سرشناسه : ابن میثم ، میثم بن علی ، 689 - 636ق . شارح
عنوان و نام پديدآور : اختیار مصباح السالکین : من کلام مولانا و امامنا امیرالمومنین علی بن ابی طالب (ع ) (شرح نهج البلاغه الوسیط)/ تالیف میثم بن علی بن میثم البحرانی ؛ تحقیق و تقدیم و تعلیق محمدهادی الامینی
مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه ، 1408ق . = 1366.
مشخصات ظاهری : ص 724
شابک : بها:2000ریال ؛ بها:2000ریال
وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی
يادداشت : عربی .
یادداشت : کتابنامه : ص . 712 - 708
عنوان دیگر : نهج البلاغه . شرح
عنوان دیگر : شرح نهج البلاغه الوسیط
موضوع : علی بن ابی طالب (ع )، امام اول ، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر
علی بن ابی طالب (ع )، امام اول ، 23 قبل از هجرت - 40ق . -- کلمات قصار
علی بن ابی طالب (ع )، امام اول ، 23 قبل از هجرت - 40ق . -- خطبه ها
شناسه افزوده : علی بن ابی طالب (ع )، امام اول ، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه . شرح
شناسه افزوده : امینی ، محمدهادی ، - 1931
شناسه افزوده : آستان قدس رضوی . بنیاد پژوهشهای اسلامی
رده بندی کنگره : BP38/02 /الف 282
رده بندی دیویی : 297/9515
شماره کتابشناسی ملی : م 75-5308
محرر الرقمی : میثم الحیدري
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
ص: 3
اختیار مصباح السالکین
من کلام مولانا و امامنا امیرالمومنین علی بن ابی طالب (ع ) (شرح نهج البلاغه الوسیط)
تالیف میثم بن علی بن میثم البحرانی
تحقیق و تقدیم و تعلیق محمدهادی الامینی
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى اليه مصائر الخلق، و عواقب الأمر، نحمده و نستعينه استعانة راج لفضله، مؤمل لنفعه، و نؤمن به ايمان من أخلص له موحدا، ولاذ به راغبا مجتهدا و الصلاة و السلام على محمد رسوله الصفّي، و أمينه الرضيّ ، صلى الله عليه و على آله الهداة الطاهرين.
انه لمن العوائد الربّانية و الالطاف التي لا تعد، مقرونة بالأنفاس الطهر لثامن الحجج عليه آلاف التحية و الثناء، و مشفوعة بنفح الرضا لولي الله الأعظم - أرواحنا له الفداء - أن وفق الله تعالى (مجمع البحوث الاسلامية التابع للاستانة الرضوية المقدسة) لمواصلة حركته العلمية و نشاطه الثقافي، في رفد المكتبة الاسلامية بأمهات المصادر الإسلامية التي تعتبر الوثائق الناطقة و اللسان المعبر عن ثقافة الاسلام الكبرى، في مختلف أبعاد الفكر و المعرفة.
فمن بين التحف الثمينة التي قدّمها - المجمع - بالأمس القريب كتاب «خصائص الائمة» عليهم السلام تأليف السيد الشريف الرضي - رضي الله عنه - المتوفي 406 ه.
و قد عبرت الأمة الأسلامية عبر طلاّب المعرفة ورواد الفضيلة عن صحوتها الجديدة و تعلقها بفكر الاسلام الذى طرحته مدرسة أهل البيت عليهم السلام، حيث تلاقفت هذا السفر القيّم بكلّ شوق.
ص: 5
هذا - و مجمع البحوث الأسلامية - انطلاقا من أهدافه الكبرى في نشر الوعي الاسلامي بين شباب الاسلام و منتسبي مدرسة اهل البيت (ع) سيواصل تقديمه لامثلة هذه الكتب بعونه تعالى، و لكلّ ما تحتاجه مسيرة الامة و حركة الاسلام المعاصرة.
و ما هذا الكتاب الذى يقدّمه مجمع البحوث الاّ واحدا من المصادر المهمّة و الشروح المعتمدة لنهج البلاغة ذلك هو (اختيار مصباح السالكين) الشرح الوسيط لنهج البلاغة تأليف الحكيم المتأله و الفيلسوف المحقق كمال الدين الشيخ ميثم بن علي بن ميثم البحراني المتوفي 689 ه، حيث صنّفه رحمه الله خلال تنقلاته في ربوع ايران في القرن السابع الهجرى.
و كان هذا السفر الكريم يرقد بين زوايا المكتبات و ينتظران يرى النور كما سبق ان طبع شرحه الكبير في خمس مجلدات قبل ذلك.
أما و قد حقق اليه أمل الآملين بطبع هذين الشرحين الكبير و الوسيط لابن ميثم، فنتمنى و نسأله تعالى أن يوفقنا للعثور على الشرح الصغير للشارح نفسه، و طبعه حتى يكمل و ينجز عمل ابن ميتم و ما استهدفه من أعماله القيمة حول نهج البلاغة.
انه نعم المولى و نعم النصير، و آخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين.
مجمع البحوث الاسلامية
ص: 6
الصورة
ص: 7
إلى...
صاحب الولاية، و سيد الأمة... و أبي الأئمة... و وصي المصطفى بالحق، و حامل عبأ الولاية الكبرى، سيدي الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب... عليه صلوات الله و رحمته و بركاته.
ارفع بضاعتي المزجاة و مهجودي الضئيل، و صحائف ولائي الخالص، راجيا التفضل بالقبول، فهو منتهى الفوز، و غاية الأمل و أقصى ما يطمح إليه:
عبدكم
محمد هادي الأميني
ص: 8
لا أحسب كتابا على امتداد التأريخ، و عبر القرون و الأحقاب... منذ أن تدرّج الإنسان على الأرض... وضعت حول جوانبه و مفاهيمه و بحوثه و مطالبه و مواضيعه امّهات الكتب و الدراسات و الشروح، بعد القرآن الكريم مثل كتاب (نهج البلاغة) فهو لاحتوائه على «242 خطبة و كلاما، و 78 كتابا و رسالة، و 498 كلمة، من يواقيت الحكمة و - درر البيان، و جوامع الكلم... أشغل الشخصية الاسلامية... و حوّل نحوه الجامعات و الأكاديميات العلمية و الأدبية و الفلسفية... و أخذ بمجامع العقول و الأفكار و القلوب... منذ أن قالها و أنشأها و صاغها و ارتجلها، عملاق الفصاحة، و عبقريّ البلاغة، و سيّد البيان، و - أمير الأدب الإمام أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه سلام اللّه و رحمته و بركاته.
و الواقع أنّ الكتاب هذا... في حروفه... كلماته... جملاته... سطوره... جاذبيّة خاصة...
و الكثير من قوّة الجذب التي لا عهد لنا بها إلاّ في القرآن الكريم... فهو كالمسك ما كرّرته يتضوّع، و لذلك نجد بينه و بين القرآن تشابها، و ترادفا في الهدف، و الغاية، و الغرض، و اللفظ، و المعنى، و السياق، و البيان، و الشكل... و لهذا يعتقد الكثير من أئمة البيان و الكلام، أنّ نهج البلاغة وليد القرآن فحسب.
و لا غرو، و لا مغالاة في القول هذا، بعد أن وجدنا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حفظ القرآن كلّه، فوقف على أسراره، و إعجازه، و حكمه، و ظاهره، و باطنه، و ناسخه، و - منسوخه، و محكمه، و متشابهه، و كافة جزئياته و كلياته، و سار القرآن في جسمه، و - اختلط به لحمه، و دمه، و مشى في عروقه، ثم وجدنا الجميع في نهج البلاغة... مع تبيانه الصريح، و إعلانه الرصين في عدّة مواضع صارخا: سلوني قبل أن تفقدوني... سلوني عن
ص: 9
كتاب اللّه، فإنّه ليس من آية إلاّ و قد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل(1).
أو ما رواه المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن العباس، عن عبد اللّه بن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كفوّا عن ذكر علي ابن أبي طالب، فلقد رأيت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم، فيه خصالا لأن تكون لي واحدة منهن في آل الخطاب أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، كنت أنا، و أبو بكر، و أبو عبيدة، في نفر من أصحاب رسول اللّه (ص) فانتهيت إلى باب امّ سلمة، و عليّ قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول اللّه (ص)؟ فقال: يخرج إليكم، فخرج رسول اللّه (ص) فثرنا اليه، فاتّكأ على علي بن أبي طالب، ثم ضرب بيده على منكبه، ثم قال: إنّك مخاصم تخاصم، أنت أوّل المؤمنين إيمانا، و أعلمهم بأيام اللّه، و أوفاهم بعهده و أقسمهم بالسويّة و أرأفهم بالرعية و أعظمهم رزية، و أنت عاضدى و غاسلي و دافني، و المتقدّم إلى كل شديدة و كريهة، و لن ترجع بعدي كافرا، و أنت تتقدّمني بلواء الحمد، و تذود عن حوضي، ثم قال ابن عباس من نفسه: و لقد فاز عليّ عليه السلام، بصهر رسول اللّه (ص)، و بسطة في العشيرة، و بذلا للماعون و علما بالتنزيل و فقها للتأويل و نيلا للأقران(2).
و من هنا نرى الغزالي(3) بعد تلاوته الحديث هذا، يقول: قد علم الأولون و الآخرون، أنّ فهم كتاب اللّه منحصر إلى علم عليّ ، و من جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع اللّه عن القلوب الحجاب، حتى يتحقق اليقين الّذي لا يتغير بكشف الغطاء(4).
ص: 10
هذا بالاضافة إلى عشرات الأحاديث، و الروايات الصحيحة الثابتة عن النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلم، في علم عليّ عليه السلام و قضائه و أدبه و حكمته و دينه و إيمانه و تكامله في كافّة الجوانب العلميّة و الاخلاقيّة و السياسيّة و الاجتماعيّة، فهو نسيج وحده بعد المشرّع الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلم، في جميع المثل و القيم الانسانيّة، و لذلك يمكن القول بصراحة أنّ نهج البلاغة... وليد القرآن، من دون منازع و من غير افتقار إلى دليل و حجة و برهان، و لم يكن القول هذا بابتداع و اختلاق منبعث عن التعصّب و الانحياز، و الغلو و إنّما هو عقيدة أئمة الأدب و فقهاء البيان و البلاغة و أحبار الحكمة، و الفلسفة، و جهابذة النحو و المنطق و اللغة، منذ إنشاء نهج البلاغة و صوغه و إنشاده و تكوينه.
لقد تلقّت رجالات الفصاحة و فقهاء البيان و أحبار الحكمة و الفلسفة كتاب نهج البلاغة، بالإكبار و التجليل، و وقفت خاشعة ذاهلة أمام اسلوبه الرصين و بيانه السّحريّ و نهجه البليغ و سبكه العذب و معنويته الحيّة، و راحت تدرسه و تحلّله، و تضع له شروحا و تفاسير جمّة، و ترجمته إلى اللغات الحية، و وضعت حوله دراسات و بحوث شتّى، فبلغ ما ينيف على 350 شرحا و ترجمة باللغتين العربية و الفارسية(1)، و على هذا يمكن القول: أنّ المؤلّفات و الكتب الخاصة، بكتاب نهج البلاغة تشكل وحدها مكتبة عامرة(2) و لعلّ اللّه يوفّق من يجمع هذه الدراسات و الكتب في خزانة خاصّة، أو يضع لها ثبتا و معجما خاصا، خدمة للعلم و الأدب و التأريخ:
كتاب كأنّ اللّه رصّع لفظه *** بجوهر آيات الكتاب المنزّل
حوى حكما كالدّر ينطق صادقا *** و لا فرق إلاّ انّه غير منزل
هذا و من الذين شرحوا كتاب نهج البلاغة، فقيه الحكماء و فيلسوف الفقهاء و فخر العلماء و الأدباء و أفضل المتقدّمين و المتأخّرين، كمال الدين و مفيد الدين الشيخ ميثم
ص: 11
ابن علي بن ميثم البحراني... رضي اللّه عنه، فقد صنّف لهذا الكتاب شروحا ثلاثة، بأسلوب علمي بليغ و نهج فلسفي قويم، كانت موضع التقدير و الإكبار و البحث و التدريس.
ولد و نشأ هذا العليم النّحرير في البحرين، و ترعرع في أحضان العلم و الفقه، لأنّ أسرته كانت من الأسر الشهيرة العريقة، فنشأ في حجر أبيه المقدّس و بذل في تربيته الجهد، و استفرغ في تأديبه و تهذيبه وسعه و بوّأه من علمه و حكمته في تثقيفه مبوّأ صدق مبارك، يفتح له سبل الحجى و يدفعه إلى أوج الهدى و التقى، فأخذ أولا علوم اللّغة و الصرف و النحو و فنون اللسان، و حصل في الصرف و النحو و المعاني و البيان و البديع و علم المنطق، على درجة و امتياز رفيع.
لقد أخذ هذه العلوم عن أساتذة مهرة بررة من علماء البحرين، اختارهم له والده، و كان يقف على دروسه معهم لا يألو جهدا في تشويقه و تشجيعه و تنشيطه و تمرينه، و لا يدّخر وسعا و فراغا في إرهاف عزمه و اغرائه في الامعان بالبحث و المناقشة.
و كان منذ نعومة أظفاره و أوّل نشأته بعيد الهمة، توّاقا إلى المعرفة و الكمال، و نزّاعا إلى الفضيلة و العبقرية، فحسر عن ساعد الجدّ و الاجتهاد و جنّد نفسه في التحصيل، حتى بزّ أقرانه و زملائه، و جلى و فاز دونهم في جميع المجالات بالقدح المعلى، و فشى ذكره في التحصيل على ألسنة الخاصّة و العامّة، من أهل بلده، و خالط صيته العقل و الفضل و الهدى و الرأى و حسن السمت في تلك الأرجاء و عند الجميع، فكان المثل الأعلى في الحوزات العلمية و أوساط الشبيبة في حمد السيرة و طيب السريرة و جمال الخلق و كمال الخلق و حبّ الخير.
غير أنّه آثر العزلة و اختارها و أحبّها و هام بها لأنّه بلغ مقام الأنس على حدّ قول علماء الاخلاق، و قد قالوا: إنّ من بلغ مقام الأنس غلب على قلبه حبّ الخلوة و العزلة عن الناس، لأنّ المخالطة مع الناس تشغل القلب عن التوجّه التام إلى اللّه، فلا بدّ من بيان أنّ الأفضل من العزلة و المخالطة أيّهما، فإنّ العلماء في ذلك مختلفون و الأخبار أيضا في ذلك مختلفة، و لكل واحد منهما أيضا فوائد و مفاسد، و قد أجمعت كلمتهم على تفضيل العزلة على المخالطة مطلقا، لوجود فوائد، منها، الفراغ للعبادة، و الذكر و الفكر و الاستيناس
ص: 12
بمناجاة اللّه و الإشتغال باستكشاف أسرار اللّه في ملكوت السماوات و الأرض و التخلّص عن المعاصي الّتي يتعرّض الإنسان لها غالبا بالمخالطة(1).
و مهما يكن من أمر فإنّ المترجم له... آثر العزلة إلى أن تخلّص منها على أثر مكاتبات جرت بينه و بين علماء العراق، فغادر مسقط رأسه متوجّها إلى العراق و ايران، بغية زيارة الأعتاب المقدّسة و مراقد أهل البيت الطاهرين عليهم السلام في النجف الاشرف، و كربلاء، و الكاظمية، و سامراء، و خراسان، و قم، و من ثمّ الاجتماع بالعلماء و الفقهاء في الحوزات العلمية آنذاك.
لقد استغرقت رحلته هذه، سنين عدّة و عاد إلى البحرين، و كانت أوقاته منقسمة حتى في السفر بين المحراب و المطالعة و التدريس و الكتابة و البحث و الارشاد، ففي سفره صنّف الشروح الثلاثة لكتاب نهج البلاغة، كما كانت مجالس تزاوره في رحلته مدارس سيارة، يجد الطالب فيها ما يبتغيه من فنون العلم، و الحكمة و الأدب و ما إلى ذلك من مواعظ تسمو بالانسان إلى حيث الملكوت و الروحانية... و هو في كل هذا كما يشهد عليه بيانه، واضح الأسلوب، فخم العبارة، مشرق الديباجة، يعبّر عن كوامن نفسه بأبلغ بيان، و يعبّر عن ضميره بأجلى العبائر الحسان، فيبلغ بقوله و كلامه أعماق القلوب من خواصّ الناس و عوامهم، يخاطب كلاّ منهم بما يناسب مع شعوره، و يتّفق مع عقليته و مبلغه من الفهم و العلم و الإدراك بكلام هو أندى على الأفئدة من زلال الماء... فكان منتجعو روّاد مجالسه على اختلاف طبقاتهم، ينقلون عنه بما التمسوه من ضوال الحكمة و جزيل الفوائد العلمية و جليل العوائد العملية.
إنّ الشيخ ميثم... كرّم اللّه وجهه، كان رحلة في العلم، كما كان قبلة في العمل و العبادة، و إماما في الحكمة و الفقه، و علما في الشريعة، تمّت به النّعمة، و هاديا إلى اللّه وجبت به الحجّة، و مفزعا في العلم تلقى إليه المقاليد، و مرجعا في أحكام اللّه و قوانينه يناط به التقليد، و ثبتا في السنن و حجّة في الأخبار، و جهبذا في الوقائع و حوادث السنين و أحوال الغابرين، طويل الباع في الحكمة، و بحرا في الاخلاق و تهذيب النفس، لا يسبر غوره و لا ينال دركه.
ص: 13
و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على شخصيّة شيوخه و مناعة أساتذته الفطاحل، في العلوم الإسلامية إلى جانب شدّه للعلم حيازيمه، و إرهافه له عزائمه، و إرصاده الأهب لأخذه بجميع فنونه عن تلكم الجهابذ، و خوضه عباب البحار، و لذلك عنت أساتذته بأمره إلى الغاية، و اهتمّت بشأنه كل الاهتمام.
يكتنف حياة هذا العملاق... الكثير من الغموض مع الأسف الشديد، و لم يتوصّل المؤرّخون إلى جذور حياته و مراحل دراسته بصورة وافية، ليضعوا أمام القارئ صورة صحيحة عنه، فالجوانب من حياته مجهولة، و منها شيوخه و أساتذته الذين تخرّج عليهم، إذ لا مشاحة أنّه تتلمّذ على فحول الفقه و عمالقة الكلام و أساطين الفلسفة و الحكمة و أرباب الجدل و المناقشة، فهو في الواقع حصيلة و خميرة أدمغة الفطاحل، و عصارة الحكماء و مجموعة ثقافات الفقهاء و المجتهدين، بيد أنّ المؤرخين لم يذكروا منهم غير إثنين أو ثلاث و هم:
1 - أبو السعادات أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الأصبهاني المتوفى بعد 635.
من كبار المحققين و الفقهاء و المتضلّعين في الدراية و الحديث و الفقه و أصوله، و كانت له حوزات تدريسيّة غاصّة بالعلماء و الأدباء، منهم الخواجه نصير الدين محمد الطوسى، و السيد رضي الدين على بن طاوس و أمثالهما و قد ترجم له أصحاب المعاجم و أثنوا عليه.
من تصانيفه الكثيرة: «إكسير السعادتين»، فيه الكثير من الكلمات القصار لأمير المؤمنين عليه السلام. «توجيه السؤلات في حلّ المشكلات». «منبع الدلائل و مجمع الفضائل». «رشح الولاء في شرح الدعاء». «مجمع البحرين و مطلع السعادتين».
«مجمع الدلائل(1)».
ص: 14
2 - جمال الدين علي بن سليمان بن يحيى بن محمد بن قائد بن صباح البحراني مات...
الفقيه و الحكيم الربّانى و العالم الصمدانى، أستاذ العلوم العقليّة و النقليّة، و المتضلّع في الحكمة و الفلسفة، و من مؤلفاته «الإشارات» في علم الكلام، شرحه تلميذه الشيخ ميثم. شرح قصيدة ابن سينا «العينيّة» في النفس. «مفتاح الخير في شرح رسالة الطير» لابن سينا، و قد أرسل الشرح هذا، إلى تلميذه الخواجه نصير الدين محمد الطوسي، و طلب منه شرحه، فأجابه نصير الدين الطوسى إلى ذلك بعد أن افتتح شرحه بالأبيات و المقدمة التالية:
أتاني كتاب في البلاغة منته *** إلى غاية ليست تقارب بالوصف
فمنظومه كالدّر جاد(1) نظامه *** و منثوره مثل الدراري في اللطّف
دقيق المعاني في جزالة(2) لفظه *** تجرّد في نظم الغموض إلى الكشف
كغانية حار العقول بحسنها *** تمرّض عيناها و ملثمها يشفي
أتى عن كبير ذي فضائل جمّة *** عليم بما يبدى الحكيم و ما يخفي
فأصبحت مشتاقا إليه مشاهدا(3) *** بقلبي محيّاه و إن غاب عن طرفي
رجا الطرف أيضا كالفؤاد لقاءه *** و ان لا يوافى قبل إدراكه حتفي
قرأت من العنوان حين فتحته *** و قبلّت تقبيلا يزيد على ألف
و لمّا بدالي ذكركم في مسامعي *** تعشقكم قلبي و لم يركم طرفي
فصادفت هذا البيت في شرح قصّتي *** و ايضاح ما عاينته جملة يكفي
وردت رسالة شريفة و مقالة لطيفة مشحونة بفرائد الفوائد، مشتملة على صحائف اللطائف، مستجمعة لعرائس النفائس، مملوّة من زواهر الجواهر من الجناب الكريم السيّدي السندي العالمي العاملي الفاضلي المفضلي المحققي المدقّقي(4) الجمالي
ص: 15
الكمالي، أدام اللّه كماله و حرس اللّه جماله... إلى الداعي الضعيف المحروم اللهيف محمد الطوسي، فأقتبس من شرار ناره نكت الزبور، و آنس من جانب طوره أثر النور، فوجدها بكرا حملت حرّة كريمة و صادفها صدفا تضمنت درّة يتيمة، هي اوراق مشتملة على رسائل في ضمنها مسائل أرسلها، و سأل عنها من كان أفضل زمانه و أوحد أقرانه الذي نطق الحق على لسانه و لاحت الحقيقة من بيانه و رأيت المورد - أدام اللّه أفضاله - قد سألني الكلام فيها و كشف القناع عن مطاويها و أين أنا من المبارزة مع فرسان الكلام و المعارضة مع البدر التمام و كيف يصل الأعرج إلى قلّة الجبل المنيع، و أنّى يدرك الظالع شأو الضليع، لكنى لحرصي على طلب التوصّل الروحاني إليه، بإجابة سؤاله و شغفي بنيل التوسّل الحقيقي لديه، بإيراد الجواب عن مقاله، اجترأت فامتثلت أمره، و اشتغلت بمرسومه، فإن كان موافقا لما أراده، فقد أدركت طلبتي، و إلاّ فليعذرني، إذ قدمت معذرتي، «وَ اَللّٰهُ اَلْمُسْتَعٰانُ » و عليه التكلان(1).
3 - الخواجه نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الجهرودي المتوفى 672.
الفيلسوف المحقق، أستاذ البشر و أعلم أهل البدو و الحضر، سلطان العلماء و المحقّقين و أفضل الحكماء و المتكلّمين، ممدوح الآفاق و مجمع مكارم الأخلاق الّذي لا يفتقر إلى التعريف لغاية شهرته، مع انّ كل ما يقال فيه فهو دون رتبته.
له مؤلّفات: منها، «تجريد الكلام». «التذكرة النصيريّة» في علم الهيئة.
«الأخلاق الناصريّة». «آداب المتعلّمين». «أوصاف الأشراف». «قواعد العقائد».
«تحرير المجسطي». «تحرير أصول الهندسة لاقليدس». «تلخيص المحصّل». «حلّ مشكلات الإشارات لابن سينا». إلى غيره من الحواشي و الرسائل و الأشعار بالفارسيّة و العربيّة.
أجمع المؤرخون أنّ الخواجه نصير الدين الطوسي، تتلمّذ على كمال الدين ميثم في
ص: 16
الفقه و تتلمّذ كمال الدين على الخواجه في الحكمة.
و قد صرّح بهذا المترجم له... في نسخة إجازته الكبيرة لسادات بني زهرة، فقال عند ذكر اسم مولانا الخواجه ما لفظه:
- و كان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقليّة، و له مصنّفات كثيرة في العلوم الحكميّة و الشرعيّة على مذهب الإماميّة، و كان أشرف من شاهدناه في الأخلاق (نورّ اللّه ضريحه) قرأت عليه (إلهيّات الشفاء) لأبي علي بن سينا و بعض التذكرة في الهيئة تصنيفه، ثم أدركه الأجل المحتوم -.
و من شعره قوله:
لو أنّ عبدا أتى بالصالحات غدا *** و ودّ كل نبيّ مرسل و ولي
و صام ما صام صوّاما بلا ملل *** و قام ما قام قوّاما بلا كسل
و حجّ كم حجّة للّه واجبة *** و طاف بالبيت حاف غير منتعل
و طار في الجوّ لا يأوى إلى أحد *** و غاص في البحر مأمونا من البلل
و أكسى اليتامى من الديباج كلّهم *** و اطعمهم من لذيذ البرّ و العسل
و عاش في الناس آلافا مؤلّفة *** عار من الذنب معصوما من الزلل
ما كان في الحشر يوم البعث منتفعا *** الاّ بحبّ أمير المؤمنين علي(1)
لم يكن من المؤسف كلّه لدينا مرجع ينبأ عن مدرسة المترجم له... و حوزته العلميّة و الدراسيّة و تلاميذه حتى بصورة موجزة، غير أنّ الكثيرين من أصحاب السير و التاريخ و التراجم ذكروا أنّ بعضا من الفقهاء و المحدّثين، رووا عنه و أنّ الشيخ ميثم... رضي اللّه
ص: 17
عنه، منح لهم إجازة الرواية و الحديث في العراق، حين سفره إليه و هم:
1 - غياث الدين السيد عبد الكريم بن أحمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الطاوس الحسنيّ الداوديّ الحلّيّ المتوفى 693.
نادرة الزمان و أعجوبة الدهر الخوّان، صاحب المقامات و الكرامات، الزاهد العابد، انتهت إليه رياسة السادات، و ذوي النواميس إليه، و كان أوحد زمانه، حفظ القرآن في مدة يسيرة، و له إحدى عشرة سنة، و اشتغل بالكتابة، و استغنى عن المعلّم في أربعين يوما، و عمره أربع سنين، له تصانيف، منها: «الشمل المنظوم في مصنّفي العلوم» و «فرحة الغرّي»(1).
2 - سعيد الدّين محمد بن عليّ بن محمد بن جهيم الأسدي الحلي الربعي مات...
كان عالما، صدوقا، فقيها، شاعرا، وجيها، أديبا، عارفا بالأصولين، و قيل: أنّ هولاكو حين أنفذ الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الحلة. فاجتمع عنده فقهاؤها فأشار إلى المحقق جعفر بن الحسن بن سعيد(2) و سأل من أعلم هذه الجماعة بالأصولين ؟ فأشار إلى العلاّمة الحلّي و إلى الفقيه مفيد الدين محمد بن جهيم، فقال: هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام و أصول الفقه(3).
3 - سديد الدين العلاّمة يوسف بن زين الدين عليّ بن محمد بن المطهّر الحلّي المتوفى 726.
ص: 18
والد العلاّمة الحلّي المتوفى 726، كان فقيها، محقّقا، مدرّسا، عظيم الشأن، و هو من مشايخ ولده، و قد اكثر النقل عنه في كتبه.
و قيل: أبو المظفر سديد الدين الشيخ الأجل، الأكمل، الفقيه المتكلّم الأصولي، والد إمامنا العلاّمة على الإطلاق و أستاذه الأقدم في الفقه و الأدب و الأصول و الأخلاق، قال شيخنا السعيد الشهيد قدّس اللّه روحه في إجازته لابن الخازن: و الشيخ الأعظم فخر الدين بن الإمام الأعظم الحجّة أفضل المجتهدين جمال الدين أبي منصور الحسن بن الإمام الحجّة الفقيه سديد الدين أبي المظفر بن الإمام المرحوم زين الدين علي بن المطهر أفاض اللّه على ضرايحهم المراحم الربانية، و حيّاهم بالنعم الهنيئة، و منه يظهر انّ زين الدين علي جدّ العلاّمة كان أيضا من العلماء المبرّزين(1).
هذا ما وقفنا عليه في المراجع، و ما جاء عن تلاميذه و الرواة عنه، و قد أسلفنا القول في ترجمة الخواجة نصير الدين الطوسي أنّ المؤرخين أجمعوا على أنّ نصير الدين الطوسي، تتلمّذ على كمال الدين ميثم في الفقه، و تتلمّذ كمال الدين على الخواجة في الحكمة.
لم تزل مآثر هذا الحكيم المتكلّم... الفكريّة، و شخصيّته العلميّة الفذّة، موضع التبجيل، و التقديس، و رهن التكريم و التقدير، منذ حياته، و قلّما تجد مؤلّفا و عالما في ايّ حقل كان، لم يستفد من فيض علمه الرصين، و بيانه المحكم العذب و مداده القويّ الأمين، السائل الذي لا ينضب، و هذا ما لا يخفى على أحد مهما أوتي من حول في الحكمة، و قوة في الكلام، و يبدو من تقصّي أخباره، و مطالعة ما وصل إلينا من كتبه و رسائله، أنّه تأدّب، و تتلّمذ على أعظم الشيوخ في كافّة المجالات.
و إليك بعض ما جاء عنه في المعاجم، و هو إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على ما تكنه
ص: 19
العلماء، و المؤرّخون و الادباء، له من التقدير و التبجيل و الثناء العاطر.
قال المحقق الفقيه السيد محمد باقر الموسوى الخوانسارى الاصبهاني المتوفى 1226 ما لفظه:
كان من العلماء الفضلاء، المدقّقين متكلّما ماهرا، له كتب منها: شروح نهج البلاغة، كبير و متوسط و صغير، و «شرح المائة كلمة»، و رسالة في الإمامة، و رسالة في الكلام و رسالة في العالم و غير ذلك.
يروي عنه السيد عبد الكريم بن أحمد بن طاوس و غيره، و كذا في «أمل الآمل»، و قال صاحب اللؤلؤة، بعد عدّه من جملة مشايخ العلامة أعلى اللّه مقامهما و مقامه، أما الشيخ ميثم المذكور، فانّه العلامة الفيلسوف المشهور، و قال شيخنا العلامة الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني عطّر اللّه مرقده، في رسالته المسماة (السلافة البهية في الترجمة الميثمية)(1): هو الفيلسوف المحقق و الحكيم المدقّق، قدوة المتكلّمين، و زبدة الفقهاء و المحدّثين، العالم الرباني، كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني، غوّاص بحر المعارف و مقتنص شوارد الحقائق و اللطائف، ضمّ إلى الإحاطة بالعلوم الشرعية و احراز قصبات السبق في العلوم الحكمية و الفنون العقلية، ذوقا جيدا في العلوم الحقيقية، و الأسرار العرفانية، كان ذا كرامات باهرة و مآثر زاهرة، و يكفيك دليلا على جلالة شأنه، و سطوع برهانه، اتّفاق كلمة أئمة الأعصار و أساطين الفضلاء في جميع الأمصار، على تسميته بالعالم الرباني، و شهادتهم له بانّه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق، و تنقيح المباني، و الحكيم الفيلسوف سلطان المحققين، و استاذ الحكماء و المتكلّمين، نصير الملة و الدين محمد الطوسي شهد له بالتّبحّر بالحكمة و الكلام، و نظم غرر مدائحه في أبلغ نظام.
و استاذ البشر، و العقل الحادى عشر، سيّد المحققين، الشريف الجرجاني(2) على
ص: 20
جلالة قدره في أوائل (فنّ البيان من شرح المفتاح) قد نقل بعض تحقيقاته الأنيقة، و تدقيقاته الرشيقة، عبّر عنه ببعض مشايخنا، ناظما نفسه في سلك تلامذته، و مفتخرا بالانخراط في سلك المستفيدين من حضرته، المقتبسين من مشكاة فطرته.
و السيد السند الفيلسوف الأوحد، مير صدر الدين محمد الشيرازى، أكثر النقل عنه في حاشية (شرح التجريد) سيّما في مباحث الجواهر و الأعراض، و التقط فرائد التحقيقات التي أبدعها عطّر اللّه مرقده، في كتاب (المعراج السماوي) و غيره من مؤلّفاته، لم تسمح بمثله الأعصار ما دار الفلك الدوّار، و في الحقيقة من اطلع على (شرح نهج البلاغة) الّذي صنّفه للصاحب خواجه عطا ملك الجويني(1) و هو عدّة مجلدات شهد له بالتبرّز في جميع الفنون الاسلامية، و الأدبية و الحكمية، و الأسرار العرفانية(2).
و قال الفقيه الشهيد، القاضي نور اللّه بن السيد شريف الدين الحسيني المرعشي التستري المقتول عام 1019 هج بالفارسية ما لفظه:
الشيخ الحكيم، المتكلّم، الفقيه، الأديب، مفيد الدين ميثم البحراني قدّس اللّه سرّه.
غوّاص بحر معارف، و در جميع علوم ماهر، و عارف، و محقق طوسى او را حكيم گفته، و گوهر مدح أو ببنان بيان سفته و مير صدر الدين محمد شيرازى در حاشيه شرح تجريد خصوصا در مبحث جواهر، از زواهر افادات او كه در كتاب معراج سماوي، و غير آن از مصنّفات او مذكور است استفاده نموده، و بمواقع تحقيقات آن حكيم محقق استناد جسته، و سيد المحققين قدّس سره الشريف در أوائل فن بيان از «شرح مفتاح» نزد نقل بعضى كه از او نموده تعبير از او بعض مشايخنا فرموده، و الحق شرح نهج البلاغة كه بنام خواجه عطا ملك جويني، نوشته در علوّ شأن او در حكمت و تصوّف و كلام، و ساير علوم
ص: 21
أهل اسلام دليلى تمامست(1).
و ترجم له العلاّمة المتتبع الفقيه السيد محسن بن السيد عبد الكريم الأمين العاملي المتوفى 1371. ه.
فقال: الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني المعاصر للخواجه نصير الدين الطوسي في الرياض: هو صاحب «شروح نهج البلاغة» المعروفة، الكبير و الصغير و الوسيط و غيرها، و ليس هو من أولاد ميثم التمار و إن ظن ذلك.
و في «أنوار البدرين» أثنى عليه المحقّق الطوسي، ثناء عظيما، و عبّر عنه المحقّق الشريف في «شرح المفتاح» في أوائل علم البيان، ببعض مشايخنا، و أثنى عليه صدر المحققين مير صدر الدين الشيرازي، في «حواشي التجريد»، في مباحث الجواهر و أعجب بما أورده في المعراج السماوي.
رأيت في بعض الرسائل، أنّه تتلمّذ على المحقّق الطوسي، في الحكمة، و تتلمّذ عليه المحقق في العلوم الشرعية و لم استثبته، روى عنه العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر(2)، و قبره متردد بين بقعتين، ثنتاهما مشهورة بأنها مشهده، إحداهما في جبانة الدوبخ، و اخرى في هلتا من الماحوز، و رأيت في رسالة للكفعمي في وفيات العلماء أنّه مات في دار السلام ببغداد(3) و اللّه أعلم بحقيقة الحال.
و ذكره الشيخ فخر الدين الطريحي في (مجمع البحرين) و أثنى عليه ثناء جميلا، و ذكر أنّه ورد إلى الحلة السيفية و كانت له مع علمائها قصّة عجيبة. و استجاز منه كثير من علمائها، كالعلامة الحلي، و السيد عبد الكريم بن طاوس.
و ألّف الشيخ سليمان البحراني، في أحواله رسالة سمّاها «السلافة البهية في الترجمة الميثمية» و ذكر القصة المذكورة صاحب «مجالس المؤمنين»(4).
ص: 22
و قال عنه سليمان بن عبد الله البحراني: في «السلافة البهية في الترجمة الميثمية»، هو الفيلسوف المحقّق و الحكيم المدقّق، قدوة المتكلّمين، و زبدة الفقهاء و المحدّثين، العالم الربّاني، غوّاص بحر المعارف، و مقتنص شوارد الحقائق و الّلطائف، ضمّ إلى الاحاطة بالعلوم الشرعية، و إحراز قصبات السبق في العلوم الحكمية، و الفنون العقلية، ذوقا جيدا في العلوم الحقيقية، و الأسرار العرفانية، و أكثر النقل عنه في حاشية التجريد، السيد الفيلسوف مير صدر الدين الشيرازي(1).
و كتب عنه المحدّث المؤرخ الشيخ عباس بن محمد رضا بن «أبو القاسم القمي» المتوفى 1359، بالفارسية.
فقال: عالم ربّاني، فيلسوف محدّث، محقق و حكيم متألّه، مدقّق جامع معقول و منقول، استاذ الفضلاء الفحول، همان عالمي كه صناديد أرباب فنون، و جهابذۀ أساتيد علوم، به تقديم وى در اصول عقلى و نقلى اذعان آورده اند، و جملۀ از أفاضل از مجلس تحقيق وى فيوضات گرفته اند، و اوست صاحب شروح ثلاثه بر نهج البلاغة، «شرح كبيرش» بر نهج البلاغة بطبع رسيده.
شيخ آواه سليمان بن عبد اللّه در وصف آن گفته: و هو حقيق بأن يكتب بالنور على الأحداق، لا بالحبر على الأوراق و شرح صد كلمه، و المعراج السماوى، و رسائلى در إمامت، و در علم، و در وحى و الهام، و در كلام و شرح اشارات استاد خود شيخ علي بن سليمان بحراني و غير ذلك.
روايت مى كند از ميثم مذكور آية اللّه علامه حلي(2)، و سيد عبد الكريم بن طاوس، و روايت مى كند او از جناب خواجه نصير طوسي، و عالم رباني كمال الدين علي بن سليمان بحرانى، و از ابن ميثم مذكور نقل مى كند حكايت معروفه.
و شيخ سليمان بحراني رسالۀ در أحوال او نوشته مسمّى ب «السلافة البهيّة في الترجمة الميثمية»، و در آنجا نقل كرده كه محقّق طوسي، و مير سيّد شريف جرجاني، و مير صدر الدين محمد شيرازي، و غير ايشان از أساطين حكماء و متكلّمين شهادت
ص: 23
داده اند بتبحّر ابن ميثم، در حكمت و كلام، و ميرين از تحقيقات رشيقه او نقل كرده اند(1).
و قال المحدّث القمي أيضا في ترجمته له:
كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، العالم الرباني، و الفيلسوف المتبحّر المحقّق، و الحكيم المتألّه المدقّق، جامع المعقول و المنقول، استاذ الفضلاء الفحول، صاحب الشروح على نهج البلاغة.
يروي عن المحقق نصير الدين الطوسي، و الشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني، و يروي عنه آية اللّه العلامة، و السيد عبد الكريم بن طاوس.
قيل انّ الخواجه نصير الدين الطوسي، تتلمذ على كمال الدين ميثم في الفقه، و تتلمذ كمال الدين على الخواجه في الحكمة(2).
و ترجم له العلامة الحجة الفقيه السيد حسن بن السيد هادي بن محمد علي الصدر المتوفى 1354. ه.
فقال: منهم، الشيخ ميثم بن علي بن ميثم البحراني، المعاصر للسكاكي صاحب «المفتاح»، كان علاّمة في العلوم العقلية و النقلية، و عليه قرأ المحقّق نصير الدين الطوسي، و سيأتي ذكره في أئمة علم الكلام، صنّف في علم البيان، و المعاني كتابه «تجريد البلاغة»، و عليه شروح، منها شرح الفاضل المقداد السيوري، من علماء الإمامية سمّاه «تجريد البراعة في شرح تجريد البلاغة»(3).
و قال ايضا:
و منهم: الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، المعروف بالعالم الربّاني، له التبرّز في جميع الفنون الإسلامية و الأدبية، و الحكمة و الكلام، و الأسرار العرفانية، اتّفقت كلمة الكلّ على إمامته في الكلّ .
قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد اللّه البحرانى، فى «السلافة البهية في الترجمة
ص: 24
الميثمية» ما لفظه بحروفه: هو الفيلسوف المحقق، و الحكيم المدقّق، قدوة المتكلّمين و زبدة الفقهاء و المحدّثين، العالم الربّاني، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، غوّاص بحر المعارف، و مقتنص شوارد الحقائق و اللّطائف، ضمّ إلى الإحاطة بالعلوم الشرعية، و إحراز قصبات السبق في العلوم الحكمية، و الفنون العقلية ذوقا جيدا في العلوم الحقيقية، و الأسرار العرفانية، كان ذا كرامات باهرة، و مآثر زاهرة، و يكفيك دليلا على جلالة شأنه و سطوع برهانه، اتّفاق كلمة أئمة الأعصار، و أساطين الفضلاء في جميع الأمصار على تسميته بالعالم الربّاني، و شهادتهم له بأنّه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق، و تنقيح المبانى، و الحكيم الفيلسوف سلطان المحقّقين، و استاذ الحكماء و المتكلّمين نصير الملّة و الدين محمد الطوسي، شهد له بالتبحّر في الحكمة، و الكلام، و نظم غرر مدائحه في أبلغ نظام، و استاذ البشر و العقل الحادى عشر، سيّد المحققين الشريف الجرجاني، على جلالة قدره، في أوائل فنّ البيان من «شرح المفتاح»، قد نقل بعض تحقيقاته الأنيقة، و تدقيقاته الرشيقة، عبّر عنه ببعض مشايخنا ناظما نفسه في سلك تلامذته، و مفتخرا بانخراطه في سلك المستفيدين من حضرته، المقتبسين من مشكاة فطرته، و السيّد السند الفيلسوف الأوحد، مير صدر الدين الشيرازي، أكثر النقل عنه في حاشية شرح التجريد، سيّما في مباحث الجواهر و الأعراض، و التقط فرائد التحقيقات التي أبدعها - عطّر الله مرقده - في كتاب «المعراج السماوي»، و غيره من مؤلّفاته لم تسمح بمثله الأعصار، ما دار الفلك الدوار، و في الحقيقة من اطّلع على شرح نهج البلاغة، الذي صنّفه للصاحب خواجه عطاء ملك الجويني، و هو عدّة مجلدات شهد له بالتبرّز في جميع الفنون الإسلامية، ثم حكى حكايته المشهورة المعروفة بقوله: كلي يا كمّى(1)... ثم ذكر مصنّفاته، و قال: و له من المصنّفات البديعة، و الرسائل الجليلة، مالم يسمح بمثلها الزمان، و لم يظفر بمثلها أحد من الأعيان، منها «شرح نهج البلاغة»، و هو حقيق بأن يكتب بالنور على الأحداق لا بالحبر على الأوراق، و هو في عدّة مجلدات.
قلت: هو شرح علميّ في أربع مجلّدات، و منها شرحه «الصغير على نهج البلاغة»،
ص: 25
جيّد مفيد جدّا، رأيته في حدود الحادية و الثمانين بعد الألف(1).
و قال عنه الفقيه المحدّث المتتّبع الميرزا حسين بن الشيخ محمد تقي بن علي النوري الطبرسي المتوفى 1320 ه. في كتابه ما لفظه:
الحكيم المتألّه كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، صاحب الشروح الثلاثة على نهج البلاغة، و شارح مائة كلمة، من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، قد أفرد في شرح حاله بالتّأليف، المحقّق البحراني الشيخ سليمان، و سمّاه «السلافة البهية»، و قال أيضا في الفصل الذي ألحقه به، في ذكر علماء البحرين: و منهم، العالم الربّاني، و العارف الصمداني، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، و هو المشهور في لسان الأصحاب بالعالم الربّاني، و المشار إليه في تحقيق الحقائق، و تشييد المبانى ثمّ ذكر بعض مناقبه و فضائله و مؤلّفاته(2).
و ذكره المولى ملاّ حبيب اللّه الشريف الكاشاني. مات 1340. ه.
فقال: كمال الدّين، و مفيد الدين، و هو ميثم بن علي بن ميثم البحراني، شارح «نهج البلاغة»، كان فيلسوفا، حكيما محقّقا، مدقّقا و فضله أشهر من أن يذكر، و لكنه كان خاملا غير طالب للشهرة و الرّياسة(3).
إلى غير هذا من كلمات الثناء، و التعظيم لمقامه العلمي، و مكانته الفكرية السامية، الخارجة عن حدود الذكر و البيان و الإحصاء، و كلّها بأجمعها تدلّ دلالة واضحة على حيويته العلمية، و فتوّته الثقافية النادرة، التي دفعته إلى قمّة المجد و العظمة، و الخلود، و سيبقى عنوانا خالدا تترنّم به الحياة إلى الأبد... و إلى النهاية... حتى يرث اللّه الأرض و من عليها.
لم يكن مفيد الدّين البحراني... مكثرا في التصنيف و التأليف، بصورة واسعة كغيره
ص: 26
من العلماء، و المحقّقين، لانّه كان منصرفا إلى التدقيق، و التتّبع و البحث، لذلك كانت مؤلّفاته قليلة في العدد، و ضخمة و وافرة من الناحية المعنوية، و الحقيقة تهيمن عليها الحكمة، و الفلسفة الإسلامية التي كانت انشودة المترجم له... طوال حياته بصورة كاملة.
أمّا تصانيفه حسب ما صرح بها المؤرّخون و الباحثون فهي على الترتيب كما يلي:
1 - «استقصاء النظر في إمامة الأئمة الاثنى عشر»:
بحث إستدلالي في الكلام، ذكره صاحب مجمع البحرين 172:6، و قال: لم يعمل مثله. الذريعة 32:2.
2 - «البحر الخضيم»:
في الالهيات. ذكره الشيخ سليمان الماحوزي في رسالته، عن علماء البحرين.
الذريعة 37:3.
3 - «رسالة في الوحى و الإلهام»:
و الفرق بينهما، و الإشراق ظاهرا. الذريعة 61:25. روضات الجنات 219:7.
4 - «شرح الإشارات»:
إشارات استاذه العالم قدوة الحكماء و إمام الفضلاء، الشيخ السعيد الشيخ علي بن سليمان البحراني المتوفى... و هو في غاية المتانة و الدقّة، على قواعد الحكماء المتألّهين.
روضات الجنات 219:7. الذريعة 91:13.
5 - «شرح المائة كلمة»:
سمّاه «منهاج العارفين في شرح كلمات أمير المؤمنين عليه السلام» اوّله: يا ذا الجلال، يا حيّ ، يا قدّوس، يا سلام. طبع في طهران سنة 1390 و يقع في 272 صفحة بالقطع الوزيري، تحقيق و تقديم العلامة البحاثة المغفور له السيد مير جلال الدين الحسينيّ الأرمويّ - المحدّث - و الكتاب من المطبوعات النادرة، تفضّل بنسخة منه لمكتبتي الخاصة نجل الفقيد الاستاذ المحقق السيد علي المحدّث... رحم اللّه الوالد، و بارك في الولد.
6 - «شرح نهج البلاغة»:
صرّح اكثر المؤرّخين، أنّ له ثلاثة شروح على (نهج البلاغة) «شرح كبير»، و
ص: 27
«شرح متوسط»، و «شرح صغير».
أما «الشرح الكبير» فيقع في خمس مجلدات و يسمّى (مصباح السالكين) طبع في طهران عام 1276 ه. بقطع كبير على نفقة الملاّ محمد باقر. و اعيد طبعه في خمس مجلدات سنة 1378 بالقطع الوزيري، مع مقدّمة بقلم (الخاتمي)(1) و لا علاقة لها بالكتاب، و ليست فيها تعرفة، و دراسة عن المؤلف أو الكتاب.
و «الشرح المتوسط»، و هو الذي بين يديك، و يسمى «اختيار مصباح السالكين» و و اوله: سبحان من حسرت أبصار البصائر عن كنه معرفته، و قصرت ألسن البلغاء عن أداء مدحته، و كيفية صفته، و شهدت مع ذلك بداية العقول بربوبيّته. و توجد منه نسخ خطية تحدّثنا عنها في فصل خاص من المقدّمة.
أما «الشرح الصغير» فلم أقف عليه، غير أنّ مؤلف «روضات الجنات»(2) ذكره في المجلد 219:7 و قال: و من مصنفاته البديعة شرحه «الصغير على نهج البلاغة»، جيّد، مفيد جدّا، رأيته في حدود سنة الحادية و الثمانين بعد الألف.
كما أنّ صاحب «الذريعة» في المجلد 149:14 ذكر لكمال الدين ميثم... ثلاثة شروح، حسب ما عبّر عنه الشيخ سليمان بن عبد اللّه الماحوزي المتوفى سنة 1121 في رسالته المختصرة في ترجمة علماء البحرين، عند ترجمة الشيخ ميثم.
7 - «القواعد الالهية في الكلام و الحكمة»:
و يسمّى أيضا - «قواعد المرام في الحكمة و الكلام» - طبع أخيرا على هامش كتاب (منتخب الطريحي) اوّله: الحمد للّه الوليّ الحميد... و قد ألّفه لأبي المظفر عز الدّين عبد العزيز بن جعفر(3)... مرتبا على قواعد، و مقدّمات و توجد منه نسخ مخطوطة في خزائن الكتب في طهران. و اعيد طبعه للمرة الثانية في 398 ه. بمدينة - قم - بالقطع الوزيرى 299.
ص: 28
8 - «المعراج السماويّ »:
ينقل عنه كثيرا السيد عليخان المدني في تصانيفه. الذريعة 230:21.
9 - «نجاة القيامة في تحقيق الإمامة»:
أوّله: (الحمد للّه مفيض الوجود، و واهب وجود كلّ موجود) رتّبه على مقدّمة و ثلاثة أبواب، ألّفه لعز الدّين أبي المظفر عبد العزيز بن جعفر النيسابوري، و قال في المقدمة -:
انّه لما ورد نيشابور مجتازا، و اتّصل به أكرمه، و أشار إليه بتأليف كتاب في الامامة، فأراد الاعتذار عنه بمشقّة السفر، و ما يستلزمه من تشعب الذهن، و مفارقة الأهل و الولدان، لكنه امتثله أداء لحقوقه -. الذريعة 61:24.
هذا و لم يكن غير التصانيف المذكورة كتابا في المعاجم، و ربّما كانت للمترجم له... رسائل اخرى لم يقف أصحاب المعاجم و السير عليها.
هناك في طوايا معاجم السير و التاريخ، قصة أو حكاية تطرّق إلى ذكرها كلّ من تصدّى لترجمة شيخ الحكمة و العلوم الشرعية كمال الدين ميثم... كرّم اللّه وجهه... و هي تنّم ؟؟؟ عن عقيدته الراسخة، و إيمانه الصادق، و عدم اغتراره بزخارف الدنيا و زينتها، و فراره و نفرته من الشهرة و الجاه، لأنّهما من المهلكات العظيمة، و طالبهما طالب الآفات الدنيوية و الاخروية، و من اشتهر اسمه و انتشر صيته، لا يكاد أن تسلم دنياه و عقباه، إلاّ من شهره اللّه لنشر دينه، من غير تكلّف، طلب للشهرة منه، و لذا ورد في ذمّهما ما لا يمكن إحصاؤه من الآيات و الأخبار فقال اللّه سبحانه: «مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ »(1).
و هذا بعمومه متناول لحبّ الجاه، لانّه أعظم لذّة من لذات الحياة الدنيا، و أكبر زينة من زينتها.
و قال رسول اللّه (ص): حبّ الجاه و المال، ينبتان النفاق في القلب، كما ينبت
ص: 29
الماء البقل.
و قال: ما ذئبان ضاريان ارسلا في زريبة غنم، بأكثر فسادا من حبّ الجاه و المال في دين الرّجل المسلم.
و قال: حسب امرئ من الشرّ الاّ من عصمه اللّه، أن يشير الناس إليه بالأصابع.
و قال أمير المؤمنين عليه السلام: تبذل و لا تشتهر، و لا ترفع شخصك لتذكر، و تعلّم و اكتم، و اصمت تسلم، تسرّ الأبرار و تغيظ الفجار.
و قال الإمام الباقر عليه السلام: لا تطلبنّ الرياسة، و لا تكن ذنبا، و لا تأكل الناس بنا فيفقرك اللّه.
و قال الإمام الصادق عليه السلام: إيّاكم و هؤلاء الرؤساء الذين يترأّسون، فو اللّه ما خفقت النعال خلف رجل الاّ هلك و أهلك.
و قال عليه السلام: ملعون من ترأّس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه(1).
و الأخبار بهذه المضامين كثيرة، و لكثرة آفاتها لا يزال أكابر العلماء، و أعاظم الأتقياء، يفرّون منها فرار الرجل من الحيّة السوداء، و منهم المترجم له رضي اللّه عنه...
فقد ذكر أرباب المعاجم و التاريخ، انّه في أوائل الحال كان معتكفا في زاوية العزلة و الخمول، مشتغلا بتحقيق حقائق الفروع و الأصول، فكتب إليه فضلاء الحلّة و العراق، صحيفة تحتوى على عذله، و ملامته على هذه الأخلاق، و قالوا: العجب منك أنّك مع شدّة مهارتك في جميع العلوم و المعارف، و حذاقتك في تحقيق الحقائق، و إبداع اللّطايف، قاطن في ظلوع الاعتزال، و مخيّم في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال...؟ فكتب في جوابهم هذه الأبيات:
طلبت فنون العلم أبغي بها العلى *** فقصّر بي عمّا سموت به القل
تبيّن لي أنّ المحاسن كلّها *** فروع و أنّ المال فيها هو الأصل
فلما وصلت هذه الأبيات إليهم، كتبوا إليه: إنّك أخطأت في ذلك خطأ ظاهرا، و
ص: 30
حكمك باصالة المال عجب، بل اقلب تصب.
فكتب في جوابهم هذه الأبيات، و هي لبعض الشعراء المتقدّمين:
قد قال قوم بغير علم *** ما المرء إلاّ بأكبريه
فقلت قول امرىء حكيم *** ما المرء إلاّ بدر هميه
من لم يكن درهم لديه *** لم تلتفت عرسه إليه
ثم إنّه - عطّر اللّه مرقده، - لما علم أنّ مجرد المراسلات و المكاتبات لا تنفع الغليل، و لا تشفي العليل، توجّه إلى العراق لزيارة الأئمة المعصومين عليهم السلام، و إقامة الحجّة على الطاعنين، ثم انّه بعد الوصول إلى تلك المشاهد العلية، لبس ثيابا خشنة عتيقة، و تزيّأ بهيئة رثّة بالاطراح و الإحقار خليقة، و دخل بعض مدارس العراق المشحون بالعلماء و الحذّاق، فسلّم عليهم فردّ بعضهم عليه السّلام بالاستقسال و الانتقاع التام، فجلس عطّر اللّه مرقده، في صفّ النّعال و لم يلتفت إليه أحد منهم، و لم يقضوا واجب حقه، و في أثناء المباحثة وقعت بينهم مسألة مشكلة دقيقة، كلّت فيها أفهامهم، و زلّت فيها أقدامهم، فأجاب روّح اللّه روحه، و تابع فتوحه، بتسعة أجوبة في غاية الجودة، و الدقّة، فقال له بعضهم بطريق السخرية و التهكّم: أخالك طالب علم ؟ ثمّ بعد ذلك أحضر الطعام، فلم يواكلوه قدّس سره... بل أفردوه بشيء قليل على حدّة، و اجتمعوا هم على المائدة، فلما انقضى ذلك المجلس، قام قدّس سره.
ثم إنّه عاد في اليوم الثاني إليهم، و قد لبس ملا بس فاخرة بهية، و أكمام واسعة، و عمامة كبيرة، و هيئة رائعة فلما قرب و سلّم عليهم، قاموا تعظيما له، و استقبلوه تكريما، و بالغوا في ملاطفته، و مطايبته، و اجتهدوا في تكريمه، و توقيره و أجلسوه في صدر ذلك المجلس المشحون بالأفاضل، و المحقّقين، و الأكابر المدقّقين، و لما شرعوا في المباحثة و المذاكرة تكلّم معهم بكلمات عليلة، لا وجه لها عقلا و لا شرعا، فقابلوا كلماته العليلة بالتّحسين، و التّسليم، و الإذعان على وجه التّعظيم، فلمّا حضرت مائدة الطعام، بادروا معه بأنواع الأدب، فألقى الشيخ قدّس سره... عن كمه في ذلك الطعام، مستعبا على اولئك الأعلام، و قال: كلى يا كمّي... فلمّا شاهدوا تلك الحالة العجيبة، أخذوا في التعجّب و الاستغراب، و استفسروه قدّس سره... عن معنى ذلك الخطاب ؟ فأجاب عطّر اللّه مرقده...
ص: 31
بأنّكم إنّما أتيتم بهذه الأطعمة النفيسة، لأجل اكمامي الواسعة، لا لنفسي القدسيّة اللاّمعة، و إلاّ فأنا صاحبكم بالأمس، و ما رأيت تكريما و لا تعظيما، مع أنّي جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء، و بتحية العلماء، و اليوم جئتكم بلباس الجبّارين، و تكلّمت بكلام الجاهلين فقد رجحتم الجهالة على العلم، و الغنى على الفقر، و أنا صاحب الأبيات التي في إصالة المال، و فرعية الكمال التي أرسلتها إليكم، و عرضتها عليكم، و قابلتموها بالتخطئة، و زعمتم انعكاس القضية.
فاعترف الجماعة بالخطأ في تخطئتهم، و اعتذروا بما صدر منهم من التقصير في شأنه قدّس سره.
ذكر القصة هذه، بعض من المؤرخين، و بعضهم أشار إليها بالقول بأنّ له حكاية لطيفة... كلي يا كمّي... و انّي أشكّ في حقيقتها، و أصلها بصورة عامة، لأنّ العلماء على الإطلاق بعيدون كل البعد، عن مثل هذه الخلّة و السّنة و السّيرة، سيّما علماء العراق و في طليعتهم، علماء الشيعة الإمامية في الحلة، و بقية العواصم العلمية في العراق... فالقصّة مختلقة للحطّ من كرامة العلماء فحسب، و لكن بشكل أدبي... و قيمة كل امريء عند العلماء ما يحسنه و يعلمه و يتقنه، و إنّي أدرجت القصّة للتأريخ، و الإعلام بأنها مصطنعة، و لا مكانة لها من الصّواب.
تصدّى المؤرّخون، و الادباء لترجمة الحكيم الفقيه كمال الدين ميثم... فأفرد كلّ واحد ترجمة له تتفاوت في البسط و الإيجاز... و لما كان منهجي في تحقيق و تقديم، أمثال هذه الكتب و المؤلفات من وضع ثبت خاص يضمّ مصادر ترجمة المؤلف... لذلك اتبعت الطريقة تلك هنا، و أفردت له هذا الفهرست الذي ضمّ بعض المصادر المترجمة للمؤلف كرّم اللّه وجهه... باللغتين العربيّة و الفارسيّة حسب ترتيب الحروف، مع تعيين اسم المؤلّف للكتاب، و ذكر المجلّد و الصفحة.
أحوال و آثار خواجه نصير الدين محمد تقى مدرس رضوى: 200.
ص: 32
الاعلام خير الدين الزركلي 8-293 أعيان الشيعة السيد محسن الأمين العاملي 49-98 أمل الآمل الشيخ الحر العاملي 2-332 أنوار البدرين الشيخ علي البلادي: 62 الأنوار الساطعة الشيخ آغا بزرگ الطهراني - 187 إيضاح المكنون إسماعيل پاشا البغدادي - 72-164-450-571 - و ج 2-625.
بحار الأنوار المجلسي محمد باقر 1 - المقدمة ط الجديد تأسيس الشيعة السيد حسن الصدر - 169-393 تكملة الرجال الشيخ عبد النبي الكاظمي 2-548 تنقيح المقال الشيخ عبد اللّه المامقاني 3-262 الذريعة الشيخ آغا بزرگ الطهراني 14-149 و في سائر مجلّداته روضات الجنات السيد محمد باقر الخوانساري 7-216 ريحانة الأدب الشيخ محمد علي المدرّس 8-240 سفينة البحار المحدّث القمي الشيخ عباس 2-526 السلافة البهيّة الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني شرح المائة كلمة الشيخ ميثم البحراني - المقدمة -.
الشيعة و فنون الاسلام السيد حسن الصدر - 101 الغدير الشيخ عبد الحسين الأميني 4-188 فرمان مالك اشتر حسين علوي آوي - المقدمة -- 18 بقلم محمد تقي دانش پژوه الفوائد الرضوية الشيخ عباس القمي - 689 فهرست كتابخانه وزيرى... ج 5-1807 فهرست ميكروفيلمهاى كتابخانه مركزى دانشگاه تهران محمد تقى دانش پژوه - 280 قواعد المرام في علم الكلام ابن ميثم - المقدمة -.
كاخ دلاويز السيد علي اكبر البرقعي القمي - 118
ص: 33
كتابهاى چاپى عربى خان بابا مشار - 852 كتابنامۀ نهج البلاغة الشيخ رضا استادي - 40 و 57 كشف الحجب و الاستار السيد اعجاز حسين الكنتوري كشف الظنون الحاج خليفة مصطفى بن عبد اللّه - 1991 الكشكول الشيخ يوسف البحراني 1-41 الكنى و الألقاب الشيخ عباس القمي 1-433 لباب الألقاب الملا حبيب اللّه الكاشاني - 18 و 31 لغت نامه على اكبر دهخدا - حرف الميم - 262 لؤلؤة البحرين الشيخ يوسف بن احمد البحراني - 253 مجالس المؤمنين القاضي نور اللّه التستري 2-210 مجمع البحرين الشيخ فخر الدين الطريحي 6-172 مستدرك الوسائل الميرزا حسين النوري الطبرسي 3-461 مصادر نهج البلاغة السيد عبد الزهراء الحسينى 1-223 مصباح السالكين الشيخ ميثم بن علي البحراني 1 - المقدمة معجم المطبوعات العربية يوسف سركيس - 1822 معجم المؤلفين عمر رضا كحالة 13-55 نامۀ دانشوران لعدّة من المؤلّفين 3-258 نسخ خطى كتابخانه ملى السيد عبد اللّه انواري 7-317. و ج 8-198. و ج 9-124.
هدية الأحباب المحدث القمي - 92.
هدية العارفين البغدادي 2-486.
و لا شك أنّ هناك مصادر اخرى وردت فيها ترجمة المؤلّف... لأنّ الفهرست هذا لم يكن مستجمعا لكافة المصادر... و الكمال للّه سبحانه وحده... و لا يفوتنا القول بأنّ رسالة (السلافة البهية في الترجمة الميثمية) للشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني مطبوعة في المجلد الأول ص 41 من كتاب (الكشكول) للشيخ يوسف البحراني.
ص: 34
بعد جهاد علميّ طويل... و نضال فكريّ ... و عمر مفعم بالمآثر و الخيرات العلمية و الأدبية، و الزاخر بالباقيات الصالحة التي ما زالت موضع الفائدة، و النفع الكثير، توفّي كمال الدين ميثم... في البحرين سنة 689 ه. و ذهب بعضهم إلى أنّه مات سنة 679 ه. و هو لا شك تصحيف حصل من بعض النسّاخ لانّه كان حيّا في 681 ه و قد فرغ في تلك السنة من شرحه الصغير لكتاب «نهج البلاغة».
قال السيد الأمين: انّ قبره متردّد بين بقعتين ثنتاهما مشهورة بأنها مشهده، إحداهما في «جبانة الدونج»(1)، و اخرى في «هلتا» من الماحوز.
و الصحيح أنّ قبره في قرية «هلتا» أما صاحب القبر في قرية الدونج فهو مدفن جدّه ميثم... كما دفن الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني صاحب رسالة «السلافة البهيّة في الترجمة الميثمية» في قربه، لانّه من قرية «الدونج»... و في هذا الصدد، قال صاحب الرسالة المذكورة.
و إن كان الغالب على الظن إنّه في «هلتا» لوفور القرائن على ذلك من ظهور آثار الدعوات، و توافر المنامات و من غريب ما اتّفق من المنامات في ذلك، أن بعض المؤمنين، من أهل الماحوز من لا سواد له، و هو متمسّك بظاهر الخبر، رأى في المنام أنّ الشيخ كمال الدين مضطجع فوق ساجة قبره الذي في «هلتا» مسجى بثوب، و قد كشف الثوب عن وجهه، قال: فشكوت إليه ما نلقى من الأعراب، فأجابني بقوله: - «وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ »(2). ثم سألته عن قوله تعالى: - «اِنْطَلِقُوا إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ اِنْطَلِقُوا إِلىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ » (الآية)(3) فقال: إنّ النواصب، و من يشاكلهم في عقائدهم الفاسدة، ينطلقون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد كظّهم(4) العطش
ص: 35
و الحرّ، فيطلبون منه السقيا، و الإستظلال، فيقول لهم: «اِنْطَلِقُوا إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ »، يعني، عليا عليه السلام، فينطلقون إلى عليّ عليه السلام، فيقول لهم، «اِنْطَلِقُوا إِلىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ »، يعني، به الثلاثة الملتصقة... و كان ذلك في سنة 1102 ه، ثم انّ الرجل سألني عن تفسير هذه الآية، و لم يكن يحضرني ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام فيها، فأخبرته بتفاسير، فقال: ألها تفسير غير هذا؟ ففتّشنا تفسير الشيخ الثقة الجليل أبي الحسن علي بن ابراهيم بن هاشم، فوجدت التفسير الذي حكاه عن منامه مرويا فيه عنهم - عليهم السلام - و هذا من أغرب المنامات -(1).
لا ريب في أنّ لكمال الدين ميثم... رضي اللّه عنه، ثلاثة شروح لنهج البلاغة، كما نصّ عليها أكثر الفقهاء، و المحدّثين، و المؤرخين، منهم الفقيه المحقق الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي المتوفى 1104 ه. فقال عند ترجمته له: كان من العلماء الفضلاء المدقّقين، متكلّما، ماهرا، له كتب منها كتاب «شرح نهج البلاغة»، «كبير»، و «متوسط»، و «صغير»، و «شرح المائة كلمة»(2).
امّا الكبير فقد طبع باسم شرح نهج البلاغة في ايران، بالقطع الكبير مجلد واحد سنة 1276 ه. ق. كاغد أسمر حجر، و اعيد طبعه للمرّة الثانية في خمس مجلدات بالقطع الوزيري، كما فصلنا القول عنه في حق تأليفه.
و «الوسيط» فهو منتخب من شرحه الكبير و أسماه (اختيار مصباح السالكين) كما قال به في نهاية خطبة الكتاب و لفظه: (لكنه اشتمل مع ذلك على كثير من أسباب الخطب، و موجبات الرسائل، و الكتب، فكبر لذلك حجمه، و كاماه كثير من الطباع، و إن كثر علمه، فأشار إليّ خلّد اللّه إقباله، و ضاعف جلاله، أنّ ألخّص منه مختصرا جامعا لزبد فصوله، خاليا من زيادة القول و طوله، ليكون تذكرة لولديه أسعد اللّه جدّهما، و شيد مجدهما، فيسهل عليهما ضبط فوائده، و الوقوف على غاياته، و مقاصده، و على من عساه
ص: 36
يحذو حذوهما في اقتناء الفضائل، و التوسّل إلى تحصيلهما بأعظم الوسائل، فبادرت إلى امتثال أمره العالي بالسمع و الطاعة).
و قد فرغ منه في آخر شوال سنة إحدى و ثمانين و ستمائة (681) كما جاء في آخر الكتاب.
توجد من الكتاب عدّة نسخ مخطوطة و منها:
نسخة في مكتبة حالت أفندي (تركيا) كما في فهرستها.
و اخرى في خزانة مجد الدين بن صدر الأفاضل النصيري.
و نسخة في مكتبة الفاضلية (مشهد - خراسان) و بعد هدم المدرسة و تداعيها انتقلت مخطوطاتها القيمة إلى مكتبة الإمام الرضا عليه السلام و في ضمنها هذه النسخة و هى برقم 2056.
و اخرى في مخطوطات مكتبة مدرسة المروى بطهران. في صناديق متروكة لا يستفاد منها.
و نسخة في مكتبة الحاج آقا حفيد السيد حجة الاسلام الشّفتى باصفهان، رآها صاحب (كشف الظنون) و ذكره في كتابه ص 1991، و رآها الشيخ سليمان الماحوزي عام 1081 ه.
و كانت في مكتبة الشيخ يوسف البحراني المتوفّى 1186 منه نسخة ضاعت في أيام حياته(1).
و نسخة عتيقة في مكتبة العلامة الجليل الشيخ كاظم مدير شانه چى في مشهد - خراسان، و عليها تاريخ التصحيح و القراءة و المقابلة في سنة 716 هجرية. و قد صوّرت (المكتبة المركزية التابعة لجامعة طهران) منها بالميكروفيلم، و هي في خزانتها برقم 2171. و في المكتبة الرضوية تحت رقم 66-2.
و نسخة اخرى في مكتبة مدرسة سليمان خان في (مشهد - خراسان) كتبت حدود عام 908.
و اخرى منه في مكتبة الفقيد آية اللّه الحاج آغا السيد حسين الخادمي الاصفهاني المتوفّى 1405 هجريه و هي نسخة صحيحة تقع في 509 ص بالقطع الوزيرى 14 * 21 في كل صفحة 21 سطرا طوله 5-10 سم، و جاء في آخرها ما نصه:
ص: 37
الصورة
ص: 38
الصورة
ص: 39
الصورة
ص: 40
الصورة
ص: 41
الصورة
ص: 42
الصورة
ص: 43
- هذا اختيار مصباح السالكين لنهج البلاغة من كلام مولانا و إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و رجاؤنا في اللّه سبحانه إذ وفقني لإتمامه أن يجعله خالصا لوجهه، و يسعدنا في الدارين بمنه و لطفه، و فرغ من اختصاره أفقر عباد اللّه تعالى ميثم بن علي بن ميثم البحراني عفا اللّه عنه، في آخر شوال سنة إحدى و ثمانين و ستمائة (681) بحول اللّه و حسن توفيقه، و الحمد للّه كما هو أهله و صلى اللّه على سيّدنا نبي الرحمة محمد و آله و سلم تسليما كثيرا.
و الّذي اعتمدته من نسخ الكتاب المخطوطة نسخة تفضّل علىّ بها سماحة العلامة الحجة السيد محمد علي الروضاتي الاصفهاني...، و قابلت نصوصها من البداية إلى النهاية، مع نصوص شرحه الكبير المطبوع، إلى جانب مقابلتها مع نسخة العلامة الشيخ مدير شانه چي... و رمزت اليها بحرف - ش -. و لا شك في أنّ تصحيح الكتب و تحقيقها و تدقيقها من أشقّ الأعمال و أحمزها و أكبرها تبعة منذ القدم إلى يومنا هذا، بيد انّني بحول اللّه و قوّته و منّه و لطفه العميم اجتهدت في تصحيح الكتاب و مقابلته بالقدر الّذي يتطلبه التحقيق... و هنا أحب القول انّني لم أحرز الكمال في التحقيق و لا أدّعيه لانّ الكمال للّه وحده... و لا شكّ أنّ فيه بعض العثرات و التقصير.
و أسأل اللّه المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقنا، أن يديمها علينا مع تقصيرنا في الاتيان على ما أوجب به من شكره بها أن جعلنا في خير «أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ »، و أن يرزقنا فهما في كتابه، و سنّة نبيه، و نهج حجّته و خليفة رسوله بالحق... قولا و عملا يؤدّي به عنا حقه، و يوجب لنا نافلة مزيده.
هذا و في الوقت الذي اقدّم هذا الجهد... ارجو العلي القدير أن يوفّقنا لما فيه الخير و الصلاح... و للّه جلّ شأنه الحمد أولا و آخرا.
محمد هادى الأميني عفي اللّه عنه و عن والديه
ص: 44
«بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ » سبحان من حسرت أبصار البصائر عن كنه معرفته، و قصرت ألس البلغاء عن اداء مدحته، و كيفيّة صفته و شهدت مع ذلك بداية العقول بربوبيّته، و جلال الوهيته، و اقرّت كثرة ما عداه باحديّته و وحدانيّته، و اعترفت حاجتها اليه، بغنائه و واجبيّته، و نطقت انواع مخلوقاته بعلوّ شأنه، و تمام قدرته، و نبّهت بدائع مصنوعاته على كمال علمه، و بلاغ حكمته، و اشارت بحدوثها الى قدمه، و وجوب أزليّته، سبحانه جليلا عن احاطة الزمان، عليّا عن الكون و المكان، متقدسا عن الشّبيه و النظير، متنزّها عن المعين و الظّهير، فسبحانه من عظيم لا ينبغي التسبيح الاّ لمجده، «تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ »(1)، اسبّحه تسبيحا يليق بجلاله، و قدسه، أحمده حمدا كما هو اهله، و كما اثنى على نفسه، و اشهد ان «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » وحده لا شريك له، شهادة مويّدة بالبرهان، مؤكّدة لحقيقة(2) الايمان، و اشهد انّ محمدا عبده المصطفى من نوع الانسان، المبعوث الى الأسود، و الاحمر، باشرف الأديان، صلّى اللّه عليه، و على آله البررة الكرام، مصابيح الظّلام، و ينابيع الاحكام، و على أصحابه أفضل الصلاة، و سلّم عليهم اكمل السلام.
و بعد: فلمّا كان من تمام نعم الله علىّ ، و كمال احسانه الىّ ، اتّصالى بخدمة حضرة من تجلّت بنجوم كرمه وجوه المكارم، و تحلّت بعقود نعمه صدور المراحم، و تزيّنت بذكره فروع المنابر، و أشرقت بجوده سماء المآثر، ذى المناقب و المحامد
ص: 45
و المفاخر، وارث المجد الأقدم كابرا عن كابر، مولى ملوك العرب و العجم، صاحب ديوان ممالك العالم، علاء الحق و الدّين، غياث الاسلام و المسلمين عطا ملك بن الصاحب المعظم السعيد الشهيد، بهاء الدنيا و الدين، محمد الجوينى، لا زالت أوامر اقلامه نافذة في الآفاق، و لا برحت اظلّة اعلامه على العباد ممتدّة الرواق، ما استبدل اللّه بقوم قوما، و امّ يوم في الزمان يوما، و جدت ملكا يملأ العيون جماله، و القلوب هيبته و جلاله، و النفوس علمه و كماله، و الخلائق انعامه و افضاله، و وجدته لشرف همته العلية، و صفاء نفسه القدسية، قد ألهم بعظيم ما روى من الاحاديث الصّحاح عن النبي صلى اللّه عليه و آله، و تفخيم ما نقل عن على عليه السلام في كتاب (نهج البلاغة) و غيره من فنون الكلام، و اسند اليه، و جعل دأبه الكريم بثّ محاسن تلك الاخبار، و الاشتهار بنشر(1)تلك الآثار، و الحثّ على تأويلها، و اظهار كنوزها، و الامر بتعلّمها و استكشاف رموزها و نسبة من تولّى تأديبه الى التقصير، لاشتغاله بغيرها من كتب الادب، و التأسّف لقطع وقته بما عداها، ككتاب «اليمينى»(2)، و «مقامات الحريرى»، و سائر منثور كلام العرب، لكون هذه الالفاظ في نظم جواهرها لا تخلو عن سعى و تكلّف، و في ابرازها بهيئة تستلذّها النفس لا تخلو عن عسر و تكلّف، و لكونها في وضعها خالية عن مطالب اولى الهمم العالية، و المقاصد الحقيقيّة الباقية، مقصورة على حكايات مضحكة، و اوضاع اكاذيب ملهية، تكدّر لوح النفس و الخيال، و تمنع عن قبول الحق و الترّقى في معارج الكمال، و تكسب نفس المرتاض بها رذيلة الكذب، و توجب للنّاظر فيها محبة اللّهو و اللّعب، و تصدّه عن اكتساب الاخلاق المحمودة، و تلفت وجهه عن سمة القبلة المقصودة، فكل منها كشبح خلا عن الروح، و ظن حيّا او «كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً»(3).
و امّا الالفاظ النبويّة، و الكلمات العلويّة، فانها موارد عين صافية آمن كدرها، و عذب وردها، و صدرها، و هى عين الحكمة التي من اوتيها «فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»، «عَيْناً»
ص: 46
«يَشْرَبُ بِهٰا عِبٰادُ اَللّٰهِ يُفَجِّرُونَهٰا تَفْجِيراً» (1) ، و في وضعها من البلاغة البديعة، و الفصاحة التّى هى مقتضى الطبيعة، التركيب الموجز و الاسلوب المعجز، ما يشنّف الاسماع، و يجلّ عن سائر الاساليب و الاوضاع، و في علمها من التجلّى بالانوار الالهية ما يهدى الى سبيل الرّشاد، و من التحلّى بملكات الحكم و الفضائل الخلقية افضل زاد، ليوم المعاد، و هى قواعد الدين القويم و اساسه، و عليها مداره و منها اقتباسه، و فيها بغية كلّ اديب، و منها بلاغة البليغ، و فصاحة الخطيب، و اليها نسبة العالم الحكيم، و عنها يؤخذ كل خلق كريم، و السابق اليها سابق بالخيرات، و المقصّر عنها ظالم لنفسه لما حرّمها من الكلمات، فكيف يقاس بها قول القائل، أو يعدل عنها الى غير طائل.
ثم استدرك الفارط فيها لكرامتها لديه، فالزم بملازمتها و التمسّك بها، ولديه الأميرين الكبيرين المعظمين العالمين الفاضلين الكاملين، جلالى الدولة و عضدى الملة، الّذين لم يزالا من سنّى الطفولية سالكين لاحمد المناهج في اكتساب الكمالات النفسانية، حتى بلغت بهما الهمم ما لم تبلغه همم الكهول في الاستكمال بالفضائل الانسانية، نظام الدنيا و الدين، أبا منصور محمد، و مظفر الدين و الدنيا(2)، ابا العباس عليّا، لا زالت الافلاك بدوام دولة علائهما دائرة، و لا برحت شمس اقبالهما في بروج شرفهما سائرة، و ندبهما الى حفظ فصوصها، و حرّضهما على اقتباس انوار نصوصها، و اشغل بها من لاذ بخدمتهما من البطانة و الاتباع، و قصد بذلك احياء ميّت السنة و عموم الانتفاع، و رأيت تشوّق خاطره المحروس الى شرح كتاب (نهج البلاغة) و ايضاح دقائقه، و الاشارة الى اسراره و حقائقه، فوجدت السعى في ذلك من اعظم القربات لاداء شكره، و أشرف الوسائل الى خدمته لمعرفته بقدره.
اذ كان الناس قبله اعزاللّه انصاره، و امدّ فضله، بين جاهل ما بهذا الكتاب، من الحكمة و فصل الخطاب، يطرحه لجهله و قصوره، و بين معاند للحق عادل عن الصواب يجتهد في اخفاء شرفه، و اطفاء نوره، الى ان وقفت انظاره الصائبة على ما فيه من لطائف النكات، و اطّلعت افكاره الثاقبة على ما اشتمل عليه من غامض الاسرار و بيّن الآيات،
ص: 47
فنجم لذلك نجم سعوده، و توجّه لشرفه في درج صعوده، فخدمت مجلسه العالى بشرح مناسب لعلوّهمته، موافق لكمال بغيته، و اودعت فيه من المباحث الالهية و اللطائف الحكمية، مالا يوجد مجموعا في كتاب، و لا يحيط به الافراد أولو الالباب، لكنه اشتمل مع ذلك على كثير من لباب(1) الخطب، و موجبات الرسائل و الكتب، فكبر لذلك حجمه، و كاماه(2) كثير من الطباع و ان كثر علمه، فأشار اليّ خلّد اللّه اقباله و ضاعف جلاله(3) ان الخّص منه مختصرا جامعا لزبد فصوله، خاليا من زيادة القول و طوله، ليكون تذكرة لولديه، أسعد اللّه جدّهما، و شيّد مجدهما، فيسهل عليهما ضبط فوائده و الوقوف على غاياته و مقاصده، و على من عساه يحذو حذوهما في اقتناء الفصائل، و التوسّل الى تحصيلهما باعظم الوسائل، فبادرت الى امتثال امره العالى بالسمع و الطاعة، و بذلت في تهذيبه و تنقيحه جهد الاستطاعة، و سألت اللّه تعالى ان يوفّقنى لاتمام ارادته، و يسعد اولياءه ببقاء دولته، و دوام سعادته، انّه اكرم من سئل و اولى من امّل.
ص: 48
قال السيد الشريف ذو الحسبين رضى الدين محمد بن الحسين الموسوى(1) قدّس اللّه روحه.
«بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ » امّا بعد الحمد للّه الّذى جعل الحمد ثمنا لنعمائه، و معاذا من بلائه، و وسيلا الى جنانه، و سببا لزيادة احسانه، و الصلاة على رسوله نبّى الرحمة و امام الائمة و سراج الامة، المنتخب من طينة الكرم، و سلالة المجد الأقدم، و مغرس الفخار المعرق، و فرع العلاء المثمر المورق، و على اهل بيته مصابيح الظلم، و عصم الامم، و منار الدين الواضحة، و مثاقيل الفضل الراجحة صلّى اللّه عليهم أجمعين، صلاة تكون ازاء لفضلهم، و مكافاة لعملهم، و كفاء لطيب فرعهم و اصلهم، ما انار فجر ساطع، و خوى نجم طالع.
فانّي كنت في عنفوان السن(2) و غضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب فى خصائص الائمة عليهم السلام يشتمل على محاسن اخبارهم، و جواهر كلامهم، حدانى عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، و جعلته امام الكلام، و فرغت من الخصائص التي تخصّ أمير المؤمنين عليا عليه السلام(3) و عاقت عن اتمام بقية الكتاب محاجزات الايام، و
ص: 49
مماطلات الزمان، و كنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبوابا، و فصّلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الامثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء و الاخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره معجبين ببدائعه، و متعجبين من نواصعه، و سألونى عند ذلك ان أبدا بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، و متشّعبات غصونه، من خطب و كتب، و مواعظ و أدب علما انّ ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، و غرائب الفصاحة، و جواهر العربية، و ثواقب الكلم الدينيّة و الدنيويّة، ما لا يوجد مجتمعا في كلام، و لا مجموع الاطراف في كتاب، اذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها، و منه عليه السلام ظهر مكنونها، و عنه اخذت قوانينها، و على امثلته حذا كل قائل خطيب، و بكلامه استعان كلّ واعظ بليغ، و مع ذلك فقد سبق و قصّروا، و تقدّم و تاخّروا، لانّ كلامه عليه السلام، الكلام الذّى عليه مسحة من العلم الالهى، و فيه عبقة من الكلام النبوى، فأجبتهم الى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع، و منشور الذكر، و مذخور الأجر، و اعتمدت به ان ابيّن من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام فى هذه الفضيلة مضافة الى المحاسن الدثرة، و الفضائل الجمة، و انّه عليه السلام انفرد ببلوغ غايتها من جميع السلف الأوّلين الذين انما يؤثر عنهم منها القليل النادر، و الشاذ الشارد.
و امّا كلامه، فهو من البحر الذى لا يساجل، و الجمّ الذى لا يحافل، و اردت ان يسوغ لى التمثيل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق:
اولئك آبائى فجئني بمثلهم *** اذا جمعتنا يا جرير المجامع
و رأيت كلامه عليه السلام يدور على اقطاب ثلاثة: اوّلها الخطب و الاوامر، و ثانيها الكتب و الرسائل، و ثالثها الحكم و المواعظ، فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم و الادب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا، و مفصّلا فيه اوراقا لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّى عاجلا و يقع الىّ آجلا، و اذا جاء شيء من كلامه عليه السلام الخارج في اثناء حوار، او
ص: 50
جواب سؤال او غرض آخر من الاغراض في غير الانحاء التي ذكرتها، و قرّرت القاعدة عليها نسبته الى أليق الابواب به، و اشدّها ملامحة لغرضه، و ربّما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متّسقة، و محاسن كلم غير منتظمة، لانّى اورد النّكت و اللمع، و لا اقصد التّتالى و النسق.
و من عجائبه عليه السلام التي انفرد بها، و أمن المشاركة فيها انّ كلامه عليه السلام الوارد في الزهد و المواعظ، و التذكير و الزواجر اذا تأمّله المتأمّل، و فكّر فيه المتفكّر، و خلع عن قلبه انّه كلام مثله ممّن عظم قدره، و نفذ أمره، و احاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في انّه من كلام من لا حظّ له في غير الزهادة و لا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت او انقطع في سفح جبل لا يسمع الاّ حسّه، و لا يرى الاّ نفسه، و لا يكاد يوقن بانّه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقطّ الرقاب، و يجدّل الأبطال، و يعود به ينطف دما، و يقطر مهجا، و هو مع تلك الحال زاهد الزهادّ، و بدل الأبدال، و هذه من فضائله العجيبة، و خصائصه اللّطيفة التي جمع بها بين الأضداد، و الّف بين الاشتات، و كثيرا ما أ ذاكر الاخوان بها، و استخرج عجبهم منها، و هى موضوع للعبرة بها، و الفكرة فيها.
و ربّما جاء في اثناء هذا الاختيار اللفظ المردّد، و المعنى المكرّر، و العذر في ذلك انّ روايات كلامه عليه السلام تختلف اختلافا شديدا، فربّما اتّفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية اخرى موضوعا غير موضعه الاوّل امّا بزيادة مختارة او بلفظ احسن في العبارة، فتقتضى الحال ان يعاد استظهار اللاختيار، و غيرة على عقائل الكلام، و ربّما بعد العهد ايضا بما اختير اوّلا فاعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا و اعتمادا.
و لا(1) ادّعى مع ذلك انّنى احيط باقطار جميع كلامه عليه السلام حتى لا يشذّ عنّى منه شاذّ و لا يندّ نادّ، بل لا ابعد ان يكون القاصر عنّى فوق الواقع اليّ ، و الحاصل في ربقتى دون الخارج من يدي، و ما عليّ الاّ بذل الجهد، و بلاغ الوسع، و على اللّه سبحانه و تعالى نهج السبيل، و رشاد الدليل «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
و رأيت من بعد تسمية هذا الكتاب (نهج البلاغة) اذ كان يفتح للناظر فيه ابوابها، و
ص: 51
يقرّب عليه طلابها، و فيه حاجة العالم و المتعلّم، و بغية البليغ و الزاهد، و يمضى في اثنائه من(1) الكلام في التوحيد و العدل، و تنزيه اللّه سبحانه و تعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كلّ غلة(2) و جلاء كل شبهة.
و من اللّه سبحانه استمّد التوفيق و العصمة، و اتنجّز التسديد و المعونة، و استعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، و من زلّة الكلام قبل زلّة القدم، و هو حسبى «وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ ».
أقول:
المعاد: الملجأ، و الوسيل جمع: وسيلة، و المعرق: ذو العرق(3) و الاصل في الكرم، و المنار علم الطريق و هو مستعار لاهل البيت عليهم السلام باعتبار هدايتهم للخلق، و اراد هنا جمع منارة على غير قياس و لذلك انّث صفته، و الموازاة: المحاذاة، و كفاء الشيء مثله، و خوى النجم(4): سقط للمغيب، و عنفوان السّن: اوّله، و كنّى بغضاضة الغصن عن:
الشباب، و حدانى: بعثنى، و المحاجزات: الممانعات كانّ الأيام تدفعه عن العمل و هويد فعها، و معجبين: مكثرين عجب غيرهم، و البدائع: الاشياء الحسنة المعجبة، و ناصع كل شيء: خالصه، و علما مفعول له. و المسحة من الشيء: الاثر منه. و عبق به:
الطيب لصق(5). و اعتمدت: قصدت. و الدثرة و الجمّة: الكثيرة. و يؤثر: يروى.
و المساجلة: المغالبة و المفاخرة في السقى، و السّجل: الدلو العظيمة فيها الماء. و لا يحافل:
اى يكاثر بكثرة من الفضائل. و الاجماع: تصميم العزم. و الحوار: الخطاب و الجواب، و الانحاء: المقاصد، و الملامحة: المشابهة، و قبع القنفذ: أدخل رأسه في جلده، و كسر البيت: الشقّة التي تلى الارض من حيث يكسر جانباه من اليمين و الشمال، و أصلت السيف: جرّده. و القطّ: القطع عرضا، و القدّ: القطع طولا. و جدّ له: ألقاه على الجدالة و هى: الأرض، و ينطف بالضم: يسيل، و المهجة: الدّم، و الأبدال: قوم صالحون و لا تخلوا
ص: 52
الارض منهم واحدا بدل الآخر، و عقلية كل شيء: اكرمه و أحسنه، و الأقطار: الجوانب.
و ندّ البعير ينّد: نفر و شرد. و الربق بكسر الراء و سكون الباء: حبل فيه عرى تشدّ به البهم، و المنهج، الطريق الواضح، و مقاصد الخطبة واضحة و باللّه التوفيق.
ص: 53
ص: 54
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصى نعماءه العادّون، و لا يؤدّى حقّه المجتهدون، الّذى لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن الّذى ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا اجل ممدود: فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرّياح برحمته، و وتّد بالصّخور ميدان أرضه. أوّل الدّين معرفته، و كمال معرفته التّصديق به، و كمال التّصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفى الصّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار اليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال «فيم ؟» فقد ضمّنه، و من قال «علام ؟» فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، و غير كلّ شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه متوحّد إذ لا سكن يستأنس به و لا يستوحش لفقده.
ص: 55
أقول:
التصدير بذكر اللّه تعالى واجب، لانّه المبدأ الاوّل لجميع الموجودات بالذات فهو المستحق لقدمه في المراتب الأربع من الموجودات. و الحمد يرادف الشكر و قد يفيد ما هو اعمّ منه و هو التعظيم المطلق. و المدحة فعلة من المدح، و هى الهيئة التي للممدوح يكون المدح عليها،
و قد اشار الى جملة من صفات جلاله و نعوت كماله.
فالاوّل من صفات جلاله: عدم بلوغ القائلين مدحته، و هو اشارة الى تنزّهه تعالى عن اطّلاع العقول البشرية على كنه وصفه، كما هو أهله لما علمت انّ ذلك انّما يمكن بالاطّلاع على كنه ذاته تعالى، ليستلزم ذلك معرفة مالها من صفات الجلال و نعوت الكمال، و معرفة الامور كما هى، انّما يمكن فيما تركب منها، و لمّا تنزّه قدسه تعالى عن ذلك لا جرم كانت عقول البشر قاصرة عن هذا المقام، بل كلّ مرتبة وصلت اليها من اطوار الثناء بحسب قوّتها و امكانها، فورائها اطوار اخر لا تتناهى، كما قال سيّد المرسلين صلى اللّه عليه: لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك، و خصّ القائلين دون المادحين بالذكر، لكونه أبلغ في التنزيه لانّ القائلين اعمّ من المادحين، و سلب مدح الاعم مستلزم سلب مدح الاخصّ من غير عكس.
الثاني: عدم احصاء العادّين لنعمائه، و ذلك لكثرتها و عدم تناهيها، و اليه الاشارة بقوله تعالى: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا»(1).
الثالث: عدم اداء المجتهدين لحقّه، و ذلك لانّه لمّا ثبت انّ نعمه(2) لا تحصى لزم من ذلك عدم تمكن المنعم عليه من مجازاتها و اداء حقّه فيها، و لانّ التوفيق لاداء حقّه نعمة اخرى منه، و لا يمكن جزاء نعمته بنعمته، و اداء حقّه بما يوجب حقا آخر، و فى الاثر انّ هذا الخاطر خطر لداود عليه السلام فقال: (يا ربّ كيف اشكرك و انالا - استطيع ان اشكرك الاّ بنعمة ثانية من نعمك) فاوحى اللّه تعالى اليه: (اذا عرفت انّ النعم منّى رضيت منك بذلك شكرا).
الرابع: كونه لا يدركه بعد الهمم البعيدة، و الهمّة هى العزم الجازم و بعدها تعلقها
ص: 56
بعليّات الامور دون محقراتها، اى: لا تدركه النفوس ذوات الهمم البعيدة و ان امعنت فى الطلب كنه حقيقته، و قدّم الصفة للعناية بها.
الخامس: كونه لا يناله غوص الفطن، اى الفطن الغائصة و استعار لفظ الغوص هنا لتعمّق الافهام الثاقبة في بحار صفات جلاله التي لاقرار لها و لا غاية، و اعتبار انّ نعوت كماله التي لا تقف عند حدّ و نهاية.
السادس: كون صفته لا حدّ لها اى: ليس لما تعتبر، عقولنا له من الصفات نهاية معقولة يكون حدّا لها، و يحتمل ان يريد انّه لا صفة له فتحّد كقولهم.
و لا ارى الضبّ بها ينحجر اى: لا ضبّ بها فينحجر. و قوله: حدّ محدود، كقولهم:
شعر شاعر.
السابع: و لا لمطلق ما يوصف به، ايضا نعت بجمعه و ينحصر فيه.
الثامن: و لا لصفته وقت معدود، اى: داخل في العدد(1)، و ذلك لتقدّسه تعالى عن احاطة الزمان المتأخر عنه بمراتب.
التاسع: و كذلك و لا أجل ممدود، لكونه تعالى واجب الوجود دائما.
العاشر: من نعوت كماله،(2)فطر الخلائق بقدرته، و الفطر: الشقّ و الابداع و استعار و صفه لايجاد الخلق ملاحظة لما يتوهّم من شقّ ظلمة العدم بنور وجودهم.
الحادى عشر: كونه نشر الرّياح برحمته، اى: بسطها لكونها سببا عظيما لبقاء انواع الحيوان و النبات، و صلاح الأمزجة و نموّها، و اسنده الى رحمته، لشمولها هذا العالم، و من آثارها حملها السحاب المترع بالماء على وفق الحكمة ليصيب الارض الميتة فينبت بها الزرع و تملاء الضرع، كقوله تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ » (3)و استقراء كلام العرب يدلّ على استعمالهم لفظ الرياح في الرحمة، و الريح في العذاب.
الثاني عشر: كونه وتدّ بالصخور ميدان ارضه، اى ارضه المائدة فقدّم الصفة لانّ ذكرها اهمّ ، لكونها سببا في نصب الجبال، و هو كقوله تعالى: «وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ »
ص: 57
«أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ » (1) و بيان ذلك من وجهين:
أحدهما: انّ الارض كرة، و هذه الجبال جارية مجرى خشونات و تضريسات في وجهها، فلو لم تكن هذه الجبال حتى كانت الارض كرة حقيقية خالية عنها، لكانت بحيث تتحرّك بالاستدارة بأدنى سبب لانّ الجرم البسيط المستدير يجب تحرّكه على نفسه، امّا اذا حصلت هذه الجبال على سطحها و كلّ منها يتوجّه بطبعه و ثقله العظيم نحو مركز العالم، فانّه يجرى مجرى الوتد الذى يمنع كرة الارض من الاستدارة.
الثاني: ما قيل انّ اطلاق لفظ الاوتاد عليها، استعارة و المقصود من جعلها كالأوتاد فى الارض لكى يهتدى بها على طرقها، فلا تزيغ جهاته المشتبهة بأهلها، و لا تميل بهم عن مقاصدها.
الثالث عشر: كون معرفته تعالى اوّل الدين الواجب لزومه.
و اعلم انّ المعرفة على مراتب فأدناها ان يعرف العبد انّ له صانعا.
الثانية، أن يصدّق بوجوده.
الثالثة، أن يترقّى بجذب العناية الالهية الى توحيده، و تنزيهه عن الشركاء.
الرابعة مرتبة الاخلاص له، بالزهد الحقيقى و هو تنحية كل ما سواه، عن سنن الايثار.
الخامسة مرتبة نفى الصفات عنه و هى غاية العارف.
و كلّ مرتبة من المراتب الاولى مبدء لما بعدها، و كل من الأربع الاخيرة كمال لما قبلها، و قد اشار الى هذه المراتب بقوله: و كمال معرفته التصديق به... الى قوله:
نفى الصفات عنه.
و ينحل هذا القياس الى قياسات تشبه قياسات المساوات لعدم الشركة بين مقدّمتين(2) كل منهما في تمام الأوسط، فيحتاج في انتاج كل منهما الى قياس آخر، و المطلوب من التركيب الاوّل و هو قوله: و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، انّ كمال معرفته توحيده.
ص: 58
و من تركيب هذه النتيجة مع قوله: و كمال توحيده الاخلاص له، و من تركيب هذه مع قوله: و كمال الاخلاص له نفى الصفات عنه، انّ كمال معرفته نفى الصفات عنه و هو المطلوب.
اذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يريد بالمعرفة التي هى اوّل الدين، المعرفة الناقصة التي هو اوّل متحصّل في النفس من مراتب المعرفة، و يحتمل أن يريد بها التّامة اذ هى العلّة الاولى في التصوّر الاجمالى للسّالكين و غاية في السلوك، و في اطلاق الكمال هاهنا تنبيه على انّ معرفته تعالى بكنه حقيقته غير ممكنة، لانّها مقولة بالاشدّ و الاضعف فلم تكن ممكنة الاّ بحسب رسوم ناقصة تركبّت من اسلوب و اعتبارات اضافية تلزم معقوليته(1) تعالى.
و لما لم تكن متناهية لم(2) تقف المعرفة بحسبها عند كل حدّ، بل كانت متفاوتة بالزيادة و النقصان و الجلاء و الخفاء.
و امّا بيان المقدمة الاولى من القياس المذكور، فلانّ المتصوّر لمعنى الصانع عارف به من تلك الجهة معرفة ناقصة اذ هى من ضرورية كونه موجدا للعالم فكان اعتبار التصديق بوجوده كمالا لتلك المعرفة.
و امّا الثانية فلانّ وجود الواجب تلزمه الوحدة المطلقة اذ لو كان مشتركا بين اثنين لزم ان يتميّز كل منهما بأمر وجودىّ وراء ما به الاشتراك، فيلزمهما التركيب المستلزم للامكان، فاذا التصديق بوجوده يلزمه توحيده و تصوّر اللازم كمال لتصوّر ملزومه.
و امّا الثالثة فلانّ اعتبار الغير معه تعالى في المحبّة و القصد اليه، و الاعتماد عليه شرك خفىّ ينافي التوحيد الحقّ و ان لم يكن منافيا فهو نقصان فكان عدمه، و الاخلاص للّه كمال التوحيد له(3).
و امّا الرابعة فقد بيّنها عليه السلام بقياس برهانّى مطوىّ النّتائج استنتج منه، انّ كل من وصف اللّه سبحانه فقد جهله.
ص: 59
و قوله لشهادة كلّ صفة... الى قوله: غير الصفة.
توطيد للقياس ببيان المغايرة بين الصفة و الموصوف، و الشهادة هاهنا شهادة الحال فانّ حال الصّفة تشهد بحاجتها الى الموصوف، و حال الموصوف يشهد بالاستغناء عنها، و الحالان يشهدان بمغايرتهما لانّ اختلاف اللوازم يدلّ على اختلاف الملزومات، فاما صحّة المقدّمات.
فبيان الاولى: انّ الصفة لما ثبت كونها مغايرة للذات لزم كونها زيادة عليها فلزم اقترانها بها عند فرضها صفة لها.
و بيان الثانية: انّ من قرن ذاته بشىء او اشياء فقد اعتبر في مفهومه امرين او امورا فكانت فيه كثرة.
و بيان الثالثة: انّ كل ذى كثرة فهو مركّب و كلّ مركب فهو ذو جزء.
و بيان الرابعة: انّ كل ذى جزء فهو ممكن لافتقاره الى جزئه الّذى هو غيره، و الحاكم بانّ له جزءا، حاكم بكونه ممكنا لا واجبا لذاته فكان جاهلا به، و نتيجة القياس اذن انّ من وصف اللّه(1) سبحانه، فقد جهله و تبيّن به المطلوب و هو انّ كمال الاخلاص له نفى الصفات عنه، اذ الاخلاص(2) ينافي الجهل به، فينا في ملزوم الجهل و هو اثبات الصفة له فيتحقّق اذن نفيها.
الرابع عشر: كونه غير مشار اليه، و اراد مطلق الاشارة و بيّن ذلك بقياس هو قوله: و من اشار اليه... الى قوله: فقد عدّه.
بيان الاولى، انّ الاشارة امّا حسيّة او عقلية، امّا الحسيّة فانها تستلزم الوضع و الكون فى المحلّ او الحيّز و ما كان كذلك فلا بدّ و ان يكون له حدّ او حدود، و امّا الاشارة العقلية فلانّ المشير الى حقيقة شيء زاعما انّه وجده، و تصوّره، فقد أوجب له حدّا يقف ذهنه عنده، و يميّزه به عن غيره.
و بيان الثانية: انّ من حدّه بالاشارة الحسيّة فقد جعله مركّبا من أمور معدودة، اذ الواحد في الوضع ليس مجرّد وحدة فقط و الاّ لم تتعلّق الاشارة الحسيّة به، بل لا بدّ معها من
ص: 60
امور اخرى مشخّصة مخصّصة له، فكان في نفسه معدودا لكثرته من تلك الجهة، و من حدّه بالاشارة العقلية فلا بدّ ان يحكم بتركيبه لما علمت انّ كل محدود مركب في المعنى، فكان ايضا ذا كثرة معدودة فاذن الاشارة المطلقة ممتنعة في حقّه تعالى مستلزمة للجهل به.
الخامس عشر: كونه تعالى غير حالّ في شيء و بيّنه بقوله: و من قال فيم فقد ضمّنه، و هو في قوة صغرى ضمير تقدير كبراه، و من ضمنه فقد احوجه الى المحل المنافى لوجوب وجوده: امّا الصغرى فلأن فيما سؤال عن الظرف و لا يصحّ ذلك الاّ في المحل. و امّا الكبرى فلأن الحال في المحل ان لم يجب كونه فيه جاز استغناؤه عنه، و الغنىّ عن المحل يستحيل ان يعرض له، و ان وجب كونه فيه كان محتاجا اليه فكان ممكنا و هذا خلف.
السادس عشر: كونه تعالى ليس في مكان و لا في جهة، و اشار اليه بقوله: و من قال... الى قوله: منه، و هو في قوّة ضمير كالذى قبله، و تقدير كبراه، و من أخلى منه فقد كذّبه، امّا الصغرى فلانّ السؤال بعلام يستلزم كونه في جهة فوق و ذلك يستلزم اخلاء سائر الجهات عنه، و امّا الكبرى فلقوله تعالى: «وَ هُوَ اَللّٰهُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ »(1) و قوله: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ »(2) فالمخصّص له بجهة كاذب(3) لذلك.
و انّما خصّص عليه السلام جهة العلوّ بالانكار لكونها هى المتوهّمة للّه تعالى دون غيرها.
السابع عشر: كونه كائنا لا عن حدث.
و اعلم، انّ الحدوث يقال في الاصطلاح العلمي على معنيين بالاشتراك، احدهما الحدوث الذاتى، و هو كون الشيء من حيث هو لا يستحق من ذاته وجودا و لا عدما، انما يستحق احدهما بأمر خارج عن ذاته و هو معنى يلازم الامكان.
و ثانيهما(4) الحدوث الزمانى، و هو كون الوجود مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا، و هو
ص: 61
اخّص من الامكان و يقابله القدم بمعنيين، اذا عرفت ذلك فاعلم، انّه عليه السلام نزّهه من هذه القرينة عن الحدوث بالمعنى الاوّل اذ كان تعالى واجب الوجود بذاته، و دلّ بالكائن على وجوده المجرّد عن الزمان، و خرج الزمان عن مفهوم كان بالدليل العقلى المانع من لحوق الزمان له، و كان هنا تامة.
الثامن عشر: كون وجوده لا عن عدم، و هو اشارة الى تقدّسه عن لحوق الحدوث له بالمعنى الثاني، و قد استلزم هذان الوصفان اثبات الازلية و القدم بمعنييه له.
التاسع عشر: كونه مع كل شيء لا بمقارنة.
و اعلم انّ كونه مع غيره نسبة تعرض له بالقياس الى جميع مخلوقاته، اذ كلّها منه و يصدق عليه ذلك بمعنى: انّ ذاته المقدّسة مساوية متصلّة العلم بكلّها و جزئها، لقوله تعالى: «وَ هُوَ مَعَكُمْ » الآية، لا على وجه المصاحبة في زمان او محلّ او مجاورتها في مكان.
و لما كان مفهوم المقارنة تعتبر فيه الزمان و المكان لا جرم نزّه تلك المعية عنها بقوله: لا بمقارنة.
العشرون: كونه غير كل شيء لا بمزايلة، و لما كانت المزايلة و هى المفارقة اضافة لا تعقل الاّ بالقياس الى مقارنة و كان في وجوده تعالى و غيريته للأشياء منزّها عن لحوق هاتين الاضافتين لاعتبار الزمان و المكان في مفهوميهما، لا جرم نفاها عن غيريته للاشياء كما نفى المقارنة عن معيّته لها بل غيريته للاشياء بذاته المقدّسة.
الحادى و العشرون: كونه فاعلا لا بمعنى الحركات و الآلة، اى: لا تدخل الحركة و الآلة في فاعليته لكونهما من خواصّ الاجسام المتنزّه قدسه عنها، و لانّه لو وقف فعله على الآلة لكان بدونها غير مستقلّ فيكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره، و هو محال.
الثاني و العشرون، كونه بصيرا، الى قوله: خلقه و اراد اثبات البصر(1) له حيث لا مبصر و لما كان تعالى منزّها عن الادراك بآلة البصر، فمعنى كونه بصيرا كونه عالما
ص: 62
بالمبصرات، و اطلاق لفظ البصير عليه مجاز اطلاقا لاسم المسبب على السبب، و اشار باذ: الى اعتبار الازل فانّه اذن لا مخلوق لما ثبت انّ العالم حادث.
الثالث و العشرون، كونه متوحّدا، الى قوله: لفقده، و هو وصف بتفرّده بالوحدانية لذاته ازلا، اذ المتوحّد المطلق من له الوحدانية لذاته، و اشار باذ: لاعتبار الازل ايضا.
و لما ثبت انّ العالم حادث ثبت انّه لا سكن في الازل يقارنه، و لانّه ليس من شأنه ان يكون له أنيس ينفرد عنه و يستوحش لفقده، اذ الاستيناس و التوحّش يتعلّقان بميل الطبع و نفرته التابعة للمزاج، و قد تنزّه تعالى عن ذلك فهو المتفرّد بالوحدانية المطلقة لا بالقياس الى شيء.
و الاشارة الى كيفية ذلك في معرض مدحه تعالى و ذلك قوله:
أنشأ الخلق انشاء، و ابتدأه ابتداء، بلا رويّة أجالها، و لا تجربة استفادها و لا حركة أحدثها، و لا همامة نفس اضطرب فيها. أجال الأشياء لأوقاتها و لاءم بين مختلفاتها، و غرّز غرائزها، و ألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها. ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء و شقّ الأرجاء، و سكائك الهواء فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره، متراكما زخّاره. حمله على متن الرّيح العاصفة، و الزّعزع القاصفة فأمرها بردّه و سلّطها على شدّه، و قرنها إلى حدّه الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها و أدام مربّها، و أعصف مجراها، و أبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار، و اثارة موج البحار، فمخضته مخض السّقاء، و عصفت به عصفها بالفضاء. تردّ أوّله إلى آخره، و ساجيه إلى مائره حتّى عبّ عبابه. و رمى بالزّبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق و جوّ منفهق، فسوّى منه سبع سموات، جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا و عليا هنّ سقفا محفوظا، و سمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها، و لا دسار ينظمها ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، و ضياء الثّواقب، و أجرى فيها سراجا مستطيرا و قمرا منيرا: فى فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم مائر. ثمّ فتق ما بين السّموات العلا، فملأهنّ أطوارا من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون، و صافّون لا يتزايلون، و مسبّحون لا يسأمون.
ص: 63
لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النّسيان. و منهم أمناء على وحيه، و ألسنة إلى رسله، و مختلفون بقضائه و أمره، و منهم الحفظة لعباده، و السّدنة لأبواب جنانه و منهم الثّابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم، و المارقة من السّماء العليا أعناقهم. و الخارجة من الأقطار أركانهم، و المناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم متلفّعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة، و أستار القدرة. لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين، و لا - يحدّونه بالأماكن، و لا يشيرون إليه بالنّظائر.
أقول:
انشاؤه الخلق و ابتداؤه ايّاه ايجاده له على غير مثال سبق من غيره.
و قوله: بلا رويّة أجالها، الى قوله: اضطرب فيها. تنزيه لعلمه تعالى و افعاله عن كيفيّات علوم الناس و شرائط افعالهم، و الرويّة الفكر، و اجالتها تقلّبها في طلب أصلح الاراء و الوجوه فيما يقصد من المطالب، و التجربة مشاهدات من الانسان تتكرر فيستفيد عقله منها علما كليا، و الهمامة الاهتمام بالأمر، و برهان امتناع هذه الكيفيات على علومه تعالى و افعاله، امّا الرويّة و التجربة فلكونها من خوّاص الانسان و بواسطة آلات جسمانية ممتنع عليه تعالى، و كذلك الحركة من عوارض الجسمية.
و امّا الهمّة فلكونها عبارة عن الميل النفساني الحازم الى فعل الشيء مع التألّم و الغمّ بسبب تصوّر فقده، و ذلك في حق اللّه تعالى محال(1).
و قوله: أجال الاشياء لأوقاتها، اى: ادار كل ذي وقت الى وقته، و ربطه به دون ما قبله و ما بعده من الاوقات، و كتبه في لوحه المحفوظ و علمه المبين، و اللام في لاوقاتها للتعليل اذ كان كل وقت يستحق بحسب علم اللّه و حكمته ان يكون فيه ما ليس في غيره، و روى احال بالحاء، اى: حوّل كلاّ الى وقته، و روى اجّل أي: جعلها ذات آجال لا يتقدّم عليها و لا يتأخّر عنها.
و قوله: و لائم بين مختلفاتها: تنبيه على كمال قدرته تعالى، و الملائمة الجمع و
ص: 64
ذلك كجمعه في الامزجة بين العناصر الأربعة على اختلافها و تضادّها، و بين الأرواح اللّطيفة و النّفوس المجرّدة، و بين هذه الأبدان المظلمة الكثيفة على وفق حكمته و كمال قدرته.
و قوله: و غرز غرائزها، اى: اثبتها فيها و ركزها، و غريزة كل شيء طبيعته و خلقه و ما جبل عليه من خاصة او لازم كالتعجّب و الضّحك للانسان، و الشّجاعة للأسد، و الجبن للأرنب، و المكر للثعلب.
و قوله: و ألزمها اشباحها، اى: اشخاصها اذ كانت كل طبيعة كلية انّما توجد في شخص، و روى اسناخها، و السنخ الأصل اى: جعلها لازمة لأصلها و هى طبائع الموجودات و ماهيّاتها، و الضمير في قوله: و الزمها، عائد الى الغرائز و يجوز ان يعود الى الاشياء، و يكون المعنى انّه تعالى لما غرّز غرائز الاشياء ألزمها بعد كونها كلّية اشخاصها.
و قوله: عالما الى قوله: احنائها: فاحاطته بذلك علمه بما ينحلّ اليه ماهيّاتها من اجزائها و ينتهى به منها، و هى حدودها، أو بما ينتهى به و بحدّها من الأفعال و النّهايات(1)و قرائنها ما يقرن منها و يلائمها كالنفس للبدن، و بعض الطبائع لبعض الاشياء دون بعض، و احناؤها و نواحيها و جوانبهما، و بيان ذلك تبيان: انّه تعالى عالم بكلّ معلوم من الكلّيات و الجزئيات و قد بيّن ذلك في العلم الالهي.
و قوله: ثمّ انشأ، الى قوله: سبع سماوات:
كالتفصيل لخلق العالم و ابتدائه، و الأجواء: جمع جوّ و هو الفضاء الواسع، و الأرجاء جمع رجاء مقصور، و هو: الناحية، و السكائك: جمع سكاكة كذؤابة و ذوائب و هو:
الفضاء ما بين السماء و الأرض و الهواء: المكان الخالي.
و اعلم انّ خلاصة ما يفهم من هذا الفصل انّه قد كان قبل وجود العالم فضاء واسع، هو الخلأ في عرف المتكلّمين فأنشأ اللّه تعالى فيه احياز اجسام العالم، و فتقها اى: شقّها و اعدّها لخلق الأجسام و تكوينها فيها، ثم خلق ماء متلاطما تيّاره اى: متردّدا معظمه، و متراكما زخّاره اى: ممتل بعضه فوق بعض، فأجازه فيها اى: اجراه، و روى احاره اى:
ص: 65
اداره فيها، و خلق له ريحا عاصفا، زعزعا اى: شديدة تحمله و تحفظه من جميع جوانبه، متسلّطة على شدّه و ضبطه في مقارّه بمقتضى امره تعالى و قدرته، و جعلها مقرونة الى حدّه بحيث لا يتوسّط بينهما جسم آخر، فصار الماء من فوق الرّيح متدفّقا و الخلاء من تحته منفتقا واسعا ثم خلق سبحانه ريحا اخرى لتمويج ذلك الماء و تحريكه، فأرسلها و اعتقم مهبّها الى شدّ هبوبها و ضبطه، و أرسله بمقدار مخصوص على وفق الحكمة، و روى و اعقم مهبّها اى: جعل مجراها عقيما لا نبت به يعوقها عن الجريان او لشدّة جريانها، ثم ادام مربّها الى اقامتها و ملازمتها لتحريك الماء و اعصف جريها و أبعد مبدأ نشوها بحيث لا يمكن الوقوف عليه و هو قدرته تعالى، ثم أمرها بتصفيق ذلك الماء الزخار شديد الإمتلاء و إثارة امواجه، فمخّضته كمخّض السقاء و عصفت به كعصفها تردّ اوله على آخره، و ساجيه على مائره اى: ساكنه على متحرّكه، فلما عبّ عبابه اي: علا معظمه و رمى بالزبد ركامه اى متراكمه، رفع اللّه تعالى ذلك الزبد في هواء منفتق اى خلاء واسع، و كوّن منه السّماوات العلى.
و اعلم انّه قد أشير الى مثل ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى «ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ »(1) و المراد بخار الماء، و ذهب الى مثله بعض الحكماء القدماء و لفظ القرآن أيضا موافق لاشارته عليه السلام لأنّ الزبد ايضا بخار الماء، و هذا الظاهر لا ينافي كلام المتكلّمين في أنّ الاجسام مؤلّفة من الأجزاء الّتى لا تتجزّئ لجواز أن يخلق اللّه تعالى اوّل الاجسام من تلك الجواهر ثم يتكوّن باقى الأجسام عن الأجسام الأولى.
و امّا الحكماء فلما لم يكن الترتيب الذى اقتضته هذه الظّواهر في تكوين الاجسام موافقا لمقتضى ادلّتهم، لتأخّر وجود العناصر عندهم عن وجود السماوات، لا جرم احتاجوا الى تأويلها توفيقا بينها و بين رأيهم في دلك، و قد نبّهنا في «الشرح الكبير» على ما يصلح ان يكون تأويلا على قواعدهم، أو قريبا ممّا يصلح لذلك(2).
و قوله: و جعل سفلاهنّ ... الى قوله: بالنظاير.
كالتفسير لقوله، فسوّى لانّ التسوية عبارة عن التعديل و الوضع و الهيئة التي عليها
ص: 66
السماوات بما فيهنّ كما شرحه، و استعار لفظ الموج للسماء ملاحظة للمشابهة بينهما فى العلوّ و اللون، و مكفوفا ممنوعا من السقوط.
و قوله: و علياهنّ سقفا محفوظا، و السقف: اسم للسماء، و حفظه من الشياطين، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، و كانوا يتخبّرون أخبارها، فلمّا ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلث سماوات، فلما ولد محمّد عليه(1) السلام منعوا من السماوات كلّها، فما منهم احد استرق السمع الاّرمي بشهاب.
فذلك معنى قوله تعالى «وَ حَفِظْنٰاهٰا مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ إِلاّٰ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ » (2)الآية، و سمك البيت: سقفه، و قوله: بغير عمد، تنبيه على عظمة قدرة اللّه تعالى، و علوّها عن الحاجة في مثل هذا البنيان، و قيامه الى عمد، و تنزيه لها عن مماثلة القدر البشرية فى حاجتها الى ذلك فيما ينسب اليها، و الدسار، كالمسمار و نحوه، و انّما سميت الشهب ثواقب لانّها يثقب بنورها الهواء، و استعار لفظ السراج للشمس باعتبار إضاءتها لهذا العالم كإضاءة السّراج للبيت، و المستطير: المنتشز، و الرّقيم: من أسماء الفلك، سمّى به لرقمه بالكواكب كالثوب المنقوش، و اللوح المكتوب.
و اعلم أنّ مجموع هذه الاستعارات تستلزم تشبيه ملاحظة هذا العالم بأسره ببيت واحد في غاية الحسن و الزينة، فالسماء و هو سقفه كقبّة خضراء نصبت على الأرض، و حجب ذلك السقف عن مردة الشياطين كما يحمى عرف البيت من مردة اللصوص، و زيّن بترصيع الكواكب الثاقبة فهو كسقف من زمرّد رصّع باللّؤلؤ و المرجان، و جعل من جملتها كوكبين هما أعظم الكواكب جرما بحسب الرؤية و اكثرها إشراقا، جعل أحدهما ضياء النهار، و الآخر ضياء اللّيل، ثم جعل ذلك سقوفا و طبقات أسكن في كلّ طبقة منها ملأ من ملائكته، و خواصّ ملكه، و جعل تلك السقوف متحرّكة بما فيها من الكواكب كما أشار اليه بقوله: فى فلك دائر، الى قوله: مائر... و جعل حركاتها أسبابا معدّة لتلوّن الكائنات في هذا العالم ليكون أثره تعالى ابدع، و حكمته في خلقته ابلغ، و الضمير في قوله: و زيّنها، يعود الى السبع سماوات، و ذلك لا ينافي قوله تعالى: «وَ زَيَّنَّا»
ص: 67
«اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ » (1) فانّ السماء الدّنيا و إن لم يكن فيها الاّ القمر فانّ سائر الكواكب أيضا زينة لها في الأوهام البشرية التي ورد اكثر الخطاب الشرعىّ بحسبها.
و قوله: ثمّ فتق... الى قوله: العلىّ ، اشار الى تسوية السماوات اشارة جميلة فكانّه قدّر اوّلا خلقها كرة واحدة كما عليه بعض المفسّرين، كقوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا»(2) ثم أشار الى تفصيلها و تمييز بعضها من بعض بالفتق، و اسكان كلّ واحدة منهنّ ملأ من ملائكته، ثم الى تفصيل الملائكة و مراتبهم موافقة للقرآن الكريم، و الأطوار: الحالات المختلفة و الأنواع المتباينة، و ذكر منهم أنواعا و أشار بالسّجود و الرّكوع و الصّفّ و التّسبيح الى تفاوت مراتبهم في العبادة و الخضوع، لانّ اللّه تعالى خصّ كلاّ منهم بمرتبة معيّنة من الكمال في العلم، و القدرة، ليست لمن دونه، و كلّ من كانت نعمة اللّه عليه أكثر كانت عبادته أعلى و طاعته أوفى.
ثمّ إنّ السجود و الركوع و الصّفّ و التسبيح عبادات متعارفة بين الناس متفاوتة فى استلزام كمال الخضوع و الخشوع، و لا يمكن حملها في حقّ الملائكة على ظواهرها لاختصاص آلاتها ببعض الحيوان، فتعيّن حملها على غير ظواهرها، و الأشبه حمل المراتب المذكورة و تفاوتها على تفاوت كمالاتهم في الخضوع و الخشوع لكبرياء اللّه تعالى اطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.
فالسجود، مرتبة المقرّبين، و الركوع مرتبة حملة العرش، و الصّافون مرتبة الحافيّن من حول العرش، قيل: انّهم يقفون صفوفا لاداء العبادة كما حكى القرآن الكريم عنهم: «وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ » و «وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ »(3) و جاء في الخبر: انّ حول العرش سبعين ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، رافعين أصواتهم بالتكبير و التهليل، و من ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الايمان على الشمائل ما منهم أحد الاّ و هو يسبّح.
و المسبّحون، يحتمل أن يكون هم الصافّون لما مرّ و الواو و إن اقتضت المغايرة الاّ انّهم من حيث انّهم صافّون غيرهم من حيث انّهم مسبّحون، و يحتمل أن يريد نوعا آخر، و امّا
ص: 68
عدم غشيان النوم و السهو و الغفلة و النسيان و فترة الأبدان لهم، فانّ ذلك من لواحق الأجسام الحيوانية، و الملائكة منزّهون(1) عنها فلزم سلبها عنهم.
و امّا الامناء على وحيه، فيشبه أن يكونوا داخلين في الأقسام السابقة، و انّما ذكر - هم ثانيا باعتبار وصف الأمانة و اداء الرسالة، و القضاء هنا الأمر المقضىّ ، يقال: هذا قضاء اللّه اى: مقضيه، و امّا الحفظة فمنهم حفظة العباد كما قال تعالى: «وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً »(2).
قال ابن عباس: انّ مع كل إنسان ملكين، أحدهما على يمينه، و الآخر على يساره، فاذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها من على يمينه، و اذا تكلّم بسيّئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعلّه يتوب منها، فان لم يتب كتبت عليه.
و امّا السّدنة فهم خزّان الجنة، و قوله: و منهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، الى قوله: اكتفاهم.
فاعلم انّ الأوصاف هذه وردت في صفة الملائكة الحاملين للعرش في كثير من الأخبار، فيشبه ان يكونوا هم المقصودون بها هاهنا، روى عن ميسرة(3) انّه قال: أرجلهم فى الأرض السفلى، و رؤسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم، و هم أشدّ خوفا من أهل السّماء السابعة، و اهل السماء السابعة أشدّ خوفا من أهل السماء السادسة، و هكذا إلى سماء الدّنيا.
و عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه و آله و سلم: لما خلق اللّه تعالى حملة العرش، قال لهم: احملوا عرشي فلم يطيقوا، فقال لهم: قولوا: لا حول و «لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ »، فلما قالوا ذلك استقلّ فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقّر فكتب في قدم كلّ ملك منهم اسما من أسمائه فاستقرّت أقدامهم.
و قوله: المناسبة لقوائم العرش اكتافهم، يريد انّهم مشبّهون و مناسبون لقوائم
ص: 69
العرش في استقرارهم و ثباتهم عن التزايل من تحته أبدا الى «مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ »، و لفظ الأكتاف مجاز في القوى و القدر التي حملت الملائكة جرم العرش، و شبهها بقوائم العرش المعهود، و وجه الشبه إستقلالها بحمله كالقوائم، و الضّميران في أبصارهم و أجنحتهم راجعان الى العرش، و في الخبر عن وهب بن منبّه(1) قال: انّ لكلّ ملك من حملة العرش و من حوله أربعة اجنحة امّا جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر الى العرش فيصعق، و امّا جناحان فيهفو بهما ليس لهم كلام الاّ التسبيح و التحميد.
و كنّى عليه السلام، بنكّس أبصارهم: عن كمال خشيتهم للّه تعالى و اعترافهم بقصور أبصار عقولهم عن ادراك ما وراء كمالاتهم المقدّرة لهم و ضعفها عمّا لا يحتمله من أنوار اللّه و عظمته تعالى، و انّ شعاع أبصار ادراكهم منته واقف دون حجب عزّته.
و يحتمل أن يريد بلفظ الأجنحة قواهم و كمالاتهم التي يطيرون بها في بيداء جلال اللّه استعارة، و زيادة الاجنحة: كناية عن تفاوت مراتبهم في الكمال، و لمّا كان الطائر عند قبض جناحه كالمتلّفع اى: الملتحف به، احتمل ان يكون وصف التلفّع لهم استعارة لقصور قواهم، و قدرتهم المشبّهة للأجنحة و قبضها عن التعلّق بمعلومات اللّه و مقدوراته. و قوله: مضروبة... الى قوله: القدرة، اشارة الى قصور القوى البشرية عن إدراكهم عن الجسّمية و الجهة و قربهم من عزّة مبدعهم الاوّل. و قوله: و لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير: تنزيه لهم عن الادراكات الوهميّة و الخيالية لمبدعهم عزّ سلطانه، اذ الوهم انّما يتعلّق بالمحسوسات ذوات المقادير و الأحياز المنزّه قدسه تعالى عنها، و هم مبرّؤن عن الأوهام و الخيالات البشرية، و لذلك قوله: و لا يجرون عليه صفات المصنوعين الى آخره.
لانّ كل ذلك بقياس وهمىّ و محاكاة خيالية له بمصنوعاته المحتاجة الى الامكنة و لها نظائر و اشباه، و هم مبرّؤن عن الوهم و الخيال، و باللّه التوفيق.
الفصل الثالث منها في كيفية خلق آدم عليه(2) السلام، و في هذا الفصل فصلان
ص: 70
ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها، و عذبها و سبخها، تربة سنّها بالماء حتّى خلصت. و لاطها بالبلّة حتّى لزبت. فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول، و أعضاء و فصول: أجمدها حتّى استمسكت و أصلدها حتّى صلصلت لوقت معدود، و أمد معلوم، ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، و فكر يتصرّف بها، و جوارح يختدمها، و أدوات يقلّبها، و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل و الأذواق و المشامّ ، و الألوان و الاجناس، معجونا بطينة الألوان المختلفة، و الأشباه المؤتلفة، و الأضداد المتعادية و الأخلاط المتباينة، من الحرّ و البرد، و البلّة و الجمود، و استأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم، و عهد وصيّته إليهم، فى الإذعان بالسّجود له، و الخشوع لتكرمته، فقال سبحانه: «اُسْجُدُوا لِآدَمَ » فسجدوا إلاّ ابليس اعترته الحميّة و غلبت عليه الشّقوة، و تعزّز بخلقة النّار و استهون خلق الصّلصال، فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسّخطة، و استتماما للبلّية، و إنجازا للعدة، فقال «مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ » ثمّ أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشته، و آمن فيها محلّته، و حذّره إبليس و عداوته، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكّه، و العزيمة بوهنه، و استبدل بالجذل و جلا، و بالاغترار ندما ثمّ بسط اللّه سبحانه له في توبته، و لقّاه كلمة رحمته، و وعده المردّ إلى جنّته، و أهبطه إلى دار البليّة، و تناسل الذّرّيّة.
أقول:
إنّ هذه القصّة قد كرّرها اللّه سبحانه، فى كتابه العزيز في سبع سور، و هى: البقرة، و الأعراف، و الحجر، و بني اسرائيل، و الكهف، و طه، و ص، و ذلك لما تشتمل عليه من تذكير الخلق و تنبيههم من مراقد الطبيعة التي جذبهم اليها ابليس، و التحذير من فتنته، و حزن الأرض: خلاف السهل، و المسنون ما سنّ بالماء أى: ارسل عليه فصار طينا، و لزبت بالكسر: لصقت، و صلصلت: انتنت، و قيل صوّتت ليبسها، و لاطها بالبلّة: خلطها بالرطوبة، و جبل: خلق، و الأحناء: الجوانب، و الوصول المفاصل: جمع كثرة لوصل، و جمع القلّة: اوصال، و أصلدها اى: جعلها صلبة ملساء، و يختدمها: يستخدمها.
و اعلم انّقوله: لزبت، اشارة الى امتزاج العناصر، و خصّ الماء و الأرض لانّهما
ص: 71
الأصل في تكوين الأعضاء المشاهدة التي تدور عليها صورة الانسان، و نبّه باختلاف أجزائها على كون ذلك مبادى اختلاف الناس في ألوانهم، و أخلاقهم، كما ورد في الخبر فجاء منهم الأسود و الأحمر.
و قوله: خلصت، و لزبت: اشارة الى بلوغها في الاستعداد الغاية التي معها تكون صورة ما يتكوّن منها. و قوله: فجبل، الى قوله: استمسكت، اشارة الى خلق الصورة الانسانية بتمامها، و الضمير في «منها» راجع الى التربة، و في أجمدها، و أصلدها، راجعان الى الصورة و أعضائها، فالأجماد لغاية الاستمساك، راجع الى بعضها كاللّحم و الأعصاب و أشباههما، و الأصلاد لغايته راجع الى بعض آخر كالعظام، و اسند ذلك الى المدبّر الحكيم، لانّه العلّة الأولى و ان كانت هناك أسباب قريبة طبيعية معدّة لذلك.
و أراد بالوقت المعلوم، الوقت الذى يعلم اللّه تعالى انحلال هذا التركيب فيه، و الضمير في قوله: فيها، راجع الى الصورة كما قال اللّه تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» (1)و استعار وصف النفخ لافاضة النفس على البدن و اشتعال نورها المعقول فيه كما يشعل النار نافخها، و الروح يحتمل أن يراد به جبريل، و نسبته الى اللّه ظاهرة،: و يحتمل أن يراد به وجود اللّه، و نعمته، و انّما يسمّى روحا لانّه مبدأ كلّ حياة و به قوام كل شيء، و نسبته الى اللّه ظاهرة، و من للتبعيض و يحتمل أن يراد به النفس الإنسانية و يكون من زائدة، و نسبت الى اللّه لشرفها و بدائها عن المواد فلها مناسبة مع علّتها الاولى.
و قوله: ذا اذهان، اشارة الى: القوى الباطنية المدركة، و اجالتها: تحريكها فى المدركات، و كذلك قوله: و فكر يتصرّف بها، و لم يرد القوّة المفكرة فإنّها في الانسان واحدة، بل اراد حركات تلك القوة فيما يتصرّف فيه و هى متعدّدة فلذلك جمعها، و الجوارح اشارة الى: عامة الأعضاء اذ كانت كلّها خدما للنفس، و الأدوات كاليد، و الرجل، و المعرفة التي يفرّق بها هى: قوّة العقل بما لها من المعارف الأولى و هى البديهيّات اذ كان الحقّ و الباطل من الأمور الكلّية التي لا يدركها الاّ العقل، و قوله:
و الأذواق، الى قوله: و الأجناس: تنبيه على انّ للانسان آلات يدرك بكلّ منها واحدة من هذه الأربعة، و اخّر الأجناس لانّ المدرك لها هو العقل اذ كانت أمورا كليّة لكن بواسطة
ص: 72
احساس الحواسّ المشار اليها بمحسوساتها، و نصب معجونا على الحال، و طينة الألوان مادّتها التي خالطت بدن(1) الانسان فاستعدّ بها لقبول الألوان المختلفة و هى معنى: عجنها بها.
و الأشباه المؤتلفة كالعظام و الأسنان، و الأضداد المتعادية كالكيفيّات الأربع التي ذكرها، و هى الحرارة، و البرودة، و البلّة و هي: الرطوبة، و الجمود و هى: اليبوسة، و الأخلاط المتباينة هى: الدّم، و البلغم، و الصفراء، و السوداء.
