 396
هاماتها العظمى. قال: وأي هاماتها العظمى أنتم؟ قالوا من ذهل الأكبر قال: فمنكم عوف بن محلم الذي يقال فيه: (لا حرّ بوادي عوف)؟ قالوا: لا قال: فمنكم المزدلف الحرّ صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا قال فمنكم بسطام بن قيس أبو القرين ومنتهى الأحياء؟ قالوا لا :قال فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا قال فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالب أنفسها؟ قالوا: لا قال فمنكم أصهار الملوك من كندة؟ قالوا: لا قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا قال أبو بكر فلستم ذهل الأكبر إنّما أنتم ذهل الأصغر).
هذا ما ذكره العقّاد في قصة أبي بكر مع الذهليين وهو قد أساء إلى أبي بكر حين ذكر له هذا الشاهد على ثقافته ومعرفته بالأنساب بينما حذف بقية المحاورة والتي فيما يبدو غصّ بذكرها لأنها أنهت المحاورة بهزيمة أبي بكر فاجتذب زمام ناقته ورجع إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) منهزماً من محاورة دغفل النسابة(1). وليس يعنيني أمر انهزامه من محاوره دغفل لأنه ابتلي بطامة فوق طامة فهو كما قال عن نفسه وإنّ البلاء موكّل بالمنطق) وهو أول من قال هذه الكلمة كما ستأتي لكن الذي ينبغي التنبيه عليه أنّ
ص: 397
العقّاد اعتمد في سياقه على رواية ان عليّاً قال عن أبي بكر: (وكان مقدّماً في كل خير وكان رجلاً نسّابة )وهذا الدس الرخيص لم يرد في جملة من مصادر الواقعة فراجع مصادرها وهي كثيرة.
فالمحاورة بكاملها مرويّة في جملة من مصادر السيرة والأدب لعل أقدمها كتاب الفاخر للمفضل بن سلمة بن عاصم المتوفى سنة 291 والكتاب مطبوع محققاً بمصر في سلسلة تراثنا سنة 1380 ه_ وقد خلا من جملة (وكان مقدّماً في كل خير) وكذلك في كتاب الثقات (1)لابن حبان المتوفى سنة 354 لم ترد الجملة، ولا في شرح الأخبار(2) للقاضي النعمان المغربي المتوفى سنة 363 ولا في مجمع الأمثال(3)للميداني المتوفى سنة 518 ولا في دلائل النبوة للبيهقي برواية ابن حجر في الإصابة في ترجمة دغفل وإن وردت في المطبوع من الدلائل مما ينم عن دس رخيص جرى في الكتاب كما لم ترد في الفائق للزمخشري (ت 538) (4)ولا في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ت 656)(5) . ففي جميع هذه المصادر لم ترد جملة وكان مقدّماً في كل خير فمن يا ترى كان هو الدساس الذي يوسوس في صدور الناس دسها ليوقع الإلتباس.
ص: 398
ثم انّ في معجم الطبراني(1) ومجمع الزوائد(2) محاورة مختصرة بين أبي بكر ودغفل النسابة أيضاً لعلّها من جملة المحاورة السابقة فراجع.
وإذا صحّ ما ذكره العقاد من قول عليّ في أبي بكر في روايته فلماذا تأخر عليّ عن بيعته وندّد بخلافته وبقي كذلك حتى يوم خطبته وقد طفح الأسى بذلك في شقشقته ؟ إنّها من أعاجيب الأكاذيب.
وإلى القارئ بقية المحاورة نقلاً عن مجمع الأمثال للميداني المتوفى سنة 518 في شرح المثل: إنّ البلاء موكّل بالمنطق، فقد جاء فيه بعدما قال أبو بكر: إنّما أنتم ذهل الأصغر فقام إليه غلام قد بقل وجهه يقال له دغفل فقال :
إنّ على سائلنا أن نسأله*** والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا إنّك سألتنا فلم نكتمك شيئاً ، فممّن الرجل أنت؟ قال: رجل من قريش قال بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن أيّ قريش أنت؟ قال:
من تيم بن مرة قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة.
أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى بها؟ :قال: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة
مستون عجاف؟ قال: لا .
ص: 399
قال: أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن في وجهه قمراً يضئ ليل الظلام الداجى؟ قال: لا.
قال: أفمن المضيفين بالناس أنت؟ قال: لا.
قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا قال أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال : لا قال: واجتذب زمام ناقته فرجع إلى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال دغفل : صادف درء السبل درءاً بصدعه أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أوما أنا بدغفل؟ قال: فتبسم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) .
قال عليّ : قلت لأبي بكر : لقد وقعت من الأعرابي على باقعة قال: أجل إنّ لكلّ طامة طامة وإنّ البلاء موكّل بالمنطق(1).
فهذه التتمة كشفت عن مبلغ ثقافة أبي بكر كما أنّ حذفها كشف عن مبلغ أمانة العقّاد في روايته، ومهما يكن أمر المحاورة في الكشف فإنّها تكشف عن قدرة على البيان وقوة استحضار لدى المتحاورين وقد بدرت منهما عفو الخاطر على اللسان فزعم العقّاد أنّ الزهراء(عليها السلام) في خطبتها لا يستكثر عليها ان تحسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل بها وتعدّها في خلدها زعم موهوم فقد أتيته بشاهدين على ان في الناس من
ص: 400
وهبهم الله تعالى من الذكاء والفطنة وفصاحة اللسان ما يبهر العقول !فكيف بالزهراء(عليها السلام) التي هي فوق من ذكرت ولا قياس.
وحسبي في المقام أن أشير إلى ما أثارته تلك الخطبة من زوبعة اهتزت لها ضمائر الأنصار فاعتذروا إليها فما قبلت لهم عذراً وكيف يرجون منها القبول وهي تصرخ بهم وبالمهاجرين وبرأس الحكم حين تقول:
(أيها المسلمون أأغلب على إرثي ؟ يابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئاً فريّاً) انها صرخة ألم من قلب موجوع ونداء تفزيع وخطاب تقریع هزّت به الزمان والمكان فبقيت القرون ترویه وزبر التاريخ تحكيه أي خطاب أبلغ في التقريع من قولها
(عليها السلام): (أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾(1) وقال فيها اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾(2) وقال: ﴿وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾(3) ، وقال :
ص: 401
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾ (1)وقال : ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ﴾(2).
إنّها آيات المواريث التي بسطت الزهراء فيلا من خلالها الدعوى فأدلت بعرض الأدلة، وخلصت إلى الإدانة فأفحمت رأس السلطة وعجز عن مناقشة الدلالة ففزع إلى ما رواه من خبر نحن معاشر الأنبياء الذي لم يروه غيره و به تمسك الإشياع والأتباع في تخصيص الكتاب في آيات المواريث بذلك الخبر الكاذب ولكنّها(عليها السلام)أبطلت زعمه بحجتها الدامغة حين خاطبته ومن معه بقولها: ( وزعتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا أفخصّكم الله بآية أخرج أبي (صلی الله علیه وآله وسلم) منها ؟ أم تقولون انا أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي).
وفي هذا المقطع من الخطبة دلالة على سبق مراجعات حول الحظوة - النحلة - ثم الميراث وقولها ( وزعمتم ) يدل على سبق الزعم فقدته ووبختهم على زعمهم وأنذرتهم بسوء العاقبة وعقوبة الآخرة وخصت رأس الحكم فقالت(عليها السلام) : ( فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من
ص: 402
يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم) وهكذا أنهت خطابها مع أبي بكر ومن معه من المهاجرين والتفتت إلى الأنصار فأوسعتهم عتاباً - وربّ عتاب أقسى من عقاب - ومهما يكن فلست بصدد استعراض الخطبة بفصولها الرائعة وفصاحتها البارعة ولكن كلام العقاد جرنّي من حيث لا أريد إلى هذا، خصوصاً بعد أن مرّت برواياتها المتعددة من مصادرها المختلفة وليس في واحدة من تلك الروايات ما يشير إلى أنّ الزهراء من تلكأت في بيانها أو تلجلجت في لسانها تما يستبعد طرح العقاّد في سابق التحضير وإن صح ذلك ففي غير أهل البيت(عليه السلام) .