و امّا المسأة و السرور فهما من الكيفيّات النفسانيّة، و امّا عهد اللّه الى الملائكة و وصيّته اليهم فهو قوله تعالى: «فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ » (2)و الاستيذاء ذلك منهم هو قوله بعد خلقه: «اُسْجُدُوا لِآدَمَ » و اتّفق الناس على انّ سجودهم لآدم لم يكن سجود عبادة لانّها لغير اللّه كفر، لكن قال بعضهم: انّ آدم كان كالقبلة و السجود للّه، و تكون اللام كهى في قول الشاعر في حقّ عليّ عليه(3) السلام: أ ليس أوّل من صلّى لقبلتكم(4).
و قيل: كان السجود تعظيما لآدم، و كان ذلك سنّة الامم السّالفة في تعظيم أكابرها، و قيل: بل السجود في اللغة: الخضوع و الانقياد، ثمّ اختلفوا في المأمورين بالسجود، فقيل: هم الملائكة الذين اهبطوا مع ابليس لانّ اللّه لما خلق السموات و الأرض و خلق الملائكة أهبط منهم ملأ الى الارض يسمّون بالجنّ كانوا أخفّ الملائكة عبادة،
ص: 73
فأعجب إبليس بنفسه و تداخله الكبر، و اطّلع اللّه تعالى على ذلك فقال له و لجنده: ««إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ »» الآية.
و قيل: هم كل الملائكة لقوله تعالى: «كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ »، و كذلك اختلفوا في ابليس فقالت المعتزلة: انّه لم يكن من الملائكة لقوله تعالى: «كٰانَ مِنَ اَلْجِنِّ » و هم ليسوا من الملائكة لقوله تعالى: «أَ هٰؤُلاٰءِ إِيّٰاكُمْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ »، و قول الملائكة: «بَلْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ ».
و أقول: يشبه ان يكون الخلاف لفظيا لانّه اذا ثبت انّ الجنّ ملائكة اهبطوا الى الأرض لم يكن بين كونه من الجنّ ، و كونه من الملائكة منافاة، و امّا الخطاب و الجواب فجاز ان يكون مع الملائكة السماويّة.
و قوله: الاّ ابليس و قبيله، الى قوله: الصلصال، فقبيله: جماعته من الجنّ و الشياطين، و اعترتهم الحميّة و غشيتهم، و ذلك من قوله تعالى: «إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ وَ اِسْتَكْبَرَ» الآية، و تعزّزهم بخلقة النار قوله: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ» و استضعافهم لخلق الصلصال، كقوله: «لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصٰالٍ » و اعطاؤه النظرة هو قوله تعالى:
«إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ »، و النظرة بكسر الظاء: الامهال، و هنا حذف تقديره، فسأل النظرة فأعطاه ذلك في قوله: «قٰالَ أَنْظِرْنِي» الآية، و قوله: استحقاقا للسخطة اشارة الى قوله تعالى: «وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ » الآية، و انجاز العدّة كقوله تعالى:
«إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ » الآية. و الخلف في خبر اللّه تعالى محال. و استتماما للبليّة اى: بليّة بنى آدم به و اختبارهم بعصيانه او طاعته. و اسكان آدم، الى قوله: محلّته، كقوله تعالى:
ف «قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ » الى قوله: «شِئْتُمٰا». و الدار: الجنّة. و تحذيره ايّاه كقوله تعالى: «فَقُلْنٰا يٰا آدَمُ إِنَّ هٰذٰا عَدُوٌّ لَكَ » الى قوله: «فَتَشْقىٰ » و قوله: فاغترّه، الى قوله: الأبرار كقوله تعالى: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ » الآية، و الوسوسة: القاء ما يتوهّم نافعا الى النفس مما يخالف او امر اللّه تعالى، و تزيينه لها ذلك، و قيل: فى سبب عداوته له انّه الحسد بما اكرمه اللّه تعالى به من اسجاد الملائكة له، و تعليمه ما لم يطّلعوا عليه و اسكانه الجنّة، و هو المشار اليه بالنفاسة هنا، و اصل النفاسة: البخل، يقال: نفست عليه بكذا اى: بخلت، و قيل: السبب تباين اصليهما و لذلك اثر قوىّ في العداوة و المجانبة، و بيعه اليقين بشكه،
ص: 74
و العزيمة بوهنه، كقوله: «فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» قيل: و معنى ذلك انّ آدم كان فى الجنة على حال يعلمها يقينا و ما كان يعلم عيشه في الدنيا فبدّل ذلك اليقين بما شكّكه فيه ابليس بقسمه. و قوله «إِنِّي لَكُمٰا لَمِنَ اَلنّٰاصِحِينَ » و قيل: بل كان يتيقّن عداوته فشكّكه في ذلك بما حكاه من النّصح عن نفسه. و قيل: بل كان يتيقّن عهد اللّه اليه بملازمة طاعته و امره، فلمّا وسوس له الشيطان نسى ذلك العهد فذلك قوله تعالى: «وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ » الآية. و كذلك بدّل عزيمته الجازمة على المحافظة على طاعة اللّه، و الصّبر عليها بالضعف عن ذلك و استبداله بالجذل و هو السرور وجلا كما دلّ عليه بقوله تعالى: «قٰالاٰ رَبَّنٰا»، الى قوله: «اَلْخٰاسِرِينَ » و قوله: ثمّ بسط اللّه، الى قوله: رحمته كقوله تعالى: «فَتَلَقّٰى آدَمُ » الآية. و لقّاه ايّاها افاضها عليه و الهمه ايّاها و استعدّ(1) بها لقبوله رحمة اللّه.
و روى عن ابن عباس انّه قال: علّم اللّه آدم و حوّاء امر الحجّ ، و الكلمات التي تقال فيه، فحجّا، فلما فرغا اوحى اللّه اليهما انّى قبلت توبتكما.
و عن عائشة: لما اراد اللّه تعالى ان يتوب على آدم طاف بالبيت سبعا، و البيت يومئذ ربوة حمراء فلمّا صلّى ركعتين استقبل البيت و قال: اللّهمّ انّك تعلم سرّى و علانيتى فاقبل معذرتى، و تعلم حاجتى فاعطنى سؤلى، و تعلم ما في نفسى فاغفر لي ذنوبى، اللّهم انّى أسألك ايمانا تباشر به قلبى، و يقينا صادقا حتى اعلم انّه لن يصيبني الاّ ما كتبت لي، و ارضني بما قسمت لى، فأوحى اللّه اليه: يا آدم قد غفرت لك ذنبك و لن يأتيني احد من ذرّيتك يدعوني بمثل ما دعوتنى به الاّ غفرت ذنوبه، و كشفت همومه، و نزعت الفقر من بين عينيه، و جاءته الدنيا و هو لا يريدها.
و وعده المردّ الى جنّته لقوله تعالى «فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »(2) الآية. و اهباطه الى دار البليّة و تناسل الذريّة فاستبدل بالجذل وجلا و بالاغترار ندما، ثم اناب الى اللّه فبسط له الى آخره، و انّما جعل تناسل الذريّة في معرض ذمّ الحال و ان كان من كمالات الدنيا لحقارة ذلك بالنسبة الى الكمال، و الخير الّذى كان فيه آدم في الجنة.
ص: 75
قوله:
و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم، و على تبليغ الرّسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم فجهلوا حقّه و اتّخذوا الأنداد معه و اجتالتهم الشّياطين عن معرفته و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسىّ نعمته، و يحتجّوا عليهم بالتّبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول و يروهم الآيات المقدّرة: من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع، و معايش تحييهم و آجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم، و أحداث تتابع عليهم، و لم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل، او كتاب منزل، أو حجّة لازمة، أو محجّة قائمة: رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم، و لا كثرة المكذّبين لهم: من سابق سمّى له من بعده، أو غابر عرّفه من قبله: على ذلك نسلت القرون، و مضت الدّهور، و سلفت الآباء و خلفت الأبناء، إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لإنجاز عدته، و تمام نبوّته، مأخوذا على النّبيّين ميثاقه، مشهورة سماته كريما ميلاده. و أهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة، و أهواء منتشرة و طوائف متشتّته، بين مشبّه للّه بخلقه أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضّلالة، و أنقذهم بمكانه من الجهالة. ثمّ اختار سبحانه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله لقاءه، و رضى له ما عنده، و أكرمه عن دار الدّنيا، و رغب به عن مقارنة البلوى، فقبضه إليه كريما صلّى اللّه عليه و آله و خلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها - إذ لم يتركوهم هملا: بغير طريق واضح، و لا علم قائم: كتاب ربّكم فيكم: مبيّنا حلاله و حرامه، و فرائضه و فضائله، و ناسخه و منسوخه، و رخصه و عزائمه، و خاصّه و عامّه، و عبره و أمثاله، و مرسله و محدوده، و محكمه و متشابهه، مفسّرا مجمله، و مبيّنا غوامضه، بين مأخوذ ميثاق في علمه، و موسّع على العباد في جهله. و بين مثبت فى الكتاب فرضه و معلوم في السّنّة نسخه، و واجب في السّنّة أخذه، و مرخّص في الكتاب تركه، و بين واجب بوقته، و زائل في مستقبله. و مباين بين محارمه: من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه. و بين مقبول في أدناه، موسّع في أقصاه.
ص: 76
أقول:
الضمير في ولده راجع الى آدم عليه السلام، و اصطفاؤه تعالى للانبياء اعدادهم لافاضة الكمال النبوىّ عليهم، و اخذه على الوحى ميثاقهم هو المشار اليه بقوله «وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثٰاقَهُمْ » و قوله «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلنَّبِيِّينَ » الآية، و قوله: لما بدّل تنبيه(1) على وجه الحكمة في بعثة الانبياء و سببها، و عهد اللّه الذى بدّلوه هو المشار اليه بقوله: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » الآية.
قال ابن عباس: لمّا خلق اللّه آدم مسح على ظهره فاخرج منه كل نسمة هو خالقها الى يوم القيامة، فقال: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ » فنودى يومئذ: جفّ القلم بما هو كائن الى يوم القيامة.
و اعلم انّه لما كان الانسان تمام العالم(2) في الوجود الخارجىّ فكذلك في التقدير الالهى المطابق له، و لذلك كان به تمام التقدير و جفاف القلم، و لمّا كان من شأن الخلق بحسب ما ركب فيهم من القوى البدنيّة المتنازعة الى كمالاتها ان ينحرفوا عن الاستقامة الى عهد اللّه و يتّخذوا الانداد معه، و يجهلوا حقّه للغفلة بحاضر لذّاتهم عن دوام شكره، و ان يحتالهم الشياطين اى: يقتطعهم عن معرفته لا جرم وجب في الحكمة الالهية ان يختص صنفا منهم بكمال اشرف يقتدر معه امناء ذلك الصنف على تكميل الناقصين ممن دونهم، و هم صنف الانبياء عليهم السلام و الغاية منهم ما اشار اليه عليه السلام بقوله: ليستأدوهم ميثاق فطرته اى: يطلبون منهم اداء ما عهد اليهم به حين خلقهم من العبودية و الاستقامة عليها و يذكّرهم ما نسوه من نعمته و يحتجّوا عليهم بتبليغ الرسالات و يثيروا لهم جواهر الادلّة على وحدانيّته تعالى و تفرّده باستحقاق العبادة فما هو مركوز في فطرتهم و في قوّتها(3) علمه كالمدفون فيها و المغطّى بشوائب الهيآت البدنية و قوله: يرشدوهم الى وجوهها، ليستدلّوا بما يشاهدونه من الحكمة في خلق السموات و الارض و امر معاشهم و اسباب حياتهم و موتهم مما عدّوه. و قوله: و لم يخل اللّه الى قوله:
ص: 77
و خلقت الانبياء، اشارة الى: بيان عنايته بالخلق في تواتر الرسل اليهم لغاية جذبهم الى جناب عزّته، كقوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّٰ خَلاٰ فِيهٰا نَذِيرٌ»(1) ثمّ من لطفه تعالى انّه لما كان من ضرورة النبىّ ان يموت و لا يمتدّ زمانه، انزل عليه كتابا يكون باقيا بعده «مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ »، يكون مشتملا على كلّ المطالب و المصالح الناظمة لهذا العالم بحيث لو كان النبي عليه السلام موجودا لم يزد على ما تضمّنه من الدعاء فيه الى عبادته تعالى و تذكير الخلق منسى عهده، و قصص اخبار الماضين و العبر اللاحقة للاوّلين، و فيه الحجج البالغة و الدلائل القاطعة و غير القاطعة مما يصلح العباد في امر المعاش و المعاد، و معنى قوله:
أرسل الى قوله: لهم انّهم، و ان كانوا قليلى العدد بالنسبة الى كثرة الخلق المكذّبين لهم كما هو المعلوم من حال كلّ نبىّ بعث الى امة، فانّ ذلك لا يولّيهم قصورا عن اداء ما كلفّوا من تبليغ الرسالة و حمل الخلق على ما(2) يكرهون مما هو مصلحة لهم، و «من» فى قوله:
من سابق (3) للتبيين، و المراد انّ السابق منهم قد أطلعه اللّه تعالى على العلم بوجود الّلاحق له، فبعضهم كالمقدّمة لوجود البعض و تصديقه، كعيسى عليه السلام اذ قال: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ »(4) الآية و من لاحق سمّاه من قبله كمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.
و قوله: و على ذلك، اى: الاسلوب و النّظام الالهى مضت الامم خلفا عن سلف، و قد ساق عليه السلام في هذه الخطبة من لدن آدم الى ان انتهى الى بعثة محمد عليه السلام، اذ هو الغاية من طينة النبوّة و خاتم النّبيين. ثم اشار الى بعض غايات بعثته و هى انجاز عدته لخلقه ببعثته على ألسنة الرسل السابقين، و اتمام نبوته لغايتها، و مأخوذا على النبيّين ميثاقه حال و ذلك الاخذ هو المشار اليه، بقوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلنَّبِيِّينَ » (5)الى قوله «ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ »(6) و سماته علامات نبوّته فانّها كانت ظاهرة في الميثاق، و في احوال تعرفها الرهبان و الكهّان و علماء اهل الكتاب، و كرم
ص: 78
ميلاده طهارة أصله عن الفساد، و نبّه على فضل بعثته بذكر احوال الناس حين البعثة من اختلاف الاراء، و تشتّت الاهواء، و تفرّق الاديان و المذاهب بين من عليه اسم الملّة، و هم المذاهب الثلاثة و بين غيرهم من عبدة الاصنام و المعطّلة و قد نبّهنا على اصناف منهم فى الاصل، و المشبّهة: بقية اصحاب الملل.
فانّ الغالب عليهم التجسيم، و تشبيه الصانع ببعض مصنوعاته، و الملحد في اسمه من عدل باسمائه عن الحقّ بتحريفها عمّا هو عليه الى اسماء اشتقّوها لأوثانهم منها:
كاللات من اللّه، و العزّى من العزيز، و مناة من المنّان، و المشير الى غيره كالدهريّة و غيرهم من عبدة الأوثان و الكواكب.
و قوله: و خلّف فيكم، الى قوله: قائم، و ذلك انّه لما كان النّبى ليس مما يتكوّن وجوده مثله في كل وقت وجب ان يشرّع للناس بعده من أمورهم سنّة باقية باذن اللّه، و امره و وحيه، و الغاية من ذلك هو استمرار الخلق على معرفة الصانع و دوام ذكره، و ذكر المعاد مع انقراض القرن الذى يلي النّبى و من بعده مع ما وجب ان يأتيهم به من الكتاب من عند اللّه الوافى لجميع المطالب الالهية و لا بدّ ان يعظّم أمره، و يسنّ على الخلق دراسته و تعليمه ليدوم به التذكّر للّه سبحانه، و الملأ الأعلى من ملائكته، و اشرف الكتب المنزلة، و السّنن ما خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في امّته من الكتاب العزيز و سنّته الكريمة كما تحقّق ذلك العلماء العارفون بأسرار الكتب الالهية و النّواميس الشرعية.
و لفظ العلم: مستعار لما يهتدى به الخلق من قوانين الشرائع. و قوله: كتاب ربكم:
بدل من ما، و المراد «بما» نوع ما خلّفت الانبياء في اممها من الحقّ و ذلك هو ما يشتمل عليه الكتاب مما لا يخالف فيه نبّى نبيا من القوانين الكليّة، كالتوحيد، و أمر المعاد، و تحريم الكبائر، و مبيّنا نصب على الحال عن خلّف، و ذو الحال ضمير للنبىّ صلى اللّه عليه و آله. و قوله: حلاله، الى آخره: تفصيل لما اشتمل عليه الكتاب من القوانين الكليّة التي عليها مدار اصول الفقه، فمنها الاحكام الخمسة الشرعية. و اشار بحلاله: الى المباح و المكروه منها. و بحرامه: الى المحظور، و بفضائله: الى المندوب، و بفرائضه:
الى الواجب، و منها الناسخ و المنسوخ، و النسخ عبارة عن: رفع، مثل الحكم الثابت بالنّص المتقدّم بحكم آخر مثله. فالناسخ هو: الحكم الرافع و المنسوخ هو: الحكم المرفوع و هما
ص: 79
في الكتاب العزيز كقوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً»(1) الى قوله «وَ عَشْراً» فانّه ناسخ لقوله تعالى: «مَتٰاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ »(2).
و منها رخصه و عزائمه، و الرخصة عبارة عن: الاذن في الفعل مع قيام السبب المحرّم له لضرورة لقوله تعالى: «فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ» (3)و العزيمة ما كان من الاحكام الشرعية جاريا على وفق سببه الشرعى كقوله تعالى: «وَ أَقِيمُوا»(4) و منها عامّة و خاصّة، و العام هو اللفظ المستغرق بوضعه الواحد لجميع ما يصلح له، كقوله تعالى: «فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ »(5) و الخاص هو: ما لم يتناول الجميع بالنسبة الى ما تناوله، كقوله: «إِلاّٰ إِبْلِيسَ »، و منه عبرة، و العبرة: الاسم من الاعتبار و اشتقاقها من العبور لانّ ذهن الانسان ينتقل فيها من امر الى امر، و هى كما ورد فيه من قصص الاوّلين بالمصائب النازلة بهم التي تنقل ذهن الانسان باعتبارها الى تقديرها في نفسه و حاله، فيحصل بذلك انزجاره و رجوعه الى اللّه، كقوله تعالى: «فَأَخَذَهُ اَللّٰهُ نَكٰالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولىٰ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ »(6) و نحوه.
و منها امثلة(7) و هى كقوله تعالى «إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ »(8) الآية. و منها المرسل و المحدود، و هما في عرف اصول الفقه المطلق و المقيّد، مثال المطلق قوله تعالى في كفارة الظهار: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا»(9) و المقيد كقوله: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ »(10) و قد ذكرنا الفرق بين المطلق و العام في الأصل.
ص: 80
و منها محكمة و متشابهة، و المحكم في الاصطلاح العلمى هو: راجح الافادة لاحد مفهوماته المحتملة للارادة منه من دون قرينة. فمنه النّص و هو: الراجح المانع من النقيص كقوله تعالى: «وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » و منه الظاهر و هو: الراجح غير المانع من النقيص كقوله تعالى: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ » فانّه ظاهر العموم في جميعهم و ان احتمل بعضهم، و يقابله المتشابه و هو غير راجح الافادة لاحد مفهوماته، فمنه المجمل و هو غير راجح الافادة لاحدها و لا مرجوحها(1) كقوله تعالى «ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ » فانّه محتمل للحيض و الطهر على سواء. و منه المتأوّل و هو: غير راجح الافادة لكنّه مرجوحها كقوله تعالى: «بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ » اذ المراد غير ظاهره، و هو المراد بالمبين اذ بيّن بغير لفظه، و التفسير هو:
التبيين، و الغوامض: دقائق المسائل، و نسب بيان هذه الامور الى الرسول عليه(2) السلام لكونه هو الموضح لها بسنّته.
و قوله: بين مأخوذ الى آخره، تفصيل لاحكام الكتاب باعتبار آخر و ذكر منها اقساما:
احداها، ما أخذ على الخلق ميثاق تعلّمه و لم يوسّع لهم في جهله، كوحدانية الصانع في قوله تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » و قوله: «وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ».
و ثانيها، ما لا يتعيّن على الكافة العلم به، بل يعذر بعضهم في جهله كالآيات المتشابهات، و اوائل السور كقوله: «كهيعص» و «يس».
و ثالثها، ما هو مثبت في الكتاب فرضه، معلوم في السنّة نسخه كقوله تعالى:
«وَ اَللاّٰتِي يَأْتِينَ اَلْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ » الى قوله: «سَبِيلاً»(3) فكانت الثّيب اذا زنت في بدو الاسلام تمسك في البيوت(4) الى الممات، و البكر تؤذى بالكلام و نحوه بمقتضى هاتين الآيتين، ثم نسخ ذلك في حقّ الثيب بالرجم، و في حق البكر بالجلد و التعذيب بحكم السنّة.
ص: 81
و رابعها، ما هو مثبت في السنّة أخذه مأذون في الكتاب في تركه(1) كالتوجّه الى بيت المقدس في اوّل الاسلام بحكم السنّة ثم نسخ بقوله تعالى: «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ » الآية.
و خامسها، ما يجب لوقته، و يزول في مستقبله كواجب الحجّ .
و قوله: و مباين بين محارمه عطف على المجرورات السابقة، و المحارم محالّ حكم الحرمة اى: و حكم مباين بيّن محالّه اى: مفروق بينها بالشدّة و الضعف و الوعيد على بعضها، و الغفران لبعضها، و قوله: من كبير: تفصيل لها و ما اوعد عليه نيرانه كالقتل في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً» الآية، و الصّغير: الذى ارصد له غفرانه.
قال الفقهاء: كالتطفيف بالحبّة و سائر الصغائر و ارصاد الغفران لها في الكتاب العزيز كقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَلىٰ ظُلْمِهِمْ » و نحوه من آيات وعده بالمغفرة(2).
و فرض عليكم حجّ بيته الحرام، الّذى جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، و يألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، و إذعانهم لعزّته، و اختار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته، و صدّقوا كلمته، و وقفوا مواقف أنبيائه، و تشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه: يحرزون الأرباح في متجر عبادته، و يتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه و تعالى للإسلام علما، و للعائذين حرما، فرض حجّه، و أوجب حقّه، و كتب عليكم وفادته فقال سبحانه: «وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ ».
اقول:
أشار في هذا الفصل الى وجوب حجّ البيت الحرام و منّة اللّه تعالى على خلقه
ص: 82
بذلك، و الى بعض اسرار وضعه، و الحرام: إمّا بمعنى المحرّم كقوله تعالى: «عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ » فانّ العرب كانت تحرّم فيه ما تستحلّ في غيره من القتل، و القتال، و امّا بمعنى الحرم كزمان و زمن، لكونه آمنا لمن دخله و مانعا له، و وجه شبه ورود الناس له بورود الانعام ازدحامهم عليه و محبّتهم له كازدحام الابل العطاش على الماء.
و قوله: و يألهون اليه، أى يشتدّ وجدهم به في كل عام، و يشتاقون الى وروده كما يشتاق الحمام الساكن به اليه عند خروجه، و منه قوله: جعله الى قوله: لعزّته، و ذلك انّ العقل لمّا لم يكن ليهتدى الى اسرار اعمال الحجّ لم يكن الباعث عليها في اكثر الخلق الاّ الامر المجرّد، و قصد امتثاله من حيث هو واجب الاتبّاع فقط و فيه كمال الرقّ و خلوص الانقياد للّه، فمن فعل ما أمر به من اعمال الحج كذلك فهو المخلص الذى ظهرت عليه علامات المخلص المتواضع المذعن لجلال اللّه ربّ العالمين.
و لمّا كان تعالى عالم الغيب و الشهادة لم يمكن أن يقال انّ تلك العلامة مما يستفيد بها علما بأحوال عبيده من طاعتهم و معصيتهم، فهى علامة لغيرهم من الناس، و قوله: و اختار، الى قوله: دعوته، فالسمّاع: جمع سامع و هم الحاجّ (1) في قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ » و في الخبر انّ ابراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء البيت جاءه جبريل عليه السلام فأمره أن يؤذّن في الناس بالحجّ ، فقال ابراهيم: و ما يبلغ صوتى، قال اللّه: اذّن و عليّ البلاغ، فعلا ابراهيم المقام، و اشرف به، حتى صار كاطول الجبال، و اقبل بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و نادى يا ايّها الناس كتب عليكم الحجّ الى البيت العتيق فاجيبوا ربّكم، فأجابه من كان في اصلاب الرجال، و ارحام النساء: لبّيك اللّهم لبّيك... و فيه اشارات لطيفة نبّهنا عليها في الأصل(2).
منها انّ اجابة من كان في الأصلاب و الأرحام اشارة الى ما كتب بقلم القضاء فى اللوح المحفوظ من طاعة المطيع لهذه الدعوة على لسان ابراهيم عليه السلام، و من بعده من الانبياء و هم المراد بالسماع الذين اجابوا دعوته لحجّهم و صدّقوا ما بلّغه عن ربّه تعالى، و في قوله: وقفوا مواقف انبيائه، و شبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، استدراج حسن للطباع
ص: 83
اللطيفة و جذب لها الى هذه العبادة بذكر التشبيه بالأنبياء و الملائكة.
و اعلم انّ الطواف المطلوب هو طواف القلب بحضرة الربوبية، و انّ البيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك الحضرة التي هى عالم الغيب، كما انّ الانسان الظاهر في هذا العالم مثال للانسان الباطن الّذى لا يشاهد بالبصر و هو في عالم الغيب، و انّ عالم الشهادة مرقاة و مدرج الى عالم الغيب لمن فتح له باب الرحمة، و الى هذه الموازنة وقعت الاشارة النبوية، فانّ البيت المعمور في السماء بازاء الكعبة و انّ طواف الملائكة به كطواف الانس بهذا البيت، و لك ان تسمىّ ذلك البيت و الحضرة المقدّسة بالعرش و لما قصرت مرتبة اكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف امروا بالتشبّه بهم بحسب الامكان، و وعدوا بانّ من تشبّه بقوم فهو منهم، و كثيرا ما يزداد ذلك التشبّه الى ان يصير المتشبّه في قوّة المشبّه به، و الذى يبلغ تلك المرتبة فهو الّذى يقال انّ الكعبة تزوره و تطوف به على ما رواه بعض المكاشفين لبعض اولياء اللّه.
و قوله: يحرزون، الى قوله: مغفرته... استعارة لفظ المتجر للحركات في العبادة، و لفظ الارباح لثمرتها في الآخرة من كرامة اللّه.
و لمّا كان الاسلام و الحق هو الطريق الى اللّه تعالى استعار لفظ العلم للحجّ بالنسبة اليه، لانّ به يكون سلوك طريق اللّه، القبلة في الاسلام كالعلم للطريق، و الوفادة القدوم للاسترفاد، و لفظه مستعار للحجّ لانّه قدوم الى بيت اللّه طلبا لفضله و ثوابه، و الآية لبيان سبب وجوبه و هى خبر في معنى الامر، و باللّه التوفيق.
أحمده استتماما لنعمته، و استسلاما لعزّته، و استعصاما من معصيته و أستعينه فاقة إلى كفايته، إنّه لا يضلّ من هداه، و لايئل من عاداه و لا يفتقر من كفاه، فإنّه أرجح ما وزن، و أفضل ما خزن. و أشهد «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » وحده لا شريك له، شهادة ممتحنا إخلاصها، معتقدا مصاصها نتمسّك بها أبدا ما أبقانا، و ندّخرها لأهاويل ما يلقانا، فإنّها عزيمة الايمان، و فاتحة الإحسان، و
ص: 84
مرضاة الرّحمن، و مدحرة الشّيطان. و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله بالدّين المشهور، و العلم المأثور و الكتاب المسطور، و النّور السّاطع، و الضّياء اللاّمع، و الأمر الصّادع، إزاحة للشّبهات، و احتجاجا بالبيّنات، و تحذيرا بالآيات، و تخويفا بالمثلات و النّاس في فتن انجذم فيها حبل الدّين، و تزعزعت سوارى اليقين، و اختلف النّجر، و تشتّت الأمر، و ضاق المخرج و عمى المصدر، فالهدى خامل، و العمى شامل: عصى الرّحمن، و نصر الشّيطان، و خذل الايمان، فانهارت دعائمه، و تنكّرت معالمه، و درست سبله، و عفت شركه: أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالكه، و وردوا مناهله، بهم سارت أعلامه و قام لواؤه، فى فتن داستهم بأخفافها، و وطئتهم بأظلافها، و قامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، فى خير دار، و شرّ جيران نومهم سهاد، و كحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم، و جاهلها مكرّم.
اقول:
جعل عليه السلام لحمده تعالى غايتين:
احداهما، الاستتمام لنعمته لاستعداد العبد بشكرها للمزيد منها.
الثانية، الاستسلام لعزّته و هو: الانقياد لها بكمال الحمد على النعمة و قوله تعالى:
«لَئِنْ شَكَرْتُمْ » الآية، برهان الاولى و فيه تنبيه على الثانية، و لما كانت هاتان الغايتان لا تمام لهما بدون عصمته عن ورطات المعاصى و المعونة بكفايته على الدواعى المهلكة، جعل طلب العصمة غاية اخرى هى الوسيلة الى الاوّلتين، و عقب ذلك الحمد بطلب المعونة منه على تمام الاستعداد لما طلب(1)، و اشار الى علّة تلك الاستعانة و هى الفاقة الى كفاية دواعى التفريط و الافراط بالجذبات الالهية.
و قوله: انّه لا يضلّ ، الى قوله: كفاه، تعليل لاستعانته على تحصيل الكفاية بكونها مانعة من دواعى طرفى التفريط و الافراط، فيستقيم العبد بها على سواء الصراط، و ذلك هدى اللّه الذى لا ضلال معه، و بكونها مانعة من الفقر الى غيره تعالى، و من معاداته
ص: 85
المستلزمة لعدم النجاة من عباده، و لفظ المعاداة مجاز فيما يلزمها من البعد عن الرحمة.
و لا يئل اى: لا ينجو. و قوله: فانّه ارجح، قيل: الضمير راجع الى ما دلّ عليه قوله احمده من المصدر على طريقة قولهم: من كذب كان شرّا له، و يحتمل ان يعود الى اللّه. و لفظا الخزن و الوزن: مستعاران لعرفانه، و المعقول منه الراجح في ميزان العقل على كلّ معلوم و المخزون في اسرار النفوس القدسية.
و قوله: فى الشهادة ممتحنا اخلاصها اى: مختبر نفسه في اخلاصها، و عرائها عن الشبهة و الشرك الخفىّ ، و مصاص الشيء: خالصه. و قوله: نتمسّك بها الى آخره، و مدحرة الشيطان اشارة الى: وجوب التمسّك بها. و الاهاويل: الامور المخوفة في الآخرة و علّل ذلك الوجوب بأوصاف أربعة.
و هى كونها عزيمة الايمان اى: عقيدته المطلوبة للّه من خلقه و ما زاد عليها كمال لها. ثمّ كونها فاتحة الاحسان اذ بها يستعدّ لاحسان اللّه في الدّارين ثمّ كونها مرضاة الرحمن اى: محلّ رضاه، ثم كونها مدحرة للشيطان اى: محل دحره و هو طرده و ابعاده، و ذلك انّ غاية الشيطان من الانسان الشرك باللّه، و الكلمة باخلاص تنفيه بأقسامه، و تبعد الشيطان عن مراده. و استعار لفظ العلم و النور و الضياء: لما جاء به الرسول عليه السلام من الكتاب و السنة لهداية الخلق به في ظلمات الجهل الى صراطه(1). و الامر الصادع الذى شقّ عصا المشركين و صدع صفاتهم. و قوله: ازاحة الى قوله: بالمثلات، اشارة الى: وجوه مقاصد البعثة فاهمّها ازاحة الشبهات عن قلوب الخلق، ثم الاحتجاج عليهم بالبيّنات الواضحة و المعجزات، ثم تحذيرهم بالآيات المنذرة و الجذب بها الى المطالب منهم، ثم تخويفهم بالمثلات: جمع مثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء، اى: العقوبات النازلة بالامم السالفة. و قوله: و الناس في فتن الى آخره، يشبه أن يكون كلاما ملتقطا جمعه السيّد على غير نظام، و الواو يحتمل ان يكون للحال و العامل ارسله، و الفتن المذكورة هى فتن العرب فى الجاهليّة و حال البعثة. و خير دار يعنى: مكة. و شرّ حيران يعنى: قريشا. و العالم الملجم: هو من كان عالما بصدق الرسول و بعثته فهو ملجم بلجام التقيّة و الخوف.
و الجاهل المكرم: هو من كذّبه و نابذه، و يحتمل ان يكون الواو للابتداء. و الذّم لأهل
ص: 86
زمانه، و ما هم فيه من الفتن بسبب تفرّق كلمتهم. و ذكر من المذامّ الّتى حصل الناس عليها امورا يرجع حاصلها الى ترك مراسم الشريعة و ارتكاب طريق الباطل، و استعار لفظ الحبل: لما يتمسك به من الدين، و وصف الجذم و هو القطع: لتركهم التمسّك به، و لفظ السوارى: لقواعد الدين كالجهاد، و وصف التزعزع: لعدم استقامته بهم و تخاذلهم عنه، او لأهل الدين الذين بهم يقوم و تزعزعها لموتهم او خمولهم خوفا من الظالمين. و النجر:
الاصل و أراد به ما كان يجمع الناس من الدين الّذى تفرّقوا عنه، و غطّت على اعينهم ظلمات الشبهات عليه، فضاق المخرج منها عليهم و عمى مصدرهم عنها اى: و عموا عن المصدر، و اسنده الى المفعول مجازا، و خمول الهدى: سقوط انوار الدين بينهم و عدم استضاءتهم بها فهم مشمولون بالعمى عنه. و نصرة الشيطان: اتّباع آرائه و بذلك يكون عصيان اللّه، و خذلان الايمان به، و انهيار دعائمه اى: سقوطها و معالم الايمان: آثاره. و تنكرّها: انمحاؤها من القلوب.
و الشرك: جمع شركة بفتح الشين و الراء، و هى معظم الطريق و اراد بها ادلّة الدين و أراد بعفائها عدم الاثر بها لعدم سالكها، و مسالك الشيطان و مناهله: ما يجرّهم اليه من الملاهى و اعلامه و لوائه. اما القادة اليه او شبههم القائدة الى الباطل.
و قوله: فى فتن داستهم، متعلّق بقوله: سارت ان اتّصل الكلام او بغير ذلك مما لم يذكره السيّد، و استعار للفتن وصف الدوس و الوطى، و رشح بذكر الاخفاف و الاظلاف.
و السنابك: و هى رؤس الحوافر جمع سنبكة ملاحظة لشبهها بالحيوانات المشار اليها فيما تطاءه، و تيههم اي في ظلمات الجهل، و فتنتهم ابتلاؤهم بذلك. و قيل: اراد بخير، دار الشام لانها الأرض المقدّسة، و بشّر جيران يعنى: القاسطين. و قوله: نومهم سهاد، و كحلهم دموع: كنايتان عن شدّة اهتمامهم بأحوالهم و عدم استقرارهم من الفتن. و قوله:
بارض عالمها ملجم يعنى: نفسه، و جاهلها مكرم: يريد معاوية. و قيل: اراد بخير، دار العراق، و شرّ جيران: اصحابه المستصرخ بهم لتخاذلهم عن اجابته للجهاد.
هم موضع سرّه، و لجأ أمره، و عيبة علمه، و موئل حكمه، و كهوف كتبه، و جبال دينه: بهم
ص: 87
أقام انحناء ظهره، و أذهب اربعاد فرائصه.
اقول:
اللجأ و الملجأ و الموئل: المرجع، و ذلك انّهم ناصروه، و استعار لفظ العيبة لهم باعتبار حفظهم لاسراره و علومه و هم مرجع حكمه اى: حكمته اذا ضلّت عنها الخلق، فمنهم تطلب، و كذلك لفظ الكهوف، و الجبال باعتبار عصمة الدين بهم من الاضمحلال، و الضمير في اقام،: للّه تعالى لانّه هو الذى جعلهم اعوانا و انصارا. و كنى بظهره عن ضعفه في اوّل الاسلام و بارتعاد فرائصه عن خوفه. و الفريصة: الّلحمة بين الجنب و الكتف لا تزال ترعد من الدّابة، و الضمائر المفردة كلّها للّه الاّ في ظهره و فرائصه فانّها للرسول عليه السلام، و قيل: الجميع عائد الى الرسول، الاّ في كتبه و هو ضعيف.
و منها: في المنافقين(1)
زرعوا الفجور، و سقوه الغرور، و حصدوا الثّبور، لا يقاس بآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من هذه الامّة أحد، و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا: هم أساس الدّين، و عماد اليقين: إليهم يفىء الغالى، و بهم يلحق التّالى. و لهم خصائص حقّ الولاية، و فيهم الوصيّة و الوراثة، الآن إذ رجع الحقّ الى أهله، و نقل إلى منتقله.
أقول:
قيل: اراد معاوية و اهل الشام، و قيل: اهل الجمل، و قيل: الخوارج، و هى محتملة و استعار لفظ(2)الزرع: لاعتبار تأصيلهم بالفتنة و الخلاف له، و وصف السقى: لتماديهم فى غفلتهم عن الحق، و وصف حصد الثبور لهلاكهم و قتلهم بسيفه و هو ثمرة ذلك الزرع او لهلاكهم الاخروى. و الثبور: الهلاك، و قوله: لا يقاس الى قوله احد... خرج مخرج الجواب لمفاخرة سبقت من معاوية او غيره. و قوله: و لا يسوّى، الى آخره، اشارة الى:
ص: 88
فضلهم على غيرهم من وجوه: الاوّل، كونهم اسبابا لنعمة اللّه على الخلق و ارشادهم اليه، و المنعم افضل من جهة ما هو منعم خصوصا بمثل هذه النعمة التي لا يمكن جزاؤها.
الثاني، كونهم اساسا و اصلا للدّين.
الثالث، كونهم عماد اليقين لانهم اسباب ازالة ما يضعفه من الشبهات، فبهم يقوم كالعماد و لفظه مستعار.
الرابع، كونهم على الصراط السوىّ ، و المنهج الحق اليهم يرجع من غلا فيه و تجاوزه، و بهم يلحق من فرط فيه و تخلّف عنه.
الخامس، كونهم أهل خصائص الولاية من العلوم، و مكارم الاخلاق و الآيات و الكرامات.
السادس، انّ فيهم وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وراثته و هو ظاهر.
و قوله: الآن، الى آخره، يريد بالحق الخلافة، و فيه ايماء الى انّها كانت في غير اهلها قبله.
3 - و من خطبة له عليه السلام المعروفة بالشِّقشقية(1)
أما و اللّه لقد تقمّصها فلان، و إنّه ليعلم أنّ محلّى منها محلّ القطب من الرّحى:
ينحدر عنّي السّيل، و لا يرقى إلىّ الطّير، فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا. و طفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، و يشيب فيها الصّغير، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه. فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرت و في العين قذى، و في الحلق شجا، أرى تراثى نهبا، حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده (ثمّ تمثّل بقول الأعشى)
شتّان ما يومى على كورها *** و يوم حيّان أخى جابر
ص: 89
فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها، و يخشن مسّها، و يكثر العثار فيها، و الاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم، و إن أسلس لها تقحّم، فمنى النّاس لعمر اللّه - بخبط و شماس، و تلوّن و اعتراض، فصبرت على طول المدّة، و شدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة، زعم أنّى أحدهم، فيا للّه و للشّورى! متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت اقرن إلى هذه النّظائر!! لكنّى أسففت إذ أسفّوا، و طرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، و مال الآخر لصهره، مع هن و هن، إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه، بين نثيله و معتلفه، و قام معه بنوا أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الرّبيع، إلى أن انتكث فتله، و أجهز عليه عمله، و كبت به بطنته. فما راعنى إلاّ و النّاس كعرف الضّبع إلىّ ، ينثالون علىّ من كلّ جانب، حتّى لقد و طىء الحسنان، و شقّ عطفاى، مجتمعين حولى كربيضة الغنم فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، و مرقت أخرى، و قسط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول: «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » بلى! و اللّه لقد سمعوها و وعوها، و لكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، و راقهم زبرجها. أما و الّذى فلق الحبّة، و برأ النّسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود النّاصر، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندى من عفطة عنز. قالوا: و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضى اللّه عنهما: يا أمير المؤمنين، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت. فقال: هيهات يابن عبّاس، تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفى على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد.
ص: 90
قوله عليه السلام في هذه الخطبة: كراكب الصعبة ان اشنق لها خرم و ان اسلس لها تقحّم...
يريد انّه اذا شدّد عليها في جذب الزمام و هى تنازعه راسها خرم انفها، و ان ارخى لها شيئا مع صعوبتها تقحّمت به فلم يملكها، يقال: اشنق الناقة اذا جذب راسها بالزمام و دفعه، و شقّها ايضا، ذكر ذلك ابن السكيت في اصلاح المنطق، و انّما قال عليه السلام:
اشنق لها، و لم يقل اشنقها لانّه جعله في مقابلة قوله: اسلس لها، فكانّه عليه السلام، قال: ان رفع اشنق لها بالزمام يعنى: امسكه عليها.
اقول:
انّ هذه الخطبة و ما يشبهها مما يتضمّن شكايته في امر الخلافة قد انكرها جماعة من اهل السنة حتّى قالوا: انّه لم يصدر عنه عليه السلام شكائه في هذا الامر اصلا، و منهم من نسب هذه الخطبة خاصّة الى السيّد الرضىّ رحمه اللّه. و الحق انّ ذلك افراط في القول لانّ المنافسة التي كانت بين الصحابة في امر الخلافة معلومة بالضرورة لكلّ من سمع اخبارهم، و تشاجرهم في السقيفة، و تخلّف عليّ و وجوه بنى هاشم عن البيعة امر ظاهر لا يدفعه الاّ جاهل او معاند، و اذا ثبت انّه عليه السلام نافس في هذا الامر كان الظّن غالبا بوجود الشكاية منه، و ان لم يسمع ذلك منه، فضلا عن ان الشكاية بلغت مبلغ التواتر المعنوىّ فى الالفاظ لشهرتها، و كثرتها تعلم بالضرورة انّها لا تكون باسرها كذبا بل لا بدّ ان يصدق بعضها فثبتت فيه الشكاية على انّ هذه الخطبة نقلها من يوثق به من الادباء و العلماء قبل مولد الرّضى بمدّة و وجدت بها نسخة موثوقا بنقلها، عليها خطّ الوزير ابن الفرات و كان قبل مولد الرّضىّ بنيف و ستّين سنة و لنرجع الى المتن(1).
فنقول: المراد بفلان ابو بكر. و في بعض النسخ لقد تقمّصها ابن ابى قحافة، و الضمير في تقمّصها راجع الى الخلافة لعهدها او لسبق ذكرها، و استعار لفظ التقمّص لتلّبسه بها. و الواو في «و انّه» واو الحال، و مثّل نفسه منها(2)بالقطب من الرحا في انّها لا تستقيم بدونه، و اكّد ذلك بالكناية عن علوّه و شرفه مع فيضان العلوم و الفضائل عنه
ص: 91
بوصفين من اوصاف الجبل المنيع العالى و هما كونه ينحدر عنه السيل و لا يرقى اليه الطير.
و سدلت اى: ارخيت دونها ثوبا كناية عن احتجابه عن طلبها بحجاب الزهد فيها و الاعراض عنها.
و قوله: و طويت عنها كشحا، كناية: عن امتناعه منها كالماكول المعاف الذى يطوى البطن دونه. و الكشح بالفتح: الخاصرة، و قيل: انّه اراد التلفّت عنها، كما يفعل المعرض عمّن الى جانبه كما قال:
طوى كشحه عنّى و اعرض جانبا *** ......
و قوله: و طفقت. الى قوله: عمياء، اى: جعلت افكّر في امرى هل اصول عليهم بيد جذّاء، بالدال، و الذال، اى: مقطوعة و هى كناية عن عدم الناصر له، او ان اصبر على طخية عمياء، اى: ظلمة لا يهتدى فيها للحق، و كنّى بها عن التباس الامور في الخلافة قبله كناية بالمستعار و كنّى عن شدّة ذلك بقوله: يهرم، الى قوله: ربّه، و اراد بكدح المؤمن فيها شدّة سعيه و اجتهاده في لزوم الحق و الذّب عنه. و قوله: فرايت انّ الصبر على هاتا احجى، ترجيح لقسم الصبر على قسم المنافرة، و هاتا لغة في هذى. و احجى: اليق، اليق بالحجى و هو العقل لما في المنافرة من انشعاب عصا المسلمين اى: اجماعهم و ايتلافهم مع غضاضة(1) الاسلام و كثرة اعدائه. و القذى: ما يقع في العين فيؤذيها كالغبار و نحوه.
و الشجى: ما ينشب في الحلق من عظم و نحوه فيغصّ به، و هما كنايتان عن الغمّ و مرارة الصبر و التألّم من الغبن. و تراثه، قيل: هو ما خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لابنته كفدك لأن مال الزوجة في حكم مال الرجل. و النّهب: اشارة الى منع الخلفاء الثلاثة لها بالخبر الّذى رواه ابو بكر (نحن معاشر الانبياء لا نوّرث، ما تركناه فهو صدقة) و قيل:
اراد منصب الخلافة و يصدق عليه لفظ الارث كما في قوله تعالى: «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ »(2) اى: العلم و منصب النبوّة. و الماضي الاوّل: ابو بكر، و سبيله طريق الاخرة و هو: الموت. و فلان بعده: عمر، و ادلى بكذا: ألقاه اليه، و كنّى بذلك عن نصّ ابى بكر بالخلافة بعده. و امّا البيت فهو لأعشى قيس و اسمه ميمون بن جندل من قصيدة يمدح بها
ص: 92
عامرا و يهجو علقمة اوّلها:
شاقتك من قتلة اطلالها *** بالشط و الوتر الى حاجر
و حيّان، و جابر، ابنا السمين بن عمر من بنى حنيفة. و كان حيّان صاحب الحصن باليمامة سيّدا مطاعا يصله كسرى في كلّ سنة، و كان في نعمة و رفاهية، و كان الأعشى ينادمه، و اراد ما ابعد ما بين يومى على كور المطيّة أدأب، و انصب في الهواجر، و بين يومى منادما حيّان اخا جابر و ادعا في نعمة و خفض.
و روى انّ حيّان، عاتب الاعشى في تعريفه بأخيه فاعتذر انّ القافية جرّته الى ذلك فلم يقبل عذره. و اليوم الاوّل، رفع بانّه فاعل اسم الفعل، و الثاني عطف عليه، و عرض البيت تمثيل حاله بحاله القائل، و الفرق بين ايّامه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و حاله معه في العزّة و قرب المنزلة و الحصول على العلوم و مكارم الاخلاق، و ايّامه فى القوم و حاله من المتاعب و المشّاق و مقاساة المحن. و قيل: اراد الفرق بينه و بين القوم فى ظفرهم و فوزهم به، و فوات مطلوبه هو و حصوله على الحرمان و المشقّة.
و قوله: فيا عجبا الى بعد وفاته، الضمير راجع الى ابى بكر و استقالته هو قوله:
(اقيلونى فلست بخيركم)(1) و وجه التعجّب هو استقالته منها في الحياة لثقلها مع تحمّله لها فى الممات ايضا بعقدها لغيره. و اللاّم في «لشدّ» للتأكيد و استعار لها لفظ الضرع لشبهها بالناقة و انّما وصف تشطّره، و هو اخذ كل منهما شطرا، لاشتراكهما في امر الخلافة، و اخذهما لها فكأنّهما اقتسماها اقتسام الحالبين اخلاف الناقة. و الحوزة: الناحية: و كنّى بها بوصف خشنها عن طباع عمر، فانّها كانت توصف بالجفاوة و بغلظ كلمها: عن غلظته فى المواجهة بالقول و غيره. و الكلم: الجرح، و بخشونة مسّها: عن عدم لينه لمن يلتمس منه امرا، و بكثرة العثار و الاعتذار منها: عما كان يتسرّع اليه من الاحكام ثم يعاود النظر فيها فيجدها غير صائبة فيحتاج الى العذر منها كقصّة المجهضة و غيرها.
و الضمير في «منها» يعود الى الحوزة، و قوله: فصاحبها اى: انّ المصاحب لتلك الطبيعة الغليظة الخشنة كراكب الناقة التي لم ترض.
و قوله: ان اشنق، الى قوله: تقحم، هو: وجه الشبه، و المعنى: انّ مصاحبه ان اكثر انكاره ما يتسرّع اليه ادّى الى مشاقته، و
ص: 93
فساد الحال بينهما، و ان سكت عنه ادّى ذلك الى الاختلال بالواجب، كما انّ راكب الصعبة ان اشنق لها و والى جذب الزمام في وجهها خرم انفها، و ان أسلس لها في قيادها تقحّمت به في المهالك، و ركبت به العسف. و قيل: الضمير في صاحبها يعود الى الخلافة، و صاحبها هو من تولّى أمرها، و وجه شبهه براكب الصعبة انّ الخليفة يحتاج الى مداراة الخلق و جذبهم عن طرفى الافراط و التفريط الى حاقّ الوسط فلا يشدّد عليهم في طلب الحق التشديد الموجب لعجزهم و قصورهم و فساد الامر بينه و بينهم، كمن اشنق الصعبة و لا يهملهم فيتّعدوا الواجب و يهلك بهلاكهم كمن اسلس لها. و قيل: اراد بصاحبها نفسه لانّه ايضا بين خطرين، امّا ان يبقى ساكتا عن طلب الأمر فيتقحّم بذلك فى موارد الذلّ كما يتقّحم مسلس قياد الصعبة. و امّا ان يتشدّد في طلبه فيشق بذلك عصا الاسلام فيكون كمن اشنق لها فخرم انفها.
و قوله: فمنى الناس اى: ابتلوا، و استعار لفظ الخبط و الشماس و هو: نفار الدابة و التلوّن، و الاعتراض و هو المشى في عرض الطريق لما كان يقع من تغيّر اخلاق الرجل و اختلاف حركاته، كالفرس الذى لم يرض، و قيل: اراد ما ابتلى به الناس من تفرّق الكلمة و اضطراب الامر لذلك بعد رسول اللّه عليه السلام. و المدّة: مدّة البلاء و شدّة المحنة لفوات حقّه.
و قوله: حتّى مضى، اى: الثاني، و الجماعة الذين جعلها فيهم هم اهل الشورى.
و الشورى: مصدر كالنجوى، و خلاصة خبرهم: انّه لما طعن عمر دخلت عليه وجوه الصحابة و سألوه ان يستخلف رجلا برضاه، فقال: لا احبّ ان اتحمّلها حيّا و ميتا، فقالوا: الاّ تشير علينا؟ فقال: ان احببتم ؟ فقالوا: نعم، فقال: الصالحون لهذا الامر سبعة و هم: سعيد بن زيد، و انا مخرجه منهم لانّه من أهل بيتى، و سعد بن ابى وقّاص، و عبد الرحمن بن عوف، و طلحة، و زبير، و عثمان، و علّى. فامّا سعد فيمنعنى منه عنفه، و من عبد الرحمن انّه قارون هذه الامّة، و من طلحة فتكبّره، و من الزّبير فشحّه، و من عثمان حبّه لقومه، و من علىّ حرصه على هذا الأمر، و أمر أن يصلّى صهيب بالناس ثلاثة ايّام، و يخلوا الستة في بيت ثلاثة ايّام فان اتّفقت خمسة على رجل و ابى واحد قتل، و ان اتّفقت ثلاثة و أبت ثلاثة فليكن الناس مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن.
ص: 94
و يروى: فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن. فلما خرجوا و اجتمعوا للأمر، قال عبد الرحمن: انّ لى و لسعد من هذا الامر الثلث فنحن نخرج انفسنا منه، على ان نختار خيركم للامة فرضى القوم غير علىّ ، فانّه قال: أرى و انظر. فلما أيس عبد الرحمن من رضى علىّ رجع الى سعد، و قال له: هلمّ نعيّن رجلا فنبايعه، و الناس يبايعون من بايعته، فقال سعد: ان بايعك عثمان فانا لكم ثالث، و ان اردت ان تولّى عثمان فعليّ احبّ الّى. فلما أيس من رضى سعد رجع فأخذ بيد عليّ فقال: ابايعك على ان تعمل بكتاب اللّه، و سنّة رسوله، و سيرة الشيخين ابى بكر و عمر، فقال: تبايعنى على ان اعمل بكتاب اللّه، و سنّة رسوله، و اجتهد برأيى فترك يده. و اخذ بيد عثمان، و قال له: مقالته لعلىّ ، فقال: نعم فكرّر القول على كلّ منهما ثلاثا، فأجاب كل بما اجاب به اوّلا فبعدها. قال(1) عبد الرحمن: هى لك يا عثمان و بايعه ثم بايعه الناس.
ثمّ اردف حكاية الحال باستغاثة اللّه للشورى، و الاستفهام على سبيل التعجّب و عروض الشك للناس في مساواته بالاوّل، الى ان قرن بالجماعة المذكورين في الفضل و الاستحقاق. و أسف الطائر: قارب الأرض بطيرانه، و كنّى بذلك عن مقاربته لهم، و اتباعه ايّاهم في مرادهم، و الصغو: الميل، و الضغن: الحقد، و الذى ضغن هو سعد، لانّه كان منحرفا عنه عليه السلام، و تخلّف عن بيعته، بعد قتل عثمان، و الذى مال لصهره هو عبد الرحمن و كانت بينه و بين عثمان مصاهرة لانّ عبد الرحمن كان زوجا لامّ كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط، و هى اخت عثمان لامّه اروى بنت كريز.
و قوله: مع هن و هن يريد انّ ميله لم يكن لمجرّد المصاهرة بل لاسباب اخرى كنفاسة عليه، أو حسد له فكنى بهن و هن عنها. و ثالث القوم: عثمان، و الحضن:
الجانب، و النفج: كالنفخ. و النثيل: الروث. و المعتلف: ما يعتلف به من المأكول، و كنّى بذلك عن انّه لم يكن همّته الاّ التوسّع ببيت المال، و الاشتغال بالنعم بالمآكل و المشارب، ملاحظا في ذلك تشبيهه بالبعير و الفرس المكرم. و بنو أبيه: بنواميّة و كنّى بالخضم و هو: الاكل بكلّ الفم عن كثرة توسّعهم بمال المسلمين كما نقلناه في الاصل.
و كنّى بانتكاث فتله عن انتقاض الامور عليه، و ما كان يبرمه من الآراء دون الصحابة. و
ص: 95
استعار لفظ الاجهاز الذى يفهم منه سبق الجراح و الاثخان بضرب و نحوه لقتله المسبوق بمشق اسلات الاسنة، و كذلك وصف الكبو الّذى هو حقيقة في الحيوان: لفساد امره بعد استمراره كالكبو بعد استمرار الفرس من العدو. و كنّى ببطنته عن: توسّعه ببيت المال ايضا. و اسند الكبو اليها لانّها السبب الحامل على فساد امره، و الواو في «و الناس» للحال، و خبر المبتدأ محذوف دلّ عليه متعلّقه و هو اليّ اى: مقبلون و نحوه، و فاعل راعنى امّا ما دلت عليه هذه الجمل من المصدر، اى: فما راعنى الاّ اقبال الناس اليّ و انثيالهم عليّ . و الانثيال: تتابع الشيء يتلو بعضه بعضا و هو كقوله تعالى: «ثُمَّ بَدٰا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا رَأَوُا اَلْآيٰاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ »(1) و امّا الجملة الاسميّة و ينثالون: امّا حال من راعنى، او خبر ثان للمبتدأ و الاشارة الى حال الناس وقت بيعته، و شبّههم في ازدحامهم عليه يومئذ يريدون بيعته، بعرف الضبع في تكاثفه، و قيام شعره.
و العرب تسمّى الضبع عرفا لعظم عرفها. و الحسنان ولداه عليهما(2) السلام. و قيل:
الابهامان و الحسن الابهام و انشد للشنفرّى:
مهضومة الكشحين خرماء الحسن.
اراد انّهم وطئوا ابهاميه، و شقّوا عطافه، و هو ردائه المجتبى به. و روى عطفاى و هما: جانبا ردائه او جانبا قميصه. و مجتمعين حال و شبّههم بربيضة الغنم و هى القطعة المجتمعة رابضة لاجتماعهم حوله. و الطائفة الناكثة: اصحاب الجمل لنكثهم بيعته.
و المارقه: الخوارج لمروقهم من الدين كمروق السهم من الرميّة و هو لفظ الخبر النّبوى.
و القاسطون اصحاب معاوية لبغيهم. و القسط: الخروج عن سنن العدل، و حليت: زانت.
و قوله: اما و الّذى الى آخره،: اشارة الى الاعذار الحاملة له على قبول الخلافة بعد تخلّفه عنها.
و فلق الحبة: خلقها، و قيل: هو: شقّها الّذي في وسطها، و قد نبّهنا على الحكمة فيه فى الأصل. و اشار الى ثلاثة اعذار و هو حضور الحاضرين لمبايعته. و قيام الحجّة عليه بوجود الناصرين للحق معه. و ما اخذ على العلماء من العهد على انكار المنكر و الامر
ص: 96
بالمعروف عند التمكّن. و المقارة: الموادعة و المسالمة. و العذران الاولان شرطان فى الثالث. و كنّى بكظّة الظالم و هى: بطنته و شبعه عن قوّة ظلمه لانّ قدرته مظنّة ذلك، و بسغب المظلوم و هو: جوعه عن كونه مظلوما. و الضمير في حبلها و غاربها للخلافة ملاحظا في استعارتها: تشبيه الخلافة بالناقة. و كنّى بذلك عن تركها كارسال الناقة لترعى اى: كنت اترك آخرا كما تركت اوّلا. و الفيت الشيء: وجدته. و العفطة: الحبقة، و قيل: العطسة. و يفهم منه انّه عليه السلام كان مطالبا للدنيا لكن ليس لها بل لنظام الخلق، و امتثالا لأوامر اللّه في اجراء امورهم، على قانون العدل كما هو مقصود بعثة الانبياء و انزال الكتب. و اطردت مقالتك، اى: اجريتها. و افضيت وصلت و «لو» للتحضيض. و الشقشقة: اللحمة التي تخرج من فم البعير عند هياجه.
بنا اهتديتم في الظّلماء، و تسنّمتم العلياء، و بنا انفجرتم عن السّرار، و قر سمع لم يفقه الواعية، و كيف يراعى النّبأة من أصمّته الصّيحة، ربط جنان لم يفارقه الخفقان، ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر، و أتوسّمكم بحلية المغترّين سترنى عنكم جلباب الدّين، و بصّرنيكم صدق النيّة، أقمت لكم على سنن الحقّ في جوادّ المضلّة حيث تلتقون و لا دليل، و تحتفرون و لا تميهون، اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان، غرب رأى امرىء، تخلّف عنّى، ما شككت في الحقّ مذ أريته، لم يوجس موسى عليه السّلام خيفة على نفسه: أشفق من غلبة الجهّال و دول الضّلال. اليوم تواقفنا على سبيل الحقّ و الباطل، من وثق بماء لم يظمأ.
اقول:
استعار لفظ الظّلماء للجهل الحاجب لأبصار البصائر عن ادراك الحق، و وصف التسنّم لما حصلوا عليه من شرف الاسلام و علوّ الرّتبة، و وصف الانفجار لظهورهم في انوار الاسلام من شرار الشرك. و السرار: الليلة و الليلتان في آخر الشهر يستتر القمر فيهما و
ص: 97
يخفى، و لفظه مستعار للشرك و الجهل السابق. و الوقر: الثقل في السمع و هو دعاء على سمع لا يفقه صاحبه بسماعه، علما من مقاصد الكتب الالهية و حق له الصمم لعدم فائدة خلقه منه. و النبأة: الصّوت الخفىّ ، و كنّى بها عن دعائه لهم الى الحقّ . و بالصيحة عن خطاب اللّه و رسوله، و هى في معرض العذر لنفسه في عدم نفع دعائه لهم، اى: اذا كانت دعوة اللّه و رسوله الّتى اصمّتكم بقوّتها لم تستجيبوا لها، فكيف تراعون دعوتى لكم هى كالنبأة من الصيحة.
و قوله: ربط دعاء للقلوب التي تخفق خوفا من اللّه بالثبات و السكينة اى: ثبّت قلب كان كذلك، و روى ربط بالبناء للمفعول اى: ربط اللّه. و قوله: اتوسّمكم اى:
اتعرّفكم. و المغترّين الغافلين عن عواقب الأمور اى: ما زلت اعرفكم بصفات الغدر فى البيعة و النكث لها. و الجلباب: الملحفة، و استعار لفظه للدين باعتبار ستره و حجبه عن العنف بهم، و حملهم على المشقة او ستره عن علمهم في قوّته و بأسه، و لو لم يكن ذلك الستر لعرفوه بذلك. و روى ستركم عنّى، أى: عصم الدين منّى دماءكم و اتّباع مدبركم. و قوله: و بصّرنيكم اى: عرفنى بكم صدق نيّتى، و اخلاصى للّه، و ما يؤول اليه عاقبة امركم كما قال(1) صلى اللّه عليه و آله: (اتّقوا فراسة المؤمن فانّه ينظر بنور اللّه) ثم اشار الى فضيلته ليقتدوا به، بقوله: اقمت لكم على سنن الحق اى: طريقه، و هى الكتاب و السنّة. و في جواد المضلّة و هى الشبه اذ كان عليه السلام العالم بالكتاب و الموضّح لطرق الحقّ منه لطرق الباطل، و الهادى فيهما، و ذلك حيث يلتقون في ظلمة الجهل فلا يبصرون دليلا سواه، و يطلبون ماء الحياة بالبحث و الفحص من اودية القلوب فلا يجدون بها ماء الاّ معه. و ماهت البئر: خرج ماؤها. و استعار(2)الاحتفار للبحث عن مظانّ العلم و لفظ الماء له. و كنّى بالعجماء: عن الحال التي يشاهدونها من العبر الواضحة و عن كمال فضله و هذا من اللّه(3). فانّ هذه الامور و ان لم يكن لها نطق الاّ انّها مبيّنة بلسان حالها ما ينبغي ان يقال في الافصاح عن ذلك لأوامر اللّه، و رسوله، فلذلك كانت ذات بيان. و
ص: 98
انطاقها هو تنبيه عليها اذ عبّر بلسان مقاله عما كانت يقتضيه و يشاهده من نظر اليها بعين الاعتبار و هو كقولهم: سل الارض من شقّ انهارك، و اخرج ثمارك، فان لم تجبك حوارا اجابتك اعتبارا.
و روى بعضهم: انطق بفتح الهمزة على انّ العجماء صفة مصدر محذوف، اى:
الكلمات العجماء و نحوه، و اراد بها ما ذكر في هذه الخطبة من الرموز و استعار لها لفظ العجماء و كونها ذلّت البيان لما فيها من الفوائد، و عزب الرأى: ذهب. و قوله: ما شككت في الحق مذ أريته: تنبيه على وجوب عزوب رأى من تخلّف عنه. و قوله: لم - يوجس الى قوله: الضّلال، اى: لم يجس موسى في نفسه خوفا اشّد عليه من خوف غلبة الجّهال على الدين، و فتنة الخلق بهم، و اراد انّى كذلك، و اوجس: احسّ . و الشّفقة الخوف، و قيل: اشفق في تقدير الاستدراك بعد النفى اى: لكن اشفق و ليس هى افعل التفضيل.
و قوله: اليوم تواقفنا للخطاب لمقابلته، و المراد: انّى واقف على سبيل الحق و هم واقفون على سبيل الباطل. و قوله: من وثق بماء لم يظمأ، مثل نبّه به على وجوب الثقة بما عنده، أى: ان سكنتم الى قولى، و وثقتم به كنتم اقرب الى الهدى و السلامة كما انّ الواثق بالماء في إداوته آمن من العطش و خوف الهلاك بخلاف من لم يثق بذلك. و استعار لفظ الماء: لما اشتمل عليه من العلم و كيفية الهداية به الى اللّه فانّه الماء الذى لاظمأ فيه.
أيّها النّاس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة، و عرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، و لقمة يغصّ بها آكلها. و مجتنى الثّمرة لغير وقت إيناعها كالزّارع بغير أرضه. فإن أقل يقولوا: حرص على
ص: 99
الملك، و إن أسكت يقولوا: جزع من الموت هيهات بعد اللّتيا و الّتى، و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى امّه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة.
اقول:
السبب أنّه لما بويع ابو بكر بالسّقيفة، اراد ابو سفيان الفتنة بين المسلمين، فقال:
للعباس انّ هؤلاء قد ذهبوا بالأمر عن هاشم الى تيم، و انّه ليحكم فينا غدا هذا الفظّ الغليظ من بنى عدىّ ، فقم نبايع عليّا فانت عمّ رسول اللّه، و انا رجل مقبول القول في قريش، فان دافعونا قاتلناهم و قتلناهم، فأتيا عليّا فحضّه ابو سفيان على الأمر و علم عليه السلام من حاله انّه يريد الفتنة فأجابه بهذا الكلام.
و استعار لفظ الامواج: لقيام الفتنة كالبحر في هياجه و تموّجه، و لفظ سفن النجاة:
للمهادنة و المسالمة لاستلزامها السلامة كالسّفينة. و التّعريج: العدول عن الطّريق. و لفظ التيجان لما يفتخر به قريش على تيم لما في ذلك من اثارة الاحقاد. ثم اشار بعد النهى عن المنافرة و المفاخرة الى ما ينبغي ان يكون حال طالب الخلافة عليه ليفوز بمطلوبه، او ينجو من الفتنة فحكم بالفوز لمن نهض في طلبه بجناح. و استعار لفظ الجناح: للأعوان و الانصار لانّ بهم النهوض، و حكم بالنجاة للمستسلم عند عدم الجناح و كلاهما فلاح. و قوله: ماء آجن الى اكلها: تنبيه على انّ المطالب الدنيوية و ان عظمت فهى مشوبة بالكدر، و استعار لفظ الماء الآجن و اللّقمة الموصوفة لها: لمتاع الدنيا باعتبار ما فيها من شائبة التكدير بالمحن من المنافسات و نحوها، و قصد بذلك التنفير عنها تسكينا للفتنة.
و قوله: و مجتنى الثمرة، الى قوله: ارضه: تمثيل لحاله في طلبه للأمر في غير وقته بمنّ و كدّ. و ايناع الثمرة: ادراكها، و وجه تشبيهه بالزّارع في غير ارضه: انّه في محل ان يمنع من التصرّف و يبطل سقيه، و غرض التشبيه التنفير عن التشبّه بمن هذه حاله. و إن أقل، اى: اطلب الأمر و ان اسكت: اى عنه، و هيهات اى: بعد جزعى من الموت بعد تعاقب الشدائد علىّ ، و بعد اللّتيا و اللّتى: كالمثل و اصله انّ رجلا تزّوج قصيرة ضئيلة الخلقة فقاسى منها شدائد فطلّقها، و تزوّج طويلة فقاسى منها اضعاف ذلك فطلّقها و،
ص: 100
قال: بعد اللّتيا و اللّتى لا اتزوّج ابدا فكنّى بهما عن الشدائد المتعاقبة. و كونه عليه السلام آنس بالموت من الطفل بثدى امّه ظاهر من حاله، اذ كان رئيس اولياء اللّه و قد علمت انّ محبة الموت انس لهم لكونه وسيلة لهم الى لقاء محبوبهم الاعظم، و انسهم به انس عقلى ثابت فكان اشدّ من انس الطين بالندى لكونه عن ميل شهوانى في معرض التغيّر و الزوال. قوله: بل اندمجت الى آخره: اشارة(1) بعد نفى الجزع من الموت، و اشارة الى سبب آخر لسكونه، و هو العلم الّذى انطوى عليه، و الاندماج: الانطواء و ذلك علمه بعواقب الامور و ادبارها، و ما ينتظر من الوقائع و الفتن ممّا علّمه بتعليم اللّه و رسوله. و نبّه على عظمة ذلك بقوله: لو بحت به الى آخره.
و اشار باضطرابهم على ذلك التقدير الى تشتّت آرائهم عند علمهم بما سيقع من ذلك، من انتقال الأمر الى بنى اميّة و مدّة دولتهم فانّ ذلك يكون سببا لبقائهم، و وجه الشبه باضطراب الارشية في الطوى البعيدة: شدّة الاضطراب لانّ البئر كلّما كانت اعمق كان اضطراب الرشاء فيها اشدّ لطوله. و الرشا: حبل البئر. و الطوّى: البئر المطويّة. و قيل:
اراد بالعلم المنطوّى عليه: علم الآخرة و ما بعد الموت، لانّه لو شرح لهم ذلك لاضطربوا اشدّ اضطراب خوفا من اللّه، و اذهلوا عمّا هم فيه من المنافسة في الدنيا.
و اللّه لا أكون كالضّبع: تنام على طول اللّدم، حتّى يصل إليها طالبها، و يختلها راصدها، و لكنّى أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه، و بالسّامع المطيع العاصى المريب أبدا، حتّى يأتي علىّ يومى. فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّى مستأثرا علىّ منذ قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يوم النّاس هذا.
ص: 101
اقول:
المنقول انّ الذى اشار عليه بذلك كان ابنه الحسن عليه(1) السلام.
و اللّدم بسكون الدال: ضرب الحجر او غيره على الارض و ليس بالقوىّ . و يحكى انّ الضّبع تستغفل في جحرها بمثل ذلك لتسكن حتى تصطاد. و الختل: الخديعة، و الاستيثار بالشىء: الانفراد به، و مفهوم التشبيه انّه لو اخّر القتال لكان ذلك سببا لتمكّن الخصم من خداعه. و المريب: الشاكّ في وجوب طاعته. و فسّر الأبد: بمدّة العمر لانّه الأبد الممكن له واردف ذلك بالشّكاية في دفعه عن حقّه و الاستبداد به دونه من حين قبض رسول اللّه.
اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا، و اتّخذهم له أشراكا، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم، و نطق بألسنتهم فركب بهم الزّلل و زيّن لهم الخطل، فعل من قد شرّكه الشّيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه.
اقول: روى ملاكا: و ملاك الأمر ما يقوم به. و الاشراك جاز ان يكون جمع شريك كشريف و اشراف، او جمع شرك و هو: حبائل الصائد(2). و الفصل ذمّ للمخالفين له و استعار لهم لفظ الاشراك باعتبار انّهم اسباب لدعوة الخلق الى مخالفة الحق، فكان الشيطان يصطاد الخلق بواسطة طاعتهم له و تصرّفه فيهم. و وصف البيض و الافراخ له باعتبار ملازمته لصدورهم ملاحظا في ذلك تشبهه بالطائر و تشبيه صدورهم بالوكر. و وصف الدبيب و الدّرج له باعتبار ملازمته لهم كالولد لحجر والده، و كنّى بنظره بأعينهم، و نطقه بألسنتهم عن وجوه تصرّفه فيهم و ركوبه بهم الزلل و تزيينه لهم الخطل و هو: الفاسد من القول اشارة الى ثمرة متابعته. و انتصب فعل على المصدر اى: فعلوا كذلك(3).
ص: 102
يزعم أنّه قد بايع بيده و لم يبايع بقلبه، فقد أقرّ بالبيعة، و ادّعى الوليجة فليأت عليها بأمر يعرف، و إلاّ فليدخل فيما خرج منه.
أقول:
الوليجة: الدخيلة في الأمر. و اصل الفصل احتجاج على الزّبير بلزوم البيعة له، و اشار الى غدر الزبير و هو زعمه انّه بايع بيده و لم يبايعه بقلبه، و هو التعريض في العهود و الايمان و هما من الزّبير انّ ذلك امر تقبله الشريعة، و أجابه عليه(1) السلام بضمير صغراه، قوله: فقد اقّر بالبيعة و ادّعى الوليجة اى: اقرّ بما يلزمه شرعا و ادّعى انّه اضمر في باطنه ما يفسده، و تقدير الكبرى و كل من فعل ذلك احتاج الى بينّة لدعواه. و اشار الى النتيجة بقوله: فليأت الى آخره.
و قد أرعدوا و أبرقوا، و مع هذين الأمرين الفشل، و لسنا نرعد حتّى نوقع، و لا نسيل حتّى نمطر.
اقول:
الاشارة الى اصحاب الجمل في معرض ذمّهم. و الارعاد و الابراق: كنايتان عن التهدّد و الوعيد الصادر منهم له. و الفشل: الضعف و اراد انّ مع وعيدهم و تهديدهم ضعفهم عمّا توعّدوا به من الحرب: و كما انّ فضيلة السحاب أن يقترن وقوع المطر منه برعده و برقه وسيله بمطره، اشار الى انّه: كذلك في مقارنة وعيده لهم بايقاع الحرب بهم و سيل عذابه لهم بامطاره عليهم.
ص: 103
الا و إنّ الشّيطان قد جمع حزبه، و استجلب خيله و رجله، و إنّ معى لبصيرتى:
ما لبّست على نفسى، و لا لبّس علىّ . و ايم اللّه لا فرّطنّ لهم حوضا أنا ماتحه: لا يصدرون عنه، و لا يعودون إليه.
اقول:
مداره على ثلاثة امور:
اوّلها: الذمّ لأصحاب الجمل و التنفير عنهم بكونهم من حزب الشّيطان. و الاستجلاب بمعنى: الجمع.
و الثاني، التنبيه على فضيلة نفسه و عدم جواز التلبيس منه و عليه بشبهة قتل عثمان و نحوه، و هو قوله: و انّ معى الى قوله: علىّ .
و الثالث، الوعيد لهم بالحرب المهلكة. و استعار وصف افراط الحوض و هو ملأه:
لجمع الجند، و تهيئة اسباب الحرب، يقال: افرطت الحوض افرطه بالضمّ اى: ملئته. و ماتحه: مستقى الماء منه(1). و كنّى به عن كونه هو المتولّى لذلك بنفسه. و عنى بقوله:
لا يصدرون عنه انّ الوارد منهم لا ينجو فهو كمن يغرق فيه. و بقوله: و لا يعودون اليه انّ من نجا منهم لا يطمع في مثل ما طمعوا فيه خوفا فلا يعود. و اصل ايم: ايمن، جمع يمين حذفت النون تخفيفا كما في قوله: لم يك. و قيل: هو اسم برأسه وضع للقسم و الحقيقة(2) في النّحو.
تزول الجبال و لا تزل عضّ على ناجذك، أعر اللّه جمجمتك، تد في الأرض
ص: 104
قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، و غضّ بصرك، و اعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه.
اقول:
اشار الى آداب الحرب فنهى عن الفرار و اكّده، و التقدير لو زالت الجبال لا تزل، و هى نهى على تقدير أمر محال، و ذلك مستلزم النهى على كل حال بطريق الاولى.
و الناجذ: السّن بين الناب و الضرس، و للعّض عليه فائدتان، احداهما ربط الجأش و تماسك اجزاء البدن المتجزّية. و الثّانية تصلّب عضل الرأس فيقاوم(1) ما عساه يقع من الضرب فيه. و استعار وصف اعارة جمجمته للّه، قال: و من ذلك تثبيت لمحمّد رضى اللّه عنه، و اشعار له بانّه لا يقتل في ذلك الحرب. و تد في الأرض قدمك، اى: اجعله كالوتد في الثّبات. و فائدة رميه ببصره اقصى القوم: ان يعلم على ما ذا يقدم. و غضّ بصره بعد ذلك: ليكون علامة للسكينة و لانّ ادامة النّظر الى وقوع السّيوف مظنّة الرهبة و ربّما خيف على البصر و برهان علمه بانّ النصر من اللّه قوله تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ »(2) و نحوه.
لمّا أظفره اللّه بأصحاب الجمل، و قد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخى فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فقال له عليه السّلام: أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم. قال: فقد شهدنا و لقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرّجال و أرحام النساء، سيرعف بهم الزّمان، و يقوى بهم الايمان اقول:
أراد بالحضور: الحضور القوّى، او انّ محبّته قائمة مقام حضوره، و الشّهود: من كان
ص: 105
بعد في الامكان و قوّة أن يشهد نصرته من شيعته اذ هو بمنزلة الحاضر اطلاقا للفظ ما بالفعل على ما بالقوّة مجازا. و استعار لفظ الرعاف لوجودهم و نسبه الى الزمان لكونه من اسباب وجودهم.
كنتم جند المرأة، و أتباع البهيمة: رغا فأجبتم، و عقر فهربتم، أخلاقكم دقاق، و عهدكم شقاق، و دينكم نفاق، و ماؤكم زعاق، و المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، و الشّاخص عنكم متدارك برحمة من ربّه، كأنّى بمسجدكم كجؤجؤ سفينة، قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها و من تحتها و غرق من في ضمنها و في رواية: و ايم اللّه لتغرقنّ بلدتكم حتّى كأنّى أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامة جاثمة. و في رواية: كجؤجؤ طير في لجّة بحر.
اقول:
اراد بالمرأة: العائشة(1) اذ كانت واسطة عقدهم في الحرب، و بالبهيمة: جملها فانّهم كانوا محيطين به مجيبين لرغائه، و هاربين لعقره. و كنّى برغائه: عن دعوتها، او كونه سببا لاجتماعهم ما دام واقفا. و دقّة اخلاقهم: صغرها و حقارتها، و اراد انّهم على رذائل الاخلاق، و شقاق العهد: نكثهم له لبيعته عليه السّلام، و عهودهم مع امرائه(2) و ولاته.
و الزعاق: المالح و ذكره في معرض ذمّهم تنفيرا عنهم. و ارتهان: المقيم بينهم بذنبه لاكتسابه رذائل اخلاقهم(3) و لذلك كان الشّاخص عنهم اى: الراحل متداركا برحمة اللّه
ص: 106
لسلامته من اثمهم(1)، و شبّه نفسه في مشاهدته بنور بصيرته لمسجدهم في الماء بالمشاهد لذلك، و الحاضر لرؤيته بعين الحسّ في الجلاء و الظهور، و جؤجؤ: السّفينة، و الطّائر:
صدره، و الجاثمة: الباركة، و المنقول: انّ البصرة غرقت ايام القادر باللّه مرّة، و مرّة في ايام القائم بامر اللّه غرقت باجمعها و غرق من في ضمنها، و خربت دورها حتى لم يبق الاّ علوّ مسجدها الجامع حسب ما اخبر به عليه السّلام، و كان غرقها من قبل البحر و من ناحية الجبل المعروف بجبل الشّام.
ارضكم قريبة من الماء، بعيدة من السّماء، خفّت عقو لكم و سفهت حلومكم فأنتم غرض لنابل، و أكلة لآكل، و فريسة لصائل.
اقول:
امّا قربها من الماء فظاهر، و امّا بعدها من السّماء فقيل: اراد بالسماء المطر، فانّ امطارها قليلة. و قيل: اراد انّهم لرذالتهم بعداء عن السماء اى: الرحمة. او سماء الجود الآلهى، و خفّة عقولهم اى: العمليّة ضعفها عن درك المصالح و تسرّعهم الى الباطل، و سفه الحلم: تبديله بضدّه و استعماله في غير موضعه، و كنّى بكونهم غرضا لنابل الى آخره: عن كونهم مظنّة لأطماع النّاس فيهم و قصدهم بالبلاء لضعفهم و نقصان عقولهم، و استعار لفظ الغرض و الفريسة لهم. و وجه الاستعارة ظاهر.
و اللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء، و ملك به الإماء، لرددته فإنّ في العدل سعة، و
ص: 107
من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.
اقول:
قد كان عثمان أقطع أقاربه من ارض بيت المال قطائع فردّها عليه السّلام حين ولّى الأمر، و وجه سعة العدل: بالقياس الى الجور انّ الانسان يتمكّن من التّصرف به اكثر من التّصرف بالجور، لانّ التّصرّف بالعدل محل لرضى من يعتقد كونه مظلوما. و رضا الظّالم لعلمه بانّه عند انتزاع الحقّ منه آخذ لما ليس له، و يؤكّد ذلك بالوعيد للظّالمين، فالظّالم و ان قام سلطانه حين انتزع الحقّ منه، و ضاق العدل عليه فهو محل الرّضى.
بخلاف الجور فانّه اضيق عليه في الدنيا و الآخرة لسّد الاوامر و النّواهى الشرعيّة عليه وجوه التّصرف الباطل، و انّما انتزع منه قهرا و لانّه اذا نزل عليه عدل اعتقد انّه اخذ منه ما ينبغي أخذه منه، و اذا نزل عليه جور اعتقد انّه اخذ منه مالا ينبغي أخذه، و لا شكّ انّ اخذ مالا ينبغي اخذه أصعب على النّفس و أضيق من أخذ ما ينبغي.
و خصّ قطائع عثمان دون قطائع غيره بالردّ لاختلاف غرضى الإمامين.
ذمّتى بما أقول رهينة، «وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ »، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزته التّقوى عن تقحّم الشّبهات. ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله، و الّذى بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة، و لتغربلنّ غربلة و لتساطنّ سوط القدر، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم، و ليسبقنّ سابقون كانوا قصروا، و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا، و اللّه ما كتمت وشمة، و لا كذبت كذبة، و لقد نبّت بهذا المقام و هذا اليوم، ألا و إنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النّار ألا و إنّ التّقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها و أعطوا أزمّتها، فأوردتهم الجنّة، حقّ و باطل، و لكلّ أهل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، و لئن قلّ
ص: 108
الحق فلربّما و لعلّ و لقلّما أدبر شيء فأقبل قال الشريف: أقول: إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان مالا تبلغه مواقع الاستحسان، و إنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به، و فيه - مع الحال الّتى و صفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، و لا يطّلع فجّها إنسان، و لا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصّناعة بحقّ ، و جرى فيها على عرق. «وَ مٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ ».
اقول:
الذمّة: العهد. و الزّعيم: الكافل. و المثلات: العقوبات. و الحجز: المنع. و تقحّم فى الأمر: رمى بنفسه فيه. و اشار الى وجوب الاعتبار لوجوب التّقوى. و انّ العبرة بما تفعله الدنيا من عقوبة من اغترّ بها و تبدّل حالاتها عليهم مستلزمة في المعتبر تصوّر مثل ذلك في نفسه، و ذلك مستلزم لافاضة تقوى اللّه عليه، المستلزمة لتوقّفه و امتناعه من أن يلقى نفسه في تلك الأمور الزّائلة و الشّبهات الباطلة، و هى احوال الدنيا المشبهة للحقّ و العقل، الخارج من اسر الهوى قوىّ على نقد الحق و تمييزه من الشّبهات، و اكّد ذلك برهن ذمّته و كفالته به.
ثم نبهّهم على انّهم في الشبهات مغمورون ليبادروا الى تقوى اللّه و هو قوله: (الا و انّ بليّتكم قد عادت)، و اراد بالبليّة: ما هم عليه من اختلاف الأهواء عن الشبهات الّتى يلقيها اليهم الشّيطان، و ذلك أمر يشبه ما كانوا عليه حين بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ثم توعّدهم بعاقبة ذلك و نزول ثمرته بهم، و البلبلة: الاختلاط. و الغربلة: نخل الدقيق و غيره، و ذلك اشارة الى ما يفعله بنو اميّة بهم من خلط بعضهم ببعض، و رفع اراذلهم و حط أكابرهم، كما يفعل بالقدر سائطها. و لفظ الغربلة: مستعار لالتقاط احادهم بالقتل و الاذى كما فعلوا بكثير من الصّحابة و التّابعين.
و قوله: و ليسبقنّ ، الى قوله: سبقوا،: اشارة الى ما علمه من اسرار القدر في تقصير من كان له سبق في الدّين، و تقدّم رتبة فيه، او الى سبق من كان قصر فيه في اوّله أو سبق من كان قاصرا في اوّل الاسلام عن الخلافة و الامارة في آخر الزّمان اليها، و بقصر من سبق اليها عن بلوغها. ثم اشار الى ذلك الاخبار انّه مما أخبر به النّبى صلّى اللّه عليه و آله،
ص: 109
و اقسم انّه لم يكتم منه وشمة اى: كلمة مما اخبره به و تعيّن عليه ان يؤثره عنه. و الوشمة بالشين المعجمة: الكلمة، و انّه لم يكذب فيه، و هذا المقام مقام بيعة الخلق له، و هذا اليوم اى: يوم اجتماعهم عليه، و استعار لفظ الخيل: بوصف الشماس، و خلع اللجم للخطايا باعتبار ورودهم بها النار بسرعة كالفرس الجموح براكبه المتقحم(1) به فى المهالك. و لفظ المطايا: بضد تلك الأوصاف للتّقوى الموصلة لصاحبها الى الجنّة كراكب المطيّة الذّلول يصل الى غايته بها بسهولة و اختيار.
و قوله: حقّ و باطل، اى: في الوجود فلكل واحد منهما اهل كقول النّبى صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ ميسر لما خلق له». و قوله: فلئن امر الباطل اى: كثر الى قوله: و لعلّ ، كالاعتذار لنفسه و لأهل الحقّ في قلّته، و توبيخ لأهل الباطل على كثرته. و في قوله: ربّما و لعلّ ترجّ ، و اطماع لعود الحقّ الى الكثرة بعد قلّته ترغيبا في لزومه كيلا يضمحل بالتّخاذل عنه، و الاحسان في كلام السيد: مصدر أحسن اذا فعل حسنا، و مواقع الاحسان: الكلمات الحسنة منه(2)، و مواقع الاستحسان: الكلم المستحسنة له، لأنّها لا تبلغ محاسن كلامه و لا تحيط بها. و قوله: و ان حظّ الى قوله: به، اى: انّ تعجب الفصحاء من حسنه أكثر من عجبهم بأنفسهم باستخراج محاسنه، لأنّ فيه محاسن لا يمكنهم التعبير عنها، و ان تعجبوا منها.
و من هذه الخطبة:
شغل من الجنّة و النّار أمامه، ساع سريع نجا، و طالب بطىء رجا، و مقصّر في النّار هوى. اليمين و الشّمال مضلّة، و الطّريق الوسطى هى الجادّة عليها باقى الكتاب و آثار النّبوّة، و منها منفذ السّنّة، و إليها مصير العاقبة، هلك من ادّعى، و خاب من افترى. من أبدى صفحته للحقّ هلك، و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره لا يهلك على التّقوى سنخ أصل، و لا يظمأ عليها زرع قوم. فاستتروا ببيوتكم، «وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ »، و التّوبة من ورائكم، و لا يحمد حامد إلاّ ربّه، و لا يلم لائم إلاّ نفسه.
ص: 110
اقول:
معنى القضيّة الأولى انّ من كانت الجنّة و النّار امامه كان له بهما شغل عن غيرهما، و شغله بهما ملاحظتهما و الهمّة بما يكون وسيلة اليهما، و استعار لفظ الامام لهما: باعتبار كونهما غايتين ينتهى اليهما، و بناء الفعل للمفعول اذ الغرض ذكر الشغل دون المشغل. و قوله: ساع، الى قوله: النار: قسمة للناس بالنسبة الى ما وجب عليهم من الشغل المشار اليه الى ثلاثة اقسام و وجه القسمة انّ الناس امّا طالبون للّه و لما عنده، او غير الطّالبين، و الطّالبون امّا مجتهدون في الوصول اليه، او متأنّون، و الاوّل هم السابقون المقرّبون. و الثالث المقصّرون الذين وقف بهم الشيطان حيث اراد، و ظاهر كونهم فى النار. و امّا الثاني فذو وصفين يتجاذبانه من جهتى السّفالة و العلوّ فسلوكه الى اللّه و ان ضعف جاذب له الى الجنّة، و يد الشّيطان جاذبة له الى النّار الاّ انّ رجاءه للّه و مسكنه به اذا انضاف الى حركته البطيئة في سبيل اللّه كانت السّلامة عليه اغلب.
و انّما خصّ الثاني بالرجاء لانّه عمدته دون عمله لضعفه، و نحوه قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ »(1). و قوله: اليمين و الشمال (2)الى آخره، الجادّة: اشار باليمين و الشمال الى طرفى الافراط و التفريط من الفضائل النفسانية، و الطرق الوسطى الى العدل منهما. و هو الحصول على نفس الفضيلة من غير انحراف عنها الى اطراف الرذائل منها و هى الصراط المستقيم في الدنيا(3)، و الجادّة الواضحة لمن اهتدى و عليها باقى الكتاب الكريم من المقاصد الالهية: و آثار النبوّة، و منقذ السنّة: اى طريقها و مخرجها و اليها تصير عاقبة الخلق في الدّنيا و الآخرة، فانّ من العدل بدأت السنّة و انتشرت في الخلق، و اليه مرجع امورهم و عواقبها.
قوله: هلك من ادّعى: تعريض لمعاوية و دعواه الامامة، و اللّفظ عام، خرج على سبب خاص اى: هلك من ادّعى ما ليس له بحق و خاب من كذب في دعواه، و الخيبة:
دعاء او خبر بعدم حصول الخير في الآخرة. و قوله: من ابدى، الى قوله: قدره، أراد من
ص: 111
تجرّد لاظهار الحق في مقابلة كل باطل سمعه او رآه من الجاهلين و حملهم على مرّ الحق و صعبه في كلّ وقت كان في مظنّة الهلاك بأيديهم و ألسنتهم، و كانّه ايماء الى نفسه في معرض الاعتذار في مقابلة معاوية و غيره على باطلهم، و جهل المرء بقدره و مرتبته من النّاس جهل فاحش لاستلزامه رذائل صعبة كالعجب و الكبر و نحوهما من المهلكات.
و قوله: لا يهلك، الى قوله: قوم: فالسنخ الاصل و ذلك لانّ التّقوى كالارض الحرّة لا يهلك ما غرس من اصل، و كالماء العذب ما يظمأ عليه ما زرع و هو ترغيب فيها لغاية ما يثمره من الخير الاخروى، و امرهم بالاستتار ببيوتهم اى: لزومها قطعا لمادة الفتنة من الاجتماع للمنافرات و المفاخرات، و نبّههم على الرجوع الى التّوبة و انّها مقبولة منهم و كونها وراء لهم باعتبار رجوع العاصى اليها عمّا هو متوجّه بقلبه اليه من المعصية. و قيل: وراء بمعنى:
امام و الاوّل اشبه.
إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان: رجل وكله اللّه إلى نفسه فهو جائر عن قصد السّبيل، مشغوف بكلام بدعة، و دعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته. و رجل قمش جهلا موضع في جهّال الأمّة عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة قد سمّاه أشباه النّاس عالما و ليس به، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من آجن، و اكتنز من غير طائل، جلس بين النّاس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه، ثمّ قطع به، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت: لا يدرى أصاب أم أخطأ: فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خبّاط جهالات عاش ركّاب عشوات لم يعضّ على العلم بضرس قاطع يذرى الرّوايات إذراء الرّيح الهشيم لا مليء و اللّه بإصدار ما ورد عليه، و لا هو أهل لما فوّض إليه لا يحسب العلم
ص: 112
في شيء ممّا أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، و إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدّماء، و تعجّ منه المواريث إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا، و يموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه، و لا عندهم أنكر من المعروف، و لا أعرف من المنكر.
أقول:
البغض من اللّه يعود الى علمه بمخالفة العبد لأوامره، و اطلاقه مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه. و وكّله اللّه الى نفسه، جعل اعتماده عليها، و مشغوف: معجب.
و القمش: الجمع. و الموضع بكسر الضاد: المسرع اى: انّه يسرع في جهالّ الامة الى ما يسرعون اليه. و روى موضع بفتحها اى: انّه ليس من اشراف الناس و اغباش الفتنة:
اوائل ظلماتها، و روى غار اى: غافل في ظلمات الخصومات لا يهتدى لوجه تخليصها. و روى اغطاش الفتنة و الغطش ايضا: الظلمة. و الهدنة: الصلح اى: اعمى البصيرة عن وجه المصلحة في المصالحة بين الناس، و اشباه الناس: الجهّال المشبّهون للكاملين(1)فى الصورة الحسّية دون الصّورة التمامية الّتى هى كمال العلوم، و مكارم الاخلاق. و روى جمع منوّنا على انّ الجملة بعده صفة له، «و ما» مصدرية او بمعنى: الّذى، و جمع بمعنى: مجموع. و روى مضافا و يقدر أن بعد ما على طريقة قولهم: تسمع بالمعيدى خير من أن تراه(2). و استعار وصف التبكير: للسبق في اوّل العمر الى جميع الشبهات، و الآراء الباطلة. و استعار لفظ الماء الآجن: للجهل و الاعتقادات الفاسدة، و وصف الارتواء لتملّيه منها، و المبهمات: القضايا الملتبسة التي تدقّ فيها الحق. و الحشو: الكلام الكثير لا فائدة فيه. و الرثّ : الضعيف. و نسج العنكبوت: مثل للامور الواهية، و وجه التمثيل انّ ذهن الجاهل اذا قصد حلّ مبهمة(3) كثرت عليه الشبهات فيلتبس على ذهنه
ص: 113
وجه الحق، و لا يخلص اليه منها فمثله في الشّبهات الواهية كالذباب في نسج العنكبوت لا يتمكن على ضعفه ان يتخلص منه. و خباط جهالات: كثير الخبط فيها. و روى جهلات(1) جمع جهلة: فعلة من الجهل. و العشوة: مصدر قولك عشوت ضوء النّار اذا تبيّنته على ضعف و اراد: انّه لا يستنتج نور الحقّ في ظلمات الشّبهات الاّ على ضعف لنقصان ضوء بصيرته. و لم يعضّ على العلم بضرس قاطع: كناية عن عدم اتقانه للقوانين الشرعيّة، و اصله انّ الانسان يمضغ الشيء ثم لا يجيد مضغه.
و اذراؤه للروايات تصفّحها و قراءتها مع عدم فهمها و الانتفاع بها، و كونه لا يحسب العلم في شيء مما انكره، اى: لا يعدّه شيئا و لا يدخله في الحساب بل ينكره كسائر ما انكره، و أراد علم الاصولين و غيرهما دون الفروع. و روى يحسب بكسر السين من الحساب و هو: الظنّ اى: لا يظن العلم الذى هو وراء اعتقاده فضيلة يجب اعتقادها. و استعار وصف الصراخ، و العجيج، و هو: رفع الصوت لنطق الدّماء، و المواريث بلسان حالها متظلّمة شاكية. و يحتمل ان يريد اهل الدّماء فحذف المضاف: و الى اللّه اشكو، او ابرأ. و قوله: ليس فيهم، الى آخره، اى: اذا فسر الكتاب على وجهه رخص عندهم و اطرحوه لمخالفته اغراضهم، و اذا حرّف عن مواضعه و وافق اغراضهم شروه بأغلى ثمن.
و لا انكر من المعروف لقلّته و عدمه بينهم، و لا اعرف من المنكر لكثرة وجوده و الفهم له.
ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذى استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا، و إلههم واحد و نبيّهم واحد! و كتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه ؟ أم نهاهم عنه فعصوه ؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ؟ أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى ؟ أم أنزل اللّه سبحانه
ص: 114
دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تبليغه و أدائه، و اللّه سبحانه يقول: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ » و قال: «لِكُلِّ شَيْ ءٍ » و ذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا، و أنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً». و إنّ القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه، و لا تنقضي غرائبه و لا تكشف الظّلمات إلاّ به.
أقول:
فى هذا الفصل تصريح بانّه عليه(1) السّلام كان يرى إنّ الحقّ في جهة، و انّه ليس كلّ مجتهد في الفروع مصيبا كما يراه الجمهور من الاصوليين، و المسألة مشهورة في اصول الفقه.
و قوله: ترد، الى قوله: جميعا: صورة حالهم التي ينكرها، و هو قوله: و الههم، الى قوله: واحد شروع في بطلان ما يرونه، و هو صغرى ضمير تقدير كبراه و كلّ قوم كانوا كذلك فلا يجوز ان يختلفوا في حكم شرعىّ ، و تكون آرائهم المختلفة صائبة. و قوله:
فأمرهم اللّه، الى آخره: بيان للصغرى و تقديره انّ ذلك الاختلاف امّا ان يكون بأمر من اللّه أطاعوه فيه، أو بنهى منه عصوه فيه، او بسكوت عن الأمرين، و على التقدير الثالث فجواز اختلافهم في دينه. و الحاجة الى ذلك امّا ان يكون مع نقصانه او مع تمامه. و تقصير الرّسول في أدائه و على الوجه الاوّل فالاختلاف انّما يجوز على أحد وجهين: امّا ان يكون ذلك الاختلاف تماما لذلك النقصان، او على وجه أعم من ذلك و هو كونهم شركاؤه فى الدين فعليه ان يرضى بما يقولون، و لهم ان يقولوا اذ شأن الشّريك ذلك، فهذه وجوه خمسة. و حصر الاقسام الثلاثة الاخيرة ثابت بحسب استقراء وجوه الحاجة الى الاختلاف، و الاقسام كلها باطلة. و اشار الى بطلانها ببقية الكلام.
امّا بطلان الاوّل فلانّ مستند الدّين هو كتاب اللّه و هو يصدّق بعضه بعضا، فلا اختلاف فيه فلا يكون مبدءا للاختلاف فليس اختلافهم مستندا الى الكتاب فلا يكون من الدين. و امّا الثّانى فلانّ عدم جواز المعصية للّه بالاختلاف مستلزم لعدم جواز
ص: 115
الاختلاف. و امّا الثالث و هو نقصان دين اللّه فلقوله تعالى: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ »(1). و امّا الرابع و الخامس فظاهر البطلان و لا يمكن دعواهما، فلذلك لم يحتج الى بطلانهما، ثمّ نبّههم الى(2) انّ القرآن واف بجميع المطالب، اذا تدبّروا معناه فيحرم عليهم قول لا يستند اليه و ذلك في قوله: ظاهره انيق اى: حسن معجب بأنواع البيان، و باطنه عميق لا ينتهى الى جواهر اسراره الاّ اولو الألباب، و لا تفنى الامور المعجبة منه و لا تنقضى النكت الغريبة فيه و لا تكشف ظلمات الشبه الاّ به.
قاله للأشعث بن قيس و هو على منبر الكوفة يخطب، فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فقال: يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض عليه السّلام إليه بصره ثم قال:
ما يدريك ما علىّ ممّالى! عليك لعنة اللّه و لعنة اللاّعنين، حائك بن حائك منافق ابن كافر و اللّه لقد أسرك الكفر مرّة و الإسلام أخرى فما فداك من واحدة منهما مالك و لا حسبك، و إنّ امرأ دلّ على قومه السّيف، و ساق إليهم الحتف، لحرىّ أن يمقته الأقرب، و لا يأمنه الأبعد.
قال السّيد: يريد عليه السّلام انّه أسر في الكفر مرّة و في الاسلام مرّة، و امّا قوله عليه السّلام: دلّ على قومه السّيف فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غرّ فيه قومه و مكر بهم حتّى اوقع بهم خالد و كان قومه بعد ذلك يسمّونه «عرف النّار» و هو: اسم للغادر عندهم.
اقول: روى انّه عليه السّلام كان في خطبته يذكر امر الحكمين، فقام اليه رجل من أصحابه، و قال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندرى ايّ الأمرين ارشد؟ فصفق عليه السّلام احدى يديه على الاخرى و قال: هذا جزاء من ترك العقدة، فظنّ الاشعث انّه
ص: 116
اراد هذا جزائىّ؟ فقال: الكلمة فأشار الى جهله بقوله: و ما يدريك اذ ليس للجاهل ان يعترض على مثله بما لا يعلمه، و استحقّ اللّعن لانّه كان من المنافقين. و استعار له و لأبيه لفظ الحائك لأنّ كندة معروفة بالحياكة و هى مظنّة نقصان العقل. و قيل: لانّ الاشعث و أباه كانا ينسجان في اوّل أمرهما برود اليمن، و عيّره بها لدناءتها. قوله: و لقد أسرك، الى قوله: حسبك: تأكيد لنقصان فطنته و انّه وجد نفسه مرّتين في الأسر(1) و لم يعقل وجه الخلاص. و ما فداك اى: لم ينجك من الوقوع و لا يحمل على الفداء بعد الأسر، لانّه فدى نفسه كما نقل.
امّا أسر الكفر له فلأنّ مرادا لمّا قتلت أباه خرج ثائرا بدمه فاسر، ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير. و امّا اسر الإسلام له فلانّه لما ارتدّ بحضر موت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بعث اليه ابو بكر بزياد بن ابيه، ثم بعكرمة بن ابى جهل في جيش من المسلمين فالتجأ الى حصن قومه فاسره زياد و قدم به على ابى بكر فاستبقاه و زوّجه اخته امّ فروة، و له قصّة طويلة اشرنا اليها في الاصل(2). و قوله: و انّ امرأ، الى قوله: الأبعد: اشارة الى غدره بقومه حين حصرهم زياد فطلب الأمان لنفسه، و لنفر يسير من قومه، فظنّ الباقون أنّه أخذ الأمان لجميعهم، فخرجوا فقتلوا صبرا. و الحتف: الهلاك.
و امّا قول السّيّد انّه اراد حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة فلم اقف على شيء من ذلك في وقائع خالد باليمامة، و حسن الظن به يقتضى صدق نقله. و امّا استعارتهم لعرف النّار فلأنّ العرف: عبارة عن كلّ عال مرتفع. و لمّا كان الغدر طباعا له و هو مستلزم للنّار صار كالعلم على النار قائدا لمن أتبعه اليها كاعلام الطريق(3).
فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم و سمعتم و أطعتم و لكن
ص: 117
محجوب عنكم ما قد عاينوا، و قريب ما يطرح الحجاب، و لقد بصّرتم إن أبصرتم، و اسمعتم إن سمعتم، و هديتم إن اهتديتم، بحقّ أقول لكم لقد جاهرتكم العبر و زجرتم بما فيه مزدجر، و ما يبلّغ عن اللّه بعد رسل السّماء إلاّ البشر.
أقول:
الوهل بالتّحريك: الفزع. و روى و هلعتم، و الهلع: افحش الجزع، و اعلم أنّ الإنسان ما دام ملتحفا بجلباب البدن فانّه محجوب بظلمات هيأته و معارضات أوهامه و خيالاته عن مشاهدة عالم الغيب، و ذلك الحجاب أمر قابل للزّيادة و النّقصان، و النّاس فيها على مراتب و لو قد نضى(1) هذا الجلباب و طرح عن اعين بصائرهم ذلك الحجاب، لشاهدوا من احوال الآخرة و أهوالها ما شاهده من دخل اليها كقوله تعالى: «فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ»(2) فجزعوا حينئذ و فزعوا و سمعوا الدّاعى للّه و اطاعوا.
و قوله: و لكن، الى قوله: الحجاب: اشارة الى سبب غفلتهم و هو الحجب المذكورة و التّهديد بقرب زواله بالموت، و ما مصدريّة في موضع رفع بالابتداء. و قوله: و لقد بصرتم، الى قوله: اهتديتم: تنبيه على طريق الهداية و انّها قد اوصلت اليهم ما ينتفع به لو انتفعوا به، و مجاهرة العبر لهم وضوحها و ظهور دلالتها، و ما فيه مزدجر كالنواهى المؤكّدة بالوعيدات الهائلة و العقوبات الحاضرة كقوله تعالى: «وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ» (3)قوله: و ما يبلّغ الى آخره، أي: ليس في الامكان طريق وراء ما جذبتم به الى اللّه على ألسنة رسله، و ليس يمكن ان تبلّغكم رسالاته بعد رسل السّماء و هم الملائكة الاّهم، فلا عذر لكم في التّخلّف عن دعوتهم. و باللّه التوفيق.
فإنّ الغاية أمامكم و إنّ وراءكم السّاعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم.
ص: 118
قال السّيّد: أقول: إنّ هذا الكلام لو وزن، بعد كلام اللّه سبحانه و بعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بكلّ كلام لمال به راجحا، و برّز عليه سابقا. فأمّا قوله عليه السّلام:
«تخفّفوا تلحقوا» فما سمع كلام أقلّ منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة و أنقع نطفتها من حكمة، و قد نبّهنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها و شرف جوهرها.
أقول: أراد بالغاية حال الآخرة من جنّة تطلب، او نار تهرب عنها، ممّا هو متوجّه اليه و غاية للانسان ينتهى اليها، و بذلك الاعتبار صدق عليها انّها أمام، و استعار لفظه لها، و الساعة: القيامة و الموت، و كونها وراء باعتبار كونها مهروبا منها، و المهروب منه خلف الهارب، فاستعار لفظه لها و وصفها بصفة السائق و هو الحداء. و اشار بالتّخفيف الى الزّهد الحقيقى الّذى به يتخفّف المسافر الى اللّه من أثقال الدّنيا، و أوزارها المانعة من الصّعود الى حضرته المقدّسة، و بذلك يلحق المسافر بمنازل السّابقين الأوّلين. و الكلمتان في قوّة شرط و جزاء. و قوله: فانّما ينتظر باوّلكم آخركم، اي: انّما ينتظر بالقيامة الكبرى على اوّلكم، و من سبق منكم و وصول كلّ الى ما يستحقّه من كمال رحمة او عذاب لحوق الآخرين الّذين لم يموتوا. و وصف الانتظار مستعار لكمال مطلوب اللّه سبحانه من الخلق باسمهم، و هو وصولهم الى ساحل عزّته اذ كان نظر عنايته اليهم واحدا، و استعار السّيّد لفظ النّطفة، و هو الماء القليل الصّافى لما فيها من الحكمة. و باللّه التّوفيق.
ألا و انّ الشّيطان قد ذمر حزبه، و استجلب جلبه. ليعود الجور إلى أوطانه، و يرجع الباطل إلى نصابه. و اللّه ما أنكروا علىّ منكرا، و لا جعلوا بينى و بينهم نصفا. و إنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه، و دما هم سفكوه، فلئن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه، و لئن كانوا ولّوه دونى فما التّبعة إلاّ عندهم، و إنّ أعظم حجّتهم لعلى أنفسهم! يرتضعون أمّا قد فطمت و يحيون بدعة قد أميتت!! يا خيبة الدّاعى! من دعا؟ و إلام أجيب ؟ و إنّى
ص: 119
لراض بحجّة اللّه عليهم، و علمه فيهم، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف و كفى به شافيا من الباطل، و ناصرا للحقّ ، و من العجب بعثهم إلىّ أن أبرز للطّعان! و أن أصبر للجلاد:
هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدّد بالحرب، و لا أرهّب بالضّرب، و إنّى لعلى يقين من ربّى، و غير شبهة من دينى.
أقول: ذمّر بالتخفيف و التّشديد: حثّ . و الجلب: الجماعة من النّاس تجمع و تؤلّف، و النصاب: الأصل، و المنكر الّذى إدّعوه عليه قتل عثمان. و السكوت عن النكير على قاتليه. و لمّا كان عليه السّلام بريئا من دمه صدق انّهم ما أنكروا عليه منكرا فعله، و تركهم لذلك الحقّ ، و سفكهم لذلك الدّم هو مشاركتهم فيه، فإنّ المشهور انّ طلحة كان من المحرّضين على قتله و السّاعين في ذلك.
قوله: فلئن كنت، الى قوله قبلهم: اقامة للحجّة على دفع مقالتهم، و تقديرها انّهم دخلوا في قتل عثمان، و كلّ من دخل فيه بالاستقلال او الشّركة فليس له ان يطلب غيره بدمه(1) او يطلب شريكه دون نفسه. و استعار لفظ الارتضاع: لطلبهم منه عليه(2) السّلام ما كانوا يعهدونه من الصّلات من عثمان، و لفظ الأم: للخلافة، فبيت المال لبنها، و المسلمون أولادها المرتضعون، و وصف الفطم: لمنعه عليه(3) السّلام لهم من ذلك، و البدعة الّتى يحيونها هو التّفضيل اذ كان بخلاف سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و اماتتها: تركها. قوله: يا خيبة الدّاعى، الى قوله: اجيب: خرج مخرج التّعجّب من عظم خيبة الدّعاة الى قتاله و من دعا. و الى ما اجيب: استفهام على سبيل الاستحقار للمدعوّين لقتاله النّاصرين للدّاعى، اذ كانوا عوامّ الناس، و للمدعوّ اليه و هو الباطل الّذى دعوا لنصرته، و يحتمل ان يكون لتعظيم المدعوّ الى قتالهم يعنى نفسه عليه(4) السّلام. و المدعوّ اليه و هو الحرب، و حجّة اللّه امره الصّادر بقتال الفئة الباغية كقوله تعالى: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا»(5) الآية، و كلّ
ص: 120
أمر للّه او نهى له فهو حجّة له، و كلّ حجّة للحقّ فهى حجّة اللّه(1). و الهبول: الثواكلّ ، و هو ممّا تدعوا به العرب. قوله: لقد كنت و ما اهدّد بالحرب اى: من حيث كنت لا اخشى من وعيد الحرب و اليقين من اللّه بما وعد المتّقين، و ذلك مؤكّد لعدم خشيته من الحرب و القتال. و باللّه التّوفيق.
أمّا بعد فإنّ الأمر ينزل من السّماء إلى الأرض كقطرات المطر: إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس، فلا تكوننّ له فتنة: فإنّ المرء المسلم مالم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت، و تغرى بها لئام النّاس، كان كالفالج الياسر الّذى ينتظر أوّل فوزة من قداحه توجب له المغنم، و يرفع بها عنه المغرم، و كذلك المرء المسلم البرىء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعى اللّه فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال، و معه دينه و حسبه، إنّ المال و البنين حرث الدّنيا، و العمل الصّالح حرث الآخرة، و قد يجمعهما اللّه لأقوام، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه، و اخشوه خشية ليست بتعذير، و اعملوا في غير رياء و لا سمعة، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه لمن عمل له نسأل اللّه منازل الشّهداء، و معايشة السّعداء، و مرافقة الأنبياء. أيّها النّاس إنّه لا يستغنى الرّجل، و إن كان ذا مال، عن عشيرته، و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم النّاس حيطة من ورائه، و ألمّهم لشعثه، و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به. و لسان الصّدق يجعله اللّه للمرء في النّاس خير له من المال يورّثه غيره.
اقول:
مدار الفصل على تأديب الفقراء بترك الحسد (و نحوه. و فيه تأديب للاغنياء
ص: 121
بالشّفقة على الفقراء)(1) و مواساتهم و تزهيد بجمع المال. و قدّم مقدّمة حاصلها الاشارة الى أنّ كلّما يتجدّد من زيادة او نقصان فيما يكون به صلاح الخلق في معاشهم و معادهم من مال، او جاه، او اهل، فانّه عن قسمة ربّانيّة و الامر الّذى هو حكم القدرة الالهيّة على الممكنات بالوجود المعبّر عنه بقوله تعالى: «إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (2)و نزوله: حصوله لكلّ نفس بما قسّم لها و هو القدر في قوله تعالى: «وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ »(3) و المراد بالسّماء: سماء الجود الإلهى، و بالارض: ارض قوابل الجود في هذا العالم، و يحتمل ان يراد ظاهرهما لأنّ السّماوات بحركاتها شرائط معدّة لما يحدث فى الارض فكانت مبادئ على بعض الوجود لنزول الأمر، فجاز نسبته اليها. و وجه التّشبيه بقطر المطر: أنّ حصوله لكل نفس مما يختلف بالاصابة و عدمها، و بالزّيادة و النّقصان كالقطر بالنّسبة الى البقاع و هو تشبيه للمعقول بالمحسوس. قوله: فاذا رأى أحدكم، الى قوله: فتنة. و الغفيرة: الدناءة و فيه تأديب لمن حصل فى حقّه النّقصان من أحد الامور المذكورة بالنّهى عن الفتنة بحال من حصلت له الزّيادة فى احدهما. و الفتنة: الإبتلاء اى: فلا يبتلى نفسه بغبطته و حسده. قوله: فإنّ المرء الى قوله: حسبه: تنبيه على فضيلة الانتهاء عن الفتنة باحد الامور المذكورة فنبّه على كونها دنايا. بقوله: ما لم يغش دناءة و ما: بمعنى المدّة، و كالفالج:
خبر إنّ و تظهر صفة لدناءة، و يخشع: عطف على تظهر. و الكلام في معرض التّعليل، و معناه: انّ المسلم مهما لم يرتكب امرا خسيسا يظهر عنه و يلزمه بارتكابه الخجل من ذكره، و الحياء من التّعبير به، و يغرى به لئام النّاس و عوامهم في فعل مثله، و قيل: فى هتك ستره به يشبه الفالج الياسر اى: الفائز اللاّعب بالميسر، و هو: لعب مخصوص كانت العرب تلعب به، و قد شرحنا كيفيّته في الاصل(4). و وجه الشّبه انّ الفائز الياسر قبل فوزه فى لعبه، ينتظر اوّل فوزه به من قدّاحه، و هى الخشبات الّتى يلعب بها، و وجه فوزه انّه
ص: 122
يستوجب المغنم في بعض السّهام، و ينفى عنه بخروجها المغرم، و بعضها يوجب غنما و غرما، و بعضها لا يوجب غنما و يوجب غرما، كذلك المسلم البرىء من الخيانة الضّابط لنفسه عن ارتكاب مناهى اللّه في صبره عنها ينتظر احدى الحسنيين في الدّنيا، امّا أن يدعو اللّه اليه بالقبض عن الشّقاء في هذه الدّار فما عند اللّه خير له فيفوز اذن بالنّعيم المقيم. و لمّا كان مستلزما لعدم خسرانه ظهر حسن تشبيهه بالياسر الفالج في فوزه المستلزم لعدم غرمه. و امّا ان يفتح اللّه عليه أبواب رزقه فيصبح و قد جمع اللّه بين المال و البنين مع حفظ الحسب والدّين فيفوز الفوز العظيم. قوله: إنّ المال، الى قوله: لأقوام: تنبيه على تحقير المغشيات الدّنيوية بالنّسبة الى متاع الآخرة. قوله: و قد يجمع اللّه لأقوام: تنبيه على وجوب التّوكّل على اللّه اذ كان جمعها غير ممكن إلاّ منه، ثمّ أكّد ذلك بالتحذير مما حذّر اللّه من نفسه و الأمر بالخشية الصّادقة البريئة من التّعذير و هو اظهار العذر من غير عذر، و العمل للّه البرىء من الرّياء، و جذب اليه بضمير صغراه. قوله: فإنّه، الى قوله: له، و تقدير كبراه و كلّ من وكّله الى من عمل له غير اللّه فهو من الخاسرين، و معايشة السّعداء: العيش معهم. قوله: ايّها النّاس الى قوله: غيره: تأديب للاغنياء بالمعونة للفقراء لينتظم شمل المصلحة من الطّرفين، و استدرجهم بضميرين صغرى الأوّل انّهم لا يستغنون عنهم، و ان كانوا اصحاب ثروة اذ صاحب المال احوج الى الاعوان للذّبّ عنه، و تقدير الكبرى أنّ و كلّ من لا يستغنى عنه، فواجب مواساتهم. و الحيطة بكسر الحاء و سكون الياء: الحفظ. و ألمّهم لشعثه: أجمعهم لما يعرف من حاله، و صغرى الثاني قوله: و لسان الصدق الى آخره، و تقدير كبراه و كلّ ما كان خيرا من المال فالأولى بذل المال لاكتسابه، و لسان الصّدق هو الذّكر الجميل. و منها:
ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالّذى لا يزيده إن أمسكه، و لا ينقصه إن أهلكه، و من يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة، و تقبض منهم عنه أيد كثيرة، و من تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة.
ص: 123
قال الشّريف: أقول: الغفيرة ههنا الزّيادة و الكثرة، من قولهم للجمع الكثير: الجمّ الغفير، و الجمّاء الغفير. و يروى «عفوة من أهل أو مال» و العفوة الخيار من الشيء، يقال:
أكلت عفوة الطّعام، أى: خياره، و ما أحسن المعنى الّذى أراده عليه السّلام بقوله: «و من يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الكلام، فإنّ الممسك خيره عن عشيرته إنّما يمسك نفع يد واحدة. فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطرّ إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره، و تثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدى الكثيرة، و تناهض الأقدام الجمّة.
أقول: الخصاصة: الفقر. و الفصل من تمام ما قبله و حاصله: النّهى عن العدول عن سد خلة الأقرباء ذوى الحاجة بالفاضل من المال. و قوله: يرى، فى موضع النصب على الحال و ان كسرها في موضع الجر بدلا من القرابة. و قوله: لا يزيده الى قوله: اهلكه، اى:
لا يزيد امساكه في صلاح حاله و لا ينقص اتلافه من ذلك إذ الفضل الزّائد في حال الانسان على القدر الّذى يدفع ضرورته بحسب الشّريعة ليس زيادته و لا نقصانه(1) في صلاح حاله و فساده فيها. و امّا قوله: و من تقبض الى آخره، فقد اشار السّيّد رحمه اللّه و هو ظاهر. و قوله: و من تلن حاشيته الى آخره: تأديب بالتّواضع و لين الجانب فانّ ذلك يستلزم الألفة من النّاس و هى موجبة للمودّة.
و لعمرى ما علىّ من قتال من خالف الحقّ ، و خابط الغىّ ، من إدهان و لا إيهان، فاتّقوا اللّه عباد اللّه، و فرّوا إلى اللّه من اللّه، و امضوا في الّذى نهجه لكم، و قوموا بما عصبه بكم. فعلىّ ضامن لفلجكم آجلا، إن لم تمنحوه عاجلا.
أقول: الإدهان: المداهنة و المصانعة، و الإيهان: مصدر اوهنه اى: اضعفه. و في
ص: 124
هذا الفصل ردّ لقول من يقول انّ مصانعته عليه(1) السّلام لمحاربيه اولى من محاربتهم، فقال: انّه ليس يجب عليّ في قتالهم مصانعة من جهة الدّين و لا في ضعف عن ذلك، و وصفهم بمخابطة الغيّ و البغى لقيام عذر، اذ كان قتال من هذه صفته واجبا. و الفرار الى اللّه: الأقبال عليه و توجيه السّير اليه و هو على مراتب: اوّلها، الفرار من بعض آثاره الى بعض كالفرار من أثر غضبه إلى أثر رحمته.
الثّانية، أن يفرّ العبد عن مشاهدة الافعال و يترقّى في درجات القرب و المعرفة إلى مصادر الافعال، و هى الصفات فيفرّ من بعضها الى بعض كما يستفاد من سخط اللّه بعفوه و السّخط و العفو صفتان.
الثالثة، أن يترقّى عن مقام الصّفات الى ملاحظة الذّات فيفرّ منها اليها، و قد جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه المراتب حين أمر بالقرب في قوله تعالى: «وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ »(2) فقال في سجوده: أعوذ بعفوك من عقابك. و العفو كما يكون صفة للعافى كذلك قد يراد به الأثر الحاصل عن صفة العفو. ثمّ لمّا قرب فغنى عن مشاهدة الأفعال و ترقّى الى مصادرها و هى الصّفات، قال: و اعوذ برضاك من سخطك، و هما صفتان. ثمّ لمّا ترقّى عن مقام مشاهدة الصّفات و اقترب الى ملاحظة الذّات، قال: و اعوذ بك منك. و هذا فرار منه اليه، و هو مقام الوصول الى ساحل العزّة. ثم للسّباحة في لجة الوصول درجات أخر لا تتناهى.
و لذلك لمّا قرب ازداد صلّى اللّه عليه و آله قربا، قال: لا احصى ثناء عليك، و هو حذف لنفسه عن درجة الاعتبار و اعراض عن التّبجح بزينة الحقّ في ذاته، و كان قوله بعد ذلك: أنت كما أثنيت على نفسك، كمالا للإخلاص و تجريدا له، و عند ذلك يقول:
إنّقوله عليه السّلام: و فرّوا الى اللّه من اللّه: امر بالتّرقّى الى المرتبة الثّالثة من المراتب المذكورة.
و ما نهجه لهم و اوضحه: هو السّبيل العدل، و الصّراط المستقيم، و قد علمت انّ غاية سلوك سبيل اللّه بالعبادة تطويع النّفس الأمّارة بالسّوء للنّفس المطمئنّة، و حينئذ تعلم
ص: 125
أنّ هذه الأوامر الثلاثة هى الّتى عليها مدار الرّياضة. فالأمر بالتّقوى يستلزم الزّهد الحقيقى، و هو معين على حذف الموانع الدّاخلية و الخارجيّة، و الامر بسلوك سبيل اللّه معين على تطويع النّفس الأمّارة، و الأمر بالفرار الى اللّه امر بتوجّه السّير اليه، و هذه الاعراض الثّلاثة الّتى يتوجّه نحوها الرّياضة المستلزمة لكمال الاستعداد للوصول اليه تعالى، و لذلك قال عليه السّلام بعدها: فعليّ ضامن لفلجكم آجلا ان لم تمنحوه عاجلا.
و الفلج: الفوز، و المنحة: العطيّة، و ذلك بشرط الاستعداد بلزوم الأوامر المذكورة.
و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد و قدم عليه عاملاه على اليمن، و هما عبيد اللّه بن عباس، و سعيد بن نمران لمّا غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة، فقام عليه السّلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له في الرّأى، فقال: - ما هى إلاّ الكوفة أقبضها و أبسطها، إن لم تكوني إلاّ أنت تهبّ أعاصيرك. فقبّحك اللّه. و تمثّل بقول الشّاعر:
لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّني *** على وضر من ذا الإناء قليل
ثم قال عليه السّلام:
أنبت بسرا قد اطّلع اليمن، و إنّى و اللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم:
باجتماعهم على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم، و بمعصيتكم إمامكم في الحقّ ، و طاعتهم إمامهم في الباطل، و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم و بصلاحهم في بلادهم و فسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته! اللّهمّ إنّى قد مللتهم و ملّوني و سئمتهم و سئمونى، فأبدلنى بهم خيرا منهم و أبدلهم بى شرّا منّى، اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما و اللّه لوددت أنّ لى بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم.
ص: 126
هنا لك، لو دعوت، أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحميم
ثم نزل عليه السّلام من المنبر.
قال السيّد: قلت أنا: و الأرمية جمع رمى و هو السّحاب، و الحميم ههنا: وقت الصّيف، و إنّما خصّ الشّاعر سحاب الصّيف بالذّكر لأنّه أشدّ جفولا و أسرع خفوفا لأنّه لا ماء فيه. و إنّما يكون السّحاب ثقيل السّير لامتلائه بالماء، و ذلك لا يكون في الأكثر إلاّ في زمان الشّتاء، و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسّرعة إذا دعوا، و الإغاثة إذا استغيثوا، و الدّليل على ذلك قوله هنا لك لو دعوت أتاك منهم.
أقول: الضّمير في قوله، و انّما هى الكوفة و ان لم يسبق ذكرها لكونها المعهودة فى الخطاب، و نحوه قوله تعالى: «كَلاّٰ إِنَّهٰا لَظىٰ نَزّٰاعَةً لِلشَّوىٰ »(1) و يحتمل ان يكون ضمير الشّأن، و يفهم من الكلام حصر ما بقى من البلاد الّتى تعتمد عليها في الحرب و غيره في الكوفة على سبيل التّحقير لها بالنّسبة الى ملك الاسلام، و قبضها و بسطها:
كنايتان عن وجوه التّصرّف فيها. و الضّمير بعد الاّ بدل مما قبلها، و الجملة الفعليّة بعده فى موضع الحال و خبر كان محذوف. و لفظ الأعاصير: يحتمل ان يكون حقيقة لأنّ الكوفة معروفة بهبوب الأعاصير فاتى بذلك في معرض ذمّها و تحقيرها. و يحتمل ان يكون مستعارا لمّا يحدث من آراء أهلها المختلفة الّتى هى منبع الفتنة، و وجه المشابهة الازعاج و الأذى و الاستصغار ايّاها تمثل بالبيت - لعمر أبيك الخير -.
و وجه التّمثيل انّ الكوفة تشارك الوضر و هو: الدّرن الباقى في الاناء (بعد الأكل فى القلّة و الحقارة فهو يقول: إنّى على بقيّة من هذا الأمر كالوضر في الاناء)(2). و من روى الآلاء و هو: شجر حسن المنظر مرّ الطّعم، فإنّما اراد أنّي على بقيّة من هذا الأمر كالقدر الحاصل لناظر الآلاء من حسنه مع عدم الانتفاع به. و خص الكوفة دون البصرة لأنّ جمهور من كان يعتمد عليه من العسكر أهلها.
أقول: انبأت شروع في بيان عرضه و هو: استنفارهم الى الجهاد(3). و بسر بالسّين
ص: 127
المهملة: ابن ابى ارطاة من أصحاب معاوية. و اطّلع اليمن: غشها. و الادالة: الغلبة، و ذكر من أسباب ما ظنّ وقوعه منهم أربعة من قبلهم هى أسباب الانقهار. و أربعة من قبل الخصم هى اسباب القهر، و رتّب كلّ أمر عقيب ضدّه ليظهر لهم المناسبة بين أفعالهم و أفعال خصومهم. و القعب: قدح ضخم، و دعائه عليه السّلام بوجود الأشرار جائز بشرط(1)المصلحة في تخويفهم بذلك أو لأنّه علم عدم صلاحهم كما دعا نوح عليه السّلام على قومه: اذ «قٰالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي» - إلى قوله «لاٰ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً»(2) و كما دعا لوط عليه السّلام. و الميث: الإذابة.
و روى انّ اليوم الّذى دعا عليهم فيه، ولد فيه الحجّاج، و فعله باهل الكوفة ظاهر.
و قوله: أما و اللّه الى آخره: تحقير لهم بتفضيل غير هم عليهم ليستثير طباعهم بذلك.
و بنو فراس: من تغلب ابوهم غنم بفتح الغين، و هو: غنم بن تغلب بن وائل، و خصّهم لشهرتهم بالشّجاعة و الحميّة. و معنى البيت هو ما اشار إليه السيّد رحمه اللّه(3).
إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين، و أمينا على التّنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّدين، و في شرّدار، منيخون بين حجارة خشن، و حيّات صمّ تشربون الكدر، و تأكلون الجسب، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الآثام بكم معصوبة.
أقول: اقتصّ حال العرب و ما كانوا عليه في الجاهلية من الشدّة و سوء الحال فى المعاش و المعاد في معرض الامتنان عليهم بمقدم محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و شرّ دار: ارض الحجاز لشدّة الحال بها. و منيخون: مقيمون. و الحيّة الصّماء، قيل: هى الّتى
ص: 128
لا تنزجر بالصوت كأنّها لا تسمع. و قيل: هى الصّلبة الشّديدة. و الجشب: الطّعام الغليظ الخشن. و قيل: هو الّذى لا ادام معه، و معصوبة: مربوطة.
و منها.
فنظرت فإذا ليس لى معين إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن الموت، و أغضيت على القذى، و شربت على الشّجى، و صبرت على أخذ الكظم، و على أمرّ من طعم العلقم.
اقول: الفصل من حمل اقتصاص حاله بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طلب الخلافة في معرض الشّكاية، و أهل بيته بنو هاشم. و ضننت: بخلت. و الاغضاء: ادناء بعض الجفون من بعض. و كنّى بأخذ الكظم و هو مجرى نفسه. و بالأمرّ من العلقم:
عن الغمّ و التأثّر بسبب غلبه على مطلوبه.
و لم يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا، فلا ظفرت يد البائع، و خزيت أمانة المبتاع، فخذوا للحرب أهبتها، و أعدّوا لها عدّتها، فقد شبّ لظاها، و علا سناها، و استشعروا الصّبر فإنّه أدعى إلى النّصر.
اقول: الثّمن الّذى اشترطه عمرو على معاوية بيعته ايّاه و مشايعته على حرب عليّ عليه السّلام طعمة مصر، و لم يبايعه حتّى كتب له كتابا. و المبتاع: معاوية و البائع لدينه هو: عمرو. و خزيت امانة المبتاع، يعنى: معاوية فيما ولّى من امر المسلمين اذ كانت امانة في يده. و خزيها: ذلّها و هوانها، و مبايعة عمر و كانت امارة لقيام الحرب فلذلك كنّى عنها بقوله: فقد شبّ لظاها، و علا سناها، اى: ضوءها كناية باستعارة لفظ النّار. و استشعروا الصّبر: اتّخذوه شعارا.
ص: 129
أمّا بعد، فانّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه: و هو لباس التّقوى، و درع اللّه الحصينة، و جنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ ، و شملة البلاء، و ديّث بالصّغار و القماء، و ضرب على قلبه بالأسداد، و أديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، و سيم الخسف، و منع النّصف، ألا و إنّى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا، و سرّا و إعلانا، و قلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم فى عقر دارهم إلاّ ذلّوا فتوا كلتم، و تخاذلتم حتّى شنّت الغارات عليكم، و ملكت عليكم الأوطان، و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار، و قد قتل حسّان بن حسّان البكرىّ ، و أزال خيلكم عن مسالحها، و لقد بلغنى أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، و الأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع و الاسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، و لا أريق لهم دم، فلو أنّ امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندى جديرا، فيا عجبا - و اللّه - يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرّقكم عن حقّكم فقبحا لكم و ترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون، فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الصّيف قلتم هذه حمارّة القيظ، أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ، و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ فاذا كنتم من الحرّ و القرّتفرّون فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ، يا أشباه الرّجال و لا رجال! حلوم الأطفال، و عقول ربّات الحجال، لوددت أنّى لم أركم و لم أعرفكم! معرفة و اللّه جرّت ندما، و أعقبت سدما قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبى قيحا، و شحنتم صدرى غيظا، و جرّ عتمونى نغب التّهمام أنفاسا و أفسدتم علىّ رأيي بالعصيان و الخذلان، حتّى قالت قريش: إنّ ابن أبى طالب رجل شجاع، و لكن لا علم له بالحرب. للّه أبوهم!! و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا، و أقدم فيها مقاما منّى ؟! لقد نهضت فيها، و ما بلغت العشرين، و ها أناذا قد ذرّفت على السّتّين، و لكن لا رأى لمن لا يطاع!!
ص: 130
اقول: الخطبة مشهورة ذكرها المبرّد و غيره، و اشار الى فضائل الجهاد ترغيبا فيه، و استعار لفظ الباب: للدّخول به الجنّة، و لفظ اللّباس و الدّرع و الجنّة و هى: التّرس لانّ الإنسان يتّقى به العدوّ، و عذاب الآخرة. و ديّث اى: ذلّل. و الصغار: الذّل و الضيم.
و القماء: ممدود الحقارة و الذّل ايضا. و اسدل الرجل بالبناء: للمفعول اذا ذهب عقله، و غفل عن مصالحه، و هو كقوله تعالى: «وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ » (1)و اديل الحقّمن فلان: غلبه عليه عدوّه، و سامه خسفا أي: اولاه ذلاّ. و النصف بكسر النون: الاسم من الانصاف و لزوم الامور المذكورة عن ترك الجهاد ظاهر.