وحسبي في المقام أن أذكر بعض الشواهد تكون تصحيحاً له ولغيره تمن لم يستمرئ طعم الإيمان بمقام أهل البيت(عليهم السلام)على حقيقته وما عرفه هو وغيره عنهم ما كان إلا عن طريق الموروث وقد عفن لما عراه من تشویش .
والشاهد الذي أردت ذكره ما زال حيّاً وغضّاً جديداً - كلما أخلق الزمان تجدّد - وذلك هو خُطب السيّدة زينب الكبرى والصدّيقة الصغرى اجمل بطلة كربلاء كما تحلو تسميتها لابنة الشاطئ ولا ريب في أنّ العقاد سمع بها وقرأ كتابها فهي قريبة منه عصراً ومصراً ولا أخاله لم يقرأ ما كتبته بنت الشاطئ عن السيدة زينب(عليها السلام) فقد ذكر المؤرخون للسيّدة عدة خطب ارتجالية فرضتها عليها الظروف القاسية المحيطة بها وعلى حين غفلة مما سيفاجؤها به القَدَر في هذا الموقف أو ذاك حتى يقال
ص: 403
إنها أعدّت واستعدّت وهذا مما رواه الرواة من رجال التراثين السنّي والشيعي فلا مجال معه لطرح العقاد كما مرّ في خطبة أمها بأنّها عن سابق إعداد لما يدور في خلدها فإلى القارئ تلك الخطب الزينبية وهن ثلاث
خطب ارتجالية في ثلاثة مواقف كل له رهبته فيمايزه عن غيره.
الخطبة الأولى في الكوفة وقد استقبلتها وسبايا أهل البيت لها جموع أهل الكوفة رجالاً ونساءً وهم يبكون فأومأت إليهم أن اسكتوا قال الراوي: ولم أر خفرةً والله أنطق منها كأنما تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)وقد أومأت إلى الناس وهم يبكون على الحسين (عليه السلام)أن اسكتوا فلما سكنت فورتهم فخمدت الأنفاس وسكنت الأجراس وابتدأت بحمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم)قائلة :
(الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف والعُجب والكذب والشنف وملق الأباء وغمر الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كقصة على ملحودة ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنى ترخصون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة
ص: 404
ومدره حجتكم ومنار محجتكم وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم وسيّد شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون.
فتعساً لكم وبُعداً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضُرُبت عليكم الذلّة والمسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إذاً تكاد السموات يتفطرنّ منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا.
ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملء السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون فلا يستخفنّكم المهل فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وإنّ ربّكم لبالمرصاد(1). ثم ولّت عنهم قال الراوي فرأيت الناس حيارى وقد ردّوا أيديهم إلى أفواههم ورأيت شيخاً كبيراً من بني جُعفي وقد اخضلّت لحيته من دموع عينيه وهو يقول:
كهولهم خير الكهول ونسلهم*** إذا عُدّ نسل لا يبور ولا يخزي(2)
ص: 405
وفي رواية الاحتجاج : فقال لها الإمام السجاد(عليه السلام)أسكتي يا عمّة فأنتِ بحمد الله عالمة غير معلّمة فهمة غير مفهمة(1) .
فهذه الخطبة هي التي جعلت سامعها مبهوراً فقال : كأنّها تفرغ عن لسان أبيها فهل كانت عن سابق تحضير ؟ أوليس هي مما فاض به الجنان فابتدره اللسان بفصيح البيان وقد تضمّنت من النكات البديعية والحجج القوية من استعارة وتشبيه واستشهاد بالآيات وما لنا والوقوف طويلاً عند هذه الخطبة الزينبية وأمامنا محاورة أخرى لدتها في الفصاحة والبلاغة أخرست الخصم المتجبر فلم يطق الرد عليها حين مرغت أنفه بأوحال العار والشنار حتى هم - لفشله في مقارعة الحجة بالحجة - بضربها.