و قوله: الا و انّى، الى آخره: ذكر لغرضه و هو الحثّ على الجهاد، و التّوبيخ على تركه. و عقر الشيء: اصله، و اخو غامد هو: سفيان بن عوف الغامدى، و غامد قبيلة من اليمن من ازد، شنوه، و شن الغارة و اشنّها: فرّقها من كل جانب. و المسالح جمع مسلحة و هى: الحدود و الاطراف من البلاد، يرتّب فيها اصحاب السّلاح كالثّغور، و المعاهدة الذمّية. و الحجل: الخلخال. و القلب: السّوار. و الرّعاث جمع رعثة بفتح الرّاء و العين و سكونها و هى: القرط. و الرّعاث: ايضا ضرب من الخرز و الحلى. و الاسترجاع:
ترديد الصوت في البكاء. و الاسترحام: مناشدة الرحم، وافرين: غانمين. و الكلم: الجرح.
و جدير: اولى. و عجبا: نصب على المصدر و المنادى محذوف اى: يا قوم و نحوه، و كرّر المصدر ليحسن وصفه. و التّرح: الحزن. و حمارّة القيظ بتشديد الراء: شدّة حرّه. و سبّخ الحر: فتر. و صبارّة القرّ بتشديد الرّاء: شدّة البرد، و كنى بالقيح: شدّة التّألّم اذ هو غاية ألم العضو. و الحجال جمع حجلة و هى: بيت العروس يزيّن بالسّتور و الثّياب، و وجه شبه حلومهم بحلوم الأطفال: سرعتها عن أدنى سبب لا يصلح ان يقنع به العاقل كحلمهم عن اهل الشّام بخدعة رفع المصاحف. و وجه شبه عقولهم بعقول ربّاب الحجال، اى:
النّساء ضعفها عن ادراك وجوه المصالح. و السّدم: الحزن عن النّدم. و شحنتم: ملأتم.
و النّغب جمع نغبة بضم النون و هى: الجرعة. و التّهمام بفتح التاء: التّهم. و للّه أبوهم: كلمة من ممادح العرب. و المراس: العلاج. و ذرّفت بتشديد الراء: زدت. و قوله: لا رأى لمن لا يطاع، مثل، قيل: اوّل من سمع منه هو عليه السّلام.
ص: 131
أمّا بعد، فإنّ الدّنيا قد أدبرت، و آذنت بوداع، و إنّ الآخرة قد أشرفت باطّلاع ؟ ألا و إنّ اليوم المضمار، و غدا السّباق، و السّبقة الجنّة و الغاية النّار: أ فلا تائب من خطيئته قبل منيّته ؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ؟ ألا و إنّكم في أيّام أمل من ورائه أجل، فمن عمل فى أيّام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله، و لم يضرره أجله، و من قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله و ضرّه أجله، ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة ؟ ألا و إنّى لم أركالجنّة نام طالبها، و لا كالنّار نام هاربها ألا و إنّه من لا ينفعه الحقّ يضرره الباطل، و من لم يستقم به الهدى يجرّبه الضّلال إلى الرّدى، ألا و إنّكم قد أمرتم بالظّعن، و دللتم على الزّاد، و إنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى و طول الأمل، تزوّدوا من الدّنيا ما تحرزون أنفسكم به غدا.
قال السيّد رضي اللّه عنه، و أقول إنّه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزّهد في الدّنيا و يضطرّ إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام، و كفى به قاطعا لعلائق الآمال، و قادحا زناد الاتّعاظ و الازدجار، و من أعجبه قوله عليه السّلام «ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السّباق و السّبقة الجنّة و الغاية النّار» فإنّ فيه - مع فخامة اللّفظ، و عظم قدر المعنى، و صادق التّمثيل، و واقع التّشبيه - سرا عجيبا. و معنى لطيفا، و هو قوله عليه السّلام: «و السّبقة الجنّة، و الغاية النّار» فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، و لم يقل «السبقة النار» كما قال «السّبقة الجنّة»، لأن الاستباق إنّما يكون إلى أمر محبوب، و غرض مطلوب، و هذه صفة الجنّة و ليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ باللّه منها، فلم يجز أن يقول «و السّبقة النّار» بل قال «و الغاية النّار»، لأنّ الغاية ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء و من يسرّه ذلك، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا، فهى في هذا الموضع كالمصير و المآل، قال اللّه تعالى: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ» و لا يجوز في هذا الموضع أن يقال:
سبقتكم - بسكون الباء - إلى النّار، فتأمّل ذلك فباطنه عجيب و غوره بعيد. و كذلك أكثر كلامه عليه السّلام، و في بعض النسخ، و قد جاء في رواية أخرى «و السّبقة الجنّة» - بضم السّين - و السّبقة عندهم: اسم لما يجعل للسّابق إذا سبق من مال أو عرض،
ص: 132
و المعنيان متقاربان لأنّ ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم، و إنّما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود.
اقول: هذا الفصل مشتمل على التّنفير عن الدّنيا و التّرغيب في الآخرة، و الاستعداد لها بالتّوبة و الاعمال الصّالحة. و آذنت: أعلمت بتغيّراتها انّها زائلة، و لفظ الوداع: مستعار لذلك و اشراف الآخرة قربها من كل شخص و نبّه على وجوب الاستعداد بذكر ما يستعدّ لأجله و هو السباق، و ذكر ما يستبق اليه في قوله: الا و انّ اليوم الى قوله: النّار.
و المضمار: المدّة الّتى تضمر فيها الخيل للسّباق اى: يعلف و يسمن ثم يردّ الى القوّة و هى اربعون يوما، و استعار لفظه: لمدّة الحياة باعتبار انّ الإنسان يستعدّ فيها بالتّقوى لتكمل قوّته العقلية فيكون من السّابقين الى لقاء اللّه كما يستعدّ الفرس بالتّضمير لسبق مثله.
و السّباق: مصدر كالمسابقة، و هو ايضا جمع سبقة كنطفة و نطاف. و السبقة بضم السّين و فتحها: ما يستبق اليه من الخطر. و روى السباق مرفوعا و لا وجه له الاّ ان يكون مضافا اليه اقيم مقام مضاف هو الخبر اى: وقت السّباق، او ان يكون السّباق: جمع سبقة، و كنّى بغد: عن يوم القيامة، و تمام المعنى هو ما اشار اليه السيّد رحمه اللّه.
و نام في الموضوعين مفعول ثان لارى، و المفعول الاوّل هو المشبّه بالجنّة او النّار. و الضمير في قوله: و انّه، ضمير الشّأن، و استعار لفظ الظّعن: للسّفر الى اللّه تعالى، بالكفر فى ملكوت سماواته و ارضه، و عوالم خلقه. و الزّاد الّذى دلّوا عليه: هو التقوى بقوله تعالى:
«وَ تَزَوَّدُوا» (1) الآية. و لمّا كان حاصل التّقوى(2) يعود الى خشية اللّه و لزوم الاعمال الصّالحة و لم تكن ذلك الاّ في الدّنيا بحركات الفكر في العبرة بها و حركات الجوارح بالعبادة فيها قال: فى الدّنيا من الدّنيا، و ظاهر انّ التّقوى يحرز الانسان نفسه بها من عذاب اللّه يوم القيامة.
ص: 133
أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهى الصمّ الصّلاب، و فعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون في المجالس: كيت و كيت، فإذا جاء القتال قلتم:
حيدى حياد! ما عزّت دعوة من دعاكم و لا استراح قلب من قاساكم أعاليل بأضاليل دفاع ذى الدّين المطول لا يمنع الضّيم الذّليل. و لا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ، أىّ دار بعد داركم تمنعون و مع أىّ إمام بعدى تقاتلون ؟ المغرور و اللّه من غرر تموه، و من فاز بكم فقد فاز و اللّه بالسّهم الأخيب، و من رمى بكم، فقد رمى بأفوق ناصل أصبحت و اللّه لا أصدّق قولكم، و لا أطمع في نصركم، و لا أوعد العدوّ بكم ما بالكم! ما دواؤكم! ما طبّكم! القوم رجال أمثالكم! أ قولا بغير عمل ؟ و غفلة من غير ورع ؟ و طمعا في غير حقّ ؟! أقول: نبّههم على ما يستقبح في الدّين، و حسن السّيرة من أحوالهم و أقوالهم، امّا احوالهم فاجتماعهم مع تفرّق آرائهم الموجب لتخاذ لهم عن الجهاد، و امّا أقوالهم فكلامهم بوعيد العدوّ بالحرب الّذى تضعف معه القلوب الصّلبة لظنّها صدقه، و استعار لفظ الصّمّ من الحجارة: للقلوب القويّة، و امّا أفعالهم فهو التّخاذل و الفرار من العدوّ. و قوله: حيدى حياد، كالمثل يقوله العرب عند الفرار و مفهومها: تنحّى عنّا ايّتها الحرب، و هى كقولهم:
فيحى فياح، و فياح اسم: للحرب. و اعاليل جمع اعلال جمع علّة: اسم لما يتعلّل به و يعتذر. و اضاليل جمع اضلال جمع ضلّة: اسم للضلال، و اعاليل: خبر مبتدإ محذوف:
اى اعذاركم اعاليل باطلة سببها الضّلال، عن سبيل اللّه، و دفاع: مصدر و هو صفة مشبه به، و وجه الشّبه كثرة المدافعة. و اراد بدارهم،: دار السّلام. و السّهم الاخيب، من سهام الميسر و الذى لا فرض فيه و لا غنم به كالّتى تسمّى اوغادا و فيها خيبة و غرم كما علم في الاصل، و كنّى بذلك: عن حصولهم في سهمه و عدادهم من قومه. و الأفوق النّاصل،: السّهم الّذى لا فوق له و لا نصل، و استعار لفظه لهم باعتبار انّهم لا غناء بهم فيما يريده منهم كالسّهم المذكور. و قوله: بغير عمل: وعدهم له بالنّهوض الى الحرب خلفهم.
و روى بغير علم اى: بغير اعتقاد لذلك، و لا نيّة فيه، و الغفلة من غير ورع هى المذمومة اذ
ص: 134
قد يعرض لذوى الورع غفلة عن مصالحهم الدّنيويّة و تكون محمودة لهم و منهم و هم البلّه الّذين اشار اليهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله: (اكثر اهل الجنّة البله) اى:
سليموا الصّدر من الاهتمام بالدّنيا و وجوه تحصيلها. و أراد غفلتهم عن مصلحة الجهاد، و طمعا بغير حقّ أى: فيما كانوا يتوقّعونه منه من التّفضيل و الزّيادة على عطائهم كما فعل من قبله.
لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت ناصرا غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، و من خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير منّى، و أنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء الأثرة و جزعتم فأسأتم الجزع، و للّه حكم واقع فى المستأثر و الجازع.
اقول: مفهوم الفصل التّبرّى من دم عثمان، و الدّخول فيه بأمر و نهى(1) في صورة شرطّيّتين يستنتج منهما نقيض ملزوميّتهما باستثناء نقيض لازميهما، و الملازمة عرفيّة فيهما اذ الآمر بالقتل يسمّى قاتلا عرفا. و النّاهى عنه يسمّى ناصرا. و قوله: غير انّ من نصره، الى قوله: خير منّى، فهو في معرض الجواب لمن انكر بحضرته قعوده و جميع اكابر الصحابة عن نصرة عثمان.
و قال: انّهم لو نصروه و هم اكابر الصّحابة لمّا اجترأ عليه طغام الأمة و ان كانوا أرادوا انّ الحق قتله، فقد كان يتعيّن عليهم ان يعرفوا النّاس ذلك لترتفع الشّبهة فأجابه بذلك و مفهوم القضيّتين انّى لو سلمّت انّى خاذل له فانّ الخاذلين له كانوا افضل من النّاصرين،:
اذ الخاذلون اكابر الصّحابة و النّاصرون بنو اميّة و اتباعهم، و ليس لهم ان يدّعوا الأفضليّة على الخاذلين. و لا للخاذلين ان يعترفوا بالمفضوليّة و هو في قوّة صغرى ضمير تقدير
ص: 135
كبراه، و كلّ من كان خاذلوه أفضل من ناصريه لم يجز لائمّة خاذليه، و تخصيصهم بالتّعنيف امره، لانّهم افضل، و الأفضل اولى ان يستتبع.
و قوله: و أنا، الى قوله: الجزع،: تنبيه على انّ عثمان و قاتليه كانوا على طرف الافراط، امّا عثمان ففى استبداده، و استيثاره برأيه فيما الأمّة شركاء فيه، حتّى أدّى ذلك الى قتله، و امّا قاتلوه فلافراطهم في الجزع من فعله، حتّى خرجوا عن فضيلة التّثبّت و ما ينبغي لهم من انتظار اصلاح الحال بينهم و بينه. و قيل: اسأتم الجزع عليه بعد قتله، و آثرتم الفتنة. و قوله: و للّه حكم، الى آخره،: اشارة الى حكم قدره النّازل في عثمان بقتله، و في قاتليه بجزعهم منه، و قتلهم له، او بجزعهم عليه، و اثارتهم الفتنة بسببه، و يحتمل ان يريد الحكم في الآخرة بما يلحقها من سعادة او شقاوة. و باللّه التوفيق.
و من كلام له عليه(1) السّلام لمّا انفذ عبد اللّه بن عبّاس الى الزّبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه الى طاعته، قال عليه(2) السّلام:
لا تلقينّ طلحة فإنّك إن تلقه تجده كالثّور عاقصا قرنه يركب الصّعب و يقول:
هو الذّلول. و لكن الق الزّبير فإنّه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتنى بالحجاز و أنكرتنى بالعراق، فما عدا ممّا بدا قال الشّريف: أقول: هو أوّل من سمعت منه هذه الكلمة، أعنى «فما عدا مما بدا».
اقول: قوله، عاقصا قرنه: هو وجه الشّبه بالثّورة و كنّى به عن تكبّره و خشونة جانبه، و اصراره على الحرب. و العقص: التّواء القرنين. و كنّى بقوله: يركب، الى قوله: الذّلول:
عن تهوّره في ركوب الامور الصّعبة. و العريكة: الطبع و كان الزّبير الين طبعا، و ذكر
ص: 136
النّسب تذكيرا بالرّحم و كونه ابن خاله لانّ صفيّة امّ الزبير اخت ابى طالب و بنت عبد المطّلب. و قوله: فما عدا ممّا بدا،: مثل يضرب لمن يفعل فعلا باختياره ثم يرجع عنه و ينكره، و المعنى: فما جاوزتك عن بيعتى ممّا بدا لك و ظهره من الأمور. و قيل:
المعنى: فما صرفك و منعك عن ما كان بدامنك من اظهار طاعتى و بيعتى.
أيّها النّاس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود، و زمن كنود يعدّ فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظّالم عتوّا، لا ننتفع بما علمنا، و لانسأل عمّا جهلنا، و لا نتخوّف قارعة حتّى تحلّ بنا فالنّاس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعهم الفساد إلاّ مهانة نفسه، و كلالة حدّه، و نضيض وفره، و منهم المصلت لسيفه، و المعلن بشرّه، و المجلب بخيله و رجله، قد أشرط نفسه، و أوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه. و لبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا، و ممّا لك عند اللّه عوضا، و منهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا: قد طامن من شخصه، و قارب من خطوه، و شمّر من ثوبه، و زخرف من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية، و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، و انقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله، فتحلّى باسم القناعة، و تزيّن بلباس أهل الزّهادة، و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى. و بقى رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد ناد، و خائف مقموع، و ساكت مكعوم، و داع مخلص، و ثكلان موجع. قد أخملتهم التّقيّة، و شملتهم الذّلّة، فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامزة، و قلوبهم قرحة. و قد و عظوا حتّى ملوّا، و قهروا حتّى ذلّوا، و قتلوا حتّى قلوّا. فلتكن الدّنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ و قراضة الجلم، و اتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعد كم، و ارفضوها ذميمة:
فإنّها رفضت من كان أشغف بها منكم.
قال السيّد رضى اللّه عنه: و هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، و هى من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الّذى لا يشكّ فيه، و أين الذهب من الرّغام، و العذب
ص: 137
من الأجاج ؟ و قد دلّ على ذلك الدّليل الخرّيت، و نقده النّاقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ، فإنّه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان و التّبيين، و ذكر من نسبها إلى معاوية، ثم قال: هى بكلام علىّ عليه السّلام أشبه و بمذهبه في تصنيف النّاس. و بالإخبار عمّا هم عليه من القهر و الإذلال، و من التّقيّة و الخوف - أليق قال: و متى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزّهاد، و مذاهب العبّاد؟!! اقول: العنود: الجائر، و الكنود: الكفور، و العتوّ: الكبر، و القارعة: الخطب العظيم. و نسبة الخير الى بعض الازمنة، و الشّرّ الى بعضها نسبة صحيحة لانّ الزمان من الأسباب المعدّة لحصول ما يحصل في هذا العالم من الحوادث و الأمور المعدودة خيرا و شرّا. و قد تتفاوت الأزمنة في الاعتداد لقبول الخير و الشّر ففى بعضها يكون بحسب الاستقراء الخير غالبا خصوصا في زمن قوّة الدّين و النّواميس الشّرعيّة النّاظمة للعالم، و في بعضها يكون الشّرّ غالبا. و عدّ المحسن مسيئا كالمتصدّق مرائيا و زيادة عتو الظّالم اى: تجبّره لضعف سلطان الدّين، و عدم انتفاع العالم بعلمه فيه عدم علمه على وفق علمه، و عدم سؤال الجاهل عمّا جهله لقلّة الرّغبة في العلم و الانتفاع به، و عدم تخوّف النّاس من الأمر المخوف حتّى ينزل بهم، كناية: عن عدم فكرهم فيما يصلح حال عاقبتهم و هو ايماء الى ما يستقبلونه من فتنة بنى اميّة و غيرها.
فامّا قسمته للنّاس فسياقها الى آخر الكلام، يقتضى خمسة اقسام و إنّما افرد الأربعة لاشتراكها في غرض الذّمّ و افرد الخامس لاختصاصه بالمدح، و وجهه انّ النّاس إمّا مريدون للدّنيا او للّه، و الأوّلون إمّا قادرون عليها أو ليس، و الثّانى امّا غير محتالين لها او محتالون، و الثّانى إمّا يؤهّلوا انفسهم للملك و الامارة او ليس فهذه اقسام خمسة. فالأوّل، المريدون للدّنيا القادرون عليها، و هم: المشار اليهم في القسم الثّانى من قسمته بقوله:
فمنهم المصلّت الى قوله: يفرعه، و هم الّذين اطلقوا عنان النّفس من الشّهوة و الغضب في تحصيل ما تخّيلوه كمالا. و اصلات السّيف: تجريده و كنّى به عن التّغلّب و القهر بالظّلم و غيره. و الإجلاب بالخيل و الرجل كناية عن: جمع اسباب الظلم و الغلبة، و اشرط نفسه:
اعلمها و نصبها لذلك حتّى صار معروفا به. و أوبق دينه: اهلكه. و الحطام: متاع الدّنيا، و الانتهار: الإختلاس و الإستلاب بقدر الإمكان. و المقنب بكسر الميم و فتح النون: الجمع
ص: 138
من الخيل. و فرع المنبر و افترعه: علاه.
و خصّص الأمور الثّلاثة لأنّها الاغلب في مطالب الدّنيا. و قوله: و لبئس المتجر، الى آخره: تنبيه لهذا الصّنف على خسرانهم في افعالهم الشّبيهة بالتّجارة الخاسرة.
الصّنف الثّانى، المريدون لها غير القادرين عليها و لا محتالين لها و اشار اليه، بقوله: و منهم من لا يمنعه الى قوله: وفرّه، و كنّى: بكلال حدّه عن عدم صراحته فى الامور و ضعفه عنها، و نضيض وفره: قلّة ماله.
الصّنف الثّالث، غير القادرين عليها مع احتيالهم لها و اعداد انفسهم لا موردون الملك، و اشار اليهم بقوله: و منهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة اى: بالعبادة رياء و سمعة قوله: الدّنيا، و تطأ منه من شخصه: دخوله في شعار الصّالحين، و ستر اللّه الّذى حمى به اهل التقوى من موارد الهلكة قد يتزيّأ به غيرهم و يجعلونه ذريعة الى معصيته، و زخرف من نفسه زيّنها.
الصنف الرابع، غير القادرين عليها، المحتالون لها المؤهّلون أنفسهم للملك و الامرة، و اشار اليهم بقوله: و منهم من اقعده الى آخره، و ضئولة نفسه: حقارتها، و تخيّل العجز عن المطلوب، و انقطاع السبب كقلّة المال و عدم الاعوان، و قصرته الحال اى: حال القدر على حاله الّتى لم يبلغ معها ما اراد، فلزم الحيلة الجاذبة لرغبة الخلق اليه من التحلّى بالقناعة، و التّزيّن بلباس الزهاد، و كنّى: بكونه ليس من ذلك في مراح و لا مغدى عن كونه من الزاهدين في شيء.
الصنف الخامس المريدين للّه تعالى، و اشار اليهم بقوله: و بقى رجال، الى آخره، و غضّ أبصارهم ذكر المرجع اى: كفّهم عن الالتفات الى الدّنيا لاشتغال سريرتهم بأحوال الآخرة. و الشّريد النّاد: المطرود الذّاهب لوجهه، إمّا لانكاره المنكر او لقلّة صبره على مشاهدته. و مقموع: مذلّل مقهور. و الكعام: شيء يجعل في فم البعير عند الهياج، فاستعار لفظه للساكت خوفا كأنّه شدّ فوه. و ثكلان: موجع إمّا لمصابه في الدّين او لكثرة اذاه من الظّالمين. و يحتمل ان يكون ذلك تفصيلا لحال المتّقين بالنّسبة الى خوف المحشر اذ فعل كلّ منهم ما هذه صفته. و استعار لفظ البحر الاجاج: لما هم فيه من الدنيا و أحوالها، باعتبار عدم التذاذهم بها فهى كالبحر المالح عند راكبه، لا يلتذّ به و ان
ص: 139
اجهده العطش. و ضامزة بالزاء المعجمة ساكنة، و من روى بالراء فأراد أنّها: ذاهلة لكثرة(1)صيامهم و بعد افواههم من المضغ. و قرح قلوبهم لخوفهم من اللّه. و الحثالة: الثفل.
و القرظ: ورق السلم يدبغ به. و الجلم: المقص. و باللّه التوفيق.
قال عبد اللّه بن العباس رحمه اللّه: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار و هو يخصف نعله فقال لى: ما قيمة هذه النعل ؟ فقلت لا قيمة لها. فقال عليه السّلام: و اللّه لهى أحبّ إلىّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّا، أو أدفع باطلا، ثمّ خرج فخطب النّاس فقال: - إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا و لا يدّعى نبوّة، فساق النّاس حتّى بوّأهم محلّتهم، و بلّغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم، و اطمأنّت صفاتهم. أما و اللّه إن كنت لفى ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها: ما ضعفت و لا جبنت و إنّ مسيرى هذا لمثلها فلأنقبنّ الباطل حتّى يخرج الحقّ من جنبه. مالى و لقريش! و اللّه لقد قاتلتهم كافرين و لأقاتلنّهم مفتونين، و إنّى لصاحبهم بالأمس: كما أنا صاحبهم اليوم! اقول: ذو قار موضع قريب من البصرة. و خصف النعل: خرزه.
و انّما لم يكن العرب يومئذ تقرأ كتابا لأنّ ما كانت اليهود تدعيّه من التورات، و النّصارى تدعيّه من الانجيل، ليس هو ما انزل على موسى، و عيسى، منهما لتبديلهما و تحريفهما، او اراد بالعرب جمهورهم و كانوا معطّلة و عبدة اوثان. و قوله: فساق الناس:
الى غايتهم من الاسلام بعضا بالترغيب و بعضا بالتّرهيب. و محلّتهم: منزلتهم في النّاس التي ساقهم القدر اليها. و منجاتهم: هو الدّين و الاسلام، اذ هو محلّ نجاتهم من عذاب اللّه. و كنّى باستقامة قناتهم: عن استقامة دولتهم و انتظام امورهم. و باطمئنان صفاتهم عن
ص: 140
استقرارهم في دارهم، و ثبات احوالهم بعد اضطرابها. و الضمير في ساقتها: لكتائب الحرب. و تولّت بحذافيرها اى: بأجمعها و هو مع قوله: و انّ مسيرى هذا، لمثلها في معرض التهديد بالحال السابقة له. و كنّى بنقيب الباطل: للغاية المذكورة عن ازاحته، و تخليص الحق من شانئيه. و قوله: ما لى و لقريش: استفهام انكار لما بينه و بينهم مما يوجب معاندته و جحد فضله. و قوله: و اللّه الى آخره: توبيخ برذيلة الكفر في معرض ذكر سبب قتالهم لظهور عذره فيه، و تهديدهم بالقتل على الفتنة في الدّين و بتذكيرهم انّه ذاك المعهود مكروه اللّقاء.
أفّ لكم، لقد سئمت عتابكم!! أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة عوضا؟ و بالذّلّ من العزّ خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت في غمرة، و من الذّهول في سكرة، يرتج عليكم حوارى فتعمهون. فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لى بثقة سجيس اللّيالى، و ما أنتم بركن يمال بكم، و لا زوافر عزّ يفتقر إليكم ما أنتم إلاّ كإبل ضلّ رعاتها، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس - لعمر اللّه - سعر نار الحرب أنتم تكادون و لا تكيدون، و تنقص أطرافكم فلا تمتعضون لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون، غلب و اللّه المتخاذلون، و ايم اللّه إنّى لأظنّ بكم، أن لو حمس الوغى و استحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرّأس. و اللّه انّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه، و يهشم عظمه، و يفرى جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره أنت فكن ذاك إن شئت فأمّا أنا فو اللّه دون أن أعطى ذلك ضرب بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام، و تطيح السّواعد و الأقدام، و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء. أيّها النّاس، إنّ لى عليكم حقّا، و لكم علىّ حقّ : فأمّا حقّكم علىّ فالنّصيحة لكم، و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا، و أمّا حقّى عليكم
ص: 141
فالوفاء بالبيعة، و النّصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، و الطّاعة حين آمركم.
أقول: هذه الخطبة بعد وقعة الخوارج بالنّهروان. و افّ : كلمة تضجّر. و غمرة الموت: سكرته. و الذّهول: السّهو. و يرتجّ : يفلق. و الحوار: الخطاب. و تعمهون: تتحيّرون. و المألوس: المجنون مختلط العقل. و سجيس اللّيالى: ابدا مدى الليالى. و الزوافر جمع زافرة و زافرة الرجل: انصاره. و سعر جمع سعير، و اسعار النار: تهيّجها. و الامتعاض: الغضب. و حمس الوغى: اشتدّ الحرب، و شبّه انفراجهم عنه عند اشتداد الحرب: بانفراج الرأس عن البدن في عدم عودهم اليه. و قيل: بانفراج بعضى اعضائه (عظامه) عن بعض. و قيل: انفراج من يريد ان يتحوّل برأسه. و عرقت اللحم اعرقه، بالضّم: اذا لم يبق على العظم منه شيئا. و المشرفيّة: سيوف منسوبة الى «مشارف»، قرية في ارض العرب تدنوا من الرّيف. و فراش الهام: العظام الرّقيقة تلى القحف. و مدار الفصل على توبيخهم لقعودهم عن دعائه الى قتال عدوّهم، و نسبتهم الى الخمول و الذلّة، و تخويف عاقبة الأمر و اعذاره اليهم في خروجه مما وجب عليه لهم مع تخلّفهم عن اداء ما وجب عليهم له، و الفصل واضح.
الحمد للّه و إن أتى الدّهر بالخطب الفادح، و الحدث الجليل. و أشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » وحده لا شريك له ليس معه إله غيره، و أنّ محمّدا عبده و رسوله صلّى اللّه عليه و آله. أمّا بعد، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب تورث الحسرة، و تعقب النّدامة. و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمرى و نخلت لكم مخزون رأيى، لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجفاة، و المنابذين العصاة، حتّى ارتاب النّاصح بنصحه،
ص: 142
و ضنّ الزّند بقدحه، فكنت و إيّاكم كما قال أخو هوازن: -
أمرتكم أمرى بمنعرج اللّوى *** فلم تستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
اقول هذه الخطبة بعد ان بلغه تمام حيلة عمرو بن العاص، على ابي موسى الاشعرى فى الحكومة. و الخطب: الامر العظيم. و فدحه: أثقله. و مفهوم قوله: و ان أتى، الحمد على كلّ حال. و قوله: لو كان يطاع لقصير أمر: مثل يضرب لمن يخالف الناصح فيندم. و قصير هذا: هو قصير بن سعد اللخمى مولى جديمة الابرش، بعض ملوك العرب واصله: انّ جديمة كان قتل أبا الزباء ملكة الجزيرة، فبعث اليه ليتزوّجها حيلة عليه، و سألته القدوم عليها فأجابها الى ذلك و خرج في ألف فارس و خلّف باقى جنوده مع ابن اخته عمرو بن عدى، و كان قصير اشار الى جديمة ان لا يتوجّه اليها فلم يقبل رأيه فلما قرب جديمة من الجزيرة استقبله جنود الزباء بالعدّة، و لم ير منهم(1) اكراما له فأشار عليه قصير بالرجوع عنها فلم يقبل، فلما دخل عليها غدرت به و قتلته فعندها قال قصير: لا يطاع لقصير امر، فذهبت مثلا لكل ناصح عصي، و هو مصيب في رأيه، و ارتاب النّاصح بنصحه، يعنى:
نفسه لاطباق اصحابه على مخالفته لانّ المشوريّات امور مظنونة(2) و قد يتغيّر الظنّ بتغيّر الامارات. و قيل: يحمل ذلك على المبالغة، لانّه عليه السّلام منزّه عن الشك فيما رآه صوابا. و قوله: و ضنّ الزّند بقدحه، قيل: هو مثل يضرب لمن يبخل بفوائده. و البيت لدريد ابن الصمة من قصيدة له في الحماسة اوّلها:
نصحت لعارض و اصحاب عارض *** ..................
و انّما قال: اخو هوازن: لنسبته اليهم، فانّ دريد بن الصمة من بنى جشم بن معاوية ابن بكر بن هوازن، كقوله تعالى: «وَ اُذْكُرْ أَخٰا عٰادٍ»(3) و وجه تمثيله نفسه معهم بهذا القائل
ص: 143
مع قومه اشتراكهما في النّصيحة و عصيانهما المستعقب لندامة قومهم و هلاكهم، و الّذى كان اشار به عليه السّلام هو: ترك الحكومة، و الصّبر على قتال اهل الشام.
فانا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النّهر، و بأهضام هذا الغائط على غير بيّنة من ربّكم، و لا سلطان مبين معكم: قد طوّحت بكم الدّار و احتبلكم المقدار، و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علىّ إباء المخالفين المنابذين، حتّى صرفت رأيى إلى هواكم، و أنتم معاشر أخفّاء الهام، سفهاء الأحلام و لم آت - لا أبالكم - بجرا، و لا أردت لكم ضرّا.
أقول: الخطاب للخوارج الّذين قتلهم بالنّهروان، و قد كان القضاء الالهى سبق فيهم بما كان من الخروج على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله. روى انّه بينا هو يقسم قسما جاءه رجل من بنى تميم يقال له ذو الخويصرة، فقال: اعدل يا محمّد، فقال صلّى اللّه عليه و آله: قد عدلت، فقال: باللّه اعدل، يا محمد، فانّك لم تعدل، فقال صلّى اللّه عليه و آله: و يلك من يعدل اذا لم أعدل ؟ فقال عمر: يا رسول اللّه ائذن لى في ضرب عنقه، فقال: دعه فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّمية، يخرجون على خير فرقة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم، و صومكم عند صومهم يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، فيهم رجل اسود مخدج اليد احدى يديه كأنها ثدى امراة او بضعة، قد يقتله اولى الفريقين بالحقّ . و عن عائشة، عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: يقتلهم خير الخلق و الخليقة و اقربهم الى اللّه وسيلة. و الاهضام جمع هضم و هو: المطمئنّ من الارض. و كذلك الغائط: ما سفل منها. و طوّحت بكم أى: توّهتكم. و اراد بالدّار: الكوفة، و اوطانهم بها كأنّها قذفتهم و رمت بهم المرامى. و احتبلهم المقدار: وقعوا في حبائله. و استعار وصف
ص: 144
الاحتبال: لاحاطته بهم، و عدم خلاصهم من حكمه، و حقّه الهام: كناية عن رذيلة الطيش. و السّفه: ضد الحلم. و قوله: لا أبا لكم، قال الجوهرى: كلمة مدح. و قيل: كلمة ذمّ . و قيل: دعاء بالذلّ لكونه لازما دعاء الاب. و البجر: الأمر العظيم.
فقمت بالأمر حين فشلوا، و تطلّعت حين تعتعوا، و نطقت حين تمنّعوا و مضيت بنور اللّه حين وقفوا. و كنت أخفضهم صوتا، و أعلاهم فوتا فطرت بعنانها، و استبددت برهانها، كالجبل لا تحرّكه القواصف، و لا تزيله العواصف: لم يكن لأحد فيّ مهمز، و لا لقاتل فيّ مغمز، الذّليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له، و القوىّ عندى ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه، رضينا عن اللّه قضاءه، و سلّمنا للّه أمره، أ ترانى أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ و اللّه لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه. فنظرت في أمرى فإذا طاعتى قد سبقت بيعتى، و إذا الميثاق في عنقي لغيرى.
أقول: قال بعض الشّارحين هذا الفصل فيه فصول أربعة التقطها الرضىّ رحمه اللّه من كلام طويل، قاله بعد وقعة النّهروان ذكر فيه حاله منذ توفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى آخر وقت. الاوّل، قوله: فقمت بالامر، الى قوله: برهانها، و فيه ذكر فضيلته بالنسبة الى سائر الصّحابة، و هى الشّجاعة و الذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مواضع الحاجة حين ضعفهم و جبنهم. ثم البلاغة و الفصاحة عن مشكلات الدّين حين تعتعوا، و كنّى عن قيامه بذلك: بالنطق. و التعتعة: الاضطراب في الكلام عن العىّ ، و الحصر ثمّ التطّلع و هو:
الاشراف من عال، و كنّى به: عن الاهتمام العالى بما ينبغي تحصيله، و القيام فيه من الجهاد في دين اللّه حين تقبّعوا عنه. و التقبّع: التقبّض. و قبع القنفذ، اذا أدخل رأسه فى جلده. و كنّى به: قصورهم و قعودهم عن مقاماته، و مضيت بنور اللّه قيل: فى جملة
ص: 145
سورة براءة، و هى نور اللّه للمشركين حين وقف عنها كثير من الصّحابة، و يحتمل ان يريد مضيت في سبيل اللّه عن نور العلم حين وقف عنها كثير من الجاهلين و عمى عن مواردها. و كنّى بكونه اخفضهم صوتا: عن رباطة جأشه في الامور و ثباته فيها، و من كان كذلك كان اشدّ سبقا في المعالى، و اقوى سعيا في درجات الكمال، بحيث لا يلحق. و مثّل نفسه في ذلك بالمجرى في البرهان الذى لا يشقّ غباره. و استعار اوصافه من الطيران بالعنان و الاستبداد بالرّهان. و الضّمير فيهما للفضيلة التي يسبق عليها. الثاني، كالجبل، الى قوله: آخذ الحقّ منه، و يحكى قيامه بأعباء الخلافة حين انتهائها اليه، و جريه فيها على قانون العدل، و شبّه نفسه في الثبات على الحق بالجبل، و اشار الى وجه الشبه بقوله: لا تحرّكه، الى قوله: العواصف، و المهمز و المغمز: العيب. الثالث، قوله: رضينا عن اللّه قضاءه، الى قوله: كذب عليه. قيل: ذلك في معرض تفرّسه في طائفة من قومه انّهم يتّهمونه فيما يخبرهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من الامم المستقبلة، حتى كان فيهم من يواجهه بذلك. و ذكر الرضا بالقضاء: تسلية لنفسه عن هذا التكذيب باسناده الى القضاء الالهى. الرّابع، قوله: فنظرت، الى آخره، و فيه احتمالان احدهما قال بعض الشّارحين: انّه مقطوع من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و انّه كان معهودا اليه ان لا ينازع في امر الخلافة بل ان حصل له بالرّفق و الاّ فليمسك. فقوله: فاذا طاعتى قد سبقت بيعتى، اى: طاعتى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما امرنى به من ترك القتال. قد سبقت بيعتى للقوم فلا سبيل الى الامتناع منها لادائها الى المشاقّة. قوله: و اذا الميثاق، اى: ميثاق رسول اللّه(1) و عهده الىّ بعدم المشاقّة. و قيل الميثاق:
ما لزمه من بيعة ابى بكر بعد وقوعها اى: فاذا ميثاق القوم قد لزمنى. الاحتمال الثاني: ان يكون ذلك في معرض تضجّره من ثقل اعباء الخلافة، و يكون المعنى انّى نظرت فاذا طاعة الخلق لى قد سبقت بيعتى منهم، و اذا ميثاقهم قد صار في عنقى فلم اجد بدّا من القيام بأمرهم.
ص: 146
و إنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ : فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين، و دليلهم سمت الهدى، و أمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضّلال، و دليلهم العمى، فما ينجو من الموت من خافه، و لا يعطى البقاء من أحبّه.
اقول: استعار لفظ الضّياء لليقين باللّه و رسوله، و ما جاء به من الغيب، باعتبار هدايتهم بذلك في طريق الحقّ كالضّياء. و لفظ الدّليل: لقصد هدى اللّه في سبيله، باعتبار هداية القصد لهم كالدليل الهادى. و تجوّز بلفظ الضّلال في المضلّ ، و هو:
دعاء الكفار اطلاقا لاسم اللاّزم على ملزومه، و استعار لفظ العمى: للجهل. و لفظ الدّليل له باعتبار كونه قائدهم الّذى به يقتدون. و قوله: فما ينجو، الى آخره: يشبه ان يكون كلاما منقطعا عما قبله.
منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، و لا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربّكم ؟ أما دين يجمعكم، و لا حميّة تحمشكم أقوم فيكم مستصرخا، و أناديكم متغوّثا، فلا تسمعون لى قولا، و لا تطيعون لى أمرا، حتّى تكشّف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، و لا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، و تثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر، ثمّ خرج إلىّ منكم جنيد متذائب ضعيف «كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ».
قال السّيد رحمه اللّه: قوله عليه السّلام، متذائب، اى: مضطرب من قولهم تذاءبت الريح، اى: اضطرب هبوبها، و منه سمّى الذئب ذئبا لاضطراب مشيته.
اقول: منيت: ابتليت. و تحمشكم: تغضبكم. و التغوّث: طلب النّصرة بالنّداء.
ص: 147
و الثار: الذحل. و الجرجرة: ترديد الصوت البعير عند عسفه. و السرر: داء يأخذ البعير في سرّته. و النّضو: البالى من تعب السير. و استعار لهم وصف الجرجرة: باعتبار تضجّرهم من دعوتهم الى الحرب. و شبّه ذلك منهم بجرجرة الجمل الاسرّ، و تثاقل النّضو الادبر، اى:
فى شدّة التضجّر و الضعف(1).
قال عليه السّلام:
كلمة حقّ يراد بها الباطل!! نعم إنّه لا حكم إلاّ للّه، و لكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلاّ للّه، و إنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر، و يبلّغ اللّه فيها الأجل، و يجمع به الفىء، و يقاتل به العدوّ، و تأمن به السّبل، و يؤخذ به للضّعيف من القوىّ حتّى يستريح برّ و يستراح من فاجر. و في رواية اخرى أنّه عليه السّلام لمّا سمع تحكيمهم قال: حكم اللّه أنتظر فيكم. و قال: - أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التّقىّ ، و أمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقىّ ، إلى أن تنقطع مدّته، و تدركه منيّته.
اقول: قوله كلمة حق اى: هذه كلمة حق ارادوا بها باطلا، و هو: انّه ليس للعبد ان يحكم بغير ما نصّ كتاب اللّه عليه، فانّ اكثر الاحكام الفروعية غير منصوص عليها مع انّها احكام اللّه، بل يكون منتزعة بحكم الاجتهاد. و قوله: نعم: تقرير لحقيقتها، و لمّا كان من لوازم اعتقادهم انّه لا حكم غير ما نصّ اللّه عليه نفى الامرة لانّ استنباط الاحكام و النّظر فى وجوه المصالح، من لوازم الامرة التي هى حال الامير في رعيّته، و نفى اللاّزم يستلزم نفى الملزوم. و لما كانوا قد نفوا الامرة قال: و لكن هؤلاء يقولون لا امرة و كذّبهم، بقوله:
و لا بدّ للناس الى آخره. و جملة الكلام في صورة قياسين استثنائى، هكذا اذا قالوا: لا حكم الاّ للّه كما تصوّروه فقد قالوا بنفى الامرة لكن اللاّزم باطل، فالقول بنفى الحكم
ص: 148
الاّ للّه كما تصوّروه باطل. و قوله: لا بدّ في قوّة استثنائى: نقيض لازم المتّصلة، و طبيعة وجود هذا العالم يشهد بضرورة الحاجة الى إمام كما قال الشاعر:
تهدى الامور باهل الرأى ما صلحت *** فان تولّت فبالأشرار تنقاد
و قوله: حتّى يستريح، غاية من قوله: و يقاتل به العدوّ الى قوله: من القوىّ . و الباقى ظاهر.
إنّ الوفاء توأم الصّدق، و لا أعلم جنّة أوقى منه و لا يغدر من علم كيف المرجع. و لقد أصبحنا في زمان، قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم ؟ قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين.
أقول: الوفاء فضيلة نفسانية ينشأ من لزوم العهد الّذى ينبغي و البقاء عليه. و الصّدق:
فضيلة تحصل عن لزوم الأقوال المطابقة، و هما داخلتان تحت فضيلة العفّة فلذلك استعار لهما لفظ التّوأم، باعتبار اقترانهما تحت فضيلة واحدة و نشوئهما عنها كالأمّ . و قوله: و لا اعلم جنّة اوقى منه، أى: ليس الفضائل المتعلّقة(1) بالمعاملات، و الشّركة المدينية شيء اشدّ وقاية من عذاب الآخرة منه. فانّه اصل عظيم يستلزم فضائل كثيرة. و الجنّة: ما استترت به من سلاح، و لفظه مستعار. و قوله: و لا يغدر، الى قوله: المرجع: لانّ علمه بكيفية المعاد الى اللّه يستلزم امتناعه مما يبعد منه من رذيلة الغدر و نحوها. و خصّ الغدر بالذكر: لانّه في معرض مدح الوفاء.
و الضّد تظهر حسنه الضّد و قوله: و لقد، الى قوله الحيلة: ذلك لعدم تمييز اكثرهم بين الغدر و الكيس
ص: 149
لاشتراكهما في التفطّن لوجه الحيلة و الخداع، و انّ تمييز الغدر بانّه استعمال الفطنة في تحصيل وجه حيلة يخالف القانون الشرعى و المصلحة العامة. و الكيّس يتميّز باستعمال الذكاء في استخراج وجوه المصالح التي تنبغى و الوقوف عليها، و نسبة الناس لهم الى الكيس، و حسن الحيلة كما نسب عمرو بن العاص و معاوية، و لم يعلموا انّه لا خير في حيلة جرت الى الرّذيلة. و قتال اللّه لهم: ابعادهم عن رحمته. و الحول القلب:
كثير التحوّل و التقلّب في استنباط الآراء الصّالحة و وجوه المصالح، و اراد نفسه فانّ فطنته في ذلك اتمّ الفطن لكن محافظته على حدود اللّه تحجزه عن كثير من التصرّف، فيترك الحيلة رأى عينه خوفا من اللّه. و انتهاز الفرصة: المبادرة الى الامر وقت امكانه.
و الحريجة: التحرّز من الحرج، و هو الاثم.
أيّها النّاس، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، و طول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، و أمّا طول الأمل فينسى الآخرة، ألا، و إنّ الدّنيا قد ولّت حذّاء، فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء اصطبّها صابّها، ألا و إنّ الآخرة قد أقبلت و لكلّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، و لا تكونوا أبناء الدّنيا فإنّ كلّ ولد سيلحق بأمّه يوم القيامة، و إنّ اليوم عمل و لا حساب، و غدا حساب و لا عمل.
نفّر عن اتّباع الهوى و طول الأمل، بضميرين صغرى الاوّل، قوله: و امّا الى قوله:
الحقّ ، و هو: طاعة اللّه. و صغرى الثاني قوله: و امّا، الى قوله: الآخرة. و أراد طول الأمل فى الدنيا و تقدير الكبرى فيهما، و كل ما كان كذلك فالواجب تركه، و من الصغريين يتبيّن انّهما اخوف ما ينبغي ان يخاف. و حذّاء: خفيفة مسرعة(1) لا يتعلّق احد منهما بشىء.
و الصّبابة: بقيّة الماء في الاناء، و استعار لفظها: لما بقى لكلّ من الدّنيا. و لفظ «البنون»:
للنّاس، و لفظ «الامّ »: للدّنيا و الآخرة، باعتبار رغبة أهل الدّنيا إليها و اهل الآخرة إليها،
ص: 150
كالولد لأمّه، و أمرهم ان يكونوا من أهل الآخرة لأنّها افضل، و هو ناصح مشفق، و نبّه على ذلك بضمير صغراه قوله: فانّ الى قوله: القيامة.
و لما كانت الدّنيا يومئذ بمعزل(1) عن الخلق: كان اختيارها سفها لاستلزام ذلك عزبة أهلها، و شقاؤهم ببعدها، و تقدير الكبرى و كلّ من سيلحق بأمّه يوم القيامة فلا بدّ أن يستعدّ لها بما يقرّبه منها، و يصلح حاله معها ليأمن سوء الحضن(2) و يزول عنه بؤس الغربة.
و كنّى باليوم: عن مدّة الحياة، و بغد: عمّا بعدها. و اليوم اسم انّ و خبرها محذوف اقيم عمل مقامه اى: وقت العمل. و كذلك قوله: و غدا حساب: و فائدتهما التّنبيه على وقتى العمل و عدمه لغاية المبادرة اليه وقت امكانه.
و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير بن عبد اللّه البجلى إلى معاوية إنّ استعدادى لحرب أهل الشّام و جرير عندهم إغلاق للشّام، و صرف لأهله عن خير إن أرادوه. و لكن قدوقّت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلاّ مخدوعا أو عاصيا. و الرّأى عندى مع الأناة فأرودوا، و لا أكره لكم الإعداد و لقد ضربت أنف هذا الأمر و عينه، و قلّبت ظهره، و بطنه، فلم أرلى إلاّ القتال أو الكفر، إنّه قد كان على النّاس وال أحدث أحداثا، و أوجد للنّاس مقالا، فقالوا، ثمّ نقموا فغيّروا.
أقول: انّما كان استعداده إغلاقا للشّام حينئذ، لأنّ اهل الشّام حين كان جرير عندهم في مقام التروّى في اتباعه او مخالفته، فلو دهمهم بالاستعداد لبلغهم ذلك و اصرّوا على الخلاف، و ذلك مضادّ للحزم، و انّما حصر تاخّر جرير في المانعين المذكورين لأنّ الموانع الاختيارية إمّا منهم و غالب الظنّ هو خداعه حتى يستحكم امرهم، و إمّا منه و
ص: 151
غالب الظنّ عصيانه اذ لا يتصوّر من جرير في مثل هذا الأمر المهمّ ان يعدل عنه الى شغل اختيارى لنفسه او لغيره الاّ أن يكون عاصيا. و قوله: و الرأى، مع الأناة: لأنّها مظنّة الفكر فى الاهتداء الى وجوه المصالح. و ارودوا: امهلوا، و نبه بقوله: و لا اكره لكم الإعداد، على ان يكونوا في يقظة من هذا الأمر او على الاستعداد الباطن. و استعار لفظ العين، و الانف، و الظهر، و البطن: لوجوه الاراء اللاّئقة بحاله معهم في الحرب و السّلم، و انّما يلزم من ترك قتالهم الكفر لأنّه حينئذ يكون راضيا بوقوع المنكرات مع قدرته على انكارها و متهاونا بأمر اللّه و رسوله فيها و ذلك كفر.
و قيل: لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان أمره بقتال الناكثين، و القاسطين، و المارقين، فكان تركه مخالفة لما علمه بالضرورة من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو كفر. و قوله: إنّه قد كان، الى آخره: تنبيه على وجه عذره عمّا نسبه اليه معاوية من دم عثمان، و اراد بالوالى: عثمان و الاحداث الّتى كان احدثها هى ما نسب اليه من الامور الّتى انكروها. و أوجد للناس مقالا اى: جعل لهم بتلك الاحداث محل قول في حقه، فقالوا ثم انكروا ما فعل فغيّروه، و المشهور من تلك الاحداث عشرة ذكرناها في الاصل(1).
لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيبانى إلى معاوية، و كان قد ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السّلام و أعتقه، فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام: - قبّح اللّه مصقلة فعل فعل السّادات، و فرّ فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتّى أسكته، و لا صدّق واصفه حتّى بكّته، و لو أقام لأخذنا ميسوره و انتظرنا بماله وفوره.
أقول: مصقلة هذا: كان عاملا لعليّ عليه السّلام على اردشير خرة(2). و بنو ناجية:
ص: 152
قبيلة كانوا على دين النصرانيّة فأسلم كثير منهم: ثم ارتدّوا عن الاسلام فقتل منهم معقل ابن قيس و كان بعثه عليه السّلام اليهم في الفى فارس، و سبى بعضهم فاجتاز بالسبى على مصقلة فاستغاثوا اليه، فاشتراهم بخمسمائة الف درهم، و نفذ بعض المال، ثم خاس ببعضه اى: لم يف به فبعث عليه السّلام يتهدّده و يطالبه فهرب الى معاوية. و قبّحه اللّه:
نحّاه عن الخير. و فعله فعل السادة: نخوته على الاسارى و شراؤهم. و فراره فرار العبيد:
هربه. و قوله: فما انطق مادحه حتى اسكته: تبكيت له بسرعة الحاقه الفضيلة بالرذيلة حتى كانّه جمع بينهما، و هما انطاق مادحه بفدائه الاسرى مع هربه قبل تمام انطاقه، و تصديقه لواصفه: بفعل الجميل مع فعل القبيح الّذى كان كذّبه به و لامه على مدحه.
و التبكيت: كالتقريع و التعنيف. و وفوره: زيادته.
الحمد للّه غير مقنوط من رحمته، و لا مخلوّ من نعمته، و لا مأيوس من مغفرته، و لا مستنكف من عبادته، الّذي لا تبرح منه رحمة، و لا تفقد له نعمة. و الدّنيا دار منى لها الفناء، و لأهلها منها الجلاء، و هى حلوة خضرة، و قد عجلت للطّالب، و التبست بقلب النّاظر، فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد: و لا تسألوا فيها فوق الكفاف، و لا تطلبوا منها أكثر من البلاغ.
أقول: القنوط: اليأس. و الاستنكاف: الاستكبار. و منى: قدّر. و كنى بحلاوتها و خضرتها عن زينتها بمتاعها. و التبست بقلب الناظر، اى: خالطت قلبه بمحبتها. و احسن ما بحضرتكم من الزاد: التقوى و الاعمال الصالحة. و الكفاف: ما كف عن المسألة.
و البلاغ: ما بلغ مدّة الحياة. و الفصل ظاهر.
ص: 153
اللّهمّ إنّى أعوذ بك من وعثاء السّفر، و كآبة المنقلب، و سوء المنظر في الأهل و المال. اللّهمّ أنت الصّاحب في السّفر، و أنت الخليفة في الأهل و لا يجمعهما غيرك، لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا، و المستصحب لا يكون مستخلفا.
أقول: وعثاء السفر: مشقّته و تعبه. و الكآبة: الحزن، و في قوله: و لا يجمعهما غيرك: تنزيه اللّه عن الجهة، و الجسمية اذ كان اجتماع الامرين في الجسم الواحد محال كما علّله عليه السّلام.
كأنّى بك يا كوفة تمدّين مدّ الأديم العكاظىّ ، تعركين بالنّوازل، و تركبين بالزّلازل، و إنّى لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءا إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل، و رماه بقاتل.
اقول: الخطاب لشاهد الحال الكوفة اى: كأنّى حاضر بك و مشاهد لك. و تمدّين و تعركين و تركبين أحوال. و استعار وصف المدّ و العرك لفعل الظلمة بأهلها كفعل دابغ الأديم من مدّه و عركه و وجه الشبه شدّة المدّ. و عكاظ: اسم موضع بناحية مكة كانت العرب تجتمع به كلّ سنة و يقيمون به سوقا مدّة شهر، و يتناشدون الاشعار و يتفاخرون و في ذلك يقول ابو ذويب:
اذا بني القباب على عكاظ *** و قام البيع و اجتمع الألوف
و رفع ذلك بالاسلام، و المصائب و الفتن الّتى وقعت بالكوفة مشهورة، و الجبابرة الذين ارادوا بها سوءا مثل زياد بن ابيه، روى انّه كان جمعهم في المسجد لسبّ
ص: 154
عليّ و البراءة منه، يبتليهم بذلك و يقتل من يعصيه فيه، فبيناهم مجتمعون اذ خرج حاجبه فأمرهم بالانصراف و قال: إنّ الامير مشغول عنكم، و كان قد رمى في تلك الحال بالفالج. و منهم ابنه عبيد اللّه، و أصابه الجذام. و منهم الحجّاج و تولّدت في بطنه الحيات و احترق دبره حتى هلك. و منهم عمرو بن هبيرة، و ابنه يوسف و رميا بالبرص. و منهم خالد القسرى و ضرب و حبس حتى مات جوعا. و ممن رمى بالقتل عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه، و مصعب بن الزبير، و يزيد بن المهلّب، و المختار بن ابى عبيدة الثقفى، و أحوالهم مشهورة.
الحمد للّه كلّما وقب ليل و غسق، و الحمد للّه كلّما لاح نجم و خفق، و الحمد للّه غير مفقود الإنعام و لا مكافىء الإفضال. أمّا بعد، فقد بعثت مقدّمتى، و أمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتّى يأتيهم أمرى، و قد أردت أن أقطع هذه النّطفة إلى شرذمة منكم موطنين أكناف دجلة، فأنهضهم معكم إلى عدوّكم، و أجعلهم من أمداد القوّة لكم.
قال الشريف: أقول: يعنى عليه السّلام بالملطاط السمت الذى أمرهم بنزوله و هو شاطئ الفرات، و يقال ذلك لشاطئ البحر، و أصله ما استوى من الأرض. و يعنى بالنطفة ماء الفرات. و هو من غريب العبارات و عجيبها.
اقول: حمد اللّه تعالى باعتبار تكرر وقتين و دوام حالين. و وقب اللّيل: دخل. و و غسق: اظلم. و خفق النجم: غاب. و مقدّمته التي بعثها هى زياد بن النضر، و شريح بن هانى، فى اثنى عشر ألف فارس. و الشرذمة: النفر اليسير. و الاكناف: النواحى. و موطنين بكسر الطاء: مستوطنين و اراد اهل المدائن.
ص: 155
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» بطن خفيّات الأمور، و دلّت عليه أعلام الظّهور، و امتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، و لا قلب من أثبته يبصره: سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه. و قرب فى الدّنوّ فلا شيء أقرب منه. فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، و لا قربه ساواهم في المكان به، لم يطلع العقول على تحديد صفته، و لم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الّذى تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذى الجحود - تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به، و الجاحدون له - علوّا كبيرا.
اقول: بطونه لخفيّات الأمور: نفوذ علمه تعالى فيها، يقال: بطنت الامر اذا علمت باطنه. و اعلام ظهوره: آياته و آثاره الظّاهرة في العالم الدالّة على وجوده الظاهر في كل صورة منها كقوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ »(1) الآية. و كونه لا ينكره عين من لا يبصره لشهادته فطرته بحاجته الى مدبّر حكيم، و كذلك لا يبصره قلب من اثبته اى: لا يبصره بعين حسّه او لا تدرك حقيقته، و في هذين السّلبين: تنبيه على الفرق بين مدركات العقل، و مدركات الحسّ ، إذ ليس كلّ معقول يجب أن يكون محسوسا، و السلبان: متلازمان متعاكسان، و سبقه للاشياء في العلوّ هو: السبق بالشرف و العلّيّة دون المكان و الجهة و الزمان، و قربه لها من دنوّه منها قربه بعلمه وجوده، و تصريفه لها بخفىّ لطفه، و هو اقرب الى العبد من نفسه لعلمه بها دونه، و لم يباعده عن شيء من خلقه استعلاؤه عنه، إذ ليس علوا مكانيا و لا قربهم يساواهم في المكان به اذ ليس قربا حسيّا، و عدم اطّلاع العقول على تحديد صفته إمّا لأنّه لا صفة له فيحدّ، او لأنّه لا يتناهى اعتبار صفاته، و قد سبق بيانه، و لم يحجب العقول عن واجب معرفته، لشهادة فطرها بوجود صانعها و هو: القدر الواجب الضّرورى لها. و لفظ اعلام الوجود مستعار لآثاره الموجودة الدّالة على وجوده، و كمال قدرته و علمه.
و انّما قال: على اقرار قلب ذى الجحود: لانّ كثيرا من الناس ربما جحده بطريق
ص: 156
عادته او تربيته، كالمعطّلة، و عبدة الاصنام، فاذا راجع قلبه او نبّه عليه عاد معترفا بوجوده.
و روى انّ زنديقا دخل على الصّادق عليه السّلام فسأله عن دليل اثبات الصّانع فأعرض عليه السّلام عنه، ثمّ التفت إليه و سأله من أين اقبلت و ما قصّتك ؟ فقال الزنديق:
انّى كنت مسافرا في البحر فعصفت علينا الريح و تلعّبت بنا الامواج فانكسرت سفينتنا فتعلّقت بساحة منها، و لم يزل الموج تقلّبها حتى قذفت بى الى الساحل فنجوت عليها، فقال له عليه السّلام: أ رأيت الّذى كان قلبك اذا انكسرت السفينة و تلاطمت عليكم الامواج فزعا اليه مخلصا له في التضرّع طالبا منه النجاة ؟ فهو إلهك، فاعترف الزنديق بذلك، و حسن اعتقاده و ذلك من قوله تعالى: «وَ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ»(1) الآية. و باللّه التوفيق.
إنّما بدؤ وقوع الفتن أهواء تتّبع، و أحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللّه، و يتولّى عليها رجال رجالا على غير دين اللّه، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين، و لو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، و لكن يؤخذ من هذا ضغث، و من هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولى الشّيطان على أوليائه، و ينجو الّذين سبقت لهم من اللّه الحسنى.
اقول: لما كان نظام العالم انّما هو بوجود الشرائع و السنن الالهية، و كانت هى مبادئ نظامه لزم فيما خالفها من الآراء المبتدعة و الاهواء المتّبعة ان يكون اسبابا لحراب العالم، و مبدءا للفتن كآراء البغاة و الخوارج. و قوله: فلو، الى آخر قوله: المرتادين: اشارة الى سبب اتّباع الناس للآراء الفاسدة و هو امتزاج الباطل بالحق، فانّ المقدّمات اذا كانت كلها باطلة تبيّن فساد الحجة بأدنى سعي، و لم يخف على الطالبين فسادها، و لو انّ الحق، الى قوله: المعاندين: و ذلك لوضوح الحق حينئذ. و الضغث: القيضة
ص: 157
من الحشيش و نحوه، فاستعير لفظه، للنصيب من الحق و الباطل، و ذلك كشبهة قتل عثمان التي تمسّك بها الناكثون، و القاسطون، فانّ فيها مقدّمة صادقة هى: كون امام المسلمين قتل مظلوما، و مقدّمة كاذبة و هى: نسبة ذلك القتل اليه عليه السلام، تارة بأنّه اجلب عليه، و تارة بأنّه خذله، و هنا لك اى: عند امتزاج الحق و الباطل فيستولى الشّيطان على أوليائه، فيزيّن لهم اتباع من ينعق بتلك الشبهة و نحوها، و ينجو من سبقت عناية اللّه له بتمييز الحق من الباطل، و باللّه التوفيق.
قد استطعموكم القتال فأقرّوا على مذلّة، و تأخير محلّة، أو روّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين و الحياة في موتكم قاهرين. ألا و إنّ معاوية قاد لمّة من الغواة. و عمس عليهم الخبر، حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة.
اقول: استعار وصف الاستطعام لطلبهم القتال بالتحرّش بهم، و المحلّة: المنزلة و تأخيرها عن رتبة اهل الشرف و الشجاعة. و نفّر عن ترك القتال بضمير صغراه قوله:
فالموت، الى قوله: مقهورين: و اراد موت الذّلّ و القهر و تقدير كبراه، و كلّ من كان فيه الموت فينبغى أن يهرب منه، و رغّب فيه بضمير صغراه، قوله: و الحياة في موتكم قاهرين: و اراد حياة العزّبين العرب و الذّكر الجميل بالحميّة للّه، و تقدير الكبرى و كلّ من كانت فيه الحياة فينبغى ان يرغّب فيه. و اللمة بالتخفيف: الجماعة القليلة. و عمس بالتخفيف و التشديد: عمّى و لبّس، و الخبر شبهة عثمان و قتله.
ص: 158
و قد تقدّم مختارها برواية و نذكرها هنا برواية اخرى لتغاير الروايتين ألا و إنّ الدّنيا قد تصرّمت و آذنت بوداع، و تنكّر معروفها، و أدبرت حذّاء فهى تحفز بالفناء سكّانها، و تحدو بالموت جيرانها، و قد أمرّ منها ما كان حلوا، و كدر منها ما كان صفوا، فلم يبق منها إلاّ سملة كسملة الإداوة، أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع، فأزمعوا عباد اللّه الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزّوال، و لا يغلبنّكم فيها الأمل و لا يطولنّ عليكم الأمد، فو اللّه لو حننتم حنين الولّة العجال، و دعوتم بهديل الحمام، و جأرتم جؤار متبتّل الرّهبان، و خرجتم إلى اللّه من الأموال و الأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيّئة أحصتها كتبه، و حفظها رسله، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه، و أخاف عليكم من عقابه. و اللّه لو انماثت قلوبكم انمياثا، و سالت عيونكم، من رغبة إليه أو رهبة منه دما، ثمّ عمّرتم في الدّنيا ما الدّنيا باقية، ما جزت أعمالكم، و لو لم تبقوا شيئا من جهدكم، أنعمه عليكم العظام و هداه إيّاكم للإيمان.
اقول: آذنت: اعلمت. و تنكّر معروفها: تغيّر ما يأنس به كلّ احد(1) منها و يعرفه و تبدّله وقتا فوقتا و حالا فحالا من صحة او جاه او مال و نحوه. و حذاء: خفيفة مسرعة لا يدركها احد، و استعار لفظ الحفز و هو: السوق الحثيث و وصف الحذاء لها باعتبار سوقها لاهلها الى غايتهم منها و هو الموت، و مصاحبتها لهم كالسائق و الحادى. و مرارة ما كان حلوا منها و تكدير ما كان صفوا بالقياس الى كلّ شخص من أهلها كالصحّة بالسقم، و اللّذّة بالألم. و السملة بفتح الميم: البقية من الماء في الاناء. و المقلة بفتح الميم و سكون القاف: حصاة يقسّم بها الماء عند قلّته يعرف بها مقدار ما يسقى كل شخص.
و التّمزّز: تمصّص الماء قليلا قليلا. و الصديّان: العطشان. و نقع ينقع: سكن عطشه: و قد شبّه بقيّتها ببقيّة الماء في الاناء، و نبّه على وجه الشبه بقوله: لو تمزّزها الصديّان لم ينقع،
ص: 159
و كنّى به: عن غاية قلّتها، و قلّة البقاء فيها. و الازماع: تصميم العزم و الرحيل عنها اى:
بالسفر الى اللّه. و قوله: فو اللّه، الى قوله: عقابه: تنبيه على عظيم ثواب اللّه و ما ينبغي ان يرجى منه، و على عظيم عقابه، و ما ينبغي ان يخاف منه.
و الولّه العجال جمع واله، و عجول، و هما: من الأبل و النوق التي تفقد اولادها. و هديل الحمامة: نوحها. و الجواز: الصوت المرتفع. و التبتّل: الانقطاع الى اللّه بالاخلاص، و المعنى: انّ الّذى ارجوه من ثوابه للمتقرّب اليه منكم اكثر مما يتصوّره المتقرّب اليه(1)بتقرّبه بجميع أسباب القربة. و الّذى اخافه من عقابه اكثر من العقاب الذى يتوهّم انّه يدفعه عن نفسه بذلك، فينبغى لطالب الزيادة في المنزلة عند اللّه ان يخلص بكليّته فى التقرّب الى اللّه، ليصل الى ما هو اعظم مما يتوهّم انّه يصل اليه من المنزلة عنده.
و ينبغي للهارب إليه من ذنبه أن يخلص في الفرار إليه ليخلص من هول ما هو اعظم مما يتوهّم انّه يدفعه عن نفسه بوسيلة، فانّ الامر فيما يرجى و يخاف من امر الآخرة اعظم مما يتصوّره عقول البشر ما دامت في عالم الغربة. و قوله: و تاللّه، الى آخره. تنبيه على عظمة نعمته تعالى على الخلق، و انّه لا يمكن جزاؤها بأبلغ السعى. و انماثت قلوبكم:
ذابت خوفا منه. و الغمة: مفعول جزت، و هداه في محل النصب عطفا عليه، و افرد الهدى بالذكر و ان كان من انعم اللّه لشرفه اذ هو المقصود من كل نعمة افاضها اللّه تعالى على عباده.
و من كمال الأضحية استشراف أذنها، و سلامة عينها، فإذا سلمت الأذن و العين سلمت الأضحية و تمّت، و لو كانت عضباء القرن تجرّ رجلها إلى المنسك.
اقول: استشراف اذنها: طولها، و كنى به عن: سلامتها من القطع او نقصان الخلقة.
ص: 160
و العضباء: مكسورة القرن الداخل. و كنى بجرّ رجلها عن: عرجها. و المنسك: موضع النسك، و التقرّب بذبحها.
و اعلم أنّ المعتبر فيها سلامتها عما ينقص قيمتها، و ظاهر انّ العمى، و العور، و الهزال، و قطع الاذن تشويه لخلقتها، و نقصان في قيمتها، دون العرج و كسر القرن، و فى فضلها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: (ما من عمل يوم النحر احبّ الى اللّه عزّ و جل من اراقة دم، و انّها لتأتى يوم القيامة بقرونها و اظلافها، و انّ الدم ليقع من اللّه بمكان قبل ان يقع الى الارض فطيبوا بها نفسا.
فكانت الصحابة رضى اللّه عنهم يبالغون في اثمان الهدى و الاضاحى، و افضلها:
أعلاها ثمنا، و انفسها عند اهلها. روى انّ عمر أهدى نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، أن يبيعها و يشترى بثمنها بدنا، فنهاه عن ذلك، و قال: بل اهدها. و سرّ ذلك انّ المقصود تطهير النفس و تزكيتها عن رذيلة البخل، و تزيينها بجمال التعظيم للّه تعالى «لَنْ يَنٰالَ اَللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لاٰ دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ اَلتَّقْوىٰ مِنْكُمْ »(1) و ذلك بمراعاة النفاسة في القيمة، لا كثرة العدد و اللحم فليس الغرض ذلك.
فتداكّوا علىّ تداكّ الإبل الهيم يوم وردها، قد أرسلها راعيها، و خلعت مثانيها، حتّى ظننت أنّهم قاتلىّ ، أو بعضهم قاتل بعض لدىّ ، و قد قلّبت هذا الأمر، بطنه و ظهره، فما وجدتنى يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاءنى به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فكانت معالجة القتال أهون علىّ من معالجة العقاب، و موتات الدّنيا أهون علىّ من موتات الآخرة.
اقول: الفصل اشارة الى صفة اصحابه بصفين لما طال منعه لهم، من قتال اهل الشام، و كان عليه السّلام يتوقّف عن قتالهم انتظارا لانجذاب(2) بعضهم الى الحق الذى
ص: 161
هو الغرض الكلّى للشّارع. و المداكة: المزاحمة و شبه زحامهم عليه حينئذ بزحام الابل، و هى: العطاش حين يطلقها رعاتها من مثانيها يوم ورودها و وجه الشبه شدّة الزحام.
و المثانى جمع مثناة و هى: الحبل يثنى و يعقل به البعير.
و قوله: و قد قلبت، الى قوله: أهون: كناية عن تقليبه لوجوه الاراء المصلحية فى القتال، و تركه و الكفر اللاّزم عن تركه لاستلزام تركه التّهاون بأمر اللّه و رسوله بقتال اهل البغى، و العقاب هو اللاّزم عن ذلك الكفر في الآخرة. و موتات الدنيا: كناية عن شدائد الحرب، و قيل: الاقرباء و الاحبّاء، و موتات الآخرة كناية عن تكرّر عذابها و دوامه.
أمّا قولكم: أ كلّ ذلك كراهية الموت ؟ فو اللّه ما أبالى أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلىّ . و أمّا قولكم شكّا في أهل الشّام! فو اللّه ما دفعت الحرب يوما إلاّ و أنا أطمع أن تلحق بى طائفة فتهتدى بى، و تعشو إلى ضوئى، و ذلك أحبّ إلىّ من أن أقتلها على ضلالها، و إن كانت تبوء بآثامها.
اقول: هذا الفصل كالّذى قبله، و سببه لما طال منعه لهم عن قتال اهل الشام الحوّا عليه في ذلك حتى نسبه بعضهم الى العجز و كراهية الموت. و بعضهم الى الشكّ في وجوب قتالهم، فأورد سؤال الاوّلين و اجاب عنه، بقوله: فو اللّه، الى قوله: الىّ . و أورد السئوال الثاني، و أجاب عنه بقوله: فو اللّه ما دفعت الى آخره. و عشا الى النار: استدلّ عليها ببصر ضعيف. و باء بإثمه: رجع به. و قوله: احبّ خبر مبتداء محذوف اى: و ذلك أحبّ . لك
و لقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا: ما
ص: 162
يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا و تسليما و مضيّا على اللّقم، و صبرا على مضض الألم، و جدّا في جهاد العدوّ. و لقد كان الرّجل منّا و الآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخا لسان أنفسهما، أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون: فمرّة لنا من عدوّنا، و مرّة لعدوّنا منّا، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، و أنزل علينا النّصر، حتّى استقرّ الإسلام ملقيا جرانه، و متبوّئا أوطانه. و لعمرى لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدّين عمود، و لا اخضرّ للإيمان عود، و ايم اللّه لتحتلبنّها دما و لتتبعنّها ندما.
اقول: صدر الفصل بيان صنع الصحابة رضى اللّه عنهم في الجهاد، ليقتدى بهم السامعون في ذلك. و اللقم: منهج الطريق الى اللّه تعالى. و يتصاولان: يحمل كل منهما على الآخر مرّة. و الكبت: الاذلال. و كنى بالقاء جرانه: عن استقراره و ثباته، و جران البعير: مقدّم عنقه من مذبحه الى منحره. و تبوّأ وطنه: استقرّ فيه، و استعار لفظ الاوطان:
لقلوب المؤمنين و بلادهم. و لفظ العمود: لاصل الدين. و وصف اخضرار العود: لنضارته فى القلوب، و وصف احتلاب الدّم لأفعالهم: ملاحظة لشبهها بالنّاقة الّتى اصيب ضرعها بتفريط من صاحبها. و باللّه التوفيق.
أما إنّه سيظهر عليكم بعدى رجل رحب البلعوم، مند حق البطن، يأكل ما يجد و يطلب ما لا يجد، فاقتلوه، و لن تقتلوه ألا و إنّه سيأمركم بسبّى و البراءة منّى: أمّا السّبّ فسبّونى، فإنّه لى زكاة، و لكم نجاة، و أمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّى، فإنّى ولدت على الفطرة، و سبقت إلى الإيمان و الهجرة.
أقول: الخطاب لاهل الكوفة قال اكثر الشارحين: المراد بالرجل معاوية لانّه كان بطينا كثير الأكل. و المندحق: البارز. و روى أنّه كان يأكل الى ان يملّ و يقول: ارفعوا
ص: 163
فو اللّه ما شبعت و لكن مللت و تعبت، و كان ذلك بدعاء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبق عليه(1). روى أنّه بعث اليه مرّة فوجدوه يأكل، فبعث إليه ثانية و ثالثة فوجدوه كذلك فقال صلّى اللّه عليه و آله: اللّهم لا تشبع بطنه، و لبعضهم في وصف آخر بالأكل فقال:
و صاحب لى بطنه كالهاوية *** كأنّ في أمعائه معاوية
و قيل: هو زياد بن ابيه، و قيل: هو الحجّاج. و رخّص عليه السّلام في سبّه عند الاكراه، و لم يرخص في البراءة منه لانّ السّب فعل اللسان، و هو امر يمكن ايقاعه دون اعتقاده مع احتماله التعريض. و امّا التبّري فليس بصفة قولية فقط بل يعود الى المجانبة القلبية و هو المنهيّ عنه، اذ هو امر باطن يمكن الانتهاء عنه، و لا يلحق بسببه ضرر. فامّا انّ السّب له زكاة فللحديث: انّ ذكر المؤمن بسوء هو زكاة له، و ذمّه بما ليس فيه زيادة في جاهه و شرفه. و الذى بدأ بسبّه معاوية و قطعه عمر بن عبد العزيز(2)، و فيه يقول السيد الرّضى رحمه اللّه من قطعة له:
يا ابن عبد العزيز لو بكت العي *** ن فتى من اميّة لبكيتك
انت نزّهتنا عن الشّتم و الس *** بّ و لو كنت مجزيا لجزيتك
غير انّى اقول انّك قد طبت *** و ان لم يطب و لم يزك بيتك (3)
و الفطرة فطرة اللّه التي فطر الناس عليها سليما من التدنّس بالعقائد الباطلة، و عبادة غير اللّه و سبقه الى الاسلام سبقه الى الدخول في طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ملازمته له و هجرته معه.
أصابكم حاصب، و لا بقى منكم آبر أبعد إيمانى باللّه و جهادى مع رسول اللّه أشهد
ص: 164
على نفسى بالكفر؟ ل «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ »! فأوبوا شرّ مآب، و ارجعوا على أثر الأعقاب، أمّا إنّكم ستلقون بعدى ذلاّ شاملا و سيفا قاطعا و أثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة.
(قال الشريف: قوله عليه السّلام «و لا بقى منكم آبر» يروى بالباء و الراء من قولهم للذى يأبر النخل - أي: يصلحه - و يروى «آثر» و هو الذى يأثر الحديث، أي: يرويه و يحكيه، و هو أصح الوجوه عندى، كأنه عليه السّلام قال: لا بقى منكم مخبر. و يروى «آبز» - بالزاى المعجمه - و هو الواثب، و الهالك ايضا يقال له آبز) أقول: السّبب انّه لما كتب عهد الصلح بينه و بين اهل الشام، اعتزلت الخوارج و تنادوا من كل جانب لا حكم الاّ للّه. الحكم للّه يا علي لا لك انّ اللّه قد أمضى حكمه في معاوية و اصحابه ان يدخلوا تحت حكمنا، و قد كنا زللنا و أخطأنا حين رضينا بالتحكيم، و قد بان زللنا(1) و خطأنا و رجعنا الى اللّه و تبنا، فارجع انت كما رجعنا و تب اليه كما تبنا.
و قال بعضهم: انّك أخطأت فاشهد على نفسك بالكفر ثم تب منه حتى نطيعك. فأجابهم عليه السّلام بهذا الكلام.
و الحاصب: ريح ترمى بالحصباء، و هى صغار الحصى. و دعاؤه عليه السّلام ظاهر.
و الاثرة: الاستبداد، و الّذى لقوه من الذّل، و القتل على يده، و يد من بعده كالمهلب و أولاده، و الحجّاج و غيرهم. و استبداد الولاة بعده بمال المسلمين يصدّق ما اخبرهم به عليه السّلام.
مصارعهم دون النّطفة، و اللّه لا يفلت منهم عشرة، و لا يهلك منكم عشرة.
ص: 165
(قال الشريف: يعنى بالنطفة ماء النهر، و هو أفصح، كناية و ان كان كثيرا جمّا) و قد أشرنا الى ذلك فيما تقدم عند مضي ما أشبهه.
اقول: خلاصة الخبر انّه عليه السّلام جاءه رجل من اصحابه، فقال: البشرى يا امير المؤمنين انّ القوم قد عبروا النهر لما بلغهم وصولك، فقال: اللّه انت رأيتهم قد عبروا؟ فقال: نعم، فقال عليه السّلام: و اللّه ما عبروه و لن يعبروه و انّ مصارعهم الفصل. ثم سار(1)عليه السّلام اليهم فوجدهم قد كسّروا جفون سيوفهم، و عرقبوا دوابهم، و حبوا على الركب، و حكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل، فلما قتلهم كان المفلت منهم تسعة، و المقتول من اصحابه ثمانية. و الحكمان من كراماته عليه السّلام.
كلاّ و اللّه إنّهم نطف في أصلاب الرّجال و قرارات النّساء، كلّما نجم منهم قرن قطع، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين.
أقول: أشار بذلك الى من سيوجد منهم، و كنى بالقرارات: عن الأرحام، و استعار لفظ القرن: لمن يظهر من رؤسائهم، و رشّح بذكر النجوم و كنى بقطعه (عن قبله)(2) و جعل لتراذلهم غاية و هى كون آخرهم قطّاعا للطريق و ذلك كشبيب، و قطرى بن فجاة، و غيرهما، و اخبارهم يشهد بصدقه عليه السّلام.
لا تقتلوا الخوارج بعدى، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه
ص: 166
(يعنى معاوية و أصحابه).
قال السيد رحمه اللّه يعنى: لمن ادركه معاوية و اصحابه.
اقول: الفرق بينهم، و بين معاوية، انّ القوم طلبوا الحقّ بالذّات فوقعوا في الباطل بالعرض، و معاويه طلب الباطل بالذّات في صورة تشبّه الحق، و انّما نهى عن قتلهم بعده على تقدير ان يلزموا حدودهم، و يكفّوا عن العبث و الفساد في الأصل. و قيل انّما قتلهم لانّه امام عادل رأى وجوب قتالهم، و انّما نهى عنه ذلك بعده لانّه علم أنّه لا يلي هذا الأمر بعده من له بحكم الشريعة ان يقتل، أو يتولّى امر الحدود و يضعها مواضعها.
و إنّ علىّ من اللّه جنّة حصينة، فإذا جاء يومى انفرجت عنّى و أسلمتني فحينئذ لا يطيش السّهم، و لا يبرأ الكلم.
أقول: الغيلة: الفتك(1) على غرّة، و قد كان عليه السّلام خوّف من قبل عبد الرحمن بن ملجم لعنه اللّه مرارا كما نبّهنا عليه في الاصل(2) و استعار لفظ الجنّة و هى الترس و نحوه، لمدّة أجله المعلوم للّه تعالى، و وصف الانفراج لانقضائها، و لفظ السهم: لأسباب الموت، و كنى بعدم طيشه عن أصابته.
ألا و إنّ الدّنيا دار لا يسلم منها إلاّ فيها، و لا ينجى بشىء كان لها: ابتلى النّاس بها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه، و حوسبوا عليه و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه
ص: 167
و أقاموا فيه، فإنّها عند ذوى العقول كفىء الظّلّ : بينا تراه سابغا حتّى قلص، و زائدا حتّى نقص.
أقول: لا يسلم منها الاّ فيها أى: لا يسلم من عذاب اللّه عليها في الآخرة الاّ بما فعل فيها من الأعمال الصالحات، و الّذى يكون لها هو ما يقتنى منها للاستمتاع به، و الالتذاذ بنفعه لانّه هو دون الوصول به الى الآخرة، و ظاهر انّ ذلك لا يكون به نجاة في الآخرة، و الابتلاء بها اختبار المطيع من العاصى، و ليس المراد منه انّ اللّه تعالى لا يعلم ما تؤل اليه أحوال العباد، لأنّه يعلم السرّ و اخفى، بل لما كانت الشرائع الالهية جاذبة للخلق عنها الى الغاية الّتى خلقوا لها، و كانت محاضر لذّاتها جاذبة لهم بحسب نفوسهم الأمّارة اليها، فمن اطاع داعى اللّه و صوارفه عنها فاز فوزا عظيما، و من اتّبع هواه بغير هدى من اللّه خسر خسرانا مبينا، أشبه ذلك صورة ابتلاء من اللّه لخلقه بها فاستعير لذلك، وصف الابتلاء، و لفظ الفتنة و ما أخذ منها لغيرها هو ما يقصد به وجه اللّه و الدار الآخرة من مال يتصدّق و يصرف في سبيل اللّه، أو جاه او عمل للّه، و ليس ما يقدمون عليه في الآخرة هو عين ما أخذ من الدنيا، بل ثمرته من ثواب اللّه و متاع الآخرة، و شبهها في شرعة زوالها عند ذوى العقول الناظرين اليها، باعين بصائرهم بفىء الظّلّ ، و اشار الى وجه الشبه، بقوله: بينا الى آخره.
و اصل بينا بين بمعنى: الوسيط فاشبعت الفتحة فحدثت ألف، و قد تزاد فيها ما، و المعنى واحد. و قلص: نقص. و باللّه التوفيق.
و اتّقوا اللّه عباد اللّه، و بادروا آجالكم بأعمالكم، و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، و ترحّلوا فقد جدّبكم، و استعدّوا للموت فقد أظلّكم، و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا، و علموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا، و لم يترككم سدى، و ما بين أحدكم و بين الجنّة أو النّار إلاّ الموت أن ينزل به، و إنّ غاية
ص: 168
تنقصها اللّحظة و تهدمها السّاعة لجديرة بقصر المدّة، و إنّ غائبا يحدوه الجديدان - اللّيل و النّهار - لحرى بسرعة الأوبة، و إنّ قادما يقدم بالفوز و الشّقوة، لمستحقّ لأفضل العدّة فتزوّدوا في الدّنيا، من الدّنيا، ما تحرزون به أنفسكم غدا فاتّقى عبد ربّه نصح نفسه، و قدّم توبته، و غلب شهوته فإنّ أجله مستور عنه، و أمله خادع له، و الشّيطان موكّل به: يزيّن له المعصية ليركبها و يمنّيه التّوبة ليسوّفها حتّى تهجم منيّته عليه أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، و أن تؤدّيه أيّامه إلى شقوة، نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا و إيّاكم ممّن لا تبطره نعمة، و لا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، و لا تحلّ به بعد الموت ندامة و لا كآبة.
اقول: مبادرة الآجال: مسابقتها بالأعمال الصالحة، و ما يبقى لهم هو الثواب الموعود في الآخرة، و ما يزول عنهم هو الدنيا و متاعها. و استعار وصف الابتياع: لبذل الدنيا الفانية في تحصيل الخيرات الاخروية الباقية، و ذلك بالزهد فيها، و الخروج عنها، و اشار بالترحّل: الى السفر في سبيل اللّه اليه و بالجدّ بهم الى شدّة سير الليل و النهار في هدم الأعمار، و الاستعداد للموت: التسلّح له بالكمالات النفسانية التي لا يضر معها موت البدن. و اظلّكم: اشرف عليكم. و قوله: كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا: تنبيه على وجوب اجابة الداعى الى اللّه و هو لسان الشريعة و الانتباه بندائه من نوم الغفلة و مراقد الطبيعة. و سدى: مهمل، و كنى بالغاية عن: الأجل و أراد بالغائب: الانسان ما دام فى الدنيا، اذ كان في دار الغربة عن مستقرّه الاصلى و بحسب قصر مدّة غيبته يكون سرعة أوبته. و قيل: اراد به ملك الموت، و كذلك اراد بالقادم: الانسان، و ما يزوّد من الدنيا فيها: التقوى، و الاعمال الصالحة، و هى الحرز من عذاب اللّه. و قوله: فاتقى، الى قوله:
شهوته: او امر وردت بلفظ الماضى و هى بلاغة تريك المعنى في أحسن صوره، و نصيحة النفس النظر في مصلحتها باتّخاذ الزاد الأبقى، و هو التقوى و من جملتها تقديم التوبة و غلب الشهوة.
و نبّه على وجوب ذلك بضمير صغراه قوله: فانّ أجله، الى قوله: عنها، و تقدير كبراه و كلّ ما كان كذلك فواجب ان ينصح نفسه بلزوم اوامر اللّه تعالى، و التسويف التمادى
ص: 169
في الأمر و أصله قول الرجل: سوف افعل، و اغفل نصب على الحال. و حسرة نصب على التمييز للمتعجّب منه المدعوّ، و اللام في «لها» قيل: للاستغاثة كأنّه قال يا للحسرة على الغافلين ما اكثرك. و قيل: لام الجرّ فتحت لدخولها على الضمير المنادى المحذوف، أى: يا قوم ادعوكم لها حسرة، و ان في موضع النصب بحذف الجار اى: على كون اعمارهم حجة عليهم يوم القيامة.
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» لم يسبق له حال حالا، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا، و يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، و كلّ عزيز غيره ذليل، و كلّ قوىّ غيره ضعيف، و كلّ مالك غيره مملوك، و كلّ عالم غيره متعلّم، و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز، و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات، و يصمّه كبيرها، و يذهب عنه ما بعد منها، و كلّ بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان و لطيف لأجسام، و كلّ ظاهر غيره غير باطن، و كلّ باطن غيره غير ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، و لا تخوّف من عواقب زمان، و لا استعانة على ندّ مثاور، و لا شريك مكابر، و لا ضدّ منافر، و لكن خلائق مربوبون، و عباد داخرون، لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، و لم ينأ عنها فيقال هو منها بائن لم يؤده خلق ما ابتدأ و لا تدبير ما ذرأ، و لا وقف به عجز عمّا خلق، و لا و لجت عليه شبهة فيما قضى و قدّر. بل قضاء متقن، و علم محكم، و أمر مبرم: المأمول مع النّقم، و المرهوب مع النّعم.
اقول: لما ثبت انّ السبق و القبلية، و التأخر و البعدية، من لواحق الزمان لذاته و من لواحق الزمانيات بواسطته و كان تعالى منزّها عن لحوق الزمان في ذاته، و كمال صفاته لا جرم لم يلحقه شيء من اعتبار القبلية و البعدية فلم يجز ان يقال مثلا كونه عالما قبل كونه قادرا، و لا كونه حيا قبل كونه عالما، بقى أن يقال انّ القبلية و البعدية قد يطلقان باعتبار آخر كالقبلية بالشرف، و الفضيلة، و الذات، و العلية لكن قد بيّنا في الخطبة الاولى انّ كل
ص: 170
ما يلحق ذاته المقدّسة من الصفات اعتبارات ذهنية تحدثها العقول، عند مقايسته الى مخلوقاته و لا سبق لشيء منها على الآخر، بالنظر الى ذاته المقدّسة و الاّ لكانت كمالات قابلة للزيادة و النقصان، و بعضها علة للبعض و اشرف، و بعضها معلول بعض و انقص بالنظر الى ذاته و ذلك من لواحق الامكان هذا خلف، و ذلك سرّقوله عليه السّلام: الّذى لم يسبق له حال حالا: الى قوله: باطنا، بل معنى اوليّته هو اعتبارنا كونه تعالى مبدأ لكل موجود، و آخريته هو اعتبارنا لكونه غاية لكلّ ممكن او استحقاقه البقاء لذاته، و استحقاق غيره له ببقائه تعالى و هذه الاعتبارات بالنظر الى ذاته تعالى على سواء.
و قوله: كل مسمّى بالوحدة غيره قليل، يريد: انّه لا يوصف بالقلّة و ان كان واحدا و ذلك أنّ الواحد يقال لمعان، و المشهور منها هو: كون الشيء مبدأ لكثرة يكون عادّا لها و مكيالا، و هو الّذى تلحقه القلّة و الكثرة الاضافيتين، فانّ كلّ واحد بهذا المعنى قليل بالنّسبة الى الكثرة الّتى يصلح ان يكون مبدأ لها، و المتصوّر لاكثر النّاس كونه تعالى واحدا بهذا المعنى، فلذلك نزّهه عليه السّلام عنه بذكر لازمه و هو القليل لظهور بطلان هذا اللازم في حقه تعالى، و استلزام بطلانه بطلان الملزوم المذكور، و ذلّة الاعزّاء غيره لدخولهم تحت الحاجة اليه، و ضعف كلّ قوىّ غيره لدخوله تحت قهر قدرته التّامّة، و مملوكية كلّ مالك غيره لدخوله تحت الملك المطلق الّذى تنفذ مشيئة مالكه في جميع الموجودات باستحقاق دون غيره، و تعلم كل عالم غيره لكون كل عالم مستفادا من فيض جوده، و هو العالم المطلق الّذى لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات و لا فى الارض، و عجز غيره عن بعض الاشياء يشهد بكمال قدرته، و انّها مبدأ قدرة كل قادر.
و كونه تعالى سميعا يعود الى علمه تعالى بالمسموعات لتنزّهه عن الآلة التي من شأنها أن تصم، لانّ ادراكها للصوت على قرب و بعد، و حد مّن القوّة و الضعف مخصوص فانّه ان كان الصوت ضعيفا جدّا او بعيدا جدّا لم يصل الى الصماخ فلم تدركه القوّة السامعة، فلذلك كانت تصمه عن لطيف الاصوات، و يذهب عن السامع ما بعد منها و ان كان في غاية من القوّة و القرب، فربما اشتدّ قرعه للصماخ فتفرق اتصال الروح الحامل لقوة السمع عنه، بحيث يبطل استعدادها لتأدية الصوت و يحدث الصمم فلذلك قال: و يصمه كبيرها.
و بحسب تنزّهه تعالى عن هذه الآلة لم يعزب عنه ما خفى من الاصوات و لم يذهب عليه
ص: 171
ما بعد منها، و لم تلحقه لواحقها من الصّمم و النقصان، و خفى الألوان مثلا كاللون فى الظلمة.
و اللطيف قد يراد به: عديم اللون كالهواء، و قد يراد به رقيق القوام كالذرّة و هو غير مدرك بالمعنيين للحيوان، و اطلق اسم العمى: على عدم الابصار مجازا، و لما كان كونه تعالى بصيرا يعود إلى علمه بالمبصرات لم يعزب عنه شيء منها و ان خفى على غيره، و لطف و لم تلحقه من لواحق الآلات آفة، كالعمى و نحوه. و قوله: و كل ظاهر، الى قوله:
غير ظاهر، يريد: انّه تعالى هو المتفرّد بالجمع بين وصفى البطون و الظهور، دون غيره و قد بيّنا معناهما في الأصل. و قوله: و لم يخلق، الى قوله: منافر: لانّه تعالى لا يفعل لغرض، و تشديد السلطان: تقويته. و النّد: المثل. و المثاور: المواثب. و داخرون: ذليلون و برهان كونه تعالى غير حالّ في شيء، و لا مباين قد سبق في الخطبة الاولى. و آده يؤده: اثقله اى لم يثقله تدبيره للاشياء على وجه الحكمة، و لم تعرض له شبهة فيما قضى اى: حكم به فى خلقه لتنزّه علمه عن عوارض القوى البشريّة التي هى منشأ الشكوك و الشبهات.
و ولجت: دخلت. و المبرم: المحكم. و قوله: المأمول، الى قوله: النعم: ايماء الى تنزيهه تعالى عن حالة البشرية، فانّ المنتقم من الناس حين انتقامه لا يكون مأمولا و حال نعمته لا يكون مرهوبا.
معاشر المسلمين، استشعروا الخشية، و تجلببوا السّكينة، و عضّوا على النّواجذ، فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام، و أكملوا اللاّمة، و قلقلوا السّيوف في أغمادها قبل سلّها، و الحظوا الخزر، و اطعنوا الشّزر، و نافحوا بالظّبا، و صلوا السّيوف بالخطا. و اعلموا أنّكم بعين اللّه، و مع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فعاودوا الكرّ و استحيوا من الفرّ فإنّه عار فى الأعقاب، و نار يوم الحساب، و طيبوا عن أنفسكم نفسا و امشوا إلى الموت مشيا سجحا، و عليكم بهذا السّواد الأعظم، و الرّواق المطنّب، فاضربوا ثبجه، فإنّ الشّيطان
ص: 172
كامن في كسره، قد قدّم للوثبة يدا، و أخّر للنّكوص رجلا، فصمدا صمدا حتّى ينجلي لكم عمود الحقّ «وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ ».
أقول: قد اشتملت هذه الأوامر على تعليم كيفية الحرب، و بدأ بالامر باستشعار خشية اللّه اى: اتّخاذها شعارا، و الشعار: ما يلي الجسد من الثياب و استعار وصف تجلبب السكينة: للتلبّس بها كالجلباب و هى: الملحفة، و فائدته طرد الفشل و ارهاب العدوّ. و النواجذ: أقصى الاضراس و فائدة العض عليها، نبو السيف عن الهامة ليصلب عضل الرأس و مقاومته حينئذ للضربة. و اللّأمة بوزن فعلة: الدرع و اكمالها بالبيضة و السواعد، و يحتمل ان يراد بها جميع آلة الحرب و الغرض شدّة التحصن. و فائدة قلقلة السيوف في اغمادها. سهولة سلها: وقت الحاجة اليها. و لحظ الخزر: من امارات الغضب و الحمية، و فائدته اخذ الغرّة من العدوّ. و الشزر بسكون الزاء و هو: الطعن على غير استقامة بل يمينا و شمالا، فائدته توسعة المجال للطاعن. و المنافحة بالضبى: التناول باطراف السيوف و فائدته توسعة المجال ايضا، فانّ القرب من العدوّ تمنع من ذلك. و صلة السيوف بالخطا، و فائدته انّ السيف قد يكون قصيرا فيطول بالخطوة و مدّ اليد و لانّ فيه الاقدام على العدوّ و الزحف اليه، و ذلك مما يوجب له الانفعال و التاخّر، و فيه قول الشاعر:
اذا قصرت أسيافنا كان وصلها *** خطانا الى اعدائنا فنضارب
و كونهم بعين اللّه اى: بحيث يراهم، و يعلم ما يفعلون. و قوله: و طيبوا عن انفسكم نفسا: تسهيل للموت عليهم بما يستلزمه من الثواب الاخروىّ . و النفس الاولى الشخص الزائل بالموت، و النفس المنصوبة على التمييز المدبّرة للبدن. و سمحا: سهلا. و السواد الأعظم: جماعة اهل الشام. و الرواق المطنّب: مضرب كالفسطاط لمعاوية و كان يومئذ فى مضرب عليه قبّة عالية باطناب عظيمة، و حوله من اهل الشام مائة الف كانوا تعاهدوا على ان لا ينفرجوا عنه حتّى يقتلوا. و ثبجه: وسطه و أراد بكمون الشيطان في كسره: كونه مظنّة الشيطان اذ ضرب على طاعته و معصية اللّه. و قيل: استعار لفظه لمعاوية باعتبار اغوائه للخلق، و كنّى بقوله: قد قدّم، الى قوله: اخرى: عن كونه متردّدا في أمره، و على غير يقين في قتاله، فهو في مظنّة ان يرجع و يهرب. و كسر البيت: جانبه. و الصمد:
ص: 173
القصد اى: اقصدوا العدوّ قصدا حتى يتبيّن لكم انّ الحق معكم بنصركم على عدوّكم اذ الطالب لغير حقّه سريع الانفعال قريب الفرار في مقاومته، و لن يتركم اى: ينقصكم.
قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. قال عليه السّلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا:
قالت: منّا أمير و منكم أمير، قال عليه السّلام:
فهّلا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصّى بأن يحسن إلى محسنهم، و يتجاوز عن مسيئهم ؟! قالوا: و ما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال عليه السّلام:
لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم!! ثم قال عليه السّلام:
فما ذا قالت قريش ؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقال عليه السّلام: احتجّوا بالشّجرة، و أضاعوا الثّمرة.
اقول: الأنباء التي بلغته، هى اخبار المشاجرة بين المهاجرين و الانصار في الخلافة فى سقيفة بنى ساعدة، فامّا ما اشار اليه عليه السّلام من الوصيّة بالانصار فهو ما رواه مسلم و البخارى في «مسنديهما» عن انس قال: مرّ ابو بكر، و العباس، بمجلس من مجالس الانصار و هم يبكون فقالا: ما يبكيكم ؟ فقالوا: ذكرنا مجلس رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله» فدخلا على الرسول فاخبراه بذلك فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله معصّبا على رأسه حاشية برد فصعد المنبر و لم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد اللّه و اثنى عليه ثمّ قال:
اوصيكم بالانصار فانّهم كرشى و عيبتى، و قد قضوا الّذى عليهم و بقى الّذى لهم،
ص: 174
فاقيلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم. و استعار لفظ الشجرة لقريش: باعتبار انّهم اصل للرسول صلى اللّه عليه و آله(1)، و لفظ الثمرة لنفسه، و اهل بيته، فانّهم ثمرة النبوّة في فضلهم، و كمال نفوسهم المقدّسة. و الكلام في صورة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجّوا به على الانصار، و تقديره انّهم ان كانوا احقّ بهذا الامر من الانصار لكونهم شجرة الرسول صلى اللّه عليه و آله، فنحن اولى لكوننا ثمرته، و الثمرة هى: الغرض من الشجرة لكن الملزوم حق فاللازم مثله.
و قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، و لو ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة و لا أنهزهم الفرصة، بلا ذمّ لمحمّد بن أبى بكر، فلقد كان إلىّ حبيبا، و كان لى ربيبا.
اقول: كان قتله رضى اللّه عنه بعد وقعة صفّين، و اضطراب الامر على علىّ عليه السّلام، و طمع معاوية في البلاد. و قتله عمرو بن العاص و حشا جثّته في جوف حمار ميّت و أحرقه(2) فبلغه عليه السّلام ذلك فجزع له حتّى ظهر في وجهه. و قال: الفصل.
و هاشم هو: ابن عتبة بن ابى وقّاص، و كان من شيعة علىّ المخلصين في ولائه و قتل معه في صفّين و كان رجلا مجرّبا. و النهز: الفرصة و اراد انّه لم يكن يمكنهم مما ارادوا، و كان محمد حبيبا اليه لتربيته في حجره صغيرا حين تزوّج امّه اسماء بنت عميس و كانت اوّلا تحت جعفر بن ابى طالب و هاجرت معه الى الحبشة فولدت له عبد اللّه بن جعفر و قتل عنها يوم مؤته، فتزوّجها ابو بكر فأولدها محمدا فلما مات عنها تزوّجها علىّ عليه السّلام فكان محمد ربيبه و نشأ على ولائه منذ صغره فكان يقول عليه السّلام: محمد ابنى من ظهر ابى بكر(3).
ص: 175
كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، و الثّياب المتداعية! كلّما حيصت من جانب تهتّكت من آخر؟ أ كلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل منكم بابه، و انجحر انجحار الضّبّة في جحرها، و الضّبع في وجارها؟! الذّليل و اللّه من نصرتموه! و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. و إنّكم، و اللّه، لكثير في الباحات قليل تحت الرّايات، و إنّى لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم، و لكنّى لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسى! أضرع اللّه خدودكم، و أتعس جدودكم، لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، و لا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ .
اقول: الفصل في ذمّ اصحابه لتقاعدهم عن الحرب. و البكار: العمدة التي انشدخ باطن اسنمتها لثقل الحمل و يسمّى ذلك العمد، و وجه الشبه مداراتهم بمداراتها قوّة المداراة و كثرتها. و خصّ البكار جمع بكرة: لانّها اشدّ تضجّرا بالحمل عند ذلك الدّاء، و اشار الى وجه شبهها بمداراة الثياب المتداعية، اى: المتتابعة في التمزّق، بقوله: كلّما حيصت الى قوله: آخر. و حيصت: خيطت و جمعت، اى: كلّما اصلح حال بعضهم، و جمعهم للحرب فسد بعض آخر عليه، و تفرّق عنه. و اطلّ : أشرف. و المنسر بفتح الميم، و كسر السين، و بالعكس: القطعة من الجيش من المائة الى المأتين. و الوجار: بيت الضبع.
و الأفوق الناصل: السهم لا فوق له و لا نصل و يتمثّل به في الاستعانة بمن لا عناء فيه.
و الباحة: ساحة الدار. و الأود: الاعوجاج، و اراد بما يصلحهم و يقيم اعوجاجهم كالضرب و القتل، و ان كان على غير وجه شرعىّ كما يفعل الملوك.
و قوله: و لكنّي الى قوله: نفسى: كالعذر عن عدم فعل ذلك بهم لما يستلزمه من الاثم المفسد للدين، المهلك في الآخرة. و اضرع اي: أذلّ . و اتعس: اهلك. و الجدّ:
الحظ. و قوله: لا تعرفون، الى آخره: تبكيت لهم بالجهل و غلبة الباطل على عقائدهم و أفعالهم.
ص: 176
ملكتنى عينى و أنا جالس، فسنح لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: يا رسول اللّه، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود و اللّدد؟ فقال: «ادع عليهم» فقلت: أبدلني اللّه بهم خيرا منهم، و أبدلهم بى شرّا لهم منّى.
اقول: ملكه عينه: كناية عن نومه. و سنح: عرض له خيال في المنام.
أمّا بعد يا أهل العراق فإنّما أنتم كالمرأة الحامل! حملت فلمّا أتمّت أملصت، و مات قيّمها، و طال تأيّمها، و ورثها أبعدها أما و اللّه ما أتيتكم اختيارا، و لكن جئت إليكم سوقا، و لكنّى بلغنى أنّكم تقولون: علىّ يكذب! قاتلكم اللّه، فعلى من أكذب ؟ أعلى اللّه ؟ فأنا أوّل من آمن به! أم على نبيّه ؟ فأنا أوّل من صدّقه، كلاّ و اللّه، و لكنّها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها. و يلمّه ؟ كيلا بغير ثمن! لو كان له وعاء «وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ».
اقول: هذا الكلام منه بعد حرب صفين. و املصت المرأة: اسقطت. و الأيم: التي لا بعل لها، و وجه تمثيلهم بالمرأة الموصوفة ما فيه من تشبّهات حالهم بحالها، فاستعدادهم لحرب اهل الشام يشبه حمل المرأة، و مشارفتهم للظفر يشبه الأيم. فانّ مالك الاشتر رحمه اللّه شارف دمشق صبيحة ليلة الهرير ليدخلها من غير حرب لو لا خدعة معاوية و قومه برفع المصاحف، و انخداع اصحابه عليه السّلام، و رجوعهم عن عدوّهم بعد ظفرهم به، يشبه الاملاص و خروجهم عن رأيه عليه السّلام، و تفرّقهم عليه يشبه موت
ص: 177
قيّمها، و هو زوجها المستلزم لذلّها و عجزها، و اخذ عدوّهم مالهم من البلاد، و تغلّبه عليها يشبه ميراث الأبعد لها. و اشار بسوقه اليهم الى حكم القضاء الالهى عليه بذلك، او الى اكراههم له على البيعة بعد امتناعه منها كما وصفه غير مرّة و ما بلغه من تكذيبهم له، فهو كلام منافقى اصحابه فانّهم كانوا يكذّبونه في بعض ما كان يخبرهم من الامور المستقبلة.
روى انّه لما قال: لو كسرت لى الوسادة لحكمت بين اهل التوراة بتوراتهم، و بين اهل الانجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم و بين اهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آية نزلت في برّ أو بحر أو سهل أو جبل و لا سماء و لا أرض الاّ و أنا أعلم فيمن نزلت و في اىّ شيء انزلت. قال رجل من تحت المنبر: يا للّه، و للدعوى الكاذبة.
و قوله: و لكنّها، الى آخره: اشارة(1) الى مجمل كلامه، و انّه غير ما ادّعوه من الكذب و اللهجة و اللسان و القول الفصيح. و اشار بقوله: غبتم عنها: الى انفراده عليه السّلام بسماعها من الرسول صلى اللّه عليه و آله، و لم يكونوا من اهلها الى ان الاستعداد لفهم مثل ذلك و سماعه طور آخر وراء عقولهم الضعيفة انّما حصلت لمثله عليه السّلام، و حاله مع هؤلاء مختصرة من حال الرسول صلى اللّه عليه و آله مع منافقى قومه. و قوله: ويل امّة:
كلمة يقال للاسترحام، و قيل: للتعجّب من الأمر و اصلها الدعاء على الامّ تفقد ولدها و ترحّم لها عند ذلك. و قوله: كيلا بغير ثمن: اشارة الى ما يلقيه اليهم من الحكم البالغة و التعليم النافع لا يريد به جزاء ثم لم يفقهوه فلذلك تعجّب منهم. و(2) كيلا مصدر اى:
اكيل لهم العلم، و الهداية كيلا بغير ثمن لو كان فيهم من يعيه و يفهمه. و قوله: «وَ لَتَعْلَمُنَّ »، الآية: فى معرض التهديد بثمرة الجهل و التثاقل عن المسارعة الى دعوته.
اللّهمّ داحى المدحوّات، و داعم المسموكات، و جابل القلوب على فطرتها شقيّها و
ص: 178
سعيدها، اجعل شرائف صلواتك و نوامى بركاتك على محمّد عبدك و رسولك: الخاتم لما سبق، و الفاتح لما انغلق، و المعلن الحقّ بالحقّ ، و الدّافع جيشات الأباطيل، و الدّامغ صولات الأضاليل، كما حمّل فاضطلع قائما بأمرك، مستوفزا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، و لا واه في عزم واعيا لوحيك، حافظا على لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك حتّى أورى قبس القابس، و أضاء الطّريق للخابط، و هديت به القلوب بعد خوضات الفتن، و أقام موضحات الأعلام، و نيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، و خازن علمك المخزون، و شهيدك يوم الدّين، و بعيثك بالحقّ ، و رسولك إلى الخلق. اللّهمّ افسح له مفسحا في ظلّك، و اجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه، و أكرم لديك منزلته، و أتمم له نوره و اجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة، و مرضىّ المقالة ذا منطق عدل، و خطّة فصل. اللّهمّ اجمع بيننا و بينه في برد العيش و قرار النّعمة، و منى الشّهوات، و أهواء اللّذّات، و رخاء الدّعة، و منتهى الطّمأنينة، و تحف الكرامة.
اقول: فى هذا الفصل فصول ثلاثة:
الاوّل، فى صفات المدعوّ تعالى و تمجيده.
الثاني، فى صفات المدعوّ له و هو النبىّ صلى اللّه عليه و آله.
الثالث، فى انواع المدعوّ به.
و الاوّل هو قوله: اللّهم، الى قوله: و سعيدها. و المدحوّات: المبسوطات اى: باسط الأرضين السبع، و المسموكات: السماوات، و داعمها: حافظها بدعائم قدرته، و جابل القلوب على فطرتها: خالقها على ما خلقها من التهيّوء و الاستعداد لسلوك سبيلى الخير و الشرّ، و استحقاق السعادة و الشقاوة، بحسب القضاء الالهى كما قال تعالى: «وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا»(1) و شقيّها بدل من القلوب اى: خالق شقىّ القلوب و سعيدها على ما فطر عليه، و كتب في اللوح المحفوظ كقوله تعالى «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ»(2).
ص: 179
الثاني ذكر للنبىّ عليه السّلام، احد و عشرين وصفا هى جهات استحقاق الرحمة من اللّه تعالى. و خاتما لما سبق اى: من انوار الوحى و الرسالة، و فاتحا لما انغلق اى: من سبيل اللّه قبله. و طريق جنّته، بابداء الشرائع، و الحقّ الذى اظهره هو الدين، و الّذى اظهره به هو المعجزات و البراهين، و الحاصل انّه اظهر الحقّ بعضه ببعض، و جيشات جمع جيشة، و هو: غليان القدر، و استعار لفظها: لثوران اباطيل المشركين و فوران فتنتهم. و الدمغ: كسر عظم الدماغ، و يستعمل في القهر و الغلبة. و الأضاليل جمع ضلال و هو: الجهل. و قوله:
كما حمّل فاضطلع اى: صلّ عليه صلاة مشابهة لحمله رسالتك، و اضطلاعه بها: قوّته عليها و نهوضه بها، و قائما و ما بعده: من المنصوبات احوال. و القدم: التقدّم اى: غير راجع عن تقدّمه في امر اللّه، و حفظه لعهده اى: العهد المأخوذ عليه، فى تبليغ الرسالة.
و استعار لفظ القبس و هو: الشعلة: لنور العلم و الحكمة. و رشح بذكر الورى اى: اظهر انوار العلم في سبيل اللّه حتى اضاءت لمن كان يخبط فيها و يمشى على غير بصيرة.
و موضحات الاعلام: هى الادلّة الواضحة على الحق و نيرّات الاحكام هى: المطالب الواضح لزومها عن تلك الادلّة، و علمه المخزون هو: علمه الغيبىّ المشار اليه، بقوله: «عٰالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً»(1) الآية. و كونه شهيدا اى: على امّته بما علم منهم من طاعة و عصيان.
الثالث المدعوّ به، و المفسح المكان: المتّسع اى: فى حضرة قدسه، و ظلّ وجوده، و بناؤه هو: ما شيّده من الدّين اى: اعلى دينه و اظهره على سائر الاديان، و كذلك نور دينه او نور نفسه الّذى يسعى بين يديه، و مقبول القول مفعول آخر، و ذا منطق: نصب على الحال و كنّى بقبول شهادته عن تمام الرضى عنه، و منطق عادل لا كذب فيه. و خطّة فصل اى: فاصله للحقّ من الباطل. و برد العيش: كناية عن عدم الكلفة فيه، و هو فى الآخرة ثمرة الجنة، و قرار النعمة: مستقرّها، و هو ايضا ثباتها و غايتها. و اهواء اللذّات:
ما يهواه و يميل اليه. و رخاء الدعة و منتهى الطمأنينة: اتّساع سكون النفس بلذّة مفارقة الحقّ و الانس بالملأ الأعلى، و امنها من مزعجات الدنيا، و تحف الكرامة: سائر ما اعدّه لكرامة اوليائه مما وعدوا به.
ص: 180
قالوا: أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل، فاستشفع الحسن و الحسين عليهما السّلام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فكلماه فيه، فخلى سبيله، فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السّلام:
أ و لم يبايعنى بعد قتل عثمان ؟ لا حاجة لى في بيعته! إنّها كفّ يهوديّة لو بايعنى بكفّه لغدر بسبته أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه، و هو أبو الأكبش الأربعة، و ستلقى الأمّة منه و من ولده يوما أحمر! اقول: نبّه بقوله: يد يهودية على غدره و خبثه، لانّ شأن اليهود ذلك. و السبّة:
الاست، و لمّا كان الغدر من اقبح الرذائل نسبه الى السبّة في معرض الذمّ و الاهانة، ثمّ نبّه من أمره في المستقبل على ثلاثة امور:
أحدها ان يكون اميرا للمسلمين و نبّه على قصر مدّة ولايته، فى معرض الاستهانة بأمره بتشبّهها بلعقة الكلب انفه، و كانت مدّتها أربعة اشهر و عشرا، و روى: ستة اشهر.
الثاني انّه سيكون ابا للاكبش الاربعة، و كبش القوم: رئيسهم، فكان له أربعة ذكور لصلبه، و هم عبد الملك، و ولى الخلافة، و عبد العزيز و ولى مصر، و بشر و ولى العراق، و محمد و ولى الجزيرة. و يحتمل ان يريد بالاربعة: اولاد عبد الملك، و هم: الوليد، و سليمان، و يزيد، و هشام، و كلّهم ولّوا الخلافة و لم يلها أربعة اخوة الاّ هم.
الثالث ما يلقى الامّة منه و من ولده من القتل، و انتهاك الحرمة، و كنّى عنه:
بالموت الأحمر، و هو: كناية عن الشدائد. و روى: يوما احمر، و كنّى به: عن زمان مدّتهم، و احوال الامّة مع بنى اميّة مشهورة.
ص: 181
لقد علمتم أنّى أحقّ النّاس بها من غيرى، و واللّه لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن فيها جور إلاّ علىّ خاصّة التماسا لأجر ذلك و فضله، و زهدا فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه.
أقول: الضمير في «بها» للخلافة. و لاسلّمن اى: ذلك. و ما للمدة. و خاصة:
حال، و التماسا: مفعول له، و العامل: لاسلّمن. و الزخرف: الذهب و الزينة. الزّبرج بكسر الزاء و الراء: النقش بالحيلة.
أ و لم ينه أميّة علمها بى عن قرفى ؟ أو ما وزع الجهّال سابقتى عن تهمتى! و لما وعظهم اللّه به أبلغ من لسانى! أنا حجيج المارقين، و خصيم المرتابين و على كتاب اللّه تعرض الأمثال، و بما في الصّدور تجازى العباد.
أقول: القرف: التهمة. و وزع: كفّ . و سابقته: سبقة في الدين و الشرف و ما وعظهم اللّه به كقوله تعالى: «إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ »(1) و قوله: «وَ لاٰ يَغْتَبْ »(2) الآية في النهى عن الغيبة. و الحجيج: المحاجّ . و الخصيم: المخاصم. و المارقون: الخارجون عن الدين بالكبائر. و المرتابون: المنافقون لشكّهم في الدين. و قوله: على كتاب اللّه، الى آخره:
اشارة الى الحجّة التي يحاجّ بها اى: نسبتم قتل عثمان الىّ بوجه، فاعرضوا ذلك على
ص: 182
كتاب اللّه فعليه يعرض الامثال و الاشباه فان دلّ شيء منه على كونى قاتلا فلكم ان تحكموا بذلك.
رحم اللّه امرأ سمع حكما فوعى، و دعى إلى رشاد فدنا، و أخذ بحجزة هاد فنجا:
راقب ربّه، و خاف ذنبه، قدّم خالصا، و عمل صالحا، اكتسب مذخورا، و اجتنب محذورا، رمى غرضا، و أحرز عوضا كابر هواه، و كذّب مناه، جعل الصّبر مطيّة نجاته، و التّقوى عدّة وفاته ركب الطّريقة الغرّاء، و لزم المحجّة البيضاء، اغتنم المهل، و بادر الأجل، و تزوّد من العمل.
اقول الحكم: الحكمة، و الرشاد: الهدى. و الحجزة: معقد الازار، و استعار لفظه:
لهدى الهادى و لزوم قصده و الاقتداء به، و فيه تنبيه على الحاجة الى الشيخ في سلوك سبيل اللّه، و المراقبة و المحافظة و في عرف السالكين مراعاة القلب للرقيب و هو اللّه سبحانه اذ يقول: «إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»(1) و استغراق القلب بمراعاة جلاله، و يلزمها الخوف منه، و يعطل الجوارح عن الالتفات الى المباحات فضلا عن المحظورات، و خالصا اى: عملا خالصا، و المذخور: اجر العمل الصالح، و المحذور: الاثم، و رميه للغرض: حذفه لمقاصد الدنيا عن نفسه. و يروى عرضا بالعين المهملة و هو: متاع الدنيا و احراز العوض منه: متاع الآخرة بالعمل الصالح، و ما يلزمه من ملكات الخير، و مكابرة هواه: مقاومته لشهوته و غضبه، و قمعها و تكذيب مناه: مقابلة ما يلقاه الشيطان اليه من امانى الدنيا بالتكذيب و تجويز عدم نيلها و ذكر غايتها.
و استعار لفظ المطيّة: للصبر باعتبار انّ لزومه سبب للنجاة كظهر المطيّة، و العدّة:
لما استعدّ به الانسان للامر، و الغرّاء: الواضحة و اراد الشريعة، و هى المحجّة البيضاء، و المهل: ايّام مهلة العمل في الدنيا و مبادرة الاجل: مسابقته بالعمل لئلاّ ينقطع دونه.
ص: 183
إنّ بنى أميّة ليفوّقوننى تراث محمّد صلّى اللّه عليه و آله تفويقا، و اللّه لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة. و يروى «التراب الوذمة». و هو على القلب.
قال الشريف: و قوله عليه السّلام «ليفوقوننى» أى. يعطونني من المال قليلا قليلا كفواق الناقة، و هو الحلبة الواحدة من لبنها، و الوذام: جمع و ذمة و هى: الحزّة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض.
اقول: استعار وصف(1)التفويق: لعطيّتهم المال قليلا قليلا: (و وجه المشابهة القلّة ما يعطونه دفعات كما يعطى الفصيل ضرع امّه لتدرّ ثم يدفع عنها لتحلب ثم يعاد اليها لتدرّ)(2)، و تراث محمد: اشارة الى الفىء الحاصل ببركته. و كذلك استعار وصف النفض المذكور لابعادهم عن ذلك الامر.
اللّهمّ اغفر لى ما أنت أعلم به منّى، فإن عدت فعد علىّ بالمغفرة، اللّهمّ اغفر لى ما وأيت من نفسى، و لم تجد له وفاء عندى، اللّهمّ اغفر لى ما تقرّبت به إليك بلسانى ثمّ خالفه قلبى. اللّهمّ اغفر لى رمزات الألحاظ، و سقطات الألفاظ، و شهوات الجنان، و هفوات اللّسان.
اقول: حاصل الفصل سؤال المغفرة و مغفرة اللّه يعود الى ستره على عبده: ان يقع فى عذابه او يكشف مقابحه لاهل الدنيا و ما اللّه أعلم به منه، هو ما جاز ان يكون سيّئة من
ص: 184
افعاله، و لا يعلم ذلك فيفعلها. و وايت: وعدت، و مخالفة القلب لما يتقرّب به في الظاهر من الاعمال هو: الرياء و النفاق، و رمزات الالحاظ جمع رمزة و هى: الاشارة بالعين و الحاجب الخارجة عن الدّين، كما يفعل عند التنبيه على شخص ليظلم او يعاب. و سقطات الالفاظ: الرّدى منها. و شهوات القلوب: هفواتها عن غير تثبّت. و روى بالشين المعجمة و هى جواذب الشيطان للقلب الى ما ينبغي. و هفوات اللسان: زلاّته و غلطاته.
و قد سأل مغفرة الذنوب المتعلّقة بكل واحد من الجوارح.
، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم. فقال عليه السّلام:
أ تزعم أنّك تهدى إلى السّاعة الّتى من سار فيها صرف عنه السُّوء؟ و تخوّف من السّاعة الّتى من سار فيها حاق به الضّرّ؟ فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن، و استغنى عن الإعانة باللّه في نيل المحبوب و دفع المكروه، و تبتغى في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربّه، لأنّك - بزعمك - أنت هديته إلى السّاعة الّتى نال فيها النّفع و أمن الضّرّ!! ثم أقبل عليه السّلام على الناس فقال:
أيّها النّاس، إيّاكم و تعلّم النّجوم، إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، و المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالسّاحر و السّاحر كالكافر! و الكافر فى النّار، سيروا على اسم اللّه.
اقول: روى انّ المشير عليه بذلك كان عفيف بن قيس أخا الاشعث بن قيس(1)، و
ص: 185
كان يتعاطى علم النجوم، و اعلم انّه يعقل من نهى الشريعة عن تعلّم النجوم امران:
احدهما، انّ اكثر المشتغلين بها و الطالبين لمعرفة احكامها يعتمدون فيما يرجون و يخافون عليها و يفزعون الى ملاحظة اوقاتها، فينقطعون بذلك عن الالتفات الى اللّه تعالى و الفزع اليه، و ذلك عمّا يضاد مطلوب الشارع اذ كان غرضه الاوّل ليس الاّ دوام التفات الخلق اليه.
الثاني، انّ الاخبار منها عمّا سيكون في المستقبل يشبه علم الغيب، و اكثر الخلق من العوام لا يميّزون بينهما فيكون ذلك سببا لضلال الخلق، و ضعف اعتقادهم فى المعجزات، اذ الاخبار من الانبياء عليهم السّلام عما يكون منها و يستلزم تشكيكهم في قوله تعالى: «قُلْ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللّٰهُ »(1) و كان هو السبب في تحريم الكهانة و السحر ايضا، و العقل ايضا يطابق الشرع في تكذيب المنجّم في كثير من احكامه، فانّه قد ثبت في القواعد العقلية انّ كل كائن فاسد في هذا العالم فلا بدّ له من اسباب أربعة: فاعلىّ : و غائىّ ، و قابلىّ ، و صورىّ . ثم القابلىّ مشروط في قبول كلّ حادث بشرائط فلكية و عنصريّة مما لا يتناهى و يمنع اطّلاع العقول البشريّة عليها، و احاطتها بها و لانّ حساب المنجّم مبنىّ على قسمة الزمان بالشهر و اليوم و الساعة و الدّرجة و اجزائها و تقسيم الحركة بإزائها و رفعة بينهما نسبة عدديّة. و كلّ ذلك امور غير حقيقيّة و انّما يوجد على سبيل التقريب، اقصى ما في الباب انّ التفاوت بينهما لا يظهر في المدد المتقاربة لكنّه يشبه ان يظهر في المدد المتباعدة و مع تجويز التفاوت كيف يمكن الحكم كليّا او جزئيا؟ اذا عرفت ذلك فنقول:
انّه عليه السّلام الزمه فيما يدعيّه الزامات شنيعة نفّر بها عن قبول قوله:
احدها قوله فمن صدّقك الى قوله: القرآن و هو: صغرى ضمير تقدير كبراه، و كلّ من كذّب القرآن: كان كاذبا بيان تكذيبه انّ المنجّم اذا ادعىّ انّه سيقع كذا في وقت كذا كان ذلك مكذوبا لقوله: «وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً»(2) الآية.
الثاني، استغناء مصدّقه عن الاستعانة باللّه، فيما يهمّه من مخوف او مرجوّ و ذلك
ص: 186
لانّه يفزع اليه في ذلك دون اللّه تعالى.
الثالث انّه يصير الاولى بمصدّقه ان يوليه الحمد دون اللّه تعالى، لانّه بزعمه هداه الى نفعه و ضرّه، و استثنى مما نهى عنه من تعلّمها ما يهتدى به في برّ او بحر لانّ ذلك مما منّ اللّه تعالى به على عباده في قوله: «وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهٰا فِي ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ»(1) الآية. و قوله: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ »(2).
و قوله: فانّها، الى آخره: تعليل للتحذير عن تعلّمها و نفر عنها بقياس مفصول مستنتج منه انّ المنجّم في النار. و امّا معنى الكاهن و الساحر: فاعلم انّ من النفوس نفوسا تقوى على الاطّلاع على ما سيكون و على التصرّفات العجيبة في هذا العالم فتلك النفس ان كانت كاملة خيّرة مجذوبة من اللّه تعالى، بدواعى السلوك اليه فهى نفوس الانبياء و الاولياء ذوات المعجزات و الكرامات. و ان كانت ناقصة شرّيرة منجذبة عن تلك الجهة طالبة لتلك المرتبة بل مقصّرة على رذائل الاخلاق و خسائس الامور كالتكهّن و نحوه، فهى نفوس الكهنة و السحرة و اكثر ما تظهر هذه النفوس القويّة في اوقات الانبياء و قبيل ظهورهم فانّها تدعوا الى الكهانة اى: يقصد قصدها لانّ المنجّم يتشبه بالكاهن في اخباره مما سيكون، و يتميّز الكاهن عن المنجّم بانّ ما يقوله عن قوّة نفسانية منه بخلاف المنجّم، و ذلك ادعى الى فساد اذهان الخلق و اغوائهم لزيادة اعتقادهم فيه.
و امّا الساحر فيتميّز عن الكاهن بانّ له قوّة على التأثير في امر خارج عن بدنه آثارا خارجة عن الشريعة مؤذية للخلق و نافعة كالتفريق بين الزوجين و نحوه، و تلك زيادة شرّ آخر على الكاهن ادعى الى فساد اذهان الناس و زيادة اعتقادهم فيه، و انفعالهم عنه خوفا و رغبة. و الكافر يتميّز عن الساحر بالبعد الاكثر عن اللّه تعالى، و حينئذ صار الضلال و الفساد مشتركا بين الاربعة الاّ انّه مقول عليهم بالاشدّ، و الاضعف. فالكافر أقوى من الساحر، و الساحر اقوى من الكاهن، و الكاهن اقوى من المنجّم، فلذلك جعل عليه السّلام الكاهن اصلا في تشبيه المنجّم به، و الساحر اصلا في تشبيه الكاهن به، و الكافر اصلا في تشبيه الساحر به، و ظهر من ذلك انّ وجه التشبيه في الكلّ هو ضلالهم و
ص: 187
اضلالهم للخلق. و روى انّه عليه السّلام سار في تلك الساعة الى الخوارج و كان من ظفره بهم ما هو مشهور.
معاشر النّاس، إنّ النّساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول: فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصّلاة و الصّيام في أيّام حيضهنّ و أمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد، و أمّا نقصان حظوظهنّ فموار يثهنّ على الأنصاف من مواريث الرّجال، فاتّقوا شرار النّساء، و كونوا من خيارهنّ على حذر، و لا تطيعوهنّ فى المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر.
اقول: لما كانت تلك الحرب من الوقائع الكبار، و الفتن العظيمة في الاسلام المشتملة على هلاك جمع عظيم من المسلمين منسوبة الى رأى امراة. اراد ان ينبّه على وجه نقصان النساء و اسبابه، ليتجنّب متابعتّهن و لذلك حذّر بعده من شرارهنّ و أمر بالكون مع خيارهنّ على الحذر و التحرّز منهنّ في ايداع سرّ، و قبول مشورة و ان كانت بمعروف لما يستلزم ذلك من طمعهنّ و تعدّيهن فيما يطعن فيه الى حدّ الافراط و تجاوز قدرهنّ و هو منكر.
أيّها النّاس. الزّهادة قصر الأمل، و الشّكر عند النّعم، و الورع عند المحارم فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم، و لا تنسوا عند النّعم شكركم فقد أعذر اللّه إليكم بحجج مسفرة ظاهرة، و كتب بارزة العذر واضحة.
ص: 188
اقول: رسم الزهد بثلاثة لوازم، و هى: قصر الأمل في الدنيا، و شكر نعم اللّه. و الورع و هى: فى قوّة خاصّة مركّبة و في ذكرها تنبيه على الامر بلزومها و لزوم الزهد. و قوله: فان عزب الى آخره. يحتمل معنيين.
احدهما: انّه ان بعد عليكم و شقّ استجماع هذه الامور الثلاثة فالزموا منها الورع و فسّره: بالصبر لانّه من لوازمه، ثم الشكر و كانّه رخّص لهم في طول الأمل لما يتصوّر فيه مما ينبغي من عمارة الارض لغرض الآخرة و لانّ قصر الأمل اكثر ما يعرض من غلبة الخوف على القلب، و الالتفات عن الدنيا بالكليّة و ذلك غير مراد للشارع من كل الناس.
الثاني: يحتمل ان يكون لما فسرّ الزهد باللوازم الثلاثة في معرض الامر بها، قال بعدها: ان صعبت عليكم هذه فاعدلوا الى ما هو اسهل منها. و هو الصبر عن المحارم عوضا عن تمام الورع و هو لزوم الاعمال الجميلة و التذكر لنعمة اللّه عند وقوعها لغرض شكرها، بحيث لا ينسى بالكليّة عوضا من دوام الحمد و الثناء. و قوله: فقد اعذر، اى: اظهر عذره اليكم. و مسفرة: مشرقة.
ما أصف من دار أوّلها عناء، و آخرها فناء، فى حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، و من افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، و من قعد عنها و اتته، و من أبصر بها بصّرته، و من أبصر إليها أعمته.
(قال الشريف: اقول: و اذا تأمل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب و الغرض البعيد مالا تبلغ غايته و لا يدرك غوره، و لا سيما اذا قرن اليه قوله «و من أبصر اليها أعمته» فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر اليها» واضحا نيّرا و عجيبا باهرا.)
ص: 189
اقول: العناء: التعب و قد ذكر الدنيا في معرض ذمّها و التفسير عنها اوصافا عشرة:
اوّلها اشارة الى زمان الوجود فيها، و عناء الانسان فيها ظاهر. و الفتنة: الابتلاء و هو من لوازم الغنى فيها، و مساعاتها: استعارة كانّه مع حرص طالبها عليها و تعسّرها عليه كالهاربة منه سعيا و هو ساع في طلبها، و اقوى اسباب فواتها لطالبها انّ اكثر ما يكون تحصيلها بمنازعة اهلها، و مجاذبتهم ايّاها، و ذلك مما يوجب تفويت بعضهم لها على بعض. و لما كان هذا السبب مفقودا في حق من قعد عنها كان فواتها اقليّا له، و فواتها و امكانها اكثريّا كما في حق الزاهدين فيها، و اقبال الخلق و التقرّب بها اليهم. و قوله: و من أبصر بها بصرته، اى: من جعلها سبب هدايته، و محلّ ابصاره بعين عقله، استفاد منها البصر و الهداية. و قوله: من ابصر اليها اعمته، اى: من مدّ اليها بصر بصيرته محبة لها اعمته عن ادراك انوار اللّه، و هو كقوله تعالى: «لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ »(1) الآية و قد ظهر الفرق بين قوله: ابصر بها، و ابصر اليها.
و مدح السيد لهذا الفصل ظاهر الصدق و باللّه التوفيق.
اعلم أنّ في هذه الخطبة فصولا:
قوله:
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» علا بحوله، و دنا بطوله، مانح كلّ غنيمة و فضل، و كاشف كلّ عظيمة و أزل أحمده على عواطف كرمه، و سوابغ نعمه، و أومن به أوّلا باديا، و أستهديه قريبا هاديا، و أستعينه قادرا قاهرا، و أتوكّل عليه كافيا ناصرا، و أشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » الّذى رفع السّماء فبناها و سطح الأرض فطحاها «وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ »، و أشهد أنّ محمّدا - صلّى اللّه عليه و آله - عبده و رسوله، أرسله لإنفاذ أمره، و إنهاء عذره، و تقديم نذره.
ص: 190
أقول: لما تنزّه اللّه تعالى عن العلوّ المكانى، كما سبق فهو العلىّ باعتبار كونه ربّ كلّ شيء و موجده، و هو باعتبار يلحقه بالقياس الى كلّ موجود صدر عن قدرته و قوّته، فلذلك نسب علوّه الى حوله، اذ ليس دنوّه مكانيّا فهو باعتبار قربه المعقول من خلقه بحيث يشاهدونه في صور طوله، و هو: فضله و هيبته لكل مستحق ما يليق به. و المنحة: العطية.