فلنقرأ ما رواه أبو الفضل في بلاغات النساء - وهو المصدر الذي اعتمده العقاد - وقد رواه غيره كالطبري(2) وابن الأثير(3) والخوارزمي(4) والمبرد(5) وكلّهم من أعلام السنّة فضلاً عن أعلام الشيعة كالمفيد في الإرشاد والطبرسى في إعلام الورى وابن طاووس في اللهوف وغيرهم كثير وألفاظهم متقاربة قالوا .. واللفظ للطبري قال : فلمّا دُخل برأس
ص: 406
الحسين وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زیاد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها وتنكرت وحفّ بها إماؤها فلما دخلت جلست فقال عبیدالله بن زياد من هذه الجالسة؟ فلم تكلّمه فقال: ذلك ثلاثاً كل ذلك لا تكلّمه فقال بعض إمائها هذه زينب ابنة فاطمة فقال لها عبید الله الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم فقالت الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم) وطهّرنا تطهيرا لا كما تقول أنت إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟
قالت: كُتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتخاصمون عنده (وفي اللهوف فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة).
قال الطبري وغيره: فغضب ابن زياد و استشاط من كلامها وهم بها، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير إنّما هي امرأة وهل تؤاخذ بشئ من منطقها إنّها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل. فقال لها ابن :زياد قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.
قال: فبكت ثم قالت: لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.
ص: 407
فقال لها عبيد الله : هذه سجاعة قد لعمري كان أبوك شاعراً سجّاعاً قالت: ما للمرأة والسجاعة إنّ لي عن السجاعة لشغلا ولكن نفثى ما أقول.
ولا نعقب في المقام بأكثر مما قاله المبرد: إن ابن زياد قال في عقب مقتل الحسين بن علي(عليه السلام) الزينب بنت علي(رحمها الله تعالى) وكانت أسن من حمل إليه منهنّ وقد كلّمته فأفصحت وأبلغت وأخذت من الحجة حاجتها فقال لها : إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً شاعراً فقالت: ما للنساء والشعر.
فإنّ زينب كلمت ابن زياد فأفصحت وأبلغت وأخذت من الحجة حاجتها فهل يرى العقاد أيضاً كان منها عن ترو وتحضر جاء من قبل؟
ودع عنك هذا كلّه فليس بشئ إذا ما قيس بخطبتها في مجلس يزيد بالشام وإليك حديثها نقلاً عن بلاغات النساء(1) لأبن أبي طاهر – وهو مصدر اعتمده العقاد كما أشرنا آنفاً - فعنه وعن نثر الدرّ للوزير الآبي(2) واللفظ للأوّل منهما :
قيل : لمّا قتل الحسين(عليه السلام) ووجّه ابن زياد (لعنۀ الله) رأسه والنسوة إلى يزيد ( لعنۀ الله )أمر برأس الحسين(عليه السلام) فأبرز في طست وجعل ينكث ثناياه بقضيب وينشد:
ص: 408
ليت أشياخي ببدر شهدوا ...... الأبيات...
فقالت: زینب بنت علي(عليه السلام) : صدق الله ورسوله يا يزيد﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهَ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾(1)أَظننت يا يزيد أنه حين أخذت علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما يُساق الأسارى أنّ بنا هواناً على الله وبك كرامة؟ وأنّ هذا العظيم خطرك ؟ فشمختَ بأنفك ونظرت في عطفك جذلان فرحاً حين رأيت الدنيا مستو سقة لك والأمور متسقة عليك وقد مثلت و نفست وهو قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي هُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي هُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(2) أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك وسوقك بنات رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ؟ قد هتکت ستورهن صحلت بحوحهن مكتئبات تحدى بهن الأباعر ويحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد لا يراقبن ولا يؤوين يتشوفهن القريب والبعيد ليس معهنّ ولى من رجالهنّ وكيف يستبطأ في بغضنا من نظر إلينا بالشنف والشنئان والإحن والأضغان؟ أتقول : ليت أشياخي ببدر شهدوا غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنك ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرية محمّد صلّى الله عليه ونجوم الأرض من آل
ص: 409
عبد المطلب ولتردنّ على الله وشيكاً موردهم ولتودن آنك عميت وبكُمت وإنّك لم تقل : فاستهلوا وأهلوا فرحاً.
اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممّن ظلمنا والله ما فريت إلّا في جلدك ولا حززت إلا في لحمك وسترد على رسول الله برغمك وعترته ولحمته في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث وهو قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ﴾(1) وسيعلم من بوّأك ومكنّك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكم الله والخصيم محمّد وجوارحك شاهدة عليك فبئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً وأضعف جندا مع أني والله يا عدو الله وابن عدوّه استصغر قدرك وأستعظم تقريعك غير أنّ العيون عبرى والصدور حرّى وما يجزى ذلك أو يُغني عنّا وقد قتل الحسين(عليه السلام)وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله فهذه الأيدي تنطف من دمائنا وهذه الأفواه تتحلّب من لحومنا وتلك الجثث الزواكي يعتامها عُسلان الفلوات فلئن اتخذتنا مغنماً لتجدننا مغرماً حين لا تجد إلّا ما قدمت يداك تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك. فوالله ما اتقيتُ غير الله ولا شكواي إلّا إلى الله فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا يُرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان
ص: 410
الجنان فأوجب لهم الجنة أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات وأن يوجب لهم المزيد من فضله فإنّه ولى قدير).
هذه ثلاثة شواهد لزينب ابنة فاطمة وكلّها جاءت عفو الخاطر دون سابق تفكير أو تحضير فما بال العقاد يستكثر على الصديقة فاطمة أن يكون خطابها كذلك عفو الخاطر وبدر على اللسان ولم تعدّه في خلدها من قبل وهذه زينب هي التي حفظت خطبة أمها في مسجد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) وما كانت زينب(عليه السلام)إلّا نموذجاً واحداً من تلك النماذج التي فاقت على سائر الناس في كل مكرمة :
إليهم كل مكرمة تؤول*** إذا ما قيل جدهم الرسول
فثمة شواهد أخرى لأهل البيت كخطبة فاطمة ابنة الحسين (عليه السلام) في الكوفة وخطبة أختها سكينة وكلّها بدرت على اللسان وعفو الخاطر من دون أن تُعدّ سلفاً في خلد صاحبتها وأحسب أني بهذا استطعت أن أقنع القارئ من النقاد كالعقاد أنّ الخطبة آية في البلاغة وقد كانت من دون سابق تفكير وإعداد تحضير لألفاظها وأبعاضها وإنّما المقبول والمعقول من القول أن يقول إنّ فكرة المطالبة بفدك كانت هي الغرض الدافع ومنها كان الدخول على سائر ما تضمنته من معانٍ سامية في بيان علل الأحكام وجدلية الخصام.
(ثانياً) قال: (إنّ سامع الخطاب لا يستظهره عند سماعه فإن حفظه فإنّما يحفظه منقولاً أو مكتوباً بعد حفظه...).