و الأزل: الشدّة. و عواطف كرمه هى: آثاره الخيريّة التي تعود على عبيده مرة بعد اخرى، و اوّلا باديا: حالان، اما من ضمير الفاعل، و هو الاظهر و يكون باديا مهموزا، و المعنى:
انّى اوّل ما ابدأ بايمانى به، و امّا من الضمير المجرور و باديا ظاهرا و ظاهر كون اوّليته، و مبدأيته لخلقه و ظهوره لعقولهم في جميع آثاره مبدأ الايمان به، و التصديق بالهيّته، و كذلك كونه قريبا من عباده، هاديا لهم مبدأ الطلب: الهداية منه، و قهره، و قدرته:
مبدأ للاستعانة به، و كفايته اى: كونه معطيا لكل مستحق من خلقه ما يكفى استحقاقه، و استعداده. و نصره لعباده: سبب توكّلهم عليه، و عذره: ما يشبه الاعذار الى الخلق من النصائح الالهية لهم. و نذره: تخويفه بالوعيد و ظاهر كون انفاذ اوامر اللّه مع الاعذار و الانذار اغراضا للبعثة.
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ضرب الامثال، و وقّت لكم الآجال، و ألبسكم الرّياش، و أرفع لكم المعاش، و أحاطكم بالاحصاء و أرصد لكم الجزاء، و آثركم بالنّعم السّوابغ، و الرّفد الرّوافغ، و أنذركم بالحجج البوالغ، و أحصاكم عددا و وظّف لكم مددا فى قرار خبرة، و دار عبرة أنتم مختبرون فيها، و محاسبون عليها. فانّ الدّنيا رنق مشربها، ردع مشرعها: يونق منظرها، و يوبق مخبرها غرور حائل و ضوء آفل، و ظلّ زائل، و سناد مائل حتّى اذا أنس نافرها، و اطمأنّ ناكرها: قمصت بأرجلها، و قنصت بأحبلها، و أقصدت بأسهمها، و أعلقت المرء أوهاق المنيّة قائدة له الى ضنك المضجع، و وحشة المرجع و معاينة المحلّ ، و ثواب العمل، و كذلك الخلف يعقب السّلف: لا تقلع المنيّة اختراما و لا يرعوى الباقون اجتراما يحتذون مثالا، و يمضون أرسالا، الى غاية الانتهاء، و صيّور الفناء.
ص: 191
و الرّياش: اللباس الفاخر، و قيل الغنى بالمال. و أرفع: أوسع. و أرصد: اعدّ.
و الرفد جمع رفده و هى: العطية. و الروافغ بالغين المعجمة: الواسعة الطيّبة. و قرار الخبرة: محل اختبار اللّه و ابتلائه لخلقه و هى: الدنيا. و رنق مشربها: كدر لذّاتها بشوائب آفاتها، و استعار لفظ الرّدغ بالعين المعجمة لمشرعها: باعتبار أنّ موارد تناولها و الشروع فيها مزالق اقدام العقول عن سواء الصراط الى طرفى التفريط و الافراط. و الرّدغة: الوحل و الطين اللزق. و يونق: يعجب. و يوبق: يهلك، و هو اشارة الى اعجابها لذوى الغفلة بزينتها الحاضرة مع هلاكهم باختيارها لغرض الالتذاذ بها. و غرور بالفتح: غارة لأهلها.
و الحائلة: الزائلة، و روى غرور بالضمّ و هو مجاز. و استعار لفظ الضوء: لما يظهر منها من الحسن في عيون الغافلين، يقال: على فلان ضوء اذا كان له منظر حسن، و كذلك لفظ الافول: لزوالها. و لفظ الظّل: لما فيه اهلها من نعيمها. و لفظ السناد: لما يعتمد عليه الغافلون من وجودها الّذى لا ثبات له. و لفظ الميل: لكونها في معرض الزوال و مظنّته. و نافرها و ناكرها: من كان نافرا عنها بعقله، و منكرا لها، و كذلك استعار وصف القمص بالأرجل: لامتناعها على الانسان عند تنكّرها عليه. و القنص بالأحبل ليمكن محبّتها في اعناق النفوس. و لفظ الاسهم للامراض و اسباب الموت. و وصف الاقصار بها: لاصابتها تنزيلا للدنيا منزلة الرامى، و وصف الاغلاق بالحبال: للوقوع في اسقامها و مهلكاتها. و الاوهاق جمع وهق و هو: الحبل.
حتى اذا تصرّمت الأمور و تقضّت الدّهور، و أزف النّشور أخرجهم من ضرائح القبور، و أوكار الطّيور، و أوجرة السّباع و مطارح المهالك، سراعا الى أمره، مهطعين الى معاده رعيلا صموتا، قياما صفوفا، ينفذهم البصر و يسمعهم الدّاعى، عليهم لبوس الاستكانة، و ضرع الاستسلام و الذّلّة قد ضلّت الحيل، و انقطع الأمل، و هوت الأفئدة كاظمة، و خشعت الأصوات مهينمة، و ألجم العرق، و عظم الشّفق، و أرعدت الأسماع لزبرة الدّاعى إلى فصل الخطاب و مقايضة الجزاء، و نكال العقاب، و نوال الثّواب.
و قوله: حتى اذا تصرّمت، الى قوله: و نوال الثواب، فاعلم انّه قد تطابقت السن
ص: 192
الانبياء عليهم السلام على القول بالمعاد الجسمانى، و نطق به الكتاب العزيز و صرّح به نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله، تصريحا لا يحتمل التأويل. و امّا الحكماء فالمشهور من مذهبهم منعه لامتناع اعادة المعدوم، و ربّما قلدّت الفلاسفة الاسلام ظاهر الشريعة فى اثباته.
قال ابن سينا: فى «كتاب الشفاء» (يجب ان تعلم انّ المعاد منه ما هو المقبول من الشرع و لا سبيل الى اثباته الاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة، و هو الّذى للبدن عند البعث، و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج الى ان تعلم. و قد بسطت الشريعة الحقّة التي اتانا بها سيّدنا و مولانا محمد صلى اللّه عليه و آله حال السعادة و الشقاوة اللتين يحسب البدن، و منه ما هو مدرك بالعقل، و القياس البرهانىّ ، و قد صدّقته النبوّة و هو السعادة و الشقاوة البالغتان الثابتتان بالمقاييس اللتان للانفس و ان كانت الاوهام منّا تقصر عن تصوّرها الآن لما توضح من العلل. و الحكماء الالهيّون رغبتهم فى اصابة هذه السعادة اعظم من رغبتهم فى اصابة السعادة البدنيّة بل كانّهم لا يلتفتون الى تلك و ان أعطوها و لا يستعظمونها فى جنبة هذه السعادة التي هى مقاربة الحقّ الاوّل).
و اعلم انّ الّذى ذكره عليه السّلام هنا صريح فى اثبات المعاد الجسمانى و لواحقه، بقوله: اخرجهم، الى قوله: المهالك: اشارة الى جمعه لاجزاء البدن بعد تشذبّها و تفرّقها، و تأليفها كما كانت. و ازّف: دنا. و الضرائح جمع ضريح: القبور. و الاوجرة جمع وجار و هو: بيت السبع. و مهطعين: مقبلين. و رعيلا: مجتمعين. و اللبوس: ما يلبس. و الضرع: الخضوع. و كاظمة: ساكنة. و الهينمة: صوت خفىّ . و الجم: العرق بلغ موضع اللجام، و هو كناية: عن بلوغه الافواه. و الشفق: الخوف. و الزبرة: الانتهار.
و المقايضة: المعاوضة. و النكال: تنويع العقوبة. و احتضار: طلب حضورهم بالموت.
و الاجداث: القبور. و الرفات: القنات من العظم و نحوه. و مدينون، مجزيون. و جزاء:
مصدر نصب بما فى معنى فعله. و كذلك حسابا عن قوله: مميّزون، و امهالهم فى طلب المخرج: تأخيرهم مدّتهم في الدنيا ليخرجوا من ظلمات الجهل و ورطات المعاصى الى نور الحق، و متّسع الرحمة و هدايتهم سبيل المنهج، الهامهم باصل فطرتهم و ما دلّت عليه الاعلام الواضحة من الكتب الالهية و السنن الشرعيّة على طريق اللّه سبحانه.
ص: 193
و لما كان من يطلب استعتابه، و رجوعه عن غيّه، بامهال و مداراة كانت: مهلة اللّه سبحانه لخلقه مدّة اعمارهم ليرجعوا الى طاعته، تشبه ذلك فنزلت منزلته، و نصب مهل على المصدر عن قوله: عمروا، لانّ التعمير امهال. و استعار لفظ السدف: لما يغشاهم من ظلمة الشكوك و الجهالات، و كشفها بما وهبه تعالى لهم من العقول، و ايّدهم به من بعثة الرسل. و قوله: قد خلّو المضمار الجياد، اى: تركوا فى الدنيا ليضمرّوا انفسهم بازواد التقوى. و استعار لفظ المضمار و رشّح بذكر الجياد و كذلك تخليتهم لرويّة الارتياد، اى: ليتفكّروا فى طلب ما يتخلّصون به الى اللّه. و ليتانّوا اناة المقتبس لانوار اللّه: للاستنارة بها فى مدّة آجالهم، و محلّ اضطرابهم فى مهلتهم، و تحصيلهم لما ينبغي من الكمالات.
و من ملك من عبيده هذه الحالات، و افاض عليهم ضروب هذه الانعامات فكيف يليق بأحدهم ان يجاهره بالعصيان، او يتجاسر أن يقابله بالكفران، و صواب الامثلة: مطابقتها للمثل به او كونها من شأنها ان تفعل فى القلوب الذكية الواعية لها، و شفاء الموعظة:
تأثيراتها فى القلوب ازالة امراض الغفلة و الجهل، و انابة المتّعظ بها الى ربّه، و زكاة القلوب: استعدادها لقبول الهداية و قربها من ذلك. و وعى الاسماع: فهم القلوب عنها، و وصفها بالوعى لقبولها الالفاظ مؤدّية لها الى قوّة الحسّ . و عزم الآراء: توجيه الهمم الى ما ينبغي و الثّبات على ذلك. و حزامة الألباب: جودة رأى العقول فيما يختاره، و ظاهر انّ هذه الثلاثة هى اسباب نفع الموعظة.
و قوله: فاتّقوا اللّه، الى قوله: مقامه: امر بتقوى اللّه تقيّة من استجمع هذه الاوصاف الثمانية عشر. و اقترف: اكتسب الاثم، و اعترف اى: بذنبه و هو انابة(1) اربابها. و وجل اى: من خوف اللّه فعمل له. و ايقن اى: بلقاء ربّه، فاحسن اى: عمله، اذ كان اليقين له مستلزما لحسن طاعته. و عبّر اى: رمي بالعبر فاعتبر، و اجاب اى: دعى اللّه، فأناب اليه بسرّه و امتثال امره، و راجع اى: عقله فتاب من اتّباع شياطينه، و اقتدى اى: بهدى اللّه فحذا حذوه، و أرى الحق فظهرت لعين بصيرته طريق اللّه. فرأى اى: فعرفها فأسرع فيها طالبا لما يودّى اليه، فنجا هاربا: من ظلمات جهله و ثمراته. فأفاد، اى: فاستفاد بسلوكه، ذخيرة لمعاده، و اطاب بسلوكها سريرته: عن نجاسات الدنيا و عمّر: بما اكتسبه
ص: 194
من الكمالات المسعدة معاده. و قوله: جهة ما خلقكم له، اى: اتّقوه باعتبار ما خلقكم له من عرفانه، و اجعلوا تقواكم فيه: نظرا الى تلك الجهة لا للرياء و السمعة، وجهة: منصوب على الظرف، و يحتمل ان يكون مفعولا به لفعل مقدّر اى: اقصدوا بتقواكم جهة ما خلقكم له، و كنه ما حذرّكم اى: اقصدوا فى حذركم منه حقيقة تحذيره لكم من نفسه، و ذلك يستلزم الفحص عن حال المحذور منه. و تنجّزهم لصدق ميعاده بالاستعداد لذلك بانواع طاعته، و باللّه التوفيق.
اقول: قوله: جعل لكم، الى قوله: بأوقاتها: تذكر بنعمة اللّه تعالى فى خلق الابدان، و ما يشتمل عليه اعضاؤها من الحكمة و المنافع، و عناها: اهمّها، و استعار لفظ العشاء:
لعدم ادراك الابصار ادراكا يحصل منه عبرة اذ كانت فائدة خلقها ذلك و فائدة عن انّ الجلاء يستدعى مجلوا هو: العشاء، و مجلّوا عنه هو قوّة البصر، فاقام عليه السّلام المجلو مقام المجلو عنه، فكأنه قال: لتجلو عن نورها عشاها. و الاشلاء جمع شلو و هو: الجسد.
و الحنو: الجانب اى: متناهية الجوانب و الاقطار، و الارفاق: المنافع. و حواجز عافيته: ما يحجز منها عن الاسقام. و الخلاق: النصيب، اى: ما استمتعوا به من دنياهم، و الخناق بالكسر: حبل يخنق به، و استعار لفظه: للأجل، و مستفسحه: مدّة الحياة. و الارهاق:
الاعجال. و التشذّب: التفرّق. و مهّد الامر بالتخفيف و التشديد: هيّأه. و آنف الأوان: اوّل الوقت. و البضاضة: امتلاء البدن و قوّته. و الهرم: الكبر. و غضارة: العيش طيبه. و آونة:
جمع أوان كأزمنة و زمان، و لما كانت هذه غايات للمرء من شبابه ينتهى اليها، اشبه المنتظر لها: اذا قصّر عما ينبغي له. و أزف: دنى. و العلز بالتحريك: كالرعدة تأخذ المريض. و الجرض: ان يبلع ريقه على هم و حزن. و الحفدة: الأعوان. و غودر: ترك.
و المعالم: الآثار. و الشجب: الهالك الناحل. و النخرة: البالية. و الأعباء: الاثقال.
و ايقانها بغيب ابنائها: تحقيقها ما كانت تجهله فى الدنيا من أحوال الآخرة و اخبارها الغائبة عنها، او ما غاب عنها فى الآخرة من اخبار الدنيا، و عدم استزادتهم من صالح عملها عدم صلاحيّتها لذلك، و كذلك عدم استعتابها كقوله تعالى: «وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمٰا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ »(1). و القدّة بكسر القاف و الدّال المهملة: الطريقة.
ص: 195
و اعلم انّ القول بالصراط يجب الايمان به، و هو فى الدنيا يرجع الى الوسط بين الاخلاق المتضادّة كالحكمة بين الجهل و الجربزة، و كالسخاء بين التبذير و البخل، و الشجاعة بين التهوّر و الجبن، و العدالة بين الظلم و الانظلام، و بالجملة الوسط الحق بين طرفى افراط و تفريط من اطراف الفضائل و هو: الطريق الى اللّه المطلوب سلوكه.
و سئل الصادق عليه السّلام عن معنى قوله تعالى: «اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ »(1) فقال:
ارشدنا للزوم الطريق المؤدّى الى محبتك، و المبلغ دينك، و المانع من ان نتبع اهواءنا فنعطب او نأخذ بآرائنا فنهلك(2).
اذا عرفت ذلك، فنقول: مزالق الصراط في الدنيا هى مظانّ الخطأ من العقل و الشهوة و الغضب، و العبور عن فضائلها الى احد طرفى الافراط و التفريط منها، و اهاويل زلله و هو ما يلزم ذلك العبور من عذاب اللّه، ثم عاد الى الأمر بتقوى اللّه تقية من استجمع اوصاف الايمان، و اراد بالفكر هنا: الفكر فى امر المعاد، فانّه مشغل عن محبّة الدنيا و جاذب الى اللّه، و كذلك خوف المعاد. و انصبه: اتعبه. و الغرار: النوم القليل. و اظمأ الرجاء هو اجر يومه كناية: عن كثرة صومه فى اشدّ اوقات الحر رجاء لما اعدّ اللّه لاوليائه، و جعل الهواجر: مفعولا به اقامة للظرف مقام المظروف و هو احد وجوه المجاز. و ظلف بالتخفيف: منع. و اوجف: أسرع. و الوجيف ضرب من السير فيه سرعة. و المخالج: الامور القاطعة للانسان عن طاعة ربّه، و تنكّبها عدل عنها الى الحق. و اقصد المسالك: اولاها بالقصد و هى طريق اللّه. و الفتل الصرف اى: تصرفه المغفلات الدنيويّة الصارفة عن ربّه، و لم تعم عليه اى: لم يجهل الشبهة من الحق. و البشرى: بشرى الملائكة يوم القيامة «بُشْرٰاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ»(3). و راحة النعمى: الراحة من متاعب الدنيا بنعمى الآخرة. و اطلق لفظ النوم فى قوله انعم: نومه على راحته فى الجنة اطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. و معبر العاجلة: طريق الدنيا. و اكمش فى مهل اسرع الى طاعة ربّه ايام مهله. و رغب فى طلب اى: كانت رغبته فيما عنده مقرونه بطلبه له. و ذهب اى:
ص: 196
عن المعاصى عن هرب من خوف اللّه. و كنى باليوم و بالغد: عن الدنيا و الآخرة. و نظر قدما، اى: لم يلتفت عن اللّه و لم يعرج على سواه، و نسبة الاحتجاج و الخصام الى الكبائر مجاز، و نفوذ ابليس فى الصدور و نفثه فى الآذان كناية: عن وسوسته، و القائها فى القلوب بصورة الالفاظ و غيرها. و الموبقات: المهلكات، و قرينته هى: النفس الناطقة. و استدراجها: اخذها بالاستغفار و الوسوسة، و هى ايضا هيئته باعتبار احاطة المعاصى بها من قبله كما يستغلق الذهن بما عليه من المال، و انكاره ما زيّن كقوله تعالى: «نَكَصَ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ».
منها فى صفة خلق الانسان:
عباد مخلوقون اقتدارا، و مربوبون اقتسارا، و مقبوضون احتضارا، و مضمنون أجداثا، و كائنون رفاتا، و مبعوثون أفرادا، و مدينون جزاء، و مميّزون حسابا، قد أمهلوا فى طلب المخرج، و هدوا سبيل المنهج، و عمّروا مهل المستعتب، و كشف عنهم سدف الرّيب، و خلّوا لمضمار الجياد و رويّة الارتياد، و أناة المقتبس المرتاد فى مدّة الأجل، و مضطرب المهل. فيا لها أمثالا صائبة، و مواعظ شافية لو صادفت قلوبا زاكية، و أسماعا واعية، و آراء عازمة، و ألبابا حازمة، فاتّقوا تقيّة من سمع فخشع، و اقترف فاعترف، و وجل فعمل، و حاذر فبادر، و أيقن فأحسن، و عبّر فاعتبر، و حذّر فازدجر، و أجاب فأناب، و رجع فتاب، و اقتدى فاحتذى، و أرى فرأى، فأسرع طالبا، و نجا هاربا، فأفاد ذخيرة، و أطاب سريرة، و عمّر معادا، و استظهر زادا ليوم رحيله، و وجه سبيله، و حال حاجته، و موطن فاقته، و قدّم أمامه لدار مقامه. فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له، و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه، و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده، و الحذر من هول معاده. جعل لكم أسماعا لتعى ما عناها و أبصارا لتجلو عن عشاها، و أشلاء جامعة لأعضائها ملائمة لأحنائها: فى تركيب صورها، و مدد عمرها، بأبدان قائمة بأرفاقها، و قلوب رائدة لأرزاقها، فى مجلّلات نغمه، و موجبات مننه و حواجز عافيته، و قدّر لكم أعمارا سترها عنكم، و خلّف لكم عبرا، من آثار الماضين قبلكم، من مستمتع خلاقهم،
ص: 197
و مستفسح خناقهم أرهقتهم المنايا دون الآمال، و شذّبهم عنها تخرّم الآجال، لم يمهدوا فى سلامة الأبدان و لم يعتبروا فى أنف الأوان، فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب الاّ حواني الهرم ؟ و أهل غضارة الصّحّة الاّ نوازل السّقم ؟ و أهل مدّة البقاء الاّ آونة الفناء مع قرب الزّيال، و أزوف الانتقال، و علز القلق، و ألم المضض، و غصص الجرض، و تلفّت الاستغاثة بنصرة الحفدة و الأقرباء و الأعزّة و القرناء، فهل دفعت الأقارب، أو نفعت النّواحب، و قد غودر فى محلّة الأموات رهينا، و فى ضيق المضجع وحيدا، قد هتكت الهوامّ جلدته و أبلت النّواهك جدّته، و عفت العواصف آثاره، و محا الحدثان معالمه و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها، و العظام نخرة بعد قوّتها، و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها، لا تستزاد من صالح عملها، و لا تستعتب من سيّئ زللها أو لستم أبناء القوم و الآباء و اخوانهم و الأقرباء تحتذون أمثلتهم، و تركبون قدّتهم، و تطئون جادّتهم ؟! فالقلوب قاسية عن حظّها لاهية عن رشدها سالكة فى غير مضمارها! كأنّ المعنىّ سواها و كأنّ الرّشد فى احراز دنياها. و اعلموا أنّ مجازكم على الصّراط، و مزالق دحضه، و أهاويل زلله و تارات أهواله، فاتّقوا اللّه تقيّة ذى لبّ شغل التّفكر قلبه، و أنصب الخوف بدنه و أسهر التّهجّد غرار نومه، و أظمأ الرّجاء هواجر يومه، و ظلف الزّهد شهواته، و أرجف الذّكر بلسانه، و قدّم الخوف لابّانه، و تنكّب المخالج عن وضح السّبيل، و سلك أقصد المسالك الى النّهج المطلوب، و لم تفتله فاتلات الغرور و لم تعم عليه مشتبهات الأمور، ظافرا بفرحة البشرى، و راحة النّعمى فى أنعم نومه، و آمن يومه، قد عبر معبر العاجلة حميدا و قدّم زاد الآجلة سعيدا، و بادر من وجل، و أكمش فى مهل، و رغب فى طلب، و ذهب عن هرب، و راقب فى يومه غده، و نظر قدما أمامه فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا، و كفى بالنّار عقابا و وبالا و كفى باللّه منتقما و نصيرا و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما أوصيكم بتقوى اللّه الّذى أعذر بما أنذر و احتجّ بما نهج و حذّركم عدوّا نفذ فى الصّدور خفيّا، و نفث فى الآذان نجيّا فأضلّ و أردى، و وعد فمنّى، و زيّن سيّئات الجرائم، و هوّن موبقات العظائم حتّى اذا استدرج قرينته، و استغلق رهينته، أنكر ما زيّن، و استعظم ما هوّن، و حذّر ما أمّن.
ص: 198
و منها فى صفة خلق الانسان:
أم هذا الّذى أنشأه فى ظلمات الأرحام، و شغف الأستار، نطفة دهاقا و علقة محاقا، و جنينا و راضعا، و وليدا و يافعا، ثمّ منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا ليفهم معتبرا، و يقصّر مزدجرا، حتّى اذا قام اعتداله، و استوى مثاله، نفر مستكبرا، و خبط سادرا، ماتحا فى غرب هواه، كادحا سعيا لدنياه، فى لذّات طربه، و بدوات أربه، لا يحتسب رزيّة و لا يخشع تقيّة، فمات فى فتنته غريرا، و عاش فى هفوته يسيرا، لم يفد عوضا، و لم يقض مفترضا، دهمته، فجعات المنيّة فى غبّر جماحه، و سنن مراحه، فظلّ سادرا، و بات ساهرا، فى غمرات الآلام، و طوارق الأوجاع و الأسقام بين أخ شقيق، و والد شفيق، و داعية بالويل جزعا، و لا دمة للصّدر قلقا و المرء فى سكرة ملهية، و غمرة كارثة، و أنّة موجعة، و جذبة مكربة، و سوقة متعبة. ثم أدرج فى أكفانه مبلسا، و جذب منقادا سلسا، ثمّ ألقى على الأعواد رجيع وصب، و نضو سقم، تحمله حفدة الولدان، و حشدة الإخوان، إلى دار غربته، و منقطع زورته، حتّى اذا انصرف المشيّع، و رجع المتفجّع، أقعد فى حفرته نجيّا لبهتة السّئوال، و عثرة الامتحان، و أعظم ما هنالك بليّة نزول الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السّعير، و سورات الزّفير، لا فترة مريحة. و لادعة مزيحة، و لا قوّة حاجزة، و لا موتة ناجزة، و لا سنة مسلية، بين أطوار الموتات، و عذاب السّاعات!! انّا باللّه عائذون. عباد اللّه، أين الّذين عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا، و أنظروا فلهوا، و سلموا فنسوا؟ أمهلوا طويلا، و منحوا جميلا، و حذّروا أليما، و وعدوا جسيما!! احذروا الذّنوب المورّطة، و العيوب المسخطة. أولى الأبصار و الأسماع، و العافية و المتاع! هل من مناص، أو خلاص، أو معاذ، أو ملاذ، أو فرار، أو محار؟ أم لا؟ فأنّى توفكون! أم أين تصرفون ؟ أم بماذا تغترّون ؟ و إنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطّول و العرض قيد قدّه، متعفّرا على خدّه. الآن عباد اللّه و الخناق مهمل، و الرّوح مرسل، فى فينة الإرشاد، و راحة الأجساد، و باحة الاحتشاد، و مهل البقيّة، و أنف المشيّة، و إنظار التّوبة، و انفساح الحوبة، قبل الضّنك و المضيق، و الرّوع و الزّهوق، و قبل قدوم الغائب المنتظر، و أخذة العزيز المفتدر.
ص: 199
و فى الخبر انّه عليه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود، و بكت لها العيون، و رجفت القلوب، و من الناس من يسمّى هذه الخطبة «الغرّاء».
اقول: مدار الفصل على وصف حال الانسان من مبدأ عمره بالنقصان، و بيان نعمة اللّه عليه بتزويده في اطوار الخلقة، و تبكيته بمقابلتها بالكفران، و الغفلة في متابعة الشيطان، و تذكيره بغايته، و هى: الموت و توابعه من احوال الموت، و ما يكون بعد ذلك من عذاب القبر و غيره تنفيرا له عن الدنيا بتلك الامور لغاية اصلاح معاده، و ذكر مبدئه لعلّه يتذكر أو يخشى. و «ام» هنا: استفهام في معرض تعديد نعم اللّه كانّه قال:
(ا فلا ينظرون الى كذا من خلق اللّه ؟ ام الى هذا الانسان الذى من حاله كذا؟ و الشغف بالغين المعجمة جمع شغاف بالفتح و هو: غلاف القلب. و الدفاق: المفرغة. و المحاق:
الناقصة. و العلقة: لكونها بعد لم يقض عليها الصورة الانسانية، و الولد حين الرضاع يسمى:
رضيعا، و بعده: وليدا، و بعده: يافعا، و هو: المرتفع فاذا طرّ شاربه فهو: غلام، و اذا ادرك فهو: رجل، و للرجولية ثلاثة حدود: الشباب، و هو: تمام النمو. و بعده: الكهولة، ثم:
الشيخوخة.
و السادر: اللاهى. و الماتح: الجاذب للدلو المستسقى(1). و استعار لفظ الغرب: لما تملأ به من هواه صحائف اعماله في المآثم. و الكدح: السعى. و البدوات جمع بدوة و هو:
ما يبدو له من الخواطر. و دهمه بالكسر: غشيه. و غبر الشيء: بقيته. و جماحه: سعيه في هواه على غير قانون شرعىّ و لا ائتمار للعقل. و السادر: الثاني المتحيّر. و اللدم:
ضرب الصدر، و روى سكره ملهثة بالثاء. و كارثة: مستلزمة لشدّة الغم. و الجذبة:
المكربة، جذبة الملائكة للروح منه كقوله تعالى: «وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ اَلْمَوْتِ » الى قوله: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ »(2). و الايلاس: اليأس و استعار وصف الترجيع و هو:
الجمل المردّد في الاسفار البالى فيها للمريض، باعتبار تردّده في اطوار المرض المبلى له. و لفظ النضو و هو: الجمل الناحل من السير له نحو له من الاسقام.
و اعلم انّ قوله: أقعد في حفرته، الى آخره صريح في القول: بعذاب القبر و سؤال منكر و نكير، و الايمان بما جاء من ذلك على وجهين: احدهما و هو الاظهر الاسلم ان
ص: 200
نصدّق بذلك و نحمله على ظاهره و انّ هناك ملكين يقال لهما: منكر، و نكير، يتولّيان سؤال الانسان على الصورة المحكيّة، و حيّات و عقارب تلدغ الميّت، و ان كان لا يشاهدها، اذ لا يصلح هذه العين لمشاهدة الامور الملكوتية، و كل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت كما كانت الصحابة يؤمنون بنزول جبريل، و كان النبي صلى اللّه عليه و آله يشاهده، و هم لا يشاهدونه و كما انّ جبريل لا يشبه الناس فكذلك منكر، و نكير، و فعلهما و الحيّات، و العقارب في القبر، ليس من حيّات عالمنا فتدرك بمعنى آخر.
الوجه الثاني، انّ يتذكّر ما قد يراه النائم في صورة شخص هائل يقتله، و حية تلدغه، و قد يتألّم بذلك حتى يراه في نومه فيصيح و يعرق جبينه و ينزعج من مكانه، كل ذلك يدركه من نفسه و يشاهده، و يتأذّى به كما يتأذىّ اليقظان، و انت ترى ظاهره ساكنا، و لا ترى حوله شخصا، و لاحية، و الحية موجودة في حقه متخيّلة له، و لا فرق بين ان يتخيّل عدوّا، اوحية او يشاهده، و المناص: الملجأ. و المجاز: المرجع. و افك: صرف، و قيد قدّه مقدار قامته، و المنعفر: المترب، و العفر، التراب. و الفينة: الحين، و انف الشيء: اوّله.
الحوبة: الحاجة و المسكنة. و الضنك: الضيق. و كنى بالآن: عن مدّ الحياة. و بالخناق:
عما يؤخذ به اعناق النفوس و هو الموت، و كذلك بالغائب: المنتظر، و باقى الفصل ظاهر.
عجبنا لابن النّابغة، يزعم لأهل الشّام أنّ فيّ دعابة، و أنّى امرؤ تلعابة: أعافس و أمارس، لقد قال باطلا، و نطق آثما. أما، و شّر القول الكذب إنّه ليقول فيكذب، و يعد فيخلف، و يسأل فيلحف، و يسأل فيبخل، و يخون العهد، و يقطع الإلّ ، فإذا كان عند الحرب فأىّ زاجر و آمر هو؟؟!! ما لم تأخذ السّيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته، أما و اللّه إنّى ليمنعنى من اللّعب ذكر الموت، و إنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة، إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّة و يرضخ
ص: 201
له على ترك الدّين رضيخة.
أقول: النبوغ: الظهور، و قيل: انّما سميت امّ عمرو بن العاص «النابغة» لشهرتها بالفجور و الدعابة و المزاح. و التلعابة: كثير اللعب. و المعافسة: المداعبه، و الممارسة:
المعالجة بالمصارعة و نحوها.
و اعلم أنه عليه السّلام انّما ينكر مدّعى عمرو، من المزاح البالغ الى حدّ الافراط الصادق عليه انّه لعبت دون القدر المعتدل منه، فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كان يمزح و لا يقول الاّ حقا. و هو من توابع التواضع و حسن الخلق. قوله: لقد قال، الى قوله:
سبته: يشتمل على ذكر رذائله المستلزمة لفسقه المانع من قبول قوله. و ذكر منها خمسا، و هى الكذب، و خلف الوعد، و الغدر، و الخيانة في العهد، و قطع الألّ ، و هو: الأصل، و الرحم، ثم الجبن، و نبّه عليها بقوله: فاذا كان عند الحرب، الى قوله: سبّته، و هو: اشارة الى ما صدر عنه في بعض ايّام صفّين حين حمل عليه السّلام عليه، فلما تصوّر انّه قاتله ألقى نفسه عن فرسه، و كشف سوأته مواجها بها فلما رأى ذلك منه غضّ بصره عنه، و انصرف عمرو مكشوف العورة و نجا بذلك، فصار مثلا لمن يدفع عن نفسه مكروها بارتكاب الذلّة و الفضيحة، و فيه يقول ابو فراس رحمه اللّه:
و لا خير في دفع الأذى بمذلّة *** كما ردّها يوما بسؤته عمرو (1)
و الآتية: العطيّة. و الرّضيخة: الرشوة، و هى مصر، و قد كان معاوية اعطاه مصر طعمة على ان يظاهره فى حرب علىّ عليه السّلام و قد سبق مثله.
و أشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » وحده لا شريك له: الأوّل لا شيء قبله، و الآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تقعد القلوب منه على كيفيّة، و لا تناله التّجزئة و التّبعيض، و لا تحيط به الأبصار و القلوب.
ص: 202
أقول: كونه تعالى اوّلا اى: غير مسبوق بالغير، و آخرا غير منته في وجوده الى غاية يقف عندها، و تنزيهه عن ادراك الاوهام و وصفها له لتنزّهه تعالى عن الجسمية و لواحقها، و عدم صدق الوهم في غيرها، و كونه لا تعقل له كيفيّة اذ لا كيفيّة له فتعقل، و نفى التجزية و التبعيض عنه، لعدم لحوق الكمية له، و لا تحيط به الابصار لتنزّهه عن مدركاتها من عوارض الجسمية و لا القلوب لعدم تركّبه، و ما لا تركيب فيه لا حدّ له فلا يدرك كنه حقيقته، و قد سبق تقريره.
منها:
فاتّعظوا عباد اللّه بالعبر النّوافع، و اعتبروا بالآى السّواطع، و ازدجروا بالنّذر البوالغ، و انتفعوا بالذّكر و المواعظ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة، و انقطعت منكم علائق الأمنيّة، و دهمتكم مفظعات الأمور، و السّياقة إلى الورد المورود، و «كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ»: سائق يسوقها إلى محشرها، و شاهد يشهد عليها بعملها.
اقول: الآى: جمع آية. و الساطع: المرتفع. و مفظعات الامور: شدائدها. و دهمه بالكسر: هجم عليه.
و اعلم انّ للاتّعاظ سببا و حقيقة و ثمرة، فالسبب كالنّظر في آثار الماضين و قصصهم، و هو الاعتبار، و امّا حقيقته فالخوف و الانفعال الحاصل عن ذلك النظر، لتوّهم مثل احوالهم في حقّه. و امّا ثمرته فالانزجار عن مناهى اللّه، و استعار وصف المخاطب:
لاسباب المنيّة من الامراض و الاعراض و باللّه التوفيق.
و منها في صفة الجنة:
درجات متفاضلات، و منازل متفاوتات، لا ينقطع نعيمها، و لا يظعن مقيمها، و لا يهرم خالدها، و لا يبأس ساكنها.
اقول: هذا الوصف صادق في الجنّة المحسوسة الموعودة في القرآن الكريم،
ص: 203
و في الجنّة المعقولة و اتفقّت العقلاء على انّ الذّثمارها هى المعارف الألهيّة و النظر الى وجه اللّه ذى الجلال و الاكرام، و السعداء في الوصول الى نيل هذه الثمرة على مراتب متفاوتة، و درجات متفاضله كما نبّهنا عليه في الاصل(1) و باللّه التوفيق و العصمة.
قد علم السّرائر، و خبر الضّمائر، له الإحاطة بكلّ شيء، و الغلبة لكلّ شيء، و القوّة على كلّ شيء. فليعمل العامل منكم في أيّام مهله. قبل إرهاق أجله، و في فراغه قبل أو ان شغله، و فى متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه، و ليمهّد لنفسه و قدومه. و ليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته، فاللّه اللّه، أيّها النّاس فيما استحفظكم من كتابه. و استودعكم من حقوقه، فإنّ اللّه، سبحانه لم يخلقكم عبثا، و لم يترككم سدى و لم يدعكم في جهالة و لا عمى: قد سمّى آثاركم، و علّم أعمالكم، و كتب آجالكم، و أنزل عليكم «اَلْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ »، و عمّر فيكم نبيّه أزمانا حتّى أكمل له و لكم - فيما أنزل من كتابه - دينه الّذى رضى لنفسه و أنهى إليكم، على لسانه، محابّه من الأعمال و مكارهه، و نواهيه و أوامره، فألقى إليكم المعذرة، و اتّخذ عليكم الحجّة، و قدّم إليكم بالوعيد، و أنذركم «بَيْنَ يَدَيْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ». فاستدركوا بقيّة أيّامكم، و اصبروا لها أنفسكم، فإنّها قليل في كثير الأيّام الّتى تكون منكم فيها الغفلة و التّشاغل عن الموعظة، و لا ترخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظّلمة، و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المصيبة. عباد اللّه، إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه، و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه، و المغبون من غبن نفسه و المغبوط من سلم له دينه، و السّعيد من وعظ بغيره، و الشّقىّ من انخدع لهواه. و اعلموا أنّ يسير الرّباء شرك، و مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان و محضرة للشّيطان. جانبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان، الصّادق على شرف منجاة و كرامة، و الكاذب على شفا مهواة و مهانة، و لا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب، و لا تباغضوا فإنّها الحالقة
ص: 204
و اعلموا أنّ الأمل يسهى العقل، و ينسى الذّكر فأكذبوا الأمل فإنّه غرور، و صاحبه مغرور.
اقول: احاطته بكلّ شيء: علمه بكليّات الاشياء، و جريانها، و علمه و قوّته على كل شيء: استيلاء سلطان قدرته على كل مقدور، و ارهاق الاجل: سرعة لحوقه، و شغله اى:
بأهوال الآخرة. و الكظم: مجرى النفس و الاخذ به كناية: عن الموت، و نبّه على وجوب الحذر من مخالفة اللّه بضمير صغراه قوله: فانّه لم يخلقكم عبثا، اى: خاليا عن وجه الحكمة بل ليستكملوا في الدنيا، و اشار الى وجوه حكمته في خلقهم و الطافه في حقّهم، من انزال الكتاب و بعث الرسول صلى اللّه عليه و آله، و اكمال دينه الّذى ارتضى لهم، و تقدير الكبرى و كلّ من كان كذلك فواجب ان يحفظ حقوقه، و يحذر من تضييع ما استودعه. و الرخصة هنا: المساهلة في تنويع المأكل و المشرب و غيره، من المباحات فانّ ذلك مظنّة الخروج فيها عن حدّ الاباحة الى مالا ينبغي في الدين، و مذاهب الظلمة:
مسالكها و طرقها الجائرة.
روى انّ ابليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السّلام، فرأى عليه معاليق كل شيء فقال له: يا ابليس ما هذه المعاليق ؟ قال: هذه هى الشهوات التي اصيب بهنّ قلوب بنى آدم، فقال: هل بى فيها شيء؟ قال: نعم ربما شبعت فشغلناك عن الصلاة و عن الذكر، قال: هل غير ذلك ؟ قال: لا قال للّه علىّ ان لا أملأ بطنى من طعام ابدا، فقال ابليس: للّه علىّ ان لا أنصح مسلما ابدا. و لا تداهنوا انفسكم اى: لا تصانعوها بالتأويلات الضعيفة و الشبهات(1) الباطلة فانّ ذلك سبب للهجوم على المعصية و العبور اليها عن حدّ الفصيلة من المباح. و بيان قوله: انّ انصح الناس لنفسه، اطوعهم لربّه. لمّا كان غرض النصح انّما هو: جلب الخير و المنفعة للمنصوح و كان اتمّ خير و منفعة هو السعادة الباقية الابديّة و كانت تلك السعادة انّما تنال بالطاعة فكلّ من كانت طاعته له اتمّ كانت سعادته اتم، كان هو انصح الناس لنفسه بمبالغته في طاعته، و ظهر من ذلك معنى قوله: و ان أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه. و المغبون: من غبن نفسه بالمعصية و بحصوله على السهم الاخيب فى الآخرة و تفويت نفسه نصيبها الأوفى من الجنّة. و قوله: المغبوط، اى: من يستحق ان
ص: 205
يغبط، و معنى الغبطة: ان يتمنّى الانسان مثل ما لغيره من حال او مال، مع قطع النظر عن تمنّى زوال تلك الحال عمّن هى له، و بهذا القيد يتميّز عن الحسد. و السعيد: من وعظ بغيره، اى: السعيد التّام، و ذلك انّ العظة قد تحصل للانسان من نفسه، بعبرة تقع له كمرض او أمر ينزل به، و قد تحصل بمشاهدة الغير و هذه اتمّ من تلك و افضل، لاستلزامها ثواب الآخرة مع السلامة من عبرة تلحق المعتبر في نفسه، و لذلك خصّ صاحبها بالسعيد مبالغة. و اهل الهوى: المنقادون لدواعى الشهوة و الغضب الخارجة عن حدود اللّه، و نفّر عن مجالستهم: باستلزامها الأمرين، و هو ظاهر و نفرّ عن الكذب بضمير صغراه قوله: فانّه، مجانب للايمان، و هو: خبر نبوىّ ، و مجانبته له لكونه من الكبائر المضادّة للازم الايمان و هو: الصدق، و مضادّة اللازم مضادّة للملزوم، و مجانب له. و نفّر عن الحسد بضمير صغراه قوله: فانّه، الى قوله: الحطب، و وجه الشبه: انّ الحاسد قد يغرق فكره في الاهتمام بأمر المحسود حتّى لا يتفرّغ لطاعة و عبادة بل قد يذهل عما حصل عليه من الكمال، و بدوامه ينقطع به عن تحصيل الحسنات فيكون مفوّتا لها كفعل النار فى الحطب.
و لفظ الأكل: مستعار لذلك التفويت: و نفّر عن التباغض بضمير صغراه قوله: فانّها الحالقة. و الضمير في قوله: فانّها، يعود الى المصدر، و هى المباغضة، و استعار لفظ الحالقة للجائحة التي تقع بسبب التباغض عن الفرقة و اختلاف الكلمة المستلزم لطمع العدوّ في المتباغضين، و استيصالهم و افناء بعضهم لبعض كالآلة الحالقة، و نسبة السهو و النسيان و الغفلة الى فعل الأمل لما يستلزمه من الغفلة من الآخرة، و تكذيبه بردّ العقل لاحكام الوهم بنيل المطلوب، و بذكر الموت و قواطع الاقدار عن بلوغه، و باللّه التوفيق.
و فيها فصول:
و هو قوله:
عباد اللّه، إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه فاستشعر الحزن، و
ص: 206
تجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، و أعدّ القرى ليومه النّازل به، فقرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشّديد: نظر فأبصر، و ذكر فاستكثر، و ارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلا، و سلك سبيلا جددا، قد خلع سرابيل الشّهوات، و تخلّى من الهموم إلاّ همّا واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى، و مشاركة أهل الهوى، و صار من مفاتيح أبواب الهدى، و مغاليق أبواب الرّدى، قد أبصر طريقه، و سلك سبيله، و عرف مناره، و قطع غماره، استمسك من العرى بأوثقها، و من الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشّمس: قد نصب نفسه للّه - سبحانه - فى أرفع الأمور من إصدار كلّ وارد عليه، و تصيير كلّ فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشّاف عشاوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، و يسكت فيسلم: قد أخلص اللّه فاستخلصه فهو من معادن دينه، و أوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل، فكان أوّل عدله نفى الهوى عن نفسه، يصف الحقّ و يعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها، و لا مظنّة إلاّ قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده و إمامه، يحلّ حيث حلّ ثقله، و ينزل حيث كان منزله.
أقول: اعانته على نفسه، افادته تعالى لعقله قوّة قهر نفسه الامّارة بالسوء، و اتّخاذه الحزن شعارا اى: على معصية اللّه. و الخوف جلبابا اى: من عقابه، و وصف الاستشعار و التجلّب مستعاران. و زهر(1) مصباح الهدى في قلبه شروق نور المعارف الالهية في سرّه، و هو: ثمرة الاستعداد، و الخوف و الحزن، و استعار لفظ المصباح: لنور المعرفة لاشتراكهما فى افادة الهدى. و لفظ القرى: للاعمال الصالحة التي تعدّ ثمراتها ليوم موته، و ما بعده ملاحظة لشبهها بما يعدّ من الضيافة للقادم، و تقرّبه على نفسه البعيد تقصيره لأمله الطويل فى الدنيا، بذكر الموت او تقرّبه لما بعد من احوال الآخرة بدوام اخطارها بباله، حتى كانّها حاضرة له. و تهوينه الشديد: تسهيل شدائد الدنيا على خاطره، و استحقاره في جنب ما يتصوّره من الفرجة بلقاء اللّه، و وعده و وعيده، او تسهيله لشدائد الآخرة و تهوينها بالأعمال الصالحة. و نظر اى: فكّر في ملكوت السموات و الارض، فأبصر اى: الحق سبحانه في عجائب خلقه، يعنى: بصيرته. و ذكر ربّه و معاده، فاستكثر من الاعمال
ص: 207
الصالحة و الذكر، حتى صار ملكة، و استعار لفظ العذب: بوصف الفرات للعلوم و الكمالات النفسانية، و وصف الارتواء: لتمام الاستكمال بها، و مواردها: مظانّها من العبر و الامور التي تحصّل نفوس المتّقين منها العلوم، و تسهيلها لهم: سرعة اخذهم عنها الكمالات لكمال استعدادهم لذلك. و النهل: الشرب فى اوّل الورد و استعار لفظه: لسبق احدهم الى اخذ الكمالات عن مظانّها. و السبيل الجدد: سبيل اللّه الواضح. و خلعه سرابيل الشهوات، اشارة الى: طرف الزهد، و لفظ السرابيل مستعار: لما يلبس به من الشهوات و الهمّ الذى انفرد به هو الوصول الى ساحل العزّة. و استعار لفظ العمى: للجهل. و ابواب الهدى هى الفضائل و الطاعات. و ابواب الرّدى هى: الرذائل و المعاصى. و مناره، اعلام طريق اللّه، و هى البراهين و الادلّة التي تهدى بها. و غمارة: ما كان مغمورا فيه من احوال الدنيا. و اوثق العرى: الإيمان باللّه و هو امتن الحبال، و لفظهما مستعاران: باعتبار وثاقة التمسّك بهما.
و قوله: فهو من اليقين، اى: باللّه و ما جاءت به رسله، من احوال الغيب على اتمّ يقين. و قوله: قد نصب نفسه، الى قوله اصله، اى: لما كمل فى ذاته كان اهلا لهداية الخلق، و افادتهم لقوانين طريق اللّه، و التّفريغ عنها. و الظّلمات: ظلمات الجهل.
و العشوات: ما التبس على البصائر من المسائل الدقيقة، و كذلك المبهمات، و المعضلات، و الفلوات استعارة. و قوله: يقول، الى قوله: يسلم، اى: يستعمل كلاّ من القول: و السكوت فى موضعه، و يصيب به مقصوده، و استعار له لفظ المصباح: باعتبار هدايته للخلق، و لفظ المفتاح: لفتحه ما انغلق من مشكلات المسائل. و لفظ الدليل:
لهدايته فى مفاوز الجهلات على طريق اللّه. و لفظ المعدن: لكونه مظنّة دين اللّه عنه يؤخذ.
و لفظ الوتد: لكون ارض اللّه به تحفظ. و لفظ الزمام: لعقله باعتبار تسليمه الى حكم اللّه و اوامره فكانّها تقوده بعقله فى طريق اللّه.
و آخر قد تسمّى عالما و ليس به فاقتبس جهائل من جهّال و أضاليل من ضلاّل و نصب للنّاس شركاء من حبائل غرور، و قول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، و عطف
ص: 208
الحقّ على أهوائه، يومّن من العظائم، و يهوّن كبير الجرائم يقول «أقف عند الشّبهات» و فيها وقع، «و أعتزل البدع» و بينها اضطجع: فالصّورة صورة إنسان، و القلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه و لا باب العمى فيصدّ عنه، فذلك ميّت الأحياء. «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ »؟ و أنّى تؤفكون ؟ و الأعلام قائمة! و الآيات واضحة! و المنار منصوبة! فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون ؟ و بينكم عترة نبيّكم، و هم أزمّة الحقّ ، و أعلام الدّين، و ألسنة الصّدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن و ردوهم ورود الهيم العطاش. أيّها النّاس، خذوها عن خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت، و يبلى من بلى منّا و ليس ببال» فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون، و اعذروا من لا حجّة لكم عليه، و أنا هو، أ لم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر؟ و أترك فيكم الثّقل الأصغر، و ركزت فيكم راية الإيمان، و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام و ألبستكم العافية من عدلى، و فرشتكم المعروف من قولى و فعلى، و أريتكم كرائم الأخلاق من نفسى فلا تستعملوا الرّأى فيما لا يدرك قعره البصر، و لا - تتغلغل إليه الفكر.
اقول: الجهائل: جمع جهالة، و اراد الجهل المركّب، و هو: الاعتقاد غير المطابق للحق من شبهة، و استعار لفظ الاشراك و الحبال: لما تغرّ علماء السوء به الناس من الأقوال الباطلة و حملة الكتاب على آرائه بتفسيره، بحسب رأيه، و كذلك عطفه على اهوائه، تأويله بحسب هواه، و تأمينه الناس من العظائم، كاستعمال علماء السوء و جهّال الوعّاظ آيات الوعد فى كل موضع استجلابا لقلوب العوام، و استعار له لفظ ميّت الاحياء: باعتبار عدم الانتفاع به لجهله المركب الّذى هو موت النفس المضادّ لحياتها الحقيقية باستكمال العلوم و الفضائل الخلقية، فالجاهل بالحقيقة ميّت و ان كان فى صورة حىّ .
و قوله: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ » الى آخره: تنبيه على كونهم فى ضلال و عمى عن الحق، و تخويف و تبكيت و تذكير بكتاب اللّه و عترة رسوله، ليلزموا هدايتهم. و تؤفكون:
تصرفون، و انّى هنا: بمعنى متى، اى: متى تصرفون عن ضلالكم و الاستفهام: للتقريع، و استعار لفظ الاعلام: لائمة الدين و كذلك المنار، و نصبها قيام الائمة بينهم. و عترة
ص: 209
الرجل: أقاربه من ولده و ولد ولده. و ادانى: بنى عمّه، و عترة الرسول صلى اللّه عليه و آله:
اهل بيته. و استعار لهم لفظ الازمة: بأعّتبار كونهم قادة للخلق الى طريق الحق كالزمام، و كونهم ألسنة الصدق اى: تراجمة الوحى الصادق، او انّهم لا يقولون الاّ صدقا لعصمتهم.
و قوله: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن.
فاعلم انّ للقرآن منازل احدها القلب، و له فيه منزلتان: منزلة الاكرام و التعظيم، و منزلة التصوّر فقط، ثم منزلة فى الوجود اللسانى، ثم فى الكتب و الدفاتر، و احسن منازله هى الأولى. فالمراد: الوصيّة باكرامهم و تعظيمهم و محبّتهم كما يكرم القرآن بذلك.
و قوله: ورودهم: ورود الهيم العطاش ارشاد لهم الى الاسراع فى اقتباس العلوم، و كرائم الاخلاق منهم كما يسرع الهيم و هى الابل العطشى الى الشرب. و الضمير فى قوله: خذوها: للرواية الحاضرة و هو تقرير لقوله تعالى: «وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ »(1) الآية، و يبلى اى: بجسمه، و ليس ببال اى: بنفسه، و ذكره.
قوله: و لا تقولوا بما لا تعلمون، اى: ممّا طوى عنكم غيبه و علمناه، و ذلك: انّهم كانوا يخوضون فى امر المعاد، و يقول كلّ منهم بحسب ما يتصوّر من القرآن، و الحديث، و الائمة عليهم السّلام، أعلم بذلك، و نبّه على وجوب الانتهاء عن التّسرع الى القول بغير علم بضمير صغراه، قوله: فانّ اكثر الحق فيما تنكرون، و تقدير كبراه: و كلّ ما كان اكثر الحق فيه لم يجز التّسرّع الى انكاره، لجواز أن يكون هو الحق، و الثقل الاكبر: كتاب اللّه لكونه الاصل المتّبع. و الثقل الاصغر: العترة الطاهرة(2).
و استعار لفظ راية الايمان: لسنّته المتّبعة فى العمل بكتاب اللّه. و ركزها: وضعها بينهم ليقتدوا بها. و قعر الشيء: اقصاه. و البصر: بصر العقل. و التغلغل: الدخول فى الاعماق، و هو نهى عن استعمال مجرّد الرأى فى دقائق المسائل الالهية، و امر المعاد فانّ ذلك مهلكة.
منها:
ص: 210
حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة على بنى أمية تمنحهم درّها و توردهم صفوها، و لا يرفع عن هذه الأمّة سوطها، و لا سيفها، و كذب الظّان لذلك، بل هى مجّة من لذيذ العيش يتطعّمونها برهة، ثمّ يلفظونها جملة.
الفصل غاية من غايات دولة بنى امية، و هو اخبار عمّا سيكون. و معقولة: محبوسة، و استعار لفظ الدّر و الصفو: للذّاتها و قيناتها، و لفظ المحبّة: لما يحصلون عليه من الدولة و الملك، باعتبار قلّته بالنسبة الى زمان عدمه، و وصف التطعّم: لالتذاذهم بالإمرة.
و وصف اللفظ: لزوالها عنهم.
أمّا بعد، فإنّ اللّه لم يقصم جبّارى دهر قطّ إلاّ بعد تميّل و رخاء، و لم يجبر عظم أحد من الأمم إلاّ بعد أزل و بلاء، و فى دون ما استقبلتم من عتب، و ما استدبرتم من خطب، معتبر! و ما كلّ ذى قلب بلبيب، و لا كلّ ذى سمع بسميع، و لا كلّ ناظر ببصير، فيا عجبى - و مالى لا أعجب - من خطاء هذه الفرق على اختلاف حججها فى دينها! لا - يقتصّون أثر نبىّ ، و لا يقتدون بعمل وصىّ ، و لا يؤمنون بغيب، و لا يعفّون عن عيب. يعملون فى الشّبهات و يسيرون فى الشّهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم فى المعضلات إلى أنفسهم، و تعويلهم فى المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرىء منهم إمام نفسه: قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات.
اقول: مقصود الفصل توبيخ الامّة على اختلافهم فى الدين، و تشتيت آرائهم فى الأحكام و المذاهب.
و القصم: الكسر، و جبر العظم: كناية عن التقويّة بعد الضعف. و الأزل: الشدّة.
و العتب: الذى استقبلوه عتابه عليه السّلام و ما ينبغي منه. و الخطب: الذى استدبروه، الأهوال التي لحقتهم من المشركين. و فى دون ذلك معتبر لمن كان له قلب، فانّهم لو اختلفوا حينئذ كاختلافهم الآن لما كان لهم مع قلّتهم وقع عند المشركين. و كانّه قال:
ص: 211
فيجب الآن ان تعتبروا بذلك و تلازموا الاتّحاد فى الدين. و اللبيب: من ينتفع بلبّه، و هو:
عقله، و فائدة قوله: فما كلّ ذى لبّ الى قوله: ببصير: تحريك النفوس الى الاعتبار كيلا يعدّ التارك غير لبيب و لا سميع و لا بصير. ثم ذكر من مذامّهم أربعة تروك لما ينبغي ان يفعلوه، و أربعة افعال مما ينبغي ان يتركوه، و قدّم على الكلّ ذكر السبب و هو اختلاف حججهم فى دينهم، لانّ ذلك هو الأصل الذى نشأت عنه هذه الرذائل، و العيب: الذى تركوا الايمان به هو ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله من السمعيّات الصرفة كأحوال المعاد البدنّى، و احوال القيامة، و الجنّة و النار. و قوله: المعروف، الى قوله: ما انكروا، أى: انّ المعروف و المنكر محصوران فيما عرفوه و انكروه، و ان كان ما تصوّروه جهلا و ما انكروه هو الحق. و المضلاّت: ما اشكل امره و أصعب فهمه، من الاحكام الدينية، و الاسباب المحكمة، النصوص الجلية.
أرسله على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الأمم، و اعتزام من الفتن، و انتشار من الأمور، و تلظّ من الحروب، و الدّنيا كاسفة النّور ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، و إياس من ثمرها، و اغورار من مائها، قد درست منار الهدى، و ظهرت أعلام الرّدى، فهى متجهّمة لأهلها عابسة فى وجه طالبها، ثمرها الفتنة، و طعامها الجيفة، و شعارها الخوف، و دثارها السّيف. فاعتبروا عباد اللّه، و اذكروا تيك التّى آباؤكم و إخوانكم بها مرتهنون، و عليها محاسبون. و لعمرى ما تقادمت بكم و لا بهم العهود، و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب و القرون، و ما أنتم اليوم من يوم كنتم فى اصلابهم ببعيد. و اللّه ما أسمعكم الرّسول شيئا إلاّ وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس و لا شقّت لهم الأبصار، و لا جعلت لهم الأفئدة فى ذلك الأوان إلاّ و قد أعطيتم مثلها فى هذا الزّمان. و اللّه ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه، و لا أصفيتم به و حرموه، و لقد نزلت بكم البليّة جائلا خطامها رخوا بطانها، فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فانّما هو ظلّ ممدود، إلى أجل معدود.
ص: 212
اقول: خلاصة الفصل التذكير بنعمة اللّه التي نفت ما كانوا فيه، من بؤس، و هى نعمة بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ما استلزمته من الخيرات لتعتبروا فتشكروا.
و الفترة ما بين زمانى الرسولين، و استعار لفظ الهجعة: لما كان عليه الناس قبل البعثة من الغفلة المشبهة للنوم. و الاعتزام: العزم، و نسبتها الى الفتن مجاز. و روى اعترام بالراء المهملة و هى: كثرتها. و روى(1) اعترض الفرس فى الطريق اذا مشى عرضا من غير قصد.
و تلظّت الحرب: تلهّبت. و التجهّم: العبوس. و الاحقاب جمع حقب: الدهور. و استعار لفظ النور: للانبياء و الشرائع و الاولياء القائمين بها. و لفظ الورق و الثمر و الماء: لمتاع الدنيا و زينتها. و لفظ الاصفرار: لتغيّرها عن العرب فى ذلك الوقت و عدم طلاوة عيشهم، و خشونة مطاعمهم اذن، و اليأس من ثمرها: انقطاع آمالهم(2) من الملك و الدّولة. و لفظ الأعلام: لأئمّة الهدى و قوانين الشرع، و لفظ اعلام الردى: لأئمّة الضلال الداعين الى النار، و وصف التجّهم و العبوس من الدنيا: لعدم وضوح مطالبها و تيسّرها لطلابها من العرب اذ الخطاب معهم. و لفظ الثمر: للفتنة باعتبار انّها غاية للعرب يومئذ من حركاتهم و حروبهم. و لفظ الجيفة: لما لم يذكر اسم اللّه عليه من الذبائح، او ما كانوا يأكلونه من النهب و الغارة تنفيرا عنه لحرمته.
و لفظ الشعار: للخوف من النهب و الغارات، باعتبار ملازمته لهم. و لفظ الدثار:
للسيف لعلوّه لهم غالبا. و قوله: و اذكروا تيك: تذكير لهم بوجه العبرة من قبائح الاعمال و الخطايا التي كانت عليها اسلافهم من الجاهلية، فى معرض التخويف بما يلزمها من العقاب فى الآخرة. و ارتهانهم بها: حبسهم فى سلاسل للهيئات البدنيّة. و قوله: و لعمرى، الى قوله: ببعيد: الحاق لهم بهم فى معرض الوعيد ان يصيبهم ما اصابهم، و ابداء لعذره فى إسماعهم، كأسماع الرسول صلى اللّه عليه و آله، أسلافهم، و استعار لفتنة بنى اميّة: وصف جولان الخطام، و رخاوة البطان: ملاحظة لشبهها بالناقة الصعبة، و وجه الشبه كونهما مظنّة الهلاك. و البطان: للقتب كالحزام للفرس. و لفظ الظلّ : لدولتهم باعتبار سرعة زوالها. و نفرّ عما أصبح فيه اهل الغفلة و الغرور. و أراد بنى اميّة فى دولتهم
ص: 213
و غرورهم فيها عن اللّه بضمير صغراه قوله: فانّما هو آخر، و تقدير كبراه، و كل ما كان كذلك فينبغى ان يغترّ به، و يركن اليه.
الحمد للّه المعروف من غير رؤية، و الخالق من غير رويّة، الّذى لم يزل قائما دائما، إذ لا سماء ذات أبراج، و لا حجب ذات أرتاج، و لا ليل داج، و لا بحر ساج، و لا جبل دو فجاج، و لا فجّ ذو اعوجاج، و لا أرض ذات مهاد، و لا خلق ذو اعتماد: ذلك مبتدع الخلق و وارثه، و إله الخلق و رازقه، و الشّمس و القمر دائبان فى مرضاته: يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد، قسم أرزاقهم، و أحصى آثارهم و أعمالهم، و عدد أنفاسهم، و خائنة أعينهم، و ما تخفى صدورهم من الضّمير، و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام و الظّهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات، هو الّذى اشتدّت نقمته على أعدائه فى سعة رحمته و اتّسعت رحمته لأوليائه فى شدّة نقمته، قاهر من عازّه و مدمّر من شاقّه، و مذلّ من ناواه، و غالب من عاداه، و من توكّل عليه كفاه، و من سأله أعطاه، و من أقرضه قضاه، و من شكره جزاه. عباد اللّه، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق، و انقادوا قبل عنف السّياق، و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ.
اقول: انّه وصف اللّه سبحانه باعتبارات من صفات جلاله، و قد سبق بيان اكثر هذه الاعتبارات، و قيامه دوام وجوده لذاته. و قوله: اذ لا سماء، الى قوله: ذو اعتماد، اشارة الى: اعتبار ازليّته و قيامه بذاته، و سبقه لكل ممكن تقديرا لقول الرسول صلى اللّه عليه و آله: كان اللّه و لا شيء. و الحجب ذات الارتاج: السموات. و ابلاء الشمس و القمر لكل جديد كناية عن: تفانيهما(1) بعده، و يحتمل ان يريد كونهما اسبابا معدّة لزوال كل كائن فى هذا العالم، و فساده و تقريبهما للبعيد: جذبهما الى الموت و ما بعده من احوال
ص: 214
الآخرة و غاياتهم التي تتناهى بهم ما يختم به اعمالهم من سعادة و شقاوة.
و قوله: و هو الّذى اشتدّت، الى قوله: نعمته، اشارة الى: كماله و تنزيهه، فى اعتبار احواله عن ملوك الدنيا فانّ حال الرحمة و حال الغضب فيهم متضادّان لا يجتمعان.
و لما كان كماله تعالى يقتضى ان يفيض على كلّ نفس ما يستعدّ له، و جاز ان يستعدّ الشخص الواحد للنعمة التي هى اثر الرحمة، و للنقمة التي هى اثر الغضب فى حال واحد، لا جرم جاز اجتماع رحمته و نقمته فى محلّ واحد فى وقت واحد، باعتبارين كحال الكفّار مثلا فى الدنيا. و قوله: و عازّه: غالبه، و ناواه: عاداه. و زنة النفوس فى الدنيا: اعتبار اعمالها من الخير و الشرّ و مراعاة استقامتها على حاق الوسط من الفضائل فى سبيل اللّه، و محاسبة النفس: ضبط اعمالها الخيريّة و الشّرية ليزكّيها(1) بما ينبغي لها و يعاقبها على فعل ما لا ينبغي، و باب عظيم من ابواب المرابطة فى سبيل اللّه، و استعار لفظ وصف التنفّس: لتحصيل الراحة و البهجة للآخرة بالاعمال الصالحة فى الدنيا المستلزمة لها كما يستلزم النفس راجة القلب من الكرب. و لفظ الخناق من الحبل:
للموت. و انقادوا اى: لأوامر اللّه قبل عنف سياق الموت، و اعانة العبد على نفسه: اعداد العناية الالهية لقوّته العقلية على قهر النفس الامّارة بالسوء، و تهيأتها لقبول السوانح الخيريّة و من لم يحصّل ذلك الاستعداد ملكة حتّى يكون هو القاهر لنفسه لم يتمكن من قهرها بموعظة الغير و زجره، و ذلك تنبيه على وجوب الاستعانة باللّه فى احوال النفس و دفع الشيطان عنها، و باللّه التوفيق.
تعرف بخطبة الاشباح. و هى من جلائل الخطب. روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد عليه السّلام، انّه قال: خطب امير المؤمنين صلى اللّه عليه و آله بهذه الخطبة على منبر الكوفة، و ذلك انّ رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين: صف لنا ربّنا لنزداد له حبا، و به معرفة فغضب عليه السّلام، و نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس حتى
ص: 215
غص المجلس بأهله فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون، فحمد اللّه سبحانه و صلى على النبي محمد صلى اللّه عليه و آله ثم قال:
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» لا يفره المنع و الجمود، و لا يكديه الإعطاء و الجود، إذ كلّ معط منتقص سواه، و كلّ مانع مذموم ما خلاه، و هو المنّان بفوائد النّعم، و عوائد المزيد و القسم، عياله الخلق: ضمن أرزاقهم، و قدّر أقواتهم، و نهج سبيل الرّاغبين إليه، و الطّالبين ما لديه، و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل، الأوّل الّذى لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، و الآخر الّذى ليس له بعد فيكون شيء بعده، و الرّادع أناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، و لا كان فى مكان فيجوز عليه الانتقال، و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال، و ضحكت عنه أصداف البحار، من فلزّ اللّجين و العقيان، و نثارة الدّرّ و حصيد المرجان ما أثّر ذلك فى جوده، و لا أنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخائر الإنعام ما لا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين، و لا يبخله إلحاح الملحّين. فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به، و استضئ بنور هدايته، و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس فى الكتاب عليك فرضه و لا فى سنّة النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و أئمّة الهدى أثره، فكل علمه إلى اللّه سبحانه، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك. و اعلم أنّ الرّاسخين فى العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التّعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين: هو القادر الّذى إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، و حاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه فى عميقات غيوب ملكوته، و تولّهت القلوب إليه لتجرى فى كيفية صفاته، و غمضت مداخل العقول فى حيث لا تبلغه الصّفات لتناول علم ذاته ردعها و هى تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة إليه، سبحانه، فرجعت إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، و لا تخطر ببال أولى الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته الّذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، و لا مقدار احتذى عليه، من خالق معهود كان
ص: 216
قبله، و أرانا من ملكوت قدرته، و عجائب ما نطقت به آثار حكمته، و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قدرته، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، و ظهرت فى البدائع الّتى أحدثها آثار صنعته و أعلام حكمته، فصار كلّ ما خلق حجّة له و دليلا عليه، و إن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة، و دلالته على المبدع قائمة. و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، و لم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك، و كأنّه لم يسمع تبرّأ التّابعين من المتبوعين إذ يقولون: «تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ »(1) كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم و جزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، و أشهد أنّ من ساواك بشىء من خلقك فقد عدل بك، و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك، و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك، و إنّك أنت اللّه الّذى لم تتناه فى العقول فتكون فى مهبّ فكرها مكيّفا، و لا فى رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا.
أقول: قيل سمّيت الاشباح لاشتمالها على ذكر الأشباح، و هى: الاشخاص. و قيل:
لانّ الشبح هو الطول و الامتداد. و هذه الخطبة ذات اقسام طوال ممتدّة كذكر السماوات، و كيفية تخليقها، و كذكر الملائكة و اقسامهم، و كيفية خلقهم و احوالهم، و ذكر الارض و كيفية خلقها. و يفرّه، يزيده وفرا و هو: المال. و يكديه: ينقص خيره. و انّما لم يقبل الزيادة و النقصان لاستلزامهما الحاجة و الامكان المنزّه قدسه عنهما، و نزّهه فى الحكمين عن حال غيره من المعطّلين و المانعين، و فوائد النعم ما افاد منها، و عوائد المزيد، و القسم ما اعتاد منهما، و استعار لفظ العيال: للخلق باعتبار ضمان ارزاقهم، و القيام لأحوالهم، و لفظ الضمان لما وجب فى الحكمة من تقدير الأقوات و الارزاق التي لا بدّ منها كالضمان. و سبيل الراغبين اليه، شريعته و دينه، و نهجه لهم: ايضاحه بالادلّة. و قوله: ليس بما سئل باجود منه بما لم يسئل عنه، فيه لطيفة و هى: انّ فيضان ما يصدر عنه سبحانه له اعتباران:
ص: 217
أحدهما، بالنظر الى جوده، و هو من تلك الجهة غير مختلف فى جميع الموجودات، بل نسبتها اليه على سواء، فلا يقال هو بكذا اجود منه بكذا، و الاّ لاستلزم ان يكون ببعض الاشياء أبخل، او اليها احوج فيلزمه النقصان تعالى عن ذلك.
و الثاني، بالنظر الى الممكن نفسه، و الاختلاف بالقرب و البعد الى جوده، انّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان اتمّ استعدادا و اقبل كان أقرب الى جوده. فالسائل اذن و ان حصل له ما سأل منه تعالى دون ما لم يسأل فليس منعه ما لم يسأله لعزّته عنده و ليس بينه و بين ما سأل بالنسبة الى جوده فرق و تفاوت بل تخصيصه بما سئل لتمام قبوله له، و لو كان قابلا لما يسئل لوصل اليه من غير مسألة و ان عظم خطره، و الى هذا اشار علىّ بن موسى الرضا عليه السّلام، و قد سئل عن الجواد فقال: لسؤالك وجهان: ان اردت المخلوق فالّذى يؤدّى ما افترض اللّه عليه. و ان اردت الخالق فهو الجواد ان اعطى و ان منع لانّه ان أعطى أعطى من له، و ان منع منع من ليس له.
و اراد انّ جوده متوقّف على الاستعداد و عدمه. و ردعه اناسى الابصار عن ادراكه:
قهره لها بذلّ النقصان عن قبول ذلك، لانّ القوّة الباصرة انّما يتعلّق بذى الوضع وجهة المنزّه قدسه تعالى عنه، و لم يختلف عليه دهر لعلوّه عن الزمان، و بذلك لم تختلف عليه الأحوال، لانّ الزمان هو مبدأ الاختلاف. و فلزّ اللّجين: خبثه و ما ينفيه الكبر منه.
و العقيان: الذهب الخالص. و المرجان: صغار اللؤلؤ. و حصيده: محصوله و ما اجتمع منه.
و استعار لفظ الضحك: للاصداف، و وجه الشبه: انفتاح الصدفين و اسفارهما عن اللؤلؤ الشبيه فى بدوه بالاسنان عن لحمة شبيهة باللسان فى هيئته، و وضوح المشابهة تستدعى المشاهدة. و لفظ الحصيد لصغار اللؤلؤ لشبهه بالحصيد من الغلات. و نبّه بهذه القضية الشرطية على كمال قدرته، و عدم تناهى مقدوراته، و بيّن ذلك بضمير صغراه قوله: لانّه الجواد الى قوله: الملحّين، و تقدير الكبرى و كلّ من كان كذلك فلو وهب جميع ما ذكر لم ينقص ملكه.
و قوله: فانظر الى آخره: تأديب للخلق فى وصفهم للّه سبحانه، و تعليم لهم كيفية مدحهم و ثنائهم عليه، فأمرهم ان يقتدوا فى ذلك بكتاب اللّه تعالى، و من يقوم به من الأنبياء و الائمة من بعدهم، اذ كان اوّل ما يوصف به ما وصف به تعالى نفسه، و ان
ص: 218
يفوّضوا علم ما لم يعلموا الى علمه تعالى و هو المراد: بالتفويض المشهور. و قوله: انّ الراسخين، الى قوله: المحجوب: تفسير لمعنى الرسوخ فى العلم. و الاقتحام: الدخول فى الامر بشدّة. و السدد جمع سدّة و هى: الأبواب و الحجب.
و اعلم انّ لحجب الغيوب طبقات كثيرة كما أشار اليه الرسول صلى اللّه عليه و آله:
(ان للّه سبعين الف حجاب من نور و ظلمة لو كشفها لا حرقت سبحات وجهه كل من ادرك بصره) و قد نبّهنا عليها فى الاصل(1)، و هنا لطيفة و هو انّه لما كان التكليف فى نفس الأمر انّما هو على قدر العقول و تفاوت مراتبها كما قال صلى اللّه عليه و آله: (بعثت لاكلّم الناس على قدر عقولهم). كان كلّ عقل قوىّ على رفع حجاب من حجب الغيب، و قصر عمّا ورائه، و اعترف به، و بالعجز عنه، فذلك تكليفه و هو من الراسخين فعلى هذا ليس الرسوخ مرتبة واحدة هى تقليد ظاهر للشريعة و اعتقاد حقيقتها فقط بل تقليدها مرتبة اولى من مراتبه، و ما وراء ذلك من مراتب غير متناهية بحسب مراتب السّالكين و قوّتهم على رفع حجاب الانوار. و ظاهر كلامه عليه السّلام، لا ينافي ذلك اذا نزّل عليه، فإنّ قوله: و سمّى ترك التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه: رسوخا صادقا ايضا على من قطع جملة من منازل السائرين الى اللّه، و عجز عمّا ورائها فوقف ذهنه عن التعمّق فيه اذ لا يكلّف بما لا يفي به قوّته بدركه، و المقدّر لعظمة اللّه بقدر عقله هو المعتقد انّ عقله ادركه و احاط به علما، و وجه الهلاك فى ذلك: الاعتقاد انّ ما يحيط به العقول البشرية محدّد و مركّب، فكان ممكنا فالمعتقد لذلك معتقد لغير الاله الها. و قوله: هو القادر، الى آخره، اشارة الى: اعتبارات اخر من صفاته تعالى، نبّه فيها على انّ غاية استقصاء العقول و تعمّقها فى طلب تفصيل صفاته ان تقف خاسئة و ترجع حسيرة. و ارتماء الأوهام: استر - سالها مجدّة فى المطالعة و التفتيش، و عميقات غيوب ملكوته: فى اسرار عالم الغيب. و استعار لفظ العمق: باعتبار عدم وصول غائص الفكر الى منتهاها. و التولّه: شدّة الشوق.
و ردعها: خلقها قاصر عن ادراك ما تطلبه من هذه المطالب، فردع الاوهام لقصورها عن ادراك ما ليس بمحسوس. و ردع الفكر و العقول له قصورها عن ادراك حقيقة ما ليس بمحدود مركّب. و قدّم اعتبار قدرته تعالى على الشرطيّة لانّها الأصل فى ذلك الردع. و
ص: 219
تجوب: تقطع و تطوف. و استعار لفظ السدف جمع سدفه، و هى: الظلمة لما لا يهتدى اليه الفكر من الغيوب، ملاحظة لشبهها بالظلمة المحسوسة.
«و الواو» فى قوله: و هى: للحال، و العامل: ردعها، و جور الاعتساف: شدّة الجولان فى بيداء جلال اللّه فظاهر انّه غير نافع فى تحصيل ما لا يمكن. و قوله: و أرانا الى قوله:
معرفته، فملكوت قدرته: ملكها، و انّما نسبه الى القدرة لانّ اعتبارها مبدأ الوجود كلّه، فهو مبدأ المالكية، و اعتراف: عطف على عجائب، و الى: انّ متعلّق بالحاجة. و قوله: ما دلّنا: مفعول ثان لأرانا: و على معرفته: متعلّق بدلّنا. و استعار لفظ الاعلام: لما يدلّ على حكمة الصانع فى فعله من الإتقان و الأحكام. و الضمير فى قوله: فحجّته: يحتمل عوده الى اللّه و يحتمل عوده الى الخلق الصامت، و للسالكين فى سماع نطق آثار اللّه و مشاهدته فى مصنوعاته، مراتب و درجات متفاوته.
و قوله: و اشهد، الى قوله: ربّ العالمين: التفات و انّما جعل المشبّه به هو تباين الاعضاء و تلاحمها و ان كان المشبّه به هو الجسم متباين الاعضاء، لأنّ تباين الاعضاء هو وجه الشبه المستلزم للتركيب فكان ذكره اهمّ ليظهر به تنزيهه تعالى عن هذا التشبيه سريعا، لبرائته عن الاعضاء، و تباينها و تركيبها. فامّا شهادته عليه السّلام بانّ المشبّه له غير عارف به، و لا متيقّن لتنزيهه عن المثل فالقرآن و البرهان مصدّقان لشهادته. امّا القرآن فما نبّه عليه بقوله، و كانّه لم يسمع الى آخر الآية و وجه الدليل انّ المشبّهة، و عبدة الاصنام، ينكشف لهم فى الآخرة انّهم كانوا ضالّين فى تشبيه اصنامهم بربّ العالمين، فيترتّب دليل هكذا، المشبّهة ضالّون فى تشبيههم لربّهم، و كلّ من كان ضالاّ فيه فليس بعارف به، و كذلك كل من كان كذلك فليس بمنزّه له عن المثل.
و امّا البرهان: فلانّ المشبّه له بخلقه يلزمه الحكم عليه بلوازم خلقه من الامكان و الحدوث لانّ لازم المتشابهين لا يختلف. و قوله: كذب العادلون، الى قوله: عقولهم:
تكذيب لهم و اشارة الى تفصيل جهات عدولهم الى سبب ذلك و هو الوهم الّذى هو منشأ التشبيه، اذ كان حكمه لا يرتفع عن المحسوسات و لذلك لم يرتفع المشبّه للّه عن تشبيه الاصنام، و اشخاص الاجسام، و تجزئتهم له تجزئة المجسّمات هو: ما يلزم حكمهم بكونه جسما من اثبات الاعضاء له و تباينها. و قوله: و اشهد، الى قوله: بيّناتك: شهادة
ص: 220
ثانية بالكفر على من شبّهه، و بيّن ذلك بقياس اسند كبراه الى كتاب اللّه، و نصوص آياته المحكمة، و بيّناته الانبياء و شواهد حججهم هى تلك الآيات كقوله تعالى: «قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ »(1) الآية. و امّا صغراه فلانّ الشبيه هو المثل و العديل. و قوله:
و اشهد، الى قوله: مصرّفا: شهادة ثالثة هى خلاصة الاوّلتينّ بكمال الوهيته، و تنزيهه عن التناهى فى العقول البشريّة و احاطتها به، و تنبيهه على ما يلزم تناهيه فيها من كونه ذا كيفيّة تستثبته العقول: و يصرّفها بها الوهم و الخيال. و مصرّفا أى: محكوما عليه فى ذاته فى العقول باطلا.
و منها:
قدّر ما خلق فأحكم تقديره، و دبّره فأحسن تدبيره، و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته، و لم يقصّردون الانتهاء إلى غايته، و لم يستصعب إذ أمر بالمضىّ على إرادته، و كيف و إنّما صدرت الأمور عن مشيئته ؟ المنشىء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها، و لا قريحة غريزة أضمر عليها، و لا تجربه أفادها من حوادث الدّهور، و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور، فتمّ خلقه و أذعن لطاعته، و أجاب الى دعوته، و لم يعترض دونه ريث المبطئ، و لا أناة المتلكّىء، فأقام من الأشياء أودها، و نهج حدودها، و لاءم بقدرته بين متضادّاتها، و وصل أسباب قرائنها، و فرّقها أجناسا مختلفات فى الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات بدايا خلائق أحكم صنعها، و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
اقول:
احكام تقديره خلقه على وجه الحكمة، و حسن تدبيره ايجاده كاملا فى منفعته، و ما خلق لاجله حسنا فى صورته، و توجّهه: لوجهته بعثه بحسب الحكمة و العناية الآلهية الى غايته، و تيسيره لها و وقوفه عندها فى ابداعه لخلقه، و قريحة الغريزة: قوّة الفكر، و اذعان خلقه دخوله فى حكم قدرته و ذلّ الحاجة اليه. و الريث و الاناة و التلكّى: التباطؤ و هو من لواحق الجسم، فكان تعالى منزّها فى خالقيته عنها. و الأود: الاعوجاج، و اقامتها
ص: 221
لأودها: افادتها ما ينبغي لها على وجه الحكمة. و حدودها: طرقها. و نهجه لها: ايضاحه لكل شيء سبيل قصده و غايته و تيسيره لذلك، و وصلة لاسباب قرائنها: كون كل شيء له قرينة من غريزة و طبيعة و لازم و نحوها، و اقتران الشيئين مستلزم لاقتران اسبابهما و اتّصالهما لاستحالة قيام الشيء بدون سببه، و هو منسوب الى قدرته تعالى. البدايا جمع بدية و هى: الخلقة المعجبة، و اراد هى بدايا اى: عجائب مخلوقات احكم صنعها على وفق ارادته، و باللّه التوفيق.
و نظم بلا تعليق رهوات، فرجها، و لاحم صدوع انفراجها، و وشّج بينها و بين أزواجها. و ذلّل للهابطين بأمره، و الصّاعدين بأعمال خلقه، حزونة معراجها، ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها. و أقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها، و أمسكها من أن تمور فى خرق الهواء بأيده و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره، و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها، فأجراهما فى مناقل مجراهما، و قدّر سيرهما فى مدارج درجهما ليميّز بين اللّيل و النّهار بهما، و ليعلم عدد السّنين و الحساب بمقاديرهما، ثمّ علّق فى جوّها فلكها، و ناط بها زينتها: من خفيّات دراريّها، و مصابيح كواكبها و رمى مسترقى السّمع بثواقب شهبها، و أجراها على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها، و مسير سائرها، و هبوطها و صعودها، و نحوسها و سعودها.
اقول: الرهوات جمع رهوة، و هى: الفرجة المتسعة. و الصدوع: الشقوق. و وشّج بالتشديد: شبك، و اراد بازواجها: نفوسها و هى الملائكة السماوية، بمعنى قرائنها و كل قرين زوج اى: ربط بينها و بين نفوسها بقبول كل جرم سمّاوى لنفسه التي لا يقبلها غيره. و الحزونة: الصعوبة. و الاشراج جمع شرج بالفتح و هى: عرى العيبة التي تخاط بها، و هو اشارة الى تأليف اجزائها فى حدوثها و نداؤها لها حكم قدرته الإلهية عليها بالكون،
ص: 222
و الارتتاق: الالتصاق. و فتق صوامت أبوابها: مثل بالمطر و قيل: كانت كرة واحدة ففتق ما بينها كقوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا» (1)و النقاب جمع نقب بفتح النون و هو: الطريق فى الجبل. و الرصد الّذى اقامه هو:
الشهب: و ذلك انّ العرب كانت تعتقد ان الشياطين تصعد الى السماء فتسترق الغيب من الملائكة، ثم تلقيه الى الكهنة و السحرة فلما آن دور الستر و النهى عن التكهن و نحوه لما فيه من فساد اذهان الخلق، ألقى الوحى اليهم انّ الشهب انّما جعلت رجوما للشياطين، فكلّ من استرق منهم رمى بشهاب، و انّ السماوات حجبت عنهم لتنقطع اوهام الخلق عن غير الوحى و انوار النبوّة و قد قر ذلك فى الخطبة الأولى.
و تمور: تتحرّك. و ايده: قوّته، و روى بائدة اى: هالكة. و ابصار آية النهار هو: تمام ضياء الشمس الّذى هو مادّة الإبصار. و محو آية الليل هو: ما على القمر من لطخ السواد.
و قيل: ابصار، آية النهار كون نور الشمس لذاتها، و محو آية الليل: كون نور القمر مستفادا من الشمس، و مناقل مجراهما و مدارج درجهما، هى: بروجهما و منازلهما، و مقادير سيرهما، و اذلال تسخيرهما: ذلّتها مسخّرة تحت حكم القدرة الألهية كقوله تعالى:
«وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ » (2) و السيّارة هى: الكواكب السبعة النيران، و الخمسة المتحريّة. و الثواقب هى: باقى الكواكب، و فلكها الثامن، و صعودها: طلبها لشرفها ما دام الكوكب متوجّها الى قوّة شرفه، فهو فى الصعود و الازدياد، فاذا جازها صار فى الانتفاض و الهبوط، و هبوط كل كوكب يقابل شرفه، و معنى سعودها و نحوسها: كون اتّصالاتها اسبابا لصلاح شيء من عالم الكون و فساده، و باللّه التوفيق.
ثمّ خلق سبحانه لاسكان سماواته، و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته، ملأبهم فروج فجاجها، و حشابهم فتوق أجوائها و بين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم فى حظائر القدس، و سترات الحجب، و سرادقات المجد، و وراء ذلك
ص: 223
الرّجيج الّذى تستكّ منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها، أنشأهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات أولى أجنحة تسبّح جلال عزّته لا ينتحلون ما ظهر فى الخلق من صنعته، و لا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا ممّا انفرد به، «بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » جعلهم فيما هنا لك أهل الأمانة على وحيه، و حمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره و نهيه، و عصمهم من ريب الشّبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته، و أمدّهم بفوائد المعونة، و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة، و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده، و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده لم تثقلهم موصرات الآثام، و لم ترتحلهم عقب اللّيالى و الأيّام، و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، و لم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم، و لا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم، و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، و ما سكن من عظمته و هيبة جلالته فى أثناء صدورهم، و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم: منهم من هو فى خلق الغمام الدّلّح، و فى عظم الجبال الشّمّخ، و فى قترة الظّلام الأبهم، و منهم من خرقت أقدامهم تخوم الأرض السّفلى، فهى كرايات بيض قد نفذت فى مخارق الهواء، و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية، قد استفرغتهم أشغال عبادته، و وصلت حقائق الإيمان بينهم و بين معرفته و قطعهم الإيقان به إلى الوله إليه، و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره، قد ذاقوا حلاوة معرفته، و شربوا بالكأس الرّويّة من محبّته، و تمكّنت من سويداء قلوبهم، و شيجة خيفته، فحنوا بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم، و لم ينفد طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم، و لا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم، و لم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم، و لا تركت لهم استكانة الإجلال، نصيبا فى تعظيم حسناتهم، و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم، و لم تغض رغباتهم، فيخالفوا عن رجاء ربّهم، و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم، و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم، و لم تختلف فى مقادم الطّاعة مناكبهم، و لم يثنوا إلى راحة التّقصير فى أمره رقابهم، و لا تعدو على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات، و لا تنتضل فى هممهم خدائع الشّهوات قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم. و يمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته، و لا يرجع بهم
ص: 224
الاستهتار بلزوم طاعته، إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته، لم تنقطع أسباب الشّفقة منهم، فينوا فى جدّهم، و لم تأسرهم الأطماع فيؤثروا و شيك السّعى على اجتهادهم، و لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم، و لو استعظموا ذلك لنسخ الرّجاء منهم شفقات و جلهم، و لم يختلفوا فى ربّهم باستحواذ الشّيطان عليهم و لم يفرّقهم سوء التّقاطع، و لا تولاّهم غلّ التّحاسد، و لا شعبتهم مصارف الرّيب، و لا اقتسمتهم أخياف الهمم، فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ، و لا عدول و لاونى و لا فتور، و ليس فى أطباق السّماء موضع إهاب إلاّ و عليه ملك ساجد، أوساع حافد يزدادون على طول الطّاعة بربّهم علما و تزداد عزّة فى قلوبهم عظما.
اقول: الصفيح الأعلى: اشارة الى الفلك التاسع، و هو العرش لكونه اعظم الأجرام و اعلاها، و سكانه الملائكة المدبّرون له. و فجاجها: طرقها الواسعة. و اجوائها: الامكنة العالية المتسعة بها. و فجوات الفرج: متّسعاتها. و الزجل: الأصوات. و سمّيت حظائر القدس: لطهارتها عن فجاءت الجهل. و الحجب: اشارة الى حجب الغيب او السماوات. و استعار لفظ السرادق و هو الستر الّذى يمّد فوق البيت، لما يعقل من عظمة الملائكة فى تنزّههم عن الجسمية و لواحقها، باعتبار انّ ذلك المجد و الشرف هو الحاجب لهم عنّا. و كالسرادق المضروب بيننا و بينهم. و الرجيج: الزلزلة و الاضطراب. و تستك الاسماع:
تصم. و اشار بسبحات النور: الى جلال اللّه و عظمته و تنزيهه ان يصل اليه أبصار الملائكة، و نبّه بكون ذلك وراء رجيجهم على انّ معارفهم لا يتعلق به كما هو، بل وراء علومهم اطوارا اخرى من جلاله يقصر معارفهم عنها، و خاسئة ذليلة متحيّرة. و اختلاف صورهم: اختلافهم بالنوع و تفاوت اقدارهم: تفاوت مراتبهم فى الكمال، و استعار لفظ الأجنحة: امّا لقواهم العقلية، او لمعارفهم التي يطيرون بها فى بيداء جلال اللّه، و ينتحلون: يدّعون صنعة شيء من خلقه. و ريب الشبهات: الشك الواقع عنها. و اخبات السكينة: تذلّلها، و اشعر قلوبهم ذلك التواضع جعله شعارا ملازما لها. و استعار لفظ الأبواب: بوصف الذلّة للوجوه اللائقة من تمجيده. و وصف الفتح: لسهولتها عليهم لبراءة عقولهم عن معارضات النفس الامّارة. و لفظ المنار: لما يستفيدون منه تصوّر صفاته
ص: 225
اللائقة بجلاله و كماله من اللوازم و الخواصّ و ما يستفيدون به اثبات ذلك له من البراهين و الادّلة، و لفظ الاعلام: لصفاته و ما ينبغي ان يعرف به، و نفى عنهم موصرات الآثام و هى ما اثقل الظهر منها. و نوازع الشكوك و هى: الخواطر المفسدة للعقائد، و ما يقدح فى النفوس من الأحن و هى: الاحقاد و الحيرة و الوساوس الشيطانية، لانّ مبادئ كل ذلك هو النفس الامّارة. و عقب الليالى و الأيام تعاقبها. و العقبة: المرّة من التعاقب. و روى بنوازعها بالعين المهملة، و هى: القسىّ ، و هو مستعار لتلك الخواطر المفسدة ايضا. و الاقتراع و التقارع: التضارب. و الرين: الغلبة و التغطية. و الدّلج جمع دالجة و هى: الثقال بالماء. و الشمخ: العالية. و قترة الظلام: سواده. و الأبهم الّذى لا يهتدى فيه. و الهفافة:
الساكنة الطيبة. و وشيحة الشجرة: عروقها. و وشيجة خيفته: ما خالط منها ذواتهم. و استعار وصف حنى الظهور: لكمال عبادتهم. و لفظ الربق: لما حصلوا فيه من الخشوع، و نفى الاعجاب عنهم لاستلزامه النفس الامّارة. و الدّؤوب الجدّ فى العمل. و رغبات الملائكة السماوية: اشواقها الى كمالاتها. و استعار لفظ الألسنة و رشّح بذكر الاسلات جمع اسلة و هى: طرف اللسان. و قوله: و لا ملكتهم، الى قوله: اصواتهم، فالهمس: الخفىّ من الصوت اى: لم يضعفهم العبادة فتنقطع اصواتهم فتخفى بالتضرّع اليه، و هو تنزيه لهم عن الاحوال البشريّة و العوارض البدنيّة. و قوله: و لم يختلف، الى قوله: رقابهم: استعار لفظ المقادم من ريش الطائر لما سبق وجوبه من الطاعة كمعرفته تعالى و توحيده. و لفظ المناكب و هى: الريش بعد المقادم لذواتهم، و وجه المشابهة انّ الملائكة لا تختلف ذواتهم، و اجرامهم الفلكية، فى نسق ما اهتم من عبادة اللّه و معرفته، بل صافّون لا يتزايلون فى استقامة طريقهم اليه، كالمناكب البالية للمقادم، و على نظامها و ترتيبها لا يختلف نسقها. و روى مقاوم الطاعة: جمع مقام. و عزيمة جدّهم: ارادتهم الجازمة فيه، و استعار وصف الانتصال: لما ترمى به النفس الامّارة العقل من غرورها و خداعها بشهواتها، فتقطعه عمّا هم به من الطاعة. و الاستهتار بالشىء: الولوع و التجاهر به. و الشفقة الاسم من الاشفاق و هو الخوف. و ينوا: يضعفوا و يتكاسلوا. و وشيك السعى: قريبه، و نفى الاطماع عنهم لأنّها من عوارض البشريّة، و كذلك استحواذ الشيطان عليهم اى: احاطته بهم. و غلّ التحاسد:
ص: 226
اى حقده، و تصاريف الريب وجوه الشكوك. و تشعبتهم: اقتسمتهم. و اخياف الهمم مختلفاتها. و استعار لفظ الاسراء لهم باعتبار عدم تمكينهم من الخروج عن الايمان بمقتضى ذواتهم. و لفظ الربقة و هى: العروة فى الحبل للايمان اللازم لهم. و غرض الفصل تمجيد اللّه تعالى: بخلق العالم الأعلى من الملائكه على اختلاف انواعهم و ما لهم من الكمال الاشرف على سائر الموجودات، و قد نبهنا على تأويلات ضعيفة عساها يصار الى بعضها فى الأصل، و اللّه أعلم.
كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، و لجج بحار زاخرة، تلتطم أواذىّ أمواجها، و تصطفق متقاذفات أثباجها، و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها، و ذلّ مستخذيا، إذ تمعّكت عليه بكواهلها، فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجيا مقهورا، و فى حكمة الذّلّ منقادا أسيرا و سكنت الأرض مدحوّة فى لجّة تيّاره، و ردّت من نخوة بأوه و اعتلائه و شموخ أنفه و سموّ غلوائه، و كعمته على كظّة جريته، فهمد بعد نزقاته و لبد بعد زيفان و ثباته فلمّا سكن هياج الماء من تحت أكنافها، و حمل شواهق الجبال الشّمّخ البذّخ على أكتافها فجّر ينابيع العيون من عرانين أنوفها، و فرّقها فى سهوب بيدها و أخاديدها، و عدل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها، و ذوات الشّناخيب الشّمّ من صياخيدها، فسكنت من الميدان لرسوب الجبال فى قطع أديمها، و تغلغلها متسرّبة فى جوبات خياشيمها و ركوبها أعناق سهول الأرضين، و جراثيمها، و فسح بين الجوّ و بينها، و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها، و أخرج إليها أهلها على تمام مرافقها، ثمّ لم يدع جرز الأرض الّتى تقصر مياه العيون عن روابيها، و لا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيى مواتها، و تستخرج نباتها، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه، و تباين قزعه، حتّى إذا تمخّصت لجّة المزن فيه، و التمع برقه فى كففه، و لم ينم و ميضه فى كنهور ربابه، و متراكم سحابه، أرسله سحّا متداركا، قد أسفّ هيدبه تمريه الجنوب درر أهاضيبه و دفع شآبيبه، فلمّا ألقت السّحاب برك بوانيها، و بعاع ما استقلّت به من العبء المحمول عليها أخرج به من
ص: 227
هوامد الأرض النّبات، و من زعر الجبال الأعشاب فهى تبهج بزينة رياضها، و تزدهى بما ألبسته من ريط أزاهيرها، و حلية ما سمطت به من ناضر أنوارها، و جعل ذلك بلاغا للأنام، و رزقا للأنعام، و خرق الفجاج فى آفاقها، و أقام المنار للسّالكين على جوّادّ طرقها، فلمّا مهد أرضه، و أنفذ أمره، اختار آدم، عليه السّلام، خيرة من خلقه، و جعله أوّل جبلّته، و أسكنه جنّته، و أرغد فيها أكله و أو عز إليه فيما نهاه عنه، و أعلمه أنّ فى الإقدام عليه التّعرّض لمعصيته، و المخاطرة بمنزلته فأقدم على ما نهاه عنه - موافاة لسابق علمه - فأهبطه بعد التّوبة، ليعمر أرضه بنسله، و ليقيم الحجّة به على عباده، و لم يخلهم بعد أن قبضه، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته، و يصل بينهم و بين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه و متحمّلى ودائع رسالاته، قرنا، فقرنا، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - حجّته، و بلغ المقطع عذره و نذره، و قدّر الأرزاق فكثّرها و قلّلها و قسّمها على الضّيق و السّعة فعدل فيها ليبتلى من أراد بميسورها و معسورها، و ليختبر بذلك الشّكر و الصّبر من غنيّها و فقيرها، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها، و بسلامتها طوارق آفاتها، و بفرج أفراحها غصص أتراحها. و خلق الآجال فأطالها و قصّرها، و قدّمها و أخّرها، و وصل بالموت أسبابها، و جعله خالجا لأشطانها، و قاطعا لمرائر أقرانها عالم السّرّ من ضمائر المضمرين، و نجوى المتخافتين، و خواطر رجم الظّنون، و عقد عزيمات اليقين، و مسارق إيماض الجفون، و ما ضمنته أكنان القلوب و غيابات الغيوب، و ما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، و مصائف الذّرّ، و مشاتى الهوامّ ، و رجع الحنين من المولهات، و همس الأقدام، و منفسح الثّمرة من ولائج غلف الأكمام، و منقمع الوحوش، من غيران الجبال و أوديتها، و مختبأ البعوض بين سوق الأشجار و ألحيتها، و مغرز الأوراق من الأفنان، و محطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب، و ناشئة الغيوم و متلاحمها، و درور قطر السّحاب فى متراكمها، و ما تسقى الأعاصير بذيولها، و تعفو الأمطار بسيولها، و عوم نبات الأرض فى كثبان الرّمال، و مستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال، و تغريد ذوات المنطق فى دياجير الأوكار، و ما أوعبته الأصداف، و حضنت عليه أمواج البحار، و ما غشيته سدفة ليل أو ذرّ عليه شارق نهار، و ما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير، و سبحات النّور. و أثر كلّ خطوة، و حسّ كلّ حركة، و رجع كلّ كلمة، و تحريك كلّ شفة، و مستقرّ كلّ نسمة،
ص: 228
و مثقال كلّ ذرّة، و هماهم كلّ نفس هامّة، و ما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرارة نطفة، أو نقاعة دم و مضغة، أو ناشئة خلق، و سلالة، لم تلحقه فى ذلك كلفة، و لا اعترضته فى حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة، و لا اعتورته فى تنفيذ الأمور و تدبير المخلوقين ملالة و لافترة، بل نفذ فيهم علمه و أحصاهم عدّه، و وسعهم عدله، و غمرهم فضله، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله. اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل، و التّعداد الكثير، إن تؤمّل فخير مؤمّل و إن ترج فأكرم مرجوّ. اللّهمّ و قد بسطت لى فيما لا أمدح به غيرك، و لا أثنى به على أحد سواك، و لا أوجّهه إلى معادن الخيبة و مواضع الرّيبة و عدلت بلسانى عن مدائح الآدميّين و الثّناء على المربوبين المخلوقين. اللّهمّ و لكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء، أو عارفة من عطاء، و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة و كنوز المغفرة. اللّهمّ و هذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذى هو لك، و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك، و بى فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك، و لا ينعش من خلّتها إلاّ منّك و جودك، فهب لنا فى هذا المقام رضاك، و أغننا عن مدّ الأيدى إلى سواك، «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».
اقول: هذا الفصل يشتمل على فصلين:
و جملة من أحوالها، و اعداده فيها تمام مرافقها، و خلقه لآدم و ذرّيته بعد ذلك فى معرض الامتنان عليهم بذلك، و هو قوله: كبس الارض، الى قوله: طرقها. و استعار لفظ الكبس: لخلقها فى وسط كرة الماء، و المور: التحرّك، و استعار لفظ الاستفحال: للموج ملاحظة للشبه بالفحل عند صياله، و الأواذى جمع آذىّ و هو: ما عظم من موج البحر. و الاثباج جمع ثبج و هو:
معظمها و عواليها، و استعار لفظ الجماح: بحركة الماء على وجه لا يملك. و الارتماء:
التقاذف. الترداد و التمعّك: التمرّغ. و استعار لفظ كلكل و هو: الصدر للأرض.
و المستخدى: الخاضع. و اصطخاب الأمواج: غلبتها. و الساجى: الساكن. و استعار لفظ الحكمة و هى ما احاط من اللجام بحنك الدّابة: لأمر اللّه بتسكينه. و المدحوّة: المبسوطة.
و التيار: الموج. و البأو: الفخر. و شموخ الأنف كناية: عن التكبر. و الغلواء: تجاوز الحد.
ص: 229
و كعمته: سددت فاه. و الكظة: شدّة الامتلاء. و همد: سكن. و الترقات جمع ترقه و هى:
الخفة. و لبد: لصق بالارض ساكنا. و الزيفان: التمايل. و الاكناف: الجوانب. و البذّخ:
العالية. و العرنين: اعلى الأنف عند ملتقى الحاجبين و لفظ مستعار: لأعالى الجبال.
و السهوب جمع سهب و هو: الفلاة الواسعة. و البيد جمع بيداء و هى: الفلاة ايضا.
و الجلاميد: الصخور. و الشناخيب: رؤس الجبال. و الشم: العالية. و الصيخود: الصخرة الصلبة. و اديمها: سطحها. و التسرّب الدخول فى اسرابها و اعماقها. و المتنسم:
المستنشق. و المرافق: المنافع. و ارض جرز: لا نبات بها لانقطاع الماء عنها. و اللمع:
القطع، و كذلك القزع. و الكفة بالضم: ما استطال من السحاب و ما استدار. و بالكسر وميضه: ضياؤه. و الكنهور: العظيم من السحاب. و الرباب: الغمام الابيض.
و السح: الصب. و اسّف: دنا من الأرض اى: تدلّى. و تمريه: تستخرج ماءه و درّه القطر. و الشآبيب جمع شؤبوب و هو: الرشقة القويّة من المطر. و البرك: الصدر. و البوانى:
ما يليه من الاعضاء و هو مستعار: لما ثقل من المطر. و بعاع السحاب: ثقله بالمطر. العبء:
الثقل. و هوامد الارض: ما نبت به كأنّها ساكنة من الحركة باثبات كقوله تعالى: «وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً »(1) الآية. و جبلة زعراء: لا نبت بها: و تزدهى: تزدان و تتكبّر. و الريط جمع ريطة و هى: الازاهير النيّرة. و سمطت زيّنت بالسمط و هو: العقد، و روى بالشين المعجمة اى: خلطت. و الفجاج: الخلقة و اراد: اوّل الجبلة الانسانية. و اوعز اليه بكذا:
امره به و ما نهاه عنه هو الاقدام على الشجرة و اكلها. و قرنا نصب على البدل من الضمير فى تعاهدهم. و المقطع: الغاية. و قد تكرّرت قصة آدم عليه السلام. و عقابيل: المرض و الفقر بقاياه. و الاتراح: الحزن. و استعار لفظ الاسباب و هى الحبال: لما امتد من الآجال.
و الخلج: الجذب، و كذلك لفظ الاشطان. و المرائر: ايضا الحبال. الأقران جمع قرن و هى: الحبال لما امتدّ منها. و باقى الفصل ظاهر و ان تعلّقت به فوائد خارجة عن المتن ذكرناها فى الاصل.
و عد من جزئياتها جملة يشهد باحاطة علمه و كماله و هى قوله: عالم السر، الى قوله: اهله.
ص: 230
و التخافت: المسارّة. و استعار لفظ الرجم: باعتبار الرمى بالظن كما يرمى بالحجر و نحوه.
و عقد عزيمات اليقين: ما انعقد فى النفس من العزوم عن يقين. و استعار لفظ المسارق:
لمخارج اللحظ من العيون على غرّة. و روى مشارق بالشين المعجمة. و الغيابة: ظلمة قعر البئر، و استعار لفظ الأكنان و الغيابات: للغيوب باعتبار ما خفى فيها من الأسرار.
و مصائخ الاسماع: خروقها. و رجع الحنين: ترديده. و المولهات: النوق فقدت اولادها.
و الولائج: المداخل. و الاكمام جمع كم بالكسر و هو: غلاف الطلع. و المنقمع: محلّ الانقماع و هو الارتداع. و لحاء الشجرة: قشرها. و الامشاج: النطفة المختلطة بالدّم. و نبات الارض: حشراتها، و استعار لها وصف العوم: باعتبار دخولها فى اعماق الرمال.
و الشناخيب: رؤس الجبال. و الدياجير جمع ديجور و هو: الظلام. و وصف الحصن مستعار: لاشتمال امواج البحار على ما اشتملت عليه. و السدفة: الظلمة. و ذرّ: طلع.
و سبحات النور: مظانّه. و اثر عطف على المجرورات السابقة. و الهمهمة: الصوت الخفىّ . و النقاعة: نقرة يجتمع فيها الدم و كنّى بها: عن الأرحام. و اعتورته: احاطت به.
و التعداد: الكثير. تعداد: اعتبارات وصفه بالنسبة الى مخلوقاته، اذ كان له بكلّ نسبة الى كلّ جزءين منها مدحة و ثناء. و استعار لفظ معادن الخيبة: للناس باعتبار انّهم مظنّة ردّ الطالب، و مواضع الشّك فى ذلك، و باقى الفصل ظاهر. و باللّه التوفيق.
دعونى و التمسوا غيرى فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان، لا تقوم له القلوب، و لا تثبت عليه العقول، و إنّ الآفاق قد أغامت، و المحجّة قد تنكّرت، و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب، و إن تركتمونى فأنا كأحد كم و لعلّى أسمعكم و أطوعكم لمن و لّيتموه أمركم، و أنا لكم وزيرا خير لكم منّى أميرا.
ص: 231
اقول: اراد بذلك الامر ما كان يعلمه من اختلاف الناس عليه بضروب الشبهة الفاسدة، و فتنتهم، و استعار لفظ الوجوه و الالوان لتفنّن(1) الاختلافات و وصف الغيم: لما غشى البلاد من ظلمات الظلم، و تغيّر الشريعة و وصف التنكّر: ليغيّر طريق الشريعة و جهل الناس بها، و اهمالهم لسلوكها لا تقوم لها القلوب، و لا تثبت عليه بل تنفر منه لمخالفته الدين، و وزيرا و اميرا: حالان، و العامل فيهما هو العامل فى لكم، و كونه خيرا فى وزارته لانّه فى امارته يحملهم على ما يكرهون دون حال وزارته، و اللّه اعلم.
أمّا بعد أيّها النّاس، فأنا فقأت عين الفتنة، و لم تكن ليجرؤ عليها أحد غيرى بعد أن ماج غيهبها، و اشتدّ كلبها، فاسألونى قبل أن تفقدونى، فو الّذى نفسى بيده لا تسألونى عن شيء فيما بينكم و بين السّاعة، و لا عن فئة تهدى مائة و تضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها، و قائدها، و سائقها، و مناخ ركابها، و محطّ رحالها، و من يقتل من أهلها قتلا، و يموت منهم موتا، و لو قد فقدتمونى، و نزلت بكم كرائه الأمور، و حوازب الخطوب، لأطرق كثير من السّائلين، و فشل كثير من المسئولين، و ذلك إذا قلّصت حربكم و شمّرت عن ساق، و ضاقت الدّنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم، إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت، و إذا أدبرت نبّهت: ينكرن مقبلات، و يعرفن مدبرات، يحمن حول الرّياح يصبن بلدا و يخطئن بلدا، ألا إنّ أخوف الفتن عندى عليكم فتنة بنى أميّة، فإنّها فتنة عمياء مظلمة: عمّت خطّنها، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها و أخطأ البلاء من عمى عنها، و ايم اللّه لتجدنّ بنى أميّة لكم أرباب سوء بعدى كالنّاب الضّروس: تعذم بفيها، و تخبط بيدها، و تزبن برجلها، و تمنع درّها، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم أو غير ضائر بهم، و لا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه و الصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، و قطعا جاهليّة ليس فيها منار هدى، و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها
ص: 232
بمنجاة، و لسنا فيها بدعاة، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم: بمن يسومهم خسفا، و يسوقهم عنفا، و يسقيهم بكأس مصبّرة، لا يعطيهم إلاّ السّيف، و لا يحلسهم إلاّ الخوف، فعند ذلك تودّ قريش، بالدّنيا و ما فيها، لو يرونني مقاما واحدا، و لو قدر جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني.
اقول: اراد بالفتنة فتنة اهل البصرة، و استعار وصف فقاء العين: لقتله لهم و ازالة فتنتهم، و قوله: و لم يكن ليجرئ عليها احد غيرى لانّ الناس كانوا لا يتجاسرون على قتال اهل القبلة و لا يعلمون كيفية قتالهم، هل يلحقون بالكفّار فى اتّباع مدبرهم و الاجهاز على جريحهم و سبى ذراريهم و اخذ أموالهم اذا بغوا، ام لهم حكم آخر حتّى اقدم عليه السلام على قتلهم و علّمهم كيف تصنع بهم، و استعار لفظ الغيهب و هو الظلمة: لتلك الفتنة باعتبار التباس الحقّ فيها. و الكلب: الشّر. و استعار اوصاف الإبل و لواحقها من الناعق و القائد و السائق و المناخ و الركاب و الرجال: للفئة الهادية و المضلّة و المهديّة و الضالّة باعتبار انقيادهم لدعاتهم. و حوازب الامور: ما عظم منها و اهمّ . و اطراق السائلين لحيرتهم فى عواقب تلك الخطوب و كيفية الخلاص فى الدّين. و قوله: و ذلك اشارة الى فشل المسئولين. و استعار وصف التقلّص و هو: التقبّض للحرب ملاحظة لشبهها بالجدّ فى السعى المشمّر ثوبه. و بقية الابرار من يسلم من دولة بنى اميّة فى دينه و من يولد من اهل طاعة اللّه. و قوله: انّ الفتن اذا اقبلت شبّهت، اى: تكون فى مبدء امرها مشابهة للحق فى اذهان الخلق فاذا ادبرت نبّهت اذهانهم على كونها فتنة بعد وقوع الهرج و المرج و اضطراب الامر.
و قوله: ينكرن، الى قوله: مدبرات: تفسير له و استعار وصف الحوم: لدورانها الموهوم، و وقوعها عن قضاء اللّه من دعاة الضلال فى بلد، دون بلد، ملاحظة لشبهها بالطائر. و قوله: الا انّ اخوف الفتن، الى آخره: انّما كانت هذه اخوف الفتن لشدّتها و طول مدّتها و انهدام قواعد الدين بها. و استعار لها لفظ العمياء: لانّها مخالفة للحق او لجريانها على غير طريق شرعىّ كالأعمى فى طريقه، و كذلك لفظ الظلمة و عموم خطتها: كناية عن احاطتها و شمولها للناس. و خصّت بليّتها اى: بأهل التقوى من شيعة
ص: 233
عليّ ، و من بقى من الصحابة و التابعين الّذين هم اعيان الاسلام. و من أبصر فيها أى: علم كونها فتنة كان منها فى ملاء مع نفسه بالحزن الطويل لمشاهدة المنكرات، و من شأن أئمه الضّلال تتّبع من انكر افعالهم بالقتل و الإذلال فكان البلاء به اخصّ ، و امّا من عمى عن كونها فتنة حتى خبط معهم فى ضلالهم اخطاءهم بلاؤهم، و شبّههم فى أفعالهم الرّدية بالناب الضرس و هى: الناقة المسنّة التي تعضّ حالبها. و وجه شبه انتصارهم من أئمه الضّلال بانتصار العبد من سيّده عدم انتصافه منه الاّ بالغيبة و السبّ فى الخلوة.
و الشآبيب جمع شؤبوب و هو: الدفعة من المطر. و استعار لفظ الشوهاء: لقبحها عقلا و شرعا. و لفظ المنار هو العلم: للامام العادل، باعتبار الهداية به. و قوله: نحن اهل البيت منها بمنجاة، اى: من آثامها و الدعوة الى مثلها، و ليس المراد انّا سالمون من اذاها. و من يسومهم خسفا: اشارة الى بنى العباس و ظهورهم عليهم و استيصالهم. و استعار لفظ الكأس المصبّرة: لمرارة ما يفعل بهم و تألّمهم به. و وصف الاحلاس: لالزامهم البلاء ممن يظهر عليهم. و الحليس: كساء رقيق يوضع تحت قتب البعير. و قوله: حتّى، الى آخره: اشارة الى ما ينتهى اليه هذه الفرقة المتغلّبة من قريش من التراذل و الضعف الى ان يتمنّوا رؤيته مقاما واحدا.
و روى انّ مروان بن محمد آخر ملوك بنى امية قال يوم الزاب حين شاهد عبد اللّه ابن محمد بن على بن عبد اللّه بن العبّاس مارّا به فى صفّ خراسان: لوددت انّ على بن ابى طالب تحت هذه الرايات بدلا من هذا الفتى. و القصّة مشهورة و باللّه التوفيق.
فتبارك اللّه الّذى لا يبلغه بعد الهمم، و لا يناله حدس الفطن، الأوّل الّذى لا غاية له فينتهى، و لا آخر له فينقضى.
اقول: الحدس فى اللّغة: الظن، و فى الاصطلاح العلمى: سرعة انتقال الذهن من المبادى الى المطالب، و قد مرّ تفسير اوّليته و آخريّته.
ص: 234
فاستودعهم فى أفضل مستودع، و أقرّهم فى خير مستقرّ، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام، كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف، حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، و أعزّ الأرومات مغرسا من الشّجرة الّتى صدع منها أنبياءه، و انتخب منها أمناءه، عترته خير العتر، و أسرته خير الأسر، و شجرته خير الشّجر، نبتت فى حرم، و بسقت فى كرم لها فروع طوال، و ثمرة لا تنال، فهو إمام من اتّقى، و بصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوءه، و شهاب سطع نوره، و زند برق لمعه، سيرته القصد و سنّته الرّشد، و كلامه الفصل، و حكمه العدل، على حين فترة من الرّسل و هفوة عن العمل، و غباوة من الأمم. اعملوا، رحمكم اللّه، على أعلام بيّنة، فالطّريق نهج يدعو إلى دار السّلام و أنتم فى دار مستعتب على مهل و فراغ، و الصّحف منشورة، و الأقلام جارية، و الأبدان صحيحة، و الألسن مطلقة، و التّوبة مسموعة و الأعمال مقبولة.
اقول: الاشارة الى الانبياء عليهم السلام، و افضل مستودع استودعهم فيه، امّا نفوسهم فحضائر القدس و منازل الملائكة فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. و امّا أبدانهم و اصولها فكرائم الاصلاب التي هى مستودع النّطف، و ارحام المطهّرات التي هى مفازها. و الشيعة يطهّرون اصول الانبياء من طرف الآباء و الامّهات عن الشرك. و اليه اشار الرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله: (نقلنا من الاصلاب الطاهرة الى الارحام الزكّية)(1).
و امضت: انتهت، و كنّى بكرامة اللّه عن: النبوّة. و استعار لفظ المعدن و المغرس و المنبت: لطينة النبوّة و هى مادّته القريبة التي استعدّت لقبول مثله. و قيل: اراد بذلك مكة. و قيل: بيته و قبيلته. و الارومة: الاصل، و لفظ الشجرة: لقريش. و عترة الرجل:
نسله و اسرته و قومه، و وجه افضليّة عترته قوله صلّى اللّه عليه و آله: (سادة اهل المحشر سادة اهل الدنيا انا، و علىّ و حسن و حسين و حمزة و جعفر)(2). و وجه افضليّة اسرته قوله
ص: 235
صلّى اللّه عليه و آله: (انّ اللّه اصطفى من العرب معدا، و اصطفى من معد بنى النضر بن كنانة، و اصطفى هاشما من بنى النضر، و اصطفانى من بنى هاشم). و قوله: (الناس تبّع لقريش برّهم لبرّهم، و فاجرهم لفاجرهم).
و قيل: اراد بالشجرة فى الموضعين ابراهيم عليه السلام. و قيل: اراد هاشما و ولده بقرينة قوله: نبتت فى حرم و اراد مكة. و بسقت: طابت و كنى بفروعها عن: مثله عليه السلام و ذريّته و بوصفهم بالطول عن بلوغهم فى الشرف الغاية البعيدة. و استعار لفظ الثمرة: لكمالهم الّذى لا يدرك من العلوم و الاخلاق الكريمة. و استعار لفظ البصيرة و السراج و الشبهات و الزند له: باعتبار كونه سبب هداية الخلق بانوار الدين. و الفصل:
الفاصل بين الحق و الباطل. و الهفوة: الذلّة. و الغباوة: الجهل. و استعار لفظ الاعلام:
لأئمّة الدين و دلائله الواضحة و طريق نهج واضح. و دار مستعتب اى: يمكن فيها طلب العتبى، و هو الرجوع الى الحق. و قيل: اى دار يمكنهم فيها ان يطلبوا من اللّه العتبى و هو: الرضى و العفو عنهم. و المنشورة: صحف الأعمال. و الجارية: اقلام الكرام الكاتبين.
بعثه و النّاس ضلاّل فى حيرة، و خابطون فى فتنة، قد استهوتهم الأهواء و استزلّتهم الكبرياء، و استخفّتهم الجاهليّة الجهلاء. حيارى فى زلزال من الأمر، و بلاء من الجهل، فبالغ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى النّصيحة، و مضى على الطّريقة، و دعا إلى الحكمة و الموعظة الحسنة.
اقول: الخبط: المشى على غير طريق. و روى خابطون و هو مستعار: لجمعهم فى فتنتهم مالا ينبغي من اقوال، و افعال. و استزلّهم: استخفّهم. و الجهلاء: وصف لما اشتقّ من الموصوف تأكيدا كما قال: ليل أليل، و الطريقة التي مضى عليها: سبيل اللّه، و دعوته الى الحكمة و البرهان و الى الموعظة الحسنة بالخطابة. و باللّه التوفيق.
ص: 236
الحمد للّه الأوّل فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، و الظّاهر فلا شيء فوقه، و الباطن فلا شيء دونه.
اقول: المراد بالظاهر هنا العال لتأكيده بنفى الفوقية عنه، و الباطن هو: الّذى بطن خفيّات الامور، علما، و هو اقرب الاشياء اليها بهذا الاعتبار فلذلك سلب ما هو دونه اى: ما هو اقرب اليها منه، و قد سبق بيان هذه الاعتبارات.
منها فى ذكر الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم:
مستقرّه خير مستقرّ، و منبته أشرف منبت، فى معادن الكرامة، و مماهد السّلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، و ثنيت إليه أزمّة الأبصار، دفن به الضّغائن، و أطفأ به الثّوائر، ألّف به إخوانا، و فرّق به أقرانا أعزّ به الذّلّة، و أذلّ به العزّة، كلامه بيان، و صمته لسان.
اقول: مستقرّه: مكة، و هى خير مستقرّ لكونها امّ القرى، و محلّ بيت اللّه الحرام.
و استعار مماهد السّلامة: لأراضى الحجاز كالمدينة و مكة لكونهما محلّ العبادة و الخلوة باللّه و السّلامة من عذابه. و يحتمل ان يريد ما ينقلب فيه، و ينشأ عليه من مكارم الاخلاق الممهّدة للسلامة من سخط اللّه، و فى قوله: قد صرفت: تنبيه على انّ الصارف لافئدة الابرار اليه، هو: لطف اللّه تعالى، و عنايته بهم. و ثنيت اى: صرفت. و الأقران المفرّق لهم: المتالّفون على الشرك و الذلّة التي اعزّها به ذلّة المسلمين، و الذلّة التي اذلّها به عزّة المشركين. و قوله: و صمته لسان اى: انّ سكوته مما يفيد حكما ككلامه، فانّ الصحابة كانوا اذا فعلوا فعلا على عادتهم فسكت عنه علموا انّه مباح فى الدين، فاشبه ذلك البيان باللسان فاستعار لفظه له.
ص: 237
و لئن أمهل الظّالم فلن يفوت أخذه، و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه، و بموضع الشّجى من مساغ ريقه، أما و الّذى نفسى بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، و لكن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم و إبطائكم عن حقّى. و لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، و أصبحت أخاف ظلم رعيّتى: استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرّا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا أشهود كغيّاب، و عبيد كأرباب ؟؟!! أتلوا عليكم الحكم فتنفرون منها، و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، و أحثّكم على جهاد أهل البغى فما آتى على آخر القول حتّى أراكم متفرّقين أيادى سبا ترجعون إلى مجالسكم و تتخادعون عن مواعظكم، أقوّمكم عدوة و ترجعون إلىّ عشيّة كظهر الحيّة عجز المقوّم، و أعضل المقوّم. أيّها الشّاهدة أبدانهم، الغائبة عقولهم المختلفة أهواؤهم المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشّام يعصى اللّه و هم يطيعونه ؟! لوددت و اللّه أنّ معاوية صارفنى بكم صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّى عشرة منكم و أعطانى رجلا منهم. يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث و اثنتين: صمّ ذوو أسماع، و بكم ذوو كلام، و عمى ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء، و لا إخوان ثقة عند البلاء. تربت أيديكم. يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلّما جمعت من جانب تفرّقت من جانب آخر، و اللّه لكأنّى بكم فيما إخال أن لو حمس الوعى، و حمى الضّراب، و قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج المرأة عن قبلها، و إنّى لعلى بيّنة من ربّى، و منهاج من نبيّى، و إنّى لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، و اتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى و لن يعبدوكم فى ردى. فإن لبدوا فالبدوا، و إن نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلّوا، و لا تتأخّروا عنهم فتهلكوا، لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فما أرى أحدا منكم يشبههم! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، و قد باتوا سجّدا و قياما، يراوحون بين جباههم و خدودهم، و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين
ص: 238
أعينهم ركب المعزى، من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، و مادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفا من العقاب، و رجاء للثّواب.
اقول: المرصاد: الطريق يرصد بها. و الشّجى: الغصص. و قوله: و لئن امهل اللّه، الى قوله: ريقه: فى معرض الوعيد لمعاوية و اهل الشام بأخذ و عقوبة. و القوم: اهل الشام. و شبّههم فى شهودهم بالغيّاب لعدم فائدة خطابهم. و بالارباب مع كونهم رعيّة من شأنهم التعبّد لأوامر امامهم، او لانّ فيهم عبيدا. و وجه الشبه كونهم لا يأتمرون لأميرهم. و ايادى سبا مثل: و هما اسمان جعلا اسما واحدا كمعدى كرب. و سبا: قبيلة من اولاد سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان. و هذه القبيلة كانت بمأرب و قصتهم فى تفرّقهم مشهورة يضرب بها المثل. و شبّه رجوعهم عن الصلاح مظهر الخيبة و هى: القوس. و اغضل:
اشكل، و انّما قال:
بثلاث و اثنتين لتناسب الثلاث، و كون الثنتين من نوع واحد فالثلاث اثبات و الثنتيان سلب و استعار لهم: وصف الصمّ و البكم و العمى، باعتبار عدم انتفاعهم بهذه الآلات فى طاعة اللّه. و لا احرار صدق لعدم خلوص حرّيتهم من الجبن و الغشّ . و تربت: اصابت التراب و هو دعاء بالخيبة و الحرمان. و يروى عوض جمّعت:
حيصت اى: جمعت ايضا. و اخال: احسب. و حمس الوغى: اشتدّت الحرب. و لفظ الطريق اذا مشى على بصيرة و تؤدّة، و يلزم ذلك ان يعرفها خلاف المستعجل فيها. و لبدوا سكنوا، و اراد: ان سكنوا عن طلب الأمر فاتبعوهم فى ذلك، و ان نهضوا فى طلبه فانهضوا و لا تسبقوهم اى: الى امر لم يتقدّموا فيه، فانّ التقدّم على الدليل مظنّة الضلال عن القصد، و ان لا تتاخّروا عن امتثال اوامرهم بالمخالفة لهم او عدم متابعتهم. و الشعث الغبر كناية: عن قشفهم و تركهم لزينة الدنيا. و كنّى بوقوفهم على مثل الجمر عن خوفهم من ذكر معادهم، و باللّه التوفيق.
ص: 239
و اللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلّوه، و لا عقدا إلاّ حلّوه و حتّى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلاّ دخله ظلمهم، و نبا به سوء رعيهم، و حتّى يقوم البا كيان يبكيان:
باك يبكى لدينه، و باك يبكى لدنياه، و حتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده: إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه، و حتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا، و إن ابتليتم فاصبروا، ف «إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ».
نحمده على ما كان، و نستعينه من أمرنا على ما يكون، و نسأله المعافاة فى الأديان، كما نسأله المعافاة فى الأبدان. عباد اللّه، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم، و إن لم تحبّوا تركها و المبلية لأجسامكم، و إن كنتم تحبّون تجديدها، فإنّما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علما، فكأنّهم قد بلغوه، و كم عسى المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها، حتّى يبلغها، و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه ؟ و طالب حثيث يحدوه فى الدّنيا حتّى يفارقها؟ فلا تنافسوا فى عزّ الدّنيا و فخرها، و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها، و لا تجزعوا من ضرّائها و بؤسها، فإنّ عزّها و فخرها إلى انقطاع، و إنّ زينتها و نعيمها إلى زوال و ضرّاءها و بؤسها إلى نفاد، و كلّ مدّة فيها إلى انتهاء، و كلّ حيّ فيها إلى فناء، أ و ليس لكم فى آثار الأوّلين مزدجر، و فى آبائكم الأوّلين تبصرة و معتبر، إن كنتم تعقلون ؟ أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون ؟ و إلى الخلف الباقين لا يبقون ؟ أو لستم ترون أهل الدّنيا يصبحون و يمسون على أحوال شتّى: فميّت يبكى، و آخر يعزّى، و صريع مبتلى، و عائد يعود، و آخر بنفسه يجود، و طالب للدّنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه ؟؟!! و على أثر الماضى ما يمضى الباقى.
ص: 240
ألا فاذكروا هادم اللّذّات، و منغّص الشّهوات، و قاطع الأمنيّات، عند المساورة للأعمال القبيحة، و استعينوا اللّه على أداء واجب حقّه، و ما لا يحصى من أعداد نعمه و إحسانه.
أقول: خصّ الحمد بما كان لانّ الشكر على النعمة مترتّب على وقوعها، و الاستعانة بما يكون، لانّ طلب المعونة انّما هو فيما يتوقّع فعله، و لما كان للاديان سقما اشدّ من سقم الأبدان، و هو: مرض النفوس بداء الجهل، و رذائل سأل العافية فيها، و رفض الدنيا: تركها. و السفر: المسافرون. و فائدة كأن فى الموضعين تقريب الاحوال المستقبلة. من الاحوال الواقعه و كم عسى، و ما عسى، استفهام تحقير لما يرجى من البقاء فى الدنيا. و كنّى بالطالب:
الحثيث عن الموت، و استعار وصف الحدو لما يتوهّم من سوق اسباب الموت اليه. و ما فى قوله: ما يمضى: مصدريّة. و كنّى بهادم اللذّات: عن الموت. و المساورة: المواثبة. و انّما اتى بوزن المفاعلة باعتبار انّ الفعل القبيح، لا بد فيه من ممانع كواضع الشرع و العرف فيتوهّم فيه معنى المواثبة. و باقى الفصل ظاهر.
الحمد للّه النّاشر فى الخلق فضله، و الباسط فيهم بالجود يده. نحمده فى جميع أموره، و نستعينه على رعاية حقوقه، و نشهد أن لا إله غيره، و أنّ محمّدا عبده و رسوله:
أرسله بأمره صادعا، و بذكره ناطقا، فأدّى أمينا، و مضى رشيدا. و خلّف فينا راية الحقّ :
من تقدّمها مرق، و من تخلّف عنها زهق، و من لزمها لحق، دليلها مكيث الكلام، بطئ القيام، سريع إذا قام. فإذا أنتم ألنتم له رقابكم، و أشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به، فلبثتم بعده «مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ »، حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم، و يضمّ نشركم فلا تطمعوا فى غير مقبل، و لا تيأسوا من مدبر، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ إحدى قائمتيه، و تثبت الأخرى، و ترجعا حتّى تثبتا جميعا. ألا إنّ مثل آل محمّد، صلّى اللّه عليه و آله، كمثل نجوم السّماء: إذا خوى نجم طلع
ص: 241
نجم، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع، و أراكم ما كنتم تأملون.
اقول: لفظ اليد مجاز فى النعمة اطلاقا لاسم السبب على المسبّب. و اقتصّ فى الفصل ما يكون بعده من امر الائمة. و الصدع: الشّق، و ذلك انّه صلّى اللّه عليه و آله صدع بأمر اللّه، بيضة الشرك و شقّ عصا المشركين، و قطع ما اتّصل من كفرهم و دام من عقائدهم الباطلة. و روى بذكره ناطقا. و استعار لفظ الراية: لكتاب اللّه و سنّة رسوله. و اشار بتقدّمها: الى طرف الافراط من فضيلة الاستقامة عليها و بالتخلّف عنها الى طرف التفريط منها، و التقصير و كنّى بدليلها: عن نفسه اذ كان هو الهادى بالكتاب و السنّة الى سبيل اللّه، كما يهدى حامل الراية بها. و كنّى بكونه مكيث الكلام اى: بطيئه عن تأنّيه فى حركاته فى الامور الى حين تبيّن الرأى الأصلح، و بسرعة قيامه عن: مبادرته إلى الامر حين ظهور وجه المصلحة فيه و انتهازه الفرصة. و بالانة رقابكم(1) له عن: خضوعهم لطاعته. و باشارتهم اليه بالإصابع عن: اشتهاره فيهم و تعيّنه، و تعظيمهم له. و نبّه بقوله: فلبثتم بعده ما شاء اللّه: على انّهم يخلون عن امام يجمعهم مدّة، و اراد مدّة دولة بنى اميّة. و بقوله: حتى يطلع اللّه، الى قوله: نشركم: على انّه لا بدّ لهم بعد تلك المدّة من شخص يجمعهم و طلوعه: ظهوره، و تعيّنه للرياسة بعد اختفاء، فقيل: هو الامام المنتظر. و قيل: هو قيام بنى العباس بعد بنى اميّة. و قوله: فلا تطمعوا فى غير مقبل، اى: من يقبل على طلب هذا الامر ممن هو له، و اثر تركه الى الخلوة باللّه فلا تطمعوا فيه فانّ للّه به شغلا. و قيل:
اراد بغير المقبل من انحرف عن الدين بارتكاب منكر فانّه لا يجوز الطمع فى ان يكون امرا لكم. و روى: فلا تطعنوا فى عين مقبل اى: من اقبل عليكم من اهل البيت طالبا لهذا الامر و هو من اهله فكونوا معه. و كنّى بالطعن فى عينه: عن دفعه عمّا يريد. و قوله: و لا تيأسوا من مدبر، الى قوله:
تثبّتا جميعا: اى من ادبر عن طلب الخلافة من اهلها فلا تيأسوا من عوده الى الطلب، فعساه انّما ادبر لاختلال بعض الشرائط التي يتعيّن عليه معها القيام. و اشار بزوال احدى قائمتيه الى فقده لبعض الشرائط كعدم الناصر و نحوه. و بثبات الاخرى الى وجدانه لبعضها. و
ص: 242
بقوله، فيرجعا حتى تثبّتا الىّ بكامل شرائط قيامه. و اراد بآل محمد: الائمّة منهم، قالت الاماميّة: هم الاثنا عشر من اهل البيت عليهم السلام. و اشار الى وجه شبههم بالنجوم، بقوله: كلّما خوى نجم اى: سقط للمغيب، اى: كلّما خلا سيّد منهم قام بالأمر بعده سيّد. و الامامية يستدلّون بذلك بعد بيان عصمته عليه السلام، انّه لا يخلو زمان من ازمنة التكليف عن وجود قائم من اهل البيت عليهم السلام يهدى الى الحق، و الى طريق مستقيم. و قوله: فكأنّكم الى آخره: تنبيه على منة اللّه عليهم بامام منتظر يظهر فيصلح بوجوده احوالهم، و يتكامل به نعم اللّه لديهم.
(يشتمل على ذكر الملاحم...) الأوّل قبل كلّ أوّل، و الآخر بعد كلّ آخر، بأوّليّته وجب أن لا أوّل له و بآخريّته وجب أن لا آخر له، و أشهد «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان، و القلب اللّسان. أيّها النّاس، لا يجرمنّكم شقاقى، و لا يستهوينّكم عصيانى، و لا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّى، فو الّذى فلق الحبّة، و برأ النّسمة، إنّ الّذى أنبّئكم به عن النّبىّ ، صلّى اللّه عليه و آله، ما كذب المبلّغ، و لا جهل السّامع. و لكنّى أنظر إلى ضلّيل، قد نعق بالشّام، و فحص براياته، فى ضواحى كوفان. فإذا فغرت فاغرته، و اشتدّت شكميته، و ثقلت فى الأرض وطأته عضّت الفتنة أبناءها بأنيابها، و ماجت الحرب بأمواجها و بدا من الأيّام كلوحها، و من اللّيالى كدوحها، فإذا أينع زرعه، و قام على ينعه، و هدرت شقاشقه، و برقت بوارقه، عقدت رايات الفتن المعضلة و أقبلن كاللّيل المظلم، و البحر الملتطم، هذا، و كم يخرق الكوفة من قاصف، و يمرّ عليها من عاصف، و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون، و يحصد القائم، و يحطم المحصود.
اقول: لما كان معنى اوليّته كونه مبدأ لكل موجود، و معنى آخريته كونه غاية ينتهى
ص: 243
اليها كل شيء فى جميع احواله، علم من ذلك انّ لا اوّل له و لا آخر و الاّ لم يكن اوّلا و آخرا بالمعنيين المذكورين. و لا يجرمنّكم اى: لا يحق عليكم. و استهواه: اشتماله. و الضليل: كثير الضلال، قيل: هو اشارة الى السفيانى، و الدجّال. و قيل: اراد معاوية، فانّ مبدء دولته بالشام، و دعوته بها، و انتهت غاراته الى نواحى كوفان، و الانبار. و كوفان: اسم للكوفة. و الضواحى: النواحى البارزة. و فحص الطائر برجله الارض:
بحثها. فغر فوه: انفتح، هو كناية عن اقدامه و قوّة طمعه فى امر الناس. و اشتداد شكيمته:
قوّة بأسه و شدّته. و قيل: اراد عبد الملك بن مروان. و استعار وصف العضّ : للفتنة باعتبار شدّتها و لزومها الناس. و رشح بذكر الانياب و الكلوح: تكثر فى العبوس و هو مجاز فى الشدّة. و الكدح: فوق الخدش و كنى به: عن اذى الفتنة. و اينع الزرع: ادرك و استعار وصفه لتمام فعله، و لفظ الشقائق و البروق: بحركاته الهائلة و احواله المخوفة، و اراد انّ هذا الخارج اذا تمت فتنته اثارت فتنا كثيرة بعدها يكون فيها الهرج و المرج. و شبه تلك الفتن فى اقبالها: بالليل المظلم، باعتبار انّه لا يهتدى فيها للحق كما لا يهتدى فى الظلمة. و بالبحر الملتطم: باعتبار عظمها. و اشار الى ما يلحق الكوفة بسبب تلك الفتنة من الوقائع و الفتن. و استعار وصفى القاصف و العاصف: لما يمرّ بها من الشدائد كالريح، و قد وقع فيها وفق اخباره فتن كثيرة و وقائع جمة كفتنة الحجّاج و المختار. و اشار بالتفاف بعض القرون ببعض: الى اجتماعهم فى بطن الارض. و استعار لهم وصف الحصد و الحطم:
ملاحظة لشبههم بما يحصد من الزرع و يداس، و باللّه التوفيق.
و ذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين و الآخرين لنقاش الحساب، و جزاء الأعمال، خضوعا، قياما، قد ألجمهم العرق، و رجفت بهم الأرض، فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا، و لنفسه متّسعا.
ص: 244
اقول: الفصل اقتصاص لبعض أهوال يوم القيامة، و نقاش الحساب: الاستقصاء فيه. و الجمهم العرق: بلغ منهم الافواه، و هو كناية: عن غاية الشدّة.
منها:
فتن كقطع اللّيل المظلم، لا تقوم لها قائمة، و لا تردّ لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة: يحفزها قائدها، و يجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم، يجاهدهم فى سبيل اللّه قوم أذلّة عند المتكبّرين، فى الأرض مجهولون، و فى السّماء معروفون، فويل لك يا بصرة عند ذلك، من جيش من نقم اللّه لا رهج له، و لا حسّ ، و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر، و الجوع الأغبر.
اقول: انذر فى هذا الفصل بما سيقع بعده من الفتن و خص فتنة صاحب الزنج بالبصرة. و شبهها بقطع الليل المظلم فى كونها لا يهتدى فيها لوجه الخلاص منها. و كنى:
بكونها لا يقوم لها قائمة الى قوله: راية عن شدّتها، و اراد بقائدها: منشيها، و براكبها:
اعوانه فيها استعارة. و كذلك حفزها و هو: سوقها، و جهدها سرعتهم فيها: استعارة اوصاف الناقة المركوبة لغاية اشتد طلبها فى الفتن، و اهلها: الزنج و كلبهم: شرّهم. و قليل سلبهم: اذ لم يكونوا اهل حرب و عدّة و خيل. و وصف مقاتليهم بأوصاف المتّقين و يحتمل ان يريد بمجاهدتهم فى اللّه اخلاص همّهم فى دفعهم و هلاكهم، و ظاهر انّه لم يكن للريح رهج و هو: الغبار و لا حسّ اذ لم يكن له خيل و لا قعقعة لجم، و ظاهره انّهم من نقم اللّه للعصاة و ان عمّت الفتنة اذ قلّما يخص الفتنة بقوم كما قال تعالى:
«وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » (1) و الموت الأحمر كناية: عن القتل بالسيف، و قيل: ذلك اشارة الى الطّاعون. و وصف الجوع بالأغبر: لانّ اشدّ الجوع ما اغبّر معه الوجه و غيّر السحنة و قيل: لانّه يلصق صاحبة بالغبراء و واقعة الزنج مشهورة.
ص: 245
أنظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها، الصّادفين عنها، فإنّها و اللّه عمّا قليل تزيل الثّاوى السّاكن، و تفجع المترف الآمن، لا يرجع ما تولّى منها فأدبر، و لا يدرى ما هو آت منها فينتظر، سرورها مشوب بالحزن، و جلد الرّجال فيها إلى الضّعف و الوهن، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها، لقلّة ما يصحبكم منها. رحم اللّه امرا تفكّر فاعتبر، و اعتبر فأبصر، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن، و كأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل، و كلّ معدود منقض، و كلّ متوقّع آت، و كلّ آت قريب دان.
اقول: نظر الزاهدين فيها الصّارفين نظر الاحتقار لها و الاعراض عنها. و الثاوى:
المقيم بها. و الجلد: القوّة. و اللام فى قوله: لقلّة ما يصحبكم للتعليل، اى: لا يغرنّكم كثيرها لانّ الّذى يصحبكم من ذلك قليل كالكفن و نحوه، و الاعتبار ما يفيده الفكر الى ما هو الحق من وجوب ترك الدنيا، و العمل للآخرة. و الابصار: ما يلزم ذلك الانتقال من ادراك الحق و مشاهدته ببصر البصيرة. ثم افاد بالتشبيه الاوّل تقريب حال وجود متاع الدنيا من عدمه، و بالتشبيه الثاني تقريب حال عدم الاحوال الاخرويّة من وجودها، و نبّه على ذلك بقياس كامل من الشكل الاوّل، و هو قوله: كلّ متوقّع. الى آخره.
منها:
العالم من عرف قدره، و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره، و إنّ من أبغض الرّجال لعبدا و كله اللّه إلى نفسه! جائرا عن قصد السّبيل، سائرا بغير دليل، إن دعى إلى حرث الدّنيا عمل، و إن دعى إلى حرث الآخرة كسل! كأنّ ما عمل له واجب عليه، و كأنّ ما ونى فيه ساقط عنه.
اقول: حصر العالم فيمن عرف قدره لانّ ذلك يستلزم معرفته لنفسه، و نسبتها الى
ص: 246
العالم و مقدار مرتبته من خلق اللّه، و فى ذلك تمام العلم، و يلزم من ذلك انّ من لا يعرف قدره لا يكون عالما لانّ سلب اللازم يستلزم سلب الملزوم فيكون اذن جاهلا. و اشار الى قوله: ذلك الجهل، بقوله: و كفى، الى قوله: قدره: و اراد بالدليل ما هدى الى الحق من امام او كتاب و سنّة و ما عمل له هو الدنيا، و ما ونى فيه: حرث الآخرة. و الفصل واضح.
منها:
و ذلك زمن لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن نومة: إن شهد لم يعرف. و إن غاب لم يفتقد، أولئك مصابيح الهدى، و أعلام السّرى ليسوا بالمساييح، و لا المذاييع البذر، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته، و يكشف عنهم ضرّاء نقمته. أيّها النّاس، سيأتى عليكم زمان يكفا فيه الإسلام كما يكفا الإناء بما فيه! أيّها النّاس، إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم، و لم يعذكم من أن يبتليكم، و قد قال جلّ من قائل: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَ إِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ ».
اقول: ذلك اشارة الى زمان بنى اميّة و ما بعدها. و اولئك اشارة: الى كلّ مؤمن.
و روى نومة بسكون الواو و هو: الضعيف، و استعار لهم لفظ المساييح و الاعلام: لهدى الخلق بهم فى سبيل اللّه. و كفأت الاناء: كببته لوجهه، و استعار وصف الكفاء للاسلام باعتبار خروجه عن الانتفاع به، كما يقلب ما فى الاناء من ماء و غيره، و ذلك وجه الشبه و اعاذه اللّه تعالى عباده من الظلم فى قوله: «وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ»(1).
أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله، و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا، و لا يدّعى نبوّة و لا وحيا، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، و
ص: 247
يبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم يحسر الحسير و يقف الكسير، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته، إلاّ هالكا لا خير فيه، حتّى أراهم منجاتهم، و بوّأهم محلّتهم، فاستدارت رحاهم، و استقامت قناتهم، و ايم اللّه لقد كنت فى ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها، و استوثقت قيادها: ما ضعفت و لا جبنت، و لا خنت، و لا وهنت، و ايم اللّه لأبقرنّ الباطل، حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.
و قد تقدّم مختارها قال السيّد: قد تقدّم مختار هذه الخطبة الاّ انّنى وجدتها فى هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة او نقصان فأوجبت الحال إثباتها.
اقول: الحسير الذى اعيا فى طريقه. و قوله: يحسر، الى قوله: لا خير فيه: بعض مكارم اخلاق الرسول عليه السلام من الشّفقة على الخلق، و منجاتهم: هداهم بالاسلام الذى هو محلّ نجاتهم من عذاب اللّه. و محلّتهم: مقامهم من الدين و الملك. و بوّأهم:
اقامهم ذلك المقام. و أوصلهم: ايّاه. و الرّحا: القطعة من الارض تستدير و ترتفع على ما حولها، و استعار لفظها لحالهم باعتبار اجتماعهم و ارتفاعهم على غيرهم. و الضمير فى ساقتها: للعرب. و حذافيرها: جميعها. و استوثقت: انتظمت فى دخول الاسلام. و استعار لفظ البقر: لتفريق الباطل عن الحق، و تميّزه منه، و لفظ الخاصرة: ترشيحا للاستعارة، و باقى الفصل ظاهر مما مرّ.
حتّى بعث اللّه محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله، شهيدا، و بشيرا، و نذيرا، خير البريّة طفلا، و أنجبها كهلا، أطهر المطهّرين شيمة، و أمطر المستمطرين ديمة، فما احلولت لكم الدّنيا فى لذّتها، و لا تمكّنتم من رضاع أخلافها إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها، قلقا وضينها، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود، و حلالها بعيدا غير موجود، و صادفتموها، و اللّه، ظلاّ ممدودا إلى أجل معدود، فالأرض لكم شاغرة و أيديكم فيها
ص: 248
مبسوطة. و أيدى القادة عنكم مكفوفة، و سيوفكم عليهم مسلّطة و سيوفهم عنكم مقبوضة، ألا إنّ لكلّ دم ثائرا، و لكلّ حقّ طالبا، و إنّ الثّائر فى دمائنا كالحاكم فى حقّ نفسه، و هو اللّه الّذى لا يعجزه من طلب و لا يفوته من هرب. فأقسم باللّه يا بنى اميّة عمّا قليل لتعرفنّها فى أيدى غيركم و فى دار عدوّكم. ألا و إنّ أبصر الابصار ما نفذ فى الخير طرفه، ألا إنّ أسمع الاسماع ما وعى التّذكير و قبله. أيّها النّاس، استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متّعظ، و امتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر. عباد اللّه، لا تركنوا إلى جهالتكم، و لا تنقادوا إلى أهوائكم، فإنّ النّازل بهذا المنزل، نازل بشفا جرف هار، ينقل الرّدى على ظهره من موضع إلى موضع، لرأى يحدثه بعد رأى، يريد أن يلصق ما لا يلتصق، و يقرّب ما لا يتقارب، فاللّه اللّه، أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنّه ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه، إلاّ البلاغ فى الموعظة، و الاجتهاد فى النّصيحة، و الإحياء للسّنةّ ، و إقامة الحدود على مستحقّيها، و إصدار السّهمان على أهلها: فبادروا العلم من قبل تصويح نبته، و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستنار العلم من عند أهله و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنّما أمرتم بالنّهى بعد التّناهى.
اقول: الفصل غاية لكلام سبق فيه ذكر العرب و ما كانت عليه من سوء الحال.
و النجابة: الكرم. و الشيمة: الخلق، و استعار لفظ الديمة و هى المطر الّذى لا رعد له و لا برق: باعتبار غاية جوده صلّى اللّه عليه و آله، و كان اذا امسى آوى الى البيت فلا يجد فيه شيئا من ذهب او فضّة الاّ تصدّق به و لم يبت بيته شيء منه، و شيمة و ديمة: تمييز و احلولى: حلا، و الخطاب للعرب. و استعار لفظ الاخلاف جمع خلف و هو: حلمة ضرع الناقة لوجوه المطالب و المكاسب من الدنيا. و وصف الناقة: من جولان الخطام، و قلق الوضين و هو: حزام القتب باعتبار عدم صلاح الدنيا لعدم الرسول صلى اللّه عليه و آله و من يجرى الامور على سنن الحق. و وجه الشبه بالسدر المخضود: استحلال الحرام. و استعار لها لفظ الظّل: باعتبار كون ما ينتفع به منها فى معرض الزوال. و لفظ الشاغرة: باعتبار
ص: 249
خلوّها عن مدبّر، يقال: بقيت البلاد شاغرة برجلها اذا خلت عن مدبّرها. و قوله: و انّ الثائر، الى قوله: و هو اللّه: يريد انّ دمائهم - عليهم السلام - و دماء غيرهم ممن عصم دمه يجرى مجرى الحق للّه فى انّه لا بدّ من طلبه، و هو الحاكم المطلق فهو الثائر بها لنفسه كالحاكم بحقّ نفسه لها، و ذلك فى معرض الوعيد. و الضمير فى قول لتعرفنّها: للدنيا او للامرة. و استعار لفظ المصباح: لنفسه، و رشح بذكر الشعلة و وصف المتح: لاستفادة العلوم منه. و الماتح: جاذب الدلو من البئر، و لفظ العين له. و وصف ترويقها عن الكدر:
براءة نفسه القدسيّة عن شوائب شبه الباطل، و اشار بهذا المنزل الى مقام الركون الى الجهل و الانقياد للهوى.
و اصل هار، هائر اى: منهدم و اراد انّ البانى لأموره على جهالته فى معرض ان لا يتمّ عمله لكونه على غير اصل. و الرّدى: الهلاك، و اراد بنقله: من موضع الى آخر انّ المشير بالرأى عن جهل منه يشير على واحد بما يستلزم اذاه و هلاكه، ثم ينقل ذلك الرأى المهلك الى غيره، فيكون كناقل الهلاك من واحد الى آخر لرأى يحدثه بعد رأي. و قوله:
يريد، الى قوله: يتقارب، اى: يريد مثلا الصلح بين الناس كما كان يشير به بعض اصحابه ممن لا يرى الحرب بينه و بين معاوية مع مخالفة ذلك الصلح للحق، و كون الرأى به يستلزم تفرّق الكلمة فلا يلتصق بالحق و لا يليق به، و يقرب بذلك الرأى ما لا يتقارب من القلوب و الطباع، و من لا يشكي شجوهم اى: حزنهم كالمنافقين فلا يشير بما ينبغي.
و استعار لفظ تصويح النبت و هو: تنبيه لموته عليه السلام. و نبّه على انّهم سيشغلون عن العلم، و ما يستفاد منه اى: بالحوادث و الفتن بعده. و اكثر الفصل ظاهر، و باللّه التوفيق.
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده، و أعزّ أركانه على من غالبه فجعله أمنا لمن علقه، و سلما لمن دخله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و نورا لمن استضاء به، و فهما لمن عقل، و لبّا لمن تدبّر، و آية لمن توسّم، و تبصرة لمن
ص: 250
عزم، و عبرة لمن اتّعظ، و نجاة لمن صدّق، و ثقة لمن توكّل، و راحة لمن فوّض، و جنّة لمن صبر، فهو أبلج المناهج، و أوضح الولائج، مشرف المنار مشرق الجوادّ، مضيء المصابيح، كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة، متنافس السّبقة، شريف الفرسان:
التّصديق منهاجه، و الصّالحات مناره، و الموت غايته، و الدّنيا مضماره و القيامة حلبته، و الجنّة سبقته.
اقول: تسهيله لشرائع الاسلام جعلها واضحة للذكىّ و الغبى، و اعزاز اركانه: حمايتها فمن قصد هدمها، و استعار لفظ الأمن له: باعتبار سلامة داخله من عذاب اللّه. و لفظ السلم: باعتبار عدم اذاه. لمن دخله فهو كالمسالم له. و لفظ النور: باعتبار هدايته. و فهما اى: مفهوما او اطلق عليه لفظ الفهم مجازا اطلاقا لاسم المسبب على السبب، اذ هو سبب فهم من فهم عنه و عقل مقاصده و كذلك لفظ اللّب و هو: العقل، اذ كان تدبّره سببا لمراتب العقل. و الآية: العلامة. و التوسّم: التفّرس اى: من تفرّس الخير فى الاسلام كان علامة له عليه، و من عزم على امر كان فى الاسلام تبصرة و هداية الى كيفية فعله، و عبرة لمن اتّعظ اى: فيه معبر لذهن الخائف من اللّه اليه، و فيه الثقة باللّه للمتوكّلين عليه لقوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ »(1) و القرآن اصل الدين و الاسلام، و فيه الندب اى: تفويض الامور الى اللّه، و علم ما لم يعلم منها، و ترك التكليف بذلك و هو راحة و جنة لمن صبر اى: على العمل الصالح. و مناهج الاسلام: طرقه من الكتاب و السنة.
و الأبلج: الواضح المشرق. و الولائج: البواطن. و الاسرار و هى واضحة لمن تدبّرها، و جوادّه: طرقه. و استعار لفظ المنار و هى الاعلام و المصابيح: لأئمة الدين. و كنى باشرافها: عن علو قدرهم. و استعار لفظ المضمار: للدين باعتبار انّ النفوس تضمر فيه للسباق الى حضرة اللّه و ظاهر به كرم ذلك المضمار و شرفه، و غايته الوصول الى حضرة الربوبية. و ارفع منها: مرتبة. و استعار لفظ الحلبة للقيامة. و السبقة للجنة و متنافس السبقة اى سبقته مما تنافس فيها و فرسانه المؤمنون و الصّديقون. و قوله: التصديق منهاجه، الى آخره: تفسير للامور السابقة و اراد التصديق باللّه و بما جاء به الاسلام و اشتمل عليه. و باللّه التوفيق.
ص: 251
منها فى ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
حتّى أورى قبسا لقابس، و أنار علما لحابس، فهو امينك المأمون، و شهيدك يوم الدّين، و بعيثك نعمة، و رسولك بالحقّ رحمة. اللّهمّ اقسم له مقسما من عدلك، و اجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه، و أكرم لديك نزله، و شرّف عندك منزلته، و آته الوسيلة و أعطه السّناء و الفضيلة، و احشرنا فى زمرته غير خزايا، و لا نادمين، و لا ناكبين، و لا ناكثين، و لا ضالّين، و لا مضلّين، و لا مفتونين.
اقول: الفصل غاية من كلام مدح فيه الرسول صلى اللّه عليه و آله بجهاده، و اجتهاده فى اقامة الدين. و اورى: اشعل، و استعار لفظ القبس و هو الشعلة: لأنوار الدين التي تقتبسها قلوب المؤمنين. و الحابس: الواقف بالمكان. و استعار لفظ العلم: لدليل الهدى.
و انارته له ايضاحه ادلّة الهدى للواقفين فى حيرة الضلال و الجهل. و يحتمل ان يريد بالعلم: أئمه الدين، و انارته: تنوير قلوبهم باشراق نفسه القدسية بالعلوم، و الكمالات على مرابا نفوسهم. و المقسم: النصيب و مقتضى عدله تعالى ان يقسم لاشراف النفوس اشرف الكمالات و اعلى المراتب من حضرته. و بنائه ما شيّده من قواعد الاسلام، و اركانه و هو دعاء بظهوره على سائر الاديان. و الوسيلة: الاستعداد التامّ لكمال اعلى المراتب(1) و قيل: هى درجة عالية من درجات الجنة. و السناء: الرفعة. و الناكب: المنحرف عن الطريق.
و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلاّ اننا كررناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف.
و منها فى خطاب أصحابه:
و قد بلغتم من كرامة اللّه لكم منزلة تكرم بها إماؤكم، و يوصل بها جيرانكم و يعظّمكم من لافضل لكم عليه، و لا يد لكم عنده، و يهابكم من لا يخاف لكم سطوة، و لا لكم عليه إمرة، و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون و أنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون، و كانت أمور اللّه عليكم ترد، و عنكم تصدر، و إليكم ترجع، فمكّنتم الظّلمة من منزلتكم،
ص: 252
و ألقيتم إليهم أزمّتكم و أسلمتم أمور اللّه فى أيديهم، يعملون فى الشّبهات، و يسيرون فى الشّهوات و ايم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ كوكب لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم.
اقول: كرامة اللّه لهم بالاسلام. و قوله: و كانت امور اللّه، الى قوله نرجع، اى: انّكم كنتم اهل الاسلام و الحلّ و العقد فيه لانّهم المهاجرون و الانصار، و الظلمة و البغاة، و امور اللّه التي اسلمت فى ايديهم احوال العباد و البلاد و تسليمهم ذلك بترك جهادهم. و قوله:
و ايم اللّه، الى آخره: وعيد لهم بدولة بنى اميّة، و يحتمل ان يكون وعدا لبقية اصحابه، و ذرّيتهم بالظهور على بنى اميّة عند انتهاء دولتهم. و باللّه التوفيق.
و قد رأيت جولتكم، و انحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطّغام و أعراب أهل الشّام، و أنتم لهاميم العرب، و يآفيخ الشّرف، و أنف المقدم و السّنام الأعظم، و لقد شفى، و حاوح صدرى، أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم، و تزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم، حسّا بالنّضال و شجرا بالرّماح، تركب أولاهم أخراهم كالابل الهيم المطرودة، ترمى عن حياضها، و تذاد عن مواردها.
أقول: الطّغام: اراذل الناس. و اللهاميم جمع لهموم و هو: الجواد من الناس، و استعار لهم لفظ اليآفيخ، و اليافوخ اعلى الدماغ: اذ كانوا سادات العرب. و لفظ الأنف و السنام، و الوحاوح. جمع وحوحة و هى: صوت فيه بحح، يصدر عن المتألم كنى بها:
عمّا كان يجده من التألّم بسبب تعاجر اصحابه عن عدوّهم. و الحسّ : القطع. و الاستئصال و النضال: السيوف. و الشجر: الطعن. و الهيم: الابل العطشى. و تذاد: تساق، و تطرد.
ص: 253
الحمد للّه المتجلّى لخلقه بخلقه، و الظّاهر لقلوبهم بحجّته، خلق الخلق من غير رويّة، إذ كانت الرّويّات لا تليق إلاّ بذوى الضّمائر. و ليس بذى ضمير فى نفسه خرق علمه باطن غيب السّترات، و أحاط بغموض عقائد السّريرات.
اقول: تجليه لخلقه بخلقه يعود الى ظهوره فى بدائع مصنوعاته لقلوب عباده. و حجّته: آثار قدرته. و غيب السترات: ما غاب من الامور المحجوبة عن علوم الخلق.
منها فى ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
اختاره من شجرة الأنبياء، و مشكاة الضّياء، و ذؤابة العلياء، و سرّة البطحاء، و مصابيح الظّلمة، و ينابيع الحكمة.
اقول: استعار لفظ الشجرة لصنف الانبياء أو لآل ابراهيم عليه السلام، باعتبار فروعها و هى الانبياء، و ثمرها و هى العلوم و مكارم الاخلاق. و لفظ المشكاة: باعتبار سطوع ضياء النبوّة عنهم. و لفظ الذؤابة و هى ما تدلّى من الشعر و نحوه: باعتبار هبوط هذا الصنف و تدلّيهم من مقاوم العز و الشرف و هى حضائر القدس. و بطحاء: مكة بسيط واديها. و سرّة: الوادى اشرف موضع فيه. و استعار لفظ المصابيح: للانبياء لهداية الخلق بهم. و لفظ الينابيع: لتفجر العلوم و الحكمة عنهم.
و منها:
طبيب دوّار بطبّه: قد أحكم مراهمه، و أحمى مواسمه يضع من ذلك حيث الحاجة إليه: من قلوب عمى، و آذان صمّ ، و ألسنة بكم متّبع بدوائه مواضع الغفلة، و مواطن الحيرة، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة و لم يقدحوا بزناد العلوم الثّاقبة، فهم فى ذلك كالأنعام
ص: 254
السّائمة، و الصّخور القاسية، قد انجابت السّرائر لأهل البصائر، و وضحت محجّة الحقّ لخابطها و أسفرت السّاعة عن وجهها، و ظهرت العلامة لمتوسّمها. ما لى أراكم أشباحا بلا أرواح ؟ و أرواحا بلا أشباح، و نسّاكا بلا صلاح، و تجّارا بلا أرباح، و أيقاظا نوّما، و شهودا غيّبا، و ناظرة عمياء، و سامعة صمّاء، و ناطقة بكماء؟ رأيت ضلالة، قد قامت على قطبها، و تفرّقت بشعبها، تكيلكم بصاعها و تخبطكم بباعها، قائدها خارج عن المّلة، قائم على الضّلّة، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر، أو نفاضة كنفاضة العكم، تعر ككم، عرك الأديم، و تدوسكم دوس الحصيد، و تستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبّة البطينة، من بين هزيل الحبّ ، أين تذهب بكم المذاهب و تتيه بكم الغياهب، و تخدعكم الكواذب ؟ و من أين تؤتون و أنّى تؤفكون ؟ ف «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتٰابٌ »، و لكلّ غيبة إياب، فاستمعوا من ربّانيّكم و أحضروه قلوبكم، و استيقظوا إن هتف بكم، و ليصدق رائد أهله، و ليجمع شمله، و ليحضر ذهنه، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة، و قرفه قرف الصّمغة، فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، و ركب الجهل مراكبه، و عظمت الطّاغية، و قلّت الدّاعية، و صال الدّهر صيال السّبع العقور، و هدر فنيق الباطل بعد كظوم، و تواخى النّاس على الفجور و تهاجروا على الدّين، و تحابّوا على الكذب، و تباغضوا على الصّدق، فإذا كان ذلك كان الولد غيظا و المطر قيظا، و تفيض اللّئام فيضا، و تغيض الكرام غيضا، و كان أهل ذلك الزّمان ذئابا، و سلاطينه سباعا، و أوساطه أكّالا، و فقراؤه أمواتا، و غار الصّدق، و فاض الكذب، و استعملت المودّة باللّسان، و تشاجرت النّاس بالقلوب، و صار الفسوق نسبا، و العفاف عجبا، و لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا.
اقول: اراد بالطبيب نفسه فانّه طبيب مرضى الجهل و رذائل الاخلاق، و دورانه بطبه:
تعرّضه لعلاج الجهّال، و نصب نفسه لذلك، و استعار لفظ المراهم لما عنده من العلم و الحكمة. و لفظ المواسم و هى المكاوى: لما عنده من القوّة على اصلاح من لا ينفعه الموعظة، و من يحتاج الى الجلد و القطع و سائر الحدود، فهو كالطبيب الكامل يضع كل واحد من أدويته حيث الحاجة اليه من قلوب عمى يفتحها لفهم مراد اللّه، و من آذان صمّ :
يعدّها لسماع الموعظة، و تجوز بلفظ الصمم فى عدم انتفاعها بالموعظة اطلاقا لاسم السبب
ص: 255
على المسبب. و من ألسنة بكم: يطلقها بذكر اللّه، و استعار لها لفظ البكم: باعتبار عدم تكلّمها بما ينبغي، و مواضع الغفلة و الحيرة كناية: عن قلوب الجهّال. و استعار لفظ الزناد: للفكرة و وصف القدح: لاكتساب العلم به. و قوله: فهم فى ذلك اى: فى عدم استضاءتهم بأضواء الحكمة. و غفلتهم فى الدنيا: كالانعام السائمة، و كالصخور القاسية فى عدم انفعالهم عن المواعظ. و انجابت: انكشفت. و السرائر: ما يكون بعده من الحوادث. و ذو البصائر: نفسه عليه السلام، و اهل بيته، و يحتمل ان يريد بالسرائر:
اسرار الدين و منازل سبيل اللّه. و كذلك قوله: و وضحت محجة الحق لخابطها، و المحجة: الطريق القاصد. و كنى باسفار الساعة عن «بدوها بوقوع الفتن و قوّتها بعلاماتها المتفرّسة» و هى: الفتن. و كنى بكونهم اشباحا بلا ارواح عن: غفلتهم و عدم انتفاعهم بعقولهم فيما ينبغي من طاعة اللّه، و أرواحا بلا اشباح قيل: هو مع ما قبله فى معرض التنقيص لهم، فانّ فيهم من هو كروح بلا جسد فى قلة نهضته للحرب و الجهاد، و ذلك ككثير من زهّادهم، و معتزلىّ الحرب منهم كعبد اللّه بن عمر و غيره. و النسّاك بلا صلاح، كناية: عمن زهد منهم عن جهل او رياء. و تجّارا بلا ارباح لمعاملتهم للّه بالاعمال المدخولة التي لا ثواب فيها. و ايقاظا نوّما، اى: ايقاظ العيون نوم العقول و شهودا بأبدانهم، غيبا بعقولهم عن قبول انوار اللّه. و ناظرة اى: نفسا ناظرة تحسبها عمياء يعنى: بصيرتها. و كذلك سامعة صمّا: لفقدها قبول الموعظة. و ناطقة بكماء: عما ينبغي لها من القول. و روى عميا، و صمّا، و بكما: صفة للجميع اى: نفوسا لذلك. و قوله: راية ضلالة اى: هذه راية ضلالة و اراد ما قرب ظهوره من قيام دولة بنى اميّة، فهو الموجود المشار اليه. و كنى بقيامها على قطبها عن: اجتماع اهلها على من تدور عليه من الرؤساء. و تفرّقها بشعبها:
انتشارها فى الآفاق، و استعار لها وصف الليل: باعتبار اهلاكها لهم جزافا. و وصف الخبط: ملاحظة لشبهها بالناقة النفور، و قيامها على المضلة: وقوفها على طريق الضلال لاضلال الخلق و فتنتهم. و كنى بالثفالة: عمّن لا خير فيه من الاراذل. و العلم: العدل. و نفاضته: ما بقى فيه من اثر الزاد. و اراد انّه لا يبقى منهم يومئذ من يلتفت اليه ممن له شهرة، و استعار لفظ العرك: للفتن باعتبار ما ينزل بهم من بلائها. و وصف الدوس: باعتبار اهانتها لهم، و استخلاص المؤمن لايقاع المكروه به،
ص: 256
و الغياهب: ظلمات الجهل، و الكواذب: النفوس الامّارة الخادعة للانسان بالآمال الكاذبة. و اىّ بمعنى: متى، اى: متى تصرفون عما أنتم عليه من الغفلة. و الربّانى، العالم علم الربوبية و عين نفسه. و قوله: و ليصدق: رائد اهله مثل، و اصله: لا يكذب رائد اهله، و اراد: ان يبلغ كل من الحاضرين أهله و قبيلته ما سمع منه من الحكمة و الموعظة ليرجعوا الى طاعته، و ينتفعوا بعلمه كما يرجع طلب الكلاء و الماء الواجد له الى قومه، فيبشّرهم و يصدّقهم، و يحتمل ان يريد بالرائد: الفكر، و بأهله: النفس الانسانية فكأنه قال: فلتصدق افكاركم نفوسكم، اذ كان الفكر مبعوثا من قبل النفس فى طلب مرعاها، و ما حياتها من العلوم و الكمالات كالرائد لأهله و صدقه لها: تصرّفه على حسب العقل فيما يشير به دون مشاركة الهوى فانّه اذا أرسله النفس عن مشاركة الهوى كذّبها و دلاّها بغرور. و قوله: و ليجمع شمله، اى: ما تفرّق من خواطره و همومه فى امر الدنيا. و فلق الأمر: اوضحه. و شق ظلمة الجهل عن مصابيح اليقين. و خصّ فلق الخرزة:
لانّ فلقها لا يكاد يلتحم و يخفى. و قرفه قرف الصمغة: القى علمه اليهم بالكلية، يقال:
تركته على مثل مفرق الصمغة: اذا لم يترك له شيئا، لانّ الصمغة تقتلع من شجرتها حتى لا يبقى عليها علقة. و قوله: فعند ذلك متصل، بقوله: من بين هزيل الحب، و اخذ الباطل مأخذه:
استحكامه و استقراره فى مقارّه. و مراكب الجهل: حملته، و استعار له وصف الركوب:
ملاحظة له بالمستعد المغير. و الطاغية: الفئة الطاغية، و الداعية: رعاة الدين، و روى الداعية اى: الفرقة الداعية الى اللّه. و استعار لفظ الفينق هو: الفحل المكرّم. و وصف الهدير: لاستفحال الباطل و قوّته يومئذ. و لفظ الكظوم و هو امساك البعير عن الجرّة:
لضعف الباطل و سكون الفتن فى زمان العدل، و كون الولد غيظا اى: سببا لغيظ والده لنشأته على غير دين و ادب ناظم له، او لحاجته الى مؤنته التي يصعب فى زمن الجور. و كون المطر قيظا كناية عن: الجدب و استعداد الزمان للشرور، او المفسدة لحال الخلق بسبب الجور اذ المطر القيظىّ لا ينبت ما ينتفع به من الزرع، و مقتضى قسمته عليه السلام الناس أربعة اقسام: سلاطين، و اكابر، و اوساط، و فقراء. و استعار لفظ السباع:
للسلاطين. و لفظ الذئاب: للأكابر باعتبار تسلّطهم على من دونهم من اهل الحرفة
ص: 257
و المتجر. و اكّالا: جمع آكلة و لفظ الأموات: للفقراء باعتبار انقطاع مادّة الحياة عنهم و استيلاء الظلمة عليهم. و تشبيه لبس الاسلام بلبس الفرو كناية عن: النفاق و استعمال الاسلام فى الظاهر دون الباطن، بخلاف مراد عناية اللّه به كلبس الفرو، و باللّه التوفيق.
كلّ شيء خاضع له، و كلّ شيء قائم به: غنى كلّ فقير، و عزّ كلّ ذليل، و قوّة كلّ ضعيف، و مفزع كلّ ملهوف، و من تكلّم سمع نطقه، و من سكت علم سرّه، و من عاش فعليه رزقه، و من مات فإليه منقلبه، لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك، لم تخلق الخلق لوحشة، و لا استعملتهم لمنفعة، و لا يسبقك من طلبت، و لا يفلتك من أخذت، و لا ينقص سلطانك من عصاك، و لا يزيد فى ملكك من أطاعك، و لا يردّ أمرك من سخط قضاءك، و لا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك، كلّ سرّ عندك علانية، و كلّ غيب عندك شهادة، أنت الأبد لا أمد لك، و أنت المنتهى لا محيص عنك، و أنت الموعد لا منجى منك إلاّ إليك، بيدك ناصية كلّ دابّة، و إليك مصير كلّ نسمة، سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، و ما أصغر عظمه فى جنب قدرتك، و ما أهول ما نرى من ملكوتك، و ما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك، و ما أسبغ نعمك فى الدّنيا، و ما أصغرها فى نعيم الآخرة.
أقول: خشوع الاشياء له دخولها فيما يتوهّم من ذلّة الحاجة اليه، و قيامها به فى الوجود قيام المعلول بعلته. و الملهوف: المظلوم يستغيث. و سمعه تعالى: يعود الى علمه بالمسموعات. و قوله: فيخبر عنك اى: ارباب العيون اى: لم ترك ارباب العيون بعيونها، فحذف المضاف و قد مرّ تنزيهه تعالى عن الوحشة و المنفعة. و قوله: انت الأبد لا امد لك، اى: الدائم فلا غاية لك. و قيل: ذو الابد اى: ذو الدوام. و المحيص:
المعدّل، و باقى الفصل ظاهر.
ص: 258
منها:
من ملائكة أسكنتهم سمواتك، و رفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك، و أخوفهم لك، و أقربهم منك، لم يسكنوا الأصلاب، و لم يضمّنوا الأرحام، و لم يخلقوا من ماء مهين، و لم يشعبهم ريب المنون، و إنّهم - على مكانهم منك، و منزلتهم عندك، و استجماع أهوائهم فيك، و كثرة طاعتهم لك، و قلّة غفلتهم عن أمرك - لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك لحقروا أعمالهم، و لزروا على أنفسهم، و لعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، و لم يطيعوك حقّ طاعتك. سبحانك خالقا و معبودا: بحسن بلائك عند خلقك، خلقت دارا، و جعلت فيها مأدبة: مشربا، و مطعما، و أزواجا، و خدما، و قصورا، و أنهارا، و زروعا، و ثمارا، ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الدّاعى أجابوا، و لا فيما رغّبت إليه رغبوا، و لا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، و اصطلحوا على حبّها، و من عشق شيئا أعشى بصره، و أمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، و يسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشّهوات عقله، و أماتت الدّنيا قلبه، و ولهت عليها نفسه فهو عبد لها، و لمن فى يده شيء منها: حيثما زالت زال إليها، و حيثما أقبلت أقبل عليها، و لا يزدجر من اللّه بزاجر، و لا يتّعظ منه بواعظ، و هو يرى المأخوذين على الغرّة - حيث لا إقالة و لا رجعة - كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون، و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون، فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، و تغيّرت لها ألوانهم، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا، فحيل بين أحدهم و بين منطقه، و إنّه لبين أهله ينظر ببصره، و يسمع باذنه - على صحّة من عقله، و بقاء من لبّه - يفكّر فيم أفنى عمره، و فيم أذهب دهره، و يتذكّر أموالا جمعها: أغمض فى مطالبها، و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، و أشرف على فراقها: تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، و يتمتّعون بها، فيكون المهنا لغيره، و العبء على ظهره. و المرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعضّ يده، ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، و يتمنّى أنّ الّذى كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه! فلم يزل الموت يبالغ فى جسده حتّى خالط لسانه سمعه، فصار بين أهله لا ينطق
ص: 259
بلسانه، و لا يسمع بسمعه: يردّد طرفه بالنّظر فى وجوههم يرى حركات ألسنتهم. و لا يسمع رجع كلامهم. ثمّ ازداد الموت التياطا به فقبض بصره كما قبض سمعه، و خرجت الرّوح من جسده فصار جيفة بين أهله: قد أوحشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه، لا يسعد باكيا، و لا يجيب داعيا. ثمّ حملوه إلى محطّ فى الأرض، و أسلموه فيه إلى عمله، و انقطعوا عن زورته. حتّى إذا بلغ الكتاب أجله، و الأمر مقاديره، و ألحق آخر الخلق بأوّله، و جاء من أمر اللّه ما يريده: من تجديد خلقه، أماد السّماء و فطرها، و أرجّ الأرض و أرجفها، و قلع جبالها و نسفها، و دكّ بعضها بعضا من هيبة جلالته، و مخوف سطوته، و أخرج من فيها فجدّدهم على أخلاقهم، و جمعهم بعد تفرّقهم، ثمّ ميّزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال، و خبايا الأفعال، و جعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء، و انتقم من هؤلاء: فأمّا أهل طاعته فأثابهم بجواره و خلّدهم فى داره، حيث لا يظعن النزّال، و لا يتغيّر لهم الحال، و لا تنوبهم الأفزاع، و لا تنالهم الأسقام، و لا تعرض لهم الأخطار، و لا تشخصهم الأسفار، و أمّا أهل المعصية، فأنزلهم شرّ دار، و غلّ الأيدى إلى الأعناق و قرن النّواصى بالأقدام، و ألبسهم سرابيل القطران، و مقطّعات النّيران فى عذاب قد اشتدّ حرّه، و باب قد أطبق على أهله فى نار لها كلب و لجب و لهب ساطع، و قصيف هائل، لا يظعن مقيمها، و لا يفادى أسيرها، و لا تفصم كبولها، لا مدّة للدّار فتفنى، و لا أجل للقوم فيقضى.
اقول: انّما كانت الملائكة أعلم خلق اللّه به، لبراءة علومهم من منازعة النفس الامارة، و لقربهم من ابداع قدرته و كونهم اخوف لكونهم اعلم به. و ريب المنون: حادث الموت. و قوله: و انّهم، الى قوله: طاعتك: اشارة الى تنزيهه تعالى عن اطّلاع الملائكة على كنه معرفته، لانّ ذلك غير ممكن لأحد سواه كما مرّ بيانه. و الباء فى قوله بحسن بلائك قيل: انّها يتعلق بسبحانك اى: انزّهك بهذا الاعتبار. و خالقا و معبودا: حالان و يحتمل ان يتعلق بمعبود، و يحتمل ان يتعلق بخلقت. و استعار لفظ الدار للاسلام: باعتبار جمعه لأهله. و لفظ المأدبة و هى الطعام: يدعى اليه للجنة باعتبار جمعها للمشتهيات. و الداعى هو: الرسول صلى اللّه عليه و آله. و قد جمعها الخبر: انّ اللّه جعل الاسلام دارا
ص: 260
و الجنة مأدبة و الداعى اليها محمدا. و استعار لفظ الجيفة: للدنيا لاستقذار نفوس الاولياء لها. و وصف الافتضاح بأكلها: للاستهتار بافتنائها و الخروج به عن شعار الصالحين و طاعة اللّه. و وصف العشاء لما يعرض لأبصار بصائر اهلها من اغطية الجهل فيفسد نظرها فلا يبصر ما ينتفع به و لا تسمع ما يتعظ به. و وصف التخريق لتفريق افكاره فى تحصيل المشبّهات. و وصف الاماتّه: لاخراج قلبه عن الانتفاع به فى امر الآخرة فهو كالميت عنها. و ولهت عليها نفسه اى: حيرته محبة لها. و قوله: فغير موصوف ما نزل بهم اى:
لشدّته. و اغمض فى مطالبها تساهل فى وجوه اخذها، و لم يضبط دينه فيها. و مصرّحاتها: ما وضح منها. و المهنأ: المصدر من هنأ يهنأ. و العبأ: الثقل. و استعار وصف غلق الرهون: ملاحظة لعدم انفكاك نفسه من تبعاتها المشبه لغلق الرهن بما عليه من مال. و اصحر ظهر و انكشف. و رجع القول جوابه و ترديده. و الالتياط: الالتصاق. و المخط: كناية عن اللحد لانّه يخط ثم يحفر، و روى بالحاء المهملة. و محط القوم:
منزلهم. و بلوغ الكتاب أجله: انقضاء المدّة المضروبة لبقاء الخلق فى الدنيا أو فى لبرزخ. و المقطّعات: ثياب من نار. و الكلب: الشدّة. و اللجب: غلبة الاصوات. و القصيف الصوت الشديد. و الكبول: جمع كبل، و هو: القيد الضخم. و صفة القيامة و احوالها و غايتها فى غاية الوضوح، و باللّه التوفيق.
قد حقّر الدّنيا و صغّرها، و أهونها و هوّنها، و علم أنّ اللّه زواها عنه اختيارا، و بسطها لغيره احتقارا، فأعرض عنها بقلبه، و أمات ذكرها عن نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا، أو يرجو فيها مقاما، بلّغ عن ربّه معذرا، و نصح لأمّته منذرا، و دعا إلى الجنّة مبشّرا. نحن شجرة النّبوّة، و محطّ الرّسالة، و مختلف الملائكة، و معادن العلم، و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبّنا ينتظر الرّحمة، و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السّطوة.
أقول: روى: حقر الدنيا مخفّفا و مشددا، اى: زهد فيها او زهّد غيره فيها، و كذلك:
ص: 261
اهوانه بها، و تهوينه لها. و الرياش: اللباس و الزينة. و المعذر: الذى ابلى فى العذر فلا يلام بعده. و استعار لفظ الشجرة: لبنى هاشم، و كذلك لفظ المعادن و الينابيع و السطوة المنتظرة لعدوّهم، من اللّه تعالى. و الفصل واضح.
إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللّه، سبحانه، الإيمان به و برسوله و الجهاد فى سبيله فانّه ذروة الإسلام، و كلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، و إقام الصّلاة فإنّها الملّة، و إيتاء الزّكاة فإنّها فريضة واجبة، و صوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب، و حجّ البيت و اعتماره فإنّهما ينفيان الفقر و يرحضان الذّنب، و صلة الرّحم فإنّها مثراة فى المال، و منسأة فى الأجل و صدقة السّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة، و صدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء، و صنائع المعروف فإنّها تقى مصارع الهوان. أفيضوا فى ذكر اللّه فإنّه أحسن الذّكر، و ارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّه أصدق الوعد، و اقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى، و استنّوا بسنّته فإنّه أهدى السّنن، و تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، و تفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص، فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذى لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم.
أقول: اراد: انّ افضل الوسائل الى اللّه، الايمان الكامل، فالايمان باللّه و رسوله هو اصله، و باقى الفرائض و السنن كمالات له، و رغّب فى كل منهما بضمير صغراه، قوله:
فانّه كذا، و تقدير الكبرى فى الكلّ ، و كل ما كان كذلك فينبغى ان يفعل. و استعار لفظ الذروة: للجهّال لانّه اصل لقيام الدين فى الوجود، فكان اشرف و اعلى من غيره من سائر العبادات. و الفطرة: فطرة اللّه التي فطر الناس عليها من التعبّد له، و الاقرار بربوبيته.
و جعل الصلاة هى الملّة: مجازا تشريفا لانها اكثر اشتمالا على مقصود الملة فى جميع اجزائها، و هو: الالتفات الى اللّه تعالى و دوام ملاحظة عظمته.
ص: 262
قال الراوندى رحمه اللّه:(1) اراد بكون الزكاة فريضة: كونها سهما مقتطعا من المال وجوبا، و الاّ لما كان لتخصيصها بالفريضة من بين سائر الفرائض معنى. و خصّص صوم رمضان باستعارة لفظ الجنّة: لانّه اشد فى كسر النفس الامارة و قطع وسائل الشيطان التي هى الشهوات، و لذلك قال النّبى صلى اللّه عليه و آله: (انّ الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع). فكان الصوم على الخصوص اشدّ قمعا للشيطان من سائر العبادات فكان اقوى جنّة فى دفع ما يلزم بسببه من العقاب.
و رغّب فى الحجّ ، و العمرة، بفضيلتين: دنيوية و هى: كونهما ينفيان الفقر، و كان ذلك بسبب التجارة الحاصلة فى موسم الحجّ ، و قيام الاسواق بمكة حينئذ. و اخرويّة و هى: كونهما يرحضان الذنب اى: يغسلانه. و كون صلة الرحم مثراة للمال يفهم له شيئان: احدهما: انّ العناية الالهية قسّمت لكل حيّ قسطا من الرزق مدّ حياته فاذا اعدّت شخصا من الناس للقيام بأمر جماعة و كفّلته بامدادهم، وجب فى العناية افاضته ارزاقهم بحسب استعداده لذلك و هو معنى كونه مثراة للمال. الثاني، انّ صلة الرحم من الاخلاق الحميدة التي تستمال بها طباع الخلق و تستجلب عاطفتهم فيكون سببا لامداده و معونته من ذوى الامداد، و المعونات: كالملوك و غيرهم فكان مثراة. و امّا كونها منسأة فى الأجل فلانّها توجب تعاطف ذوى الارحام، و معاضدتهم لواصلهم، فيكون عن اذى الاعداء ابعد و ذلك مظنّة طول عمره و تأخيره، و لانّها توجب تعلّق همّهم ببقاءه و اصلهم و امداده بالدعاء الّذى قد يكون شرطا فى بقائه، فكانت صلتهم منساة. و المنسأة: محل النسا و هو: التأخير.
و كون صدقة السرّ تكفّر الخطيئة: لانّها ابعد عن الرياء، و اقرب الى رضى اللّه.
و تكفيرها: سترها. و كون صدقة العلانية تدفع ميتة السوء لاستلزامها الشهرة بفعل الخيرات، و الذكر الجميل، و محبّة المتصدّق، و ذلك يمنع غالبا من ميتات السوء كالقتل، و الحريق، و كل ما يكون بقصد الغير و فعله، لكان محبته و اشتهاره بفعل الجميل. و الافاضة فى ذكر اللّه: الاندفاع و كونه أحسن الحديث لقوله تعالى: «اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ »(2) الآية. و استعار لفظ الربيع: لما فيه من فنون العلم الّذى هو مسارح أبصار
ص: 263
البصائر لرياض الربيع. و شفاء للصدور: من امراض الجهل. و الحجّة على العالم اعظم:
لانّ العالمين ليس لهم ان يقولوا يوم القيامة «إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ »(1). و الحسرة له الزم:
لعلمه بما يفوته من الكمال بسبب التفريط، بخلاف الجاهل لجهله بما يفوته من ذلك، و هو عند اللّه ألوم: باعتبار انقطاع عذره يومئذ، و قوّته: جرأته على المخالفة عن علم(2).
أمّا بعد، فإنّى أحذّركم الدّنيا فإنّها حلوة خضرة، حفّت بالشّهوات، و تحبّبت بالعاجلة، و راقت بالقليل، و تحلّت بالآمال، و تزيّنت بالغرور، لاتدوم حبرتها، و لا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكّالة غوّالة، لا تعدو إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها، و الرّضاء بها، أن تكون كما قال اللّه سبحانه و تعالى: «كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً»(3) لم يكن امرؤ منها فى حبرة إلاّ أعقبتها عبرة، و لم يلق فى سرّائها بطنا، إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا، و لم تطلّه فيها ديمة رخاء، إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء، و حرىّ ، إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسى له متنكّرة و إن جانب منها اعذوذب، و احلولى أمرّ منها جانب فأوبى، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا، إلاّ أرهقته من نوائبها تعبا، و لا يمسى منها فى جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف، غرّارة غرور ما فيها فانية، فان من عليها لا خير فى شيء من أزوادها إلاّ التّقوى، من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه، و من استكثر منها استكثر ممّا يوبقه، و زال عمّا قليل عنه، كم من واثق بها فجعته، و ذى طمأنينة قد صرعته، و ذى أبّهة قد جعلته حقيرا، و ذى نخوة قدردّته ذليلا؟ سلطانها دول، و عيشها رنق، و عذبها أجاج، و حلوها صبر، و غذاؤها سمام، و أسبابها رمام، حيّها بعرض موت، و صحيحها بعرض سقم، ملكها مسلوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها منكوب و جارها محروب، ألستم فى مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، و أبقى آثارا، و أبعد آمالا،
ص: 264
و أعدّ عديدا، و أكثف جنودا: تعبّدوا للدّنيا أىّ تعبّد و آثروها أىّ إيثار، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ، و لا ظهر قاطع ؟؟!! فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة ؟ بل أرهقتهم بالفوادح، و أوهنتهم بالقوارع و ضعضعتهم بالنّوائب، و عفّرتهم للمتأخر، و وطئتهم بالمناسم، و أعانت عليهم ريب المنون، فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها، و آثرها، و أخلد لها حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد، و هل زوّدتهم إلاّ السّغب، أو أحلّتهم إلاّ الضّنك أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة، أو أعقبتهم إلاّ النّدامة ؟ أ فهده تؤثرون، أم إليها تطمئنون، أم عليها تحرصون ؟؟ فبئست الدّار لمن لم يتّهمها و لم يكن فيها على وجل منها، فاعلموا - و أنتم تعلمون - بأنّكم تاركوها، و ظاعنون عنها و اتّعظوا فيها بالّذين قالوا: «مَنْ أَشَدُّ مِنّٰا قُوَّةً » حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، و أنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا، و جعل لهم من الصّفيح أجنان و من التّراب أكفان، و من الرّفات جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعيا و لا يمنعون ضيما، و لا يبالون مندبة: إن جيدوا لم يفرحوا و إن قحطوا لم يقنطوا: جميع و هم آحاد و جيرة و هم أبعاد متدانون لا يتزاورون و قريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، و جهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم و لا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا، و بالسّعة ضيقا و بالأهل غربة، و بالنّور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة، و الدّار الباقية كما قال سبحانه: «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ »(1).
أقول: مدار(2) الفصل على ذمّ الدنيا، و التنفير عنها، بذكر معايبها، و ما يلزمها من غاية الموت. و استعار لها لفظ الحلوة الخضرة: باعتبار زينتها، و بهجتها، و خصّ متعلقى الذوق و البصر اعنى: الخضرة و الحلوة: لاكثريّة تأدية الحاستين المذكورتين، الى النفس الالتذاذ بواسطتهما دون سائر الحواسّ .
و راقت: أعجبت. و القليل: متاعها فى متاع الآخرة، و وجه زينتها بالغرور: انّ ما يعدّ فيها زينة و خيرا من متاعها انّما هو بسبب الغفلة عن عاقبة ذلك و ثمرته فى الآخرة.
و حبرتها: سرورها. و الحائلة: الزائلة. و بائدة: هالكة. و الغوّالة: التي تأخذ على غرّة.
ص: 265
و قوله: لا تعدوا، الى قوله مقتدرا، اى: غاية ما يحصل للراغبين منها، و ما بلغته امانيّهم ان يفنى و هو وجه التمثيل. و كنّى بالبطن و الظهر: عن اقبالها، و ادبارها عن المرء. و طلّته اى: بلته، و استعار لفظ الديمة: للرخاء، و لفظ المزنة: للبلاء. و هتنت: سالت و اراد:
انّ كل خير ناله المرء فيها فانّه غالب الأحوال يستعقب شرّا اكثر منه. و نبّه على ذلك بالطلّ ، و الهتن. و المتنكرة: المتغيّرة. و اعذوذب و احلولى: مبالغة فى العذوبة و الحلاوة.
و اوبى: امرض. و الغضارة: طيّب العيش. و ارهقه تعبا: كلّفه ايّاه. و نبّه باستعارة لفظ الجناح: للأمن. و لفظ القوادم: للخوف و اراد: انّه ما من آمن فيها الاّ و يستعقب خوفا اقوى منه و ما يؤمنه: هو الاعمال الصالحة. و ما يوبقه اى: يهلكه ففنياتها المهلكة بمحبّتها فى الآخرة. و الابهّة: العظمة، و النخوة: الكبر. و رنق: كدر. و استعار لفظ الاجاج و الصبر و السمام لعذبها، و حلوها، و عذابها، باعتبار ما يلزمها فى الآخرة من مرارة العقاب و سوء المذاق. و أسبابها: ما يتعلّق به المرء منها. و الرمام: البالية لانّها فى عدم بقائها كالبالية. و الموفور: ذو الوفور من المال. و المحروب: المسلوب ماله. و الظهر: المركوب.
و ارهقتهم: غشيتهم. و الفادح: الامر الشديد. و القارعة: الداهية. و ضعضعتهم: اذلّتهم.
و التعفير: الصاق الوجه بالعفر و هو التراب. و المنسم: خف البعير. و ريب المنون:
صروفها. و دان: اطاع. و اخلد الى كذا: لصق به و لزمه. و السغب: الجوع.
و قوله: او نّورت لهم الا الظلمة اى: ما نوّرت لهم، و لكن اوجبت لهم الظلمة و ذلك ما يكتسبه طالبوها من الجهل و ملكات السوء و من لم يتهمها هو المعتقد انّها مطلوبة لذاتها، و ذلك من الهالكين لغفلته عن حقيقتها. و بئست الدار له، و نعم الدار لمن اتّهمها فعمل فيها على وجل منها و علم بعاقبتها. و المندبة: النوح. و جيدوا: مطروا. و القنوط:
اليأس. و قوله: فجاءوها، الى آخره، اى: فكان مجيئهم اليها بالعود فيها كما فارقوها، و انفصلوا عنها بالخلق منها، و هو اشارة الى قوله تعالى: «مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ »(1).
ص: 266
هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفّى أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين فى بطن أمّه ؟ أ يلج عليه من بعض جوارحها، أم الرّوح أجابته بإذن ربّها؟ أم هو ساكن معه فى أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!!؟ أقول: هذا الفصل من خطبة ذكرها فى معرض تنزيه اللّه تعالى عن ادراك العقول البشرية. و وجه الاستدلال به: انّ الانسان عاجز عن وصف مخلوق مثله، كملك الموت، و عن معرفة كيفيّة تصرّفه فى قبض النفوس الانسانية، و كلّ من كان كذلك كان عن صفة آلهه الّذى هو ابعد الاشياء عنه مناسبة اعجز.
و أحذّركم الدّنيا، فإنّها منزل قلعة، و ليست بدار نجعة، قد تزيّنت بغرورها، و غرّت بزينتها، هانت على ربّها: فخلط حلالها بحرامها، و خيرها بشرّها، و حياتها بموتها، و حلوها بمرّها: لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه، و لم يضنّ بها على أعدائه، خيرها زهيد، و شرّها عتيد، و جمعها ينفد، و ملكها يسلب و عامرها يخرب، فما خير دار تنقض نقض البناء، و عمر يفنى فيها فناء الزّاد و مدّة تنقطع انقطاع السّير؟! اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم و اسألوه من أداء حقّه ما سألكم، و أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إنّ الزّاهدين فى الدّنيا تبكى قلوبهم و إن ضحكوا، و يشتدّ حزنهم و إن فرحوا، و يكثر مقتهم أنفسهم و إن اغتبطوا بما رزقوا، قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدّنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة و إنّما أنتم إخوان على دين اللّه: ما فرّق بينكم إلاّ خبث السّرائر، و سوء الضّمائر:
فلا توازرون، و لا تناصحون، و لا تبادلون، و لا توادّون!! ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا
ص: 267
تدركونه، و لا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه، و يقلقكم اليسير من الدّنيا يفوتكم حتّى يتبيّن ذلك فى وجوهكم و قلّة صبركم عمّا زوى منها عنكم ؟؟!! كأنّها دار مقامكم، و كأنّ متاعها باق عليكم!! و ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلاّ مخافة أن يستقبله بمثله، قد تصافيتم على رفض الآجل، و حبّ العاجل، و صار دين أحدكم لعقة على لسانه صنيع من قد فرغ من عمله و أحرز رضا سيّده! اقول: منزل قلعة، بالضّم اذا لم يصلح للاستيطان، و النجعة: بالضّم طلب الكلاء، و المراد بغرورها الاوّل: افتنانها و ملذاتّها مجازا، اطلاقا لاسم المسبّب على السبب.
و قوله: غرّت اى: استغفلت. و هوانها على ربّها: يعود الى عدم العناية بها بالذات، فلم تكن خيرا محضا. و معنى خلطه حلالها بحرامها: جمعه فيها بينهما. و استعار لفظ حلوها و مرّها: ل خيرها و شرّها. و العتيد: المهيّا. و قوله: من طلبتكم، اى: من جملة طلبتكم فى الدنيا. و قوله: و اسألوه، الى قوله: ما سألكم، اى: اسألوه الّذى سألكم ايّاه من اداء حقه بالاعانة(1) و التوفيق له. و اسماعه دعوة الموت: إذانهم اخطار نزوله بهم بالبال من سماع ذكره. و قلّة صبركم: عطف على وجوهكم. و اللعقة بالضمّ : اسم لما يأخذه الملعقة مما يلعق، و استعاره: للاقرار بالدين باللسان، و كنّى به: عن ضعفه و قلّته. و صنيع:
مصدر اى: يصنعون فى ترك الدين الصنيع المذكور.
الحمد للّه الواصل الحمد بالنّعم، و النّعم بالشّكر. نحمده على آلائه، كما نحمده على بلائه، و نستعينه على هذه النّفوس البطاء عمّا أمرت به، السّراع إلى ما نهيت عنه، و نستغفره ممّا أحاط به علمه و أحصاه كتابه: علم غير قاصر و كتاب غير مغادر. و نؤمن به إيمان من عاين الغيوب، و وقف على الموعود: إيمانا نفى إخلاصه الشّرك، و يقينه الشّكّ . و نشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، صلّى اللّه
ص: 268
عليه و آله و سلّم. شهادتين تصعدان القول، و ترفعان العمل: لا يخفّ ميزان توضعان فيه، و لا يثقل ميزان ترفعان عنه. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّتى هى الزّاد، و بها المعاد، زاد مبلّغ، و معاد منجح، دعا إليها أسمع داع، و وعاها خير واع، فأسمع داعيها، و فاز واعيها. عباد اللّه، إنّ تقوى اللّه حمت أولياء اللّه محارمه، و ألزمت قلوبهم مخافته حتّى أسهرت لياليهم، و أظمأت هواجرهم، فأخذوا الرّاحة بالنّصب و الرّىّ بالظّمأ، و استقربوا الأجل، فبادروا العمل، و كذّبوا الأمل، فلا حظوا الأجل. ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء و عناء، و غير و عبر: فمن الفناء أنّ الدّهر موتّر قوسه، لا تخطىء سهامه، و لا تؤسى جراحه، يرمى الحىّ بالموت و الصّحيح بالسّقم، و النّاجى بالعطب، آكل لا يشبع، و شارب لا ينقع و من العناء أنّ المرء يجمع مالا يأكل، و يبنى مالا يسكن، ثمّ يخرج إلى اللّه لا مالا حمل، و لا بناء نقل، و من غيرها أنّك ترى المرحوم مغبوطا، و المغبوط مرحوما، ليس ذلك إلاّ نعيما زلّ ، و بؤسا نزل، و من عبرها أنّ المرء يشرف على أمله، فيقطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، و لا مؤمّل يترك! فسبحان اللّه!! ما أغرّ سرورها، و أظمأريّها، و أضحى فيئها، لا جاء يردّ، و لا ماض يرتدّ! فسبحان اللّه!! ما أقرب الحىّ من الميّت للحاقه به، و أبعد الميّت من الحىّ لانقطاعه عنه. إنّه ليس شيء بشرّ من الشّرّ إلاّ عقابه، و ليس شيء بخير من الخير إلاّ ثوابه و كلّ شيء من الدّنيا سماعه أعظم من عيانه، و كلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السّماع، و من الغيب الخبر، و اعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا و زاد فى الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة و زاد فى الدّنيا، فكم من منقوص رابح و مزيد خاسر. إنّ الّذى أمرتم به أوسع من الّذى نهيتم عنه، و ما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر. و ما ضاق لما اتّسع، قد تكفّل لكم بالرّزق، و أمرتم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنّه، و اللّه، لقد اعترض الشّكّ و دخل اليقين، حتّى كأنّ الّذى ضمن لكم قد فرض عليكم، و كأنّ الّذى فرض عليكم قد وضع عنكم! فبادروا العمل، و خافوا بغتة الأجل، فانّه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرّزق، ما فات من الرّزق رجى غدا زيادته، و ما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته. الرّجاء مع الجائى، و اليأس مع الماضى (فَ «اِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ وَ لاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ»
ص: 269
«وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ».
اقول: وصله تعالى الحمد بالنعم: افاضتها على الشاكرين، بحسب استعدادهم لحمده و مقتضى وعده الكريم «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » (1)و وصله النعم بالشكر: افاضة صور الشكر على قلوب المنعم عليهم، و اعترافهم بالنعمة و تلك الافاضة نعمة اخرى من فضله و يحتمل ان يريد: انّه تعالى يصل نعمته على حامديه بشكره لهم «فَإِنَّ اَللّٰهَ شٰاكِرٌ عَلِيمٌ »(2).
و جعل الحمد على البلاء اصلا فى التشبيه: لانّ الابتلاء نعمة عظيمة و فى حق أولياء اللّه اقوى من النعم المشهورة، تنبيها و جذبا الى اللّه و كنىّ به: اللوح المحفوظ الّذى «وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا اَلْكِتٰابِ لاٰ يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً». و من عاين الغيوب اى: شاهد بعين يقينه الامور الغائبة، و كوشف بالموعود من احوال الآخرة، و تصعّدان القول الى محل القبول من حضرة العزّة لانّهما اصلان فى الإيمان. و اسمع داع: هو الرسول صلى اللّه عليه و آله اى:
اشدّهم اسماعا للخلق و تبليغا. و خير واع هو عليه السلام، و من سارع الى اجابة الداعى.
و نسبة السهر الى الليالى و الظماء الى الهواجر: مجاز به اقامة الظرف مقام المظروف المفعول به مبالغة كقولهم: نهاره صائم، و ليله قائم. و قوله: فأخذوا الى قوله: الظمأ، اى: استعدّوا بتعبهم فى الدنيا، و ظمائهم فيها لراحة الآخرة، والدين من رحيقها المختوم، و روى: فلاحظوا بالفاء و الاشبه الواو لترتب تكذيب الأمل على ملاحظة الأجل، دون العكس و الواو لا يفيد الترتّب، و يحتمل الفاء لافادة الملازمة بين تكذيب الأمل و ملاحظة الأجل، و ترتّب تصوّر كل منهما على تصور السابق منهما في الذهن. و لا توسى اى:
لا يمكن طبها و دوائها. و لا ينقع: لا يروى. و قوله: و من غيرها، الى قوله: تدلّ ، اى: انّك ترى المرحوم بها و هو الفقير العاجز قد استبدل بفقره غنى، و بذلّه عزّا، فصار مغبوطا بعد ان كان مرحوما، و تارة يرى العكس من ذلك و ليس ذلك الا نعيما زال عن المغبوط، و بؤسا بدل به: و هو معنى تغيّرها. و استعار لفظ الرّى: لكمال الالتذاذ بها، و لفظ الفىء:
ص: 270
للانتفاع بفيئاتها، و اذ ذلك اقوى صارف يستغفل العبد عن اللّه، فسرورها اقوى ما يغر صاحبه. و ريّها اعظم ما يظمأ به صاحبه من شراب الأبرار فى دار القرار، و فيها اشدّ ضحى للمستظلّ بها. و الضحى: البروز لحر الشمس.
و قوله: ليس شيء الى قوله: ثوابه، يريد الخير و الشر، المتصوّرين بالقياس الى شرور الدنيا و خيراتها، فانّها امور مستحقرة فى جنب عقاب اللّه و ثوابه، و يحتمل ان يريد الشر و الخير المطلقين للمبالغة، اذ يقال: هذا اشدّ من الشديد. و قوله: فليكفكم اى: من عيان الامور الاخرويّة سماعها، و من غيبها الخير عنها اذ لا يمكن الاطّلاع عليها فى هذا العالم، و ما نقص من الدنيا: كالزكاة، و العبادة البدنية الآخذين من المال و البدن، فانّه مستلزم لزيادة الدرجة فى الآخرة لمن قصدها به، و ما يقابل ذلك من الزيادة فى الدنيا مستلزم للغفلة عن الآخرة، و نقصان الحال فيها، و ما امرنا به و احلّ لنا اوسع من الّذى نهينا عنه و حرّم علينا، لانّ الحلال اقسام أربعة: و هى: الواجب، و المندوب، و المباح، و المكروه، و الحرام قسم واحد فقط، و اعترض الشك فيما اقول من ضمان الرزق و فرض العبادة. و قوله: الرجاء مع الجائى، اى: مع الرزق. و اليأس مع الماضى اى: من العمر.
اللّهمّ قد انصاحت جبالنا، و اغبرّت أرضنا، و هامت دوابّنا، و تحيّرت فى مرابضها، و عجّت عجيج الثكالى على أولادها، و ملّت التّردّد فى مراتعها، و الحنين إلى مواردها. اللّهمّ فارحم أنين الآنّة، و حنين الحانّة. اللّهمّ فارحم حيرتها فى مذاهبها و أنينها فى موالجها، اللّهمّ خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السّنين، و أخلفتنا مخايل الجود، فكنت الرّجاء للمبتئس و البلاغ للملتمس: ندعوك حين قنط الأنام، و منع الغمام، و هلك السّوام أن لا تؤاخذنا بأعمالنا، و لا تأخذنا بذنوبنا، و انشر علينا رحمتك بالسّحاب المنبعق، و الرّبيع المغدق، و النّبات المونق، سحّا وابلا، تحيى به ما قد مات و تردّ به ما قد فات. اللّهمّ سقيا منك، محيية، مروية، تامّة، عامّة، طيّبة، مباركة، هنيئة، مريعة، زاكيا
ص: 271
نبتها، ثامرا فرعها، ناضرا ورقها، تنعش بها الضّعيف من عبادك، و تحيى بها الميت من بلادك. اللّهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا، و تجرى بها و هادنا، و تخصب بها جنابنا، و تقبل بها ثمارنا، و تعيش بها مواشينا، و تندى بها أقاصينا، و تستعين بها ضواحينا، من بركاتك الواسعة، و عطاياك الجزيلة على بريّتك المرملة و وحشك المهملة، و أنزل علينا سماء مخضلة، مدرارا هاطلة، يدافع الودق منها الودق، و يحفز القطر منها القطر، غير خلّب برقها، و لا جهام عارضها و لا قزع ربابها، و لا شفّان ذهابها، حتّى يخصب لإمراعها المجدبون، و يحيا ببركتها المسنتون، فإنّك تنزل الغيث بعد ما قنطوا، و تنشر رحمتك و أنت الولىّ الحميد.
قال السيد - رحمه اللّه -! قوله عليه السلام «انصاحت جبالنا» أي تشققت من المحول. يقال: انصاح الثوب، اذا انشق. و يقال ايضا: انصاح النبت و صاح وصوّح اذا جفّ و يبس، و قوله «و هامت دوابنا» اي: عطشت، و الهيام: العطش، و قوله «حدابير السنين» جمع حدبار: و هي الناقة التي أنضاها السير فشبه السنة التي فشا فيها الجدب، قال ذو الرمه:
حدابير ما تنفكّ إلاّ مناخة *** على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
و قوله «و لا قزع ربابها»: القزع: القطع الصغار المتفرقه من السحاب، و قوله «و لا شفان ذهابها» فانّ تقديره: و لا ذات شفان ذهابها، و الشفان: الريح البارده، و الذهاب: الأمطار اللينه، فحذف «ذات» لعلم السامع به.
أقول: اعتكرت: اختلطت. و المخايل: جمع مخيلة: للسحابة التي ترجى المطر منها. و المبتئس: الحزين. و المنبعق و المنبعج: السحاب المنّصب بشدّة. و المغدق: كثير الماء، و يحتمل ان يريد بالربيع هنا: المطر. و السقيا: بالضم، الاسم من السقى.
و الخلّب: السحاب الّذى يكذّب الظّن. و المربع: المخصب. و النجاد: جمع نجد، للمرتفع من الارض. و الضواحى البارزة اى: اهل نواحينا. و المرمّلة: القليلة المطر.
و المخضلة: الرطبة. و الودق: القطر. و الجهام: المظلم الذى لاماء فيه. و المسنتون الّذين اصابتهم شدة السنة. و سحّا: مصدر او حال. و السماء المخضلة: المطر نفسه. و الفصل واضح.
ص: 272
أرسله داعيا إلى الحقّ ، و شاهدا على الخلق، فبلّغ رسالات ربّه، غير و ان و لا مقصّر، و جاهد فى اللّه أعداءه غير واهن و لا معذر، إمام من اتّقى و بصر من اهتدى.
أقول: الوهن: الضعف. و المعذّر: المقصّر فى عذره. و استعار له لفظ البصر: لهداية الخلق به.
منها:
لو تعلمون ما أعلم ممّا طوى عنكم غيبه اذا لخرجتم إلى الصّعدات، تبكون على أعمالكم، و تلتدمون على أنفسكم، و لتركتم أموالكم لا حارس لها، و لا خالف عليها، و لهمّت كلّ امرىء نفسه، لا يلتفت إلى غيرها، و لكنّكم نسيتم ما ذكّرتم، و أمنتم ما حذّرتم، فتاه عنكم رأيكم، و تشتّت عليكم أمركم، و لوددت أنّ اللّه فرّق بينى و بينكم، و ألحقنى بمن هو أحقّ بى منكم: قوم، و اللّه، ميامين الرّأى، مراجيح الحلم مقاويل بالحقّ ، متاريك للبغى، مضوا قدما على الطّريقة، و أو جفوا على المحجّة، فظفروا بالعقبى الدّائمة، و الكرامة الباردة، أما و اللّه ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذّيّال الميّال:
يأكل خضرتكم، و يذيب شحمتكم إيه أبا وذحة! قال السيد - رحمه اللّه -: أقول: الوذحه: الخنفساء، و هذا القول يومئ به الى الحجّاج، و له مع الوذحه حديث ليس هذا موضع ذكره.
أقول: ما طوى عنهم علم غيبه: هى الفتن المستقبلة. و قيل: الاحوال الاخرويّة.
و الصعدات: جمع صعيد، و هى: الطرق. و كنّى بذلك: عن قوّة جزعهم لو علموا ما سيقع.
و اللّدم ضرب الوجه و الصدر و نحوه. و نسيانهم ما ذكّروا اى: من آيات اللّه. و قوله: قوم:
تفسير لمن هو احقّ به منهم، و اراد: من درج من اصحابه رضى اللّه عنهم. و رأى ميمون:
مبارك. و قدما: بضمّ الدال اى: متقدّمين فى سبيل اللّه لم ينثنوا عنها. الوجيف: سير فيه سرعة. و المحجّة: طريق اللّه الواضحة. و العرب تصف الكرامة و النعمة: بالبرد. و غلام
ص: 273
ثقيف: هو الحجاج بن يوسف. من الاخلاف: قوم من ثقيف. و الذيّال: طويل الذيل يسحبه تبخترا. و كنى به: عن تكبره و كنى بخضرتهم: عن دنياهم. و ايه: كلمة من اسماء الأفعال لامر يستدعى بها الحديث او الفعل المعهود، و تنوّن فى الدارج، و اصل الوذحة: بفتح الذال، ما يتعلّق بذنب الشاة من بعرها، و استعار لفظها: للخنفساء. و امّا حديثه معها فروى: انّه كان يوما على سجادة له فدبّت اليه خنفساء، و كان يكرهها، فقال: نحّوها فانّها وذحة من وذوح الشيطان.
فلا أموال بذلتموها للّذى رزقها، و لا أنفس خاطرتم بها للّذى خلقها، تكرمون باللّه على عباده، و لا تكرمون اللّه فى عباده، فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، و انقطاعكم عن أوصل إخوانكم.
أقول: تكرمون باللّه: اى يعظمكم عباد اللّه بطاعته، و دخولكم فى دينه. و اصل اخوانهم: هى الدنيا. و روى: اصل اى: اقربهم اليه اصلا. و روى: اوصل. و الفصل ظاهر.
أنتم الأنصار على الحقّ ، و الاخوان فى الدّين، و الجنن يوم البأس و البطانة دون النّاس، بكم أضرب المدبر، و أرجو طاعة المقبل، فأعينونى بمناصحة خليّة من الغشّ ، سليمة من الرّيب، فو اللّه إنّى لأولى النّاس بالنّاس.
أقول: الجنّة ما استترت به من السلاح. و بطانة الرجل: خاصّته. و الريب: الشّك.
ص: 274
فقال عليه السّلام: ما بالكم أ مخرسون أنتم ؟ فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال عليه السلام:
ما بالكم لا سدّدتم لرشد، و لا هديتم لقصد؟ أ فى مثل هذا ينبغي لي أن أخرج ؟! إنّما يخرج فى مثل هذا رجل ممّن أرضاه من شجعانكم و ذوى بأسكم، و لا ينبغي لى أن أدع المصر، و الجند، و بيت المال، و جباية الأرض و القضاء بين المسلمين، و النّظر فى حقوق المطالبين، ثمّ أخرج فى كتيبة أتّبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح فى الجفير الفارغ. و إنّما أنا قطب الرّحى: تدور علىّ و أنا بمكانى، فإذا فارقتها استحار مدارها، و اضطرب ثفالها هذا - لعمر اللّه - الّرّأى السّوء!! و اللّه لو لا رجائى الشّهادة عند لقائى العدوّ لو قد حمّ لى لقاؤه، لقرّبت ركابى، ثمّ شخصت عنكم، فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال. إنّه لاغناء فى كثرة عددكم، مع قلّة اجتماع قلوبكم. لقد حملتكم على الطّريق الواضح الّتى لا يهلك عليها إلاّ هالك، من استقام فإلى الجنّة، و من زلّ فإلى النّار.
أقول: الحض: التحريض. و الكتيبة: الجيش. و القدح: السهم قبل ان يراش.
و الجفير: الكنانة اوسع منها، و استعار لنفسه: لفظ القطب باعتبار دوران رحى الاسلام عليه. و استحار: تردّد، و اضطرب. و ثفال الرحى: الجلد الّذى توضع عليه لحفظ الدقيق.
و حمّ : قدّر. و لقرّبت: جواب لو لا، و جواب لو: مقدرّ فيما قبلها.
تاللّه لقد علمت تبليغ الرّسالات، و إتمام العدات، و تمام الكلمات، و عندنا أهل البيت أبواب الحكم، و ضياء الأمر، ألا و إنّ شرائع الدّين واحدة، و سبله قاصدة، من أخذ بها لحق و غنم، و من وقف عنها ضلّ و ندم اعملوا ليوم تذخر له الذّخائر، و تبلى فيه
ص: 275
السّرائر، و من لا ينفعه حاضر لبّه فعازبه عنه أعجز، و غائبه أعوز، و اتّقوا نارا حرّها شديد، و قعرها بعيد، و حليتها حديد، و شرابها صديد. ألا و إنّ اللّسان الصّالح، يجعله اللّه للمرء فى النّاس، خير له من المال يورثه من لا يحمده.
اقول: علم تبليغ الرسالات: علمه بكيفيّة ادائها، بحسب كلّ فهم. و اتمام العدات اى: من اللّه تعالى لعباده الصالحين. و تمام الكلمات: تفسير كلام اللّه و تأويله. و ضياء الامر: بيان الامور المشبّهة فى الدين. استعار لفظ الشرائع و السبل: لقوانين الدين او لأئمته، لانّهم موارد الخلق، يغترفون منها فرات العلم و الحكمة واحدة، اى: من مقصدها و غايتها. و قاصدة لا جور فيها. و الذخائر: الأعمال الصالحة. و ابتلاء السرائر: اختبارها بالسؤال فى محفل القيامة. و من لا ينفعه حاضر لبّه، اى فى الحياة الدنيا. فعازبه اى:
حين الموت اعوز اى: اشدّ فوتا لمنفعته. و قوله: و حليتها حديد: كالسلاسل و الاغلال. و اللسان الصالح: هو الذكر الجميل بفعل الخير.
و قد قام إليه رجل من اصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أى الأمرين أرشد؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:
هذا جزاء من ترك العقدة! أما و اللّه لو أنّى حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الّذى يجعل اللّه فيه خيرا: فإن استقمتم هديتكم، و إن اعوججتم قوّمتكم، و إن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، و لكن بمن ؟ و إلى من ؟ أريد أن أداوى بكم و أنتم دائى، كناقش الشّوكة بالشّوكة، و هو يعلم أنّ ضلعها معها. اللّهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الدّاء الدّوىّ ، و كلّت النّزعة بأشطان الرّكىّ أين القوم الّذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه ؟ و قرءوا القرآن فأحكموه، و هيّجوا إلى القتال فولهوا و له اللّقاح إلى أولادها، و سلبوا السّيوف أغمادها و أخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا و صفّا صفّا؟ بعض هلك و بعض نجا! لا يبشّرون بالأحياء، و لا يعزّون بالموتى، مره العيون من البكاء،
ص: 276
خمص البطون، من الصّيام، ذبّل الشّفاه من الدّعاء، صفر الألوان من السّهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخوانى الذّاهبون، فحقّ لنا أن نظمأ إليهم، و نعضّ الأيدى على فراقهم. إنّ الشّيطان يسنّى لكم طرقه، و يريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة، و يعطيكم بالجماعة الفرقة، فاصدفوا عن نزغاته و نفثاته، و اقبلوا النّصيحة ممّن أهداها إليكم، و اعقلوها على أنفسكم.
أقول: كان عليه السلام انهاهم عن الحكومة حين طلبها اهل الشام، فلمّا غلبه عليها اكثر اصحابه، رجع اليها فبقيت الخوارج على انكارها، و قال له بعضهم: كنت نهيتنا، الى قوله: ارشد، فصفّق بأحدى يديه على الاخرى: فعل المغضب النادم. و العقدة: ما عقده و احكمه من الرأى فى البقاء على الحرب، و هى: المكروه الّذى لو حملهم عليه لجعل اللّه فيه الخير، و هو: الظفر و سلامة العاقبة و تقويمهم و تداركهم: بما يمكن كالضرب و القتل و نحوه. و قوله: لكانت الوثقى اى: الغفلة المحكمة و لكن بمن اى: بمن اغفل ذلك من الأعوان، و الى من ارجع فيه. و قوله: كناقش الشوكة إلى قوله: معها: كالمثل يضرب لمن يستعان به، و ميله مع المستعان عليه. و الضلع: بفتح الضاد و سكون اللام:
الميل، و اصله: انّ الشوكة لمّا تلتها اختها ربّما انكسرت فى عضو الانسان معها، فكانّه يقول: كيف استعين ببعضكم على بعض مع اتّحاد طباعكم و ميل بعضكم الى بعض. و استعار لفظ الداء الدّوى: لما يتمّ عليه من مخالفة امره. و لفظ الاطبّاء: لنفسه و اعوانه، و كذلك لفظ النزعة: و وجهها انّه ينتزع لهم وجوه الآراء الصالحة كما ينتزع المستقى الدلو من البئر. و الوله: اشد الحزن. و توليه اللقاح اولادها: تفرّقهم بينها كركوبها فى الجهال، و نصب اولادها بحذف الجار، اذ لا يتعدّى الفعل الى مفعولين بنفسه. و اغمادها: بدل من السيوف. و قوله: لا يبشّرون، الى قوله: القتلى: كناية عن شدّة تجدّدهم للجهاد حتى لا يعتنون بحياة حىّ منهم فيبشّرون به او يعزون عنه. و عين مارهة: اذا فسدت. و المرة: الجمع. و سنّى لكم: كذا حسّنه و سهّله. و عقد الدين: ما انحكم منه فى النفوس فاعتقد. و صدف على الأمر: أعرض عنه. و نزعات الشيطان: حركاته بالافساد بين الناس. و نفثاته، القاء وساوسه فى الصدور. و اعقلوها: احبسوها.
ص: 277
قاله للخوارج، و قد خرج إلى معسكرهم و هم مقيمون على إنكار الحكومة فقال عليه السلام: أ كلّكم شهد معنا صفّين ؟ فقالوا: منا من شهد و منا من لم يشهد، قال:
فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفّين فرقة، و من لم يشهدها فرقة، حتّى أكلّم كلاّ بكلامه، و نادى النّاس فقال: أمسكوا عن الكلام، و أنصتوا لقولى، و أقبلوا بأفئدتكم إلىّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها ثم كلمهم عليه السلام بكلام طويل منه:
أ لم تقولوا عند رفعهم المصاحف - حيلة و غيلة، و مكرا، و خديعة - إخواننا، و أهل دعوتنا: استقالونا، و استراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه، فالرّأى القبول منهم، و التّنفيس عنهم ؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان و باطنه عدوان، و أوّله رحمة، و آخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، و الزموا طريقتكم، و عضّوا على الجهاد بنواجذكم، و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضلّ ، و إن ترك ذلّ . و قد كانت هذه الفعلة، و قد رأيتكم أعطيتموها و اللّه لئن أبيتها ما وجبت علىّ فريضتها، و لا حمّلنى اللّه ذنبها، و و اللّه إن جئتها إنّى للمحقّ الّذى يتّبع، و إنّ الكتاب لمعى: ما فارقته مذ صحبته: فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنّ القتل ليدور على الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات فلا نزداد على كلّ مصيبة و شدّة إلاّ إيمانا، و مضيّا على الحقّ ، و تسليما للأمر، و صبرا على مضض الجراح، و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا فى الإسلام على ما دخل فيه من الزّيغ و الاعوجاج و الشّبهة و التّأويل، فإذا طمعنا فى خصلة يلمّ اللّه بها شعثنا، و نتدانى بها إلى البقيّة فيما بيننا، رغبنا فيها، و أمسكنا عمّا سواها.
أقول: ظاهره ايمان: لانّه اجتهاد فى الدين. و باطنه عدوان: اذا كان حيلة للظلم و الغلبة. و اوّله رحمة: منكم لهم، و آخره ندامة: منكم، عند تمام الحيلة عليكم. و شأنهم و طريقهم: ما كانوا عليه من الرأى فى الحرب. و العض عليه بالنواجذ: كناية عن لزومه. و الناعق: معاوية، و عمرو بن العاص. و قوله: و لكنّا، الى آخره، اى: انّا الآن لا نقاتل على ما كنا نقاتل عليه من الكفر فى اوّل الدين، و لكنا اصبحنا نقاتل على ما دخل
ص: 278
فيه من الزيغ و الشبهة بالتأويل، و غرضنا الاوّل هو قيام الدين. خصلة: ينتظم بها امره، و يجمع اللّه بها ما تفرّق من امر المسلمين، و يتقاربون بها الى ان يبقوا بينهم شيئا من الألفة و الاجتماع فى الحق، وجب ان يسارع اليها، و تلك الخصلة ما كان يرجوه من تمام الصلح، و رجوع الفئة الباغية الى الحق.
و أىّ امرىء منكم أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللّقاء، و رأى من أحد من إخوانه فشلا، فليذبّ عن أخيه، بفضل نجدته الّتى فضّل بها عليه، كما يذبّ عن نفسه. فلو شاء اللّه لجعله مثله. إنّ الموت طالب حثيث: لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب. إنّ أكرم الموت القتل، و الّذى نفس ابن أبى طالب بيده لألف ضربة بالسّيف أهون علىّ من ميتة على الفراش.
أقول: جأش القلب: روعته و اضطرابه، من الفزع. و رباطته: ثباته. و النجدة: فضيلة تحت الشجاعة. و رغّب فى الاقدام للحرب بضميرين: صغرى الاوّل، قوله: انّ الموت، الى قوله: الهارب، و تقدير كبراه، و كل ما كان كذلك فلا ينبغي الفرار منه، اذ لا فائدة فيه، و صغرى الثاني، قوله: انّ اكرم الموت الى آخره. تقدير الكبرى: و كل ما كان اكرم الموت الّذى لا بد منه فينبغى ان يموت الانسان عليه.
و كأنّى أنظر إليكم تكشّون كشيش الضّباب، لا تأخذون حقّا، و لا تمنعون ضيما! قد خلّيتم و الطّريق. فالنّجاة للمقتحم، و الهلكة للمتلوّم.
أقول: كشيش الضباب: صوت حكّ جلودها بعضها بالبعض، و كنى بذلك: عن
ص: 279
حالهم فى الازدحام فى الهزيمة. و الطريق: طريق الآخرة، و انتصب على المفعول معه. و النجاة للمقتحم، اى: لمقتحم الجهاد. و المتلوّم: المتوقّف عن سلوكها و اراد: الهلاك الاخروىّ .
فقدّموا الدّراع، و أخّروا الحاسر، و عضّوا على الأضراس، فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام، و التووا فى أطراف الرّماح، فإنّه أمور للأسنّة، و غضّوا الابصار فإنّه أربط للجأش، و أسكن للقلوب و أميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل، و رايتكم فلا تميلوها، و لا تخلّوها و لا تجعلوها إلاّ بأيدى شجعانكم، و المانعين الذّمار منكم، فإنّ الصّابرين على نزول الحقائق، هم الّذين يحفّون براياتهم، و يكتنفونها: حفافيها، و وراءها، و أمامها لا يتأخّرون عنها فيسلموها، و لا يتقدّمون عليها فيفردوها. أجزأ امرؤ قرنه، و آسى أخاه بنفسه، و لم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه و قرن أخيه. و ايم اللّه لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة، و أنتم لهاميم العرب، و السّنام الأعظم. إنّ فى الفرار موجدة اللّه، و الذّلّ اللاّزم، و العار الباقى، و إنّ الفارّ لغير مزيد فى عمره، و لا محجوز بينه و بين يومه. الرّائح إلى اللّه، كالظّمآن يرد الماء، الجنّة تحت أطراف العوالى، اليوم تبلى الأخبار، و اللّه لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللّهمّ فإن ردّوا الحقّ فافضض جماعتهم، و شتّت كلمتهم و أبسلهم بخطاياهم، إنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك يخرج منه النّسيم، و ضرب يفلق الهام، و يطيح العظام، و يندر السّواعد، و الأقدام، و حتّى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر، و يرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب، و حتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، و حتّى تدعق الخيول فى نواحر أرضهم، و بأعنان مساربهم و مسارحهم.
أقول: صدر الفصل تعليم كيفية الحرب، و نبّه على امر(1) صغراه. و قوله: فانّه، الى
ص: 280
تمام الكلام و قد سبق مثله و الحاسر: العارى من الدرع. و امور: اشدّ حركة و نفوذا. و المور: الحركة. و فائدة غضّ البصر: انّ مده الى العدو يوجب انفعالا عنه، و ربما خيف على البصر من بريق النصال و الاسنّة. و الذمار: ما يحميه الرجل. و الحقائق: كناية عن الامور الشديدة التي حقّ نزولها و وجب فى القدر. و حفافا الشي ء: جانباه. و قوله: أجزأ و آسى: خبران فى معنى الامر. و اللهاميم: الاشراف جمع لهوم. و الموجدة: الغضب. و كالظمآن: فى محل الرفع صفة لرائح اى: من يروح الى اللّه بهذه الصفة. و العوالى: جمع عالية للقناة. و الاخبار المبلوة: اخبار بواطن اهل الحرب يختبر بها و الضمير فى لقائهم لاهل الشام. و ابسلهم: اسلمهم للهلكة. و دراك، اى: متدارك. و المنسر: القطعة من الجيش. و الحلائب: جمع حلوبة اى: حتى يرموا بالكتائب فى الخيل يتبعها الأبل. و قيل: الحلائب جمع حلبة و هى: الخيل، يجمع للسباق و فى الحرب. و الخميس: الجيش. و الدعق: الدّق. و نواحر ارضهم: اواخرها و اقاصيها جمع نحيرة. و اعنان مساربهم: نواحى مراعيهم.
فى معنى الخوارج لما انكروا تحكيم الرجال و يذمّ فيه اصحابه قال عليه السلام إنّا لم نحكّم الرّجال، و إنّما حكّمنا القرآن، و هذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين، لا ينطق بلسان، و لا بدّ له من ترجمان، و إنّما ينطق عنه الرّجال. و لمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّى عن كتاب اللّه تعالى، و قد قال اللّه سبحانه: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ »(1) فردّه إلى اللّه: أن نحكم بكتابه، و ردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصّدق فى كتاب اللّه فنحن أحقّ النّاس به، و إن حكم بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنحن أولاهم به. و أمّا قولكم: لم جعلت بينكم و بينهم أجلا فى التّحكيم، فإنّما فعلت ذلك ليتبيّن
ص: 281
الجاهل، و يتثبّت العالم، و لعلّ اللّه أن يصلح فى هذه الهدنة أمر هذه الأمّة، و لا تؤخذ بأكظامها، فتعجل عن تبيّن الحقّ ، و تنقاد لأوّل الغىّ إنّ أفضل النّاس عند اللّه من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه - و إن نقصه و كرثه - من الباطل و إن جرّ إليه فائدة و زاده، أين يتاه بكم ؟ من أين أتيتم ؟ استعدّوا للمسير إلى قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه، و موزعين بالجور لا يعدلون به! جفاة عن الكتاب، نكّب عن الطّريق، ما أنتم بوثيقة يعلق بها، و لا زوافر عزّ يعتصم إليها، لبئس حشّاش نار الحرب أنتم أفّ لكم، لقد لقيت منكم برحا!! يوما أناديكم، و يوما أنا جيكم! فلا أحرار صدق عند النّداء، و لا إخوان ثقة عند النّجاء.
أقول: الفصل من اوّله، الى قوله: اولاهم به: جواب لما انكره الخوارج من موافقته عليه السلام على التحكيم. و قوله: ليتبيّن الجاهل، اى: طريق الحق، و الهدنة: الصلح. و الكظم: مجرى النفس و الاخذ به، كناية عن الاعجال و الاخذ بغتة. فانّه عليه السلام لو اخذهم بالقتال بغتة الجأهم الى لزوم ضلالهم من غير ترّو، و ذلك يخالف مقصود الشارع من جمع الخلق على الدين. و كرثه: حزنه و من الباطل: متعلّق باحبّ . و موزعين بكذا اى: مغرين به. و جفاة عن كتاب اللّه، تنبوا افهامهم عنه. و نكّب: بضمّ الكاف و سكونها جمع نكوب و هو كثير العدول عن الطريق. و الوثيقة ما يوثق به عند الشدائد. و زوافر الرجل: انصاره و عشيرته. و الحشاش: ما يحشّ به النار اى توقد. و الترح: الحزن. و روى: برحا اى: شدّة. و قوله: يوما، الى آخره، اى: يوما اناديكم للنصرة فى الدين، و يوما اسارّكم فيه بالنصيحة و المشورة بالرأى فلا احرار صدق عند النداء: اذ شأن الحرّ أن يخلص من وثاق اللائمة و التقصير: و لا اخوان يوثق بهم: فيما يسرّ اليهم و يلقى من النصيحة، اذ كانوا يفشون سرّه و لا يقبلون نصيحته.
لما عوتب على تصيّره الناس اسوة فى العطاء من غير تفضيل اولى السابقات و الشرف فقال:
أ تأمرونّى أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه ؟ و اللّه ما أطور به ما سمر سمير،
ص: 282
و ما أمّ نجم فى السّماء نجما، لو كان المال لى لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه! ألا و إنّ إعطاء المال فى غير حقّه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه فى الدّنيا و يضعه فى الآخرة، و يكرمه فى النّاس، و يهينه عند اللّه، و لم يضع امرؤ ماله فى غير حقّه و لا عند غير أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم، و كان لغيره ودّهم، فإن زلّت به النّعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين، و ألأم خليل.
أقول: التسوية: سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و لزمها ابو بكر، فلما فضّل من بعده، اعتاد كبار الامة ذلك، فلما ترك عليه السلام التفضيل، شقّ على القوم و ثارت اضغانهم. حتى كان من طلحة و الزبير و غيرهما ما كان من نكث البيعة، و الخلاف عليه. و النصر: نصر الناس له. و لا طور به اي: لا اقرّ به. و السمير: الدهر. يقال: لا افعله ما سمر سمير اى: الدهر كله، و كذلك لا افعله ما سمر بنا سمير، و هما: الليل و النهار. و التبذير، و الاسراف: رذيلة الافراط من فضيلة السخاء، و ظاهر انّ الرذائل سبب للاهانة عند اللّه فى الآخرة. و الضمير فى اهله: للمال. و بالحرىّ ان يمنعه اللّه شكرهم اذا عدل عنهم بما هم به احقّ و يلحقه خذلانهم. و قيل: اراد بالذين يمنعه اللّه شكرهم: الذين اعطاهم المال من غير اهله، و يلوح من سرّ ذلك: انّ اعطاء المال لغير أهله يكون امّا رغبة او رهبة للمعطى من دون اللّه، و نظر الآخذ الى تلك الجهة يمنعه عن الشكر، و يصرفه عن معاونة المعطى.
فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّى أخطأت و ضللت فلم تضلّلون عامّة أمّة محمّد، صلّى اللّه عليه و آله، بضلالى، و تأخذونهم بخطئى و تكفّرونهم بذنوبى ؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء و السّقم و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب، و قد علمتم أنّ رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، رجم الزّانى ثمّ صلّى عليه، ثمّ ورّثه أهله، و قتل القاتل و ورّث ميراثه أهله، و قطع السّارق و جلد الزّانى غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفىء، و نكحا
ص: 283
المسلمات فأخذهم رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، بذنوبهم، و أقام حقّ اللّه فيهم، و لم يمنعهم سهمهم من الإسلام، و لم يخرج أسماءهم من بين أهله، ثمّ أنتم شرار النّاس، و من رمى به الشّيطان مراميه، و ضرب به تيهه. و سيهلك فىّ صنفان: محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، و مبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، و خير النّاس فىّ حالا النّمط الأوسط فالزموه، و الزموا السّواد الأعظم، فإنّ يد اللّه على الجماعة. و إيّاكم و الفرقة فإنّ الشّاذّ من النّاس للشّيطان، كما أنّ الشّاذّ من الغنم للذّئب! ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه، و لو كان تحت عمامتى هذه. و إنّما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن، و يميتا ما أمات القرآن، و إحياؤه إلاجتماع عليه، و إماتته الإفتراق عنه: فان جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم و إن جرّهم إلينا اتّبعونا، فلم آت - لا أبا لكم - بجرا، و لا ختلتكم عن أمركم، و لا لبّسته عليكم، إنّما اجتمع رأى ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا يتعدّ يا القرآن فتاها عنه، و تركا الحقّ و هما يبصرانه، و كان الجور هواهما فمضيا عليه، و قد سبق استثناؤنا عليهما - فى الحكومة بالعدل، و الصّمد للحقّ - سوء رأيهما و جور حكمهما.
أقول: كانت الخوارج تقول: انّه عليه السلام: ضلّ و اخطأ فى التحكيم، و كل مخطئ كافر، و كانوا يقتلون حين اعتزالهم عنه من خالف اعتقادهم، فبيّن عليه السلام كذب رأيهم: بانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لم يخرج احدا من الاسلام بذنب ارتكبه، بل كان يجزيه على احكام المسلمين، و يؤاخذه بما فعل. و الضمير فى قوله: و نكحا:
يرجع الى السارق، و الزانى. و فى قوله: فأخذهم: راجع الى كل من جرى ذكره من المذنبين. و الضمير فى اهله: يرجع الى الاسلام، و مرامى الشيطان: الخطايا و المعاصى. و تيهه: حيث لا يهتدى الضالّ لوجه الحق و الغلو فى حبه: طرف الافراط من فضيلة محبته كما عليه الغلاة، و فى بغضه: تفريط كما عليه الخوارج، و كلاهما رذيلتان يستلزمان الكفر و الهلاك الاخروى، و النمط الاوسط: اهل فضيلة العدل فى محبته، و فى الحديث (خير هذه الامّة النمط الأوسط يلحق بهم التالى، و يرجع اليهم الغالى)(1)
ص: 284
و السواد الأعظم جمهور المسلمين المتفقين على عمود الاسلام، المتمسكين بسنّة اللّه. و استعار لفظ اليد: لعناية اللّه. و الشعار: شعار الخوارج من مفارقتهم الجماعة و ما ارتكبوه من البدعة.
و قوله: و لو كان تحت عمامتى هذه، قيل: اراد و لو كنت انا ذاك. و قيل: انّه مبالغة فى صفة من كان بغاية القرب منه و العناية به. و البجر: الشر و الامر العظيم. و الختل:
الخديعة. و الصمد: القصد. و سوء رايهما: مفعول به لما لسبق.
يا أحنف، كأنّى به و قد سار بالجيش الّذى لا يكون له غبار و لا لجب، و لا قعقعة لجم، و لا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام. يومئ بذلك إلى صاحب الزنج. ثم قال عليه السلام: ويل لسكككم العامرة، و الدّور المزخرفة الّتى لها أجنحة كأجنحة النّسور و خراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم، و لا يفتقد غائبهم ؟ أنا كابّ الدّنيا لوجهها، و قادرها بقدرها، و ناظرها بعينها.
أقول: الملحمة: الواقعة العظيمة، الفتنة. و الاشارة فى ذلك: الى صاحب الزنج، و فتنته بالبصرة مشهورة، و الجيش بالصفة المذكورة هم: الزنج، لانّهم لم يكونوا اصحاب خيل. و اللجب: الصوت الهائل، و شبّه اقدامهم: بأقدام النعام باعتبار عرض صدورها، و تفرّق اصابعها و قصرها. و السكة: المحلة، و استعار لفظ الاجنحة: للقطانيّات(1)، و الخراطيم: للمياذيب من الخشب و الخوص المقيّرة. و قوله: لا يندب، الى قوله: غائبهم، قيل: اراد: انّهم لا ينالون بالموت و القتل لشدّة بأسهم، و شبه ان يكون ذلك، لانّهم غرباء مجتمعون لا اهل لأحدهم يبكيه و يفتقده. و قوله: انا كابّ الدنيا، الى آخره، كناية: عن زهده فيها عن علم بها و بقدرها و ما خلقت له، يقال: كببت فلانا لوجهه اذا لم يلتفت
ص: 285
اليه. و قدرها: منزلتها فى أعين المعتبرين التي وضعها اللّه عليه. و عينها: هى العين التي ينبغي ان يعتبر بها و هى عين البصرة.
كأنّى أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة، يلبسون السّرق و الدّيباج، و يعتقبون الخيل العتاق، و يكون هناك استحرار قتل حتّى يمشى المجروح على المقتول، و يكون المفلت أقلّ من المأسور. فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السلام، و قال للرجل و كان كلبيا:
يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب و إنّما هو تعلّم من ذى علم! و إنّما علم الغيب علم السّاعة، و ما عدّده اللّه بقوله: «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ »(1) الآية فيعلم سبحانه ما فى الارحام:
من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخىّ أو بخيل، و شقىّ أو سعيد، و من يكون فى النّار حطبا أو فى الجنان للنّبيّين مرافقا، فهذا علم الغيب الّذى لا يعلمه أحد إلاّ اللّه، و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه، و دعا لى بأن يعيه صدرى(2)، و تضطمّ عليه جوانحى.
اقول: المجان: جمع مجن، و هى: الترس. و المطرقة: بضم الميم و تخفيف الراء و فتحها، التي اطرقت بالجلود و العصب اى: البست. و السرق: شقق الحرير، واحدتها سرقة. و يعتقبون الخيل اى: يحتبسونها و يرتبطونها. و العتق: الجمال، و فرس عتيق:
رائع. و استحّر القتل: اشتدّ. و شبه وجوهم بالمجان: باعتبار اتّساعها و استدارتها، و وصف كونها مطرقة: باعتبار غلظتها، و كثرة لحمها. و نبّه عليه السلام، على الفرق بين علم الغيب و غيره، بما يعود خلاصته الى انّ ما كان بواسطة معلم و مفيد فليس بعلم غيب، و ما كان دون واسطة فهو علم غيب.
ص: 286
عباد اللّه، إنّكم و ما تأملون فى هذه الدّنيا أثوياء مؤجّلون، و مدينون مقتضون، أجل منقوص، و عمل محفوظ، فربّ دائب مضيّع، و ربّ كادح خاسر. و قد أصبحتم فى زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدبارا، و الشّرّ فيه إلاّ إقبالا، و الشّيطان فى هلاك النّاس إلاّ طمعا. فهذا أوان قويت عدّته و عمّت مكيدته، و أمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من النّاس: هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا، أو بخيلا اتّخذ البخل بحقّ اللّه وفرا، أو متمرّدا كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ و قرا؟ أين خياركم و صلحاؤكم ؟ و أحراركم و سمحاؤكم ؟ و أين المتورّعون فى مكاسبهم ؟ و المتنزّهون فى مذاهبهم ؟ أ ليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدّنيا الدّنيّة و العاجلة المنغّصة ؟ و هل خلقتم إلاّ فى حثالة، لا تلتقى بذمّهم الشّفتان استصغارا لقدرهم، و ذهابا عن ذكرهم، ف «إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ »:
ظهر الفساد فلا منكر مغيّر، و لا زاجر مزدجر! أ فبهذا تريدون أن تحاوروا اللّه فى دار قدسه ؟ و تكونوا أعزّ أوليائه عنده ؟! هيهات! لا يخدع اللّه عن جنّته و لا تنال مرضاته إلاّ بطاعته. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التّاركين له، و النّاهين عن المنكر العاملين به.
اقول: أثوياء: جمع ثوىّ و هو: الضيف. و مدينون: عليهم دين و اراد كونهم مكلّفين بأمور تقتضى منهم و تطلب و هى: اوامر اللّه. و نبّه بقوله: فربّ دائب اى: مجدّ فى العمل مطيع على اقليّة اهل طاعة اللّه و ان كثر عملهم. و روى: مضيع، و معناه: انّ العامل قد يدأب فى عمله لله لكنه يكون مضيعا لعمله، لجهله بكيفية ايقاعه و اتيانه به على غير وجه المرضى، و كذلك قوله: و ربّ كادح خاسر، و الكدح: العمل. و استعار لفظ الفريسة للانسان: باعتبار استيلاء الشيطان عليه و اهلاكه له. و قوله: اضرب بطرفك الى قوله: وقرا، شرح لانواع الشر و ازدياد اقباله. و الوفر: المال. و المتمرّد: الخارج عن الطاعة. و الوقر: الصّمم. و الحثالة: الثفل و الردىّ من الشيء. و استعار لفظه لأهل الزمان. و باقى الفصل واضح.
ص: 287
يا أباذرّ، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له. انّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فاترك فى أيديهم ما خافوك عليه، و اهرب بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و ما أغناك عمّا منعوك! و ستعلم من الرّابح غدا، و الأكثر حسّدا؟؟! و لو أنّ السّموات و الأرض كانتا على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا، لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ و لا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمنوك.
اقول: الرّبذة: موضع قريب من المدينة و المخرج لأبى ذر: هو عثمان. قيل: لانّه كان يغلظ له فى القول، و ينكر عليه ما كان يراه منكرا من افعاله و ينفرّ عنه، و اراد: ما خافوك عليه، و استغنى بالثانى عنه. و «ما» فى قوله: ما منعتهم: مصدرية، و يحتمل ان يريد: ما منعتهم بخروجك عنهم من دينك، و انكارك للمنكر، و ما منعوه عنه: هو دنياهم. و الرتق: ضد الفتق، و هو كناية: عن شدّة الضيق. و القرض: كناية عن الأخذ منهم و قبول عطاياهم.
أيّتها النّفوس المختلفة، و القلوب المتشتّتة، الشّاهدة أبدانهم، و الغائبة عنهم عقولهم! أظأركم على الحقّ ، و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوة الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار العدل، أو أقيم اعوجاج الحقّ . اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذى كان منّا منافسة فى سلطان، و لا التماس شيء من فضول الحطام، و لكن لنردّ المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح فى بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، و تقام المعطّلة من حدودك.
ص: 288
اللّهمّ إنّى أوّل من أناب و سمع و أجاب: لم يسبقني إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بالصّلاة. و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالى على الفروج، و الدّماء، و المغانم و الأحكام، و إمامة المسلمين البخيل، فتكون فى أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافى فيقطعهم بجفائه، و لا الخائف للدّول، فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشى فى الحكم فيذهب بالحقوق، و يقف بها دون المقاطع، و لا المعطّل للسّنّة فيهلك الأمّة.
أقول: المختلفة: مختلفة الآراء. و أظأركم: اعطفكم. وعوعة الاسد: صوته. و سرار العدل: ما خفى منه. و حمله: الليلة و الليلتان تكون فى آخر الشهر يستتر فيها القمر، و اراد: انّه بعد ان اظهر بكم العدل لتخاذلكم و تفرّق اهوائكم، و الّذى كان منه عليه السلام هو الحرب و المقاومة فى امر الخلافة. و المعالم: جمع معلم و هو: المنار ينصب فى الطريق للهداية، و استعاره لقوانين الدين و انواره. و أناب: رجع الى اللّه، و سمع للّه و اجاب داعيه، لانّه عليه السلام اوّل الناس دخولا فى طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و قوله: و قد علمتم، الى آخره: اشارة الى تمييز الإمام بفضائل يجب ان تكون فيه، و الى رذائل تنافى الامامة، و برذيلة الجهل و خوف الدول و تعطيل السنة خرج معاوية عن الصلاحيّة لها. و بالبخل: خرج الزبير. و نهمته: حرصه على الدنيا. و بالجفا: خرج طلحة، و اللّه اعلم.
نحمده على ما أخذ و أعطى، و على ما أبلى و ابتلى، الباطن لكلّ خفيّة، و الحاضر لكلّ سريرة، العالم بما تكنّ الصّدور، و ما تخون العيون، و نشهد أن لا إله غيره، و أنّ محمّدا نجيبه و بعيثه، شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان و القلب اللّسان.
أقول: أبلى و ابتلى: اختبر، و بطن الامر: خبر باطنه. و خائنة الأعين: نظرها
ص: 289
الحرام. و كنى بموافقة سرّ الشهادة: لأعلانها عن اخلاصها.
و منها:
فإنّه و اللّه الجّد لا اللّعب، و الحقّ لا الكذب، و ما هو إلاّ الموت قد أسمع داعيه، و أعجل حاديه، فلا يغرّنّك سواد النّاس من نفسك فقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال، و حذر الإقلال، و أمن العواقب، طول أمل، و استبعاد أجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه، و أخذه من مأمنه و محمولا على أعواد المنايا، يتعاطى به الرّجال الرّجال حملا على المناكب، و إمساكا بالأنامل، أما رأيتم الّذين يؤمّلون بعيدا، و يبنون مشيدا، و يجمعون كثيرا، كيف أصبحت بيوتهم قبورا، و ما جمعوا بورا، و صارت أموالهم للوارثين، و أزواجهم لقوم آخرين، لا فى حسنة يزيدون، و لا من سيّئة يستعتبون ؟! فمن أشعر التّقوى قلبه برّز مهله، و فاز عمله، فاهتبلوا هبلها، و اعملوا للجنّة عملها، فإنّ الدّنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازا لتزوّدوا منها الاعمال إلى دار القرار، فكونوا منها على أوفاز، و قرّبوا الظّهور للزّيال.
أقول: الضمير فى انّه للشأن، و يحتمل أن يعود الى المعنى بالتحذير منه و الانذار به، و هو: الموت، و لذلك فسّره به، فقال: و ما هو الاّ الموت. و اسمع و اعجل: فى محل النصب على الحال من معنى الاشارة. و قوله: فلا يغرّنك سواد الناس من نفسك، اى:
فلا يغرّنك رؤيتك لكثرة الناس و الوسوسة من نفسك بذلك عن ملاحظة الموت و نزوله، اذ كثير ما يرى الانسان الميت محمولا فيدركه رقّة و روعة ثم يعاوده الوسواس الخنّاس و يأمره باعتبار كثرة المشيعين له من الناس فيأنس اليهم و يسكن الى الدنيا بعداده فيهم. و ممن جمع: بدل ممن كان، و طول أمل: نصب على المفعول له. و البور: الهلاك. و لا من سيئة يستعتبون، اى: لا يطلب منهم العتبى و هى: الرجوع عن السيئة لعدم امكان ذلك منهم، و استعار لفظ الاشعار: لاتّخاذ التقوى كالشعار فى ملازمتها للقلب. و الشعار: ما يلي الجسد من الثياب. و اهتبلوا هبلها: اى اهتمّوا لها اهتمامها الذى ينبغي. و الضمير:
للتقوى. و الاوفاز: جمع وفز بالتحريك و السكون، و هو: العجلة. و قوله: و قرّبوا، الى
ص: 290
آخره: كناية عن الاستعداد للرحيل الى الآخرة بما ينبغي من ازوادها و تذكير بالموت.
و انقادت له الدّنيا و الآخرة بأزمّتها، و قذفت إليه السّموات و الأرضون مقاليدها، و سجدت له بالغدوّ و الآصال الأشجار النّاضرة، و قدحت له من قضبانها النّيران المضيئة، و آتت أكلها بكلماته الثّمار اليانعة.
اقول: انقياد الدنيا و الآخرة بازمّتها كناية: عن دخولها فى ذلّ الحاجة و الامكان تحت تصريف قدرته. و لفظ الأزمّة مستعار للامكان المحوج لها الى الصانع. قال ابن عباس: مقاليد السماوات و الارض: مفاتيحها بالرحمة و الرزق، و قيل: خزائنها. و المقاليد:
جمع مقلاد، و هى: الخزائن. و سجود الاشجار دخولها فى الحاجة اليه و الخضوع له، و كلماته: امر قدرته و حكمها بخروج الثمار. و اليانعة: المدركة.
منها:
و كتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، و بيت لا تهدم أركانه، و عزّ لا تهزم أعوانه.
اقول: استعار للكتاب: لفظ الناطق، لما فيه من البيان. و لفظ البيت له: لحفظه من حفظه، و عمل به، و بأركانه قوانينه الكليّة. و اعوانه: العاملون به و ناصروهم.
منها:
أرسله على حين فترة من الرّسل، و تنازع من الألسن، فقفّى به الرّسل و ختم به الوحى، فجاهد فى اللّه المدبرين عنه، و العادلين به.
ص: 291
اقول: قفّى: اتبع. و العادل به: الجاعل له عديلا و مثلا.
منها:
و إنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر ممّا وراءها شيئا، و البصير ينفذها بصره و يعلم أنّ الدّار وراءها، فالبصير منها شاخص، و الأعمى إليها شاخص، و البصير منها متزوّد، و الأعمى لها متزوّد.
اقول: استعار لفظ الأعمى: للجاهل، لعدم ادراكه لحقائق الامور كالاعمى، و كونه لا يبصر من وراء الدنيا شيئا: اشارة الى جهله بأحوال المعاد. و لفظ البصير: للعالم. و نفوذ بصره: كناية عن ادراكه لما بعد الموت من احوال الآخرة. و قوله: البصير منها شاخص، اى العالم منها راحل به قد جعلها طريق سفره الى اللّه. و الاعمى اى: الجاهل اليها شاخص اى: متطلع اليها بعين بصره و همه محبّتها. و قوله: و البصير منها متزوّد اى: زاد التقوى و العمل الصالح. و الأعمى لها متزوّد اى: جاعل همه ايّاها فهى: زاده الّذى عليه يعتمد.
منها:
و اعلموا أن ليس من شيء إلاّ و يكاد صاحبه أن يشبع منه و يملّه، إلاّ الحياة فإنّه لا يجد له فى الموت راحة، و إنّما ذلك بمنزلة الحكمة الّتى هى حياة للقلب الميّت، و بصر للعين العمياء، و سمع للأذن الصّمّاء، ورىّ للظّمآن، و فيها الغنى كلّه و السّلامة:
كتاب اللّه تبصرون به، و تنطقون به، و تسمعون به، و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض، و لا يختلف فى اللّه، و لا يخالف بصاحبه عن اللّه. قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم و نبت المرعى على دمنكم، و تصافيتم على حبّ الآمال، و تعاديتم فى كسب الأموال، لقد استهام بكم الخبيث و تاه بكم الغرور، و اللّه المستعان على نفسى و أنفسكم.
ص: 292
أقول: قال بعض الشارحين: فقدان الرّاحة فى الموت مخصوص بأهل الشقاوة، و امّا اولياء اللّه فلهم الراحة الكبرى كما قال صلى اللّه عليه و آله: (ليس للمؤمن راحة دون لقاء اللّه). و قال بعضهم: بل هو عام لانّ بالموت ينقطع متجر الآخرة و الازدياد من الكمالات الباقية، و ذلك لا ينافي الخبر لانّ بازدياد الكمال فى الحياة يحصل راحة اعظم مما قبله، و لانّ المعارف لما لم تكن ضروريّه، لم تتمكن النفوس البشريّة ما دامت فى عالم الغربة من الاطّلاع على ما بعد الموت من الأحوال الاخرويّة، فبالحرىّ ان يخاف العاقل الموت و يكره سرعته. و ان لم تكن له راحة دونه كما نقل عن الحسن بن على عليهما السلام انّه حين الاحتضار بكى فقال له الحسين عليه السلام: ما لى اراك تكاد تجزع مع يقينك بانّك تقدم حيث تقدم على جدّك و أبيك ؟ فقال: نعم يا اخى لا شكّ فى ذلك، الاّ انّنى سالك مسلكا لم أسلكه من قبل.
اقول: لا منافاة بين القولين، لانّه لا راحة فى نفس الموت لأحد لكونه مجرّد آلام و مخاوف، لكنه مستعقب لراحة اولياء اللّه بلقائه فكانت فيه راحتهم، و كلامه عليه السلام أشبه بالعموم لانّ الولىّ و غيره لا يجد فى الموت راحة حين نزوله. و قوله: انّما ذلك اى:
الأمر الّذى هو احقّ بأن لا يملّ و لا يشبع منه انّما هو، اى: بمنزلة الحكمة و اراد: الحكمة نفسها و لا يقتضى الكلام انّ شيئا فى منزلتها غيرها. و استعار لها لفظ الحياة: باعتبار انّها تحيى القلب الميت بداء الجهل، و لفظ البصر و السمع: لعين الجاهل و اذنه اللتين يستفيد بهما عبرة، و لفظ الظمآن: للجاهل المتعطّش الى العلم، و لفظ الرى: لأنّها كالماء فى استغناء النفس بها. و كتاب اللّه: خبر مبتدأ و امّا: خبر ثان لذلك. بمنزلة الحكمة: خبر اوّل، و المبتدأ: محذوف تقديره: و هو، اى: الّذى بمنزلة الحكمة كتاب اللّه، و لا ينافي ذلك ايضا ان يكون نفسه حكمة و تفسيرا لها.
و قوله: تبصرون به، اى: تهتدون لمقاصدكم الدنيويّة و الاخرويّة، و تنطقون به، اى: فى الفتوى و الاستدلال و القصص و نحوه. و تسمعون به أى: ما ينفعكم من الموعظة الحسنة و العبر النافعة. و ينطق بعضه ببعض اى: يفسّر بعضا كالمبين للجمل، و المقيد:
للمطلق، و الخاص: للعام. و يشهد بعضه على بعض اى: يستشهد ببعضه على انّ المراد ببعض آخر كذا، و هو كالّذى قبله. و قوله: و لا يختلف فى اللّه، اى: لا يختلف فى الدلالة
ص: 293
على المقاصد الموصلة الى اللّه، بل كلّها متطابقة على ذلك و ان تعدّدت. و لا يخالف بصاحبه عن اللّه اى: لا يعدل بمن يهتدى به من سبيل اللّه عن الوصول اليه. و استعار وصف الاصطلاح: لما هم عليه من الغلّ ، و هو الغش و الحقد لاتّفاق ذلك فى جميعهم و اشتراكهم فيه.
و قوله: و نبت المرعى على دمنكم: مثل يضرب للمتصالحين فى اللّه مع غلّ القلوب، و وجهه: انّ ذلك سريع الزوال لا اصل له كانبات فى الدمن، و هى ما تلبّد من آثار القوم و مرابط انعامهم. و الآمال: ما يؤمّل كلّ من صاحبه من نفع عاجل، و هو:
الجامع بينهم، و سبب صفائهم فى الظّاهر. و استهام بكم الخبيث اى: اشتدّ عشق الشيطان لكم، و ذلك تنبيه على ما يظهر منهم من آثار وسوسته، و هو: الغرور ايضا.
و قد توكّل اللّه لأهل هذا الدّين باعزاز الحوزة، و ستر العورة، و الّذى نصرهم و هم قليل لا ينتصرون، و منعهم و هم قليل لا يمتنعون، حىّ لا يموت إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا محربا، و احفز معه أهل البلاء و النّصيحة، فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ ، و إن تكن الأخرى كنت ردء اللنّاس، و مثابة للمسلمين.
أقول: توكّل اللّه لأهل دينه: وعده ايّاهم بالنّصر و الأعزاز. و الحوزة: الناحية، و كنّى بعورتهم: عن حريمهم و حماهم. و كنفه: حفظه و آواه. و المحرب: بكسر الميم، و فتح الراء، الرجل صاحب حروب. و احفز معه اى: ادفع. و اهل البلاء: هم الّذين اختبروا و جرّبوا. و اظهر اللّه: نصر. و الردء: العون. و المثابة: المرجع.
ص: 294
قد وقعت مشاجرة بينه و بين عثمان فقال المغيرة ابن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه. فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
يا ابن اللّعين الأبتر، و الشّجرة الّتى لا أصل لها، و لا فرع، أنت تكفينى! و اللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره، و لا قام من أنت منهضه، اخرج عنّا أبعد اللّه نواك، ثمّ ابلغ جهدك فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت.
أقول: الأبتر: كل امرء انقطع من الخير اثره. و النوى: القصد الذى ينويه المسافر. و روى: نؤك، و النوى: لغة فى النأى و هو: البعد. و استعار لفظ الشجرة: لبيته، و كنى عن سقوط اصله: بنفى اصلها و فرعها. و لا ابقى اللّه عليه اى: لا راعاه و لا رحمه.
لم تكن بيعتكم إيّاى فلتة، و ليس أمرى و أمركم واحدا: إنّى أريدكم للّه، و أنتم تريدونى لأنفسكم! أيّها النّاس، أعينونى على أنفسكم، و ايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظّالم بخزامته، حتّى أورده منهل الحقّ و إن كان كارها.
أقول: الفلتة: وقوع الأمر من غير تدبّر و لا روية. و فيه ايماء الى بيعة ابى بكر حيث قال عمر: (كانت بيعة ابى بكر فلتة وقى اللّه شرّها)(1) و قوله: و ليس امرى و امركم واحدا، اى: و ليس مقصدى و مقصدكم واحدا، و بين ذلك الفرق بقوله: انّى اريدكم، الى قوله:
لأنفسكم، اى: لحظوظ انفسكم من العطاء، و سائر منافع الدنيا. و قوله: اعينونى على انفسكم اى: على قهر انفسكم الأمّارة، و ذلك بموافقتى على العمل بطاعة اللّه. و الخزامة:
حلقة من شعر يجعل فى وترة انف البعير يشد فيها زمامه، و هو كناية: عن قوده للظالم ذليلا طائعا. و المنهل: المورد.
ص: 295
و اللّه ما أنكروا علىّ منكرا، و لا جعلوا بينى و بينهم نصفا، و إنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه، و دماهم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم نصيبهم منه، و إن كانوا ولّوه دونى فما الطّلبة إلاّ قبلهم، و إنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم، و إنّ معى لبصيرتى: ما لبّست و لا لّبس علىّ ، و إنّها للفئة الباغية فيها الحما و الحمة، و الشّبهة المغدقة، و إنّ الأمر لواضح و قد زاح الباطل عن نصابه، و انقطع لسانه عن شغبه، و ايم اللّه لأفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه: لا يصدرون عنه برىّ ، و لا يعبّون بعده فى حسى.
أقول: النصف: النصفة. و الحق. و الدم: دم عثمان. و الطلبة: المطلوب. و قوله: و انّ اوّل عدلهم اى: ان كان لهم عدل و طلب حق، و بصيرته، عقله و علمه، و البصيرة ايضا:
البرهان، و فى تعريفه للفئة تنبيه على انّه كان حالها معلوما من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فلما ظهرت اشار اليها بما عهده منها. و استعار لفظ الحمأ و هو الطين المتغير: للغلّ و الحسد فى صدور القوم له، و وجه المشابهة استلزام ذلك لتكدير صفاء المسلمين كالحماء. و لفظ الحمة: بضم الحاء و التخفيف و هو: سمّ العقرب، لذلك باعتبار ما يلزمه من الأذى. و روى: الحمة مشدّدا و هو السواد، و اراد به: ظلمة جهلهم و شبهتهم و لذلك وصفها بالمغدفة و هى: الظلمة، لانّها لا يهتدى فيها للحق. و قوله: و انّ الأمر واضح، اى:
امر تلك الشبهة. و النصاب: الأجل و اراد: انّ باطلهم لا اصل له، و قوله: فيه منقطع عنه.
و لأفرّطن اى: لأملأنّ . و استعار لفظ الحوض: لاستعداده فى حربهم. و العبّ : شرب الماء من غير مصّ . و الحسى: موضع يحفر ليجتمع فيه الماء.
منه:
فأقبلتم إلىّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها، تقولون: البيعة البيعة!! قبضت يدي فبسطتموها، و نازعتكم يدي فجذبتموها، اللّهمّ إنّهما قطعانى و ظلمانى، و نكثا بيعتى،
ص: 296
و ألّبا النّاس علىّ ، فاحلل ما عقدا، و لا تحكم لهما ما أبرما، و أرهما المساءة فيما أمّلا و عملا، و لقد استثبتهما قبل القتال، و استأنيت بهما أمام الوقاع، فغمطا النّعمة، و ردّا العافية.
أقول: العوذ: جمع عائذ بالذال المعجمة، و هى: كل انثى قريبة العهد بالولادة و هى: لسبعة ايّام الى عشرة ايّام، و خمسة عشر يوما، ثم هى: مطفل اى ذات طفل، و الجمع مطافيل، و الضمير فى انّهما لطلحة، و الزبير. و التأليب: التحريض. و ما عقداه و ما ابرماه اى: من الآراء، و العزوم فى حربه. و استثبتهما اى: طلبت انابتهما الى الحق، و روى بالتاء من التوبة اى: من ذنبهما فى نكث بيعته. و استأنيت: توقّفت. و غمطا النعمة: احتقراها و بطراها. و ردّا العافية اى: من البلاء بالحرب.
يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، و يعطف الرّأى على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرّأى.
اقول: الاشارة هنا، الى الامام المنتظر الموعود به، فى الخبر و الأثر. فعطفه الهوى على الهدى: عرضه لميول النفس الامّارة على قوانين الحق و ردّها اليها، و كذلك عطف الرأى على القرآن ردّه اليه.
منها:
حتّى تقوم الحرب بكم على ساق باديا نواجدها، مملوءة أخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها. ألا و فى غد - و سيأتى غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالى من غيرها عمّالها على مساوىء أعمالها، و تخرج له الأرض من أفاليذ كبدها، و تلقى إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السّيرة، و يحيى ميّت الكتاب و السّنّة.
ص: 297
أقول: قيامها على ساق، كناية عن غاية شدّتها، و كذلك بذو نواجذها: ملاحظة لشبهها بالسّبع عند غضبه. و مملؤة اخلافها: كناية عن تمام استعدادها برجالها و آلاتها كاستكمال الضرع اللبن، و اخلاف الناقة: حلمات ضرعها. و استعار لفظ الحلو: للدخول فيها، باعتبار اقبال أهل النجدة عليها. و لفظ العلقم: لعاقبتها، لما يجده الناس بعدها من الهلاك و الضعف. و قوله: الا و فى غد: اخبار بما سيكون من امر الامام المنتظر، و هو المراد بالوالى. و قوله: من غيرها: يشبه ان يكون قد سبقه ذكر طائفة من الناس او البلاد ذات ملك و امرة، فأخبر عليه السلام: انّ الوالى من غير تلك الطائفة، و هو الامام عليه السلام يأخذ عمالها بذنوبهم. الأفاليذ: جمع للفلذة، و هى: القطعة من الكبد.
و استعار لفظ الكبد: لما فى الارض من الكنوز باعتبار خفائها و عزّتها كالأكباد فى الأجساد. و المقاليد: الخزائن. و ميت الكتاب و السنة: مستعار لما ترك منهما. فان قلت قوله: و يريكم يدلّ على انّ المخاطبين يدركونه مع انّكم زعمتم انّه يكون فى آخر الزمان فكيف ذلك ؟ قلت: خطاب الحاضرين عام او فى حكم العام، كسائر خطابات القرآن الكريم مع الصّحابة، المتناول لمن وجد الى يوم القيامة ثم يخرج المخاطبون بدليل العقل.
منها:
كأنّى به قد نعق بالشّام و فحص براياته فى ضواحى كوفان، فعطف إليها عطف الضّروس و فرش الأرض بالرّءوس، قد فغرت فاغرته و ثقلت فى الأرض وطأته، بعيد الجولة، عظيم الصّولة. و اللّه ليشرّدنّكم فى أطراف الأرض، حتّى لا يبقى منكم إلاّ قليل، كالكحل فى العين، فلا تزالون كذلك حتّى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها، فالزموا السّنن القائمة، و الآثار البيّنة، و العهد القريب الّذى عليه باقى النّبوّة، و اعلموا أنّ الشّيطان إنّما يسنّى لكم طرقه لتتّبعوا عقبه.
أقول: قيل: الاشارة الى عبد الملك بن مروان، لانّه ظهر بالشام حين جعله أبوه الخليفة من بعده، و سار الى الكوفة لقتال مصعب بن الزبير فقتله و دخل الكوفة، و بعث
ص: 298
الحجّاج الى ابن الزبير فقتله، و هدّم الكعبة(1)، و قتل خلقا كثيرا من العرب فى وقائع عبد الرحمن بن الأشعث و رمى الناس بالحجّاج.
و نعق: صاح، و هو كناية عن دعوته. و فحص الطير التراب: قلّبه. و ضواحى كوفان: نواحى الكوفة البارزة. و فحصه براياته: كناية عن تقليبه لأمور الكوفة و أهلها بسطوته و بأسه. و الضروس: الناقة سيئة الخلق تعضّ حالبها. و وجه شبه عطفه على الكوفة بعطف الضروس: شدّة الحنق و الغضب. و فغرت فاغرته: انفتح فوه، هو كناية: عن اقباله بالأذى كالسّبع الصائد، و اكّد الفعل بذكر الفاعل من لفظه. و كنّى بثقل وطأته: عن شدّة بأسه، و بعد جولته: عن اتّساع تصرّفه و تملكه و جولانه فى البلاد البعيدة. و بعيد و عظيم:
حالان. و روى: رفعهما خبرى مبتدأ و عوازب احلام العرب: ما كان ذهب من عقولها العملية فى نظام احوالهم فى الاجتماع، و العرب قيل: هم بنو العباس، و من نصرهم ايّام ظهور دولتهم كقحطبة بن شبيب الطائى، و بنى زريق و غيرهم. و يسنّى: يسهل.
لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، و صلة رحم، و عائدة كرم، فاسمعوا قولى، وعوا منطقى، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف، و تخان فيه العهود، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة، و شيعة لأهل الجهالة.
اقول: اشار الى بعض فضائله لغاية سماع قوله: و الّذى يأمرهم بسماعه: هو التنبيه على عاقبة أمر الخلافة و ما يقع فيها من الهرج و المرج بعدهم.
ص: 299
و إنّما ينبغي لأهل العصمة، و المصنوع إليهم فى السّلامة، أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية، و يكون الشّكر هو الغالب عليهم، و الحاجز لهم عنهم فكيف بالغائب الّذى غاب أخاه، و عيّره ببلواه ؟! أ ما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذى غابه به!! و كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه ممّا هو أعظم منه. و ايم اللّه لئن لم يكن عصاه فى الكبير و عصاه فى الصّغير لجراءته على عيب النّاس أكبر. يا عبد اللّه، لا تعجل فى عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفور له، و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، و ليكن الشّكر شاغلا له على معافاته ممّا ابتلى به غيره.
أقول: اهل العصمة: هم الّذين أعانهم اللّه على قهر نفوسهم الامّارة فملكوها.
و المصنوع اليهم اى: من اصطنع اللّه عنده نعمة السلامة من الذنوب، و رحمتهم لأهل الذنوب: تظهر فى كفّهم عن عيبهم، و اعانتهم على الخروج منها بصالح القول. و قوله:
فكيف بالعائب اى: اذا كان اهل السلامة فينبغى لهم ان يرحموا اهل الذنوب و يشتغلوا بشكر اللّه عن عيبهم، فكيف يليق العيب من غيرهم من الناس، و اراد بما هو اعظم عيبه لأخيه لانّ الغيبة من الكبائر، و جعلها اكبر مبالغة او بالنسبة الى بعض الكبائر.
أيّها النّاس، من عرف من أخيه وثيقة دين، و سداد طريق، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، أما إنّه قد يرمى الرّامى و تخطىء السّهام، و يحيل الكلام، و باطل ذلك يبور، و اللّه سميع و شهيد. أما إنّه ليس بين الباطل و الحقّ إلاّ أربع أصابع.
ص: 300
قال الشريف: فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه و وضعها بين أذنه و عينه، ثم قال: الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت.
اقول: حاصل الفصل: النّهى عن التسرّع الى سماع الغيبة. و قوله: اما انّه، الى قوله:
يبور: تنبيه على قوّة اذى الكلام و انّه اشدّ من الرّمى بالسّهام، اذ السهام قد تخطئ و لا تؤثر، و الكلام لا بدّ ان يؤثر. و حاك و احاك اى: اثّر، و يروى يحيل باللام اى: يبطل. و قوله:
ذلك يبور اى: العرض منه يهلك من مال او جاه و نحوه. و قيل: الباطل من ذلك القول يهلك و لا ينتفع به و يبقى شهادة اللّه و جزاؤه عليه. و قوله: الباطل ان يقول سمعت: ليس بكلّى بل كلام خطابى مهمل بصدق يجزى.
و ليس لواضع المعروف فى غير حقّه، و عند غير أهله، من الحظّ إلاّ محمدة اللّئام، و ثناء الأشرار، و مقالة الجهّال - ما دام منعما عليهم - «ما أجود يده» و هو عن ذات اللّه بخيل!! فمن آتاه اللّه مالا فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضّيافة، و ليفكّ به الأسير و العانى و ليعط منه الفقير و الغارم، و ليصبر نفسه على الحقوق و النّوائب ابتغاء الثّواب، فإنّ فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا، و درك فضائل الآخرة، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
أقول: غرض الفصل: التنبيه على مواضع المعروف التي ينبغي صرف المعروف فيها. و غير حقّه اى: غير وجهه الّذى ينبغي صرفه فيه، و فيما اتى، اى: فيما فعل من المعروف و ارشد من مواضعه الى خمسة. و العانى هو: الأسير. و الغارم من عليه الدين.
و النوائب: ما ينوب الانسان مما يوجب غرمه كالمصادرات و نحوها. و اراد بالخصال:
مواقع المعروف المذكورة فانّها فضائل داخلة تحت فضيلة الكرم و المواظبة عليها تصيّرها ملكات و اخلاقا محمودة. و نكّر الفوز: لتفيد شياعا دون تقيّده باللام لابهامه الخصوص و الجزئية و احتماله لهما.
ص: 301
ألا و إنّ الأرض الّتى تحملكم و السّماء الّتى تظلّكم، مطيعتان لربّكم، و ما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم، و لا زلفة إليكم، و لا لخير ترجوانه منكم، و لكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، و أقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا. إنّ اللّه يبتلى عباده - عند الأعمال السّيّئة - بنقص الثّمرات، و حبس البركات و إغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، و يقلع مقلع، و يتذكّر متذكّر، و يزدجر مزدجر! و قد جعل اللّه الاستغفار سببا لدرور الرّزق و رحمة الخلق، فقال: «اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ »(1) فرحم اللّه امرأ استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادرمنيّته. اللّهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار و الأكنان، و بعد عجيج البهائم و الولدان، راغبين فى رحمتك، و راجين فضل نعمتك. و خائفين من عذابك و نقمتك. اللّهمّ فاستقنا غيثك، و لا تجعلنا من القانطين، و لا تهلكنا بالسّنين، و لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا، يا أرحم الرّاحمين. اللّهمّ إنّا خرجنا إليك، نشكو إليك ما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق الوعرة، و أجاءتنا المقاحط المجدبة، و أعيتنا المطالب المتعسّرة، و تلاحمت علينا الفتن المستصعبة. اللّهمّ إنّا نسألك أن لا تردّنا خائبين، و لا تقلبنا واجمين، و لا تخاطبنا بذنوبنا، و لا تقايسنا بأعمالنا. اللّهمّ انشر علينا غيثك و بركتك، و رزقك و رحمتك، و اسقنا سقيا نافعة مروية معشبة:
تنبت بها ما قد فات، و تحيى بها ما قد مات، نافعة الحيا كثيرة المجتنى، تروى بها القيعان، و تسيل البطنان، و تستورق الأشجار، و ترخص الأسعار، «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».
ص: 302
أقول: نبّه بقوله: الا و انّ الأرض، الى قوله: فقامتا: على انّهما ليستا مبدأين اوّلين للرزق، بل هما مطيعتان للّه فى اخراجهما الرزق للحيوان، و هو الّذى جعل السماء كالأب بارسالها مدرارا، و جعل الارض كالأم فى قبولها للماء و استعدادها به للنبات، و اخرج منها رزق العباد كما قال تعالى: «فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ » الى قوله: «مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ »(1) و طاعتهما: دخولهما تحت تصرّف قدرته، و امرهما بمنافعهم، و اقامتهما على حدود مصالحهم حكم العناية الألهية عليهما باخراج هذه المنافع، و جعلها وفق مصالح الحيوان و قيامهما و طاعتهما وجود ذلك منهما حسب مقتضى القدرة الألهية.
و الزلفة: المنزلة. و قوله: انّ اللّه، الى قوله: مزدجر: تنبيه على سبب حبس المطر، و وجه الحكمة الألهية فى ابتلاء الخلق بما ذكر، و هو كقوله تعالى: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ »(2) الآية. و الاقلاع عن السّيئة: الرجوع عنها. و قوله: و قد جعل اللّه، الى قوله:
مدرارا: تنبيه على وجه الخلاص من الابتلاء المذكور، و ذلك هو الاستعداد بالاستغفار.
و المبادرة: المسابقة بالعمل الصالح. و العجيج: رفع الصوت بالحنين و البكاء. و القنوط:
اليأس. و تلاحمت: اتّصلت. و الواجم: الّذى اشتد حزنه، و مقايستهم بأعمالهم: جزاؤهم بما يشبهها و يقايسها من السّيئة. و النافعة: المرويّة. و القيعان: جمع قاع و قوع و هو:
المستوى من الارض. و البطنان: جمع بطن، و هو: المنخفض من الارض. و باقى الفصل ظاهر.
بعث اللّه رسله بما خصّهم به من وحيه، و جعلهم حجّة له على خلقه، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ . ألا إنّ اللّه قد كشف الخلق كشفة، لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم و مكنون ضمائرهم، و لكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملا، فيكون الثّواب جزاء، و العقاب بواء، أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون فى العلم دوننا؟ كذبا و بغيا علينا أن رفعنا اللّه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم،
ص: 303
و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطى الهدى، و يستجلى العمى، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا فى هذا البطن من هاشم: لا تصلح على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم.
أقول: الضمير فى قوله: لهم و اليهم: للخلق و هو اشارة الى قوله تعالى: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ »(1) الآية. و لسان الصدق: دعوته صلى اللّه عليه و آله المؤيّدة بالمعجزات الباهرة. و سبيل الحق: شريعته القائدة الى اللّه. و البواء: الجزاء. و امّا الّذين زعموا انّهم الراسخون فى العلم: فانّ جمعا من الصحابة كان كل منهم يدّعي الأفضلية فى فن من العلم، فمنهم من كان يدّعى انّه أفرض، و منهم من كان يدّعي انّه اقرأ، و منهم من كان يدّعي انّه أعلم بالحلال و الحرام، و رووا: افرضكم زيد بن ثابت، و أقرأكم ابّي، و رووا: مع ذلك: اقضاكم عليّ (2).
و لما كان القضاء مستجمعا لأنواع العلوم لزمه انّه افضل، لاستجماعه ما تفرّق فيهم من الفضائل، فعلم صدقه فى تكذيبهم. و ان: فى محل النصب بالمفعول به، و هو اشارة:
الى العلة الحاملة لهم على تكليف هذه الدعوى. و اعطانا: الملك و النبوّة و ادخلنا: فى عنايته الخاصة بنا. و استعار لفظ العمى: للجهل. و قوله: انّ الأئمة من قريش: نصّ متفق عليه من النبىّ صلى اللّه عليه و آله، و تخصيص ذلك بهذا البطن من هاشم نصّ منه يجب اتباعه لعصمته، و لقول الرسول صلى اللّه عليه و آله فى حقه (انّه لمع الحق و انّ الحق معه يدور حيث دار)(3) و الاشارة بهذا البطن: الى ولده الأحد عشر بنصّ كل منهم على من بعده.
منها:
آثروا عاجلا، و أخّروا آجلا، و تركوا صافيا، و شربوا آجنا كأنّى أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه و بسىء به و وافقه، حتّى شابت عليه مفارقه، و صبغت به خلائقه! ثمّ أقبل مزبد اكالتّيّار لايبالى ما غرّق، أو كوقع النّار فى الهشيم لا يحفل ما حرّق!! أين العقول
ص: 304
المستصبحة بمصابيح الهدى ؟ و الأبصار اللاّمحة إلى منار التّقوى ؟ أين القلوب الّتى وهبت للّه و عوقدت على طاعة اللّه ؟ ازدحموا على الحطام، و تشاحّوا على الحرام، و رفع لهم علم الجنّة و النّار فصرفوا عن الجنّة وجوههم و أقبلوا إلى النّار بأعمالهم، و دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا، و دعاهم الشّيطان فاستجابوا و أقبلوا.
اقول: الاشارة: الى بنى اميّة و من تبعهم ممن خف دينه. و العاجل: متاع الدنيا.
و استعار لفظ الآجن: باعتبار ما يخالطه من كدر الأعراض و الامراض المنغّصة. و الآجل:
هو ثواب الآخرة. و استعار لفظ الصافى: باعتبار خلوصه عن الأكدار المذكورة. و فاسقهم:
يشبه ان يريد به: معينا قيل: هو عبد الملك بن مروان. و بسئ به: ألفه و انس اليه. و كنى بغايته فى ذلك، عن صيرورته ملكة، و خلقا له، و شبه اقباله فى حركاته الخارجه عن الدين: بالبحر الطّامى، و استعار له: لفظ المزبد، و كذلك شبّه فعله: بوقع النار فى الهشيم و هو ما تكسّر من نبت الارض بعد يبسه، باعتبار سرعة افساده، و عبثه فى البلاد من غير مبالاة بالدّين كما قال: (لا يبالى ما حرّق). و استعار لفظ مصابيح الهدى و منار التقوى اى: اعلاقها لأئمة الدين او لقوانينه. و وصف هبة القلوب و معاقدتها: لقصرها على طاعة اللّه. و الضمير فى قوله: ازدحموا: عائد الى من سبق و هو الى آخره ذمّ لهم، و انّما قال: و اقبلوا بأعمالهم، و لم يقل: بوجوههم، كما قال: فصرفوا وجوههم، لانّ اقبالهم بوجوه نفوسهم على لذّات الدنيا يستلزم صرفها عن الأعمال الموصله الى الجنة و ذلك يستلزم اعراضها عن الجنّة.
ثم لما كانت غاية الانسان من الدنيا هو الحصول على لذّاتها، و كانت النار لازمة للأعمال الموصلة الى تلك الغاية لزوما عرضيا لم تكن النار غاية ذاتية قد اقبلوا بوجوههم و قصورهم اليها، بل كان اقبالهم عليها بأعمالهم المستلزمة لها. و باقى الفصل واضح.
أيّها النّاس، إنّما أنتم فى هذه الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كلّ جرعة شرق،
ص: 305
و فى كلّ أكلة غصص لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله، و لا تجّدّد له زيادة فى أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر إلاّ مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد، و لا تقوم له نابتة إلاّ و تسقط منه محصودة. و قد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!! اقول: استعار لهم لفظ الغرض: لرميهم بسهام المنايا، و الانتضال: الرمى: و كنّى بالجرعة و الاكلة: عن لذّات الدنيا، و بالشرق و الغصص: عما يلزمها من الاكدار. و قوله:
لا يبالون، الى قوله: محصورة: فرق لطيف بين لذّات الدنيا و الآخرة، هو: انّ لذّات الدنيا، لا يمكن ان يجتمع للانسان نوعان منها معا، لكونها حاصلة من طرق الحوّاس المختلفة، فعند ما يتوجّه النفس الى تحصيل نوع منها و يستغلّ به، يفارق غيره، و لانّ ملذّاتها زمانيّة فهى فى معرض الزوال، فلا يكاد يجتمع منها نوعان يستلّذ بهما فى حال واحد، بخلاف اللذّات الاخرويّة. و اكله: بالهاء و ضمّ الهمزة: ماكوله. و الاثر: كالولد، و النابتة و المحصورة: حقيقتان فى النبات، و كنى بهما عما يتجدّد للانسان من خير و عما يعدم له.
و الأصول الماضية: الآباء.
منها:
و ما أحدثت بدعة إلاّ تركت بها سنّة، فاتّقوا البدع، و الزموا المهيع، إنّ عوازم الأمور أفضلها، و إنّ محدثاتها شرارها.
أقول: البدعة: كلّما احدث فى الدين من غير حجّة شرعية، و وجه استلزامها لترك السّنة ان تركها من السّنة: فارتكابها يستلزم ترك السّنة. و المهيع: الطريق الواسع و هى:
الشريعة. و العوازم: جمع عوزم و اراد بها: قدائم السنن التي كانت على عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و محدثاتها: هى البدع و كونها شرارا لمخالفتها الدين.
ص: 306
إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلّة، و هو دين اللّه الّذى أظهره، و جنده الّذى أعدّه و أمدّه، حتّى بلغ ما بلغ و طلع حيثما طلع، و نحن على موعود من اللّه، و اللّه منجز وعده، و ناصر جنده. و مكان القيّم بالأمر مكان النّظام من الخرز: يجمعه و يضمّه، فإذا انقطع النّظام تفرّق الخرز و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا. و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا، و استدر الرّحى بالعرب و أصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها، حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك، و طمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، و هو اقدر على تغيير ما يكره، و أمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، و إنّما كنّا نقاتل بالنّصر و المعونة.
أقول: حتى بلغ ما بلغ اى: من الكثرة و العزّة. و طلع حيث طلع: من آفاق البلاد، و موعود اللّه: فى قوله: «وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» الى قوله: «مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» (1)و القيّم بالامر:
الامام. و حذافير الشيء: اطرافه جمع حذفار. و قوله: بحذافيره اى: بأسره. و استعار له لفظ القطب و لفظ الرّحى: لامور الاسلام او للحرب. و العورات: مواضع المخالفة على الاسلام و أهله. و الكلب: الشّر. و قد كان ذكر له مسير القوم، و هم: الفرس، فى وقعة القادسية الى قتال المسلمين و ذكر كثرة عددهم، فأجابه عن هذين الوهمين بضميرين: صغرى الاولى، قوله: فانّ اللّه سبحانه، الى قوله: يكره. و تقدير كبراه: و كل
ص: 307
ما كان اكره له و اقدر على تغييره منك فيجب ان يفوّض امره اليه. و صغرى الثاني، قوله:
فانا لم نكن، الى آخره، و تقدير كبراه: و كلّ ما كان كذلك فلا ينبغي ان ينظر الى كثرة العدد و يحفل به.
فبعث محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشّيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه و أحكمه، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، و ليقرّوا به إذ جحدوه، و ليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلّى لهم سبحانه فى كتابه من غير أن يكونوا رأوه: بما أراهم من قدرته، و خوّفهم من سطوته، و كيف محق من محق بالمثلات، و احتصد من احتصد بالنّقمات. و إنّه سيأتى عليكم من بعدى زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ، و لا أظهر من الباطل، و لا أكثر من الكذب على اللّه و رسوله!! و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته، و لا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، و لا فى البلاد شيء أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب حملته، و تناساه حفظته، فالكتاب يومئذ و أهله طريدان منفيّان، و صاحبان مصطحبان فى طريق واحد لا يؤويهما مؤو!! فالكتاب و أهله فى ذلك الزّمان في النّاس و ليسا فيهم و معهم، لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى، و إن اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة و افترقوا عن الجماعة، كأنّهم أئمّة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم! فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه، و لا يعرفون إلاّ خطّه و زبره!! و من قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة، و سمّوا صدقهم على اللّه فرية، و جعلوا فى الحسنة عقوبة السّيّئة. و إنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم، و تغيّب آجالهم، حتّى نزل بهم الموعود، الّذى تردّ عنه المعذرة، و ترفع عنه التّوبة، و تحلّ معه القارعة و النّقمة. أيّها النّاس، إنّه من استنصح اللّه وفّق، و من اتّخذ قوله دليلا هدى للّتى هى أقوم، فإنّ جار اللّه آمن، و عدوّه خائف، و إنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظّم، فإنّ رفعة
ص: 308
الّذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له، و سلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحقّ نفار الصّحيح من الأحرب، و البرىء من ذى السّقم، و اعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذى تركه، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذى نقضه، و لن تمّسكوا به حتّى تعرفوا الّذى نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنّهم عيش العلم، و موت الجهل: هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم: لا يخالفون الدّين، و لا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، و صامت ناطق.
اقول: ذكر اغراض البعثة فى معرض مدح الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تجليه سبحانه فى كتابه: هو ظهور وجوده لقلوب عبيده بالتنبيهات التي اشتمل عليها، كالتنبيه على أنواع المقدورات و اصنافها على كمال قدرته بانواع المبدعات المحكمة على كمال علمه و حكمته، و بالتخويف بالمثلات: و هى العقوبات النازلة بالقرون الماضية، و افنائهم على انّ مثل ذلك واقع بهم فتعملوا لما بعد الموت. و أبور اى: اكسد. فامّا الكذب على اللّه و على رسوله: فروى عن شعبة، و كان امام المحدّثين، انّه قال: تسعة اعشار الحديث كذب. و عن الدارقطنى: ما الحديث الصحيح الاّ كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود. و تلى حق تلاوته اى: وضع مواضعه، و فسّر كما هو المراد، و تحريفه عن مواضعه: حمله على غير محامله. و نبذ حملته له: اعراضهم عن تدبّر ما فيه و العمل به، و اهله: هم الواعون له العاملون بما فيه. و الطريق المصطحبان فيه: طريق اللّه، و اصطحابهما: ملازمة العمل به و اتّفاقهما على الدلالة فى طريق اللّه، و هم فى الناس و معهم بأبدانهم، و الكتاب معهم بألفاظه و كتبته، و ليسوا فى الناس و لا معهم بقلوبهم، و الكتاب بمقاصده و ثمرته، و اشار الى وجه المباينة بينهما و بين الناس: بكونهما على هدى، و الناس على ضلالة.
و الضدّان لا يجتمعان فى محل واحد هو القلب و ان اجتمعا الاجتماع المذكور. و القوم:
اهل زمانه كالخوارج و غيرهم، و من بعده كأهل الآراء و المذاهب المختلفة. و زبره:
كتبته، و شبّههم بأئمة الكتاب: فى جعله تبعا لآرائهم. و قوله: و من قبل ما مثّلوا بالصّالحين، الى قوله: عقوبة السيئة: اشارة الى ما فعل امراء بنى اميّة، و ولاتهم
ص: 309
كعبيد اللّه بن زياد، و الحجّاج، و مثّل: بالتخفيف و التشديد نكل، و الاسم: المثلة، بضم الميم و سكون الثاء. و «ما» مصدريّة محلها: الرفع بالابتداء و خبرها: من قبل، و اراد:
الّذين فعلوا ذلك من قبل، و بالنسبة الى من بعدهم من الداخلين فى وصفه. و القارعة:
الشديدة. و استنصاح اللّه تعالى: قبول قوله، و اتّخاذه دليلا فى طريقه التي هى اقوم الطرق. و جار اللّه: من لزم بابه بالطاعة، و بيّن معرفة اللّه و عظمته و التعظيم معاندة لاستلزام معرفة العارف به استصغار نفسه فى جنب عظمته، و ذلك مناف لتكبّره، و لذلك تواضع العارف لعظمته، و استيلاء قدرته و استسلامه له مستلزمان لرفعته و سلامته فى الدارين، و معرفة تارك الرشد و ناقض الكتاب و نابذه، شرط فى المعرفة التّامة للرشد، و للتمسك التامّ بالكتاب و لزوم ميثاقه المأخوذ على العباد فى العمل به، لانّ المعرفة التامة للشيء، تستدعى معرفة ما عليه من الشكوك و الشبهات التي هى سبب نقصان معرفته، و الشك فيه، و لما كان الرشد هو الحق الّذي هو عليه و تابعوه، و التارك لذلك هم مخالفوه من أئمة الضلال، لاجرم كان من تمام الرشد الّذى يدعو اليه، و يتمسّك به من الكتاب: معرفة خصومه الّذين تركوا الرشد و نقضوا الكتاب، و معرفة شبههم الباطلة، لتحصل المعرفة على بصيرة.
و لما نبّه على تلك المعرفة امر بالتماسها من عند أهلها، و اراد: نفسه و اهل بيته عليهم السلام، و استعار لهم: وصفى عيش العلم اى: حياته، و موت الجهل، باعتبار انّ بهم وجود العلم و الانتفاع به، و عدم الجهل و التضرّر به، و حكمتهم: منطقهم بالحكمة.
و لما كان صمت الحكيم فى موضعه كان من جملة حكمته، و ظاهرهم هيئة الخاشعين العابدين، و هو دالّ على اتّصاف نفوسهم بكمال قوّتى العلم و العمل. و استعار لفظ الصامت و الناطق: للدّين باعتبار افادة الاحكام الشرعيّة منه عند الرجوع اليه و عدمها.
كلّ واحد منهما يرجوا لأمر له، و يعطفه عليه دون صاحبه: لا يمتّان إلى اللّه بحبل،
ص: 310
و لا يمدّان إليه بسبب!! كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه، و عمّا قليل يكشف قناعه به. و اللّه لئن أصابوا الّذى يريدون لينزعنّ هذا نفس هذا و ليأتينّ هذا على هذا، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون، فقد سنّت لهم السّنن، و قدّم لهم الخبر، و لكلّ ضلّة علّة، و لكلّ ناكث شبهة، و اللّه لا أكون كمستمع اللّدم، يسمع النّاعى و يحضر الباكى.
أقول: يشير الى: طلحة و الزبير. و الأمر: امر الأمارة. و يعطفه: يجذبه اليه، و اراد:
انّهما مختلفان فى نفس الأمر و ان اتّفقا على خلافه، و ليس غرضهما ما زعماه من انكار المنكر. و متّ بكذا: توسّل به. و الضبّ : الحقد و الغل. و استعار لفظ القناع: لظاهره الساتر لباطنه. و قد نقل انّهما اختلفا قبل الحرب فى اللاحق بالتقديم فى الصلاة حتى اقامت عائشة محمد بن طلحة، و عبد اللّه بن الزبير، يصلى بالناس هذا يوما، و هذا يوما، و ادّعى كل واحد منهما كونه احقّ بشبهة ذكرها، فامرت الناس ان يسلموا عليهما جميعا بالأمرة و هم الفئة الباغية هاهنا. و المحتسبون: طالبوا الأجر و الثواب من اللّه. و الخبر الّذى قدّم لهم: ما اخبر به الرسول صلى اللّه عليه و آله بقوله: يا علي انّك ستقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين(1). و المراد: ان من سمع هذا الخبر من طالبى ثواب اللّه، وجب عليه قتال هؤلاء لنكثهم.
و قوله: و لكل ضلّة علّة، الى قوله: شبهة: كالجواب لمن عساه يقول: انّهم يحتجّون بكذا. و اللّدم: الضرب على الصدر و الوجه و نحوه، و اراد: انّه بعد علمه بقصد هؤلاء لقتاله بامارات ظاهرة، لا ينام عنهم حتى توافوه فيكون فى الغرور كمستمع اللدّم، و البكاء الّذى هو مظنة الخطر ثم لا يصدق حتى يحضر الباكى ليشاهد الحال، فيسلّم نفسه للعدوّ و قد كان الاولى ان يكتفى بذلك السماع و يستعدّ للقائه و الهرب منه.
ص: 311
أيّها النّاس، كلّ امرىء لاق ما يفرّ منه فى فراره، و الأجل مساق النّفس و الهرب منه موافاته. كم اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه إلا إخفاءه. هيهات! علم مخزون، أمّا وصيّتى فاللّه لا تشركوا به شيئا، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين، و أوقدوا هذين المصباحين، و خلاكم ذمّ مالم تشردوا. حمل كلّ امرىء منكم مجهوده، و خفّف عن الجهلة ربّ رحيم، و دين قويم، و إمام عليم. أنا بالأمس صاحبكم، و أنا اليوم عبرة لكم، و غدا مفارقكم، غفر اللّه لى و لكم. إن ثبتت الوطأة فى هذه المزلّة فذاك، و إن تدحض القدم، فإنّا كنّا فى أفياء أغصان و مهبّ رياح و تحت ظلّ غمام اضمحلّ فى الجوّ متلفّقها و عفا فى الأرض مخطّها، و إنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما و ستعقبون منّى جثّة خلاء، ساكنة بعد حراك، و صامتة بعد نطوق. ليعظكم هدوّى و خفوت أطرافى، و سكون أطرافى، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع. و داعيكم وداع امرىء مرصد للتّلاقى، غدا ترون أيّامى، و يكشف لكم عن سرائرى، و تعرفوننى بعد خلوّ مكانى و قيام غيرى مقامى.
اقول: انّما قال: فى فراره: لكون الإنسان ابدا فارا من الموت، و اذا كان لا بدّ من لقائه وقتا مّا فلقاؤه فى فراره. و الأجل: قد يراد به: مدّة الحياة و هو: مساق النفس الى غايتها. و فى قوله: و الهرب منه موافاته: لطف به لانّ الفرار منه مثلا بالحركات و العلاجات و نحوها، يستلزم فناء الأوقات، و فى فنائها موافاته، فكان الهرب منه موافاة له. و اطّردت الايّام: جعلتها طريدة لما اتبعها بالبحث عن مكنون هذا الأمر و هو قتله، فأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله اخبره به اجمالا حيث قال له: (أ تدرى من اشقى الأوّلين، قال: نعم عاقر الناقة، فقال: او تعلم من اشقى الآخرين فقال: لا، فقال: من يخضب هذه)(1) و اشار الى لحيته من هذا و اشار الى رأسه. و المكنون: وقته و كيفيته
ص: 312
بالتفصيل. و هيهات أي: بعد ذلك العلم. و حزنه لقوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ » (1)الآية، و روى: اسم اللّه، و محمد منصوبين اى: اعبدوا اللّه و اتّبعوا محمدا. و استعار لفظ العمودين: للتوحيد و السنة، و باعتبار قيام الدين بهما. و لفظ المصباحين: باعتبار هداية الخلق بهما. و ايقادهما: احياءهما و لزومهما. و خلاكم ذمّ : مثل يضرب لمن يبرأ من العيب.
و اوّل من قاله: قصير مولى جذيمه. و قوله: ما لم تشرّدوا: استثناء من نفى لحوق الذمّ . و قوله: و حمل كل امرئ، الى قوله: الجهلة: اشارة الى تفاوت التكليف بذلك انّ اللّه قد حمل كل امرء مجهوده، و ما استعد لقبوله. و أراد بالإمام العليم: الرسول صلى اللّه عليه و آله، و نفسه عليه السلام لعلمهما بوضع الدين و تفاوت قسمته بحسب الأذهان. و كنى بثبات الوطأة: عن البقاء فى حالته تلك، و بدحض القدم: و هو زلفة عن الموت. و استعار لفظ افياء الأغصان: لما يشبه الظلّ من الحياة الدنيا و متاعها للاستراحة اليه كالظل.
و كذلك لفظ الأغصان: للأبدان، و كذلك لفظ مهابّ الرياح: لأنهما قوابل للنفحات الألهية. و لفظ ظل الغمام: لما يعقل من البقاء. و متاع الدنيا، و لفظ الغمام:
لأسباب البقاء المجتمعة. و وصف اضمحلال ما تلفق: من الغمام، و اجتمع لزوال تلك الأسباب و تفرّقها. و الضمير فى مخطّها: يعود الى الرياح، و لفظ المخطّ مستعار: للأبدان ايضا، كالمهاب و عفاؤها. و قوله: جاوركم بدنى: فيه تنبيه على انّ الانسان امر وراء هذا البدن، و انّ نفسه القدسيّة كانت متّصلة بالملأ الأعلى. و ستعقبون: اى توجدون فى العاقبة منى جثة خالية من الروح.
و قوله: وداعيكم اى: وداعى لكم مرصد للتلاقى، اى: معد للقائهم يوم القيامة.
و قوله: غدا، اى: بعد موته الى آخره اراد: انّهم لم يكونوا عارفين بحقه فى امر الدين و مقاصده فى حروبه، و انّما يعرفون ذلك و ينكشف لهم بعد خلوّ مكانه و قيام غيره فيه مقامه.
ص: 313
و أخذوا يمينا و شمالا: طعنا فى مسالك الغىّ ، و تركا لمذاهب الرّشد، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، و لا تستبطئوا ما يجيء به الغد فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه، و ما أقرب اليوم من تباشير غد يا قوم، هذا إبّان ورود كلّ موعود، و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون، ألا و إنّ من أدركها منّا يسرى فيها بسراج منير، و يحذو فيها على مثال الصّالحين، ليحلّ فيها ربقا، و يعتق رقّا، و يصدع شعبا، و يشعب صدعا، فى سترة عن النّاس، لا يبصر القائف أثره، و لو تابع نظره، ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل، تجلى بالتّنزيل أبصارهم، و يرمى بالتّفسير فى مسامعهم، و يغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح.
اقول: الضمير فى قوله: و اخذوا: لمن ضلّ من المسلمين عن طريق الهدى. و اليمين و الشمال: طرفا التفريط و الافراط من الفضائل التي ذكرناها قبل، و تلك الأطراف هى:
الرذائل، و هى: مسالك الغى، و مذاهب الرشد: و هى الفضائل النفسانية. و الكائن المرصد: هو ما كانوا يتوقّعونه من الفتن الموعود بها و كانوا كثيرا ما يسألونه عن وقتها فنهاهم عن استعجال ما لا بدّ من وقوعه و استبطائه. و أبان الشيء: وقته. و من أدركها، اى:
تلك الفتن منّا، اى: من اهل البيت الائمة الاطهار. و استعار لفظ السراج: لكمالات النفس التي استضاءت بها فى طريق اللّه، و استعار لفظ الربق، و هو: الحبل فيه عدّة عرى يشدّ بها البهم: لما انعقد فى النفوس من العقائد الباطلة و الشبه، و الامام يحلها و يعتق الرقاب من رقّ آثامها، و يصدع ما انشعب و التأم من الباطل، و يشعب ما انصدع من الحق و هو مغمور فى الناس. و القائف: قصّاص الأثر و اراد: انّه لا يعرفه من يتعرّفه، و ما زال أئمه اهل البيت عليهم السلام مغمورين فى الناس، لا يعرفهم الاّ من عرّفوه انفسهم. و قوله:
ثم ليشحذنّ الى قوله: النصل، فاستعار وصف الشحذ، و هو: التحذير: لاعداد اذهان قوم فيها لقبول العلوم و الحكمة، كما يعد الحدّاد النصل للقطع بالشحذ.
ص: 314
و قوله: تجلّى بالتنزيل، الى آخره: بيان لكيفية ذلك الشحذ و الاعداد، و اسبابه و هى: تدبّر القرآن، و جلاء ابصار بصائرها بأنوار علومه و حكمته، و قذف تفسيره فى مسامعهم، كما ينبغي من امام الوقت. و لفظ الصبوح و الغبوق: مستعاران.
منها:
و طال الامد بهم، ليستكملوا الخزى، و يستوجبوا الغير، حتّى إذا اخلولق الأجل:
و استراح قوم إلى الفتن، و أشالوا عن لقاح حربهم، لم يمنّوا على اللّه بالصّبر، و لم يستعظموا بذل أنفسهم فى الحقّ ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم، و دانوا لربّهم بأمر واعظهم. حتّى إذا قبض اللّه رسوله، صلّى اللّه عليه و آله، رجع قوم على الأعقاب، و غالتهم السّبل، و اتّكلوا على الولائج، و وصلوا غير الرّحم، و هجروا السّبب الّذى أمروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه فى غير موضعه: معادن كلّ خطيئة، و أبواب كلّ ضارب فى غمرة، قد ماروا فى الحيرة، و ذهلوا فى السّكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدّنيا راكن، أو مفارق للدّين مباين.
اقول: اشار بمن طال الأمد بهم: الى من كان من اهل الجاهلية. و قوله:
ليستكملوا، الى قوله: الغير، كقوله تعالى: «وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ » الىٰ قوله «لِيَزْدٰادُوا إِثْماً»(1). حتى اذا اخلولق الأجل و استراح قوم منهم الى الفتن و الوقائع. و اشالوا عن لقاح حربهم اى: اعدّوا أنفسهم لها كما تعد الناقة نفسها بشول ذنبها و رفعه للقاحها، و تسمى شائلا. و الضمير فى قوله: لم تمنّوا: يرجع الى ذكر سبق للصحابة فى هذه الخطبة، حين قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فيهم و بهم للحرب فلم يمنّوا على اللّه بصبرهم معه، و لم يستعظموا بذل انفسهم فى نصرة الحق، حتى اذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء بدولة الجاهلية، حمل هؤلاء الذين لم يمنّوا على اللّه بنصرهم له بصايرهم اى: برءوسهم على سيوفهم فى نصرة الدين، و دانوا لربّهم بأمر عظيم، و هو الرسول صلى اللّه عليه و آله
ص: 315
حتى اذا قبض اللّه رسوله رجع قوم عن الاسلام، على اعقابهم، و اراد: من ارتدّ بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله من العرب. و غيلة السبل لهم: استراق طرق الباطل المشبهة عليهم لهم، و اتّكالهم على الولائج: اعتماد كل منهم فى نصرة رأيه الفاسد على شبهته التي بلج فيها، او على خاصّته و بطانته و هى: الوليجة. و السبب الّذى امروا بمودّته: هم اهل البيت، و استعار لهم لفظ السبب: باعتبار ايصالهم للتمسك بولائهم الى اللّه و الأمر بمودّتهم فى قوله تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ » (1)و قوله: نقلوا، الى قوله: غير موضعه: اشارة الى عدول من عدل بأمر الخلافة عنه الى غير بينته. و استعار لهم لفظ الابواب: باعتبار انّهم مبادى الشبه و الآراء الفاسدة التي تدخل الناس فى الجهل منها. و الضارب فى الغمرة: الداخل فى غمرة الجهل. و ماروا: تردّدوا. و لفظ السكرة:
مستعار لغفلة الجهل.
و أستعينه على مداحر الشّيطان و مزاجره، و الاعتصام من حبائله و مخاتله. و أشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و نجيبه و صفوته، لا يوازى فضله، و لا يجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة، و الجهالة الغالبة، و الجفوة الجافية، و النّاس يستحلّون الحريم، و يستذلّون الحكيم، يحيون على فترة، و يموتون على كفرة، ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت فاتّقوا سكرات النّعمة، و احذروا بوائق النّقمة، و تثبّتوا فى قتام العشوة، و اعوجاج الفتنة، عند طلوع جنينها، و ظهور كمينها، و انتصاب قطبها، و مدار رحاها: تبدو فى مدارج خفيّة، و تؤول إلى فظاعة جليّة، شبابها كشباب الغلام، و آثارها كآثار السّلام. تتوارثها الظّلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، و آخرهم مقتد بأوّلهم، يتنافسون فى دنيا دنيّة، و يتكالبون على جيفة مريحة، و عن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع، و القائد من المقود فيتزايلون بالبغضاء، و يتلاعنون عند اللّقاء، ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف، القاصمة الزّحوف، فتزيغ قلوب بعد استقامة، و تضلّ رجال بعد سلامة، و تختلف
ص: 316
الأهواء عند هجومها، و تلتبس الآراء عند نجومها من أشرف لها قصمته، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر فى العانة، قد اضطرب معقود الحبل، و عمى وجه الأمر، تغيض فيها الحكمة، و تنطق فيها الظّلمة، و تدقّ أهل البدو بمسحلها، و ترضّهم بكلكلها، يضيع فى غبارها الوحدان، و يهلك فى طريقها الرّكبان، ترد بمرّ القضاء، و تحلب عبيط الدّماء، و تثلم منار الدّين، و تنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، و تدبّرها الأرجاس، مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق، تقطع فيها الأرحام، و يفارق عليها الإسلام، بريّها سقيم، و ظاعنها مقيم.
أقول: الدحر: الطرد، و مداحر الشيطان: مظانّ دحره، من العبادات و الطاعات، و استعار لفظ الحبائل: للشهوات التي هى شباك الشيطان، و مخائله: مخادعه. و لا يوازى اى: لا يقابل بمثله اذ ليس لفضله مثل. و أضاءت البلاد: بسبب ما جاء به من نور الاسلام. و الضلالة: الكفر. و الجفوة: ما كانت العرب عليه من الغلظة، و وصفها بما اشتق منها مبالغة. و الناس: اهل الجاهلية. و البلايا: الفتن الموعود بها. و استعار لفظ السكرات: للغفلة فى نعمة الله عن ذكره فانّها يعد لتعميرها، و نزول بوائق النقمة: و هى:
الدواهى. و استعار لفظ العشوة: للفتنة. و لفظ القتام: لما يعرض من الشبهة بسببها، و اراد فتنة بنى اميّة. و لفظ جنينها: لصغير ما يبدوا منها، و كمينها: مستورها. و لفظ القطب:
لصاحب الفتنة الداعى فيها. و كنى بانتصابه: عن قيامه فيها، و بمدار رحاها: عن اجتماع الخلق عليه. و المدارج الخفية: صدور من ينوى القيام فيها. و الفظاعة: تجاوز الأمر الشديد المقدار. و السلام: الحجارة: و الظلمة: امراء بنى اميّة. و الضمير فى يتوارثها للفتنة و هى: امرة الظالمين، باعتبار ابتلاء الخلق بها. و التكالب: التشاور. و المريحة:
ذات الريح. و الفتنة الاخرى يشبه ان تكون فتنة التتار. و قيل: فتنة تأتى فى آخر الزمان كفتنة الدجّال. و الرجوف: كثيرة الارجاف و اضطراب الخلق فيها. و الزحوف: كثرة الزحف. و نجومها: ظهورها. و المشرف لها: المتطلّع الى دفعها و مقاومتها. و الساعى فيها اى: فى قيامها، و المراد: انّ قائمها و مقاومها يهلكان فيها. و استعار وصف التكادم:
للتغالب. و العانة: القطيع من حمر الوحش. و معقود الحبل: ما انتظم من امر الدين. و
ص: 317
وجه الأمر: وجه المصلحة، و استعار وصف الغيض: لعدم الحكمة. و اوصاف الفرس للفتنة كالمسحل و هى: حلقة تكون فى طرف شكيمة اللجام. و العبيط الخالص من الدّم الطرىّ . و مرّ القضاء: اصعبه كالقتل و نحوه. و منار الدين: مستعار لائمّته. و عقد اليقين: ما انعقد فى النفس من الأمور المتيقنة و نقضه: ترك العمل على وفقه. و الأكياس: أهل العقول و الآراء الصحيحة، و كشفها عن ساق، كناية: عن اقبالها مسرعة كالمشمّر فى مهمة. و قوله: بريّها الى آخره اى: من تبرّأ منها و هرب عنها، لم ينج منها.
منها:
بين قتيل مطلول، و خائف مستجير، يختلون بعقد الأيمان، و بغرور الإيمان، فلا تكونوا أنصاب الفتن، و أعلام البدع، و الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، و بنيت عليه أركان الطّاعة، و اقدموا على اللّه مظلومين و لا تقدموا عليه ظالمين، و اتّقوا مدارج الشّيطان، و مهابط العدوان، و لا تدخلوا بطونكم لعق الحرام، فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية، و سهّل لكم سبل الطّاعة.
أقول: قوله: بين قتيل، الى قوله: مستجير، يشبه ان يكون تفصيلا لحال المؤمنين فى الفتنة. و دم مطلول: اذا هدر فلم يطلب به. و قوله: يختلون بعقد الايمان: صفة استجلاب هؤلاء المقتولين، و خديعتهم عن انفسهم. و انصاب الفتن و اعلامها: رؤساء المعتدى بهم فيها. و حبل الجماعة: نظام المسلمين بالدّين و ما عقدت عليه الألفة و التوازر و على ذلك بني الأسلام، و اركان طاعة اللّه. و قوله: و اقدموا على اللّه مظلومين:
ليس فيه امر بالانظلام لكونه رذيلة بل اذا تعارض الظالمية و المظلومية، فالمظلومية اولى، مع علم النفس بالعجز عن المقاومة او العلم بما تشتمل عليه المقاومة من فساد زائد على القدر الفائت بالانظلام، و انّما يكون الانظلام رذيلة اذا كان مع مهانة لا تنبعث النفس معها الى دفع الظلم و المقاومة. و مدارج الشيطان: مذاهبه و طرقه. و مهابط العدوان:
المظالم. و كنّى بلعق الحرام: عما يؤكل منه، و اللعقة: ما تتناوله الملعقة. و لفظ العين مجاز فى العلم.
ص: 318
الحمد للّه الدّال على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا تستلمه المشاعر، و لا تحجبه السّواتر، لافتراق الصّانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الرّبّ و المربوب، الأحد بلا تأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السّميع لا بأداة، و البصير بلا تفريق آلة، و الشّاهد لا بمماسّة، و البائن لا بتراخى مسافة، و الظّاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة، بان من الأشياء بالقهر لها، و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرّجوع إليه، من وصفه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله، و من قال «كيف ؟» فقد استوصفه، و من قال «أين ؟» فقد حيّزه، عالم إذ لا معلوم، و ربّ إذ لا مربوب، و قادر إذ لا مقدور.
اقول: حمد اللّه تعالى باعتبارات من أوصافه، فالاوّل: الاشارة الى وجوده الواجب، و للناس فى اثباته طريقتان: احداهما: اثبات وجوده باعتبار الوجود نفسه، و قسمته الى واجب، و ممكن، و بيان انّه لا بد من وجود الواجب فى الجملة، و هو طريق العليّين. و الثانية: الاستدلال بالنظر فى المخلوقات و طبائعها، و تغيّراتها على مبدأ لها و هى طريق الطبعيّين، و الملّيين، و المتكلّمون فرّعوا هذه الطرق الى طرق اربع، و ذلك انّهم استدلّوا بامكان الاشياء ثم بحدوثها على الصانع، و على التقديرين فى ذواتها و فى صفاتها. و قد اشرنا الى تفصيلها فى الأصل، و الكلام عليها مستوفى فى الكلام. و اشارته عليه السلام بقوله: الدالّ على وجوده بخلقه: الى الاستدلال بحدوث العالم على وجود صانعه، و هى الطريقة المشهورة للمتكلّمين. الثاني: فى ازليّته و اشار اليه بقوله: و بمحدث خلقه على ازليّته. الثالث: لا شبيه له، و اشار اليه بقوله: و باشتباههم على انّه لا شبيه له. الرابع: تنزيهه عن الجسميّة و لواحقها، و اشار اليه بقوله: لا تستلمه المشاعر و هى:
الحواسّ . الخامس: انّ السماوات لا تحجبه، و نبّه على دليل الاعتبارات الخمسة بقوله:
ص: 319
لافتراق الصانع، الى قوله: و المربوب. و بيانه انّ لكلّ من الصانع و المصنوع، صفات تخصّه بها تفارق الآخر، و تقرير الحجّة: انّ المخلوقية و الحدوث و الاشتباه، و الملموسيّة بالمشاعر و الحجب بالسواتر من الصفات المختصّة بالمصنوع و المحدود و المربوب، و كلّ ما كان كذلك فيجب أن ينزّه الصانع الحادث الكل عنه، و بيانه بالتفصيل، قد نبّهنا عليه فى الأصل. السادس: فى وحدانيّته و قد سبق بيانها فى الخطبة الأولى. و قوله: ليس بمعنى العدد اى: كونه واحدا ليس كونه مبدأ لكثرة يعدّ بها. السابع: كونه تعالى فى خالقيّته منزّها عن الحركات و المتاعب. الثامن: كونه سميعا لا بأداة. التاسع: كونه بصيرا لا بتفريق الآلة، و اراد بتفريق الآلة: امّا توزيع آلة الأبصار، و هو الشعاع على المبصرات او الآلة المفرّقة، و هما القوّتان فى العينين، او الأرواح الحاملة لهما. العاشر: كونه شاهدا اى حاضرا مع الأشياء لا بمماسّة منها. الحادى عشر: تنزيهه عن المباينة بمعنى الافتراق فى المسافة. الثاني عشر: كونه ظاهرا منزّها فى ظاهريّته عن رؤية الابصار، و باطنا منزّها فى ذلك عن لطافة المقدار. الثالث عشر: فى تفسير مباينته للأشياء، و مباينتها له بالوجه اللائق بكماله و نقصانها. الرابع عشر: تنزيهه عن الصفات الزائدة بالقياس الّذى ذكره، و المراد بوصفه هنا:
اشارة الوهم اليه، و لما كان عدّه، امّا جعله مبدأ كثرة معدودة، او ذا اجزاء معدودة و كان ذلك من لواحق المحدثات غير المستحقة الأزليّة بالذّات كان عدّه بأحد الاعتبارين مبطلا ازله الذّاتى. الخامس عشر: تنزيهه عن السؤال عنه بكيف و اين، لامتناع المسئول عنه بهما عليه. و قد مرّت الاشارة الى هذه الصفات و ما بعدها، و الى براهينها فى الخطبة الاولى. و باللّه التوفيق.
ص: 320
منها:
قد طلع طالع، و لمع لامع، و لاح لائح، و اعتدل مائل، و استبدل اللّه بقوم قوما، و بيوم يوما، و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر، و إنّما الأئمّة قوّام اللّه على خلقه، و عرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم و أنكروه. إنّ اللّه تعالى خصّكم بالإسلام، و استخلصكم له، و ذلك لأنّه اسم سلامة و جماع كرامة، اصطفى اللّه تعالى منهجه، و بيّن حججه، من ظاهر علم، و باطن حكم، لا تفنى غرائبه، و لا تنقضى عجائبه، فيه مرابيع النّعم، و مصابيح الظّلم، لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه، و لا تكشف الظّلمات إلاّ بمصابيحه، قد أحمى حماه، و أرعى مرعاه، فيه شفاء المشتفى، و كفاية المكتفى.
أقول: اشار بطلوع الطالع: الى ظهور امر الخلافة، و انتقالها اليه. و بلموع اللامع:
الى ظهور نور العدل بانتقالها الى مقرّها. و بلوح اللائح: الى ما يلوح من امارات الفتنة. و المائل: كونها فى غيره قبله. و اعتداله: انتقالها اليه. و القوم المستبدل بهم: من سبقه به و زمانهم بزمانه. و انتظاره للغير: توقّعه لتغيّر الأمر اليه. و العرفاء: النقباء. و لما ثبت فى الأصول انّ معرفتهم اى: معرفة حقية امانتهم، و معرفتهم لأوليائهم بالولاية لهم شرطين متساويين للايمان، و الايمان و استحقاق الجنة متلازمان، ثبت انّ معرفتهم و المعرفة بهم ملازمة لدخول الجنة، و حينئذ يكون انكارهم و دخول النار متلازمين، و الاّ لصدق احدهما على بعض نقيض الآخر. و امّا ان يصدق انكارهم على بعض من لا يدخل النار فبعض من يدخل الجنة منكر لهم، او يصدق دخول النار على بعض من لا ينكرهم فبعض من يعرفهم يدخل النار، و كلاهما باطلان لما يتنافى الملازمة من دخول الجنة و معرفتهم، فظهر بذلك وجه الحصر فى القضيتين، و فضيلة الاسلام من جهة اسمه كونه عبارة عن الدخول فى الطاعة التي هى: سلامة الدارين، و من جهة معناه كونه جماع كرامة لانّ مداره على تعليم الفضائل، و الطهارة عن الرذائل، و منهجه طريقه، و حججه ادلّته و اماراته و استعار لفظ المرابيع و هى: الامطار الربيعيّة للعلوم و الحكمة باعتبار احيائها القلوب. و لفظ المصابيح لها: للهداية بها من ظلمة الجهل. و لفظ المفاتيح: للتوصّل به الى
ص: 321
الخيرات الحقيقية الباقية. و لفظ الحمى: للمحرّمات التي منعها بنواهيه. و لفظ ا لمرعى:
للمباحات التي اباحها و حلّلها بارشاده.
و هو فى مهلة من اللّه يهوى مع الغافلين، و يغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد، و لا إمام قائد:
اقول: يصف ضالاّ. و المهلة: مدة العمر، و هواه مع الغافلين: انخراطه فى سلكهم الى مهاوى الهلاك. منها:
حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم، و استخرجهم من جلابيب غفلتهم، استقبلوا مدبرا، و استدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم، و لا بما قضوا من وطرهم! و إنّى أحذّركم و نفسى هذه المنزلة، فلينتفع امرؤ بنفسه، فإنّما البصير من سمع فتفكّر، و نظر فأبصر و انتفع بالعبر، ثمّ سلك جددا واضحا يتجنّب فيه الصّرعة فى المهاوى، و الضّلال فى المغاوى، و لا يعين على نفسه الغواة بتعسّف فى حقّ ، أو تحريف فى نطق، أو تخوّف من صدق. فأفق أيّها السّامع من سكرتك، و استيقظ من غفلتك! و اختصر من عجلتك، و أنعم الفكر فيما جاءك على لسان النّبىّ الأمّىّ ، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ممّا لا بدّ منه، و لا محيص عنه، و خالف من خالف ذلك إلى غيره، و دعه و ما رضى لنفسه، وضع فخرك، و احطط كبرك، و اذكر قذرك، فإنّ عليه ممرّك، و كما تدين تدان، و كما تزرع تحصد، و كما قدّمت اليوم تقدم عليه غدا، فامهد لقدمك، و قدّم ليومك. فالحذر الحذر أيّها المستمع، و الجدّ الجدّ أيّها الغافل «وَ لاٰ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إنّ من عزائم اللّه فى الذّكر الحكيم الّتى عليها يثبت و يعاقب، و لها يرضى.
اقول: قوله: حتى، الى قوله: وطرهم، وصف حال العصاة الغافلين بعد الموت.
ص: 322
و استعار لفظ الجلابيب: للأبدان و الهيئات المكتسبة منها باعتبار حجبها لامور الآخرة عنهم، و المدبر الذى استقبلوه: امر الآخرة و المقبل الذى استدبروه: امور الدنيا. و الوطر:
الحاجة. و المنزلة: حال الغافلين المذكورين فإنها منزلة اقدام العقول. و قوله: فانما، الى قوله: صدق، شرح لكيفية انتفاع الانسان بنفسه كما أمر به. و الجدد: الطريق الواضح و هى: سبيل اللّه المستلزمة للسلامة من صرعة المهاوى و هى: المعاصى. و التعسف فى الحق: تكلّف ثبوت الأمر بالشبهة الضعيفة و الاحتمال البعيد، و الطرق غير الواضحة فى الدين. و تحريف القول: تغييره بزيادة او نقصان. و ظاهر انّ من عرف بذلك او بالتخوّف من الصدق فى بعض ما يتوهّم فيه مضرة، هان على الجهال و الغواة، و دعاهم ذلك منه الى الطمع فى انفعاله عن باطلهم، فكان معينا لهم على نفسه، و الاحتجاج عليه بمثل فعله، بل الواجب لزوم الطريق الواضح فى كل مشتبه و الكفّ عما سواها، و اراد بعجلته: سرعته فى طلب الدنيا، و ما لا بدّ منه: الموت و ما بعده، و المحيص: المعدل. و قوله: و كما تدين تدان، الى قوله: يحصد: مثلان يضربان لمن يفعل فعلا و لا بد من جزائه به و التمهيد: التوطئة. و قوله: انّ من عزائم اللّه، الى قوله: منها، اى: من جملة نصوص اللّه التي هى فى محكم كتابه التي باعتقادها و العمل على وفقها، يثيب و يرضى، و بتركها يسخط و يعاقب، انّه لا ينفع عبدا خروجه من الدنيا لاقيا ربّه باحدى الخصال المذكورة غير تائب منها، و ان اجهد نفسه فى العمل، و اخلص فيه:
الشرك فى العبادة المفترضة: الرياء، و يحتمل ان يريد الشرك المعهود. و شفا غيظه بهلاك نفسه: ان يشفيه بمحرّم يستعقب الهلاك فى الدارين او فى الآخرة. و روى: بهلاك نفس. و الإقرار بفعل الغير: النميمة، و السعاية. و البدعة:
المتوصّل بها الى الحاجة، كشهادة الزور و كارضاء الملوك بفعل بعض المحرّمات. و لقاء الناس بوجهين او لسانين: كناية: عن النفاق. و هذه الرذائل بئس الزاد ليوم المعاد. و يسخط، أنّه لا ينفع عبدا - و إن أجهد نفسه و أخلص فعله - أن يخرج من الدّنيا لاقيا ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك باللّه فيما افترض عليه من عبادته،
ص: 323
أو يشفى غيظه بهلاك نفس، أو يقرّ بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة إلى النّاس بإظهار بدعة فى دينه، أو يلقى النّاس بوجهين، أو يمشى فيهم بلسانين، أعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه. إنّ البهائم همّها بطونها، و إنّ السّباع همّها العدوان على غيرها، و إنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا و الفساد فيها، إنّ المؤمنين مستكينون، إنّ المؤمنين مشفقون، إنّ المؤمنين خائفون.
و قوله: اعقل، الى آخره اى: اعقل ما اضربه لك من المثل، و احمل عليه ما يشبهه، فانّ المثل دليل على شبهه و ذلك المثل قوله: انّ البهائم، الى قوله: و الفساد فيها. فقوله انّ البهائم همها بطونها: اشارة الى انّ الانسان المتبع لشهوته بمنزلة البهيمة اذ همها ما تشتهيه من طعام و شراب. و قوله: و انّ السباع همّها العدوان، اشارة: الى متبع القوّة الغضبية بمنزلة السبع فى اتباعها و محبة الانتقام. و قوله: انّ النساء، الى قوله: فيها، اشارة: الى أنّ النساء متبعات للقوّتين الشهويّة و لما كان همّهن بزينة الحياة الدنيا، و الغضبية و كان همّهن الفساد فى الدنيا، فالتابع لشهوته بهيمة، و لغضبه سبع، و لهما امرأة. و لما حصر منابع الشر فى قوّتى الشهوة و الغضب، حقق للمؤمن صفات تستلزم كسر تلك القوّتين ليلزمهما متدبّر المثل، و باللّه التوفيق.
و ناظر قلب اللّبيب: به يبصر أمده، و يعرف غوره و نجده، داع دعا و راع رعى، فاستجيبوا للدّاعى، و اتّبعوا الرّاعى. قد خاضوا بحار الفتن، و أخذوا بالبدع دون السّنن، و أرز المؤمنون و نطق الضّالّون المكذّبون. نحن الشّعار، و الأصحاب، و الخزنة و الأبواب و لا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّى سارقا.
ص: 324
اقول: ناظر قلب اللبيب: فكره، و به يبصر غايته: و هى الموت و ما بعده. و غوره، و نجده، كنايتان: عن طريقى الخير و الشر. و اشار بالداعى: الى الرسول صلى اللّه عليه و آله، و القرآن الكريم، و بالراعي: الى نفسه. و الضمير فى خاضوا: لمحاربيه. و ارز بفتح الراء: تقبضوا و انضموا. و استعار لفظ الشعار: لنفسه و أهل بيته، باعتبار قربهم من الرسول صلى اللّه عليه و آله كالثوب الذى يلي الجسد دون باقى الثياب. و الخزنة و الأبواب اى: خزنة علم الرسول و ابوابه كما قال صلى اللّه عليه و آله: (انا مدينة العلم و على بابها)(1). و قوله: لا تؤتى: ارشاد للناس الى نفسه و اهل بيته بضمير صغراه قوله: فمن أتاها الى آخره. و تقدير كبراه، و من سمى سارقا لحقه الاثم، و العار، و العقاب.
منها:
فيهم كرائم القرآن، و هم كنوز الرّحمان، إن نطقوا صدقوا و إن صمتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله، و ليحضر عقله، و ليكن من أبناء الآخرة فإنّه منها قدم، و إليها ينقلب، فالنّاظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدا عمله أن يعلم: أعمله عليه أم له ؟ فان كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنه، فإنّ العامل بغير علم كسائر فى غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطّريق إلاّ بعدا من حاجته، و العامل بالعلم كسائر على الطّريق الواضح، فلينظر ناظر أ سائر هو أم راجع. و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه و قد قال الرّسول الصّادق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إنّ اللّه يحبّ العبد، و يبغض عمله، و يحبّ العمل و يبغض بدنه». و اعلم أنّ لكلّ عمل نباتا، و كلّ نبات لا غنى به عن الماء، و المياه مختلفة: فما طاب سقيه طاب غرسه و حلت ثمرته، و ما خبث سقيه خبث غرسه و أمرّت ثمرته.
اقول: الاشارة الى فضائل أهل البيت عليهم السلام. و كرائم الايمان: نفائسه كالاعتقادات الحقة، و الاخلاق الفاضلة. و كنوز الرحمن: استعارة باعتبار كونهم خزان
ص: 325
علم اللّه. و خصّص وصف الرحمن لأنه مبدأ بعثة الأنبياء و الاولياء، اذ جعلهم اللّه برحمته هداة خلقه. و قوله: لم يسبقوا اى: عند صمتهم لا يسبقون الى فضيلة نطق، اذ كان صمتهم فى موضع الصمت حكمة. و قوله: فليصدّق رائد اهله: كالمثل و قد سبق مثله، و فائدته التنبيه على فضله، و الأمر يصدق الخبر عنه لمن يعنيهم أمره و انّ عنده من مراعى النفوس و ماء حياتها ما ينبغي. و ليحضر عقله اى: ليفهم ما يقوله: و استعار لفظ الابناء:
للآخرة، و وجه الشبه قوله: فانّه الى قوله ينقلب، و ذلك انّ الانسان مبدأ الحضرة الألهية فعنها ينقلب و اليها يعود، كالمنقلب عن الامّ الراجع اليها.
و قوله: و اعلم، الى قوله: باطنه، اشارة: الى ما اقتضته الحكمة الالهية من جعل العالم الجسمانى مثالا للعالم الروحانى، و طريقا للنفوس البشريّة الى مثالها من المعقولات، و انّه لو لا ذلك لتعذّر السفر الى الحضرة الالهية، و من ذلك ما اشار اليه عليه السلام: من اشخاص الناس او افعالهم الظاهرة، فانّها دالّة على ما يناسبها فى بواطنهم من الأخلاق و اعمال القلوب دلالة اكثريّة، فرّب حسن الصورة قبيح الباطن، و ربّ خبيث الظاهر حسن الباطن، و لذلك استشهد بالخبر النبوىّ (فانّ اللّه يحب العبد من حيث صورته الحسنة) لكونها مقتضى الحكمة الالهية، و انسب الى الوجود من القبيحة التي هى انسب الى العدم الّذى هو الشر المحض، و يبغض عمله من جهة ما هو شر مكروه بالذات و يحب و يبغض بالعكس من كان على العكس، و من النص الحكيم على دلالة الظاهر على الباطن قوله تعالى: «وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاٰ يَخْرُجُ إِلاّٰ نَكِداً» (1)و استعار لفظ النبات: لزيادة الأعمال و نموّها و لفظ الماء للمادية القلبيا من الارادات و النيّات المخالفة، و ظاهر انّ طيب الأعمال بطيبها، و خبثها بخبثها كالماء و ما يسقى به.
ص: 326
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، و ردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته، هو اللّه الملك الحقّ المبين، أحقّ و أبين ممّا تراه العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها، و لم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا، خلق الخلق على غير تمثيل، و لا مشورة مشير، و لا معونة معين، فتمّ خلقه بأمره، و أذعن لطاعته فأجاب و لم يدافع و انقاد و لم ينازع. و من لطائف صنعته، و عجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة فى هذه الخفافيش الّتى يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شيء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ ، و كيف عشيت أعينها، عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدى به فى مذاهبها، و تصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها، و ردعها تلألؤ ضيائها عن المضىّ فى سبحات إشراقها، و أكنّها فى مكا منها عن الذّهاب فى بلج ائتلاقها، فهى مسدلة الجفون بالنّهار على أحداقها، و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به فى التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته، و لا تمتنع من المضىّ فيه لغسق دجنّته، فإذا ألقت الشّمس قناعها، و بدت أوضاح نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضّباب فى وجارها أطبقت الأجفان على مآقيها، و تبلّغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها. فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا، و النّهار سكنا و قرارا، و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطّيران، كأنّها شظايا الآذان غير ذوات ريش و لا قصب، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما، لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا، و لم يغلظا فيثقلا، تطير و ولدها لاصق بها، لاجىء إليها: يقع إذا وقعت، و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه، و يحمله للنّهوض جناحه، و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه، فسبحان البارى لكلّ شيء على غير مثال خلا من غيره.
اقول: انحسار الأوصاف: كلالها عن كشف حقيقته لبراءتها عن التركيب.
ص: 327
و ردعت: كفت. و المساغ: المسلك، و اشار الى هويّته المطلقة بقوله: و لما لم تكن الهويّة مركّبة لم يمكن ان يدلّ عليها الاّ باعتبارات من المسلوب، و الاضافات اللازمة و العارضة، و اللوازم الإضافية اشدّها تعريفا و الأكمل فى التعريف هو اللازم الجامع لنوعى الاضافة، و السلب، و ذلك كون تلك الهويّة إلها، فأن الإله هو الّذى ينسب اليه غيره و لا ينسب هو الى غيره، فانتساب غيره اليه اضافىّ ، و عدم انتسابه الى غيره سلبيّ ، فلا جرم عقب ذكر الهويّة بما يدلّ على ذلك اللازم لأكمليته فى التعريف. ثم لما شرح اسم الهويّة اشار الى كونها: حقا اى: موجودا ثابتا وجوده عند العقل احق و أبين مما ترى العيون اذ هو فطرىّ . و من الاعتبارات السلبية كون العقول لم تبلغه بتحديد لما يلزم من التشبيه، لأنك علمت انّ العقل يستثبت المعقول بصورة تحاكيه المخيلة بها من المحسوسات فيكون مشبها بها. ثم نبّه على غامض حكمة اللّه فى خلق الخفّاش و مخالفته لسائر الحيوان فى قبض الضياء لأبصارها مع كونه مادّة لسائر ابصار الحيوانات، و بسط الظلام لها مع قبضه لسائر الأبصار. و اشار الى ما يصلح علّة لذلك و هو عشاء ابصارها و ضعفها من الاستمداد بنور الشمس. و قيل: فى سبب ضعفه انّه تحلل الروح الباصر منه اذا لقى حرّ النهار فيستكمل بالبدل بقرب الليل لمكان برده، فتعود مبصرا.
و العلانية: الظهور، و «ردعها» عطف على «ارانا». و سبحات اشراقها: بهاؤه و صفاؤه.
و البلج: جمع بلجة و هى اوّل ضوء الصبح. و ائتلاقها: لمعانها. و الاسداف: مصدر اسدف الليل: اظلم. و غسق الدجنة: ظلام الليل. و استعار لفظ القناع: لما يستر الشمس قبل طلوعها. و وضح النهار: ضوؤه. و وجار الضب: بيته. و شظايا الاذان: رؤوسها البارزة.
ثم نبّه على عظمته تعالى، باعتبار خلقه لها مخالفة لسائر الحيوان فى خلقه الجناح، و فى حالها مع ولدها و شرح ذلك بافصح عبارة تكشف عن الغرض.
فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على اللّه فليفعل! فإن أطعتمونى فإنّى
ص: 328
حاملكم - «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ » - على سبيل الجنّة، و إن كان ذا مشقّة شديدة، و مذاقة مريرة. و أمّا فلانة فأدركها رأى النّساء، و ضغن غلا فى صدرها كمرجل القين، و لو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلىّ لم تفعل. و لها بعد حرمتها الأولى، و الحساب على اللّه.
أقول: مفهوم الفصل انّه سبق قبله ذكر فتن و حروب بعده بين المسلمين، يجب على من ادركها ان يعتقل نفسه على اللّه اى: يحبسها عن الدخول فيها على طاعة. و سبيل الجنة هو: الدين القيم، و لزوم المشقة فيه ظاهر كالجهاد. و فلانة: عائشة، و رأي النساء رأيها فى حربه بالبصرة، و رأيهنّ الضعف(1). و امّا الطعن الذى كان لها و هو الحقد فقد نبّهنا عليه فى الأصل فلا نطول بذكره. و حرمتها الاولى: حرمتها برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.
و فى قوله: و الحساب على اللّه: وعيد لها بلقائه.
منها:
سبيل أبلج المنهاج، أنور السّراج، فبالايمان يستدلّ على الصّالحات، و بالصّالحات يستدلّ على الإيمان، و بالإيمان يعمر العلم، و بالعلم يرهب الموت، و بالموت تختم الدّنيا، و بالدّنيا تحرز الآخرة، و إنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرقلين فى مضمارها إلى الغاية القصوى.
اقول: السبيل الابلج هو: الدين. و الأبلج: الواضح. و الإيمان: هو التصديق القلبىّ باللّه و برسله و ما جاءوا به من الاعمال الصالحات ثمراته، و معلومات يستدلّ بوجودها من العبد على وجود الايمان فى قلبه على لزوم الصالحات استدلالا بالعلّة على المعلول.
و لما كانت ثمرات و كمالات له فبالحرىّ أن يكون بها عمارة العالم، اى: الايمان بالمعنى المذكور اذا عضدها البرهان، و هو قليل الفائدة كالخراب اذا لم يعضد بالعمل.
و لمّا كان من الايمان العلم بأحوال المعاد استلزم ذلك العلم دوام ملاحظة الموت المستلزم لرهبته. و لمّا كانت الدنيا محل الاستعداد لتحصيل الزاد ليوم المعاد، كان بها
ص: 329
احراز الآخرة. و الارقال: ضرب من السير سريع، و هو مستعار لسيرهم المتوهّم فى مدة اعمارهم الى الآخرة. و الغاية القصوى هى السعادة، و الشقاوة الاخرويّة. منها:
قد شخصوا من مستقرّ الأجداث، و صاروا إلى مصائر الغايات، لكلّ دار أهلها:
لا يستبدلون بها، و لا ينقلون عنها، و إنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه، و إنّهما لا يقرّبان من أجل و لا ينقصان من رزق، و عليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين، و النّور المبين، و الشّفاء النّافع، و الرّىّ النّاقع، و العصمة للمتمسّك، و النّجاة للمتعلّق لا يعوجّ فيقام، و لا يزيغ فيستعتب، و لا تخلقه كثرة الرّدّ و ولوج السّمع. من قال به صدق، و من عمل به سبق، و قام إليه رجل و قال: أخبرنا عن الفتنة، و هل سألت عنها رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال عليه السلام: لمّا أنزل اللّه سبحانه قوله: «الم أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ » علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، بين أظهرنا، فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الفتنة الّتى أخبرك اللّه بها؟ فقال: «يا علىّ ، إنّ أمّتى سيفتنون من بعدى» فقلت: يا رسول اللّه، أو ليس قد قلت لى يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت عنّى الشّهادة، فشقّ ذلك علىّ فقلت لى «أبشر، فإنّ الشّهادة من ورائك»؟ فقال لى «إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذا؟» فقلت: يا رسول اللّه، ليس هذا من مواطن الصّبر، و لكن من مواطن البشرى و الشّكر، و قال «يا علىّ ، إنّ القوم سيفتنون بعدى بأموالهم، و يمنّون بدينهم على ربّهم و يتمنّون رحمته، و يأمنون سطوته، و يستحلوّن حرامه بالشّبهات الكاذبة و الأهواء السّاهية، فيستحلوّن الخمر بالنّبيذ، و السّحت بالهديّة، و الرّبا بالبيع» فقلت: يا رسول اللّه، بأىّ المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال: «بمنزلة فتنة»(1).
اقول: صدر الفصل تماما لصفة سبقت لحال أهل القبور. و مصائر الغايات: الجنة و النار، و لكل دار منهما اهل. و نبّه على وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، بضميرين صغرى الاوّل منهما قوله: انّهما خلقان من خلق الله، و تقدير كبراه: و كلّ ما
ص: 330
كان كذلك وجب التخلّق به و صغرى الثاني قوله: لا يقربان، الى قوله: من رزق - و تقدير كبراه: و كلّ ما كان كذلك فلا ينبغي ان يحذر فعله. و الناقع: المروى. و يستعتب:
يطلب منه العتبى، و هى الرجوع عن الإساءة. و الرد: الترديد فى الألسنة. و حيزت أى:
قبضت و منعت. و السحت: الحرام. و باقى الفصل ظاهر.
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» جعل الحمد مفتاحا لذكره، و سببا للمزيد من فضله، و دليلا على آلائه و عظمته. عباد اللّه، إنّ الدّهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى منه، و لا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله كأوّله، متسابقة أموره، متظاهرة أعلامه، فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر فى الظّلمات، و ارتبك فى الهلكات، و مدّت به شياطينه فى طغيانه، و زيّنت له سيّئ أعماله، فالجنّة غاية السّابقين، و النّار غاية المفرّطين. اعلموا عباد اللّه، أنّ التّقوى دار حصن عزيز، و الفجور دار حصن ذليل: لا يمنع أهله، و لا يحرز من لجأ إليه. ألا و بالتّقوى تقطع حمة الخطايا و باليقين تدرك الغاية القصوى. عباد اللّه، اللّه اللّه فى أعزّ الأنفس عليكم، و أحبّها إليكم، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ و أنار طرقه. فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة، فتزوّدوا فى أيّام الفناء لأيّام البقاء، قد دللتم على الزّاد، و أمرتم بالظّعن، و حثثتم على المسير، فإنّما أنتم كركب وقوف، لا تدرون متى تؤمرون بالمسير. ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة ؟ و ما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه، و تبقى عليه تبعته و حسابه ؟! عباد اللّه، انّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك، و لا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب! عباد اللّه، احذروا يوما تفحص فيه الأعمال، و يكثر فيه الزّلزال، و تشيب فيه الأطفال. اعلموا، عباد اللّه، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم، و عيونا من جوارحكم، و حفّاظ
ص: 331
صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، و لا يكنّكم منهم باب ذو رتاج، و إنّ غدا من اليوم قريب. يذهب اليوم بما فيه، و يجيء الغدلا حقا به، فكأنّ كلّ امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، و مخطّ حفرته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة! و كأنّ الصّيحة قد أتتكم، و السّاعة قد غشيتكم و برزتم لفصل القضاء، قد زاحت عنكم الأباطيل، و اضمحلّت عنكم العلل و استحقّت بكم الحقائق، و صدرت بكم الأمور مصادرها، فاتّعظوا بالعبر، و اعتبروا بالغير، و انتفعوا بالنّذر.
اقول: كون الحمد دليلا على آلائه: لاختصاص الشكر بمولى النعم، و على عظمته:
لاختصاصه باستحقاق ذلك لذاته، اذ هو مبدأ كلّ نعمة. و التظاهر: الترادف و التعاون.
و الشول: النوق التي جفّ لبنها و ارتفع ضرعها و أتى عليها من نتاجها سبعة اشهر. الواحدة شائلة على غير قياس. و انّما خص الشول لخفتها، و كون سوقها اسرع. و شغل المرء بنفسه:
تطهيرها و تزكيتها بالعلوم و الكمالات، و شغله بغيرها يستلزم إهمالها و تحيّرها فى ظلمات الجهل و الهوى و الارتباك: الاختلاط، و شياطينه: قواه الخارجة عن أوامر عقله و هى: نفسه الأمارة. و المفرطون: المقصّرون فى تحصيل الكمالات النفسانية، و التقوى:
فضيلة تحت العفّة، و الفجور: رذيلة الافراط من العفّة. و حمة العقرب: إبرتها. و لفظها مستعار: للخطايا باعتبار ما فيها من الأذى. و روى حمّتها بالتشديد و هى: شدّتها. و نبّه بقوله: و بالتقوى، الى قوله: القصوى: على كمال قوّتى النفس العلمية و العملية، فالتّقوى:
كمال العمليّة، و اليقين: كمال العلميّة، و بهما تنال الغاية القصوى من المطالب الحقيقية. و أعز الأنفس هى: النفس المطمئنة، و لها الثواب و عليها العقاب. و وجه تمثيلهم بالركب ظاهر، فالانسان: هو النفس، و المطايا هى: الأبدان و القوى النفسانية..
و الطريق هى: العالم الحسّي و العقلي. و السير الّذى ذكره قبل الموت هو: تصرّف النفس فى العالمين، لتحصيل الكمالات المسعدة و هى: الزاد لغاية السعادة الباقية. و السير الثاني الّذى ينتظرونه هو: الرحيل الى الآخرة، و طرح البدن و قطع عقبات الموت. و قوله: انّه ليس، الى قوله: مترك اى: ليس بعده أمر يرغب فيه، لنفاسته و شرفه. و المرغب محلّ :
ص: 332
الرغبة. و الفحص: البحث. و نقاش الحساب: الاستقصاء فيه. و استعار لفظ الرصد للنفوس التي تظهر فيها يوم القيامة صور السيّئات. و لفظ العيون: للجوارح الشاهدة يومئذ.
و حفّاظ الصدق: الكرام الكاتبون. و الرتاج: العلق، و الأمور التي صدرت بهم مصادرها هى: اعمالهم و احوالهم التي كانوا عليها فى الدنيا، و كلّ ما ينبه على احوال الآخرة عبرة. و الغير: جمع غيرة فعلة من التغير، و اعتبارها طريق الاتّعاظ. و النذر: جمع نذير و هو: كل ما افاد تخويفا.
أرسله على حين فترة من الرسل، و طول هجعة من الأمم، و انتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الّذى بين يديه، و النّور المقتدى به: ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق، و لكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي، و الحديث عن الماضى، و دواء دائكم، و نظم ما بينكم.
اقول: استعار لفظ الهجعة: للغفلة الشاملة يومئذ للناس عن احوال الآخرة. و لفظ المبرم: و هو الحبل لما كان الخلق عليه من نظام الحال بالشرائع السابقة. و لفظ الانتقاض:
لفساد ذلك بتغير الشرائع، و الّذى صدّقه بين يديه هو: التوراة و الانجيل، و كلّ امر تقدّم امرا منتظرا قريبا منه يقال انّه جاء بين يديه. و لفظ النور: القرآن. و استنطاقه: استماع فوائده منه عليه السلام، اذ هو لسان الكتاب، و دلّ عليه بقوله: و لن ينطق، الى قوله: عنه. و علم ما يأتي اي: من الفتن و أحوال القيامة، و الحديث عن الماضى من علم الأوّلين و قصصهم. و دائرهم هو: الجهل و رذائل الاخلاق. و دوائهم من ذلك: تزكية نفوسهم بما فيه من الحثّ على مكارم الاخلاق، و التحلّى بالكمالات النفسانية. و نظم ما بينهم: بما اشتمل عليه من القوانين المصلحيّة، و الحكمة السياسية، و المدنية، التي فيها نظام العالم، و استقامة اموره.
ص: 333
منها:
فعند ذلك لا يبقى بيت مدر و لا وبر، إلاّ و أدخله الظّلمة ترحة، و أولجوا فيه نقمة، فيومئذ لا يبقى لكم فى السّماء عاذر، و لا فى الأرض ناصر، أصفيتم بالأمر غير أهله، و أوردتموه غير مورده، و سينتقم اللّه ممّن ظلم: مأكلا بمأكل، و مشربا بمشرب: من مطاعم العلقم، و مشارب الصّبر و المقر، و لباس شعار الخوف، و دثار السّيف، و إنّما هم مطايا الخطيئات، و زوامل الآثام، فأقسم ثمّ أقسم لتنخمنّها أميّة من بعدى كما تلفظ النّخامة، ثمّ لا تذوقها و لا تطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان.
اقول: سياق الكلام الإخبار عن حال بنى امية فى دولتهم من الظلم و استحقاقهم عند ذلك التغيير، و كنى عنه: بعدم العاذر فى السماء، و الناصر فى الارض. و الأمر امر الخلافة، و التوبيخ و الوعيد بالله لهم، و لمن عدل بها عنه، و مأكلا و مشربا نصب بفعل مضمر اي: يبدّلهم الله مأكلا بمأكل. و استعار لفظ العلقم و الصبر و المقر و هو: المرّ لما يتجرّعونه من شدائد القتل و زوال الدولة.
و افاد بعض الشارحين انّه انّما خصص الخوف بالشعار، لأنه باطن فى القلوب، و السيف بالدثار، لانّه ظاهر كما انّ الشعار: ما كان يلي الحديد، و الدثار: ما كان فوقه، و استعار لهم لفظ المطايا. و الزوامل: جمع زاملة للحمل يستظهر به الانسان فى سفره باعتبار حملهم للخطايا. و وصف التنخم لزوال الخلافة عنهم، فكأنهم قذفوها من أفواههم كالنخامة. و أمّا هنا بمعنى: المدّة. و الجديدان: الليل، و النهار.
و لقد أحسنت جواركم، و أحطت بجهدى من ورائكم: و أعتقتكم من ربق الذّلّ ، و حلق الضّيم، شكرا منّى للبرّ القليل! و إطراقا عمّا أدركه البصر، و شهده البدن من المنكر الكثير.
ص: 334
استعار لفظ الربق، و الحلق: لما يخاف عليهم من دولة غيره من الأرذال. و البر القليل اى: منهم و هو: طاعتهم القليلة له. و المنكر الكثير: منكرهم، و يحمل اطرافه عنه على عدم تمكّنه من ازالته لاستلزام ذلك مفسدة اكثر منه، و التجاوز عن بعض الإساءات المنكرة من الرعيّة، كالضّروري فى تدبّر الدولة.
أمره قضاء و حكمة، و رضاه أمان و رحمة، يقضى بعلم، و يعفو بحلم اللّهمّ . لك الحمد على ما تأخذ و تعطى، و على ما تعافى و تبتلى، حمدا يكون أرضى الحمد لك، و أحبّ الحمد اليك، و أفضل الحمد عندك، حمدا يملأ ما خلقت، و يبلغ ما أردت، حمدا لا يحجب عنك، و لا يقصر دونك، حمدا لا ينقطع عدده، و لا يفنى مدده، فلسنا نعلم كنه عظمتك، إلاّ أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم لا تأخذك سنة و لا نوم، لم ينته اليك نظر، و لم يدركك بصر، أدركت الأبصار، و أحصيت الأعمار، و أخذت بالنّواصى و الأقدام، و ما الّذى نرى من خلقك و نعجب له من قدرتك، و نصفه من عظيم سلطانك، و ما تغيّب عنّا منه، و قصرت أبصارنا عنه، و انتهت عقولنا دونه، و حالت ستور الغيوب بيننا و بينه، أعظم فمن فرّغ قلبه، و أعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، و كيف ذرأت خلقك، و كيف علّقت فى الهواء سمواتك، و كيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيرا، و عقله مبهورا، و سمعه والها و فكره حائرا.
أقول: أمره: حكم قدرته الالهية، و كونه قضاء اى: حكما لازما لا يردّ. و كونه حكمة: كونه على وفق الحكمة الالهية و النظام الأكمل، و رضاه يعود الى علمه بطاعة العبد له، و عفوه يعود الى عدم عقابه للمذنبين. و انّما يتحقق العفو مع القدرة على العقاب فلذلك قال: يعفو بحلم. و قوله: فلسنا الى آخره: اعتراف بالعجز عن ادراك كنه عظمته، و اشار الى بيان وجه معرفته الممكنة للخلق، و هى امّا بالصفات الحقيقيّة، لكونه حيا او بالاعتبارات السلبيّة لكونه «لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ »، و لا ينتهى اليه نظر عقلىّ او بصرىّ ،
ص: 335
او الاضافية لكونه مدركا للأبصار محصيا للأعمال آخذا بالنواصى و الاقدام. و «ما» فى قوله: و ما الّذى: استفهامية على سبيل الاستحقار لما استفهم عنه مما عدّده من المدركات بالنسبة الى ما لم يدرك من عظيم ملكوته. و «ما» الثّانية فى قوله: و ما يغيب: بمعنى الّذى محله الرفع بالابتداء و خبره اعظم. و الواو فيها للحال. و مبهورا: مغلوبا. و باقى الفصل ظاهر.
منها:
يدّعى بزعمه أنه يرجو اللّه! كذب و العظيم! ما باله لا يتبيّن رجاؤه فى عمله، فكلّ من رجا عرف رجاؤه فى عمله، إلاّ رجاء اللّه فإنّه مدخول، و كلّ خوف محقّق، إلاّ خوف اللّه فإنّه معلول: يرجو اللّه فى الكبير، و يرجو العباد فى الصّغير، فيعطى العبد ما لا يعطى الرّبّ ، فما بال اللّه، جلّ ثناؤه، يقصّر به عمّا يصنع لعباده ؟ أ تخاف أن تكون فى رجائك له كاذبا، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا، و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه مالا يعطى ربّه، فجعل خوفه من العباد نقدا، و خوفه من خالقهم ضمارا و وعدا، و كذلك من عظمت الدّنيا فى عينه و كبر موقعها فى قلبه، آثرها على اللّه فانقطع إليها و صار عبدا لها. و قد كان فى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، كاف لك فى الأسوة و دليل لك على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، و وطّئت لغيره أكنافها، و فطم عن رضاعها، و زوى عن زخارفها، و إن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، إذ يقول: «رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»(1) و اللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض. و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذّب لحمه، و إن شئت ثلّثت بداود، صلّى اللّه عليه و آله صاحب المزامير، و قارئ أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، و يقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها؟! و يأكل قرص الشّعير من ثمنها، و إن شئت قلت فى عيسى بن مريم، عليه السّلام، فلقد كان يتوسّد الحجر و يلبس الخشن، و يأكل الجشب و كان إدامه الجوع و سراجه باللّيل
ص: 336
القمر، و ظلاله فى الشّتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يحزنه، و لا مال يلفته، و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، و خادمه يداه. فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر، صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، و عزاء لمن تعزّى، و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّى بنبيّه، و المقتصّ لأثره: قضم الدّنيا قضما، و لم يعرها طرفا، أهضم أهل الدّنيا كشحا، و أخمصهم من الدّنيا بطنا، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها، و علم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، و حقر شيئا فحقره، و صغّر شيئا فصغّره، و لو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه و رسوله، و تعظيمنا ما صغّر اللّه و رسوله، لكفى به شقاقا للّه، و محادّة عن أمر اللّه، و لقد كان، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يأكل على الأرض، و يجلس جلسة العبد، و يخصف بيده نعله، و يرقع بيده ثوبه، و يركب الحمار العارى، و يردف خلفه، و يكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول: يا فلانه - لإحدى أزواجه - غيّبيه عنّى، فإنّى إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها، فأعرض عن الدّنيا بقلبه، و أمات ذكرها من نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا، و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النّفس، و أشخصها عن القلب، و غيّبها عن البصر، و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، و أن يذكر عنده. و لقد كان فى رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ما يدلّك على مساوى الدّنيا و عيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه ؟! فإن قال: «أهانه» فقد كذب و أتى بالافك العظيم، و إن قال: «أكرمه» فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له، و زواها عن أقرب النّاس منه، فتأسّى متأسّ بنبيّه، و اقتصّ أثره، و ولج مولجه، و إلاّ فلا يأمن الهلكة، فإنّ اللّه جعل محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، علما للسّاعة، و مبشّرا بالجنّة، و منذرا بالعقوبة:
خرج من الدّنيا خميصا، و ورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله، و أجاب داعى ربّه، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه، و قائدا نطأ عقبه، و اللّه لقد رقعت مدرعتى هذه حتّى استحييت من راقعها، و لقد قال لى قائل: ألا تنبذها عنك ؟ فقلت: اغزب عنّى «فعند الصّباح يحمد القوم السّرى».
ص: 337
اقول: مساق الكلام ذمّ من يرجو اللّه بلا عمل فهو كالمدّعى للرجاء، و تنبيه ان رجاءه ليس(1) بخالص بتكذيبه، و الاشارة الى تقصيره فى العمل و توبيخه عليه.
و المدخول: غير الخالص. و قوله: ما باله، الى قوله: عمله، قياس من الشكل الثاني، بيّن فيه، انّ المقصّر غير راج الرجاء التام، و تلخيصه: انّ هذا المدّعى لا يتبين رجاؤه فى عمله، و كل من رجا يتّبين رجاؤه فى عمله، فينتج: انّ هذا المدّعى للرجاء غير راج، و تقدير الاستثناء مع المستثنى منه، و كل رجاء لراج تعريف فى عمله خلوص رجائه الاّ رجاء الراجى للّه فانّه غير خالص. و روى: فكل رجاء الاّ رجاء اللّه فأنه مدخول. و التقدير:
و كل رجاء محقّق او خالص ليطابق الكليّتين على مساق واحد. و الضمار: ما لا يرجى من الوعد. و قبض اطراف الدنيا عنه كناية: عن منعه منهما. و الأكناف: الجوانب. و زوى: غيّب. و استعار لفظ الادام: للجوع. و لفظ السراج: للقمر، و الظلال لمشارق الارض و مغاربها. و خص التأسّى بمحمد صلى اللّه عليه و آله، لكونه مستجمعا لجميع هدى من سبق فالمقتدى به مقتد بجميعهم. و القضم: الأكل بأدنى الفم. و الهضيم الخميص: لقلة الأكل. و الكشح: الخاصرة. و المحادّة: المعاداة. و جلسة العبد: كما فى التشهّد. و الرياش: الزينة. و الاخلاق الكريمة التي عدّدها فيه صلى اللّه عليه و آله هى:
الامور المقتدى به فيها. و الزلفة: القربة و المنزلة. و قوله: فتأسى: خبر فى معنى الأمر بالتأسيّ . و النبذ: الالقاء. و اغرب: تباعد. و قوله: فعند الصباح، الى قوله: السرى، مثل:
يضرب لمحتمل المشقة ليصل الى الراحة. و اصله: انّ القوم يسيرون ليلا فيحمدون عاقبة ذلك بقرب المنزل اذا اصبحوا،(2) و مطابقة الصباح لاتصال النفس العاقلة بالملأ الأعلى، و اشراق نور الحق عليها عند مفارقة ظلمة البدن، و الهيئات الدنيوية بالرياضة الكاملة التي عندها يحمد عواقب الصبر على مكاره الدنيا، و معاناة شدائدها مطابقة ظاهره حسنة الموقع.
ص: 338
بعثه بالنّور المضيء، و البرهان الجلىّ ، و المنهاج البادى، و الكتاب الهادى: أسرته خير أسرة، و شجرته خير شجرة: أغصانها معتدلة، و ثمارها متهدّلة مولده بمكّة، و هجرته بطيبة، علابها ذكره، و امتدّ بها صوته. أرسله بحجّة كافية، و موعظة شافية، و دعوة متلافية، أظهر به الشّرائع المجهولة، و قمع به البدع المدخولة، و بيّن به الأحكام المفصولة، فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته، و تنفصم عروته، و تعظم كبوته، و يكن مآبه إلى الحزن الطّويل، و العذاب الوبيل. و أتوكّل على اللّه توكّل الإنابة إليه، و أسترشده السّبيل الموديّة إلى جنّته، القاصدة إلى محلّ رغبته. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه و طاعته، فإنّها النّجاة غدا، و المنجاة أبدا، رهّب فأبلغ، و رغّب فأسبغ، و وصف لكم الدّنيا و انقطاعها و زوالها و انتقالها، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها. أقرب دار من سخط اللّه، و أبعدها من رضوان اللّه! فغضّوا عنكم عباد اللّه غمومها و أشغالها لما أيقنتم به من فراقها و تصرّف حالها، فاحذروها حذر الشّفيق النّاصح، و المجدّ الكادح، و اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم:
قد تزايلت أوصالهم، و زالت أبصارهم و أسماعهم، و ذهب شرفهم و عزّهم، و انقطع سرورهم و نعيمهم، فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها، و بصحبة الأزواج مفارقتها، لا يتفاخرون، و لا يتناسلون، و لا يتزاورون، و لا يتجاورون. فاحذروا عباد اللّه حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، النّاظر بعقله، فإنّ الأمر واضح، و العلم قائم، و الطّريق جدد، و السّبيل قصد.
اقول: استعار لفظ النور: لهدى النبوّة. و البرهان الجلىّ : المعجزات، و المنهاج البادى: شريعته الواضحة و اسرته: اهله، و استعار لفظ الشجرة: لقريش، و لفظ الأغصان: لأشخاص بيته صلى اللّه عليه و آله، و اعتدال هذه الاغصان: تقاربهم فى الفضل، و لفظ الثمار: لفضائلهم العلميّة و العملّية. و لفظ التهدّل: لظهورها و كثرتها، و سهولة الانتفاع بها. و طيبة: اسم للمدينة. و امتداد ضوئه كناية: عن انتشار دعوته. و تلافى دعوته: تداركها للخلق، و انقاذهم اياهم من الهلكة. و الشرائع المجهولة: طرق
ص: 339
دينه، و المدخولة: التي فيها. دخل بالتحريك اى: عيب، و عروته: استعارة فى متمسكه من عصم النجاة. و الوبيل: المهلك. و الضمير فى رهّب و رغّب للّه. و الاعراض عن الدنيا هو: الزهد الحقيقىّ . و غضّ غمومها: كفّها. و الكادح: المجدّ فى السّعى و العمل، و الغالب لنفسه اى: الأمّارة بالسوء. الناظر بعين عقله مقابح شهوته. و الأمر الواضح: سبيل الخير و الشرّ. و العلم القائم: كتاب اللّه و دينه. و الفصل واضح.
و قد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به ؟ فقال:
يا أخا بنى أسد، إنّك لقلق الوضين، ترسل فى غير سدد! و لك بعد ذمامة الصّهر و حقّ المسألة، و قد استعلمت فاعلم: أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام - و نحن الأعلون نسبا، و الأشدّون برسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، نوطا - فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس آخرين، و الحكم اللّه و المعود إليه يوم القيامة.
و دع عنك نهبا صيح فى حجراته
و هلمّ الخطب فى ابن أبى سفيان فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه، و لا غرو و اللّه فيا له خطبا يستفرغ العجب و يكثر الأود، حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه، و سدّ فوّاره من ينبوعه. و جدحوا بينى و بينهم شربا وبيئا. فإن ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و إن تكن الأخرى «فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ ».(1)
اقول: الوضين: الحزام. و المثل يقال: لمن لا يتثبت في قوله: و السدد: الصواب.
و الذمامة بالكسر: الحرمة. و امّا كون الأسدى صهرا فلان زينب بنت جحش زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كانت اسديّة و امّها ميمونة بنت عبد المطلب، فهى بنت عمة رسول اللّه. قالوا: و المصاهرة المشار اليها هذه. و قيل: بل كان على عليه السلام متزوّجا
ص: 340
فى بنى اسد. و النوط: التعلّق. و الأثرة: الاستبداد بالشىء، يقال: لما يستبدّ به، و المراد:
الخلافة. و البيت لامرئ القيس، و أصله انه تنقل فى احياء العرب بعد قتل أبيه، فنزل على رجل من جديله طىّ يقال له طريف فأحسن جواره فمدحه و اقام معه. ثمّ إنّه خاف ان لا يمنعه فتحوّل عنه، و نزل على خالد بن سدوس بن اسمع النبهانى، فأغارت بنو جديله عليه و هو فى جوار خالد، فذهبوا بإبله فلما أتاه الخبر ذكر ذلك لخالد، فقال له:
اعطنى رواحلك ألحق عليها، فاردّ عليك ابلك ففعل، فركب خالد فى اثر القوم حتى ادركهم، فقال: يا بنى جديله اغرتم على ابل جارى ؟ قالوا: ما هو لك بجار، قال: بلى و اللّه، و هذه رواحله. فرجعوا اليه، فأنزلوه عنهن و ذهبوا بهن و بالابل، فقال امرؤ القيس القصيدة التي اوّلها البيت:
فدع عنك نهبا صيح فى حجراته *** و هات حديثا ما حديث الرواحل
و النهب: المنهوب. و حجراته: جوانبه. و حديث الثاني: مبتدا، و الأوّل: خبره، و ما: للتنكير، و هى التي اذا دخلت على اسم زادته ايهاما، كقوله: لأمر ما جدع قصير انفه ؟ و اراد: انّى لا ادرى كيف هو و ذلك انه قيل: ان خالدا هو الّذى ذهب بالرواحل فكان عنده شكّ فى امرها. فأما مطابقته لما هو فيه فهو انّ الائمة السابقين و ان كانوا قد استبدّوا بهذا الأمر فحديثهم مفهوم: اذ لهم الشبهة بالقدمة فى الاسلام، و الهجرة، و قرب المنزلة من الرسول فدع ذكرهم و ذكر نهبهم لهذا المقام فيما سبق، و لكن هات ما نحن فيه الآن من خطب معاوية، و الخطب الحادث. و لا غرو اى: لا عجب. و الأود:
الاعوجاج. و القوم: قريش. و استعار لفظ المصباح: لنفسه لانّ انوار دين اللّه تقتبس منه. و لفظ الينبوع اذ هو منبع ما يفوز من العلوم التي هى ماء الحياة الأبدية. و لفظ الشرب الوبىء: لما حصل فى صدورهم من الاحن بسبب هذا الأمر حتى لزم عنه القتل، و القتال الى يوم القيامة. و وصف الجدح بالجيم بعده الحاء و هو: الخلط للكدر الواقع بينهم و اختلاط الامر بسبب ذلك. و محن البلوى: المحن ممّا ابتلاهم اللّه به من الخلاف. و محض الشيء: خالصة.
ص: 341
الحمد للّه خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسيل الوهاد، و مخصب النّجاد ليس لأوّليّته ابتداء، و لا لأزليّته انقضاء، هو الأوّل لم يزل، و الباقى بلا أجل خرّت له الجباه، و وحّدته الشّفاه، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات لا يقال له: «متى ؟» و لا يضرب له أمد بحتّى، الظّاهر لا يقال «ممّا»، و الباطن لا يقال «فيما»، لا شبح فيتقضّى، و لا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة فى ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيّأ عليه القمر المنير، و تعقبه الشّمس ذات النّور، فى الأفول و الكرور، و تقلّب الأزمنة و الدّهور، من إقبال ليل مقبل، و إدبار نهار مدبر، قبل كلّ غاية و مدّة، و كلّ إحصاء و عدّة، تعالى عمّا ينحله، المحدّدون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثّل المساكن، و تمكّن الأماكن: فالحدّ لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء، من أصول أزليّة، و لا من أوائل أبديّة، بل خلق ما خلق فأقام حدّه، و صوّر ما صوّر، فأحسن صورته، ليس لشيء منه امتناع، و لا له بطاعة شيء انتفاع. علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين و علمه بما فى السّموات العلى كعلمه بما فى الأرضين السّفلى.
أقول: ساطع المهاد: جاعل الأرض مهادا للحيوان. و الوهاد: جمع وهدة و هى:
المطمئن من الأرض. و النجاد جمع نجد و هو: المرتفع منها. و اشار بعدم ابتداء اوليّته:
الى قدمه لذاته و بعدم انقضاء ازليّته: الى سلب الغاية عن وجوده. و حدّه للاشياء: جعلها ذات حدود، و نهايات من اجزاء و اشكال، و اقطار تنتهى بها. و لما ظهر من خلقه تعالى للموجودات انّه مباين لها بذاته اشبهت ارادته لأيجادها قصد إبانته منها، فاستعار لفظها لتميزه بذاته عنها. و لما كانت الأوهام لا تدركه لا جرم لم يمكن تقديرها ايّاه بما من شأنها الادراك به مما عدّد، و لما تنزّه عن الزمان و المادة و المكان لم تصدق عليه الألفاظ المقولة بحسبها. و شخوص اللحظة مدّ البصر. و ازدلاف الربوة: تقدّمها اى: الربوة
ص: 342
المتقدّمة. و الضمير فى «عليه» للغسق. و فى تعقبه للقمر. و قوله: من اقبال ليل: متعلق بتقليب. و البدئة: المبتدأة، و اشار بتشابه علمه فى الماضين و الباقين، و بما فى السماوات و الأرضين: الى ازليّته و عدم تجدّده تغيره.
منها:
أيّها المخلوق السّوىّ ، و المنشأ المرعىّ فى ظلمات الأرحام و مضاعفات الأستار، بدئت من سلالة من طين، و وضعت فى قرار مكين إلى قدر معلوم، و أجل مقسوم، تمور فى بطن أمّك جنينا: لا تحير دعاء، و لا تسمع نداء، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها، و لم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدى أمّك ؟ و عرّفك عند الحاجة مواضع طلبك و إرادتك ؟ هيهات! إنّ من يعجز عن صفات ذى الهيئة و الأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، و من تناوله بحدود المخلوقين أبعد.
اقول: الخطاب للإنسان. و السوىّ : مستوى الخلقة. و المرعى: المعتنى بأمره. و نبّه بكونه مخلوقا سويّا مرعيا فى اطوار خلقته و تقلّبات حالاته الى غايته على وجود صانع حكيم لطيف خبير، و هذا القدر من المعرفة هو الضّرورى للفطن، و ان احتاج الى تنبيه ما، و ما - وراء ذلك فامر لا تطلع العقول البشرية منه الاّ على اعتبارات، و مقايسات له الى خلقه كما سبق بيانه. و نبّه على بعد ادراكه بقوله: هيهات، الى قوله: و الادوات اى: من يعجز عن صفات نفسه فى حال بخليقه، و الاطلاع على منافع جزئيات اعضائه مع كونها اقرب الاشياء اليه، فهو عن وصف خالقه الذى هو ابعد الاشياء عنه مناسبة اعجز، و من ادراكه بالمقايسة، و التشبيه بحدود المخلوقات و صفاتها أبعد.
ص: 343
لما اجتمع الناس عليه و شكوا ما نقموه على عثمان، و سألوه مخاطبته عنهم و استعتابه لهم، فدخل عليه فقال: - إنّ النّاس ورائى، و قد استسفرونى بينك و بينهم، و و اللّه ما أدرى ما أقول لك ؟! ما أعرف شيئا تجهله، و لا أدلّك على أمر لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشىء فنبلغكه، و قد رأيت كما رأينا، و سمعت كما سمعنا، و صحبت رسول اللّه كما صحبنا، و ما ابن أبى قحافة و لا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك، و أنت أقرب إلى رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، وشيجة رحم منهما، و قد نلت من صهره ما لم ينالا، فاللّه اللّه فى نفسك فإنّك، و اللّه، ما تبصّر من عمى، و لا تعلم من جهل، و إن الطّرق لواضحة، و إنّ أعلام الدّين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى و هدى، فأقام سنّة معلومة، و أمات بدعة مجهولة، و إنّ السّنن لنيّرة لها أعلام، و إنّ البدع لظاهرة لها أعلام، و إنّ شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيا بدعة متروكة، و إنّى سمعت رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر، يلقى فى نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرّحى: ثمّ يرتبط فى قعرها»، و إنّى أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يقال: يقتل فى هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس أمورها عليها، و يبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجا، و يمرجون فيها مرجا، فلا تكوننّ لمروان سيّقة، يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ ، و تقضّى العمر!! فقال له عثمان رضى اللّه عنه: كلم الناس فى أن يؤجلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم، فقال عليه السلام:
ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، و ما غاب فأجله وصول أمرك إليه.
اقول: استسفرونى: بعثونى رسولا. و الوشيجة: عروق الشجرة. و استعار لفظها:
ص: 344
لنسبته من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و اما كونه اقرب من الشيخين، فكونه من ولد عبد مناف دونهما. و الطرق الواضحة طرق الدين. و اعلامه ادلته و ائمته. و السّيقة بتشديد الياء: ما يسوقه العدوّ فى الغارة من الدواب. و قد كان مروان من أقوى الاسباب الباعثة على قتلة، بتصريفه إيّاه على، حسب آرائه و عكس الاراء(1) التي كان يشار عليه بها.
ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان و موات، و ساكن و ذى حركات، فأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته و عظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به، و مسلّمة له، و نعقت فى أسماعنا دلائله على وحدانيّته، و ما ذرأ من مختلف صور الأطيار، الّتى أسكنها أخاديد الأرض، و خروق فجاجها رواسى أعلامها، من ذات أجنحة مختلفة، و هيئات متباينة، مصرّفة فى زمام التّسخير، و مرفرفة بأجنحتها فى مخارق الجوّ المنفسح و الفضاء المنفرج، كوّنها بعد أن لم تكن فى عجائب صور ظاهرة، و ركّبها فى حقاق مفاصل محتجبة، و منع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السّماء خفوفا، و جعله يدفّ دفيفا، و نسقها على اختلافها فى الأصابيغ، بلطيف قدرته، و دقيق صنعته، فمنها مغموس فى قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، و منها مغموس فى لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبغ به. و من أعجبها خلقا الطّاووس الّذى أقامه فى أحكم تعديل، و نضّد ألوانه فى أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، و ذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، و سما به مطلاّ على رأسه، كأنّه قلع دارىّ عنجه نوتيّه يختال بألوانه، و يميس بزيفانه، يفضى كإفضاء الدّيكة، و يؤرّ بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة فى الضّراب! أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده، و لو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف فى ضفّتى جفونه، و إنّ أنثاه تطعم ذلك ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب تخال قصبه مدارى من
ص: 345
فضّة، و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزّبرجد، فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنّى جنى من زهرة كلّ ربيع: و إن ضاهيته بالملابس، فهو كموشىّ الحلل، أو مونق عصب اليمن، و إن شاكلته بالحلىّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللّجين المكلّل، يمشى مشى المرح المختال، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سر باله، و أصابيغ و شاحه. فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا بصوت يكاد يبين عن استغاثته. و يشهد بصادق توجّعه، لأنّ قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة، و قد نجمت من ظنبوب ساقه صيصيّة خفيّة، و له فى موضع العرف قنزعة خضراء، موشّاة، و مخرج عنقه كالابريق، و مغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانيّة، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال، و كأنّه متلّفّع بمعجر أسحم إلاّ أنّه يخيّل لكثرة مائه و شدّة بريقه أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به. و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم فى لون الأقحوان، أبيض يقق، فهو ببياضه فى سواد ما هنالك يأتلق. و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط، و علاه بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه و رونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع، و لا شموس قيظ، و قد ينحسر من ريشه، و يعرى من لباسه فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثمّ يتلا حق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه، و لا يقع لون فى غير مكانه. و إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة ورديّة، و تارة خضرة زبر جديّة، و أحيانا صفرة عسجديّة، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنطم وصفه أقوال الواصفين و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه و الألسنة أن تصفه ؟! فسبحان الّذى بهر العقول، عن وصف خلق جلاّه للعيون فأدركته محدودا مكوّنا و مؤلّفا ملوّنا، و أعجز الألسن عن تلخيص صفته و قعد بها عن تأدية نعته. و سبحان من أدمج قوائم الذّرّة و الهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان و الفيلة، و وأى على نفسه أن لا يضطرب شبح ممّا أولج فيه الرّوح إلاّ و جعل الحمام موعده و الفناء غايته.
أقول: غرض الخطبة التّنبيه على عجائب صنع اللّه، لغاية الالتفات اليه، و شواهد البيّنات ما ظهر للعقول من لطائف المخلوقات، فاستدلّت بها على حكمته و قدرته. و
ص: 346
«ما» الاول: مفعول لاقام. و الضمير فى له: يرجع الى ما وفىّ به. و له الثانية: يرجع الى اللّه، و فى دلائله يحتمل العود الى كل منهما. و ما الثانيّة: محلّها الجرّ عطفا على الضمير فى دلائله، و استعار وصف النعيق: لظهور تلك الدلائل فى العقل كالأصوات الظاهرة عند السمع. و الاخاديد: شقوق الأرض و شعابها. و الفج: الطريق بين الجبلين. و رواسى أعلامها: ثوابت جبالها. و عبل الجثة: كالنعام. و خصّ الطاوس بشرح الوصف لكونه أدلّ على كمال القدرة لاشتماله على جميع الألوان. و قصبه قصب ريشه. أشرج قصبه: ضبط اصولها بالأعصاب و العظام، و شرح بعضها ببعض. و القلع: الشراع.
و الدارىّ : نسبة الى دارين مدينة قديمة بساحل القطيف من البحرين(1) يقال: انّ الظيب كان يجلب اليها. و شبّه ذنبه: بالقلع الدّارى عند ارادته للفساد، باعتبار انّه يرفعه و ينشره فيصير كالشراع. و عنجه: عطفه، و اداره. النوتى: الربان للسفينة: و يختال: يتداخله الخيلاء. و الافضاء: النكاح. و أرّ الفحل بالراء المهملة نكح. و الملاقحة: المناكحة.
و روى: بملاقحه بالهاء أى: محالّ لقاحه.
و قوله: و لو كان كزعم، الى قوله: المنبجس، اى: لو كان حاله فى النكاح كزعم من يزعم انّ الذكر يلقح بدمعة تنشجها مدامعه، اى: تغص بها فيقف الدمع فى ضفتى اجفانه، اى: جانباها فتطعمها الأنثى فتلقح من تلك الدمعة لما كان ذلك بأعجب ممّا يقال فى مطاعمة الغراب. فانّ العرب تزعم انّ الغراب لا يسفد، و من أمثالهم: اخفى من سفاد الغراب، و يزعمون انّ اللقاح من مطاعمة الذكر و الأنثى، و ايصال جزء من الماء الذى فى فايضته اليها بأن يضع كل منهما منقاره فى منقار الآخر و يتزاقا. و روى «عوض تنشجها»: تسفحها. و المنبجس: المنفجر. و هو عليه السلام لم يتعرّض لنفى ذلك و لا اثباته.
و نقل الشيخ فى الشفاء: انّ القبحة تحيلها ريح تهبّ من ناحية الحجل و من سماع صوته. قال: و النوع المسمّى «مالاقيا» يتلاصق بأفواهها ثم يتشابك فذلك سفادها. و شبّه قصب ذنبه: بالمدارى من الفضّة جمع مدرى بالدّال المهملة و هو: كالميل يتّخذ من قرن او فضة تخلل به المرأة شعرها. و داراته و شموسه: ما على ريشه من الدوائر الملوّنة
ص: 347
المشعشعة. و العقيان: الذهب. و الفلذ: القطع. و المضاهاة: المشابهة. و الموشى:
المنقوش: و عصب اليمن: برود تعمل بها. و نطقت باللجيّن: شدّت بالفضّة. و الحمش:
الدقاق. و الخلاسية: هى المتولّدة بين الدجاج الهندى و الفارسى. و ظنبوب: حرف الساق. و الصيصة: الشوكة النابتة فى مؤخر ساق الديك. و القنزعة: شعرات تجتمع فى موضع من الرأس. و الوسمة: شجر يخضب به. و التلفّع: التلّحف. و الأسحم: الاسود. و مستدقّ القلم بفتح الدال: رأسه و بكسرها أيضا. و اليقق: خالص البياض. و أدمجه:
احكمه. و الذّر صغار النمل. و الهمجة: ذبابة صغيرة كالبعوضة.
و وصفه عليه السلام لعجائب صنع اللّه فى خلق هذا الطائر لا مزيد على بلاغته.
منها فى صفة الجنة:
فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك من بدائع ما أخرج إلى الدّنيا من شهواتها و لذّاتها و زخارف مناظرها، و لذهلت بالفكر فى اصطفاق أشجار غيّبت عروقها فى كثبان المسك على سواحل أنهارها، و فى تعليق كبائس اللّؤلؤ الرّطب فى عساليجها و أفنانها، و طلوع تلك الثّمار مختلفة فى غلف أكمامها، تحنى من غير تكلّف، فتأتى على منية مجتنيها، و يطاف على نزّالها فى أفنية قصورها بالأعسال المصفّقة، و الخمور المروّقة، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتّى حلوّا دار القرار، و أمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة، لزهقت نفسك شوقا إليها، و لتحمّلت من مجلسى هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها، جعلنا اللّه و إيّاكم ممّن سعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته.
أقول: اكثر الألفاظ المستعملة هاهنا استعارات، اذ ليست أشجار الجنة و أنهارها و كثبان مسكها و كبائس لؤلؤها: كما هو المحسوس عندنا، بل أعلى من ذلك و أشرف، و هذه أمثلة لها تعقّل لما بينهما من المناسبة، و انت بعد معرفتك بقواعد التأويل، و وقوفك على ما دلّ البرهان عليه من العلوم الالهية ربّما امكنك ان تعرف طرفا صالحا من مناسبة هذه الأمثلة. و الكبائس: جمع كباسة و هى: العذق. و العساليج: الغصون واحدها
ص: 348
عسلوج. و الافنان: جمع فنن و هى: الغصون. و الأكمام: جمع كمامة بكسر الكاف، و هى: غلاف الطلع. و المصفّق: المصفّى.
ليتأسّ صغيركم بكبيركم، و ليرأف كبيركم بصغيركم و لا تكونوا كجفاة الجاهليّة:
لا فى الدّين يتفقّهون، و لا عن اللّه يعقلون، كقيض بيض فى أداح: يكون كسرها وزرا، و يخرج حضانها شرّا!! أقول: قيض البيضة: قشرها الأعلى. و الاداح جمع ادحى: افعول من الدحو، و هو:
الموضع الذى تفرخ به النعامة و شبّههم على تقدير كونهم كجفاة الجاهلية، بقشر البيضة من الأفعى و نحوه، و وجه الشبه انّها ان كسرها كاسر اثم لتأذّى الحيوان به. و قيل: لانّه يظّن بيض القطا فيأثم كاسره، و ان لم يكسر يخرج حضانها افعى قاتلا و هو شرّ، فكذلك هؤلاء لا تحل لأحد اذاهم لحرمة ظاهر الاسلام عليهم، و ان هم تركوا على ما هم عليه من الجهل و قلة الأدب خرجوا شياطين.
و منه:
افترقوا بعد الفتهم، و تشتّتوا عن أصلهم: فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبنى أميّة كما تجتمع قزع الخريف، يؤلّف اللّه بينهم ثمّ يجعلهم ركاما كركام السّحاب، ثمّ يفتح اللّه لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين حيث لم تسلم عليه قارّة، و لم تثبت عليه أكمة، و لم يردّ سننه رصّ طود، و لا حداب أرض، يذعذعهم اللّه فى بطون أوديته، ثمّ يسلكهم ينابيع فى الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، و يمكّن لقوم فى ديار قوم، و ايم اللّه ليذوبنّ ما فى أيديهم بعد العلوّ و التّمكين، كما تذوب الألية على النّار. أيّها النّاس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ ، و لم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع
ص: 349
فيكم من ليس مثلكم، و لم يقو من قوى عليكم، لكنّكم يهتم متاه بنى إسرائيل!! و لعمرى ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدى أضعافا بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم، و قطعتم الأدنى، و وصلتم الأبعد!! و اعلموا أنّكم إن اتّبعتم الدّاعى لكم سلك بكم منهاج الرّسول، و كفيتم مئونة الاعتساف و نبذتم الثّقل الفادح عن الأعناق.
اقول: الاشارة الى أصحابه، و اصلهم: هو عليه السلام اذ افترقوا عنه الى خوارج و غيرهم. و استعار لفظ الغصن: لمن يخلفه من ولده: «الائمة عليه السلام» و الاخذ به:
لزوم هديه، الآخذون به هم: الشيعة، و ان افترقوا فرقا. و القزع: قطع السحاب المتفرّقة، و اراد انّ اللّه سيجمعهم بعد تفرّقهم لشّر يوم لبنى اميّة لازالة ملكهم و قتلهم. و انما خصّ الخريف، لسرعة تألّف سحابه و امطاره. و الركام: المتراكم، و الأبواب الذى يفتحها لهم:
كوجوه الآراء التي يجتمعون بها، و سائر اسباب الغلبة. و شبّه خروجهم من مستثارهم و مكامنهم: بسيل جنّتى مأرب و هو: سيل العرم المشار اليه فى القرآن الكريم(1). و وجه الشبه: شدّة خروجهم، و سرعة افساد ما يأتون عليه، حتى لا يسلم منهم أحد، كما لم يسلم على ذلك السيل قارة اى: اكمه، سننه: قصده. و حداب الأرض جمع حدب و هو:
المرتفع منها. و الذعذعة بالذال المعجمة: التفريق.
و قد كان من أمر الشيعة الهاشمية، و اجتماعها على ملك بنى اميّة، من كان منهم على ولاء عليّ و اهل بيته، و من حاد منهم عن ذلك فى اواخر ايّام مروان الحمار عند ظهور دعوة الهاشمية ما هو معلوم مشهور(2) فى التواريخ. و تهنوا: تضعفوا. و توهين الباطل:
اضعافه. و الداعى: هو عليه السلام. و كفيتم مئونة الاعتساف اى: فى طرق الضلال.
و الفادح: المثقل، و هو ثقل الأوزار عن اعناق نفوسهم.
ص: 350
إنّ اللّه تعالى أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير و الشّرّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، و اصدفوا عن سمت الشّرّ تقصدوا، الفرائض الفرائض! أدّوها إلى اللّه تؤدّكم إلى الجنّة. إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول، و أحلّ حلالا غير مدخول، و فضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، و شدّ بالإخلاص و التّوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده إلاّ بالحقّ . و لا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب، بادروا أمر العامّة و خاصّة أحدكم و هو الموت، فإنّ النّاس أمامكم، و إنّ السّاعة تحدوكم من خلفكم. تخفّفوا تلحقوا!! فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم. اتّقوا اللّه فى عباده و بلاده فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع و البهائم، و أطيعوا اللّه و لا تعصوه، و إذا رأيتم الخير فخذوا به، و إذا رأيتم الشّرّ فأعرضوا عنه.
اقول: أصدفوا: أعرضوا. و المدخول: المعيوب. و قوله: و فضل، الى قوله: معاقدها، اى: اوجب على الموحّدين المحافظة على حقوق المسلمين، و مراعاة مواضعها و ربط توحيده بذلك، حتى صار فضله كفضل التوحيد، فمن قتل مسلما بغير حقّ فكأنما سلب توحيد اللّه. و معاقدها: مواضع عقد وجوبها، و مناقشة الحساب عن البقاع كما روى انّه يقال: لم استوطنتم هذا المكان و زهدتم فى ذلك ؟ و عن البهائم: لم ضربتم هذه و قتلتم هذه ؟ و لم اوجعتموها؟ و هو داخل فى قوله تعالى: «وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ »(1).
ص: 351
و قد قال له قوم من الصحابه: لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان ؟ فقال عليه السلام:
يا إخوتاه، إنّى لست أجهل ما تعلمون، و لكن كيف لى بقوّة و القوم المجلبون على حدّ شوكتهم يملكوننا و لا نملكهم ؟ و ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، و التفّت إليهم أعرابكم، و هم خلالكم، يسومونكم ما شاءوا، و هل ترون موضعا لقدرة على شيء تريدونه ؟ و إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، و إنّ لهؤلاء القوم مادّة، إنّ النّاس من هذا الأمر - إذا حرّك - على أمور: فرقة ترى ما ترون، و فرقة ترى مالا ترون، و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك. فاصبروا حتّى يهدأ النّاس، و تقع القلوب مواقعها، و تؤخذ الحقوق مسمحة، فاهدءوا عنّى، و انظروا ما ذا يأتيكم به أمرى، و لا تفعلوا فعلة تضعضع قوّة و تسقط منّة و تورث وهنا و ذلّة، و سأمسك الأمر ما استمسك، و إذا لم أجد بدّا فآخر الدّواء الكىّ .
أقول: الألف فى «يا إخوتاه» هى: المنقلبة عن ياء النفس. و أجلب عليه جمع. و شوكتهم قوّتهم. و العبدان بتشديد الدال. و تخفيفها و كسر العين و ضمّها: جمع عبد.
و التفت: انضمتّ و يسومونكم: يكلّفونكم. و مسمحة: مسهلة. و الفصل يدلّ على انّه عليه السلام كان مترصّدا للفرصة، و التمكّن من القصاص على وجه الشرع فلم يمهل.
و روى: انّه عليه السلام جمع الناس و وعظهم، ثم قال: ليقم قتلة عثمان، فقاموا بأسرهم الاّ القليل، و كان ذلك استشهادا منه على صدق قوله، و الناس على حدّ شوكتهم، و على انّه لا قدرة له على القصاص حينئذ. و قوله: فاذا لم أجد بدّا، الى قوله: الكى، اى: اذا لم يكن بدّا من القتال قاتلت، و كنّى عنه: بالكى.
ص: 352
إنّ اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق و أمر قائم، لا يهلك عنه إلاّ هالك، و إنّ المبتدعات المشبّهات هنّ المهلكات، إلاّ ما حفظ اللّه منها، و إنّ فى سلطان اللّه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة و لا مستكره بها. و اللّه لتفعلنّ أو لينقلنّ اللّه عنكم سلطان الإسلام، ثمّ لا ينقله إليكم أبدا حتّى يأرز الأمر إلى غيركم. إنّ هؤلاء قد تمالئوا على سخطة إمارتى، و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنّهم إن تمّموا على فيالة هذا الرّأى، انقطع نظام المسلمين، و إنّما طلبوا هذه الدّنيا حسدا لمن أفاءها اللّه عليه، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها، و لكم علينا العمل بكتاب اللّه تعالى و سيرة رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و القيام بحقّه، و النّعش لسنّته.
أقول: قوله: لا يهلك عنه الاّ هالك اى: لا يهلك عن مخالفته الاّ اعظم هالك، كما تقول: لا يعلم هذا الفن الاّ عالم اى: بالغ فى العلم، و المبتدعات: المشتبهات ما ابتدع فى الدين مشتبها بالسنّة و ليس منها. و روى: المشبّهات اى: للسنّة. و روى:
المشتبهات و هو: ما أشتبه على الناس، و لبس عليهم و هى: المهلكات اى: فى الآخرة، الاّ ما عصم اللّه اى: حفظه من الوقوع فيها. و سلطان اللّه: القائم بدينه و أمره، و هو اشارة:
الى نفسه. و غيره ملومة: اى غير ملوم صاحبها بالغش فيها. و روى: غير ملويّة اى:
معوجّة، و أرز الأمر يأرز: انجاز و انقبض. و هؤلاء: اشارة الى طلحة، و الزبير، و عائشة، و اتباعهم. و تمالئوا: اجتمعوا. و فيالة الرأى: ضعفه. و النعش: الرفع. و باقى الفصل ظاهر.
لما قال لكليب الجرميّ قبل وقعة الجمل: بايع. فقال: إنّي رسول قوم و لا أحدث حدثا دونهم حتى أرجع اليهم. فقال - عليه السلام -:
أ رأيت لو أنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا تبتغى لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم
ص: 353
و أخبرتهم عن الكلاء و الماء فخالفوا إلى المعاطش و المجادب، ما كنت صانعا؟ قال:
كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلأ و الماء. فقال عليه السلام:
فامدد إذا يدك! فقال الرجل: فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على، فبايعته عليه السلام.
اقول: «الجرمى» منسوب الى بنى جرم قبيلة، و كان قوم من أهل البصرة بعثوه اليه عليه السلام ليستعلم حاله، أ هو على حجة، ام هو على شبهة ؟ فلما رآه و سمع لفظه لم يتخالجه شك فى صدقه، فبايعه و كان بينهما الكلام المنقول. و لا الطف من التمثيل الذى جذبه به عليه السلام، و لذلك اقسم انّه لم يتمكّن من مخالفته.
اللّهمّ ربّ السّقف المرفوع، و الجوّ المكفوف، الّذى جعلته مغيضا للّيل و النّهار، و مجرى للشّمس و القمر، و مختلفا للنّجوم السّيّارة، و جعلت سكّانه سبطا من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك، و ربّ هذه الأرض الّتى جعلتها قرارا للأنام، و مدرجا للهوامّ و الأنعام، و ما لا يحصى ممّا يرى و ممّا لا يرى، و ربّ الجبال الرّواسى الّتى جعلتها للأرض أوتادا و للخلق اعتمادا - إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغى، و سدّدنا للحقّ ، و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة و اعصمنا من الفتنة. أين المانع للذّمار، و الغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ؟! العار وراءكم، و الجنّة أمامكم.
أقول: كون الفلك مغيضا لليل و النهار باعتبار حركته المستلزمة بحركة الشمس عن وجه الارض، و الى وجهها فبالاعتبار الاوّل يكون: كالمغيض للنهار، و بالاعتبار الثاني يكون: كالمغيض لليل. و استعار له لذينك الاعتبارين لفظ: المغيض. و السبط: القبيلة.
و كون الجبال اعتمادا للخلق: لما فيها من المرافق لهم. و قوله: فجنبنا البغى، و سدّدنا
ص: 354
للحق: طلب للوقوف على حدّ الفضيلة فى الجهاد، من طرفى الافراط و التفريط، و العصمة من الفتنة و هى: الابتلاء بالمعصية فى طرفى الغلب و الانغلاب. و الذمار: ما لزمك حفظه. و الحقائق: ما يقع من عظائم الأمور. و قوله: النار الى قوله: أمامكم اى: فى رجوعكم عن الحرب دخول النار، و فى اقدامكم عليها دخول الجنّة.
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» لا توارى عنه سماء سماء، و لا أرض أرضا منها:
و قد قال قائل: إنّك على هذا الأمر يا ابن أبى طالب لحريص! فقلت: بل أنتم و اللّه لأحرص و أبعد، و أنا أخصّ و أقرب! و إنّما طلبت حقّا لى و أنتم تحولون بينى و بينه، و تضربون وجهى دونه، فلمّا قرعته بالحجّة فى الملأ الحاضرين هبّ كأنّه [بهت] لا يدرى ما يجيبني به! اللّهمّ إنّى أستعينك على قريش و من أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمى، و صغّروا عظيم منزلتى، و أجمعوا على منازعتى أمرا هولى، ثمّ قالوا: ألا إنّ فى الحقّ أن تأخذه و فى الحقّ أن تتركه.
أقول: روى انّ القائل له كان سعد بن ابى وقّاص، فى ايام الشورى، بعد مقتل عمر، و قوله: هب، اى: استيقظ من غفلته، و روى بهت. و قوله: و قالوا الى آخره، اى: انّهم لم يقتصروا على أخذ حقّى ساكتين عن دعوى كفّه حقالهم، بل اخذوه مع دعواهم انّه حق لهم يجب علىّ ترك المنازعة فيه، و هو أصعب. و روى: «نأخذه، و نتركه» بالنونين فى الموضعين، اى: نتصرّف فيه بالأخذ و الترك، و كيف شئنا، و هذه شكاية ظاهرة.
منها فى ذكر أصحاب الجمل:
فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله، كما تجرّ الأمة عند شرائها،
ص: 355
متوجّهين بها إلى البصرة: فحبسا نساء هما فى بيوتهما و أبرزا حبيس رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لهما و لغيرهما، فى جيش ما منهم رجل إلاّ و قد أعطانى الطّاعة، و سمح لى بالبيعة، طائعا غير مكره، فقدموا على عاملى بها و خزّان بيت مال المسلمين و غيرهم من أهلها: فقتلوا طائفة صبرا، و طائفة غدرا! فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ لى قتل ذلك الجيش كلّه: إذ حضروه فلم ينكروا، و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة الّتى دخلوا بها عليهم.
اقول: غرض الفصل اظهار عذره فى قتال اهل الجمل، و ذكر لهم ثلاث كبائر تستلزم إباحة قتالهم، و قتلهم و هى:
خروجهم بحرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله (و حبيسه مع حبسهما لنسائهما و ذلك انتهاك لحرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله)(1) و ضمير التثنيه: لطلحة، و الزبير.
الثانية، نكثهما البيعة.
الثالثة: اقدامهم على عامله بالبصرة و تعذيبهم له، و قتلهم للجماعة المسلمة منهم صبرا، أى: بعد الاسر، و بعض غدرا، اى: بعد الأمان. و كان عامله يومئذ عليها، عثمان ابن حنيف الانصارى، و قصّتهم فى ذلك مشهورة، و قد نبّهنا عليها فى الأصل(2) فامّا جواز قتالهم فلقوله تعالى: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ » الآية(3) و اما تعليله جواز قتل الجيش بما ذكر: فلعموم قوله تعالى: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ » الآية(4) و «ما» بعد دع زائدة. و الفصل واضح.
ص: 356
أمين وحيه، و خاتم رسله، و بشير رحمته، و نذير نقمته أيّها النّاس، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقواهم عليه، و أعلمهم بأمر اللّه فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل. و لعمرى لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة النّاس فما إلى ذلك سبيل، و لكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشّاهد أن يرجع، و لا للغائب أن يختار. ألا و إنّى أقاتل رجلين: رجلا ادّعى ما ليس له، و آخر منع الّذى عليه. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنّها خير ما تواصى العباد به، و خير عواقب الأمور عند اللّه، و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة، و لا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر و الصّبر، و العلم بمواقع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به، و قفوا عند ما تنهون عنه، و لا تعجلوا فى أمر حتّى تتبيّنوا، فإنّ لنا مع كلّ أمر، تنكرونه غيرا. ألا و إنّ هذه الدّنيا الّتى أصبحتم تتمنّونها و ترغبون فيها، و أصبحت تغضبكم و ترضيكم، ليست بداركم و لا منزلكم الّذى خلقتم له و لا الّذى دعيتم إليه، ألا و إنّها ليست بباقية لكم، و لا تبقون عليها، و هى و إن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها، و إطماعها لتخويفها، و سابقوا فيها إلى الدّار الّتى دعيتم إليها، و انصرفوا بقلوبكم عنها و لا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوى عنه منها، و استتمّوا نعمة اللّه عليكم بالصّبر على طاعة اللّه، و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا و إنّه لا يضرّكم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا و إنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم، أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ و ألهمنا و إيّاكم الصّبر.
اقول: هذا اشارة الى صفات الامام الحق، و هو كونه اقواهم على امر الخلافة، أى:
اقدرهم على تدبيرها عن علم و اعملهم و اعلمهم بأوامر اللّه فيها، و ذلك يستلزم علمه بأصول الدين و فروعه ليضع الأعمال مواضعها، و قد استلزم الوصف الاوّل فضيلة:
ص: 357
الشجاعة، و الثاني: فضيلتى العلم و العفة، و تلزم الفضائل الثلاث فضيلة العدل.
و روى بعد قوله: و اقواهم عليه، و اعلمهم به، و اعملهم بأمر اللّه فيه، و هذه الفضائل الأربع هى جماع مكارم الاخلاق و أصولها. و قوله: فان شغب شاغب، اى: خرج باغ على الإمام. و الشغب: الشرّ. و الاستعتاب: طلب العتبى و هى: الرجوع الى الحق.
و قوله: و لعمرى، الى قوله: ان يختار: جواب لما انكره معاوية و اهل الشام، من الاجماع على بيعته و انّه يحتاج فى انعقادها الى حضور جميع الناس. و اشار الى انّ الاجماع على هذا الوجه غير ممكن، و ان امكن ففى غاية العسر بل المعتبر منه اتّفاق اهل الحلّ و العقد من امّة محمد صلى اللّه عليه و آله، على امر من الأمور و هم اهل الامامة الذين يحكمون على من غاب عنها. ثم ليس لمن حضر و رضى كطلحة و الزبير، ان يرجع و لا للغائب كمعاوية، ان يختار، و هذا هو رسم الاجماع الذى اتّفقت كلمة محقّقى الأصوليين عليه. و انّما احتيج بالاجماع حيث لم يسلم له النص على امامته، و المدّعى ما ليس له بحق: كمعاوية للامامة، و المانع للّذى عليه: كطلحة و الزبير فى منعهما، ما له عليهما من الطاعة.
و قوله: و قد فتح، الى قوله: غيرا: اعلام لأصحابه بحكم البغاة من أهل القبلة اجمالا، و احال بالتفصيل على اوامره حال الحرب، و قد كان الناس قبل حرب الجمل لا يعرفون كيفية قتال اهل القبلة، و لا كيفية السّنّة فيهم، الى ان علموا ذلك منه عليه السلام. و نقل عن الشافعى(1) انّه قال: لو لا على ما عرفت شيئا من أحكام أهل البغي.