ص: 411
فأقول : إنّ إشكال حفظها مع طولها إنّما يعسر على كثيرين التصديق بذلك قياساً على حال سائر الناس أما إذا رجعنا إلى كتب الأدب العربي في العصور الإسلامية الأولى نجد ذكر نماذج فذة في الحفظ من السماع لمرة واحدة كما عن ابن عباس مع شعر عمر بن أبي ربيعة فقد أنشده قصيدته التي أولها:
أمن آل نُعم أنتَ غادٍ فمبكر ***غداةَ غدٍ أم رائحُ فمهجّر(1)
أنشدها في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه إذ أقبل عليه عمر في ثوبين مصبوغين موردين فأنشده القصيدة بتمامها وهي تزيد على سبعين بيتاً ولما انتهى فأقبل نافع بن الأزرق على ابن عباس فقال له : والله يابن عباس إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحرام والحلال فتتشاغل عنا ويأتيك مترف من متر في قريش فينشدك :
رأت رجلاً أما إذا الشمس*** فيخزي وأمّا بالعشي فيخسر
فقال ابن عباس: ليس هكذا قال قال : فكيف قال؟ قال: قال:
رأت رجلاً أمّا إذا الشمس*** فیضحى وأمّا بالعشي فيخصر
فقال: ما أراك إلا كنت حفظت البيت قال: أجل إن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها قال: فإنّي أشاء فأنشده القصيدة حتى أتى على
ص: 412
آخرها فقال له بعضهم: ما رأيت قط أذكى منك فقال: لكن ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب(عليه السلام) .
(أقول) وإذا كان عامل الوراثة له تأثيره في المقام فإنّ راوية الخطبة هى زينب بنت علي وفاطمة :
أتاها الفضل من هنّا وهنّا*** فكان لها بمجتمع السيول
وعنها روى ابن عباس تلك الخطبة .
قال أبو الفرج وهو يذكر أولاد الإمام أمير المؤمنين فقال:
والعقيلة: هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك فقال: حدّثتني عقيلتنا زينب بنت عليّ ... الخ(1) .
وكان ابن عباس يقول : ما سمعت شيئاً قط إلا رويته وإنّي لأسمع صوت النائحة فأسدّ أذني كراهة أن أحفظ ما تقول فكم في بني هاشم من هو مثل ابن عباس في الذكاء والألمعية وفي غيرهم كذلك فالنبوغ ليس حكراً على أحد ولا حصراً في أحد وإن كان الشبيه قليلاً في العدد.
ثم من حقنا أن نسأل العقّاد ومن شاكله من النقّاد في هذا الجانب من هم غير الصحابة رووا لنا خطب النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم)على اختلاف أغراضها وبيانها في أزمانها ومكانها ومنها بعض الخطب الطويلة التي استغرقت وقتاً طويلاً كخطبة يوم غدير خم التي قيل عنها من بعد صلاة الظهر إلى
ص: 413
صلاة العصر وما تبع ذلك من المبايعة إلى وقت العتمة. فمن هو الذي كان يكتب كل تلك الخطب سواء كانت قصيرة أم طويلة؟ إنّما هو الحفظ لدى الكثير منهم وإذا كان من يكتب مثل عبد الله بن عمرو بن العاص فهم نفر قليل ولذلك تتفاوت الروايات في النقل فتزيد عند بعضهم وتنقص عند آخرين تبعاً لقدرة السامع على الاستيعاب.
(ثالثاً) قال العقاد في طرحه لرفع الخلاف في صحة نسبة الخطبة الكبيرة إلى الصدّيقة لا يستكثر عليها (أن تحسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل بها وتعدّها في خلدها لأنها نشأت وهي تسمع كلام أبيها) وقد سبق منا أن ذكرنا نفي مسألة الإعداد ودفع الاستبعاد أولاً ومسألة استظهار السامع بالحفظ ثانياً والآن إلى مسألة سماعها كلام أبيها... فنقول له: إنّ في قرابة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) مَن توفرت فيه تلك الدواعي كلاً أو بعضاً ولم يزعم لأحد منهم كلاماً يدل على بلاغة أو فصاحة في مشهد عام أو خاص كبقية بنات النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ودع عنك نساءه اللاتي كن أكثر لصوقاً به ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً فكلهن سمعن حديث النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وعشن في كنفه وتحت ظله ولم يرد عنهنّ إلا القليل عن بعضهن نحو كلام عائشة عند موت أبيها على أنه ليس فيه أي مشابهة لكلام الزهراء(عليها السلام) في أيّ نحو من أنحاء البلاغة في البيان وبليغ الحجة وقوّة الجنان مع فارق جوّ الصدور.
ص: 414
( رابعاً) قال العقّاد أيضاً في طرحه المشار إليه ( وانتقلت إلى بيت زوجها فعاشت سنين تسمع الكلام من إمام متفق على بلاغته بين محبيه وشانئيه...) ونحن لا نناقشه في جميع ذلك لكنا نقول له ولمن هو على شاكلته ليست الزوجية هي التي أوجدت تلك القابلية عند الزهراء وقد كانت علاقة الزوجية أطول زماناً مع نساء تزوج بهنّ من بعد موتها(عليها السلام)وقد عايشنه حضراً وسفراً ليلاً ونهاراً وطالت صحبة بعضهن أكثر ما عاشته الزهراء(عليها السلام)معه من الزمان وكشاهد على ذلك فإنّ أمامة بنت أبي العاص بن الربيع تزوّج بها الإمام بعد وفاة الصديقة الزهراء ) وبإشارة منها وبقيت في حبالته حتى شهادته وتلك فترة طالت ثلاثين عاماً ولو قايسناها مع فترة معايشة الزهراء(عليها السلام)لبلغت خمسة أضعاف وقد مرّت فيها أحداث جسام كحروب الجمل وصفّين والنهروان وكانت للإمام في مدة حكمه عدة خطب وخطوب في السلم والحروب ولم ينقل أحد عن أمامة أثراً ينبئ عن تأثير الزوجية عندها في الحديث فضلاً عن الخطب البلاغية نعم كل ما روت عنها المصادر المعنية حديثاً روته بعد شهادة الإمام(عليه السلام)وذلك لما خطبها المغيرة بن نوفل فلم تجبه ثم خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث فامتنعت وروت حديثاً عن علي(عليه السلام)أن أزواج النبيّ والوصيّ لا يتزوجن بعده فلم يتزوجن الحرائر وأمهات الأولاد عملاً بهذه الرواية وهي رواية مرسلة رواها
ص: 415
الحافظ ابن شهر آشوب (1)مع أنّه قد ورد في التاريخ أنّ بعض أزواج الإمام(عليه السلام) تزوجنّ بعده وفيهن ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلي خلّف عليها بعد الإمام عبد الله بن جعفر فأولدها صالحاً وموسى وهارون ويحيى وأم أبيها(2) ونعود إلى ذكر أمامة وقد روى الكليني(3) بسنده إلى أمامة (قالت: أتاني أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في شهر رمضان فأتي بعشاء وتمر وكمأة فأكل وكان يحب الكمأة) فزوجة تعيش ثلاثين عاماً مع الإمام(عليه السلام) لم يرو عنها إلا هذين الأثرين فما ظنك بالباقيات الصالحات ممن لم يرد عنهنّ أي أثر ؟! فأين تأثير الزوجية التي زعم العقاد أثرها في بلاغة السيّدة الزهراء (عليها السلام)؟
(خامسا) قال العقّاد أيضاً في طرحه المشار إليه (وسمعت القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات....) وهذا جانب لا ينبغي الوقوف عنده طويلا بعد أن نعرف كثيراً من المسلمين يومئذ يشتركون في سماع القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات ولم تؤثر بلاغة القرآن فيهم بل كان الكثير منهم يجهل معناه فاستماعه لم يغيّر في ثقافته كثيراً وما خبر جهل أبي بكر بمعنى الأب (4)من العقّاد بغائب.
ص: 416
هذه هي النقاط التي ذكرها العقّاد في دفع معرّة الخلاف والجدل من النقّاد حول خطبة الزهراء(عليها السلام)
وبهذا نختم الكلام والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
نسأله تعالى أن يتقبّل هذا منّا ، ويثيبنا عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ، ويرزقنا شفاعة سيدتنا ومولاتنا الصديقة الزهراء(عليها السلام)، بولاء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة المعصومين(عليهم السلام).