و قوله: و لا يحتمل، الى قوله: الحق، اى: العلم بوجوب حرب هؤلاء و قتالهم و قتلهم. و أهل البصر: اهل العقول الراجحة، و الصبر على المكاره، و عن التسرّع الى الوسواس بالشّبه و العلم بمواضع الحقّ ، و ذلك انّ المسلمين عظم عليهم حرب أهل القبلة و اكبروه، و المقدمون على ذلك أقدموا على خوف و حذر، فقال عليه السلام: انّ هذا العلم لا يدركه كلّ أحد. و روى «العلم» بالفتح اى: علم الحرب و ذلك انّ صاحب الراية عليه
ص: 358
مدار الحرب، و قلوب العسكر منوطة به فيجب ان يكون بالشرائط المذكورة. و قوله:
و لا تعجلوا، الى قوله: غيرا: اى لا تتسرّعوا الى انكار امر ترونه منكرا حتى تتبيّنوا منّا ما نفعله فيه، فانّا نغير كلّ امر ينكر العرف و الشرع. و خصّ خنين الامة: لأن العادة ان تضرب و تؤذى فيكثر خنينها، او لانّ الغالب عليها الغربة فيحنّ الى اصلها. و استحفاظهم لكتاب اللّه: امرهم بالمحافظة على قوانينه و العمل به.
قد كنت و ما أهدّد بالحرب، و لا أرهّب بالضّرب، و أنا على ما قد وعدنى ربّى من النّصر، و اللّه ما استعجل متجرّدا للطّلب بدم عثمان، إلاّ خوفا من أن يطالب بدمه لأنّه مظنّته، و لم يكن فى القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبس الأمر، و يقع الشّكّ ! و و اللّه ما صنع فى أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالما، كما كان يزعم، لقد كان ينبغي له أن يؤازر قاتليه، أو أن ينابذ ناصريه، و لئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، و المعذرّين فيه، و لئن كان فى شكّ من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله و يركد جانبا، و يدع النّاس معه، فما فعل واحدة من الثّلاث، و جاء بأمر لم يعرف بابه، و لم تسلم معاذيره.
اقول: هذا الفصل من كلام قاله حين بلغه خروج طلحة، و الزبير، الى البصرة و تهديدهما له بالحرب و كان: تامة. و الواو فى قوله: و ما: للحال: اى: قد وجدت الى هذه الغاية، و ما هدّدت بالحرب، و اجلب: جمع، و نهنه عنه: كفّ . و المعذرين بالتخفيف، المعتذرين عنه، و بالتشديد: المظهرين للعذر مع انّه لا عذر. و ركد: سكن.
ص: 359
أيّها الغافلون غير المغفول عنهم، و التّاركون المأخوذ منهم، ما لى أراكم عن اللّه ذاهبين، و إلى غيره راغبين ؟ كأنّكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى و بىّ ، و مشرب دوىّ !! إنّما هى كالمعلوفة للمدى، لا تعرف ما ذا يراد بها: إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها، و شبعها أمرها، و اللّه لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه و مولجه و جميع شأنه لفعلت، و لكن أخاف أن تكفروا فىّ برسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ألا و إنّى مفضيه إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه. و الّذى بعثه بالحقّ ، و اصطفاه على الخلق، ما أنطق إلاّ صادقا، و قد عهد إلىّ بذلك كلّه، و بمهلك من يهلك، و منجى من ينجو، و مآل هذا الأمر، و ما أبقى شيئا يمرّ على رأسى إلاّ أفرغه فى أذنىّ و أفضى به إلىّ . أيّها النّاس، إنّى و اللّه ما أحثّكم على طاعة إلاّ و أسبقكم إليها و لا أنهاكم عن معصية إلاّ و أتناهى قبلكم عنها.
أقول: مأخوذ منهم اى: من اشخاصهم بالموت، و من احوالهم بالعدم. و السائم:
الراعى. و المدى: جمع مدية و هى: السكين. و وجه شبههم بالنعم: غفلتهم عمّا ينبغي لهم. و النفس الأمّارة كالسائم. و قوله: انّما، الى قوله: امرها: شبيه لها بالنعم. المعلوفة:
باعتبار غفلتها عن غايتها و ما يراد بها. و وجه الشبه هو قوله: لا تعرف الى آخره. و مفضيه:
موصله. و كفرهم فيه برسول اللّه: بتفضيلهم ايّاه عليه. و الخاصّة: اهل العلم و الثبات من اصحابه ممّن يؤمن ذلك الكفر منه.
انتفعوا ببيان اللّه، و اتّعظوا بمواعظ اللّه، و اقبلوا نصيحة اللّه. فإنّ اللّه قد أعذر إليكم بالجليّة، و أخذ عليكم الحجّة، و بيّن لكم محابّه من الأعمال و مكارهه منها، لتتّبعوا هذه و تجتنبوا هذه، فإنّ رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، كان يقول: «حفّت الجنّة بالمكاره
ص: 360
و حفّت النّار بالشّهوات». و اعلموا أنّه ما من طاعة اللّه شيء إلاّ يأتي فى كره، و ما من معصية اللّه شيء إلاّ يأتي فى شهوة. فرحم اللّه رجلا نزع عن شهوته، و قمع هوى نفسه، فإنّ هذه النّفس أبعد شيء منزعا، و إنّها لا تزال تنزع إلى معصية فى هوى. و اعلموا عباد اللّه أنّ المؤمن لا يمسى و لا يصبح إلاّ و نفسه ظنون عنده فلا يزال زاريا عليها، و مستزيدا لها. فكونوا كالسّابقين قبلكم و الماضين أمامكم، قوّضوا من الدّنيا تقويض الرّاحل، و طووها طىّ المنازل. و اعلموا أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذى لا يغشّ ، و الهادى الّذى لا يضلّ ، و المحدّث الّذى لا يكذب، و ما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة فى هدى، و نقصان من عمى. و اعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، و استعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء، و هو الكفر و النّفاق و الغىّ و الضّلال. فاسألوا اللّه به، و توجّهوا إليه بحبّه، و لا تسألوا به خلقه. إنّه ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله، و اعلموا أنّه شافع و مشفّع، و قائل و مصدّق، و أنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، و من محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنّه ينادى مناد يوم القيامة: «ألا إنّ كلّ حارث مبتلى فى حرثه و عاقبة عمله غير حرثة القرآن» فكونوا من حرثته و أتباعه، و استدلّوه على ربّكم، و استنصحوه على أنفسكم، و اتّهموا عليه آراءكم، و استغشوا فيه أهواءكم، العمل العمل، ثمّ النّهاية النّهاية و الاستقامة الاستقامة ثمّ الصّبر الصّبر، و الورع الورع، إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، و إنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم، و إنّ للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته، و اخرجوا إلى اللّه ممّا افترض عليكم من حقّه، و بيّن لكم من وظائفه. أنا شهيد لكم و حجيج يوم القيامة عنكم. ألا و إنّ القدر السّابق قد وقع، و القضاء الماضى قد تورّدّ، و إنّى متكلّم بعدة اللّه و حجّته، قال اللّه تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » و قد قلتم ربّنا اللّه، فاستقيموا على كتابه و على منهاج أمره، و على الطّريقة الصّالحة من عبادته، ثمّ لا تمرقوا منها، و لا تبتدعوا فيها، و لا تخالفوا عنها، فإنّ أهل المروق منقطع بهم عند اللّه يوم القيامة، ثمّ إيّاكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها، و اجعلوا اللّسان واحدا، و ليخزن الرّجل لسانه، فإنّ هذا اللّسان جموح
ص: 361
بصاحبه، و اللّه ما أرى عبدا يتّقى تقوى تنفعه حتّى يختزن لسانه، و إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، و إن قلب المنافق من وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره فى نفسه: فإن كان خيرا أبداه، و إن كان شرّا و اراه، و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه: لا يدرى ما ذا له، و ما ذا عليه!! و لقد قال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، و لا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه» فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه و هو نقىّ الرّاحة من دماء المسلمين و أموالهم، سليم اللّسان من أعراضهم، فليفعل. و اعلموا، عباد اللّه، أنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل، و يحرّم العام ما حرّم عاما أوّل، و إنّ ما أحدث النّاس لا يحلّ لكم شيئا ممّا حرّم عليكم، و لكن الحلال ما أحلّ اللّه، و الحرام ما حرّم اللّه، فقد جرّبتم الأمور و ضرّستموها، و وعظتم بمن كان قبلكم، و ضربت لكم الأمثال، و دعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصمّ عن ذلك إلاّ أصمّ ، و لا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى!! و من لم ينفعه اللّه بالبلاء و التّجارب لم ينتفع بشىء من العظة، و أتاه التّقصير من أمامه حتّى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف، و إنّما النّاس رجلان: متّبع شرعة، و مبتدع بدعة، ليس معه من اللّه برهان سنّة، و لا ضياء حجّة، و إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل اللّه المتين، و سببه الأمين، و فيه ربيع القلب، و ينابيع العلم، و ما للقلب جلاء غيره، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون، و بقى النّاسون أو المتناسون. فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه، و إذا رأيتم شرّا فاذهبوا عنه، فإنّ رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، كان يقول: «يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشّرّ فإذا أنت جواد قاصد». ألا و إنّ الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، و ظلم لا يترك، و ظلم مغفور لا يطلب: فأمّا الظّلم الّذى لا يغفر فالشّرك باللّه، قال اللّه تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » و أمّا الظّلم الّذى يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، و أمّا الظّلم الّذى لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص هناك شديد! ليس هو جرحا بالمدى، و لا ضربا بالسّياط، و لكنّه ما يستصغر ذلك معه. فايّاكم و التّلوّن فى دين اللّه، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل، و إنّ اللّه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا: ممّن مضى و لا ممّن بقى.
ص: 362
يا أيّها النّاس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس، و طوبى لمن لزم بيته و أكل قوته، و اشتغل بطاعة ربّه، و بكى على خطيئته، فكان من نفسه فى شغل، و النّاس منه فى راحة! اقول: قوله بالجليّة اى: بالاعذار الجلية، او: بان أوضح لكم جلية الأمور. و نبّه بالخبر على انّ مكاره اللّه و ان كانت لذيذة، فانّ النار محفوفة بها، فمن لابسها و انهمك فيها وصل الى النار، و ان محابّه من الاعمال و ان كانت شاقة فانّ الجنة محفوفة بها، فلا تنال بدون الوصول اليها، و نزع: قلع. و قمع: ردع و النفس اى: الامارة بالسوء أبعد شيء منزعا، اى: رجوعا عن المعصية، اذ هى مجبولة على محبّة الباطل. و ظنون: متهمة بالخيانة، و التقصير فى طاعة اللّه. و تقويض البناء: نقضه. و مجالسة القرآن: مجالسة أهله، و الاستماع اليهم، و التفّهم عنهم. و اراد بالفاقة: الحاجة الى ما ينبغي من الهداية، و الكمال النفساني. و بالغنى: حصولهما. و ادوائهم: الجهل و الرذائل. و اللأواء: الشدّة، و استعار لفظ الشافع المشفع: للقرآن، باعتبار كونه: وسيلة لمن تقرّب به الى اللّه، موصلة له الى مطالبه. و محل به الى السلطان: سعى به، و وجه ذلك فى القرآن اعتبار كون العامل به معروفا عند اللّه بذلك، فأشبه القرآن الشاهد عليه بذلك. و حرثة القرآن: مستثيروا دفاينه و كنوز علمه. و استنصحوه على أنفسكم، اى: اتّخذوه انصح منها، فانّه اولى بالنصيحة. و قوله: و اتّهموا عليه آراءكم اى: الآراء: و الأهواء: المخالفة له. و النهاية التي للخلق المطلوبة منهم: اخلاصهم للّه، و التحلّى بزينته، و هى غاية الاسلام أيضا. و العلم: مستعار له عليه السلام و للقرآن. و قوله: من حقه: متعلّق بقوله: اخرجوا و الخروج اليه: بأخلاص العمل له. و الماضى: النافذ الّذى لا يرّد. و تورّد اى: دخل فى الوجود شيئا بعد شيء، يقال:
تورّدت الخيل البلد: اذا دخلته قطعة قطعة و اشار بالقدر: الى واقع خاص و هو خلافته و ما يصحبها من الفتن و الوقائع. و عدة اللّه التي يتكلم بها هى: ما وعد به عباده الّذين اعترفوا بربوبيّته، و استقاموا على سلوك سبيله من تنزّل الملائكة عليهم بذهاب الخوف و الحزن و البشارة بالجنّة. و امّا حجته التي تكلّم بها فقوله: «و قد قلتم: ربّنا اللّه، اى: اعترفتم بالرّبوبيّة. فاستقيموا على كتابه، و منهاج امره الى قوله عنها». و تهزيع الاخلاق:
ص: 363
تفريقها و تكثيرها، و هو نهى عن النفاق، و ذو اللسانين، و الوجهين، هو المنافق. و استعار لفظ الوراء للسان المؤمن: باعتبار انّ قوله مؤخر عن فكر قلبه، و لقلب المنافق: باعتبار انّ فكره مؤخر عن كلامه، و استقامة القلب فى الخبر بالاعتقاد الصالح لاستقامة الايمان و صحته، و استقامة اللسان اى: على الأقوال الصالحة علامة لاستقامة الايمان لا سبب، لكن لما كانت العلامة متقدّمة على ذى العلامة فى العلم، اشار الى: توقّف استقامة القلب على استقامة اللسان بحتّى ايضا.
و نقاء الراحة: كناية عن الخلاص من حقوق المسلمين، دمائهم و أحوالهم. و قوله:
انّ المؤمن، الى قوله: احلّ اللّه اى: انّ المؤمن يستحلّ و يحرّم فى المستقبل ما كان حلالا او حراما فى الماضي، و هو: ما احلّه اللّه و رسوله او حرّمه و ثبت بالكتاب و السنة اخذه او تركه دون ما احدث من البدع. و ضرست الأمر اى: احكمته خبرا. و قوله: و لا يصم عن ذلك الاّ اصم اى: بعد بيان الأمر و ايضاحه بما ذكر لا يصم عنه الاّ اصم اى: شديد الصّمم و الاّ اعمى اى: شديد عمى الجهل و هو عمى البصيرة. و الأمر: هو طريق الدين.
و قوله: من امامه: لانّ الكمال الّذى يتوجّه اليه بوجه عقله يفوته لنقصان غريزته، و وقوف عقله عنها. و قوله: حتى تعرف، الى قوله: عرف، اشارة الى: غاية جهله، و هو: ان يتخيّل تارة فيما هو منكر و مجهول له انّه عالم به و فيما هو معروف عنده، و صحيح انّه لا يعرفه لشبهة تعتريه. و الأمين: المأمون اى: من تمسّك به لم يخنه. و الهنة: كناية عن الصغيرة من الزلاّت و العفو عنها فى آيات الوعد. و التلوّن فى الدين: النفاق فيه، و افتراق القلوب عنه. و باقى الفصل ظاهر.
فأجمع رأى ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن، و لا يجاوزاه، و تكون ألسنتهما معه، و قلوبهما تبعه، فتاها عنه، و تركا الحقّ و هما يبصرانه، و كان الجور هواهما، و الاعوجاج رأيهما، و قد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكم بالعدل
ص: 364
و العمل بالحقّ سوء رأيهما، و جور حكمهما! و الثّقة فى أيدينا لأنفسنا، حين خالفا سبيل الحقّ ، و أتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم.
أقول: الاجماع، تصميم العزم. و يجعجعا: يحبسا نفسهما على القرآن. و الخطاب لمن انكر عليه عدم رضاه بالتحكيم بعد الرضا به. و الرجلان الحكمان: ابو موسى الاشعرى، و عمرو بن العاص. و الثقة فى ايدينا اى: ثباتنا فى الحق فى عدم الرضا، اذ كان رضانا بحسب الشرط الذى خالفاه. و قد سبق ذكر الحكمين و طرف من حالهما.
لا يشغله شأن، و لا يغيّره زمان، و لا يحويه مكان، و لا يصفه لسان و لا يعزب عنه عدد قطر الماء، و لا نجوم السّماء، و لا سوافى الرّيح فى الهواء، و لا دبيب النّمل على الصّفا، و لا مقيل الذّرّ فى اللّيلة الظّلماء. يعلم مساقط الأوراق، و خفىّ طرف لأحداق، و أشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » غير معدول به و لا مشكوك فيه، و لا مكفور دينه، و لا مجحود تكوينه شهادة من صدقت نيّته، وصفت دخلته، و خلص يقينه، و ثقلت موازينه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله المجتبى من خلائقه، و المعتام لشرح حقائقه و المختصّ بعقائل كراماته، و المصطفى لكرائم رسالاته، و الموضّحة به أشراط الهدى، و المجلوّبه غربيب العمى. أيّها النّاس، إنّ الدّنيا تغرّ المؤمّل لها، و المخلد إليها، و لا تنفس بمن نافس فيها، و تغلب من غلب عليها. و ايم اللّه ما كان قوم قطّ فى غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأنّ اللّه ليس بظلاّم للعبيد. و لو أنّ النّاس - حين تنزل بهم النّقم و تزول عنهم النّعم - فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم و وله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، و أصلح لهم كلّ فاسد. و إنّى لأخشى عليكم أن تكونوا فى فترة، و قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كنتم فيها عندى غير محمودين، و لئن ردّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء و ما علىّ إلاّ الجهد! و لو أشاء أن أقول لقلت، «عَفَا اَللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ ».
ص: 365
أقول: الدخلة: بكسر الدال و ضمّها باطن الشيء. و المعتام: المختار. و حقائقه: ما حقّ و ثبت من دينه. و عقائل كراماته: نفائس ما اكرم به عباده من قوانين الدين. و اشراط الهدى: علاماته. و غربيب العمى: ما يعقل من ظلمة لجهل و سواه. اخلد الى كذا:
سكن اليه. و تنفس: تبخل. و غض النعمة: طريها. و تجوز بلفظ الفترة فى امر الجاهلية:
اطلاقا لاسم الظرف على المظروف. و يحتمل ان يريد الفترة: من عذاب ينتظر بسبب مخالفتهم لآرائه. قالت الامامية: و الأمور التي مالوا فيها: تقديمهم عليه من سبق من الأئمة. و قال غيرهم: ميلهم عليه فى تقديم عثمان وقت الشورى. و امرهم الى اصلاح أحوالهم التي كانوا عليها فى زمن الرسول عليه السلام. و ما علىّ الاّ الجهد، اى: فى عود مثل ذلك الأمر عليهم. و قوله: و لو اشاء الى آخره، يفهم منه: انّه لو قال: مقتضى قوله:
نسبتهم الى ظلمه و تخطئتهم فى التقديم عليه و ذكر وجوه تأخيرهم له. و اللّه اعلم.
و قد سأله ذعلب اليمانى فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى ؟ فقال: و كيف تراه ؟ فقال:
لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلّم لا برويّة، مريد لا بهمّة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسّة، رحيم لا يوصف بالرّقّة. تعنو الوجوه لعظمته، و تجب القلوب من مخافته.
أقول: حقائق الإيمان: أركانه، و هى: التصديق بوجوده تعالى، و وحدانيته، و اعتبارات اسمائه الحسنى مما عدّده. و احترز بقوله: غير ملامس و غير مباين: عن القرب و البعد المعهود للأجسام اذ معنى قربه تعالى: ايصال علمه و قدرته بكل شيء، و معنى بعده: مباينته بذاته الكاملة عن مشابهة شيء. و احترز بسلب الرؤية فى الكلام: عن كلام المخلوقين. و بسلب الهمّة عن مثله: ارادته لارادتنا فى سبق العزم لها، و بسلب الجارحة:
ص: 366
عن مثلية صنعة كصنعتنا. و بسلب الوصف بالخفاء: عن اللطف بمعنى رقّة القوام، بل معنى لطفه تعالى تصرّفه فى الذوات و الصفات تصرّفا خفيا بفعل الاسباب المعدّة لها لافاضة كمالاتها. و بسلب وصفه بالرّقة: عن رحمتنا. و باقى الفصل ظاهر.
179 - و من خطبة له عليه السّلام(1)
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» أظهر من آثار سلطانه، و جلال كبريائه، ما حيّر مقل العيون من عجائب قدرته، و ردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان كنه صفته. و أشهد أن «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ » شهادة إيمان و إيقان، و إخلاص و إذعان، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله و أعلام الهدى دارسة، و مناهج الدّين طامسة، فصدع بالحقّ ، و نصح للخلق، و هدى إلى الرّشد، و أمر بالقصد، صلى اللّه عليه و آله و سلم.
و اعلموا، عباد اللّه، أنّه لم يخلقكم عبثا، و لم يرسلكم هملا. علم مبلغ نعمه عليكم، و أحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه، و استنجحوه، و اطلبوا إليه و استمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، و لا أغلق عنكم دونه باب، و إنّه لبكلّ مكان، و فى كلّ حين و أوان، و مع كلّ ، إنس و جانّ ، لا يثلمه العطاء، و لا ينقصه الحباء، و لا يستنفده سائل، و لا يستقصيه نائل، و لا يلويه شخص عن شخص، و لا يلهيه صوت عن صوت، و لا تحجزه هبة عن سلب، و لا يشغله غضب عن رحمة، و لا تولهه رحمة عن عقاب، و لا يجنّه البطون عن الظّهور، و لا يقطعه الظّهور عن البطون. قرب فنأى، و علا فدنا، و ظهر فبطن، و بطن فعلن، و دان و لم يدن، لم يذرا الخلق باحتيال، و لا استعان بهم لكلال.
أوصيكم، عباد اللّه، بتقوى اللّه، فإنّها الزّمام و القوام، فتمسّكوا بوثائقها، و اعتصموا بحقائقها، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة، و أوطان السّعة، و معاقل الحرز. و منازل العزّ، فى يوم تشخص فيه الأبصار، و تظلم الأقطار، و تعطّل فيه صروم العشار، و ينفخ فى الصّور، فتزهق كلّ مهجة، و تبكم كلّ لهجة، و تذلّ الشّمّ الشّوامخ، و الصّمّ الرّواسخ، فيصير صلدها سرابا رقرقا، و معهدها قاعا سملقا، فلا شفيع يشفع، و لا حميم يدفع، و لا معذرة تنفع.
ص: 367
أقول: استعار لفظ المقلة و هى: شحمة العين لقوّة العقل، باعتبار ادراكها. و خطرات هماهم النفوس: ما يخطر لها فتهمهم به، و الهمهمة: صوت خفى، و ردعه لها: استلزام كماله المطلق عن ادراك حقيقته، و الإيمان: التصديق القلبىّ باللّه و ما جاءت به رسله، و ما يطابقه باللسان. و الايقان: اعتقاد انّ ذلك التصديق لا يكون الاّ كذلك. و الاخلاص:
ان يحذف فى توحيده تعالى كل امر سواه عن درجة الاعتبار، و الاذعان: ثمرة ذلك الاخلاص و هى: كمال العبادات التابعة له. و اعلام الهدى: أئمه الدين. و المناهج:
قوانين الشريعة و دروسها. و طموسها: اضمحلالها قبل النبوّة. و كونه تعالى بكل مكان:
بعلمه. و فى كل زمان: مساوقة وجوده لوجود الزمان، اذ هو تعالى عن احاطة بهما. و مع كل انس و جان: بعلمه. و الحباء: النوال، و اشار باجتماع الاضداد تحت حكم قدرته:
الى كمالها، و تنزيهها عن قدرة البشر، و كذلك اجتماع الاحوال المتضادة له كالرحمة، و العقاب، و البطون و الظهور و غيرها انّما هى باعتبارات مختلفة تعتبرها الاذهان لمعقوليته تعالى كما مر. و التوليه: شغل القلب و تحيّره. و دان: قهر. و ذرأ: خلق. و استعار لفظ الزّمام لتقوى اللّه: لقودها العبد الى الحق، و كونها قواما اى: للعبد على سبيل. و وثائقها:
ما يتمسّك به منها و هو المأمور بلزومه من العبادات و الطاعات. و حقائقها: الخالص منها الثابت فى الدين، و الجزم. تؤل: فى جواب الامر بالتمسّك. و كنان الدعة: مواطن الراحة من العذاب و هى: غرفات الجنة و منازلها و هى: اوطان السعة. و المعاقل:
المحارز و هى: منازل العزّ فى جوار الله. و الصروم: جمع صرمة و هى: القطعة من الابل نحو الثلاثين. و العشار: النوق أتى عليها بعد طروق الفحل عشرة اشهر. و الشّم الشوامخ:
الجبال العالية. و معهدها: ما كان مسكونا. و القاع: الخالى. و السملق: الصفصف المستوى.
منها:(1)
بعثه حين لا علم قائم، و لا منار ساطع، و لا منهج واضح: أوصيكم عباد اللّه، بتقوى اللّه، و أحذّركم الدّنيا، فإنّها دار شخوص، و محلّة تنغيص، ساكنها ظاعن، و قاطنها بائن،
ص: 368
تميد بأهلها ميدان السّفينة تقصفها العواصف فى لجج البحار، فمنهم الغرق الوبق، و منهم النّاجى على بطون الأمواج، تحفزه الرّياح بأذيالها، و تحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدرك، و ما نجا منها فإلى مهلك!! عباد اللّه، الآن فاعملوا، و الألسن مطلقة، و الأبدان صحيحة، و الأعضاء لدنة، و المنقلب فسيح، و المجال عريض، قبل إرهاق الفوت، و حلول الموت، فحقّقوا عليكم نزوله، و لا تنتظروا قدومه! اقول: استعار لفظ العلم، و المنار: للهداة الى اللّه. و الساطع: المرتفع. و لفظ المنهج:
للشريعة. و القاطن: المقيم و شبهها بأهلها: كالسفينة براكبها، و وجه التمثيل قوله:
تقصفها الى آخره. و اشتمل هذا التمثيل على تشبهات، فالدنيا: كالسفينة فى الريح العاصف، و تغيّراتها كحركات السفينة. و رميهم بحوادثها: كالأحوال التي تلحق اهل السفينة حينئذ. و قسمتهم الى غريق وبق اى: هالك بحوادثها، و الى ناج: الى حين مقاساة متاعها و لا بدّ من هلاكه. و اللدن: الناعم، و الأرهاق: اللحوق، و تحقيق نزوله:
بذكره و اخطاره بالبال، و تقدير كونه واقعا بهم. و نهى عن انتظار قدومه: لاستلزام ذلك توهّم بعده، و التكاسل بسبب ذلك عن العمل.
و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد، صلى اللّه عليه و آله و سلم، أنّى لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قطّ، و لقد واسيته بنفسى فى المواطن الّتى تنكص فيها الأبطال، و تتأخّر فيها الأقدام، نجدة أكرمنى اللّه بها.
و لقد قبض رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنّ رأسه لعلى صدرى، و لقد سالت نفسه فى كفّى، فأمررتها على وجهى، و لقد ولّيت غسله، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الملائكة أعوانى، فضجّت الدّار و الأفنية، ملأ يهبط و ملأ يعرج، و ما فارقت سمعى هينمة منهم، يصلّون عليه حتّى واريناه فى ضريحه، فمن ذا أحقّ به منّى حيّا و ميّتا؟! فانفذوا
ص: 369
على بصائركم، و لتصدق نيّاتكم فى جهاد عدوّكم. فو «اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ» إنّى لعلى جادّة الحقّ ، و إنّهم لعلى مزلّة الباطل، أقول ما تسمعون، و أستغفر اللّه لى و لكم.
أقول: المستحفظون من الصحابة: العلماء الّذين استحفظوا كتاب اللّه و دينه فهم حفظته. و مواساته عليه السلام: تقدّمه دونه الى الموت فى مواطن القتال، كيوم حنين، و احد، و بدر. و النجدة: فضيلة تحت الشجاعة، و نصبها على المفعول له. و نفسه: دمه يقال: انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قاء وقت موته دما يسيرا، و انّ عليا عليه السلام مسح بذلك وجهه. و لا ينافي ذلك نجاسة الدم لجواز ان يخصّص دم الرسول عليه السلام، كما روى: انّ أبا طيبة الحجام(1) شرب دمه حين حجمه. فقال له: اذن لا يتجع بطنك، و هو الّذى غسّله صلى اللّه عليه، و الفضل بن عباس يصب عليه الماء. و روى انّه عصب عينى الفضل حينئذ، و كان يقول: ما قلبت منه عضوا الاّ و انقلب لا اجد له ثقلا كأنّ معي من يساعدني عليه و ما ذاك الاّ الملائكة.
و الهينمة: صوت خفى، و ذكر هذه الفضائل لنفسه فى قوة: صغرى، تقدير كبراه:
و كلّ من كان بهذا القرب هو الفضيلة فلا احقّ منه بأمره و خلافته، و امضوا اى: على جهاد عدوّكم. و بصائرهم: عقائدهم او عقولهم السليمة.
181 - و من كلام له عليه السّلام فى ذم أصحابه (2)
أحمد اللّه على ما قضى من أمر، و قدّر من فعل، و على ابتلائى بكم أيّتها الفرقة الّتى إذا أمرت لم تطع، و إذا دعوت لم تجب، إن أمهلتم خضتم، و إن حوربتم خرتم! و إن اجتمع النّاس على إمام طعنتم، و ان أجئتم إلى مشاقّة نكصتم. لا أبا لغيركم ما تنظرون
ص: 370
بنصركم ربّكم، و الجهاد على حقّكم: الموت أو الذّلّ لكم! فو اللّه لئن جاء يومى - و لياتينّى - ليفرّقنّ بينى و بينكم و أنا لكم قال، و بكم غير كثير. للّه أنتم!! أما دين يجمعكم، و لا حميّة تشحذكم ؟ أو ليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام، فيتّبعونه على غير معونة و لا عطاء، و أنا أدعوكم - و أنتم تريكة الإسلام، و بقيّة النّاس إلى المعونة و طائفة من العطاء فتتفرّقون عنّى، و تختلفون علىّ؟! انّه لا يخرج إليكم من أمرى رضا فترضونه، و لا سخط فتجتمعون عليه، و إنّ أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت. قد دارستكم الكتاب، و فاتحتكم الحجاج، و عرّفتكم ما أنكرتم، و سوّغتكم ما مججتم، لو كان الأعمى يلحظ، أو النّائم يستيقظ!! و أقرب بقوم من الجهل باللّه قائدهم معاوية و مؤدّبهم ابن النّابغة.
أقول: انّما قال على: ما قضى من امر و قدّر من فعل: لانّ القضاء هو احاطة علمه تعالى بكلّ شيء و هو اعمّ من ان يكون فعلا، و لما كان القدر هو تفصيل القضاء و ايجاد الأشياء على وفقه خصّ القدر بالفعل. و خضتم: مستعار للسعى فى غير طاعة. و خرتم:
ضعفتم او صحتم من الخوار. و قوله: الموت او الذّل لكم: فى قوّة منفصلة مانعة الخلوّ.
و الشحذ: التحديد. و الطغام: اوغاد الناس. و انّما قال: على غير معونة و لا عطاء اى:
العطاء و المعونة المتعارفين بين الجند، لأنّ بذل معاوية كان جزافا لرؤساء القبائل، و قسمة على عليه السلام كانت على وجه الرزق و العطاء من غير تفضيل لشريف على من دونه. و تريكة الاسلام: ما بقى منه. و التريكة: بيضة النعام، و كل بيضة بالعراء تريكة. و مجّه:
ألقاه من فيه. و استعار لفظ التسويغ: لإعطائهم ما كانوا يحرّمونه من غيره من الارزاق، او اعطائهم العلوم التي لم تقبلها اذهانهم، قبل ذلك كما استعار له وصف المج. و قوله: لو كان، الى قوله: يستيقظ: اشارة الى غفلتهم و جهلهم. و ابن النابغة: عمرو بن العاص و هو رئيس المنافقين و الجهّال فكيف بتلاميذه.
و قد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج، و كانوا على خوف منه عليه السلام، فلما عاد إليه الرجل قال له: أ أمنوا فقطنوا أم
ص: 371
جبنوا فظعنوا؟؟ فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين. فقال:
بعدا لهم كما بعدت ثمود، أما لو أشرعت الأسنّة إليهم، و صبّت السّيوف على هاماتهم! لقد ندموا على ما كان منهم، إنّ الشّيطان اليوم قد استفلّهم، و هو غدا متبرّئ منهم، و متخلّ عنهم، فحسبهم بخروجهم من الهدى، و ارتكاسهم فى الضّلال و العمى، و صدّهم عن الحقّ ، و جماحهم فى التّيه.
أقول: قطنوا: اقاموا. و بعدت: بالكسر هلكت. و اشرعت الرمح نحوه: سدّدته.
و استفلّهم: طلب تفريقهم و هزيمتهم. و الارتكاس: الرجوع فى الشيء مقلوبا. و استعار لفظ الجماح: لخروجهم عن فضيلة العدل، الى طرف الافراط على جهل بمطلوبهم و هو معنى التيه.
روى عن نوف البكالى قال: خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و فى رجليه نعلان من ليف، و كأن جبينه ثفنة بعير. فقال عليه السلام:
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر، نحمده على عظيم إحسانه، و نيّر برهانه، و نوامى فضله و امتنانه، حمدا يكون لحقّه قضاء، و لشكره أداء، و إلى ثوابه مقرّبا، و لحسن مزيده موجبا. و نستعين به استعانة راج لفضله، مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطّول، مذعن له بالعمل و القول. و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا، و أناب إليه مؤمنا، و خنع له مذعنا، و أخلص له موحّدا، و عظّمه ممجّدا، و لاذبه راغبا مجتهدا: لم يولد سبحانه فيكون فى العزّ مشاركا، و لم يلد فيكون مورثا هالكا، و لم يتقدّمه وقت و لازمان، و لم يتعاوره زيادة و لا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن، و القضاء المبرم .
ص: 372
و من شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد، قائمات بلا سند. دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات، غير متلكّئات و لا مبطئات، و لو لا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة و إذعانهنّ له بالطّواعية لما جعلهنّ موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته، و لا مصعدا للكلم الطّيّب و العمل الصّالح من خلقه، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران فى مختلف فجاج الأقطار، لم يمنع ضوء نورها اد لهمام سجف اللّيل المظلم، و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع فى السّموات من تلالؤ نور القمر، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج، و لا ليل ساج فى بقاع الأرضين المتطأطئات، و لا فى يفاع السّفع المتجاورات، و ما يتجلجل به الرّعد فى أفق السّماء، و ما تلاشت عنه بروق الغمام، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السّماء، و يعلم مسقط القطرة و مقرّها، و مسحب الذّرّة و مجرّها، و ما يكفى البعوضة من قوتها، و ما تحمل الأنثى فى بطنها. الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسى أو عرش، أو سماء أو أرض، أو جانّ أو إنس لا يدرك بوهم، و لا يقدّر بفهم، و لا يشغله سائل، و لا ينقصه نائل، و لا ينظر بعين، و لا يحدّ بأين، و لا يوصف بالأزواج، و لا يخلق بعلاج، و لا يدرك بالحواسّ ، و لا يقاس بالنّاس. الّذى كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات، و لا نطق و لا لهوات. بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك، فصف جبرائيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين فى حجرات القدس مرجحنّين، متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين. فإنّما يدرك بالصّفات ذو و الهيئات و الأدوات، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء! ف «لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ» أضاء بنوره كلّ ظلام، و أظلم بظلمته كلّ نور. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ألبسكم الرّياش، و أسبغ عليكم المعاش و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو إلى دفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام: الّذى سخّر له ملك الجنّ و الإنس مع النّبوّة و عظيم الزّلفة، فلمّا استوفى طعمته، و استكمل مدّته، رمته قسىّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الدّيار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون، و إنّ لكم فى القرون السّالفة لعبرة! أين العمالقة و أبناء العمالقة ؟ أين الفراعنة و أبناء الفراعنة ؟ أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين. و أطفئوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين ؟ أين الّذين ساروا بالجيوش،
ص: 373
و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن ؟! اقول: نقل الجوهرى: انّ نوف البكالى، بفتح الباء و تخفيف الكاف كان صاحب عليّ عليه السلام، و نقل عن ثعلب انّه منسوب الى بكالة قبيلة، و قال القطب الراوندى(1)رحمه اللّه: هو منسوب الى بكال، حىّ من همدان، و يقال: بكيل و هو اكثر، و قال عبد الحميد بن ابى الحديد(2): انّما هو بكال بكسر الباء من حمير، فمنهم هذا الشخص و هو نوف بن فضالة صاحب عليّ عليه السلام، و جعدة بن هبيرة ابن اخت امير المؤمنين، امّ هانى. و ثفنة البعير: ما يقع على الأرض من اعضائه. و نيّر برهانه: ما اظهره لنا من البرهان الواضح على وجوده و كماله. و خنع: خضع. و اذعن: انقاد. و يتعاوره: يختلف عليه. و علامات التدبير: الاحكام و الاتقان فى مصنوعاته الموجودة على وفق. القضاء المبرم:
اى المحكم. و دعاهن: حكم القدرة الألهية عليهنّ بالدخول فى الوجود. و اجابتهنّ :
دخولهنّ فيه. و غير متلكئات: اى متوقّفات. و الطواعية: الطاعة و اوصاف الدعاء و الاقرار و الاجابة، و الطاعة: مستعارة لشهادة حال الممكن بذلك. و الادلهمام: شدّة الظلمة. و الحندس بكسر الحاء: الليل شديد الظلمة. و اليفاع: المرتفع من الارض. و السفع:
الجبال. و السفعة: سواد مشرب بحمرة و هو لون الجبال غالبا. و جلجلة الرعد: صوته. و ما تلاشت عنه: بروق الغمام اى: ينكشف للأبصار بسبب اضاءتها فكأنها اضمحلت عنه و لم تكشفه لانّ العلم به اشرف لتعلّقه بما لا تدركه ابصار المخلوقين دون ما يضيئه لأدراك الكلّ له. و الانواء: جمع نوء و هو: سقوط نجم من منازل القمر الثمانية و العشرين فى المغرب مع الفجر، و طلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته، فى كل ليلة الى ثلاثة عشر يوما، (و هكذا كلّ نجم منها الى انقضاء السنة ما خلا الجبهة فانّ لها أربعة عشر يوما)(3). و انّما اضاف العواصف الى الأنواء: لانّ العرب تضيف الآثار العلويّة من الرياح
ص: 374
و الأمطار و الحرّ و البرد اليها. و سلب تحديده بالاين: سلب الكميّة المتّصلة عنه. و بالأزواج، سلب للكم المنفصل عنه اى: ليس فيه اثنينية و تعدّد. و المعالجة: الفعل بآلة و العظيم من آياته، كما روى انّه كان يسمع الصوت من كل الجهات ليس على حدّ سماع البشر، و قد ذكرنا كيفية سماع الأنبياء للوحي فى الأصل، و قيل: اراد الآيات التسع كانشقاق البحر، و قلب العصا ثعبانا، و غيرهما. و حجرات القدس: مقارّ الطهارة عن كدورات الشهوة و الغضب. و المرجحنّ : المائل الى جهة تحت، و هو مستعار لخضوعهم تحت سلطان عظمته. و الظلام: امّا محسوس فأضاءه نور الكواكب، او معقول و هو: ظلام العدم و الجهل فأضاءه نور الوجود و العلم و الشرائع. و كذلك النور: امّا محسوس فأظلمه معاقبة الظلام له، و امّا معقول كأنوار الوجود و النفوس البشريّة فانّها انوار الهية تغشاها ظلمة العدم و الجهل. و الرياش: اللباس. و العماليق: اولاد لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، و كان ملك اليمن و الحجاز، و ما تاخم ذلك من الأقاليم. و امّا الفراعنة: فهم ملوك مصر. و امّا اصحاب مدائن الرسّ فقيل: انّهم اصحاب شعيب النّبى عليه السلام. و الرسّ : بئر عظيمة جدّا انخسفت بهم و كانوا حولها. و قيل: الرسّ قرية باليمامة كان يسكنها قوم من بقايا ثمود، و اللّه اعلم. منها:
قد لبس للحكمة جنّتها، و أخذها بجميع أدبها: من الإقبال عليها، و المعرفة بها، و التّفرّغ لها، و هى عند نفسه ضالّته الّتى يطلبها، و حاجته الّتى يسأل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه، بقيّة من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه. ثم قال عليه السّلام:
أيّها النّاس، إنّى قد بثثت لكم المواعظ وعظ الأنبياء بها أممهم، و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم، و أدّبتكم بسوطى فلم تستقيموا، و حدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا!! للّه أنتم، أتتوقّعون إماما غيرى يطأ بكم الطّريق، و يرشدكم السّبيل ؟! ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال
ص: 375
عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى، ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، و يشربون الرّنق ؟! قد - و اللّه - لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم، و أحلّهم دار الامن بعد خوفهم، أين إخوانى الّذين ركبوا الطّريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟ و أين ابن التّيّهان ؟ و أين ذو الشّهادتين ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على المنيّه، و أبرد برءوسهم إلى الفجرة ؟! قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء، ثم قال عليه السلام:
أوه على إخوانى الّذين قرءوا القرآن فأحكموه، و تدبّروا الفرض فأقاموه، أحيوا السّنّة، و أماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتّبعوه. ثم نادى باعلى صوته: الجهاد الجهاد عباد اللّه!! ألا و إنّى معسكر فى يومى هذا، فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج. قال نوف: و عقد للحسين - عليه السلام - فى عشرة آلاف، و لقيس بن سعد - رحمه الله - في عشرة آلاف، و لأبى ايوب الانصارى فى عشرة آلاف، و لغيرهم على اعداد اخر، و هو يريد الرجعة الى صفين، فما دارت الجمعه حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.
اقول: الضمير فى لبس: للعارف مطلقا، و قيل: هو الامام المنتظر. و استعار لفظ الجنّة: للاستعداد بالزهد و العبادة الواقيين له كوقاء الجنة. و المعرفة بها: اى بقدرها و لفظ الضالة لها: باعتبار طلبه ايّاها، كما قال صلى اللّه عليه و آله: (الحكمة ضالّة المؤمن)(1)و قوله: فهو، الى قوله: الاسلام، اشارة الى خفائه بين الناس و قلّة وجود مثله، و غربة الاسلام: قلة لزومه، و العمل به كما قال صلى اللّه عليه و آله: (بدأ الاسلام غريبا و سيعود كما بدأ)(2) و استعار لفظ عسيب الذنب و هو: طرفه، و لفظ الجران و هو: مقدّم عنق البعير، للاسلام ملاحظة لشبهه ايّاه فى سقوطه عند عفه. و استوسق الأمر: اجتمع و انتظم. و ازمع: صمم عزمه. و قوله: ما ضرّ، الى قوله: الرنق: تنبيه على عدم ضرر الموت لإخوانه المذكورين من الصحابة الّذين قتلوا بصفّين. و الرنق، بالسكون: الكدر. و عمّار: هو عمار ابن ياسر الّذى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فيه: عمار جلدة ما بين عينى، تقتله الفئة
ص: 376
الباغية لا انالها اللّه شفاعتي(1). و ابن التيهان: هو ابو الهيثم مالك بن مالك، و قيل: مالك ابن عمرو بن الحرث التيهان. ذو الشهادتين: هو ابو عمارة خزيمة بن ثابت الانصارى الأوسى، جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله شهادته بشهادة رجلين لقصة مشهورة. و ابرد:
أرسل. و الفجرة: امراء الشام. و القائد: يعنى نفسه. و قيس: هو ابن سعد بن عبادة الانصارى. و ابو ايّوب: هو خالد بن سعد بن كعب من بنى النجار، و عليه نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حين هاجر الى المدينة حتى بنى مسجده و مساكنه.
الحمد للّه المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبة، خلق الخلائق بقدرته، و استعبد الأرباب بعزّته، و ساد العظماء بجوده. و هو الّذى أسكن الدّنيا خلقه، و بعث إلى الجنّ و الإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، و ليحذّروهم من ضرّائها، و ليضربوا لهم أمثالها، و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها و أسقامها، و ليبصروهم عيوبها و حلالها و حرامها، و ما أعدّ اللّه للمطيعين منهم و العصاة من جنّة و نار و كرامة و هوان. أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه، و «جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً»، و لكلّ قدر أجلا، و لكلّ أجل كتابا.
أقول: نزّهه فى معرفته عن الرؤية، و فى خالقيته عن التعب، لاستلزامهما الجسميّة. و قوله: ليكشفوا لهم اى: اغطية الهيئات البدنيّة، و اغشية الجهل و كشفها بالتذكير، و الموعظة عن اعين بصائرهم، ليروا ما تغطّى من احوال الآخرة التي خلقوا لها. و ضرّائها:
ما يلزم الغفلة فيها من الضرر الاخروىّ . و باللّه التوفيق.
منها:
فى ذكر القرآن: فالقرآن آمر زاجر، و صامت ناطق، حجّة اللّه على خلقه: أخذ عليهم ميثاقه، و ارتهن عليه أنفسهم، أتمّ نوره، و أكمل به دينه، و قبض نبيّه، صلّى اللّه عليه و آله، و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه، فإنّه لم
ص: 377
يخف عنكم شيئا من دينه، و لم يترك شيئا رضيه أو كرهه، إلاّ و جعل له علما باديا، و آية محكمة تزجر عنه أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقى واحد، و سخطه فيما بقى واحد. و اعلموا أنّه لن يرضى عنكم بشىء سخطه على من كان قبلكم، و لن يبسخط عليكم بشىء رضيه ممّن كان قبلكم، و إنّما تسيرون فى أثر بيّن، و تتكلّمون برجع قول قد قاله الرّجال من قبلكم، قد كفاكم مئونة دنياكم، و حثّكم على الشّكر، و افترض من ألسنتكم الذّكر، و أوصاكم بالتّقوى و جعلها منتهى رضاه و حاجته من خلقه، فاتّقوا اللّه الّذى أنتم بعينه و نواصيكم بيده، و تقلّبكم فى قبضته: إن أسررتم علمه، و إن أعلنتم كتبه، قد وكّل بكم حفظة كراما، لا يسقطون حقّا، و لا يثبتون باطلا، و اعلموا أنّ «مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» من الفتن، و نورا من الظّلم، و يخلده فيما اشتهت نفسه، و ينزله منزلة الكرامة عنده، فى دار اصطنعها لنفسه: ظلّها عرشه، و نورها بهجته، و زوّارها ملائكته، و رفقاؤها رسله. فبادروا المعاد، و سابقوا الآجال، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، و يرهقهم الأجل، و يسدّ عنهم باب التّوبة، فقد أصبحتم فى مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم، و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم، و قد أوذنتم منها بالارتحال، و أمرتم فيها بالزّاد، و اعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها فى مصائب الدّنيا. أ فرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه و العثرة تدميه، و الرّمضاء تحرقه ؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، و قرين شيطان ؟! أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار حطم بعضها بعضا لغضبه، و إذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته ؟؟!! أيّها اليفن الكبير، الّذى قد لهزه القتير! كيف أنت إذا التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق، و نشبت الجوامع، حتّى أكلت لحوم السّواعد؟! فاللّه اللّه، معشر العباد، و أنتم سالمون فى الصّحّة قبل السّقم!! و فى الفسحة قبل الضّيق، فاسعوا فى فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها: أسهروا عيونكم. و أضمروا بطونكم، و استعملوا أقدامكم، و أنفقوا أموالكم، و خذوا من أجسادكم فجدّدوا بها على أنفسكم و لا تبخلوا بها عنها، فقد قال اللّه سبحانه: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ »(1) و قال تعالى: «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ »
ص: 378
«قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ » (1) ، فلم يستنصركم من ذلّ ، و لم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم و له «جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » «وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ »، و استقرضكم و له «خَزٰائِنُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » و «هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ»، و إنّما أراد أن يبلوكم «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللّه فى داره رافق بهم رسله، و أزارهم ملائكته، و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا، و صان أجسادهم أن تلقى لغوبا و نصبا «ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ »(2). أقول ما تسمعون، «وَ اَللّٰهُ اَلْمُسْتَعٰانُ » على نفسى و أنفسكم. و هو حسبى «وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ ».
أقول: استعار للقرآن الأوصاف المتضادّة باعتبارات مختلفة. و أخذ عليه اى:
على العمل بما فيه، و ما: مصدريّة اى: فعظّموه تعظيما يناسب تعظيمه لنفسه. و قوله:
فرضاه، الى قوله: واحد، اى: انّ الرضى له من الاحكام و المسخوط فيما مضى هو المرضىّ ، و المسخوط فيما بقى و استقبل من الزمان، و حكمه فى كونه مرضيا او مسخوطا واحد فى جميع الاوقات، و فيه ايماء الى انّ رفع شيء من الاحكام بالرأى و القياس المتعارف لا يجوز. و كذلك قوله: و اعلموا، الى قوله: قبلكم: تأكيد له. و قوله:
و انّما تسيرون، الى قوله: قبلكم اى: انّ الادلّة لكم واضحة قد تداولها الاوّلون قبلكم و أنتم تتكلّمون بما تردّد منها فى الألسنة السابقة. و رجع القول: المردّد منه، و كونهم بعينه اى: بحيث يبصرهم و يعلم ما يفعلون. و لفظ العين: مجاز فى العلم و خصّ النواصي بالأخذ: لانّها أشرف و القدرة على الاشرف أتمّ و اقوى، و لأنه تعالى فى اعتبار الاوهام فى جهة فوق فاخذه اوّلا يكون بالنواصى. و الدار التي اصطنعها لنفسه: الجنّة. و كون ظلها عرشه: يقتضى انّها فى السماوات. و بهجته: يعود الى بهائه و جماله المعقول المشرق على نفوس أهل الجنة. و رفقاؤها: الرفقاء فيها: «وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً». و يوشك:
يقرب. و يرهقهم: يدركهم. و قوله: فقد اصبحتم. الى قوله: قبلكم، اى: فى حال الحياة من الصحة، و التمكّن من العمل، و هو ما يتمنّاه من مضى قبلكم، لقولهم: ««يٰا لَيْتَنٰا» «نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ »»(3). و كونهم بنى سبيل: باعتبار انّهم فى هذه الدار غرباء
ص: 379
تسوقهم العناية الالهية الى غاية اخرى. و ضجيع حجر: كقوله: «وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ »(1). و قرين شيطان: كقوله تعالى: «فَكُبْكِبُوا فِيهٰا هُمْ وَ اَلْغٰاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ »(2). و اليفن: الشيخ الكبير. و لهزه: خالطه. و القتير: الشيب. و الجامعة: الغلّ لجمعها الأيدى الى الاعناق. و اللغوب: التعب. و الفصل واضح و باللّه التوفيق.
و قد قال له بحيث يسمعه:
«لا حكم إلا للّه»، و كان من الخوارج اسكت! قبّحك اللّه يا أثرم، فو اللّه لقد ظهر الحق فكنت فيه ضسئيلا شخصك، خفيّا صوتك، حتّى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز.
أقول: البرج، بالباء المضمومة و الجيم. و قبّحه اللّه: نحّاه عن الخير. و الأثرم: ساقط الثنية. و الضئيل: الصغير، الحقير: النحيف. و ضؤولة شخصه عند ظهور الحق: كناية عن حقارته فى زمن العدل و قوّة الاسلام، و خمول ذكره فى الصحابة. و خفاء صوته: كناية عن قلة الالتفات اليه. و نعر: صاح، و نعور الباطل: كناية عن قوّته و كثرته، و وجه التشبيه بنجوم قرن الماعز سرعة ظهوره.
روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام - يقال له: همام - كان رجلا عابدا، فقال له: يا امير المؤمنين، صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم! فتثاقل عليه السلام عن جوابه، ثم قال:
يا همّام اتّق اللّه و أحسن «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ »(3) فلم يقنع همام
ص: 380
بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلى على النبي صلى اللّه عليه و آله، ثم قال:
أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى خلق الخلق - حين خلقهم - غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، و لا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم، و وضعهم من الدّنيا مواضعهم، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل:
منطقهم الصّواب، و ملبسهم الاقتصاد، و مشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، و وقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم فى البلاء كالّتى نزّلت فى الرّخاء، و لو لا الاجل الّذى كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب، و خوفا من العقاب، عظم الخالق فى أنفسهم فصغر ما دونه فى أعينهم، فهم و الجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، و هم و النّار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون: قلوبهم محزونة، و شرورهم مأمونة، و أجسادهم نحيفة، و حاجاتهم خفيفة، و أنفسهم عفيفة، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن: يرتّلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، و يستثيرون دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم، و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها فى أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم و أكفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم، يطّلبون إلى اللّه تعالى فى فكاك رقابهم و أمّا النّهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف برى القداح ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى، و ما بالقوم من مرض، و يقول قد خولطوا: و لقد خالطهم أمر عظيم: لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، و من أعمالهم مشفقون، إذا زكّى أحدهم، خاف ممّا يقال له! فيقول:
أنا أعلم بنفسى من غيرى، و ربّى أعلم بى منّى بنفسى. اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، و اجعلنى أفضل ممّا يظنّون، و اغفر لى ما لا يعلمون. فمن علامة أحدهم: أنّك ترى له قوّة فى دين، و حزما فى لين، و إيمانا فى يقين، و حرصا فى علم، و علما فى حلم، و قصدا فى غنى، و خشوعا فى عبادة، و تجمّلا فى فاقة،
ص: 381
و صبرا فى شدّة، و طلبا فى حلال، و نشاطا فى هدى، و تحرّجا عن طمع، يعمل الأعمال الصّالحة و هو على وجل، يمسى و همّه الشّكر، و يصبح و همّه الذّكر، يبيت حذرا، و يصبح فرحا، حذرا لما حذّر من الغفلة، و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ ، قرّة عينه فيما لا يزول، و زهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، و القول بالعمل، تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه، الخير منه مأمول. و الشّرّ منه مأمون، إن كان فى الغافلين كتب فى الذّاكرين، و إن كان فى الذّاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمّن ظلمه، و يعطى من حرمه، و يصل من قطعه، بعيدا فحشه، لينّا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شرّه، فى الزّلازل و قور، و فى المكاره صبور، و فى الرّخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، و لا يأثم فيمن يحبّ يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، و لا ينسى ما ذكّر، و لا ينابز بالألقاب، و لا يضارّ بالجار، و لا يشمت بالمصائب، و لا يدخل فى الباطل، و لا يخرج من الحقّ . إن صمت لم يغمّه صمته، و إن ضحك لم يعل صوته، و إن بغى عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذى ينتقم له. نفسه منه فى عناء، و النّاس منه فى راحة. أتعب نفسه لآخرته، و أراح النّاس من نفسه. بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة. ليس تباعده بكبر و عظمة، و لا دنوّه بمكر و خدعة. قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه! ثمّ قال: أ هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟ فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال: ويحك! إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه، و سببا لا يتجاوزه، فمهلا لا تعد لمثلها، فإنّما نفث الشّيطان على لسانك!! أقول: هو همّام بن شريح كان من شيعة علّي عليه السلام. و المتقوّن: هم الّذين استجمعوا الفضائل النفسانية المتعلقة بصلاح قوّتى العلم، و العمل، و قد اشار عليه السلام فيها الى نيف و سبعين، فضيلة عدّدناها فى الأصل(1). و الصواب فى القول: هو فضيلة
ص: 382
اللسان، و هو: قول ما ينبغي دون ما لا ينبغي. و استعار لفظ الملبس: للاقتصاد فى الأمور باعتبار ملازمتهم له. و قوله: نزلت، الى قوله: الرخاء: كما لا يبطر برخاء يصيبها كذلك لا يقنط من بلاء ينزل بها، و التقدير كالنزول الّذى نزلته فى الرخاء، و يحتمل ان يريد بالّذى الذين. و تشبيههم بمن قد رأى الجنة أى: فى قوّة يقينهم بما وعد المتّقون. و بمن قد رأى النار: فى قوّة يقينهم بوعيد أهلها، و ذلك عن مشاهدتهم بأعين أبصارهم حقائق الوعد و الوعيد، و بحسب ذلك يكون غلبة الخوف و الرجاء عليهم، و تنعمهم باللذّة و عذابهم بألم ما يتصوّرونه و يخافه أجسادهم: لهجرهم الترف و الملاذ الدّنيوية، و نصبهم فى العبادة. و تجارة: مصدر. و دائهم: هو الجهل. و دوائهم: ما اشتمل عليه القرآن من الأسرار و الفضائل. و حنّوهم على اوساطهم: كيفية ركوعهم. و القدح: السهم لا ريش له، و وجه الشبه به شدّة النحافة و قد يعرض لبعض العارفين اختلاط فى القول، عند اتصال نفسه بالملأ الأعلى، و اشتغال سرّه بالأنوار الالهية فربّما يكلّم بما يخرج عن المتعارف.
و الحزم فى اللين: ان يكون لينه حزما و فى موضعه لا عن مهانة و ذلّة. و القصد فى الغنى:
فضيلة العدل فيه دون الاسراف و البخل، او دون تجاوز الحدّ فى طلب الدنيا و الوقوف فى حدّ الحاجة، و المسلة و الوجل فى العمل الصالح من ان يكون على غير الوجه المرضىّ للّه، كما روى عن زين العابدين عليه السلام، انّه كان فى التلبية و هو على راحلته اذ خرّ مغشيّا عليه فلما أفاق قيل: له فى ذلك، فقال: خشيت ان تقول: لا لبّيك و لا سعديك.
و سهولة امره: فى كونه لا يتكلّف و لا يكلف. و حرز دينه: حفظه من التساهل فيه.
و قوله: ان كان من الغافلين: أى فى نظر الناس كتب فى الذاكرين عند اللّه لاشتغال سرّه به. و الفحش: قول ما لا ينبغي. و الزلازل: الفتن الكبار و الامور العظام. و عدم اثمه فيمن يحب: ان لا يتّبع الهوى فى رضاه. و المنابزة: المراماة بالألقاب التي ينادى بها. و لا يغمّه صمته: لكونه حكمة. و لا يعلو ضحكه: لغلبة ذكر الموت عليه. و نفسه منه فى عناء اى:
الامّارة لمقاومته ايّاها و كسره لها. و باقى الفصل واضح.
ص: 383
نحمده على ما وفّق له من الطّاعة، و ذاد عنه من المعصية، و نسأله لمّنّته تماما، و بحبله اعتصاما، و نشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله: خاض إلى رضوان اللّه كلّ غمرة، و تجرّع فيه كلّ غصّة، و قد تلوّن له الأدنون، و تألّب عليه الأقصون، و خلعت إليه العرب أعنّتها و ضربت لمحاربته بطون رواحلها حتّى أنزلت بساحته عدوانها: من أبعد الدّار، و أسحق المزار. أوصيكم، عباد اللّه بتقوى اللّه، و أحذّركم أهل النّفاق، فإنّهم الضّالّون المضلّون، و الزّالّون المزلّون: يتلوّنون ألوانا، و يفتنون افتنانا، و يعمدونكم بكلّ عماد، و يرصدونكم بكلّ مرصاد، قلوبهم دويّه، و صفاحهم نقيّة، و يمشون الخفاء، و يدبّون الضّرّاء. وصفهم دواء، و قولهم شفاء، و فعلهم الدّاء العياء، حسدة الرّخاء، و مؤكّدو البلاء، و مقنطو الرّجاء، لهم بكلّ طريق صريع، و إلى كلّ قلب شفيع، و لكلّ شجو دموع، يتقارضون الثّناء، و يتراقبون الجزاء: إن سألوا ألحفوا، و إن عذلوا كشفوا، و إن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا، و لكلّ قائم مائلا، و لكلّ حىّ قاتلا، و لكلّ باب مفتاحا، و لكلّ ليل مصباحا: يتوصّلون إلى الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، و ينفقوا به أعلاقهم: يقولون فيشبّهون، و يصفون فيوهّمون، قد هوّنوا الطّريق، و أضلعوا المضيق، فهمّ لمّة الشّيطان، و حمة النّيران «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ »(1).
اقول: ذاد: طرد. و ذوده تعالى عن المعصية: بالنواهى. و استعار لفظ حبله لدينه العاصم: لمن تمسّك به. و غمرة الشيء: معظمه، و اراد كل عظيم من الشدائد. و تلوّن الادنين: تغيّر قلوبهم و نفاقهم. و التألّب: التجمّع. و خلع العرب اعنّتها اليه: كناية عن تجرّدهم مسرعين الى حربه. و كذلك: ضربها الى محاربته بطون رواحلها. و السحيق:
البعيد. و يعمدونكم: يقصدونكم بالأمور الفادحة. و دويّة: ذات داء كالغلّ و الحسد
ص: 384
و الخدعة و نحوها. و ذلك مع نقاء صفاحهم اى: وجوههم، و سلامتها من شرّ ظاهر: كناية عن النفاق. و وصفهم دواء اى: يقولون اقوال الزاهدين فى وصف سبيل اللّه و يفعلون أفعال المنافقين الفاسقين. و يقنطوا الرجاء اى: من رجا أمرا قنطوه منه. و الطريق: كناية عن الحيلة او المقصد، اى: كيف توجّهوا حصل منهم أذى. و الى كل قلب شفيع اى:
من الأقوال و الافعال المشبهة للحق. و دموعهم لكل شجو: كناية عن توجّعهم لكلّ ذى شجو و ان كان عدوا نفاقا. و تقارضهم للثناء، ثناء كلّ منهم على صاحبه مع توقّعه أن يثنى عليه بمثله. و الالحاف: اللحاح فى السؤال. و ان عذلوا كشفوا عيوب من يعذلونه و هم فى زيّ الناصحين. و استعار لفظ المفتاح: للحيلة و لفظ الليل: لما اظلم من الأمور، و لفظ المصباح: للرأى الذى يدخلون به فى كل مشكل. و توصلهم الى الطمع باليأس اى: عما فى أيدى الناس بإظهار الزهد فيه. و العلق: النفيس من كلّ شيء، و هو مستعار:
لما يلتمسون ترويجه على الناس من امورهم. و التمويه: التشبيه. و هوّنوا الطريق اى:
مسلك مقاصدهم من الآراء و الحيل. و اضلعوا المضيق اى: اعوجوا مضائق طرقهم، و مضايقها: دقائق المداخل فى الأمور. و اراد بتعويجها: انّهم اذا ارادوا مثلا امرا اظهروا غيره نعمته على الغير خلافه. و لمة الشيطان: جماعته. و حمة النيران: مستعار لعظيم شرورهم.
يعلم عجيج الوحوش فى الفلوات، و معاصى العباد فى الخلوات، و اختلاف النّينان فى البحار الغامرات، و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات، و أشهد أنّ محمّدا نجيب اللّه، و سفير وحيه، و رسول رحمته. أمّا بعد، فأوصيكم بتقوى اللّه الّذى ابتدأ خلقكم، و إليه يكون معادكم، و به نجاح طلبتكم، و إليه منتهى رغبتكم، و نحوه قصد سبيلكم، و إليه مرامى مفزعكم، فانّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، و بصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، و صلاح فساد صدوركم، و طهور دنس أنفسكم، و جلاء غشاء أبصاركم، و أمن فزع جأشكم، و ضياء سواد ظلمتكم، فاجعلوا طاعة اللّه شعارا دون دثاركم، و دخيلا دون شعاركم، و لطيفا بين
ص: 385
أضلاعكم، و أميرا فوق أموركم، و منهلا لحين ورودكم، و شفيعا لدرك طلبتكم، و جنّة ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم، و سكنا لطول وحشتكم، و نفسا لكرب مواطنكم، فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة، و مخاوف متوقّعة، و أوار نيران موقدة. فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها، و احلولت له الأمور بعد مرارتها، و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، و أسهلت له الصّعاب بعد إنصابها، و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، و تحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها، و وبلت عليه البركة بعد إرذاذها. فاتّقوا اللّه الّذى نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، و اخرجوا إليه من حقّ طاعته. ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذى اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه خيرة خلقه، و أقام دعائمه على محبّته، أذلّ الأديان بعزّته، و وضع الملل برفعه، و أهان أعداءه بكرامته، و خذل محادّيه بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه، و سقى من عطش من حياضه، و أتاق الحياض لمواتحه، ثمّ جعله لا انفصام لعروته، و لا فكّ لحلقته، و لا انهدام لأساسه، و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء لشرائعه، و لا جذّ لفروعه، و لا ضنك لطرقه، و لا وعوثة لسهولته، و لا سواد لوضحه، و لا عوج لانتصابه، و لا عصل فى عوده، و لا وعث لفجّه، و لا انطفاء لمصابيحه، و لا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ فى الحقّ أسناخها، و ثبّت لها أسسها، و ينابيع غزرت عيونها، و مصابيح شبّت نيرانها، و منار اقتدى بها سفّارها، و أعلام قصد بها فجاجها، و مناهل روى بها ورّادها:
جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، و ذروة دعائمه، و سنام طاعته، فهو عند اللّه وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضيء النّيران، عزيز السّلطان، مشرف المنار، معوز المثار، فشرّفوه، و اتّبعوه، و أدّوا إليه حقّه، وضعوه مواضيعه. ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا، صلى اللّه عليه و آله و سلم، بالحقّ حين دنا من الدّنيا الانقطاع، و أقبل من الآخرة الاطّلاع: و أظلمت بهجتها بعد إشراق، و قامت بأهلها على ساق، و خشن منها مهاد، و أزف منها قياد، فى انقطاع من مدّتها، و اقتراب من أشراطها، و تصرّم من أهلها، و انفصام من حلقتها، و انتشار من سببها، و عفاء من أعلامها، و تكشّف من عوراتها، و قصر من طولها. جعله اللّه بلاغا لرسالته، و كرامة لأمّته، و ربيعا لأهل زمانه،
ص: 386
و رفعة لأعوانه، و شرفا لأنصاره. ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده، و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوءه، و فرقانا لا يخمد برهانه، و تبيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه، و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان و بحبوحته، و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه، و أثافىّ الإسلام و بنيانه، و أودية الحقّ و غيطانه. و بحر لا ينزفه المنتزفون، و عيون لا ينضبها الماتحون، و مناهل لا يغيضها الواردون، و منازل لا يضلّ نهجها المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السّائرون، و آكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله اللّه ريّا لعطش العلماء، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصّلحاء، و دواء ليس بعده داء، و نورا ليس معه ظلمة، و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولاّه، و سلما لمن دخله، و هدى لمن ائتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصهم به، و فلجا لمن حاجّ به، و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّم، و جنّة لمن استلأم، و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى.
أقول: العجيج: رفع الصوت، و افاد: انّه يعلم أصواتها حين يجأر اليه فى جدب الارض و قلة العشب(1). و النينان: جمع نون و هو: الحوت. و المفزع: مصدر و يقال: فلان مرمى قصدى اى: اليه مفزعى فى المهمّات. و داء قلوبهم و عمى افئدتهم: هو الجهل و الرذائل النفسانية. و شفاء مرضى أجسادهم، امّا دينا: فلقوّة نفس المتقى على استنزال الشفاء بصالح الدعاء، و امّا طبّا: فلانّ التقوى تستلزم قلة المأكل و المشارب، و استعمالهما بقدر الحاجة، و قد علمت ما فى الاستكثار منها من المضار البدنيّة كما قال صلى اللّه عليه و آله: (المعدة بيت الادواء)(2). و صلاح فساد صدورهم: من الرذائل النفسانية. و دنس النفوس: بنجاسات الهيئات الرّديّة. و استعار لفظ العشا: لما يعرض من ظلمة الجهل الحاجبة عن ادراك الحقائق. و الجأش: القلب، و كذلك استعار لفظ سواد الظلمة:
ص: 387
للجهل، و لفظ الشعار: و هو مايلى الجسد من الثياب: للتقوى و هو امر بلزومها، و مباشرة القلوب بها، اذ الشعار ادخل من الدثار. ثم اكّد امرهم بلزومها باتخاذّها دخيلا تحت الشعار و هو: الأمر بالاخلاص فيها، و جعلها ملكة، و فسرّ ذلك بقوله: و لطيفا بين اضلاعكم، و كنى بلفظها: عن تصوّرها و اعتقادها. و بكونها بين اضلاعهم: عن ايداعها القلوب. و استعار لفظ الأمر: لها باعتبار وجوب الزامها و الائتمار لها. و لفظ المنهل و هو:
المورد باعتبار انّها: مظنّة التروّى من شراب الأبرار. و لفظ المصباح: لإضاءتها القلوب.
و المتالف المكتنفة: و هى الرذائل، تكتنف النفس فتوبقها. و المخاوف المتوقّعة: اهوال الآخرة. و اوار النيران: حرّها. و عزبت: غابت، و مرارة الأذى، اللازم عنها كما يلزم عن الفقر و نحوه. و لما كان ذلك شعار المتّقين، كان أحلى فى نفوسهم من كلّ شعار، و ان كان مرّا فى اذواقهم فى اوّل الامر. و استعار لفظ الأمواج: لأهوال الدنيا و غمومها.
و لما كانت التقوى تستلزم سهولة تلك الشدائد كان ذلك تفريجا لها، و يحتمل ان يريد بالأمواج: الهيئات البدنية الرديّة، اذ بالتقوى تزول و تنفرج. و سهولة صعاب امور الدنيا على المتّقين اشرف ما هم بصدده من المطالب الجليّة. و انصابها: اتعابها، و الكرامات:
تعود الى الافاضات العالية الهاطلة على نفوسهم، و يحتمل ان يريد: الغيث عند القحط، فانّ نفوس المتقين تستنزله بدعائها. و التحدّب: التعطّب. و عبّدوا: ذلّلوا. و اصطنعه على عينه اى: على علم منه و عناية به. و اصفاه خيرة خلقه: اخلصه له. و دعائم الدين: قواعده الثابتة فى قلوب المؤمنين. و اقامتها على محبّته: فى قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ »(1) فكان اتّباعه عليه السلام و اقامته لتلك الدّعائم به مبنيّا على محبّة اللّه. و يحتمل عود الضمير الى النبي صلى اللّه عليه و آله اذ لو لا محبته، و لزوم اتّباعه لم يقم الدين. و محادّوه: معادّوه، و استعار لفظ اركان الضلالة: لأهلها. و وصف السقى:
لافاضة علوم الدين، و لفظ الحياض: لعلماء الاسلام الّذين هم اوعية العلوم و الحكمة:
و لفظ المواتح: و هم المستقون لائمة الدين ايضا من الصحابة. و لفظ الحياض:
للمستفيدين. و اتأق: املأ. و لفظ العروة: لما يتمسّك به الانسان منه كالعقائد الحقّة و مكارم الاخلاق. و لفظ الحلقة: لجماعته و أهله. و لفظ الأساس: للكتاب و السنة. و
ص: 388
لفظ الدعائم: لاهله و لقوانينه. و لفظ الشجرة: لأصله. و وصف الجدّ لانقطاع المسائل و الابحاث المتفرّعة عليه و تناهيها. و الضنك: الضيق. و الوعوثة: الصعوبة. و لفظ الوضح:
و هو الضوء لأنواره القائدة الى اللّه. و لفظ السواد: لما يكدّرها من الشبه. و لفظ المصابيح:
لعلمائه. و لفظ الدعائم: لقواعده و هى: العبادات لقوله صلى اللّه عليه و آله: (بنى الاسلام على خمس). و الاسناخ: الاصول. و اساخها: اثبتها و ادخلها فى الحق، و هو اشارة الى كون العبادات مبنيّة على اسرار من الحق عميقة. و لفظ الينابيع: لأصوله و هى الكتاب و السنة، باعتبار تفجّر العلوم عنهما: و لفظ العيون: لمبادئ تلك الينابيع حيث صدرت. و شبّت النار: الهبت. و لفظ المنار و الأعلام: لأمارات احكام اللّه و ادلّته. و لفظ المسافرين: لسالكى سبيل اللّه. و الضمير فى دعائمه: للّه. و دعائمه: دعائم دينه و قواعده التي جعلها عمدة لخلقه فى صلاح أحوالهم. و لفظ الذروة: للاسلام باعتبار شرفه على سائر الاديان فهو كالذروة لها. و لفظ البنيان: لما ارتقى اليه اهله من الشرف و الفضيلة.
و لفظ البرهان: للقرآن. و لفظ النيران: لعلومه. و اشراف مناره: علوّ قدر ائمته.
و معوذ المنار اى: يعجز الخلق عن اثارة دفائنه. و روى المنال و المثال. و ازف:
دنا. و القياد: حبل يقاد به الدابّة اى: دنا منها قيادها للرحيل. و استعار لفظ السبب و هو الحبل: لما احكم من امورها. و الضمير فى جعله: للنبى عليه السلام، و نورا و المنصوبات بعده: احوال(1) للكتاب. و بحبوحته: وسطه. و الغيطان: الامكنة المطمئنة من الأرض جمع غائط. و استعار لفظ المنزل: لمقاصد الكتاب باعتبار وقوف الأذهان عندها بعد قصدها.
و لفظ الاعلام: لادلّته. و المعقل: الحبل يعتصم به. و عذرا لمن انتحله اى: لمن نسب نفسه الى حمله و انّه من أهله معتذرا من تكليف شاقّ . و الفلج: الفوز و الظفر. و حملة لمن حمله: قيامه بصلاح حاله فى الدارين. و استعار له لفظ المطيّة: لادائه بصاحبه فى سبيل اللّه الى الجنّة. و المتوسّم: المتدبّر لآياته و عبره كقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ »(2) و المستلئم: الذى يتّخذه لامة. و اللاّمة: الدرع. و حديثا لمن روى: باعتبار ما فيه من قصص الاوّلين او قولا و كلاما لمن نقله كما قال اللّه تعالى: «اَللّٰهُ نَزَّلَ »
ص: 389
«أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ » (1) . و فائدة وصفه بذلك انّ فيه غنية لمن اراد ان يتحدّث بحديث غيره مما لا يفيد فائدته. و حكما اى: فيه الحكم لمن قضى، و روى: حكما اى حاكما.
تعاهدوا أمر الصّلاة، و حافظوا عليها، و استكثروا منها، و تقرّبوا بها، فإنّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، ألا تسمعون إلى جواب أهل النّار حين سئلوا: «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ »(2) و إنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق، و تطلقها إطلاق الرّبق، و شبّهها رسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، بالحمّة تكون على باب الرّجل فهو يغتسل منها فى اليوم و اللّيلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن ؟! و قد عرف حقّها رجال من المؤمنين الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، و لا قرّة عين من ولد و لا مال. يقول اللّه سبحانه: «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ »(3). و كان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نصبا بالصّلاة بعد التّبشير له بالجنّة، لقول اللّه سبحانه: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا» فكان يأمر أهله، و يصبر عليها نفسه. ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الإسلام، فمن أعطاها، طيّب النّفس بها، فإنّها تجعل له كفّارة، و من النّار حجازا و وقاية. فلا يتبعنّها أحد نفسه، و لا يكثرنّ عليها لهفه، فإنّ من أعطاها غير طيّب النّفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسّنّة، مغبون الأجر، ضالّ العمل، طويل النّدم. ثمّ أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنّها عرضت على السّموات المبنيّة، و الأرضين المدحوّة، و الجبال ذات الطّول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها، و لو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن، و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ و هو «اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً» إنّ اللّه - سبحانه و تعالى - لا يخفى عليه ما العباد مقترفون فى ليلهم، و نهارهم، لطف
ص: 390
به خبرا، و أحاط به علما، أعضاؤكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائر كم عيونه، و خلواتكم عيانه.
اقول: حاصل الفصل الوصيّة بالمحافظة على امور ثلاثة: و هى: الصلاة و الزكاة و الامانة، و التنبيه على فضائلها، و وجوب ادائها. و موقوتا: مفروضا و قيل: منجما فى كلّ وقت و هى: الصلوات الخمس. و قوله: ا لا تسمعون، الى قوله: نفسه: دلائل وجوبها و هى ضمائر ذكره صغرياتها. و الربق: جمع ربقة و هى: الحلقة فى الحبل. و الحمة: مجمع الماء و ذلك التشبيه فى قوله صلى اللّه عليه و آله لأصحابه (أيسر أحدكم أن يكون على بابه حمّة يغتسل منها كلّ يوم و ليلة خمس مرّات فلا يبقى من درنه شيء. فقالوا: نعم، قال: فانّها الصلوات الخمس)(1). و نصبا: اى تعبا، و انّما كان معطى الزكاة غير طيب النفس بها ضالّ العمل اذ لم يقصد بها وجهها. و لا اهتدى الى غاية وضعها فى السّنة.
و الاقتراف: الاكتساب. و قد نبّهنا على اسرار العبادات فيما سبق. و باقى الفصل ظاهر.
و اللّه ما معاوية بأدهى منّى، و لكنّه يغدر و يفجر، و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس، و لكن كلّ غدرة فجرة، و لكلّ فجرة كفرة، و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة، و اللّه ما استغفل بالمكيدة، و لا استغمز بالشّديدة.
اقول: الدهاء: استعمال العقل فيما لا ينبغي شرعا مع اظهار ارادة ما ينبغي، و صاحبه داه و خبيث و مكّار و حيول. و هو: رذيلة تحت الجربزة. و لما كان الوفاء فضيلة تحت العفة، كان الغدر رذيلة تحت الفجور، الذى هو رذيلة العفّة و مستلزما له، فكل غدر فجور، و امّا ان يكون كل فجور كفر، فيحمل ان يريد كفرا لنعمة اللّه، و يحتمل ان يريد:
انّ الفجور على وجه استحلاله كفر كما فهم من فجور عمرو بن العاص. و قوله: و لكل
ص: 391
غادر، الى قوله: القيامة: لفظ الخبر النبوىّ . و لا استغمز، بالزاء المعجمة اى: لا يطلب غمزى، اى اضعافى و تعجيزى. و روى: بالراء اى: لا استجهل بشدائد المكائد.
أيّها النّاس، لا تستوحشوا فى طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ النّاس قد اجتمعوا على مائدة، شبعها قصير، وجوعها طويل!! أيّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرّضا و السّخط، و إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا، فقال سبحانه: «فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ »(1) فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة، خوار السّكّة المحماة فى الأرض الخوّارة. أيّها النّاس، من سلك الطّريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع فى التّيه.
اقول: حاصل الفصل ترغيب اصحابه فى البقاء على سلوك طريق الهدى، و عدم التوحّش فيه لقلة سالكيه، اذ من العادة ان يستوحش الوحيد فى الطريق، لعدم الأنيس او لقلّته. و استعار لفظ المائدة: للدنيا و كنى عن قصر مدّتها: بقصر شبعها. و عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل فى الآخرة: بطول جوعها، و لفظ الجوع: مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت الى المطاعم الحقيقية من الكمالات النفسية، و يحتمل ان يريد بالجوع: فقد الملذّات البدنيّة بالموت. و قوله: ايّها الناس، الى قوله: السخط، اى: انّما يجمع الناس فى عذاب اللّه رضاهم بالمنكرات، و معاصى اللّه و سخطهم لمحابّه من الاعمال، و ان لم يباشر اكثرهم ذلك، او انّ سخطهم للمنكرات يكون جامعا لهم فى رحمة اللّه. و مصداق العذاب للرضا بالمنكر قصّة ثمود فى عموم العذاب لهم بفعل عاقر الناقة فانّ العقوبة عمّتهم لعموم الرضا لهم بفعله. و الضمير فى عمّوه: يعود الى الرجل او الى العقر الذى دلّ عليه قوله: عقر. و قوله: فما كان، الى آخره: تفسير للعذاب النازل.
و خارت: صوتت. و السكة: حديدة الفدّان. و الخوارة: الضعيفة. و استعار لفظ الماء: للعلم
ص: 392
و الهدى الحاصل لسالكى سبيل اللّه الواضحة. و التيه: تيه الجهل و عمى البصيرة. و قصة خسفهم مشهورة نبّهنا عليها فى الاصل. و باللّه التوفيق.
روى عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام كالمناجى به رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم عند قبره. السّلام عليك يا رسول اللّه عنّى و عن ابنتك النّازلة فى جوارك، و السّريعة اللّحاق بك، قلّ ، يا رسول اللّه عن صفيّتك صبرى، ورقّ عنها تجلّدى، إلاّ أنّ لى فى التّأسّى بعظيم فرقتك، و فادح مصيبتك، موضع تعزّ، فلقد وسّدتك فى ملحودة قبرك، و فاضت بين نحرى و صدرى نفسك، «إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ »، فلقد استرجعت الوديعة، و أخذت الرّهينة، أمّا حزنى فسرمد، و أمّا ليلى فمسهّد، إلى أن يختار اللّه لى دارك الّتى أنت بها مقيم، و ستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فأحفها السّؤال، و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد، و لم يخل منك الذّكر، و السّلام عليكما سلام مودّع لا قال و لا سئم، فان أنصرف فلا عن ملالة، و إن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّه الصّابرين.
اقول المروىّ : انّها بقيت بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه و عليها، أربعة اشهر(1)و ذلك معنى سرعة لحاقها به. و صفيته: باعتبار انّه كان يكثر اكرامها. و الفادح: الثقيل. و نفسه التي فاضت: دم قاءه - صلى اللّه عليه - حين وفاته. و استعار لفظ الوديعة و الرهينة: لها باعتبار انّ النساء ودائع الكرام، او لنفسها الشريفة باعتبار انّ النفوس فى هذه الأبدان كالودائع فى استرجاعها، و كالمرهونة على الوفاء بعهد اللّه و ميثاقه. و المسهد: المؤرّق. و الاحفاء: الاستقصاء فى السؤال و هو: كالمشتكى ممّن يعتقد انّه ظلمها. و الذكر: ذكر الرسول صلى اللّه عليه و آله.
ص: 393
ايّها النّاس، إنّما الدّنيا دار مجاز، و الآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، و لا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، و أخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم، و لغيرها خلقتم، إنّ المرء إذا هلك قال النّاس: ما ترك ؟ و قالت الملائكة: ما قدّم ؟ للّه آباؤكم! فقدّموا بعضا يكن لكم، و لا تخلّفوا. كلاّ فيكون عليكم.
أقول: هتك أستارهم عند اللّه: بمجاهرتهم المعصية. و اخراجهم قلوبهم من الدنيا:
اعراضهم بقلوبهم عنها، و الزهد الحقيقى فيها. و فى قوله: ما ترك و ما قدّم: لطف تنبيه على انّ متاع الدنيا مفارق متروك ليقلّ الرغبة فيه، و انّ الاعمال الصالحة مقدّمة للمرء فى قدومه على اللّه، باقية نافعة له فى معاده. قيل: انّما امر بتقديم البعض دون الكل لانّ حرمان الورثة لا يجوز، و انّما نهى عن ترك الكلّ ، لانّ اهمال الزكاة و الصدقة لا يجوز.
و روى: يكن لكم قرضا، و يكون عليكم كلا، اى: لا منفعة فيه مع وجود مضرّته. و باللّه التوفيق.
تجهّزوا، رحمكم اللّه، فقد نودى فيكم بالرّحيل، و أقلّوا العرجة على الدّنيا، و انقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزّاد، فإنّ أمامكم عقبة كؤودا، و منازل مخوفة مهولة، لا بدّ من الورود عليها، و الوقوف عندها. و اعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم دانية، و كأنّكم بمخالبها و قد نشبت فيكم، و قد دهمتكم فيها مفظعات الأمور، و معضلات المحذور، فقطّعوا علائق الدّنيا، و استظهروا بزاد التّقوى.
و قد مضى شيء من هذا الكلام فيما تقدم، بخلاف هذه الروايه.
ص: 394
اقول: اراد بالتجهز: الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة. و المنادى: لسان حال الانسان. و العرجة و التعريج: الاقامة بالمكان. و صالح الزاد: التقوى. و استعار لفظ العقبة: للموت. و الكؤود: شاقة المصعد. و المنازل المخوفة: منازل البرزخ و القيامة.
و الملاحظ: مصدر او محل اللحظ، و هو: النظر بمؤخر العين، و استعار لفظه: لكونها لهم بالرصد، فكأنها دائمة النظر اليهم. و دائبة: مجدّة. و دهمه كذا: وقع عليه بغتة.
و مفظعات الأمور: شدائدها: و معضلات المحذور: ما ثقل منه فأمال.
كلم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا [عليه] من ترك مشورتهما، و الاستعانة فى الأمور بهما لقد نقمتما يسيرا، و أرجأتما كثيرا، ألا تخبرانى أىّ شيء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه ؟ و أىّ قسم استأثرت عليكما به ؟ أم أىّ حقّ رفعه إلىّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه ؟ و اللّه ما كانت لى فى الخلافة رغبة، و لا فى الولاية إربة، و لكنّكم دعوتمونى إليها، و حملتمونى عليها، فلمّا أفضت إلىّ نظرت إلى كتاب اللّه و ما وضع لنا، و أمرنا بالحكم به، فاتّبعته، و ما استسنّ النّبىّ ، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاقتديته. فلم أحتج فى ذلك إلى رأيكما، و لا رأى غيركما، و لا وقع حكم جهلته، فأستشير كما و إخوانى المسلمين، و لو كان ذلك لم أرغب عنكما، و لا عن غيركما. و أمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيى، و لا ولّيّته هوى منّى، بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد فرغ منه فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ اللّه من قسمه و أمضى فيه حكمه، فليس لكما، و اللّه، عندى و لا لغيركما فى هذا عتبى. أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ ، و ألهمنا و إيّاكم الصّبر. ثم قال عليه السلام: رحم اللّه امرأ رأى حقّا فأعان عليه، أو رأى جورا فردّه، و كان عونا بالحقّ على صاحبه.
ص: 395
اقول: اليسير الّذى نقماه: هو ترك استشارتهما فى الأمور و تسويتهما بغيرهما فى العطاء، و ذلك و ان كان صعبا عندهما فهو عنده يسير سهل لكونه حقا، و الكثير الّذى ارجاه اى: اخّراه هو: ما يعود الى مصالح الدين. و يحتمل ان يريد: انّ الّذى ابدياه و نقماه يسير من كثير ممّا فى نفسهما عليه اخّراه. و الأربة و الارب: الحاجة. و افضت: وصلت.
و الاسوة: التسوية فى العطاء. و قوله: و لا وليّته هوى منى، اى: و لا جعلت الحاكم فيه هواى: و روى: وليته بالتخفيف و الكسر على ان يكون هوى مفعولا له. و العتبى: الاسم من العتاب.
و قد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين إنّى أكره لكم أن تكونوا سبّابين، و لكنّكم لو وصفتم أعمالهم، و ذكرتم حالهم، كان أصوب فى القول، و أبلغ فى العذر، و قلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا و دماءهم، و أصلح ذات بيننا و بينهم، و اهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، و يرعوى عن الغىّ و العدوان من لهج به.
اقول: وصف أعمالهم تذكيرهم بكونهم ضالّين و ظالمين على وجه النصيحة، و الارشاد الى الدّين. و يرعوى: يرجع. و لهج بكذا: اولع به و حرص عليه.
املكوا عنّى هذا الغلام لا يهدّنى، فإنّنى أنفس بهذين (يعنى الحسن و الحسين عليهما السلام) على الموت، لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
قال الرضى أبو الحسن: قوله عليه السلام «املكوا عنى هذا الغلام» من أعلى الكلام و أفصحه.
ص: 396
أقول: املكوا: اضبطوا. و يهدّنى: يكسّرني. و انفس: ابخل بالفتح.
أيّها النّاس، إنّه لم يزل أمرى معكم على ما أحبّ حتّى نهكتكم الحرب، و قد، و اللّه، أخذت منكم و تركت، و هى لعدوّكم أنهك. لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا، و كنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا، و قد أحببتم البقاء، و ليس لى أن أحملكم على ما تكرهون.
اقول: نهكتكم اخلقتكم، و هو مستعار فى اضعافهم، و اخذت و تركت كناية عن تصرّفها فيهم بالاختيار.
و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثى - و هو من أصحابه - يعوده، فلما رأى سعة داره قال:
ما كنت تصنع بسعة هذه الدّار فى الدّنيا؟ أما أنت إليها فى الآخرة كنت أحوج ؟! و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقرى فيها الضّيف، و تصل فيها الرّحم، و تطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء. يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخى عاصم بن زياد. قال: و ما له ؟ قال: لبس العباءة و تخلى عن الدنيا. قال: علىّ به، فلما جاء قال:
يا عدىّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك و ولدك، أ ترى اللّه أحلّ لك الطّيّبات و هو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك! قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت فى خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك! قال:
ص: 397
و يحك، إنّى لست كأنت، إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره.
اقول: استفهامة للعلاء فى معرض التوبيخ لما انّ ذلك ينافي الزهد فى الدنيا. و قوله: و بلى، الى آخره هداية له الى وجوب استعمالها فى مرضاة اللّه بعد التفريط فى بنائها. و مطالع الحقوق مصارفها الشرعيّة. و قوله: على به ينوب مناب فعل الأمر اى:
ائتونى به. و عدىّ (1) تصغير عدو و نهيه له عما فعل لانّه لم يكن على وجهه، بل فهم منه انّه عن جهل و هوى، و استلزام ترك حقوق تلزمه شرعا لأهله و ولده. و الهيام: الذهاب فى التيه.
و استهام بك الخبيث اى: طلب منك الشيطان الهنام و زيّنه لك. و قوله: فكيف بك اى: فكيف بك هذه الحال، و انت القدوة: جوابه عليه السلام بالفرق بينهما.
فقال عليه السلام:
إنّ فى أيدى النّاس حقّا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا و منسوخا، و عامّا و خاصّا، و محكما و متشابها، و حفظا و وهما. و لقد كذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، على عهده حتّى قام خطيبا، فقال: «من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار»(2). و إنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأثّم و لا يتحرّج يكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، متعمّدا، فلو علم النّاس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، و لم يصدّقوا قوله، و لكنّهم قالوا صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رآه، و سمع منه، و لقف عنه فيأخذون بقوله، و قد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك، و وصفهم بما وصفهم به لك، ثمّ بقوا بعده - عليه و آله السّلام - فتقرّبوا إلى أئمّة الضّلالة،
ص: 398
و الدّعاة إلى النّار بالزّور و البهتان، فولّوهم الأعمال، و جعلوهم حكّاما على رقاب النّاس، و أكلوا بهم الدّنيا، و إنّما النّاس مع الملوك و الدّنيا إلاّ من عصم اللّه، فهذا أحد الأربعة. و رجل سمع من رسول اللّه شيئا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه و لم يتعمّد كذبا، فهو فى يديه و يرويه و يعمل به، و يقول: أنا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلو علم المسلمون أنّه و هم فيه لم يقبلوا منه، و لو علم هو أنّه كذلك لرفضه! و رجل ثالث: سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا يأمر به ثمّ نهى عنه و هو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثمّ أمر به و هو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، و لم يحفظ النّاسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه. و آخر رابع: لم يكذب على اللّه، و لا على رسوله، مبغض للكذب خوفا من اللّه، و تعظيما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه: لم يزد فيه و لم ينقص منه، فحفظ النّاسخ فعمل به، و حفظ المنسوخ فجنّب عنه، و عرف الخاصّ و العامّ ، فوضع كلّ شيء موضعه، و عرف المتشابه و محكمه. و قد كان يكون من رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، الكلام له و جهان: فكلام خاصّ ، و كلام عامّ ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه سبحانه به، و لا ما عنى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيحمله السّامع، و يوجّهه على غير معرفة بمعناه، و ما قصد به، و ما خرج من أجله، و ليس كلّ أصحاب رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، من كان يسأله و يستفهمه، حتّى إن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابىّ و الطّارىء فيسأله عليه السّلام حتّى يسمعوا و كان لا يمرّبى من ذلك شيء إلاّ سألت عنه و حفظته، فهذه وجوه ما عليه النّاس فى اختلافهم، و عللهم فى رواياتهم.
اقول: احاديث البدع: الأحاديث المسرعة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و المكذوبة عليه. و الّذى ترتكب منها البدع و هى: محدثات الامور فى الدين بما لا حجة شرعيّة فيه. و الحفظ: ما حفظ عنه عليه السلام. و الوهم: ما غلط فيه فتوّهم مثلا انّه عام و المراد به الخصوص: او انّه ثابت و هو منسوخ، و وجه الحصر فى قسمة رجال الحديث،
ص: 399
انّ الناقل له المنتسب الى الاسلام، امّا منافق، او لا؟ و الثاني: امّا ان يكون قد وهم فيه او لا؟ و الثالث امّا ان يكون قد عرف ما يتعلق به من شرائط الرواية او لا يكون. و دّل على الحصر بقوله: ليس لهم خامس و اشار الى الاوّل بقوله: رجل منافق، الى قوله: فهذا احد الاربعة. و يتصنّع بالاسلام يتزيّن به و يتحلّى به فى عيون أهله. و لا يتأثّم: لا يعترف بالاثم او لا يحجم عنه. و وجه الشبهة فى قبول قوله: ظاهر الاسلام و صحبة الرسول عليه السلام. و خبّر اللّه تعالى عن المنافقين كقوله: «إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّٰارِ» الآية(1) و نحوها. و وصفهم بالكذب فى قوله تعالى: «وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ »(2) و أئمه الضلال: بنو اميّة. و اشار الى الثاني بقوله: و رجل سمع منى، الى قوله:
لرفضه و الى الثالث بقوله: و رجل ثالث، الى قوله: لرفضوه. و الى الرابع بقوله: و آخر رابع الى قوله: و محكمه و هو ظاهر.
و كان من اقتدار جبروته، و بديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزّاخر المتراكم المتعاصف يبسا جامدا، ثمّ فطر منه أطباقا، ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها، فاستمسكت بأمره، و قامت على حدّه، و أرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر، و القمقام المسخّر، قد ذلّ لأمره، و أذعن لهيبته، و وقف الجارى منه لخشيته، و جبل جلاميدها، و نشوز متونها و أطوادها، فأرساها فى مراسيها، و ألزمها قرارتها. فمضت رءوسها فى الهواء، ورست أصولها فى الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، و أساخ قواعدها فى متون أقطارها و مواضع أنصابها، فأشهق قلالها، و أطال أنشازها، و جعلها للأرض عمادا، و أرّزها فيها أوتادا، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها. فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، و أجمدها بعد رطوبة أكنافها، فجعلها لخلقه مهادا، و بسطها لهم فراشا! فوق بحر لجّىّ راكد لا يجرى، و قائم لا يسرى، تكركره الرّياح
ص: 400
العواصف. و تمخضه الغمام الذّوارف «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ ».
اقول: اشار هاهنا الى انّ اصل الاجرام السماويّة و الأرضية: هو الماء. و وصف كيفية تكونّها عنه، و قد مرّ ذلك فى الخطبة الأولى. و تعاصفه ترادّ أمواجه. و اليبس الجامد الأرض و حدّه هو ما مضى به لها من النهاية. و الضمير فى يحملها لليبس.
و المثعنجر: السيّال كثير الماء. و القمقام: البحر. و جبل: خلق. و جلاميدها: صخورها.
و انهد: رفع. و اساخ: ادخل. و انصابها: جمع نصب و هو لما انتصب منها. و الانشاز: جمع نشز و هو العوالى منها. و ارزّها: غرزها. و روى مخففا اى: اثبتها. و اكنافها: اقطارها.
و تكركره: تردّده و تصرّفه. و الفصل واضح، و باللّه التوفيق.
اللّهمّ أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، و المصلحة فى الدّين و الدّنيا غير المفسدة فأبى بعد سمعه لها إلاّ النّكوص عن نصرتك، و الإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه بأكبر الشّاهدين شهادة، و نستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك و سمواتك، ثمّ أنت بعد المغنى عن نصره، و الآخذ له بذنبه.
اقول: الفصل استنفار لأصحابه الى الجهاد بدعاء اللّه، و استشهاده على المتقاعدين عن صوته تخويفا و جذبا بذلك الى نصرة الدين. و النكوص: الرجوع.
الحمد للّه العلىّ عن شبه المخلوقين، الغالب لمقال الواصفين، الظّاهر بعجائب تدبيره للنّاظرين، الباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين، العالم بلا اكتساب، و لا ازدياد، و لا علم مستفاد، المقدّر لجميع الأمور بلا رويّة و لا ضمير، الّذى لا تغشاه الظّلم،
ص: 401
و لا يستضيء بالأنوار، و لا يرهقه ليل، و لا يجرى عليه نهار، ليس إدراكه بالأبصار، و لا علمه بالأخبار.
اقول: غلبه لمقال الواصفين: امتناعه بكمال ذاته و صفاته عن احاطة وصفهم به. و بطونه: خفاؤه عن تعلّق الفكر به لجلالته و نزاهته عن مناسبة من شأنه كذلك، و المقدر:
الموجد، و الرّوية: الفكر. و الضمير: ما اضمر من عزم و ارادة و نحوهما. و يرهقه: يدركه.
و ظاهر تقدّس علم اللّه تعالى و تنزّه ذاته عن الأسباب و اللواحق المذكورة. و انّما لم يكن علمنا له بالاخبار لانّ الاخبار انّما يصدق اذا اسندت الى محسوس، تعالى اللّه عن ذلك.
و منها فى ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
أرسله بالضّياء، و قدّمه فى الاصطفاء، فرتق به المفاتق، و ساور به المغالب و ذلّل به الصّعوبة، و سهّل به الحزونة، حتّى سرّح الضّلال عن يمين و شمال.
اقول: اراد بالمفاتق: امور العالم المتفرقّة، و رتقها نظامها به. و المساورة: المغالبة.
و الصعوبة: صعوبة المشركين. و الحزونة حزونة طريق اللّه. و سرح الضلال عن يمين و شمال: طرح رذيلتى الافراط و التفريط عن قوى النفس العاقلة كالقاء جنبتى الحمل عن ظهر الدابة. و هو من لطيف الاستعارة.
و أشهد أنّه عدل عدل، و حكم فصل، و أشهد أنّ محمّدا عبده و سيّد عباده كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين، جعله فى خيرهما، لم يسهم فيه عاهر، و لا ضرب فيه فاجر. ألا و إنّ اللّه قد جعل للخير أهلا، و للحقّ دعائم، و للطّاعة عصما، و إنّ لكم عند كلّ طاعة عونا من اللّه: يقول على الألسنة، و يثبّت الأفئدة، فيه كفاء لمكتف، و شفاء لمشتف.
ص: 402
و اعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه، يصونون مصونه، و يفجّرون عيونه، يتواصلون بالولاية، و يتلاقون بالمحبّة، و يتساقون بكأس رويّة، و يصدرون بريّة، لا تشوبهم الرّيبة، و لا تسرع فيهم الغيبة، على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم، فعليه يتحابّون، و به يتواصلون، فكانوا كتفاضل البذر ينتقى، فيؤخذ منه و يلقى، قد ميّزه التّخليص، و هذّبه التّمحيص، فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، و ليحذر قارعة قبل حلولها، و لينظر امرو فى قصير أيّامه، و قليل مقامه، فى منزل حتّى يستبدل به منزلا، فليصنع لمتحوّله، و معارف منتقله، فطوبى لذى قلب سليم أطاع من يهديه، و تجنّب من يرديه و أصاب سبيل السّلامة ببصر من بصّره، و طاعة هاد أمره، و بادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، و تقطع أسبابه، و أستفتح التّوبة، و أماط الحوبة. فقد أقيم على الطّريق، و هدى نهج السّبيل.
اقول: نسخ الخلق: نقلهم عن أصولهم بالتناسل، و اراد كلّما اوجد فرقتين من الخلق عن اصولهما جعله فى خيرهما كما قال صلى اللّه عليه و آله: (انا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب انّ اللّه خلق الخلق فجعلنى فى خيّرهم، ثم جعلهم فرقتين، فجعلنى فى خيّرهم، ثم جعلهم قبائل، فجعلنى فى خيّرهم، ثم جعلهم بيوتا، فجعلنى فى خيّرهم، فأنا خيركم بيتا و خيركم نفسا). و لم يسهم فيه عاهر: اى: لم يكن للزنا فيه شرك كما قال صلى اللّه عليه و آله: لم يزل ينقلني اللّه تعالى من اصلاب الطاهرين الى ارحام الطاهرات.
و قوله: عصما، اى: قوّما و ادلّة يعتصم بها و يلجأ اليها فى المعونة على الطاعة. و قوله: يقول الى قوله الافئدة: تفصيل لوجوه المعونة، و الضمير فى يقول: اللّه، او للعون مجازا. و قوله:
على الألسنة: كما فى القرآن الكريم. و تثبيته للأفئدة، اى: على محبته و طاعته، تذكيره تعالى. و لطائف موعظته و وعده و وعيده فى كتابه العزيز كما قال: «أَلاٰ بِذِكْرِ اَللّٰهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ »(1) و ما فيه الكفاية هو ذلك العون. و الولاية بالكسر: الاسم من الولىّ واصله القرب، و بالفتح: مصدر و اراد انّهم يتواصلون فى قربتهم من اللّه و تجمعهم محبته. و استعار لفظ الكأس الرّوية، و الرّية الفعلة من الرّى و اراد انّهم لا يعترفون الاّ عن فائدة. و قوله: على ذلك اى على ما عدّد من مكارم الاخلاق فى صفات عباد اللّه، و لا تشوبهم
ص: 403
الريبة، اى: لا يتداخلهم شكّ فى الدّين بنفاق او فى صحبتهم. و قوله: فكانوا كتفاضل البدر، اى: كانوا فى الناس كالبدر المتفاضل، و يفيد انّهم افضل من غيرهم مع تفاضلهم.
و نبّه على وجه الشبه بقوله: ينتقى، الى قوله: التمحيص و هو الاختيار. و الكرامة: نصيحته فى طاعة ربّه اى: الحسن التّام. و القارعة: الشديدة من شدائد الدهر. و معارف انتقاله:
المواضع التي يعلم انتقاله اليها. و سليم: لم يتدنّس بالعقائد الباطلة و من يهديه: أئمه الدّين، و من يرديه: أئمه الضلال فى مهاوى الهلاك. و الحوبة: الأثم. و باللّه التوفيق.
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» لم يصبح بى ميّتا و لا سقيما، و لا مضروبا على عروقى بسوء و لا مأخوذا بأسوإ عملى، و لا مقطوعا دابرى، و لا مرتدّا عن دينى، و لا منكرا لربّى، و لا مستوحشا من إيمانى، و لا ملتبسا عقلى، و لا معذّبا بعذاب الأمم من قبلى. أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسى، لك الحجّة علىّ و لا حجّة لى. لا أستطيع أن آخذ إلاّ ما أعطيتنى، و لا أتّقى إلاّ ما وقيتنى. اللّهمّ إنّى أعوذ بك أن أفتقر فى غناك، أو أضلّ فى هداك، أو أضام فى سلطانك، أو اضطهد و الأمر لك. اللّهمّ اجعل نفسى أوّل كريمة تنتزعها من كرائمى، و أوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندى. اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو نفتتن عن دينك، أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الّذى جاء من عندك.
اقول: الدّابر: الظهر. و الدابر: بقية الرجل من ولده و نسله. و الالتباس: الإختلاط. و كرائمه: قواه و اعضاؤه التي تكرّم عليه، و اراد متعنّي بجميع قواى و جوارحى سليمة الى آخر عمرى، لانّ انتزاع النفس قبل جميع الكرائم يستلزم بقاؤها سليمة من الآفات الى حين الممات، و نحوه قول الرسول صلى اللّه عليه و آله (اللّهم متّعني بسمعى و بصرى و
ص: 404
اجعلهما الوارث منّى. و الفصل واضح.
أمّا بعد، فقد جعل اللّه لى عليكم حقّا بولاية أمركم، و لكم علىّ من الحقّ مثل الّذى لى عليكم، فالحقّ أوسع الأشياء فى التّواصف، و أضيقها فى التّناصف، لا يجرى لأحد إلاّ جرى عليه، و لا يجرى عليه إلاّ جرى له. و لو كان لأحد أن يجرى له و لا يجرى عليه لكان ذلك خالصا للّه سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، و لعدله فى كلّ ما جرت عليه صروف قضائه، و لكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه و توسّعا بما هو من المزيد أهله. ثمّ جعل - سبحانه - من حقوقه حقوقا افترضها لبعض النّاس على بعض، فجعلها تتكافأ فى وجوهها، و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض. و أعظم ما افترض - سبحانه - من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرّعيّة، و حقّ الرّعيّة على الوالى، فريضة فرضها اللّه - سبحانه - لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم، و عزّا لدينهم فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة، و لا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرّعيّة، فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالى حقّه، و أدّى الوالى إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، و قامت مناهج الدّين، و اعتدلت معالم العدل، و جرت على أذلالها السّنن، فصلح بذلك الزّمان، و طمع فى بقاء الدّولة، و يئست مطامع الأعداء. و إذا غلبت الرّعيّة و اليها، أو أجحف الوالى برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، و ظهرت معالم الجور، و كثر الادغال فى الدّين، و تركت محاجّ السّنن، فعمل بالهوى، و عطّلت الأحكام و كثرت علل النّفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، و لا لعظيم باطل فعل!! فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار، و تعظم تبعات اللّه عند العباد، فعليكم بالتّناصح فى ذلك و حسن التّعاون عليه، فليس أحد - و إن اشتدّ على رضا اللّه حرصه، و طال فى العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما اللّه أهله من الطّاعة [له] و لكن من واجب حقوق اللّه على العباد النّصيحة بمبلغ جهدهم، و التّعاون على إقامة الحقّ بينهم،
ص: 405
و ليس امرؤ - و إن عظمت فى الحقّ منزلته، و تقدّمت فى الدّين فضيلته - بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه، و لا امرؤ - و إن صغّرته النّفوس، و اقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك، أو يعان عليه. فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه و يذكر سمعه و طاعته له، فقال عليه السلام:
إنّ من حقّ من عظم جلال اللّه فى نفسه، و جلّ موضعه من قلبه، أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كلّ ما سواه، و إنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة اللّه عليه، و لطف إحسانه إليه، فإنّه لم تعظم نعمة اللّه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللّه عليه عظما، و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح النّاس أن يظنّ بهم حبّ الفخر، و يوضع أمرهم على الكبر، و قد كرهت أن يكون جال فى ظنّكم أنّى أحبّ الإطراء، و استماع الثّناء، و لست - بحمد اللّه - كذلك، و لو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّه سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و ربّما استحلى النّاس الثّناء بعد البلاء، فلا تثنوا علىّ بجميل ثناء لإخراجي نفسى إلى اللّه و إليكم من التّقيّة فى حقوق لم أفرغ من أدائها، و فرائض لا بدّ من إمضائها، فلا تكلّمونى بما تكلّم به الجبابرة، و لا تتحفّظوا منّى بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، و لا تخالطونى بالمصانعة، و لا تظنّوا بى استثقالا فى حقّ قيل لى، و لا التماس إعظام لنفسى، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل، فإنّى لست فى نفسى بفوق أن أخطىء، و لا آمن ذلك من فعلى إلاّ أن يكفى اللّه من نفسى ما هو أملك به منّى، فإنّما أنا و أنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره: يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، و أخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى، و أعطانا البصيرة بعد العمى.
اقول: انّما كان الحّق فى التواصف أوسع منه فى التناصف، لانّ القول أسهل و أيسر كلفة من العمل. و معالم العدل: مظانّه. و اذلالها: وجوهها و طرقها. و اجحف به: ذهب بأصله. و الادغال: الإفساد. و المحاجّ الطرق الواضحة. و علل النفوس: شبهاتها فى
ص: 406
مخالفة الحق. و قوله: فعليكم بالتناصح فى ذلك اى: فى حفظ حقّ الوالى على رعيّته و حقّهم عليه. و قوله: و ليس امرؤ الى قوله من حقّه، اى: انّه و ان بلغ المرء اعظم درجات طاعة اللّه، فهو محتاج ان يعان عليها و ليست درجته تلك بأرفع من ان يعان على ما حمله اللّه تعالى منها، و ذلك انّ تكليف اللّه تعالى بطاعته بحسب وسع المكلّف و الوسع فى الطاعة: قد يكون مشروطا بمعونة الغير فيها فلا يستغنى احد عنه. و قوله: و لا امرؤ الى قوله: او يعان عليه، اى: انّه لا ينبغي ان يحتقر احد عن الاستعانة به فى طاعة اللّه و ان اقتحمته النفوس اى: استصغرته، فانّه ليس بدون ان يعين على طاعة اللّه و لو بقبول الصدقة مثلا و غرضه من ذلك اتّفاق الكلمة و الاتّحاد فى الدين، و اسخف: اضعف. و صالح الناس: اكثرهم. و قوله: و ربّما، الى قوله البلاء: اى: ربّما استحلى من ابلى بلاء حسنا ان يمدح و احبّ أن يثنى عليه بعد بلائه. و اللام فى قوله: لإخراجي متعلق بقوله: كرهت و اراد انّ غرضى من طاعتى اخراجى نفسى من بقية حقوق اللّه الواجبة علّي له و لكم بأمره، فكأنه قال: و اذا كانت طاعتى اداء ما وجب علىّ فكيف استحق به ثناء.
و البادرة: سرعة الغضب و ما يتحفظ به عند اهل البادرة كترك المسارة مثلا فى مجالس الملوك، اجلالا لهم و خوفا منهم. و ما كنا فيه هو: ضلال الجاهلية. و ما صلحنا عليه اى: الاسلام و الهدى.
اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش، فإنّهم قد قطعوا رحمى و أكفئوا إنائى، و أجمعوا على منازعتى حقّا كنت أولى به من غيرى، و قالوا ألا إنّ فى الحقّ أن تأخذه و فى الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموما، أومت متأسّفا، فنظرت فإذا ليس لى رافد، و لا ذابّ ، و لا مساعد، إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى، و جرعت ريقى على الشّجى، و صبرت من كظم الغيظ علىّ أمرّ من العلقم، و الم للقلب من حزّ الشّفار.
قال الرضى: و قد مضى هذا الكلام فى أثناء خطبة متقدمة إلا أنى كررته ههنا لاختلاف الروايتين.
ص: 407
اقول: استعديك: اطلب عدواك أى: معونتك. و كفأت الاناء: كببته لوجهه، و هو كناية عن قلبهم لأمره و تغييرهم للخلافة عنه و هو الحق الّذى كان اولى به. و الرافد:
المعيّن. و ضننت: بخلت. و الشجى: ما يعرض فى الحلق من عظم و غيره، و هو كناية عن الغمّ و التألّم الحاصل له. و العلقم: شجر مرّ. و قد مرّ تفسير مثله.
منها فى ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام:
فقدموا على عمّالى و خزّان بيت مال المسلمين الّذى فى يدي و على أهل مصر كلّهم فى طاعتى و على بيعتى، فشتّتوا كلمتهم، و أفسدوا علىّ جماعتهم، و وثبوا على شيعتى، فقتلوا طائفة منهم غدرا، و طائفة منهم عضّوا على أسيافهم، فضاربوا بها حتّى لقوا اللّه صادقين.
أقول: عضوّا على اسيافهم اى لزموها، و قد اشرنا الى طرف من حال السائرين الى البصرة لحربه فى الاصل(1) و سبق بيان هذا الفصل مشروحا.
لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريبا! أما و اللّه لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب، أدركت و ترى من بنى عبد مناف و أفلتتنى أعيان بنى جمح، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله، فوقصوا دونه.
اقول: كان طلحة و الزبير من بنى عبد مناف من قبل الامّ . و جمح قبيلة و كان فى زمنه عليه السلام منهم: عبد اللّه بن صفوان بن اميّة بن خلف، و عبد الرحمن بن صفوان. و قيل: كان مروان بن الحكم، منهم اخذ اسيرا يوم الجمل، و استشفع بالحسن الى أبيه
ص: 408
عليهما السلام. و روى اغيار بالغين المعجمة اى: جهلائهم، و بالمهملة: جمع عير، و عير القوم سيّدهم. و اتلعوا اعناقهم: رفعوها و مدّوها كالمتطلّعين، و هو كناية عن تطاولهم الى امر الخلافة. و وقصوا: كسرت اعناقهم. و باللّه التوفيق.
قد أحيا عقله، و أمات نفسه، حتّى دقّ جليله، و لطف غليظه، و برق له لا مع كثير البرق، فأبان له الطّريق، و سلك به السّبيل، و تدافعته الأبواب إلى باب السّلامة، و دار الإقامة، و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه فى قرار الأمن و الرّاحة، بما استعمل قلبه، و أرضى ربّه.
اقول: يشير الى وصف العارف فأحيى عقله بالرياضة التّامة، و تحصيل الكمالات العلميّة و العمليّة و تكميل قوّته بهما. و اماتته نفسه اى: الامارّة بالسوء بتطويعها لعقله و كسرها بالعبادة و الزهد الحقيقى. و استعار وصف الاماتة لقطعها عما يخصها من المشتهيات التي هى مادّة حياتها من حيث هى نفس امّارة. و كنى بجليله عن بدنه و دقّته لانقطاع مادة توسّعه فى المشتهيات. و غليظه: امّا بدنه او طباعه و قواه فانّها يلطف بالرياضة بعد غلظها و قساوتها. و اشار باللاّم الى ما يعرض للسالك عند بلوغ الارادة و الرياضة حدّا ما من الخلسات الى الجانب الأعلى، من ظهور أنوار الهية لذيذة شبيهة بالبرق فى سرعة لمعانه و اختفائه، و تلك اللوامع مسماة فى عرف المجرّدين بالأوقات. و هذه اللوامع فى مبدأ الامر تعرض قليلا فاذا امعن فى الارتياض كثرت، فاشار باللامع الى نفس ذلك النور، و بكثرة بروقه الى كثرة عروضه له بعد الامعان فى الرياضة. و قوله: فأبان له الطريق اى: اظهر له ذلك اللمعان طريق الحق الى اللّه تعالى، و كان سببا لسلوكه فى سبيله اليه، و تدافعته الابواب اى: ابواب الرياضة من الزهد و العبادة و غيرهما. و وجه التدافع هاهنا انتقاله من باب الى باب منها، و من عبادة الى اخرى. فكأنها تدافعه. و باب السلامة هو الباب الّذى يلقى فيه السلامة من الانحراف عن الصراط المستقيم، بمعرفة انّ تلك هى الطريق و يشبه ان يكون هو الوقت. و قوله: و ثبتت رجلاه، الى قوله: و الراحة فى قرار
ص: 409
الامن: اشارة الى درجة اعلى، و يسمّى طمأنينة، و ذلك انّ السالك ما دام فى مرتبة الوقت فانّه يعرض له عند لمعان تلك البروق فى سرّه اضطراب و انزعاج يحسّ به جليسه لانّ النفس اذا فاجأها امر عظيم انزعجت له، فاذا كثرت تلك الغواشى الفتها فصارت بحيث لا تنزعج عنها بل تسكن اليها و تطمئن عندها، لثبوت قدم عقلها فى درجة اعلى من درجات الجنة التي هى قرار الأمن و الراحة من عذاب اللّه. و قوله: بما استعمل: متعلق بثبتت اى: بسبب هذا. و باللّه التوفيق.
210 - و من كلام له عليه السّلام قاله بعد تلاوته: («أَلْهٰاكُمُ اَلتَّكٰاثُرُ حَتّٰى زُرْتُمُ اَلْمَقٰابِرَ»)(1)
يا له مراما ما أبعده، و زورا ما أغفله، و خطرا ما أفظعه، لقد استخلوا منهم أىّ مدّكر، و تناوشوهم من مكان بعيد!! أ فبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون ؟! يرتجعون منهم أجسادا خوت، و حركات سكنت، و لأن يكونوا عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا، و لأن يهبطوا بهم جناب ذلّة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزّة!! لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة، و ضربوا منهم فى غمرة جهالة، و لو استنطقوا عنهم عرصات تلك الدّيار الخاوية، و الرّبوع الخالية، لقالت ذهبوا فى الأرض ضلاّلا، و ذهبتم فى أعقابهم جهّالا، تطئون فى هامهم، و تستثبتون فى أجسادهم و ترتعون فيما لفظوا، و تسكنون فيما خرّبوا، و إنّما الأيّام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم. أولئكم سلف غايتكم، و فرّاط مناهلكم، الّذين كانت لهم مقاوم العزّ، و حلبات الفخر، ملوكا و سوقا، سلكوا فى بطون البرزخ سبيلا، سلّطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم، و شربت من دمائهم، فأصبحوا فى فجوات قبورهم جمادا لا ينمون، و ضمارا لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الأهوال، و لا يحزنهم تنكّر الأحوال، و لا يحفلون بالرّواجف، و لا يأذنون للقواصف، غيّبا لا ينتظرون، و شهودا لا يحضرون، و إنّما كانوا جميعا فتشتّتوا، و اُلاّفا فافترقوا، و ما عن طول عهدهم و لا بعد محلّهم عميت أخبارهم، و صمّت ديارهم،
ص: 410
و لكنّهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنّطق خرسا و بالسّمع صمما، و بالحركات سكونا فكأنّهم فى ارتجال الصّفة صرعى سبات، جيران لا يتأنسون، و أحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التّعارف، و انقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر و هم أخلاّء، لا يتعارفون لليل صباحا، و لا لنهار مساء، أىّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا، شاهدوا من أخطار دارهم أفظع ممّا خافوا، و رأوا من آياتها أعظم ممّا قدّروا، فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة، فأتت مبالغ الخوف و الرّجاء، فلو كانوا ينطقون بها لعيّوا بصفة ما شاهدوا و ما عاينوا، و لئن عميت آثارهم، و انقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، و سمعت عنهم آذان العقول، و تكلّموا من غير جهات النّطق، فقالوا: كلحت الوجوه النّواضر، و خوت الأجسام النّواعم، و لبسنا أهدام البلى، و تكاءدنا ضيق المضجع، و توارثنا الوحشة، و تهكّمت علينا الرّبوع الصّموت، فانمحت محاسن أجسادنا، و تنكّرت معارف صورنا، و طالت فى مساكن الوحشة إقامتنا، و لم نجد من كرب فرجا، و لا من ضيق متّسعا! فلو مثّلتهم بعقلك، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، و قد ارتسخت أسماعهم بالهوامّ فاستكّت، و اكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت، و تقطّعت الألسنة فى أفواههم بعد ذلاقتها، و همدت القلوب فى صدورهم بعد يقظتها، و عاث فى كلّ جارحة منهم جديد بلى سمّجها، و سهّل طرق الآفة إليها، مستسلمات فلا أيد تدفع، و لا قلوب تجزع، لرأيت أشجان قلوب، و أقذاء عيون، لهم من كلّ فظاعة صفة حال لا تنتقل، و غمرة لا تنجلى، و كم أكلت الأرض من عزيز جسد، و أنيق لون، كان فى الدّنيا غذىّ ترف، و ربيب شرف، يتعلّل بالسّرور فى ساعة حزنه، و يفزع إلى السّلوة إن مصيبة نزلت به، ضنّا بغضارة عيشه، و شحاحة بلهوه و لعبه ؟! فبينا هو يضحك إلى الدّنيا و تضحك الدّنيا إليه فى ظلّ عيش غفول، إذ وطىء الدّهر به حسكه و نقضت الأيّام قواه و نظرت إليه الحتوف من كثب فخالطه بث لا يعرفه، و نجىّ همّ ما كان يجده، و تولّدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحّته، ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء من تسكين الحارّ بالقارّ، و تحريك البارد بالحارّ، فلم يطفىء ببارد إلاّ ثوّر حرارة، و لا حرّك بحارّ إلاّ هيّج برودة، و لا اعتدل بممازج لتلك الطّبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء، حتّى فتر معلّله، و ذهل ممرّضه، و تعايا أهله بصفة دائه، و خرسوا عن جواب السّائلين عنه، و تنازعوا دونه شجىّ خبر يكتمونه: فقائل هو
ص: 411
لما به، و ممنّ لهم إياب عافيته، و مصبّر لهم على فقده، يذكّرهم أسى الماضين من قبله. فبينما هو كذلك على جناح من فراق الدّنيا، و ترك الأحبّة، إذ عرض له عارض من غصصه فتحيّرت نوافذ فطنته، و يبست رطوبة لسانه فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعىّ عن ردّه، و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصامّ عنه: من كبير كان يعظّمه، أو صغير كان يرحمه، و إنّ للموت لغمرات هى أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على قلوب أهل الدّنيا.
أقول: اللام فى قوله يا له: لام الجرّ فى المستغاث له، و المنادى محذوف. و المرام:
المتعجّب من بعده هو التكاثر اذ لا يتناهى و الزور: المتعجّب من غفلته هم زائروا المقابر، و الخطر: المتعجّب من فظاعته اى: شدّته، هو خطر تلك الغفلة فى الآخرة. و المذكّر محل التذكير من الأموات و الاعتبار بهم من آثارهم او حالهم الحاضرة. و استحلوا منهم اى:
اتّخذوا الاحياء من الاموات تخلية ذكر احوالهم دأبهم. و اىّ مذكر: استفهام على سبيل التعجّب من ذلك المذكّر فى قوّة افادته للعبرة. و تناوشوهم اى: تناولوهم من جهة بعيدة، و هى افتخار كلّ بأبيه، و قبيلته، و مكاثرته بالماضين من قومه الّذين هم بعد الموت أبعد الناس عنه فى انفسهم و كمالاتهم. و احجى: اولى بالحجى و هو العقل. و مقام الذّلة مقام الاعتبار بهم، و مقام العزة مقام الافتخار بهم. و ابصار العشوة الابصار العاشية، و العشوة ركوب الامر على جهل، و اضافة الابصار اليها اضافة الموصوف الى الصفة. و يرتعون فيما لفظوا، اى يتمتّعون فيما تركوه وراء ظهورهم من متاع الدنيا. و الايام البواكى عليهم ايام الحياة. و سلف غايتكم و فرّاط مناهلكم اى: الذين سبقوكم اليها. و المناهل: الموارد. و مقاوم: جمع مقام لانّ ألفه منقلبة عن واو. و حلبات الفخر: جماعاته. و ملوكا: حال.
و البرزخ: الحائل بين الشيئين و هو هنا ما بين الدنيا و الآخرة. و الفجوة: المتّسع من الارض. و الضمار: الغائب الّذى لا يرجى ايابه. و يأذنون: يسمعون. و الاّفا: جمع اليف. و عميت اخبارهم: انقطع اثرها. و صمّت ديارهم: لم يسمع بها صوت، و هما مجازان فى الاسناد. و السبات: النوم. و قوله: فكلتا الغايتين اى: غاية المؤمنين و الكافرين و هما السعادة و الشقاوة. مدّت اى: ضرب لها اجل ينتهون فيه الى مباءة: و هى المرجع، امّا الجنة و امّا النار فات ذلك المرجع مبالغ الخوف و الرجاء عظمة. و الكلوح: تكشر فى
ص: 412
عبوس. و الاهدام: جمع هدم و هو الثوب البالى. و تكأدنا: شق علينا. و تهكمت: تهدّمت.
و الاشجان الاحزان. و غضارة العيش: طيبه. و وطىء الدهر به حسكه كالمثل يضرب لمن يقع فى الشدائد. و البث: الهم، و آنس: حال و ما: بمعنى المدّة. و بصحته: متعلق بآنس اى: انس اوقاته بصحّته. و القار: البارد. و الأسى: جمع اسوة و هى الاقتداء. و تعتدل على عقول اهل الدنيا اى: يستقيم تصوّرها لهم. و باقى الفصل واضح، و باللّه التوفيق.
211 - و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته: («رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ »)(1)
إنّ اللّه سبحانه جعل الذّكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، و تبصر به بعد العشوة، و تنقاد به بعد المعاندة، و ما برح للّه - عزّت آلاؤه - فى البرهة بعد البرهة و فى أزمان الفترات عباد ناجاهم فى فكرهم، و كلّمهم فى ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة فى الأسماع و الأبصار و الأفئدة يذكّرون بأيّام اللّه، و يخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة فى الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، و بشّروه بالنّجاة، و من أخذ يمينا و شمالا ذمّوا إليه الطّريق و حذّروه من الهلكة، و كانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات، و أدلّة تلك الشّبهات، و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه: يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون بالزّواجر عن محارم اللّه فى أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به، و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه، فكأنّما قطعوا الدّنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ فى طول الإقامة فيه، و حقّقت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا حتّى كأنّهم يرون مالا يرى النّاس، و يسمعون مالا يسمعون. فلو مثّلتهم لعقلك فى مقاومهم المحمودة، و مجالسهم المشهودة، و قد نشروا دواوين أعمالهم، و فرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة و كبيرة أمروا بها فقصّروا عنها، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها، و حمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الاستقلال بها،
ص: 413
فنشجوا نشيجا، و تجاوبوا نحيبا، يعجّون إلى ربّهم من مقاوم ندم و اعتراف، لرأيت أعلام هدى، و مصابيح دجى قد حفّت بهم الملائكة، و تنزّلت عليهم السّكينة، و فتحت لهم أبواب السّماء، و أعدّت لهم مقاعد الكرامات، فى مقام اطّلع اللّه عليهم فيه فرضى سعيهم، و حمد مقامهم، يتنسّمون بدعائه روح التّجاوز، رهائن فاقة إلى فضله، و أسارى ذلّة لعظمته، جرح طول الأسى قلوبهم، و طول البكاء عيونهم، لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة، يسألون من لا تضيق لديه المنادح، و لا يخيب عليه الرّاغبون، فحاسب نفسك لنفسك، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك.
اقول: الذكر: هو القرآن الكريم، و قيل: هو ذكر اللّه مطلقا. و المنتفع به ما كان قلبيا مع دوامه فانّه بذلك يستلزم محبّة المذكور، و الاعراض عما سواه. و استعار لفظ الجلاء: لازالة كل ما سوى المذكور عن لوح القلب بالذكر و تسمع به و تبصر اى: ما تدرك، مما ينبغي ان يسمع من المواعظ و يبصر من العبر بعد وقره بالجهل و عشوته.
و الوقره: الصمم. و العشوة: ظلمة العين. و البرهة: المدّة الطويلة. و ذلّت عقولهم انفسهم الناطقة و تكليمهم: بالافاضة و الالهام و نور اليقظة فى الاسماع اضاءة عقولهم: بالفوائد المسموعة و فى الأبصار اضاءتها من قبل العبر المبصرة. و فى الافئدة: ادراكها للمعقولات و تكلّمها بها و القصد لزوم الفضيلة فى القوى العقليّة و النفسانية. و اليمين و الشمال:
الانحراف عنها الى جانبى الافراط و التفريط منها. و قوله: و حققت القيامة عليهم عداتها اى: بطول ذكرهم للآخرة ينزل الموعود عندهم من امور القيامة منزلة الواقع المحقق. و مقاوم: جمع مقام و هو مقامهم بين يدي ربّهم فى خلواتهم به. و النشيج: الغصص بالبكاء دون النّحيب. و العج: رفع الصوت. و السكينة: مرتبة للسالكين سبق ذكرها. و التنسّم انتظار النسيم. و الفاقة: الفقر و كنى بالايدى القارعة عن الدعوات فى طلب ما يرغب الى اللّه فيه من افاضته العالية. و المنادح: جمع مندح و هو المتسع. و الفصل من افصح العبارات. و اغررها مقاصدها.
ص: 414
212 - و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته: («يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ »)(1)
أدحض مسئول حجّة، و أقطع مغترّ معذرة، لقد أبرح جهالة بنفسه. «يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ »، ما جرّأك على ذنبك، و «مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ »، و ما آنسك بهلكة نفسك ؟ أما من دائك بلول، أم ليس من نومتك يقظة ؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك ؟ فربّما ترى الضّاحى من لحرّ الشّمس فتظله، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده، فتبكى رحمة له، فما صبّرك على دائك، و جلّدك على مصابك، و عزّاك عن البكاء على نفسك و هى أعزّ الأنفس عليك ؟ و كيف لا يوقظك خوف بيات نقمة، و قد تورّطت بمعاصيه مدارج سطواته، فتداو من داء الفترة فى قلبك بعزيمة، و من كرى الغفلة فى ناظرك بيقظة، و كن للّه مطيعا، و بذكره آنسا، و تمثّل فى حال تولّيك عنه إقباله عليك: يدعوك إلى عفوه، و يتغمّدك بفضله، و أنت متولّ عنه إلى غيره، فتعالى من قوىّ ما أكرمه، و تواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته، و أنت فى كنف ستره مقيم، و فى سعة فضله متقلّب، فلم يمنعك فضله، و لم يهتك عنك ستره، بل لم تخل من لطفه مطرف عين فى نعمة يحدثها لك، أو سيّئة يسترها عليك، أو بليّة يصرفها عنك!! فما ظنّك به لو أطعته، و ايم اللّه لو أنّ هذه الصّفة كانت فى متّفقين فى القوّة، متوازنين فى القدرة، لكنت أوّل حاكم على نفسك بذميم الأخلاق، و مساوئ الأعمال. و حقّا أقول ما الدّنيا غرّتك، و لكن بها اغتررت، و لقد كاشفتك العظات، و آذنتك على سواء، و لهى بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، و النّقص فى قوّتك، أصدق و أوفى من أن تكذبك، أو تغرّك، و لربّ ناصح لها عندك متّهم، و صادق من خبرها مكذّب، و لئن تعرّفتها فى الدّيار الخاوية، و الرّبوع الخالية، لتجدنّها من حسن تذكيرك، و بلاغ موعظتك، بمحلّة الشّفيق عليك، و الشّحيح بك، و لنعم دار من لم يرض بها دارا، و محلّ من لم يوطّنها محلاّ! و إنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم. إذا رجفت الرّاجفة، و حقّت بجلائلها القيامة، و لحق بكلّ منسك أهله و بكلّ معبود
ص: 415
عبدته، و بكلّ مطاع أهل طاعته، فلم يجز فى عدله و قسطه يومئذ خرق بصر فى الهواء، و لا همس قدم فى الأرض إلاّ بحقّه. فكم حجّة يوم ذاك داحضة، و علائق عذر منقطعة، فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك، و تثبت به حجّتك، و خذ ما يبقى لك ممّا لا تبقى له، و تيسّر لسفرك، و شم برق النّجاة، و ارحل مطايا التّشمير.
اقول: دحض الحجة: بطلانها. و أبرح جهالة بنفسه: بالغ فى تحصيل جهالتها و اعجبه ذلك. و لما كانت الهلكة فى الآخرة بمحبّة الدنيا و باطلها، و كان الانسان شديد الانس بها صدق تعجّبه من أنسه بهلكة نفسه. و البلول: الصحة. و الضاحى: البارز. و قوله: فربّما. الى قوله: رحمة له فى قوّة ضمير احتج به على وجوب رحمته لنفسه، و تقدير كبراه و كل من يرحم غيره فاولى ان يرحم نفسه من بلاء يقع فيه. و الجلد: القوّة.