تم في ليلة عيد الغدير 18 ذي الحجة الحرام سنة 1427 ه_
**
ص: 417
ص: 418
المقدمة...3
الباعث على هذا .... 5
السبيل الأقوم ...6
ما هو المنهج الذي لا عوج فيه ؟ ...9
تمهيد...15
الباب الاول ...23
النقطة الأولى:...25
النقطة الثانية مدرسة الكذب والأحاديث الموضوعة...26
النقطة الثالثة....31
النقطة الرابعة : صفحات من شرح نهج البلاغة...33
ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)] ....36
[ ذكر بعض ما مُني به آل البيت من الأذى والاضطهاد ] ...38
الباب الثاني...43
في الصديقية ومن هو احق بها ....43
المبحث الأول: في صديقية فاطمة الزهرا(عليها السلام) ....45
الصلاة والسلام على الصديقة.....63
الإغارة على لقب الصديقة ....64
المبحث الثاني: في صديقية عائشة ...66
موقفنا من عائشة ...73
ص: 419
المبحث الثالث: صديقية أبي بكر الصديق بين التصور والتصديق ....76
ذكر ما جاء في إثبات الصدّيقية لبعضهم والشهادة لبعضهم ......77
ذكر إثبات الصديقية لأبي بكر والشهادة لهما ...81
المبحث الرابع: عليّ الصدّيق الأكبر ....92
الباب الثالث ....97
في مصادر خطب الزهراء(عليها السلام) ....97
التمهيد....99
أولاً : ماذا عن عدد الخطب؟ ....99
ثانياً : ماذا عنها زماناً ومكاناً وموضوعاً؟ ....100
ثالثاً: قراءة واعية في التاريخ من جديد ...108
رابعاً: اعترافات خطيرة تنسف تاريخ الإسلام السياسي والسيرة....124
نماذج من الإعتراف بالخلاف ...131
خامساً: ماذا عن أسباب الخطب؟....139
سادساً: ماذا نجم عن الخُطب وآثارها؟...150
المبحث الأول: مصادر النص في التراث الشيعي....166
المبحث الثاني: في مصادر التراث السني...171
(أولاً) الخطبة الكبيرة: وهي ذات ثلاثة فصول...171
(ثانياً) الخطبة الثانية مع نساء المهاجرين والأنصار...176
(ثالثاً) الخطبة الثالثة ...177
المبحث الثالث: النصوص المختارة...178
النصوص من التراث الشيعي....181
النص الأول:...181
النص الثاني: ...203
النص الثالث [للخطبة الثالثة ] :...208
ص: 420
النصوص من التراث السني....210
الصورة الأولى: ....210
الصورة الثانية: ....212
الصورة الثالثة: ...223
كتاب شرح نهج البلاغة الصورة الرابعة :...223
الصورة الرابعة....254
الصورة الخامسة ......258
الصورة السادسة ......285
الصورة السابعة ....298
الباب الرابع ....307
في محاور التوثيق...307
المحور الأوّل: توثيق أصحاب المصادر ...310
المحور الثاني توثيق المصادر ....318
المحور الثالث: توثيق الأسانيد ....323
أسانيد الخطبة الكبيرة في كتاب (دلائل الإمامة)....324
(السند الأول) ....328
(السند الثاني) ....334
(السند الثالث) ....338
(السند الرابع)....339
(السند الخامس )....342
(السند السادس) ....343
(السند السابع) ....344
(السند الثامن )...345
(السند التاسع)...345
اسانيد الجوهري....346
السند الأول) ...346
(السند الثاني) ...347
ص: 421
(السند الثالث) .....347
اسناد ابن أبي طاهر في بلاغات النساء...348
أسانيد السيد المرتضى...350
وقفة صارخة للسيّد ابن طاووس ...360
توثيق إسناد ابن طاووس ...364
أسانيد الخطبة الصغيرة...366
المحور الرابع: روعة الأسلوب....369
المحور الخامس: قوة الحجة. ...378
الخاتمة ...381
مع العقّاد والنقّاد...383
ص: 422