و المدارج: الطرق. و التمثّل: التصوّر. و تعمدّه قصده. و قوله: و ايم اللّه الى قوله الاعمال:
اى لو كان هذا الوصف المذكور من اقبال اللّه عليك، و ادبارك عنه، وصف مثلين من الناس فى القوّة و القدرة و المنزلة و انت المسىء منهما لكان فيما ينبغي لك من الحياء و الانفة ان تكون اوّل حاكم على نفسك بتقصيرها و قبح اعمالها، و انّما تغرّه الدنيا اذا لم يخلق فى العناية الالهية كذلك و غروره بها ظنّه انّ المقصود منها هى لذاتّها الحاضرة، و مكاشفاتها بالعظات ظهور ما ينبغي الاتّعاظ به من الغير و التصاريف اللازمة لها، و آذنتك على سواء اى: اعلمتك على عدل منها تصاريفها اذ كان ذلك مقتضى خلقها بعدل من اللّه و حكمة، و تعرّفها اعتبار تصاريفها. و محلة الشفيق: منزلته و قد اضاف اسم نعم. و يئس هنا الى ما آيس فيه الالف و اللام كقوله فنعم: صاحب قوم لا سلاح لهم. و جمع بين اسم الجنس و النكرة التي تبدّل منه و قد جاء مثله: فنعم الزّاد زاد ابيك زادا.
و الراجفة قيل: هى النفخة الاولى فى الصور. و جلائلها: اهوالها العظيمة جمع جليلة.
و المنسك: محل العبادة، و هو اشارة الى لحوق كل نفس يوم القيامة بمعبودها و مقصدها فى الدنيا و ما احبّته فيها، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: (لو احبّ احدكم حجرا لحشر معه). و خرق البصر فى الهواء: لمحه. و تيسّر لسفره: استعداده بالرياضة للسفر الى الآخرة، و ان يشم برق النجاة اى: يوجّه بصر عقله الى استلامة انوار الهداية المنجية.
ص: 416
و اللّه لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّدا، و أجرّ فى الأغلال مصفّدا أحبّ إلىّ من أن ألقى اللّه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، و غاصبا لشيء من الحطام، و كيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، و يطول فى الثّرى حلولها؟! و اللّه لقد رأيت عقيلا، و قد أملق حتّى استما حنى من برّكم صاعا، و رأيت صبيانه شعث الشّعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم، و عاودنى مؤكّدا، و كرّر علىّ القول مردّدا، فأصغيت إليه سمعى فظنّ أنّى أبيعه دينى، و أتّبع قياده، مفارقا طريقتى، فأحميت له حديدة، ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيح ذى دنف من ألمها، و كاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له: ثكلتك الثّواكل يا عقيل، أ تئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، و تجرّنى إلى نار سجرها جبّارها لغضبه ؟ أ تئنّ من الأذى و لا أئنّ من لظى ؟!! و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة فى وعائها، و معجونة شنئتها، كأنّما عجنت بريق حيّة أوقيئها، فقلت: أ صلة، أم زكاة، أم صدقة ؟؟؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا و لا ذاك، و لكنّها هديّة، فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين اللّه أتيتنى لتخد عنى ؟ أ مختبط، أم ذوجنّة، أم تهجر؟ و اللّه لو اعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللّه فى نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، و إنّ دنياكم عندى لأهون من ورقة فى فم جرادة تقضمها، ما لعلىّ و لنعيم يفنى، و لذّة لا تبقى نعوذ باللّه من سبات العقل، و قبح الزّلل، و به نستعين.
اقول: السعدان: نبت. و المصفّد: الموثوق غلاّ. و القفول: الرجوع من السفر.
و الاستماحة: طلب المنح و هو العطاء. و العظلم: شجر يصبغ به، قيل هو النيل. و ميسمها:
اثرها، و انسانها اى الّذى احماها و الاضافة تكفى فيها بأدنى سبب. و اعجب من ذلك اى: من عقيل. و الطارق: الآتى ليلا. و الملفوفة: هديّة اتى بها قيل: كانت شيئا من حلوا العسل. و شنئتها: ابغضتها، و شبّهها فى بغضه لها بما عجن بالسّم، و ذلك لما تصوّره من ارادة مهديها بها من الميل معه فى امر دنيوىّ يستلزم الظلم. و هبلته الهبول: ثكلته
ص: 417
الثواكل. و الخبّاط: داء كالجنون و ليس به. و المختبط: الّذى يطلب معروفك من غير سابق معرفة له معك. و الجنّة: الجنون. و الهجر: الهذيان. و جلب الشعيرة: قشرها. و غرض الفصل التبرّى من الظلم، و ذلك يشبه ان يكون لما فهم من صاحب الهدية ان يلتمس منه امرا يستلزم ظلم احد فأيئسه بهذا القول من ذلك، و اللّه اعلم.
اللّهمّ صن وجهى باليسار، و لا تبذل جاهى بالإقتار، فأسترزق طالبى رزقك، و أستعطف شرار خلقك، و ابتلى بحمد من أعطانى، و أفتتن بذمّ من منعنى، و أنت من وراء ذلك كلّه ولىّ الاعطاء و المنع «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».
اقول: الغنى المطلوب لمثله عليه السلام هو: ما دفع الحاجة حسب الاقتصاد، و القناعة، و الجاه المطلوب هو ما اعان على طاعة اللّه و رفع عن رذيلة المهانة لا ما اريد به الفخر من المباهاة الدنيويّة. و الفصل ظاهر.
دار بالبلاء محفوفة، و بالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، و لا تسلم نزّالها، أحوال مختلفة، و تارات متصرّفة، العيش فيها مذموم، و الأمان فيها معدوم، و إنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، و تفنيهم بحمامها. و اعلموا، عباد اللّه، أنّكم و ما أنتم فيه من هذه الدّنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول، منكم أعمارا و أعمر ديارا، و أبعد آثارا، أصبحت أصواتهم هامدة، و رياحهم راكدة، و أجسادهم بالية، و ديارهم خالية، و آثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، و النّمارق الممهّدة، الصّخور و الأحجار المسندة، و القبور اللاّطئة الملحدة، الّتى قد بنى بالخراب فناؤها، و شيد بالتّراب بناؤها، فمحلّها مقترب، و ساكنها مغترب، بين
ص: 418
أهل محلّة موحشين، و أهل فراغ متشاغلين، لا يستأنسون بالأوطان، و لا يتواصلون تواصل الجيران، على ما بينهم من قرب الجوار، و دنوّ الدّار، و كيف يكون بينهم تزاور و قد طحنهم بكلكله البلى، و أكلتهم الجنادل و الثّرى ؟ و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه، و ارتهنكم ذلك المضجع، و ضمّكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور، و بعثرت القبور؟ «هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ »(1).
اقول: حاصل الفصل النفير عن الدنيا بذكر معايبها. و الجذب بذلك الى استعمالها على الوجه المطلوب للّه من وجودها. و لفظ الغدر: مستعار لزينتها الظاهرة المستعقبة للهلاك فى الآخرة. و التارّة: المرة. و المستهدفة اى: جعلت هدفا و هو الغرض. و ابعد آثارا، اى: أبعد ان ينال او يقدر على مثلها لعظمتها. و ركود رياحهم: كناية عن سكون احوالهم و خمول ذكرهم. و النمارق: جمع نمرق، و نمرقة، و هى وسادة صغيرة. و الواو:
فى و ساكنها يشبه ان يكون للحال. و الكلكل: الصدر و هو مستعار. و البعثرة: النبش و التفريق. و تبلو: تختبر.
اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك، و أحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك، تشاهدهم فى سرائرهم، و تطّلع عليهم فى ضمائرهم، و تعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، و قلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، و إن صبّت عليهم المصائب لجئوا إلى الاستجارة بك علما بأنّ أزمّة الأمور بيدك، و مصادرها عن قضائك. اللّهمّ إن فههت عن مسألتى، أو عميت عن طلبتى، فدلّنى على مصالحى، و خذ بقلبى إلى مراشدى، فليس ذلك بنكر من هداياتك، و لا ببدع من كفاياتك. اللّهمّ احملنى على عفوك، و لا تحملنى على عدلك.
ص: 419
اقول: انّما كان تعالى آنس الآنسين لأوليائه لانقطاعهم اليه عمّن سواه. و لهف القلوب(1) تحسّرها على الوصول اليه. و الغربة الموحشة لهم: غربتهم فى الدنيا اذا كان مقصدهم الأصلى هو حضرة القدس. و الفهاهة العىّ . و العمة: التحير.
للّه بلاء فلان، فقد قوّم الأود، و داوى العمد، أقام السّنّة، و خلّف الفتنة، ذهب نقّى الثّوب، قليل العيب، أصاب خيرها، و سبق شرّها، أدّى إلى اللّه طاعته، و اتّقاه بحقّه، رحل و تركهم فى طرق متشعّبة: لا يهتدى فيها الضّالّ ، و لا يستيقن المهتدى.
أقول: يقال للّه بلاء فلان، كما يقال للّه درّه، و للّه أبوه، و هى كلمة مدح، قيل: اراد به عمر(2) و قيل: بعض الصحابة ممن جاهد فى دين اللّه. و الأود: الاعوجاج. و العمد: مرض يأخذ الابل فى اسنمتها، و هو مستعار لأمراض القلوب و مداواتها بالزواجر القوليّة و الفعليّة. و نقاء ثوبه: كناية عن طهارته من المطاعن، و الضمير فى خيرها و شرّها:
للخلافة و ان لم يجر ذكرها لكونها معهودة او لتقدّم ذكرها. و الطرق المتشعبة: طرق الفتنة.
و بسطتم يدي فكففتها، و مددتموها فقبضتها، ثمّ تداككتم علىّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتّى انقطعت النّعل، و سقط الرّداء، و وطىء الضّعيف، و بلغ
ص: 420
من سرور النّاس ببيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصّغير، و هدج إليها الكبير، و تحامل نحوها العليل، و حسرت إليها الكعاب(1).
اقول: التداكّ : الازدحام. و الهيم: العطاش. و الهدج: مشية الشيخ و هو مشى فى ارتعاش، و التحامل: تكلّف المشى مع مشقة، و حسرت: كشفت وجهها. و الكعاب:
بالفتح التي نهد ثديها. و الفصل احتجاج على من خالفه من البغاة و هو فى قوّة صغرى ضمير، تقدير كبراه و كلّ ما فعلتم به ذلك فليس لكم ان تختلفوا عليه من بعد و تنكثوا بيعته.
فإنّ تقوى اللّه مفتاح سداد، و ذخيرة معاد، و عتق من كلّ ملكة، و نجاة من كلّ هلكة، بها ينجح الطّالب، و ينجو الهارب، و تنال الرّغائب، فاعملوا و العمل يرفع، و التّوبة تنفع، و الدّعاء يسمع، و الحال هادئة، و الأقلام جارية، و بادروا بالأعمال عمرا ناكسا، أو مرضا حابسا، أو موتا خالسا، فإنّ الموت هادم لذّاتكم، و مكدّر شهواتكم، و مباعد طيّاتكم، زائر غير محبوب، و قرن غير مغلوب، و واتر غير مطلوب، قد أعلقتكم حبائله، و تكنّفتكم غوائله، و أقصدتكم معابله، و عظمت فيكم سطوته، و تتابعت عليكم عدوته، و قلّت عنكم نبوته، فيوشك أن تغشاكم دواجى ظلله، و احتدام علله، و حنادس غمراته، و غواشى سكراته، و أليم إزهاقه، و دجوّ إطباقه، و جشوبة مذاقه، فكأن قد أتاكم بغتة، فأسكت نجيّكم، و فرّق نديّكم، و عفّى آثاركم، و عطّل دياركم، و بعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم، بين حميم خاصّ لم ينفع، و قريب محزون لم يمنع، و آخر شامت لم يجزع، فعليكم بالجدّ و الاجتهاد، و التّأهّب و الاستعداد، و التّزوّد فى منزل الزّاد، و لا تغرّنّكم الحياة الدّنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية، و القرون الخالية، الّذين احتلبوا درّتها، و أصابوا غرّتها، و أفنوا عدّتها، و أخلقوا جدّتها، أصبحت مساكنهم أجداثا، و أموالهم ميراثا، لا يعرفون من أتاهم، و لا يحفلون من بكاهم، و لا يجيبون من دعاهم، فاحذروا
ص: 421
الدّنيا، فإنّها غدّارة غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رخاؤها، و لا ينقضي عناؤها، و لا يركد بلاؤها.
اقول: السداد: استقامة العبد على طريق اللّه الى جنته، و التقوى مفتاح ذلك، و فى لزومها عتق للعبد من ملكات السوء و هلكات الآخرة و المطالب فى الدنيا و الآخرة.
و الهارب اى: من عذاب اللّه. و الاقلام: اقلام الكرام الكاتبين. و عمرا ناكسا، اى: رادّا ان طال بصاحبه الى الضعف و العجز عن العمل كقوله تعالى: «وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ »(1) و قوله: «وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ» الآية(2). و الخالس: المختطف.
و الطيّات: جمع طيّة بالكسر، و هى منزل السفر. و الوتر: الحقد و الغضب. و التكنّف:
الاحاطة. و الغوائل: المصائب. و المعابل: جمع معبلة بكسر الميم، و هى نصل طويل عريض. و عدوته: ظلمه. و نبا السيف اذا لم يؤثّر فى الضربة. و دواجى ظلله: مظلمات سحابه. و الاحتدام: شدّة الحدّة. و ارهاقه: اعجاله. و الجشوبة: بالجيم غلظ الطعام.
و النجى: القوم يتناجون. و الندى: القوم يجتمعون فى النادى و هو مجتمعهم. و منزل الزاد الدنيا اذ هى منزل زاد الآخرة. و غرّتها: مستعار لأيام السلامة فيها. و يحفلون: يبالون.
و ركد: سكن.
منها فى صفة الزهاد.
كانوا قوما من أهل الدّنيا و ليسوا من أهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها: عملوا فيها بما يبصرون، و بادروا فيها ما يحذرون، تقلّب أبدانهم بين ظهرانى أهل الآخرة، يرون أهل الدّنيا يعظمون موت أجسادهم، و هم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم.
اقول: الاشارة الى بعض اصحابه الذين درجوا قبله و كونهم من الدنيا بأبدانهم و مشاركتهم الضّرورية لأهلها، و ليسوا من اهلها بقلوبهم، لاستغراقها فى محبّة اللّه و مطالعة
ص: 422
انوار كبريائه، و عملهم بما يبصرون اى: من انوار العلم القائدة لهم فى سبيل اللّه، و مبادرتهم فى الدنيا لما يحذرون مسارعتهم الى الأعمال الصالحة دفعا لما يحذرون من عذاب الآخرة. و قوله: تقلب، الى قوله: الآخرة اى: تنقلب. و المراد انّ دأبهم معاشرة اهل الآخرة العاملين لهادون غيرهم. و يحتمل ان يريد انّهم مع سائر الناس بأبدانهم كما سبق. و الناس اهل الآخرة باعتبار مصيرهم اليها. و بين ظهرانيهم: بفتح النون اى بينهم.
و قوله: يرون، الى آخره: فرّق بينهم، و بين اهل الدنيا اذ كانوا لا يرون وراء كمال اجسادهم كمالا. فهم يعظمون موتها، و امّا الزهاد فيها فهم اشدّ اعظاما لموت قلوب احيائهم اذ لا يرون كمالا فوق كمال القلوب.
ذكرها الواقدى فى كتاب الجمل(1)فصدع بما أمر به، و بلّغ رسالات ربّه، فلمّ اللّه به الصّدع، و رتق به الفتق، و ألّف بين ذوى الأرحام، بعد العداوة الواغرة فى الصّدور، و الضّغائن القادحة فى القلوب.
أقول: الفصل من ممادح الرسول صلى اللّه عليه و آله. و صدع: اى شقّ بأمر اللّه عصا الكفر. و لمّ اللّه به ما انصدع به من عصا المسلمين، و رتق به: ما كان مفتتقا من امورهم.
و الوغرة: ذات الوغرة و هى شدة حرارة الصدور و اضغانها.
و ذلك أنه قدم عليه فى خلافته يطلب منه مالا، فقال عليه السلام:
إنّ هذا المال ليس لى و لا لك، و إنّما هو فيء للمسلمين، و جلب أسيافهم، فإن
ص: 423
شركتهم فى حربهم كان لك مثل حظّهم، و إلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.
أقول: زمعة بفتح الميم. و الجلب: المجلوب و روى بالخاء. و جناة الثمر: ما يجنى منه.
ألا إنّ اللّسان بضعة من الإنسان، فلا يسعده القول إذا امتنع، و لا يمهله النّطق إذا اتّسع، و إنّا لأمراء الكلام، و فينا تنشّبت عروقه، و علينا تهدّلت غصونه.
و اعلموا - رحمكم اللّه - أنّكم فى زمان القائل فيه بالحقّ قليل، و اللّسان عن الصّدق كليل، و اللاّزم للحقّ ذليل، أهله معتكفون على العصيان، مصطلحون على الإدهان فتاهم عارم، و شائبهم آثم، و عالمهم منافق، و قارئهم مماذق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم، و لا يعول غنيّهم فقيرهم.
اقول: روى فى سبب هذا الكلام، انّه عليه السلام امر ابن اخته جعدة بن هبيرة المخزومى يوما ان يخطب، فصعد المنبر فحصر، فقام - عليه السلام - فصعد المنبر فخطب خطبة طويلة منها هذا الفصل. و البضعة: القطعة. و الضمير فى يسعده و يمهله: للسان.
و فى امتنع و اتّسع: للانسان، و المعنى: انّ اللسان لما كان آلة للانسان فاذا امتنع الانسان من القول النفساني، امتنع اللسان عن النطق، و اذا اتّسع ذهنه بالمعانىّ ، و استحصرها امكنه القول اللسانى و لم يمهل النطق من الحركة به. و تهدّلت: تدلت. و الادهان:
المصانعة. و العارم: الشرس سيء الخلق. و المماذق: الّذى يمزج الودّ و لا يخلصه، و هو نوع من النفاق.
روى ابو محمد اليمانى عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام و قد ذكر عنده اختلاف الناس فقال:
ص: 424
إنّما فرّق بينهم مبادى طينهم، و ذلك أنّهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها، و حزن تربة و سهلها، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، و على قدر اختلافها يتفاوتون، فتامّ الرّواء، ناقص العقل، و مادّ القامة، قصير الهمّة، و زاكي العمل، قبيح المنظر، و قريب القعر، بعيد السّبر، و معروف الضّريبة، منكر الجليبة، و تائه القلب، متفرّق اللّبّ ، و طليق اللّسان، حديد الجنان.
اقول: الفصل اشارة الى السبب المادّى لاختلاف الناس فى الصور و الاخلاق.
و الطين: اشارة الى ما ذكره من التربة الممتزجة من السبخ، و العذب، و الحزن، و السهل: و هى الجزء الارضى فى الأبدان البشريّة، و انّما خصصه بالذكر دون سائر العناصر، لانّه الجزء الأرضى فيها كما علمت فى الخطبة الاولى، و ظاهر انّ لتلك التربة بحسب ما يغلب عليها من الكيفيّات المذكورة أثرا عظيما فى اختلاف الصور و الاخلاق، ففى الاغلب فيمن يتولّد فى البلاد السبخة ان يكون مزاجه حارا يابسا. و بحسب ذلك تكون نحافة بدنه و سرعة نزقه و ما يتبع ذلك من ذميم الاخلاق او حميدها، و كذلك من عذبت تربته كان الأغلب عليه لطف الصورة و حسن الأخلاق. و الفلقة: القطعة. و قوله: فتامّ الرواء الى آخره: كالتفصيل لهم فى تفاوتهم، و ذكر اقساما خمسة. و الرواء: المنظر الحسن. و السبر: اختبار الباطن. و قريب القعر: كناية عن القصر. و قيل: لبعض الحكماء حين سئل ما بال القصير من الناس ادهى و احذق ؟ قال: لقرب قلبه من دماغه. و كأنه اراد انّ القلب لما كان مبدأ الحار الغريزى، و كانت الاعراض النفسانية من الفطنة و الذكاء و الفهم و الاقدام و الوقاحة و حسن الظن و جودة الرجاء و النشاط و رجولية الاخلاق و قلّة الكسل و قلة الانفعال عن الاشياء كل ذلك يدلّ على الحرارة، و توفّرها و اضداد ذلك يدلّ على البرودة لا جرم كان قرب القلب من الدماغ فى القصر، لكونه سببا لتوفّر الحرارة فى الدماغ، و جودة استعداد القوى النفسانية فيه سببا لتلك الاعراض المذكورة، و كان بعده منه فى الطويل سببا لقلّة الحرارة فيه و ضعف استعداد القوى النفسانية لتلك الأعراض.
و الضريبة الخلق. و الجليبة ما يجلبه الانسان و يتكلّفه. و باللّه التوفيق.
ص: 425
بأبى أنت و أمّى لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة و الأنباء، و أخبار السّماء، خصّصت حتّى صرت مسلّيا عمّن سواك، و عمّمت حتّى صار النّاس فيك سواء.
و لو لا أنّك أمرت بالصّبر، و نهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشّئون، و لكان الدّاء مماطلا، و الكمد مخالفا، و قلاّ لك، و لكنّه مالا يملك ردّه، و لا يستطاع دفعه، بأبى أنت و أمّى، اذكرنا عند ربّك، و اجعلنا من بالك.
أقول: بأبى أنت و امّى: متعلق بمحذوف تقديره افديك. و من النبوّة و الانباء: بيان الغير. و روى عوض الانباء الأنبياء اى: الخبر. و من على هذا بيان: لما انقطع. و خصصت اى: فى مصيبتك من حيث انّها عظيمة لا يصاب الناس بمثلها، فلذلك كان مسلية لهم عن غيرها. و ماء الشئون: الدموع، و الشئون متصل قطع الرأس مع المشعوب بعضها مع بعض، و العرب تزعم انّ الدموع تنزل منها. و قيل: الشأنان عرقان ينحدران من الرأس الى الحاجبين ثم الى العينين. و مماطلة الداء: ملازمة الحزن كأنه لملازمته مع من شأنه المفارقة مماطل فيها، و المحالف: الملازم. و ضمير التثنية فى قلاّ لانفاذ ماء الشئون و لمماطلة الحزن و فى و لكنه لموته، و البال: القلب اى: اجعلنا ممن تباليه و تعتنى به.
فاعلموا و أنتم فى نفس البقاء، و الصّحف منشورة، و التّوبة مبسوطة، و المدبر يدعى، و المسىء يرجى قبل أن يخمد العمل، و ينقطع المهل، و ينقضي الأجل، و يسدّ باب التّوبة، و تصعد الملائكة.
فأخذ امرو من نفسه لنفسه، و أخذ من حىّ لميّت، و من فان لباق، و من ذاهب
ص: 426
لدائم، امرو خاف اللّه، و هو معمّر إلى أجله، و منظور إلى عمله، امرو ألجم نفسه بلجامها، و زمّها بزمامها، فأمسكها بلجامها عن معاصى اللّه، و قادها بزمامها إلى طاعة اللّه تعالى.
اقول: فى نفس البقاء اى: فى سعة منه. و الصحف صحف الأعمال. و المدبر اى: عن طاعة اللّه. و استعار لفظ الجمود: لوقوف العمل كالماء يجمد بعد جريانه. و قوله: فأخذ امرؤ فى صورة الخبر اى: فليأخذ امرؤ من نفسه الامّارة بكسرها، و منعها عن مشتهياتها، و ميولها الطبيعية لنفسه العاقلة. و يحتمل أن يريد بالنفس الاولى: البدن و الأخذ منه بالعبادة، كالصلاة، و الصيام و ذلك كمال لنفسه العاقلة، و ذخر لها فى الآخرة. قوله:
و أخذ من حىّ لميت اى: فكذلك فليأخذ المدبر من نفسه باعتبار ما هو حىّ فى الدنيا لنفسه باعتبار ما هو ميّت لا يمكنه ذلك، و كذلك فليأخذ الحىّ من فان و هو دنياه لباق و دائم و هو أخراه. و قوله: امرؤ الى آخره: كالجواب لسائل سأل عن ذلك المرء، الأخذ من نفسه لنفسه فكأنّه قال: هو امرؤ خاف اللّه و امرؤ كذا، و منظور الى عمله اى: ملتفت اليه من اللّه كقوله تعالى: «فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ »(1) و استعار لفظ اللجام و الذمام: للتقوى.
«اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي» لا تدركه الشّواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النّواظر، و لا تحجبه السّواتر، الدّالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده، و باشتباههم على أن لا شبه له، الّذى صدق فى ميعاده، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط فى خلقه، و عدل عليهم فى حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، و بما وسمها به من العجز على قدرته، و بما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه. واحد لا بعدد، دائم لا بامد، و قائم لا بعمد. تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة، و تشهد له المرائى لا بمحاضرة. لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها و بها امتنع منها، و إليها حاكمها ليس بذى كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما، و لا بذى عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا، بل كبر شأنا، و عظم سلطانا.
ص: 427
و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله الصّفى و أمينه الرّضىّ ، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أرسله بوجوب الحجج، و ظهور الفلج، و إيضاح المنهج، فبلّغ الرّسالة صادعا بها، و حمل على المحجّة دالاّ عليها، و أقام أعلام الاهتداء، و منار الضّياء، و جعل أمراس الإسلام متينة، و عرى الإيمان وثيقة.
اقول: اراد بالشواهد: الخواص لكونها تشهد ما تدركه و تحضر عنده. و المشاهد:
المحاضر و المجالس. و قوله: الدالّ على قدمه الى قوله: لا شبيه له: قد سبقت الاشارة الى الاعتبارات المذكورة فى قوله (الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه) و كذلك باقى الاعتبارات كالاستدلال بعجز الخلق على قدرته، و بفنائهم على دوامه و كونه قائما لا بعمد اى ثابت الوجود، من غير سبب يستند اليه، و تلقى الاذهان له لا بمشاعرة، اى ليس له من طريق الحواسّ اذ ليس بمحسوس بل بالعقول الصرفة و شهادة المرائى له لا بمحاضرة شهادة النواظر بوجوده فى آثار قدرته من غير حضور معه. و يحتمل ان يريد بالمرائى: نفس الاثار التي ترى فيها فانّها شاهدة بوجود شهادة المعلول بوجود علته، و تحليه للاوهام بها ظهوره لها فى صورة وجودها، و وجود مدركاتها من جهة ما هو صانعها و موجدها، اذ كانت الاوهام عند اعتبارها لاحوال نفسها معترفة بحاجتها الى موجد و مقيم، و مساعدة للعقول فى حكمها بذلك، و ان كان ادراكها على وجه جزئى فكانت مشاهدة له بحسب ما طبعت عليه و بقدر امكانها، و هو متحل لها كذلك. و الباء فى بها: للسّبيّة اذ وجودها هو السبب المادّى فى تحلّيه لها. و يحتمل ان يكون بمعنى فى اي: فى وجودها و معنى بل هاهنا بعد سلب الاحاطة به، انّ الاوهام لم تكن ادراكها له على وجه الاحاطة به، بل على الوجه المذكور و الممكن من تحلّيه لها. و قوله: و بها امتنع منها، اي بخلقها قاصرة عن ادراك المعاني الكلّية المجرّدة كانت مبدأ لامتناعه من ادراكها له، و محاكمته لها اليها جعلها حكما بينها و بينه عند رجوعها من توجّهها فى طلبه منجذبة خلف العقول، حسيرة معترفة بانّه لا يمكن ادراكه. و قيل: اراد بالأوهام:
العقول. و قوله: بها امتنع، اى: بالعقول و نظرها علم انّها لا تدركه، و اليها حاكمها، اى:
جعل العقول المدّعية انّها تحيط به و تدركه كالخصوم ثم حاكمها الى العقول السليمة
ص: 428
فحكمت له العقول السليمة على المدّعية لما ليست أهلا له. او انّه جعل تلك المدّعية هى الحاكمة على نفسها بعد اجتهادها فى طلبه، و اعترافها بالعجز عن ادراكه، و وجوب الحجج، اى: الحجج الواجبة على الخلق. و الفلج: الفوز. و المنار: الاعلام. و الأمراس جمع مرس بفتح الراء و هى الحبل. و باللّه التوفيق.
منها: فى صفة عجيب خلق أصناف من الحيوانات:
و لو فكّروا فى عظيم القدرة، و جسيم النّعمة، لرجعوا إلى الطّريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكنّ القلوب عليلة، و الأبصار مدخولة! ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، و أتقن تركيبه، و فلق له السّمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر؟ أنظروا إلى النّملة فى صغر جثّتها، و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، و صبّت على رزقها! تنقل الحبّة إلى جحرها، و تعدّها فى مستقرّها، تجمع فى حرّها لبردها، و فى وردها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنّان، و لا يحرمها الدّيّان، و لو فى الصّفا اليابس، و الحجر الجامس، و لو فكّرت فى مجارى أكلها، فى علوها و سفلها، و ما فى الجوف من شراسيف بطنها، و ما فى الرّأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا، فتعالى الّذى أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها! لم يشركه فى فطرتها فاطر، و لم يعنه فى خلقها قادر. و لو ضربت فى مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلاّ على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّ شيء، و غامض اختلاف كلّ حىّ !! و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القوىّ و الضّعيف، فى خلقه إلاّ سواء!! و كذلك السّماء و الهواء، و الرّياح و الماء فانظر إلى الشّمس و القمر، و النّبات و الشّجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا اللّيل و النّهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال، و تفرّق هذه اللّغات، و الألسن المختلفات، فالويل لمن أنكر المقدّر، و جحد المدبّر. زعموا أنّهم كالنّبات مالهم زارع، و لا لاختلاف صورهم صانع! و لم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا، و لا تحقيق لما أوعوا، و هل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان ؟
ص: 429
و إن شئت قلت فى الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين قمر - اوين، و جعل لها السّمع الخفىّ ، و فتح لها الفم السّوىّ ، و جعل لها الحسّ القوىّ ، و نابين بهما تقرض و منجلين بهما تقبض، يرهبها الزّرّاع فى زرعهم، و لا يستطيعون ذبّها، و لو أجلبوا بجمعهم، حتّى ترد الحرث فى نزواتها، و تقضى منه شهواتها! و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة. فتبارك اللّه الّذى يسجد له «مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً»، و يعفّر له خدّا و وجها، و يلقى إليه بالطّاعة سلما و ضعفا، و يعطى له القياد رهبة و خوفا. فالطّير مسخّرة لأمره، أحصى عدد الرّيش منها و النّفس، و أرسى قوائمها على النّدى و اليبس، و قدّر أقواتها، و أحصى أجناسها: فهذا غراب، و هذا عقاب، و هذا حمام، و هذا نعام، دعا كلّ طائر باسمه، و كفل له برزقه، و أنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها، و عدّد قسمها فبلّ الأرض بعد جفوفها، و أخرج نبتها بعد جدوبها.
اقول: علة القلوب مرض الجهل. و مدخولة: معيوبة. و عيبها كونها لا يدرك العبر و لا ينتفع بها. و البشر: الجلد. و نقل الجاحظ من عجائب النملة انّها: يدّخر فى الصيف للشتاء فيقدّم فى حال المهلة و لا تضيع اوقات الفرصة، و يبلغ من صحة تميّزها و النظر فى عاقبة امرها أن تخاف على الحبوب التي ادّخرتها للشتاء ان تعفّن و تسوسّ فى بطن الارض فتخرجها الى ظهرها لتنشرها، و تعيد اليها جفافها و يضربها النسيم فينفى عنها العفن و الفساد، و ربّما تختار فى الاكثر ان يكون ذلك العمل ليلا ليكون اخفى و فى القمر لانّها فيه أبصر، فان كان مكانها نديّا و خافت ان تنبت الحبة نقرت موضع القطمير من وسطها لعلمها انّها من ذلك الموضع تنبت و ربّما فقلت الحبة بنصفين. فأمّا ان كان الحب من الكزبرة فأنّها تفلقه ارباعا لان انصاف حب الكزبرة ينبت من بين جمع الحب. قال: و نقل الىّ من اثق به انّه احتفر بيت النمل، فوجد الحبوب التي جمعتها كلّ نوع وحده. قال: و وجدنا فى بعضها انّ بعض الحبوب فوق بعض و بينها فواصل حائلة من التبن و نحوه(1). و الجامس: الجامد، و الشراسيف: اطراف الاضلاع المحتوية على البطن، و دعائمها ما يقوم فى بدنها مقام العظام و الاعصاب و نحوها. و قوله:
ص: 430
لدقيق تفصيل كل شى الى قوله حى: اشارة الى اوسط الحجّة على ما ادّعاه من اشراك النملة على صغرها، و النخلة فى طولها و عظمها فى الاستناد الى صانع واحد حكيم، و تقرير الحجّة انّ فى النملة و النخلة تفصيلا لطيفا دقيقا، و اختلاف شكل و هيئة و مقدار و وجوها من الحكمة و كل ما اشتمل على ذلك فله صانع مدبّر حكيم خصّصه بها دون غيره، فينتج انّهما يشتركان فى الحاجة الى صانع مدبّر حكيم خص كلا منهما بما يشتمل عليه، و هذه الحجة هى المسمّاة فى عرف المتكلّمين بالاستدلال بامكان الصفات. و قوله: و ما الجليل الى قوله سواء: اشارة الى انّ كل المخلوقات و ان اختلفت صفاتها و مقاديرها لا تفاوت فيها بالنظر الى قدرته، و كمالها بين ان يفيض عنها صورة الحقير منها كالنملة، او العظيم منها كالنخلة بل التفاوت من جانب القابل. و قوله: و كذلك السماء الى آخره اى: انّ الجميع متشابه فى الحاجة الى الصانع الحكيم، و هو المخصص لكلّ بكماله اللائق به اذ ليس ذلك للجسميّة و لا للوازمها لتشابهها فى الجميع، و لا لعوارضها لانّ الكلام فى الاختصاص بذلك العارض كالكلام فى الاختصاص بالصّفة و يلزم التسلسل، فبقى ان يكون لامر خارج عنها و هو المدبّر الحكيم. و اشار بالجاحدين: الّذين زعموا الزعم المذكور الى جماعة من العرب انكروا الخالق و البعث، و قالوا: بالدهر: المفنى كما حكى اللّه تعالى عنهم: «مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ»(1) و قياس انفسهم على النبات من باب التمثيل و الاصل فيه النبات. و الفرع انفسهم، و الحكم هو ما توهّموه من كونهم بلا صانع، و الجامع هو ما يشتركون فيه مع النبات من الموت و الحياة او نحوه و جوابهم منع الحكم المذكور، و التّنبيه على ما هو معلوم بالضرورة من انّ كل صنعة فلها صانع، و كل جناية فلها جان. قوله: و ان شئت قلت فى الجرادة، الى قوله: مستدقّة: تنبيه آخر على وجود الصانع الحكيم فى وجود الجرادة، و حدقه قمراء اى: مضيئة. و السوىّ : المعتدل. و اراد بحسّها قوّتها الوهميّة. و اجلبوا: اجمعوا. و النزوات: الوثبات. و تعفير الخد: تمريغه فى العفر و هو التراب. و ارسى قوائمها: اثبتها و ارساها فى الندى كطير الماء. و اراد بالجنس: اللغوىّ و هو يصدق على النوع و الصنف فى المصطلح العلمىّ . و استعار وصف الدعاء هنا: لحكم
ص: 431
القدرة الالهية على كلّ منها بالدخول فى الوجود، و هو كقوله تعالى: «فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ »(1). و الفصل من افصح العبارات.
ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه. كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم فى سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بحول فكرة، غنىّ لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له و بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّله، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النّور بالظّلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصّرد. مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها. لا يشمل بحدّ و لا يحسب بعدّ، و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الآلات إلى نظائرها. منعتها منذ القدميّة، و حمتها قد الأزليّة، و جنّبتها لو لا التّكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجرى عليه السّكون و الحركة و كيف يجرى عليه ما هو أجراه، و يعود فيه ما هو أبداه، و يحدث فيه ما هو أحدثه ؟! إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لا متنع من الأزل معناه و لكان له وراء إذ وجد له أمام! و لا لتمس التّمام إذ لزمه النّقصان! و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر فى غيره. الّذى لا يحول، و لا يزول، و لا يجوز عليه الأفول، و لم يلد فيكون مولودا، و لم يولد فيصير محدودا. جلّ عن اتّخاذ الأبناء، و طهر عن ملا مسة النّساء، لا تناله الأوهام فتقدّره، و لا تتوهّمه الفطن فتصوّره، و لا تدركه الحواسّ فتحسّه، و لا تلمسه الأيدى فتمسّه.
ص: 432
لا يتغيّر بحال، و لا يتبدّل بالأحوال، و لا تبليه اللّيالى و الأيّام، و لا يغيّره الضّياء و الظّلام، و لا يوصف بشىء من الأجزاء، و لا بالجوارح و الأعضاء، و لا بعرض من الأعراض، و لا بالغيريّة و الأبعاض، و لا يقال له حدّ و لا نهاية، و لا انقطاع و لا غاية. و لا أنّ الأشياء تحويه، فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعد له. ليس فى الأشياء بوالج، و لا عنها بخارج. يخبر لا بلسان و لهوات، و يسمع لا بخروق و أدوات. يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر، يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض و يغضب من غير مشقّة. يقول لمن أراد كونه ««كُنْ فَيَكُونُ »! لا بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، و إنّما كلامه - سبحانه - فعل منه أنشأه، و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا. لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصّفات المحدثات و لا يكون بينها و بينه فصل، و لا له عليها فضل، فيستوى الصّانع و المصنوع، و يتكافأ المبتدع و البديع. خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها على غير قرار، و أقامها بغير قوائم، و رفعها بغير دعائم، و حصّنها من الأود و الاعوجاج، و منعها من التّهافت و الانفراج، أرسى أوتادها، و ضرب أسدادها، و استفاض عيونها، و خدّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، و لا ضعف ما قوّاه. هو الظّاهر عليها بسلطانه و عظمته، و هو الباطن لها بعلمه و معرفته، و العالى على كلّ شيء منها بجلاله و عزّته، لا يعجزه شيء منها طلبه، و لا يمتنع عليه فيغلبه، و لا يفوته السّريع منها فيسبقه، و لا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه. خضعت الأشياء له، و ذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضرّه، و لا كفؤ له فيكافئه، و لا نظير له فيساويه هو المفنى لها بعد وجودها، حتّى يصير موجودها كمفقودها. و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها، بأعجب من إنشائها و اختراعها! و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها، و ما كان من مراحها و سائمها، و أصناف أسناخها و أجناسها، و متبلّدة أممها و أكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، و لتحيّرت عقولها فى علم ذلك و تاهت،
ص: 433
و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئة حسيرة عارفة بأنّها مقهورة، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضّعف عن إفنائها. و إن اللّه - سبحانه - يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه: كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا مكان، و لا حين و لا زمان، عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات، و زالت السنون و السّاعات، فلا شيء إلاّ الواحد القهّار الّذى إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناؤها، و لو قدرت على الامتناع دام بقاؤها. لم يتكاءده صنع شيء منها إذ صنعه، و لم يؤده منها خلق ما خلقه و برأه، و لم يكوّنها لتشديد سلطان، و لا لخوف من زوال و نقصان، و لا للاستعانة بها على ندّ مكاثر، و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور، و لا للازدياد بها فى ملكه، و لا لمكاثرة و شريك فى شركه، و لا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها، لا لسأم دخل عليه فى تصريفها و تدبيرها، و لا لراحة واصلة إليه، و لا لثقل شيء منها عليه. لم يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنّه - سبحانه - دبّرها بلطفه، و أمسكها بأمره، و أتقنها بقدرته، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، و لا استعانة بشىء منها عليها، و لا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس، و لا من حال جهل و عمى إلى علم و التماس، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة، و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة.
اقول الكيفية فى اللغة: الصفة، و الحال التي عليها الشيء، و فى الاصطلاح العلمىّ :
هيئة قارة فى المحل لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة الى امر خارج عنه. و لا قسمة فى ذاته و لا نسبة واقعة فى اجزائه، و برهان منافاة الكيفية للتوحيد ما مر فى الخطبة الأولى فى قوله: (فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه) و ظاهر انّ من ثنّاه لم يوحّده.
قوله: و لا حقيقته اصاب من مثّله، اى: اثبت مثلا و برهانه انّ المثل للشيء هو المشارك له امّا فى ذاته او فى بعض اجزائها، او فى صفة خارجة عنها، و هو تعالى لا شريك له فى ذاته و الاّ لاحتاج الى مميّز من خارج لا يكون مقتضى ذاته، و الاّ لكان مشتركا غير مميز له بل مقتضى علة اخرى فيكون واجب الوجود محتاجا فيما يميزّه عن غيره الى غيره، هذا
ص: 434
خلف و لا شريك له فى بعض الاجزاء و الاّ لكان مركّبا فكان ممكنا هذا خلف، و لا فى صفة خارجة عن ذاته اذا ثبت انّه لا صفة له وراء ذاته. و كذلك قوله: و لا ايّاه عنى من شبهه. و صمده اى قصده و قد سبق فى الخطبة الاولى: امتناع الاشارة العقلية و الوهمية اليه، فمن اشار اليه، فقد اشار الى غيره فلم يتحقق قصده ايّاه و مدار هذه الاشارات على انّه تعالى غير معلوم الذات بالكنه. و قوله: كل معروف بنفسه مصنوع: شروع فى البرهان على ذلك، و هو صغرى ضمير تقدير كبراه و كلّ ما هو مصنوع فهو ليس باله العالم ينتج كلّ معروف بنفسه فهو ليس باله العالم، و ينعكس بعكس النقيض الى كل ما هو اله العالم فهو غير معروف بنفسه فتجعله كبرى، و يضم اليه صغرى صادقة هى قولنا انّه تعالى إله العالم فينتج انّه تعالى غير معروف بنفسه. و امّا بيان صغرى الضمير فهو انّ الحقيقة انّما نعلمها بأجزائها، و كلّ ذى جزء فهو مركّب فله مركب فهو مصنوع. و قوله: و كل قائم فى سواه معلول: تنزيه له عن حاجته الى المحل، و هو صغرى ضمير كالّذى قبله، و ان شئت فهذه الجملة فى قوّة شرطيّة متّصلة هى صغرى ضمير ايضا تقديرها لو كان قائما فى سواء لكان معلولا، و يستثنى نقيض لازمها لينتج انّه ليس بقائم فى سواه، و بيان الملازمة: انّ القائم بغيره محتاج الى الغير فكان معلولا له و لما يقيمه فيه كما علم فى مظانّه، و كونه مقدّرا كونه معطيا لكلّ مستحق مقدار ما يستحقه و يقبله من كمال الوجود، و لواحقه من أجل و رزق و نحوهما. و غناه تعالى عدم حاجته الى غيره و لا باستفادة تنزيه له عن غنى غيره و لا تصحبه الاوقات اى: ليس هو بذى وقت يقارنه و يحلّ فيه، و ترفده:
تعينه. و لما كان كل مسبوق بالعدم ممكنا كان ما ليس بممكن غير مسبوق بالعدم، فكان تعالى سابق الوجود على كلّ عدم لغيره و الابتداء ازله اى: سبقت ازليته ابتداء العالم. و قوله: بتشعيره الى قوله له: لانّ المشاعر ان كانت له من غيره كان محتاجا الى غيره هذا خلف، و ان كانت من ذاته، فان كانت من كمال الهيّته كان موجدا لها من حيث هو فاقد كمالا، فكان ناقصا بذاته هذا خلف، و ان لم يكن كذلك كان اثباتها له نقصا لانّ الزيادة على الكمال نقصان. و كذلك قوله: بمضادته الى قوله: له: اذ لو كان له ضد لكان خالقا لضده و لنفسه و هو محال، و كذلك تنزيهه عن مقارنة الغير، بمقارنته بين الأشياء، و كذا مضادّته بين الاشياء خلقة لها على طبائعها المتضادّة، و الوضح
ص: 435
و الوضوح: البياض: و البهمة: السواد. و الحرور: الحرارة. و الصّرد: البرد. و تفريقه بين متدانياتها، بالفناء كما جمع بين متعادياتها بالتركيب و المزج. و لا يشمله حد اى:
لا يحيط به نهاية، و لا يدخل فى حساب المعدودات و قد سبق بيانه. و الادوات: الآلات كالحواس و نحوها. و قوله: منعتها، الى قوله: التكملة: يعود الضمير الى الآلات، و محلّ منذ، و قد: و لو لا: الرفع بالفاعليّة، و المراد انّ اطلاق لفظ منذ على الآلات كما يقال هذه الآلة وجدت منذ كذا، يمنع كونها قديمة اذ كان وضعها لابتداء الزمان، و لذلك قد يفيد تقريب الماضى من الحال، كقولك: قد وجدت هذه الآلة وقت كذا. و لا شيء من الازلىّ بقريب من الحال، و كذلك اطلاق لفظ لو لا عند النظر الى الآلات المستحسنة، كما يقال: ما احسن هذا لو لا كذا، فيدلّ بها على امتناع كماله لوجود نقصان فيه: و انّما اشار الى نقصانها و حدوثها، ليعلم انّها فى أبعد بعيد على تقديره و تحديده.
و قوله: بها، الى قوله: العقول، اى: بوجودها المحكم المتقن على انّ لها صانعا حكيما. و قوله: بها الى قوله: العيون اى: بإيجادها، و خلقها بحيث تدرك بحسّ البصر، علم انّه تعالى ليس مثلها، و هو كقوله: بتشعيره الى قوله: لا مشعر له. و قيل: اراد انّ وجودها لما كان سببا لكمال عقولنا، و كمال عقولنا سببا لعلمنا بأنّه لا يرى بحسّ البصر كانت هى اسبابا فى العلم بانّه لا يرى. و قوله. اذن لتفاوتت ذاته، الى قوله: فى غيره:
بيان لعدم جريان الحركة و السكون عليه من سبعة اوجه فى قياسات استثنائية اتّحد مقدّم المتّصلات فيها، و تعدّدت تواليها، و تقديره فى الاوّل لو جرت الحركة و السكون عليه لتفاوتت ذاته، و معنى التفاوت: التغيّر و النقصان بتعاقب الحركة و السكون عليه، و الملازمة هنا ظاهرة و فى الثاني انّ كل متحرّك جسم و كل جسم فله جزء. و فى الثالث انّ كلّ متحرك جسم و كلّ جسم فليس له من ذاته استحقاق الوجود فضلا عن استحقاق الازليّة التي معناها عدم اوّليّة الوجود، فلو كان تعالى متحركا او ساكنا، لم يكن لمعناه و حقيقته ازليّة بل ان كانت له فمن غيره. و فى الرابع انّه لو كان متحرّكا لكان له أمام يتحرك اليه و كل ماله أمام فله وراء. و فى الخامس، انّه لو كان متحركا لالتمس التمام بحركته اذ الحركة لا بد ان تكون نحو غاية مطلوبة للمتحرّك هى كمال له فيكون ناقصا بذاته. و فى السادس انّه لو كان كذلك لكان جسما و فيه آثار الصنع و آياته. و فى السابع انّه لو كان
ص: 436
يتحوّل دليلا لكون جسمه مصنوعا يستدلّ به على صنعه و بطلان اللوازم فى هذه الأقيسة السبعة ظاهر، فالملزوم و هو كون ممّا يجرى عليه الحركة و السكون باطل. و قوله: و خرج بسلطان الامتناع، الى قوله: غيره: عطف على قوله امتنع و قيل: على قوله تجلّى اى: بها تجلى للعقول و خرج بسلطان امتناع كونه مثلا لها، اى: بكونه واجب الوجود، عن ان يكون ممكنا فيقبل اثر غيره، و لا يحول، اى: لا يتغير من حال الى حال. و الافول: الغيبة بعد الظهور، و لو جاز عليه، لما كان محجوبا لابراهيم عليه السلام حيث قال: «لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ »(1) و قوله: فيكون محدودا، اى: بالحلّ الخارج عنه، و كونه تعالى لا يوصف بعرض اذ لا صفة له تزيد على ذاته و قد مرّبيانه. و لانّ محل الاعراض الجواهر و هو تعالى ليس بجوهر، فلا يوصف بالأعراض. و قوله: فيقله، و يميله منصوبان باضماران، و عليه نسخة الرضى عليه الرحمة بخطه.
و روى مرفوعين على العطف و اخباره تعالى يعود الى خلقه الكلام فى لسان النبي صلى اللّه عليه و آله على وفق ما تصوّره من المعنى كما سنفسّره عليه السلام به، و سماعه يعود الى علمه بالمسموعات، و حفظه يعود الى علمه بما فى الفعل من الحكمة، و المصلحة، و هو المعروف بالداعيّ . و محبته ارادة هى مبدأ فعل ما و يقرب منه الرضا و هو منه تعالى علمه بطاعة العبد له، و بغضه: يعود الى كراهته و هى علمه بعدم استحقاق العبد الثواب. و الغضب: يعود الى علمه بعصيانه، و هو منزّه عن المتعارف من ثوران النفس عن تصوّر المؤدّى المستلزم للمشقّة: و قوله: لا بصوت يقرع اى: ليس بذى حاسّة سمع يقرعها الصوت و كذلك لا صوت له يسمع، و من تفسيره عليه السلام لكلام اللّه استدلّت المعتزلة على كونه محدثا و مثله، اى: صوره فى ذهن النبىّ ، و لسانه عليه السلام. و قيل: مثله لجبريل عليه السلام فى اللوح المحفوظ. و وجه الملازمة(2) لقوله: و لو كان قديما لكان الها ثانيا: انّه لو كان قديما لكان واجب الوجود بذاته لأنه لو كان ممكنا، لكان صفة له تعالى قائمة بذاته لامتناع قيام صفة الشيء بغيره فهى ان كانت معتبرة فى كمال الهيته، كان ناقصا بذاته هذا خلف، و ان لم يكن كانت زائدة على كماله اللائق به و الزيادة سفلى
ص: 437
الكمال نقصان، فثبت انّه لو كان كلامه قديما لكان واجب الوجود لذاته فكان الها ثانيا و ت انّه واحد، و خلا: سبق.
و ارساها: اثبتها، و الأود: الاعوجاج. و التهافت: السقوط. و الاسداد: جمع سد و هو كل ما حجز بين الشيئين. و الكفو: المثل. و قوله: و ليس فناء الدنيا، الى قوله: و اختراعها:
تنبيه على فساد قول من زعم انّ العالم لا يفنى. و مفهومه انّ الانشاء اعجب و اصعب، وجه التنبيه قوله: و كيف و لو اجتمع الى قوله افناءها، و كيف يكون الافناء اعجب من الانشاء و الحال ما ذكرنا. و مراحها: ما يراح من مرابطها. و سائمها: ما ارسل منها للرعى. و اسناخها: اصولها.
فان قلت: كيف تقرّ العقول بالضعف عن افناء البعوضة من امكان ذلك و سهولته ؟ قلت: انّ العبد اذا نظر الى نفسه بالنسبة الى قدرة الصانع جلّت عظمته و جد نفسه عاجزة عن كلّ شيء، الاّ بأذن منه و معونة، و انّه ليس له الاّ الاعداد لحدوث ما ينسب اليه من الآثار فأما نفس وجود الأثر فمن واجب الكل، و ايضا فانّه تعالى كما خلق للعبد قدرة على النفع و الضرّ، كذلك خلق للبعوضة قدرة على الامتناع و الهرب من ضوره بالطيران بل على ان تؤذيه فلا يتمكن من دفعها عن نفسه فكيف يستسهل العاقل افناؤها من غير معونة من صانعها. و خاسئة ذليلة. و تكاّد: الأمر شق عليه. و آداه: أثقله. و المثاور:
المواثب. و باقى الاعتبارات له تعالى ظاهرة، و قد مرّ فى اثناء الكلام بيانها، و ما ينبّه عليها، و باللّه التوفيق.
ألا بأبى و أمّى هم من عدّة، أسماؤهم فى السّماء معروفة، و فى الأرض مجهولة، ألا فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم، و انقطاع وصلكم، و استعمال صغاركم. ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حلّه، ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطى، ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النّعمة و النّعيم، و تحلفون من غير اضطرار، و تكذبون من غير إحراج، و ذلك إذا عضّكم البلاء
ص: 438
كما يعضّ القتب غارب البعير، ما أطول هذا العناء، و أبعد هذا الرّجاء. أيّها النّاس، ألقوا هذه الأزمّة الّتى تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم، و لا تصدّعوا على سلطانكم فتذمّوا غبّ فعالكم، و لا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة، و أميطوا عن سننها، و خلّوا قصد السّبيل لها، فقد - لعمرى - يهلك فى لهبها المؤمن، و يسلم فيها غير المسلم. إنّما مثلى بينكم مثل السّراج فى الظّلمة ليستضيء به من ولجها، فاسمعوا أيّها النّاس وعوا، و أحضروا آذان قلوبكم تفهموا.
أقول: هم مبتدأ، خبره مقدّم، و هو: اشارة الى بعض اولياء اللّه فيما يستقبل من زمانه عليه السلام، و معرفة اسمائهم فى السماء كناية عن علوّ درجاتهم عند اللّه، و فى الملأ الأعلى و جهلهم فى الارض: كناية عن خمول ذكرهم بين أهلها كما هو شأن اكثر الاولياء. و قوله: الا فتوقّعوا: انذار بما يكون بعده من الفتن بدولة بنى اميّة و غيرها المستلزمة لادبار امورهم الصالحة و انقطاع وصلهم، و هى الانتظامات الحاصلة بسبب اتّفاق كلمتهم فى وجوده عليه السلام، و استعمال اراذلهم فى تدبير امورهم. و قوله: ذاك الى قوله: البعير: اشارة الى اربع علامات لوقوع ما انذر به:
احداها: تعذّر الدرهم الحلال على المؤمن و قلّته الى الغاية المذكورة.
الثانية ان يكون المعطى اعظم اجرا من المعطى، إمّا لانّ اكثر اموال المعطين حينئذ مشوبة بالحرام، او تقصد فيها الرياء فيقلّ اجره و يكون المعطى فقيرا ذا عيال، فإذا أخذ لسّد خلته كان اعظم اجرا ممن يعطيه.
الثالثة استعار وصف السكر: لغفلته فى نعمة الدنيا عمّا ينبغي، و يلزم ذلك اليمين الباطلة من غير ضرورة بل غفلة عن عظمة اللّه، و الكذب من غير إحراج، اي: من غير ضرورة تضيق الاعذار بل تصير ملكة و خلقا.
الرابعة عضّ بلاء الفتن لهم. و قوله: ما اطول، الى قوله: الرجاء: كلام منقطع عمّا قبله فكأنّه قال ذاك، اذا عضّكم البلاء حتى تقولوا ما اطول التعب الّذى نحن فيه، و ما ابعد الرجاء للخلاص منه، هو بقيام المنتظر من الائمة عليهم السلام. و يحتمل ان يكون
ص: 439
متّصلا و يكون كلاما له مستأنفا فى معنى التوبيخ على الحرص فى الدنيا اى: ما اطول هذا العناء اللاحق لكم فى طلبها، و ما أبعد هذا الرجاء الذى ترجونه منها! و يحتمل ان يريد بالعناء الطويل: عناءه فى جذبهم الى اللّه، و بالرجاء: رجاء لصلاحهم. و استعار لفظ الأزمة: للاراء الفاسدة المتبّعة و للأهواء القائدة الى المآثم. و لفظ الظهور:
لأنفسهم. و لفظ الأثقال: للمآثم المثقلة للنفوس العاقلة عن النهوض الى حضائر القدس. و التصدّع التفرّق. و غبّ كلّ شيء عاقبته، و اقتحامهم: لما يستقبل من نار الفتنة بتصدّعهم عنه اذ افتراق الآراء سبب لظهور العدوّ عليهم، و قيام الفتنة به و الاماطة و الميط: التنحى و تلك الاماطة بالعدول عن الآراء الفاسدة و التفرّق عنها.
و قوله: لعمرى، الى قوله: المسلم: من كراماته عليه السلام، فانّ الدائرة فى فتنة بنى اميّة عليهم اللعنة كانت على من لزم دينه و اشتغل بعبادة ربّه و خاصة من اهل البيت و ذريّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كانت الغلبة للمنافقين و من تقرّب الى قلوبهم بالكذب على اللّه و على رسوله. و ولجها: دخلها، و باللّه التوفيق.
أوصيكم - أيّها النّاس - بتقوى اللّه، و كثرة حمده على آلائه إليكم، و نعمائه عليكم، و بلائه لديكم. فكم حصّكم بنعمة، و تدارككم برحمة! أعورتم له فستركم، و تعرّضتم لأخذه فأمهلكم، و أوصيكم بذكر الموت و إقلال الغفلة عنه، و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، و طمعكم فيمن ليس يمهلكم ؟ فكفى واعظا بموتى عاينتموهم، حملوا إلى قبورهم غير راكبين، و أنزلوا فيها غير نازلين! فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا، و كأنّ الآخرة لم تزل لهم دارا، أوحشوا ما كانوا يوطنون، و أوطنوا ما كانوا يوحشون، و اشتغلوا بما فارقوا و أضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالا، و لا فى حسنة يستطيعون ازديادا! أنسوا بالدّنيا فغرّتهم و وثقوا بها فصرعتهم. فسابقوا - رحمكم اللّه - إلى منازلكم الّتى أمرتم أن تعمروها، و الّتى رغّبتم فيها، و دعيتم إليها، و استتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته، و المجانبة لمعصيته، فإنّ غدا من اليوم قريب، ما أسرع السّاعات فى اليوم، و أسرع
ص: 440
الأيام فى الشّهور، و أسرع الشّهور فى السّنة، و أسرع السّنين فى العمر! أقول: استعار وصف الاعوار و هو: ابداء العورة لاظهارهم معاصى اللّه، و مكارهه التي ينبغي الاستحياء منها. و ما فارقوا من احوال الدنيا و ما اليه انتقلوا من الآخرة، و المنازل التي امروا بعمارتها: منازل الأبرار التي عمارتها بطاعة اللّه و الفصل واضح و باللّه التوفيق.
فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا فى القلوب، و منه ما يكون عوارى بين القلوب و الصّدور إلى أجل معلوم، فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتّى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدّ البراءة. و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل. ما كان للّه فى أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة و معلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة فى الأرض، فمن عرفها و أقرّبها فهو مهاجر، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه. إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلاّ عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان، و لا يعى حديثنا إلاّ صدور أمينة، و أحلام رزينة. أيّها النّاس، سلونى قبل أن تفقدونى! فلأنا بطرق السّماء أعلم منّى بطرق الأرض، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ فى خطامها، و تذهب بأحلام قومها.
اقول: قسم عليه السلام الإيمان الى قسمين، و وجه الحصر فيهما انّ الايمان لما كان عبارة عن التصديق بوجود الصانع و صفاته، و صدق رسوله فيما جاء به، فتلك الاعتقادات ان بلغت حدّ الملكات فى النفوس فهى الايمان الثابت المستّقر فى القلب، و ان لم تبلغ ذلك بل كانت حالات فى معرض التغيّر و الانتقال فهى العوارىّ . و استعار لفظها باعتبار كونها فى معرض الزوال كالعارية التي هى فى معرض الاسترجاع، و كونها بين القلوب و الصدور: كناية عن عدم استقرارها فى جواهر النفوس. و قيل: اراد بالمستّقر:
ص: 441
الايمان باخلاص و تغيّره ما كان على وجه النّفاق، اذ كان ذلك لعرض ثم يزول فاذا كانت لكم الى قوله براءة معناه: اذا اردتم التبرّى من احد من اهل الكتاب فقفوه الى حال الموت و لا تبادروا الى البراءة منه، فانّ اعظم الكبائر الكفر و جائز من الكافر ان يسلم، فاذا بلغ منتهى الحياة و لم يقلع جاز حينئذ البراءة منه. و قيل: و هذه البراءة هى المطلقة إذ يجوز لنا ان نبرء من الفاسق فى حياته براءة مشروطة بالإصرار عليها.
و قوله: و الهجرة قائمة على حدّها الاوّل، اى: لما كانت حقيقة الهجرة لغة ترك منزل الى آخر لم يكن تخصيصها بهجرة الرسول صلى اللّه عليه و آله من مكة الى المدينة، و من تبعه مخرجا لها عن اخذها اللغوّى، و اذا كان كذلك كان مراده من بقائها على حدّها الاوّل، صدقها على من هاجر اليه و الى الائمة من اهل بيته فى طلب دين اللّه لصدقها على من هاجر الى الرسول عليه السلام. و فى معناها ترك الباطل الى الحق كقوله تعالى: «وَ مَنْ يُهٰاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ » الآية(1). و قوله صلى اللّه عليه و آله: المهاجر من هاجر ما حرّم اللّه عليه.
و لانّ المقصود من الهجرة ليس الاّ اقتباس الدين، و تعرّف كيفية سبيل اللّه و هذا المقصود حاصل من يقوم مقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله، بحيث لا فرق بين النبوّة و الامامة، و لا مدخل لاحد هذين الوصفين فى تخصيص مسمّى الهجرة بمن قصد الرسول، دون من قصد الائمة عليهم السلام، فان قلت: فقد قال صلى اللّه عليه و آله: لا هجرة بعد الفتح(2) حتى شفع عمه العباس فى نعيم بن مسعود الأشجعى أن يستثنيه فاستثناه.
قلت: يحمل ذلك على انّه لا هجرة من مكة بعد فتحها الى المدينة توفيقا بين الدليلين، و سلب الخاص لا يستلزم سلب العام. و مقصوده عليه السلام من هذه الكلمة، الدعوة الى الدين و اقتباسه منه، و من اهل بيته عليهم السلام.
و قوله: ما كان للّه، الى قوله: و معانيها، فما: بمعنى المدّة اى: و الهجرة قائمة على حدّها الاوّل مهما كان للّه فى اهل الأرض ممن أسرّ دينه او أظهره حاجة. و استعار لفظ الحاجة: لطلبه تعالى العبادة بالأوامر و النّواهى. و يحتمل ان يكون ما: نافية و الكلمة و ما قبلها و ما بعدها، و هو قوله: و لا يقع اسم الهجرة، الى قوله: قبله كلمات ملتقطة متقطّعة.
و الحجة فى الارض: هو امام الوقت، و مقتضى الكلام انّ اطلاق اسم الهجرة على طالب الدين مشروطة
ص: 442
بمعرفة عين الامام و قصده. و يحتمل. ان يكون الشرط معرفته بالاخبار دون المشاهدة، و يكون اطلاق اسم الهجرة على طالب الدين كأطلاقه على من ترك الحرام فى قوله عليه السلام: (المهاجر من هاجر ما حرّم اللّه عليه). و قوله: و لا يصدق الى قوله: قلبه بالحجّة: قول الامام و له مفهومان.
احدهما انّ من بلغته الأحكام من الامام فوعاها، و فهمها، و امكنه العمل بها لم يصدق عليه اسم المستضعف كما صدق على من ذكر اللّه تعالى بقوله: «إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجٰالِ وَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْوِلْدٰانِ » الآية(1). حتى يكون معذورا فى ترك التفهّم الاخبار و العمل بها، بل يؤاخذ على ترك العمل و يعاقب و ان لم يكلف النهوض و المهاجرة اليه فى طلب الدين كما قال تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قٰالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّٰهِ وٰاسِعَةً » الآية(2). و قوله: انّ امرنا صعب مستصعب: فأمرهم شأنهم و مالهم من الكمال الخارج عن كمال غيرهم كالقدرة على ما يخرج عن وسع غيرهم، و الحديث من الأمور الغيبية كالوقائع المستقبلة لزمانه التي وقعت وفق اخباره فأن هذا الشأن صعب فى نفسه لا يقدر عليه الاّ الانبياء، و اوصياء الانبياء، و مستصعب الفهم على الخلق معجوز عن حمل ما يلقى منه من الاشارات، و لا يحتمله الاّ نفس عبد امتحن اللّه قلبه للايمان فعرف كمالهم، و كيفية صدور هذه الغرائب عنهم و لم يستنكر ذلك و يتعجّب منه و يتلقّاه بالتكذيب، كما فعل ذلك جماعة من جهّال اصحابه بل يتلقّى ما يصدر عنهم بالإيمان به، و اولئك هم اصحاب الصدور الأمينة، و الاحلام الرّزينة. و اجمع الناس على انّه لم يقل احد من الصحابة: سلونى غير على عليه السلام(3). و اراد بطرق السماء: وجوه الهداية الى معرفة منازل سكّان السموات من الملأ الأعلى، و مراتبهم من حضرة الربوبية و علمه بما هناك اتمّ من علمه بطرق الأرض بمقدار اتصاله بالملأ الأعلى، و انقطاعه عن الدنيا، و هذا اعمّ من قول من قال اراد انّه اعلم بالدين و قوانينه منه بالدنيا و أحوالها. و الفتنة: فتنة بنى اميّة. و كنى بشغر رجلها:
عن خلو تلك الفتنة من مدبّر يديرها، و يحفظ نظام الدين يومئذ. و استعار وصف الناقة المرسل خطامها فهى: تخبط فيه، و كنى به عن وقوع تلك الفتنة على غير نظام بل يقتل
ص: 443
فيها المؤمن البرىء، و يتمتع فيها المنافق الشقىّ . و يذهب بأحلام قومها اى: يستخف ذوى العقول فيخوضون فيها، و يسرعون اليها لغفلتهم فيها عن وجه الحق. و باللّه التوفيق.
أحمده شكرا لإنعامه، و أستعينه على وظائف حقوقه. عزيز الجند، عظيم المجد. و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله دعا إلى طاعته، و قاهر أعداءه جهادا على دينه. لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، و التماس لإطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و بادروا الموت و غمراته. و امهدوا له قبل حلوله، و أعدّوا له قبل نزوله: فإنّ الغاية القيامة و كفى بذلك واعظا لمن عقل، و معتبرا لمن جهل. و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس، و شدّة الإبلاس، و هول المطّلع، و روعات الفزع، و اختلاف الأضلاع، و استكاك الأسماع، و ظلمة اللّحد، و خيفة الوعد، و غمّ الضّريح، و ردم الصّفيح. فاللّه اللّه عباد اللّه! فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن، و أنتم و السّاعة فى قرن، و كأنّها قد جاءت بأشراطها، و أزفت بأفراطها، و وقفت بكم على صراطها. و كأنّها قد أشرفت بزلازلها، و أناخت بكلا كلها، و انصرمت الدّنيا بأهلها، و أخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، أو شهر انقضى، و صار جديدها رثّا، و سمينها غثّا، فى موقف ضنك المقام، و أمور مشتبهة عظام، و نار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيّظ زفيرها، متأجّج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك و قودها، مخيف وعيدها، غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها «وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً»(1) قد أمن العذاب، و انقطع العتاب، و زحزحوا عن النّار، و اطمأنّت بهم الدّار، و رضوا المثوى و القرار، الّذين كانت أعمالهم فى الدّنيا زاكية، و أعينهم باكية، و كان ليلهم فى دنياهم نهارا تخشّعا و استغفارا، و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا، فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا، و الجزاء ثوابا، و كانوا أحقّ بها و أهلها، فى ملك دائم، و نعيم قائم. فارعوا - عباد اللّه - ما برعايته يفوز فائزكم، و بإضاعته يخسر مبطلكم و بادروا آجالكم
ص: 444
بأعمالكم فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم، و مدينون بما قدّمتم، و كأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون، و لا عثرة تقالون. استعملنا اللّه و إيّاكم بطاعته و طاعة رسوله، و عفا عنّا و عنكم بفضل رحمته، الزموا الأرض، و اصبروا على البلاء، و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم فى هوى ألسنتكم، و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم، فإنّه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا و وقع أجره على اللّه، و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، و قامت النّيّة مقام إصلاته لسيفه، و إنّ لكلّ شيء مدّة و أجلا.
اقول: استعار لفظ الحبل و العروة: لما يتمسك به من التقوى، و يعتصم به من النار.
و المعقل: الملجأ كالجبل. و امهدوا له: اجعلوا له مهادا من التقوى. و الارماس: القبور.
و الإبلاس: الانكسار و الحزن. و المطلع: موضع الاطّلاع و هو منازل الآخرة. و محفل القيامة و اختلاف الاضلاع: كناية عن ضغطة القبر المستلزمة لذلك. و الصفيح: حجارة يردم بها القبر و يسدّه. و السنن: القصد، و اراد على سنن واحد و هو طريق الآخرة. و فى قرن اى: مقترنين. و القرن: الحبل يقرن به البعيران. و اشراط الساعة: علاماتها. و ازفت:
دنت. افراطها: مقدّماتها. و استعار لفظ الكلاكل و هى: الصدور لاثقالها، و لفظ الحصن: لحصونهم فيها، و اشتمالها على منافعهم فهى: كالامّ الحاضنة لهم. و الرثّ :
الخلق. و الغث: الهزيل. و الضنك: الضيق. و الكلب: الشّر. و اللجب: الصوت. و الساطع:
المرتفع. و ذاك: مشتعل، و الزمرة: الجماعة. و مبادرة الآجال بالأعمال: مسابقتها بها، استعدادا لتسهيل الموت. و مدينون: مجزءون.
و قوله: الزموا الأرض الى آخره قيل: هو خطاب خاصّ لمن يكون بعده من اصحابه، و لزوم الارض: كناية عن الصبر على المكاره، و الثبات فى زمن الفتنة، و عدم النهوض و الجهاد ما لم يقم لهم قائم بحق. و الباء فى بأيديكم: على المكاره. و هوى ألسنتكم:
اراد بهم السّب و الشتم. و لا تحرّكوا ايديكم و سيوفكم و ألسنتكم بهواها و لا تعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم من الجهاد قبل ظهور امام عادل. و قوله: فانّه من مات الى قوله بسيفه: بيانا لحكمهم فى زمن عدم قيام الامام العادل بعده لطلب الأمر. و تنبيه على ثمرة الصبر. و هو:
ص: 445
انّ من مات منهم على فراشه مع معرفته بحق اللّه، و حق رسوله، و اهل بيته، و الاعتراف بكونهم أئمه الحق، و الاقتداء بهم، لحق بدرجة الشهداء، و وقع اجره على اللّه بذلك، و قام صبره على المكاره و نيته انّه من انصار الحق و اهله مقام جهاده بسيفه فى استحقاق الأجر. و قوله: فانّ لكل شيء مدّة و أجلا: تنبيه على انّ لجهادهم وقتا يجب فيه، و لعدّوهم مدّة و دولة لا يجوز لهم القيام فيها مع غير امام حق. هذا هو المتبادر الى الفهم من الكلام و اللّه اعلم.
الحمد للّه الفاشى حمده، و الغالب جنده، و المتعالى جدّه، أحمده على نعمه التّؤام، و آلائه العظام، الّذى عظم حلمه فعفا، و عدل فى كلّ ما قضى، و علم ما يمضى و ما مضى، مبتدع الخلائق بعلمه، و منشئهم بحكمه بلا اقتداء و لا تعليم، و لا احتذاء لمثال صانع حكيم، و لا إصابة خطا، و لا حضرة ملا. و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ابتعثه و النّاس يضربون فى غمرة، و يموجون فى حيرة. قد قادتهم أزمّة الحين، و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين. أوصيكم - عباد اللّه - بتقوى اللّه فإنّها حقّ اللّه عليكم، و الموجبة على اللّه حقّكم، و أن تستعينوا عليها باللّه و تستعينوا بها على اللّه، فإنّ التّقوى فى اليوم الحرز و الجنّة، و فى غد الطّريق إلى الجنّة: مسلكها واضح، و سالكها رابح، و مستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين و الغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد اللّه ما أبدى. و أخذ ما أعطى. و سأل عمّا أسدى. فما أقلّ من قبلها و حملها حقّ حملها: أولئك الأقلّون عددا. و هم أهل صفة اللّه - سبحانه - إذ يقول: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ»(1). فأهطعوا بأسماعكم إليها، و اكظوا بجدّكم عليها، و اعتاضوها من كلّ سلف خلفا، و من كلّ مخالف موافقا، أيقظوا بها نومكم، و اقطعوا بها يومكم، و أشعروها قلوبكم، و ارحضوا بها ذنوبكم. و داووا بها الأسقام، و بادروا بها الحمام، و اعتبروا بمن أضاعها، و لا يعتبرنّ بكم من أطاعها. ألا و صونوها و تصوّنوا بها. و كونوا عن الدّنيا نزّاها، و إلى الآخرة ولاّها،
ص: 446
و لا تضعوا من رفعته التّقوى، و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا، و لا تشيموا بارقها، و لا تستمعوا ناطقها، و لا تجيبوا ناعقها، و لا تستضيئوا بإشراقها، و لا تفتنوا بأعلاقها، فإنّ برقها خالب، و نطقها كاذب، و أموالها محروبة، و أعلاقها مسلوبة، ألا و هى المتصدّية العنون، و الجامحة الحرون، و المائنة الخئون و الجحود الكنود، و العنود الصّدود، و الحيود الميود: حالها انتقال، و وطأتها زلزال، و عزّها ذلّ ، و جدّها هزل، و علوها سفل، دار حرب و سلب، و نهب و عطب، أهلها على ساق و سياق، و لحاق و فراق. قد تحيّرت مذاهبها، و أعجزت مهاربها. و خابت مطالبها، فأسلمتهم المعاقل، و لفظتهم المنازل، و أعيتهم المحاول، فمن ناج معقور، و لحم مجزور، و شلو مذبوح و دم مسفوح، و عاضّ على يديه، و صافق بكفّيه، و مرتفق بخدّيه، و زار على رأيه، و راجع عن عزمه، و قد أدبرت الحيلة، و أقبلت الغيلة، و لات حين مناص، و هيهات، ثمّ هيهات!! قد فات ما فات، و ذهب ما ذهب، و مضت الدّنيا لحال بالها «فَمٰا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمٰاءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مٰا كٰانُوا مُنْظَرِينَ »(1).
أقول: الفاشى: المنتشر. و الجدّ: العظمة. و الغمرة: غلبة الجهل. و الحين بالفتح:
الهلاك. و الرين: غطاء الجهل، و غلبة الذنوب المغطّية لأعين البصائر. و استعار لفظ الاقفال: للجهل و الذنوب. و تستعينوا بها على اللّه اى: على نيل ثوابه، و دفع عقابه، و كونها فى اليوم حرزا و جنة اى: فى الحياة الدنيا لقوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» الآية(2) و غداى: يوم القيامة. و مستودعها: بالفتح من أودعها، و قبلها، و حافظ اى:
لها و لنفسه من التّورط فى الآثام و عذاب اللّه و عرضها لنفسها: كونها للأخذ و الاقتناء.
و اسدى: ارسل معروفه. و اهطعوا بأسماعكم: اسرعوا بها. واكظوا اى: داوموا و واظبوا عليها، و روى باللام اى: الزموا. و اشعروها قلوبكم اى: اجعلوها شعارا لازما لها.
و ارحضوا اى: اغسلوا. و الوله: التحيّر من شدّة الوجد. و شيم البرق: انتظار ان يمطر سحابه و الطمّع فى ذلك. و استعار لفظ البارق: لما يلوح من اطماعها، و كنى بناطقها: عن مادحها. و ما كشف ريبتها من قول او فعل او زينة او متاع. و بسماعه: عن الاصغاء اليه و الميل نحوه. و ناعقها: الداعى اليها. و استعار لفظ الاشراق: للآراء الهادية الى وجوه
ص: 447
تحصيلها، و وصف الاستضاءة لاتّباع تلك الآراء. و يحتمل ان يريد بإشراقها: زينتها التي تبهج بها، و الاستضاءة بذلك: ابتهاج به. و اعلاقها: ما يعدّ فيها نفيسا. و الخلب: الّذى لا مطر معه.
و قوله: فانّ برقها، الى قوله: مسلوبة: فى قوّة صغرى ضمير، يقربه عنها تعليلا لتلك المناهى، و تقدير كبراه: و كلما كان كذلك فلا ينبغي ان يلتفت اليه. و المحروب:
المأخوذ بأجمعه. و المتصدّية: المتعرّضة. و العنون: الدّابة المتقدّمة فى السير. و العنون:
كثيرة العنن و هو الاعتراض. قال بعض الشارحين: استعار لها وصف المرأة الفاجرة التي من شأنها التعرّض للرجال لتخدعهم عن انفسهم. و يحتمل ان يكون استعار: لوصف الدّابة يمشى عرض الطريق، و الدنيا باعتبار كثرة تعثّراتها و تقلّباتها، و جريها على غير قانون يحفظ فيه. و استعار لفظ الجموح و الحزون: لها، باعتبار عدم انقيادها و عدم القدرة على تصريفها عند الحاجة اليها. و المائنة: الخائنة الكاذبة. و الكنود: الكفور للنعمة.
و العنود: المائلة عن القصد، و كذلك الحيود: كثيرة الحيد و هو الميل. و الميود: المتمايلة.
و الحرب بفتح الحاء: سلب المال. و السلب: ما يسلب الانسان من ثوب و غيره. و على ساق: كناية عن عدم استقرارهم فيها. و قيل: الساق: الشدّة. و السياق: نزع الروح، و السياق: مصدر ساقه سياقا، و هو ايضا: كناية عن الأمر الشديد. و اللحاق اى: بالماضين.
و فراق اى: لها. و تحيّر مذاهبها: عدم الاهتداء الى طرق خيرها، و دفع شرّها. واسند الحيرة الى المذاهب مجازا اى: تحيّر أهلها فى مذاهبها. و كذلك اعجزت مهاربها اى:
اعجزت من طلبها فى مهاربها. و المحاول: جمع محالة و هى الحيلة. و قوله فمن ناج الى قوله عن عزمه: تقسيم لاهلها باعتبار ما يرميهم به من مصائبها. و الشلو: العضو من اللحم بعد الذبح، و اشلاء الانسان: اعضاؤه المتفرّقة فى البلى. و الغيلة: للاخذ على غرّة.
و العضّ على اليدين: كناية عن الندم فى الآخرة. و المرتفق بخديّه: جاعل مرفقيه تحت خدّيه ندما. و زاد على رأيه اى: فى تفريطه، و راجع عن عزمه فى ذلك، و المناص: مصدر قولك ناص نوصا اى: فروّ زاغ. و لات: حرف سلب، شبه ليس، و اضمر فيها اسم الفاعل و لا يستعمل الاّ مع حين و قد تحذف حين. و البال: القلب. و الضمير فى مضت: للدنيا.
و باللّه التوفيق.
ص: 448
و هي تتضمّن ذمّ ابليس على استكباره و تركه السجود لآدم - عليه السلام - و انّه اوّل من أظهر العصبيّة و تبع الحميّة و تحذير الناس من سلوك طريقته و من الناس من يسمّي هذه الخطبه «القاصعة» الحمد للّه الّذى لبس العزّ و الكبرياء، و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب. «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ » (1)اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه، و تعصّب عليه لأصله، فعدوّ اللّه إمام المتعصّبين، و سلف المستكبرين، الّذى وضع أساس العصبيّة، و نازع اللّه رداء الجبريّة، و ادّرع لباس التّعزّز، و خلع قناع التّذللّ . ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره ؟ و وضعه اللّه بترفّعه ؟ فجعله فى الدّنيا مدحورا، و أعدّ له فى الآخرة سعيرا. و لو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، و يبهر العقول رواؤه، و طيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل، و لو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، و لخفّت البلوى فيه على الملائكة، و لكنّ اللّه - سبحانه - ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، و نفيا للاستكبار عنهم، و إبعادا للخيلاء منهم. فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطّويل، و جهده الجهيد، و كان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنى الدّنيا أم سنى الآخرة - عن كبر ساعة واحدة، فمن بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته ؟ كلاّ! ما كان اللّه سبحانه ليدخل
ص: 449
الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا، إنّ حكمه فى أهل السّماء و أهل الأرض لواحد، و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة فى إباحة حمى حرّمه على العالمين. فاحذروا عدوّ اللّه، أن يعديكم بدائه، و أن يستفزّكم بندائه، و أن يجلب عليكم بخيله و رجله، فلعمرى لقد فوّق لكم سهم الوعيد، و أغرق لكم بالنّزع الشّديد، و رماكم من مكان قريب، و قال: «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ »(1)، قذفا بغيب بعيد، و رجما بظنّ مصيب، صدّقه به أبناء الحميّة، و إخوان العصبيّة، و فرسان الكبر و الجاهليّة، حتّى إذا انقادت له الجامحة منكم، و استحكمت الطّماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السّرّ الخفىّ إلى الأمر الجلىّ ، استفحل سلطانه عليكم، و دلف بجنوده نحوكم، فأقحموكم و لجأت الذّلّ ، و أحلوّكم ورطات القتل، و أوطاؤكم إثخان الجراحة:
طعنا فى عيونكم و حزّا فى حلوقكم، و دقّا لمناخركم، و قصدا لمقاتلكم، و سوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة لكم، فأصبح أعظم فى دينكم جرحا، و أورى فى دنياكم قدحا، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين، و عليهم متألّبين، فاجعلوا عليه حدّكم و له جدّكم! فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم، و وقع فى حسبكم، و دفع فى نسبكم، و أجلب بخيله عليكم، و قصد برجله سبيلكم: يقتنصونكم بكلّ مكان، و يضربون منكم كلّ بنان، لا تمتنعون بحيلة، و لا تدفعون بعزيمة فى حومة ذلّ ، و حلقة ضيق، و عرصة موت، و جولة بلاء. فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبيّة، و أحقاد الجاهليّة، فإنّما تلك الحميّة تكون فى المسلم من خطرات الشّيطان و نخواته، و نزغاته و نفثاته، و اعتمدوا وضع التّذلّل على رءوسكم، و إلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، و خلع التّكبّر من أعناقكم، و اتّخذوا التّواضع مسلحة، بينكم و بين عدوّكم: إبليس و جنوده فإنّ له من كلّ أمّة جنودا و أعوانا، و رجلا و فرسانا. و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة فى قلبه من نار الغضب، و نفخ الشّيطان فى أنفه من ريح الكبر الّذى أعقبه اللّه به النّدامة، و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة. ألا و قد أمعنتم فى البغى، و أفسدتم فى الأرض، مصارحة للّه بالمناصبة، و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة! فاللّه اللّه فى كبر الحميّة، و فخر الجاهليّة، فانّه ملاقح الشّنآن، و منافخ
ص: 450
الشّيطان، الّتى خدع بها الأمم الماضية، و القرون الخالية، حتّى أعنقوا فى حنادس جهالته! و مهاوى ضلالته، ذللا على سياقه سلسا فى قياده، أمرا تشابهت القلوب فيه، و تتابعت القرون عليه، و كبرا تضايقت الصّدور به ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم الّذين تكبّروا عن حسبهم، و ترفّعوا فوق نسبهم، و ألقوا الهجينة على ربّهم، و جاحدوا اللّه على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، و مغالبة لآلائه!! فإنّهم قواعد أساس العصبيّة، و دعائم أركان الفتنة، و سيوف اعتزاء الجاهليّة، فاتّقوا اللّه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، و لا لفضله عندكم حسّادا! و لا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم، و خلطتم بصحّتكم مرضهم، و أدخلتم فى حقّكم باطلهم، و هم أساس الفسوق، و أحلاس العقوق، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال، و جندا بهم يصول على النّاس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم، و دخولا فى عيونكم، و نفثا فى أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، و موطىء قدمه، و مأخذ يده.
اقول: القصع: ابتلاع الماء و الجرّة. و قصعه قصعا: صغرّه و حقرّه. و قيل: فى معنى تسميتها بذلك: انّه عليه السلام خطب بها اهل الكوفة على ناقة و هى تقصع بجرّتها فسمّيت خطبة القاصعة. و قيل: بل لانّ فيها قصع إبليس و تحقيره.
و اعلم انّ مدار هذه الخطبة على النّهى عن الكبر، و الفخر، و ما يلزمه من التفرقة و الفتنة و وصف الابليس: مستعار لوصفه تعالى بالعزّ و الكبرياء، و اختياره تعالى لهما يعود الى استحقاقه لهما بالذات اذ الممكن لا يليق به التغرّر و التكبّر من حيث هو ممكن محتاج، و خلقه من نور خلقه شفافا او خلقه مجرّدا عن علائق المواد، اى: لو اراد خلقه كذلك لكان مقدورا له: فلم يخلقه من طين ظلمانى كثيف. و الخيلاء: الكبر، و قد اشرنا في الخطبة الاولى الى قصة آدم و هي واضحة هنا. و الاحباط: الابطال. و جهده: اجتهاده. و قد صرّح عليه السلام: انّ ابليس كان من الملائكة. و قد اشرنا فى الخطبة الاولى الى وجه الجمع بين ذلك و بين قوله تعالى: «إِلاّٰ إِبْلِيسَ كٰانَ مِنَ اَلْجِنِّ » (1)و الهوادة: الصلح. و قوله فمن ذا الّذى يسلم على اللّه اى: يرجع اليه سالما. و محل ان يعيدكم: نصب على البدل من عدوّ اللّه. و خيله و رجله: كناية عن اعوانه الضّالين
ص: 451
المضلّين. و استعار لفظ السهم: لما توعدّهم به من التزّين و الوسوسة، و مكانه القريب: ما اشار اليه الخبر النبوىّ : (انّ الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم)(1). و قوله صلى اللّه عليه و آله: (لو لا انّ الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا الى ملكوت السماوات) و الغيب: ما غاب عنه فلم يعلمه فقذف بحكم بعيد عن علمه، و هو: الاغواء و الاعراف فى النزع استيفاء مدّ السهم، فان قلت: فلم قال، غير مصيب مع انّ ابليس صدق ظنه فى اغواء الناس كما قال تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَّقَ » الى قوله «اَلْمُؤْمِنِينَ »(2)؟ اجيب من وجهين: احدهما انّه ظن ان اغوائهم يكون منه و كان منهم اختيارا لانّهم احبّوا العمى على الهدى، فغووا عن الطريق و كان ظنّه فى نسبة ذلك اليه غير مصيب، و انّما صدّقوه فى وقوع الغواية منهم وفق ظنه.
الثاني: انّ حكمه بانّه يغوى الخلق أجمعين حكم فاسد عن ظن غير مصيب. و امّا استثناؤه للمخلصين: فكان تصديقا لقوله تعالى «إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ »(3) لا عن ظن منه لذلك، و الحميّة المذمومة و العصبية فى الباطل. و استعار لفظ الجامحة:
للنفوس التي تقوى على ابليس ثم تلين له. و قوله فنجمت الى قوله الحال، اى: فظهرت الحال التي كان يرومها منكم و يظنها فيكم و هى الغواية من القوّة الى الفعل. و الطماعية:
الطمع. و ولف: مشى و دنا. و اقحموكم: ادخلوكم. و الولجات: جمع ولجة بالفتح، موضع كالكهف و نحوه تستتر به المارّة من المطر و غيره. و الورطة: الارض المطمئنة لا طريق فيها. و انتصب طعنا و ما بعده على المصادر عن افعالها المقدّرة. و الخزائم: جمع خزامة بالكسر و هى حلقة من شعر يكون فى انف البعير يشد بها الزمام. و المناصبة: المعاداة.
و التألّب: الاجتماع. و حدّهم بأسهم و سطوتهم. و الرفع فى النسب: كناية عن الوقوع فيه.
و حومة الشيء: معظمه و ما استدار منه على كثرة. و المسلحة: قوم ذو سلاح يحفظون الثغر.
و اراد بالمتكبر على ابن امّه، قابيل حين قتل اخاه هابيل عن حسد و كبر.
قيل: و انّما قال ابن امّه دون ابيه لانّ الوالد الحق هو الام، و امّا الأب فلم يصدر منه غير النطفة التي ليست بولد بل جزءا ماديا له. و قوله: و الزمه آثام القاتلين اشارة الى قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ »(4) الى قوله تعالى «جَمِيعاً» اى: يكونوا
ص: 452
اثمه و عقابه فى الشدّة كأثم قاتل الناس جميعا و عقابه. و قول الرسول عليه السلام: (من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من يعمل بها الى يوم القيامة)(1) و قابيل اوّل من سنّ القتل، فلا جرم لزمه آثام القاتلين الى يوم القيامة. و الشنآن العداوة. و المصارحة:
المكاشفة. و الملاقح: جمع ملقح بفتح الميم و هو الفحل. و الشنآن: البغضاء. و اعنق البعير فى السير مدّ عنقه و خطوه. و الحنادس: جمع حندس بالكسر و هو الليل شديد الظلمة.
و الهجينة: الفعل القبيح. و الاعتزاء: الانتساب الى أب او قبيلة كقولهم بآل فلان. و استعار لفظ الاضداد لمن يكفر نعمة اللّه باعتبار بعدها عنه و مفارقته ايّاها بذلك. و لفظ الحساد اذ كافر النعمة كأنّه يطردها عنه بكفرانه لها حاسد. و يحتمل ان يكون نهيا عن حسد الغير. و قوله و شربتم بصفوكم كدرهم اى: فرّجتم اكدار فتنتهم و رذائلهم بما صفى من دينكم، و خلص فشربتموه و وصف الشرب مستعار. و كذلك قوله: و خلطتم بصحتكم مرضهم اى: بخالص ايمانكم و دينكم نفاقهم و رذائلهم. و الحلس: كساء رقيق تحت بردعته(2) و استعار لفظه لهم باعتبار ملازمتهم للعقوق كملازمة الحلس لظهر البعير و نصب استراقا على المفعول له او على المصدر. و اراد ينطق على ألسنتهم: بما يخدعكم به من جهة عقولكم، بالوهميات الكاذبة التي تشبه البديهيات. و العاديات: التي يخدع بها العقل و من جهة ابصاركم كالوسوسة بالمبصرات و تزيّنها و من جهة اسماعكم كتزيّن الجواذب السمعيّة الى الدنيا.
الثاني، فى الأمر بالاعتبار بحال الماضين: و ما اصاب الامم المتكبّرين، و بحال الانبياء و فضلهم فى التواضع و حال اختبار اللّه المتواضعين من خلقه نصبها بيتا لعبادته و ذلك قوله:
فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه و صولاته، و وقائعه و مثلاته، و اتّعظوا بمثاوى خدودهم، و مصارع جنوبهم.
و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدّهر، فلو رخّص اللّه فى الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و ملائكته، و لكنّ اللّه كرّه إليهم التّكابر، و رضى لهم التّواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم و عفّروا فى التّراب وجوههم،
ص: 453
و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين و كانوا أقواما مستضعفين، و قد اختبرهم اللّه بالمخمصة، و ابتلاهم بالمجهدة، و امتحنهم بالمخاوف، و محصّهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرّضا و السّخط بالمال و الولد جهلا بمواقع الفتنة، و الاختبار فى مواضع الغنى و الاقتدار، و قد قال سبحانه و تعالى «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ »(1) فإنّ اللّه - سبحانه - يختبر عباده المستكبرين فى أنفسهم، بأوليائه المستضعفين فى أعينهم.
و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون، عليهما السّلام على فرعون و عليهما مدارع الصّوف و بأيديهما العصىّ فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لى دوام العزّ و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذّلّ ، فهلاّ القى عليهما أساورة من ذهب ؟!» إعظاما للذّهب و جمعه، و احتقارا للصّوف و لبسه. و لو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان، و معادن العقيان، و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طير السّماء و وحوش الأرض لفعل، و لو فعل لسقط البلاء، و بطل الجزاء، و اضمحلّت الأنباء، و لما وجب للقابلين أجور المبتلين، و لا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء معانيها، و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولى قوّة فى عزائمهم و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى، و خصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذى.
و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، و عزّة لا تضام، و ملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال، و تشدّ إليه عقد الرّحال، لكان ذلك أهون على الخلق فى الاعتبار، و أبعد لهم فى الاستكبار، و لآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النّيّات مشتركة، و الحسنات مقتسمة، و لكنّ اللّه - سبحانه - أراد أن يكون الاتّباع لرسله، و التّصديق بكتبه، و الخشوع لوجهه، و الاستكانة لأمره، و الاستسلام لطاعته، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم، كانت المثوبة و الجزاء أجزل.
ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم، صلوات اللّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ و لا تنفع، و لا تسمع و لا تبصر فجعلها بيته الحرام الّذي جعله
ص: 454
للنّاس قياما ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتائق الأرض مدرا. و أضيق بطون الأودية قطرا: بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون و شلة، و قرى منقطعة، لا يزكو بها خفّ ، و لا حافر و لا ظلف، ثمّ أمر آدم و ولده، أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم. تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، و مهاوى فجاج عميقة، و جزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا منا كبهم ذللا يهلّلون للّه حوله، و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له، قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، و شوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، و امتحانا شديدا، و اختبارا مبينا، و تمحيصا بليغا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة إلى جنّته. و لو أراد - سبحانه - أن يضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل و قرار، جمّ الأشجار، دانى الثّمار، ملتفّ البنى، متّصل القوى، بين برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة، و عراص مغدقة، و رياض ناضرة، و طرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، و لو كان الإساس المحمول عليها، و الأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء، و ياقوته حمراء، و نور و ضياء، لخفّف ذلك مسارعة الشّكّ فى الصّدور، و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، و لنفى معتلج الرّيب من النّاس و لكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد و يتعبّدهم بأنواع المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر من قلوبهم، و إسكانا للتّذلّل فى نفوسهم، و ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه.
فاللّه اللّه فى عاجل البغى، و آجل و خامة الظّلم، و سوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، و مكيدته الكبرى، الّتى تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة، فما تكدى أبدا، و لا تشوى أحدا: لا عالما لعلمه، و لا مقلاّ فى طمره، و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات و الزّكوات، و مجاهدة الصّيام فى الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، و تخشيعا لأبصارهم، و تذليلا لنفوسهم، و تخفيضا لقلوبهم، و إذهابا للخيلاء عنهم، لما فى ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا، و التصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، و لحوق البطون من الصّيام تذلّلا، مع ما فى الزّكاة من صرف ثمرات الأرض، و غير ذلك إلى أهل المسكنة و الفقر. انظروا إلى ما فى هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر و قدع طوالع الكبر.
ص: 455
و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجّة تليط بعقول السّفهاء، غيركم، فإنّكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه فى خلقته.
فقال: (أنا نارىّ و أنت طينىّ ) و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم، فقالوا: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَ أَوْلاٰداً وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ».
فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الأخلاق، و محامد الأفعال، و محاسن الأمور الّتى تفاضلت فيها المجداء و النّجداء من بيوتات العرب و يعاسيب القبائل، بالأخلاق الرّغيبة، و الأحلام العظيمة، و الأخطار الجليلة، و الآثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار، و الوفاء بالذّمام، و الطّاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الأخذ بالفضل، و الكفّ عن البغى، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد فى الأرض.
و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات، بسوء الأفعال، و ذميم الأعمال، فتذكّروا فى الخير و الشّرّ أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكّرتم فى تفاوت حاليهم، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم، و زاحت الأعداء له عنهم، و مدّت العافية فيه بهم، و انقادت النّعمة له معهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، و اللّزوم للألفة و التّحاضّ عليها، و التّواصى بها، و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم و أوهن منّتهم: من تضاغن القلوب، و تشاحن الصّدور، و تدابر النّفوس، و تخاذل الأيدى، و تدبّروا أحوال الماضين المؤمنين قبلكم: كيف كانوا فى حال التّمحيص و البلاء؟ ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، و أجهد العباد بلاء، و أضيق أهل الدّنيا حالا؟ اتّخذتهم الفراعنة عبيدا، فساموهم سوء العذاب، و جرّعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم فى ذلّ الهلكة، و قهر الغلبة: لا يجدون حيلة فى امتناع، و لا سبيلا إلى دفاع، حتّى إذا رأى اللّه جدّ الصّبر منهم على الأذى فى محبّته، و الاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا: فأبدلهم العزّ مكان الذّلّ ، و الأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكّاما، و أئمّة أعلاما، و بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم.
فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، و الأهواء متّفقة، و القلوب
ص: 456
معتدلة، و الأيدى مترادفة، و السّيوف متناصرة، و البصائر نافذة و العزائم واجدة ؟! ألم يكونوا أربابا فى أقطار الأرضين، و ملوكا على رقاب العالمين ؟؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه فى آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، و تشتّت الألفة، و اختلفت الكلمة و الأفئدة، و تشعبّوا مختلفين، و تفرّقوا متحاربين، قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، و سلبهم غضارة نعمته، و بقى قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين منكم.
و اعتبروا بحال ولد إسماعيل و بنى إسحاق و بنى إسرائيل - عليهم السّلام - فما أشدّ اعتدال الاحوال، و أقرب اشتباه الأمثال!!! تأمّلوا أمرهم فى حال تشتّتهم و تفرّقهم، ليالى كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق، و بحر العراق، و خضرة الدّنيا، إلى منابت الشّيح، و مها فى الرّيح، و نكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر، أذلّ الأمم دارا، و أجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا إلى ظلّ الفة يعتمدون على عزّها، فالأحوال مضطربة، و الأيدى مختلفة، و الكثرة متفرّقة، فى بلاء أزل، و أطباق جهل من بنات موءودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة.
فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم، حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّتهم طاعتهم، و جمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها، و أسالت لهم جداول نعيمها، و التفّت الملّة بهم فى عوائد بركتها، فأصبحوا فى نعمتها غرقين، و فى خضرة عيشها فكهين ؟! قد تربّعت الأمور بهم فى ظلّ سلطان قاهر، و آوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الأمور عليهم فى ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين، و ملوك فى أطراف الأرضين: يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة، و لا تقرع لهم صفاة!! ألا و إنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة، و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة، و إنّ اللّه - سبحانه - قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة: الّتى ينتقلون فى ظلّها، و يأوون إلى كنفها - بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة: لإنّها أرجح من كلّ ثمن، و أجلّ من كلّ خطر.
و اعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا، و بعد الموالاة أحزابا، ما تتعلّقون
ص: 457
من الإسلام إلاّ باسمه، و لا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه!! تقولون «النّار و لا العار» كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه، و نقضا لميثاقه، الّذى وضعه اللّه لكم حرما فى أرضه، و أمنا بين خلقه، و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثمّ لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا مهاجرون و لا أنصار ينصرونكم، إلاّ المقارعة بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم. و إنّ عندكم الأمثال من بأس اللّه و قوارعه، و أيّامه و وقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه، و تهاونا ببطشه، و يأسا من بأسه، فإنّ اللّه - سبحانه - لم يلعن القرن الماضى بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصى، و الحكماء لترك التّناهى، ألا و قد قطعتم قيد الإسلام، و عطّلتم حدوده، و أمتّم أحكامه.
اقول: المثلات: العقوبات. و المثوى: المقام. و لواقح الكبرياء ما يلحقه من الشبهات و التخيّلات الفاسدة. و المخمصة: المجاعة. و المجهدة: المشقة. و التمحيص: الاختبار. و الاقتار: الفقر. و الاساورة: جمع اسوار و هو السوار. و العقيان خالص الذهب. و الانباء: اخبار السماء. و البلاء الّذى كان يسقط بلاء المتكبّرين بالمستضعفين من اولياء اللّه اذ لا مستضعف اذن، و كذلك يسقط بلاء الانبياء بالفقر و الصبر على اذى المتكبّرين. و كذلك جزاء العبادات و الطاعات بسقوط البلاء بها، او لانّها اذن يكون عن رهبة فيسقط جزاؤها الاخروىّ ، و بحسب ذلك كان ينقطع خبر السماء من الوحي لانّ الدنيا و الآخرة ضرّتان. و الأنبياء عليهم السلام و ان كانوا افضل الخلق الاّ انّهم محتاجون الى الرياضة بالزهد و الاعراض عن الدنيا فى نزول الوحى عليهم، كما هو المشهور من حالهم عليهم السلام. و المنقول عن نبينا صلى اللّه عليه و آله من فطام نفسه عن الدنيا و طيّباتها مشهور متواتر. و كذلك لا يكون لقائلى كلام الانبياء اجر المبتلين بهم فى حال ما هم بزىّ الفقر و المسكنة. و كان لا يستحق المؤمنون ثواب المحسنين الى انفسهم بمجاهدة الشيطان عنها، لانّ ايمانهم يومئذ يكون عن رغبة او رهبة. او ثواب المحسنين الى الأنبياء بالايواء و النصر لهم حين البعثة. و لا لزمت الاسماء معانيها اى
ص: 458
لا يكون حقائق فيها مثلا من كان يسمى مؤمنا لا يكون هذا اللفظ حقيقة فيه اذ هو حقيقة فى الايمان الخالص القلبى، و هو غير موجود الاّ باللسان عن رهبة او رغبة. و كذلك من سمىّ مسلما او زاهدا اونبيا لارتفاع كل ذلك. و الخصاصة: الجوع. و قوله لكان ذلك اهون على الخلق فى الاعتبار اى: انّ الانبياء اذا كانوا بزىّ الملوك كان اعتبار الناس بحالهم و رجوعهم اليه اسهل، و كانوا ابعد من الاستكبار عليهم ممّا اذا كانوا بزىّ الفقر. و النيّات مشتركة اى: خالصة للّه بل لرهبة او رغبة، و لا كانت حسناتهم فى انفسهم و فى الانبياء خالصة بل منقسمة بحسب النيّات المختلفة. و الوعر: الصعب. و النتائق: جمع نتيقة و هى البقاع المرتفعة، و اراد مكة. و كنّى بتتبعها عن شهرتها و علوّها بالنسبة الى ما استسفل عنها من البلاد. و قياما اى: مقيما لأحوال الناس فى الآخرة. او بحال اهل مكة باجتماع الناس اليه، و القطر: الجانب. و الدمثة: اللينة. و الوشلة: قليلة الماء. و ثنى الاعطاف: كناية عن التوجّه و الرجوع الى البيت. و المثابة المرجع. و المنتجع اسم المفعول من الانتجاع و هو طلب الماء و الكلاء. و تهوى اليه ثمار الافئدة اى: تسقط ثمار كل شيء كما قال: يجبى اليه ثمرات كل شيء. و اضافها الى الافئدة باعتبار انّها مجلوبة اليها. و المفاوز: الفلوات. و السحيقة: البعيدة. و الفجاج: الطرق الواسعة. و وصف تلك الطرق بالعمق باعتبار بعدها عن سائر البلاد العالية منحدرة. و هز مناكبهم: حركاتهم فى السعى و الطواف و نحوهما. و الاهلال رفع الصوت بالتلبية. و الرمل: الهرولة. الشعث:
تفرّق الحال. و السرابيل: القمصان. و المشاعر: مواضع المناسك. و الارياف: جمع ريف بالكسر، و هى الارض ذات الزرع و الخصب. و المحدقة: المحيطة. و المغدقة: كثيرة الماء و الخصب. و مصارعة الشك فى الصدور: هو التشكّك فى انّ التكليف بقصد هذه الأحجار حق او باطل. و المعتلج: اسم الفاعل او المفعول على الروايتين من الاعتلاج، و هو مغالبة الشكّ لليقين، و الاعتلاج: المصارعة و الغلبة. و فتحا: مفتوحة موسّعة. و ذللا: سهلة. و وخامة الظلم: سؤ عاقبته. و المساورة: المواثبة. و الضمير فى قوله فانّها: يعود الى الجملة من البغى و الظلم و الكبر. و قيل: الى الكبر فقط. و انّما انّثه باعتبار جعله ايّاه مصيدة. و مساورة السموم القاتلة اى: للطبيعة الحيوانية. و اكدى الحافر: اذا عجز و لم يؤثر فى الارض. و اكدت المطالب اعجزت. و اشوت الضربة يشوى: اخطأت المقتل.
ص: 459
فمنافاتها للتكبّر ظاهرة. و امّا الزكاة فلأنها شكر النعمة المالية و شكر النعم ينافي التكبّر عن طاعته. و امّا الصيام فلما فيه مصابرة الجوع و العطش فى الايام الصائفة طاعة للّه. و تذلّلا له و ذلك ينافي التكبّر عن طاعته ايضا. و عتائق الوجوه: جمع عتيقة و هى كرائمها احسانها. و نواجم الفخر بما ظهر منه. و التمويه: التليين. و يليظ: يلتصق. و المجداء:
جمع ماجد. و النجداء: اهل النجدة و الشجاعة. و يعاسيب القبائل: رؤسائها و امراؤها. و قوله بالاخلاق: متعلّق بتفاضلت. و الرغبة الشيء: يرغب فيه. و قوله فتذكّروا فى الخير و الشّر احوالهم، فحال الخير حين كانوا فى طاعة انبيائهم و الالفة الجامعة بينهم. و حال الشرّ ما انقلبوا اليه عن تلك الحال حتى خالفوا صالح الأعمال و حالفوا ذميم الأفعال. و قوله: من الاجتناب الى قوله و التوصّى بها: تفصيل و تفسير للامر الّذى لزمت العزّة به حالهم اى: عزّت حالهم به و زاحت عنهم اعداؤهم له، و مدّت العافية بهم. و الباء فى بهم: للظرفيّة(1). و التحاض: التحاث. و الفقرة الواحدة من خرزات الظهر. و التشاحن:
التّعادى. و التدابر: التقاطع. و الّذين اتّخذتهم الفراعنة عبيدا كيوسف عليه السلام، و كموسى، و هارون، و من آمن معهما من بنى اسرائيل فى مبدأ امرهم، و ابدالهم العزّ بمكان الذّل هو ما امتن اللّه تعالى عليهم به فى قوله «وَ إِذْ نَجَّيْنٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ » الآية(2). «وَ إِذْ فَرَقْنٰا بِكُمُ اَلْبَحْرَ» الآية(3). و امّا كونهم ملوكا و حكّاما و أئمه و اعلاما: فانّ موسى و هارون عليهما السلام بعد هلاك فرعون، ورثا، و استقرّ لهما الملك و الدين. و كطالوت، و داود، بعد مجاهدتهما بجالوت كما قال تعالى: «وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ »(4) الآية. و كذلك لم يزل الملك و النبوّة فى سليمان عليه السلام، و ولده الى الأعرج منهم فانّه لم يكن نبيا و قتله ابنه، و كان بخت نصر كاتبه فغضب لذلك و اغتر الابن حتى قتله و ملك بعده. و نفوذ البصائر: خرقها حجب الشبهات عن الحق واصله اليه و غضارة النعمة:
ص: 460
و الطمر: الثوب الخلق. و قوله: لا عالما الى قوله طمرة اى: انّ رذيلة الكبر يؤثر فى نفس العالم مع علمه و الفقير مع فقره، و ان كانت حالتهما ينافي ذلك. امّا العالم فلعلمه بأنّه رذيلة ينبغي ان يتجنب، و امّا الفقير فظاهر. و قوله: و غير ذلك الى قوله تذليلا: تنبيه على الأمور التي حرس اللّه بها الصالحين من عباده عن هذه الرذيلة و هى الصلوات، و الزكوات، و مجاهدة الصيام المفروض. امّا الصلاة طيبها. و ولد اسماعيل: هم العرب من آل قحطان و آل معد، و من بنى اسحاق اولاد روم بن عيص بن اسحاق. و بنو اسرائيل اولاد يعقوب بن اسحاق. و استيلاء الاكاسرة و القياصرة على العرب قبل ظهور محمد صلى اللّه عليه و آله ظاهر. و امّا حال بنى اسحاق و اسرائيل فنحو ما جرى لاولاد روم بن عيص من اختلاف النسطورية، و اليعقوبية و الملكاتية، حتى كان ذلك سببا لضعفهم و استيلاء القياصرة عليهم فى الروم و على بنى اسرائيل فى الشام، و ازعاج بخت نصر، لهم عن بيت المقدس فى المرّة الثانية كما اشار اليه تعالى بقوله: «فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ » الآية(1). و قد كان عزّاهم حين افسدوا المرّة الاولى، كما حكى عنهم تعالى بقوله: «لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ » (2)فلما تابوا ردّه عنهم ثم احدثوا الثانية، فبعث اللّه اليهم ارميا فقام فيهم بوحى اللّه، فضربوه و قيّدوه و سجنوه فغضب اللّه لذلك و سلط عليهم بخت نصر ثانيا، فقتل منهم و صلب و احرق و سبى ذراريهم و نسائهم، و الّذين فرّوا منهم ارتحلوا الى حدود المدينة، كيهود خيبر و بنى قريظة و النضير و بنى قينقاع. و قوله: فما اشدّ اعتدال الأحوال اى: تساوى احوالكم بأحوالهم فى لزوم الخير لهم بالالفة و الاجتماع. و لزوم الشر بتفرّق الكلمة. و مهافى الريح مواضعها اى: حركتها اى هى البرارى و القفار. و النكد. شدّة العيش و قلته. و العالة: جمع عائل و هو الفقير و العيلة: الفقر. و استعار لفظ الجناح للدعوة الحاملة لهم. و الازل: الشدّة. و الموؤدة: البنت. و قد كانت العرب تقتل البنات حين يولدن لهم و اليه الاشارة بقوله تعالى: «وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ »(3). و شن الغارة فرقها. و الرسول المبعوث اليهم محمد صلى اللّه عليه و آله. و قوله: و التقت الى قوله: بركتها اى و اشتملت عليهم فى بركتها.
ص: 461
و الفكاهة: طيب النفس و السرور. و ترفّعت: تمكّنت. و السلطان القاهر: سلطان الاسلام. و كنى بعدم غمز قناتهم عن قوّتهم، و عدم انقهارهم للغير، و كذلك بعدم قرع صفاتهم و نقض الأيدى من حبل الطاعة: كناية عن تركها. و حصن اللّه: الاسلام. و وبّخهم بصيرورتهم اعرابا بعد الهجرة لنقصان الاعرابى عن رتبة الصحابة فضلا عن المهاجرين. و الاحزاب الفرق تنقسم لمحاربة الانبياء و اوصيائهم. و لما انقسم هؤلاء الى مارقين، و ناكثين، و قاسطين، و حاربوه كانوا اخوانا. و قولهم: النار و لا العار: كلمة تقرّ لها اهل الكبر و الانفة من احتمال الاذى و الضيم لأنفسهم، او لقولهم فى الاستنهاض للفتنة. و النار و العار: منصوبان بفعلين مضمرين. و كفأت الأناء كبيته لوجهه. و قوله فانّكم الى قوله: بينكم تحذير من الاعتماد على عزّ الاسلام من حمية او شجاعة او كثرة قبيلة مع الخروج عن سلطان الدّين، و التغرّر به لاستلزام ذلك خذلان الملائكة لهم، و الخروج عن الهجرة و النصرة. و نصب جبرئيل و ميكائيل، على انّهما اسمان ملاحظا فيهما التنكير، و الاستثناء منقطع. و الأمثال التي عندهم: هو ما ضربه اللّه لهم من الأمثال بالقرون الماضية عند خروجهم عن طاعة انبيائهم، و التفرّق فى دينهم و باللّه التوفيق. الثالث فى اقتصاصه عليه السلام بحاله فى تكليفه، و شرح حاله مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من اوّل عمره و التّنبيه على موضعه منه، و ذلك قوله:
ألا و قد أمرنى اللّه بقتال أهل البغي و النّكث، و الفساد فى الأرض: فأمّا النّاكثون فقد قاتلت، و أمّا القاسطون فقد جاهدت، و أمّا المارقة فقد دوّخت، و أمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره، و بقيت بقيّة من أهل البغى و لئن أذن اللّه فى الكرّة عليهم لأديلنّ منهم، إلاّ ما يتشذّر فى أطراف البلاد تشذّرا. أنا وضعت فى الصّغر بكلا كل العرب، و كسرت نواجم قرون ربيعة و مضر، و قد علمتم موضعى من رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة، وضعنى فى حجره و أنا وليد يضمّنى إلى صدره، و يكنفني فى فراشه، و يمسّنى جسده، و يشمّنى عرفه، و كان يمضغ الشّىء ثمّ يلقمنيه، و ما وجد لى كذبة فى قول، و لا خطلة فى فعل، و لقد قرن اللّه به، صلّى اللّه عليه و آله، من لدن أن كان فطيما
ص: 462
أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره، و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه علما، و يأمرنى بالاقتداء به، و لقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء، فأراه و لا يراه غيرى، و لم يجمع بيت واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و خديجة، و أنا ثالثهما، أرى نور الوحى و الرّسالة، و أشمّ ريح النّبّوة. و لقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحى عليه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت:
يا رسول اللّه، ما هذه الرّنة ؟ فقال: «هذا الشّيطان أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبىّ ، و لكنّك وزير، و إنّك لعلى خير». و لقد كنت معه، صلّى اللّه عليه و آله، لمّا أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمّد، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك و لا أحد من بيتك، و نحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه، و أريتناه علمنا أنّك نبىّ و رسول، و إن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال صلّى اللّه عليه و آله: و ما تسألون ؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها و تقف بين يديك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه على كلّ شيء قدير، فإن فعل اللّه لكم ذلك أ تؤمنون و تشهدون بالحقّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنّى سأريكم ما تطلبون، و إنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير، و إنّ فيكم من يطرح فى القليب، و من يحزّب الاحزاب، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله: يا ايّتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الآخر و تعلمين أنّى رسول اللّه فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ بإذن اللّه. و الّذى بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دوىّ شديد، و قصف كقصف أجنحة الطّير، حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مرفوفة، و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ببعض أغصانها على منكبى و كنت عن يمينه صلّى اللّه و آله و سلّم، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا و استكبارا: فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويّا، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا كفرا و عتوّا: فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فرجع فقلت أنا: «لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ »، فإنّى أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه، و أوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تصديقا بنبوّتك و إجلالا لكلمتك، فقال القوم
ص: 463
كلّهم: بل ساحر كذّاب! عجيب السّحر خفيف فيه، و هل يصدّقك فى أمرك إلاّ مثل هذا؟! (يعنونني) و إنّى لمن قوم لا تأخذهم فى اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصّدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل و منار النّهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه و سنن رسوله، لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون، و لا يفسدون: قلوبهم فى الجنان، و أجسادهم فى العمل.
اقول: اهل البغى: أهل الشام. و أهل النكث: أصحاب الجمل، و اهل الفساد.
و المارقة: الخوارج و تسمية الاوّلين بغاة لقوله تعالى: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى اَلْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي»(1) و سمّى الناكثون بذلك: لنكثهم بيعته. و امّا المارقون: فلقوله صلى اللّه عليه و آله: لذى الثدية من الخوارج، يخرج من ضئضئ هذا، اى: من اصله قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية. و امّا امر اللّه تعالى ايّاه بقتال هذه الفرق، فلما ثبت عن الرسول صلى اللّه عليه و آله انّه قال: انّك ستقاتل بعدى الناكثين و القاسطين و المارقين، و هو اخبار فى معنى الامر، و امر الرسول صلى اللّه عليه و آله من امر ربّه و يحتمل ان يكون ذلك الامر فى قوله تعالى: «فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي» و قوله: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً»(2) الآية. و دوّخت: قهرت و اذللت.
الردهة: النقرة تكون فى الجبل يجتمع فيه الماء. و امّا شيطان الردهة فقيل: اراد به ذا الثدية، و كونه شيطانا باعتبار اغوائه لأصحابه. و اضافته الى الردهة لانّه وجد قتيلا فى نقرة فيها ماء، بعد قتل الخوارج، و امّا الصعقة، فقيل: انّ ذا الثدية اصابه من خوفه عليه السلام غشى، و قيل: يحتمل ان يريد الشيطان المعهود، و هو و ان كان لا يرى بحسّ البصر الاّ انّ الانبياء و الأولياء عليهم السلام قد يشاهدون الامور المجرّدة و المعاني المعقولة كالملائكة و الجن، و الشيطان، فى صورة محسوسة باستعانة من القوّة المتخيّلة و الوهمية كما قرّر فى مظانه. فيحتمل ان يقال: انّه عليه السلام رأى الشيطان بصورة محسوسة، و لما كان فى مقام العصمة و ملكة النصر على الشيطان، و قهره و ابعاده سمع من جلباب العزّة صيحة العذاب ارسلت على الشيطان، فسمع لها وجيب قلبه و رجّة صدره، كما سمع رنّته
ص: 464
فيما يحكيه فى آخر الكلام.
و قيل: اراد به شيطانا من شياطين الجنّ الّذين قاتلهم فى البئر. و اراد بالردهة: البئر المعهودة و البقية من اهل البغى، كمعاوية، و من بقى من اصحابه بعد وقائع صفين. و قوله: لأديلنّ منهم اى: لأغلبنّهم. و الادالة: الغلبة. و هذا الحكم منه عليه السلام ثقة بقوله:
«وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » و اذن اللّه اشارة: الى توفيقه لأسباب العود اليهم. و التشذّر:
التفرّق. و استعار لفظ الكلاكل و هى: الصدور لاكابر العرب: و رؤساء القبائل الذين قتلهم فى صدر الاسلام. و وضعت بهم اى: اوقعت بهم القتل و الاذلال. و قيل: الباء زائدة. و لفظ القرون لأكابر ربيعة و مضر، و نواجمها: من ظهر منهم و اشتهر. و قوله: و قد علمتم الى آخره: ذكر لفضيلته و قربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغاية طاعته. و كنفه يكنفه اى: ضمّه و احاطه. و الخطلة: السيئة من قول و فعل و أشار بأعظم ملك الى جبرئيل عليه السلام. و حرّاء بالكسر و المدّ جبل بمكة يذكّر و يؤنث. و استعار لفظ النور:
لما يشاهده بعين بصيرته، من اسرار الوحى و الرسالة و علوم التنزيل و دقائق التأويل.
و اشرافها على نفسه القدسيّة. و لفظ الريح لما ادركه من ذلك. و امّا سماعه لرنّة الشيطان فهو انّ نفسه القدسيّة اخذت معنى الشيطان مقرونا بمعنى اليأس من اتباع الناس لأمره و الحزن على ذلك. و كسته المتحيّلة صورة حزين صارخ و حطته الى لوح الخيال، فصار مسموع الرنّة كما رآه النبي عليه السلام. و القصف: صوت جناح الطائر. و فى قوله: و لقد كنت معه الى قوله يعنونني: نقل لاربع معجزات للنبى صلى اللّه عليه و آله، و هو اخباره:
انّ السائلين لا يفيئون الى خير اى: لا يرجعون. و انّ منهم من يطرح فى القليب، و هو قليب بدر، فمنهم عتبة، و شيبة، ابنا ربيعة، و اميّة بن عبد شمس، و ابو جهل، و الوليد بن المغيرة، طرحوا فيه بعد انقضاء الحرب. و من يحزب الاحزاب كأبى سفيان، و عمرو بن عبد ودّ، و صفوان بن امية، و عكرمة بن ابى جهل.
الثانية اجابة الشجرة لدعائه و هو مشهور فى كتب المحدّثين، و نقله المتكلمون فى معجزاته صلى اللّه عليه و آله.
الثالثة اجابة نصفها لدعائه مع بقاء نصفها.
الرابعة عود ذلك النصف الى موضعه و سرّه، ما علمت انّ نفوس الانبياء
ص: 465
عليهم السلام لها التصرّف فى هيولى عالم الكون و الفساد، بفعل ما يخرج عن وسيع مثلهم. و خطابه للنبات خطاب من يعقل: مجاز باعتبار اجابته لدعوته، كالعاقل و هذا الخطاب على رأى الاشعرىّ جائز ان يكون حقيقة اذ لا يجعلون البيّنة شرطا فى الحياة و ما يتعلق بها من السمع و الفهم. و امّا على رأى المعتزلة فقيل: الخطاب للّه فكأنه قال:
(اللهم ان كنت صادقا فى رسالتك فاجعل ما سألت من هذه الشجرة مصدّقا الى) و عدم لومة اللائم فى اللّه: كناية عن لزوم طاعته، و الصدّيقون هم ملازموا الصدق فى الأقوال و الأفعال طاعة للّه. و سيماهم: علامتهم. و كلام الأبرار الامر بالمعروف و النهى عن المنكر. و الذكر الدائم لمعبودهم، و عمارتهم الليل قيامهم فيه بالعبادة، و كونهم منارا بالنهار اى: اعلاما باعتبار هدايتهم للخلق الى طريق الحق. و الغلول: الخيانة. و قلوبهم فى الجنان اى: يشاهدون بأسرارهم و نفوسهم القدسيّة ما اعدّ فيها من الخيرات الباقية و ان كانت أبدانهم فى الدنيا مشغولة بعبادة ربّهم و العمل له و باللّه التوفيق.
جفاة طغام، عبيد أقزام، جمّعوا من كلّ أوب، و تلقّطوا من كلّ شوب، ممّن ينبغي أن يفقّه و يؤدّب، و يعلّم و يدرّب، و يولّى عليه، و يؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين و الأنصار، و لا من الّذين تبوّاؤا الدّار. الا و إنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا يحبّون، و انّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون، و إنّما عهدكم بعبد اللّه بن قيس بالأمس يقول «إنّها فتنة فقطّعوا أوتاركم، و شيموا سيوفكم» فإن كان صادقا، فقد أخطأ بمسيره غير مستكره، و إن كان كاذبا فقد لزمته التّهمة، فادفعوا فى صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن عبّاس، و خذوا مهل الأيّام، و حوطوا قواصى الإسلام. أ لا ترون إلى بلادكم تغزى، و إلى صفاتكم ترمى.
ص: 466
أقول: الجفاة: غلاظ الطباع. و الطغام: اوغاد الناس و أراذلهم. و الاقزام: جمع قزم بفتح الزاء و هو الرّذال الدّنى من الناس. و الاوب: الناحية. و الشوب: الخلط. و يدرّب:
يعوّد بالعادات الجميلة: و يولّى عليه و يؤخذ على يديه: كنايتان عن سفهه و وجوب الحجر عليه. و اراد بالدار: مدينة الرسول صلى اللّه عليه و آله. و تبوّؤها: نزولها اى: ليسوا من الانصار الذين اسلموا بالمدينة قبل الهجرة و ابتنوا بها المساجد. و فى بعض النسخ و الايمان، و وصفه بكونه متبوّأ مستعارا تشبيها له بالمنزل، باعتبار انّهم ثبتوا عليه و سكنت قلوبهم اليه. و اراد بالقوم: اهل الشام، و الّذى اختاره لانفسهم هو عمرو بن العاص فانّهم اختاروه للحكومة و ما يحبّونه هو النصرة على اهل العراق، و الّذى اختاره اهل العراق هو ابو موسى الاشعرى، و كان اقرب القوم بما يكرهون من صرف الأمر عنهم لانحرافه عنه عليه السلام. و قوله: انّها فتنة فالضمير لحرب على عليه السلام لاهل الشام، و اصحاب الجمل. و شيموا سيوفكم اى اغمدوها. و مهل الايام: فسحتها لما ينبغي أن يعمل فيها.
و حياطة قواصى الاسلام حفظ اطراف بلاده كاطراف الحجاز و العراق و الجزيرة، و رمى صفاتهم كناية عن طمع العدوّ فيهم و ايقاع الغارة ببلادهم. و باللّه التوفيق.
هم عيش العلم، و موت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، و صمتهم عن حكم منطقهم: لا يخالفون الحقّ ، و لا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، و ولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّ فى نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدّين عقل وعاية و رعاية، لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير، و رعاته قليل.
اقول: عيش العلم: حياته، و يجوز فيهم بلفظ العيش باعتبار انّهم سببه، و كذلك لفظ موت الجهل و اخبار حلمهم عن علمهم: دلالته عليه دلالة الالتزام، لانّ حلمهم فى مواضعه فهو يستلزم العلم بمواضعه، و كذلك دلالة صمتهم عن حكمتهم لانّ السكون فى
ص: 467
موضعه حكمة، و علم بما ينبغي من الصمت و القول. و عدم اختلافهم فى الحقّ : كناية عن كمال علمهم به، و استعار لفظ الدعائم، و لفظ الولائج: جمع وليجة و هى الموضع يعتصم بدخوله، باعتبار أنّ قيام الاسلام بهم و انّ الخلق يعتصمون بالدخول فى طاعتهم و هدايتهم الى اللّه. و النصاب: الاصل. و باللّه التوفيق.
قاله لعبد اللّه بن عباس - رحمهما اللّه - و قد جاءه برسالة من عند عثمان و هو محصور يسأله فيها الخروج الى ماله بينبع ليقلّ هتف الناس باسمه للخلافه بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال - عليه السلام -:
يا ابن عبّاس، ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب أقبل و أدبر: بعث إلىّ أن أخرج، ثمّ بعث إلىّ أن أقدم، ثمّ هو الآن يبعث إلىّ أن أخرج، و اللّه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما.
اقول ينبع(1): قرية صغيرة من اعمال المدينة. و الناضح: الجمل يستبقى عليه.
و الغرب: الدلو العظيمة. و استعار لفظ الناضح له، و وجه الاستعارة قوله: اقبل و ادبر. و كان بعث اليه أن اخرج الى القوم و كلمّهم حتى أخرج اليهم من مظالمهم.
و اللّه مستأديكم شكره، و مورثكم أمره، و ممهلكم فى مضمار محدود، لتتنازعوا سبقه. فشدّوا عقد المآزر، و اطووا فضول الخواصر، لا تجتمع عزيمة و وليمة، ما أنقض النّوم لعزائم اليوم، و أمحى الظّلم لتذاكير الهمم!!
ص: 468
اقول: استيداء: شكره طلب ادائه على نعمه، و أمره سلطانه فى الارض الذى كان فيمن سلف من اهل طاعته. و المضمار: الموضع و الزمان يضمر فيه الخيل للسباق، و استعار لفظه لمدّة الحياة الدنيا باعتبار استعدادهم فيها بتقوى اللّه لغاية السبق اليه، و غاية ذلك الامهال ان يتنازعوا سبقه و السبق و السبقة: ما تسبق اليه من خطر. و الضمير فى سبقة، للمضمار اذ غايته ذلك، و سبقه هو الجنة و اراد بالتنازع: ما يعرض للسالكين من حرص كل امرئ منهم على ان يكون هو الأكمل فى طاعة اللّه الفائز بقصب السبق اليه، و شدّ عقد المآزر: كناية عن التشمير و الجدّ فى الطاعة، و طيّهم لفضول الخواصر: كناية عن تقليل المآكل و المشارب. و الاقتصار على الاقتصاد فى متاع الدنيا. و قوله: لا تجتمع عزيمة و وليمة ما انقض النوم لعزائم اليوم مثل، و اصله، انّ الانسان يعزم فى النهار على المسير بالليل لتقريب المنزل، فاذا جاء الليل نام الى الصباح فينتقض بذلك عزمه، فضربه مثلا لمن يعزم على تحصيل معالى الامور ثم يلزم الأناة فى ذلك، و اراد انّ حبكم للدعة و الراحة من مشقة الجهاد: ينتقض بما تعزمون على تحصيله من السعادة فى الدنيا و الآخرة. و كذلك قوله: و امحى الظلم لتذاكير الهمم و اصله انّ الرجل تبعثه همّته فى مطالبه على المسير بالليل، فاذا جن الظلام ادركه الكسل و غلبه حبّ النوم على ذكر مطالبه و صرفه عنها، فضرب مثلا لمن يدعوه الداعى الى امر و يهتمّ به، ثم يعرض له ادنى صارف فيصرفه عنه و هو كالّذى قبله. و باللّه التوفيق.
اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلى اللّه عليه و آله، ثم لحاقه به:
فجعلت أتّبع مأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج (فى كلام طويل) قال الشريف: قوله عليه السلام «فأطأ ذكره» من الكلام الذى رمى به إلى غايتى الإيجاز و الفصاحة، أراد إنى كنت أعطى خبره، صلى اللّه عليه و آله و سلم من بدء خروجى إلى أن انتهيت إلى الموضع، فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة.
ص: 469
اقول: الفصل من كلام يحكى فيه حاله فى خروجه من مكة الى المدينة، بعد هجرة النبي صلى اللّه عليه و آله(1) اليها. و كان قد تخلف عنه بمكة لقضاء دينه، و ما امره به ثم لحق به فجاء المدينة راجلا (قد تورّمت قدماه)(2) و قد نزل على ابى ايّوب الانصارى بالمدينة و مأخذه الجهة التي سلكها. و العرج: موضع، و استعار وصف الوطى: لوقوع قدم ذهنه على ذكره، و العلم بخبره صلى اللّه عليه و آله من الناس فى تلك الطريق. و قيل: اراد بذكره ما ذكره و وصفه من الطريق و حالها. و باللّه التوفيق(3).
ص: 470
باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام(1)إلى أعدائه و أمراء بلاده و يدخل فى ذلك ما اختير من عهوده الى عماله و وصاياه لاهله و اصحابه
من عبد اللّه على أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار و سنام العرب. أمّا بعد، فإنّى أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعه كعيانه، إنّ النّاس طعنوا عليه فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه، (و أقلّ عتابه) و كان طلحة و الزّبير أهون سيرهما فيه الوجيف، و أرفق حدائهما العنيف، و كان من عائشة فيه فلتة غضب، فأتيح له قوم فقتلوه، و بايعنى النّاس غير مستكرهين و لا مجبرين، بل طائعين مخيّرين. و اعلموا أنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها، و جاشت جيش المرجل، و قامت الفتنة على القطب، فأسرعوا إلى أميركم، و بادروا جهاد عدوّكم، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
اقول: الوجيف: ضرب من السير فيه سرعة. و العنف: ضد الرفق. و حال الرجلين فى التحريض على قتل عثمان مشهور فى السّير. و امّا الفلتة من قول عايشة، فروى انّها كانت تقول: اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا(2). و امّا الغضب الذى: وقع بسببه الفلتة من قولها فالسبب الظاهر هو ما نقمه المسلمون عليه.
ص: 471
و روى، انّه صعد المنبر يوما و غصّ المسجد بأهله، فمدّت يدها من وراء الستر و فيها نعلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قميصه، و قالت: هذان نعلا رسول اللّه (ص) بعد لم تبل، و قد بدّلت دينه و غيّرت سنته، و اغلظت له فى القول، و اغلظ لها، و كان ذلك من اقوى الاسباب للاغراء به. و الفلتة: البغتة من غير تروّ. و اتيح: قدّر. و دار الهجرة: المدينة.
و قلع المنزل باهله اذا نبا بهم فلم يصلح لاستيطانهم. و المرجل: القدر. و جيشانها:
غليانها. و اراد اعلام الكوفة بنهوض اهل المدينة لقتال أصحاب الجمل لينهضوا معهم.
و جزاكم اللّه من أهل مصر عن أهل بيت نبيّكم، أحسن ما يجزى العاملين بطاعته، و الشّاكرين لنعمته، فقد سمعتم و أطعتم، و دعيتم فأجبتم.
اقول الكتاب الى اهل الكوفة، و الفصل واضح.
روى أن شريح بن الحارث قاضى أمير المؤمنين عليه السلام اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا فبلغه ذلك، فاستدعاه و قال له: بلغنى انك ابتعت دارا بثمانين دينارا و كتبت كتابا و أشهدت [فيه] شهودا، فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال:
فنظر إليه نظر مغضب ثم قال له:
يا شريح، أما سيأتيك من لا ينظر فى كتابك، و لا يسألك عن بيّنتك، حتّى يخرجك منها شاخصا، و يسلّمك إلى قبرك خالصا، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدّار من غير مالك، أو نقدت الثّمن من غير حلالك! فإذا أنت قد خسرت دار الدّنيا و دار الآخرة!
ص: 472
أما إنّك لو كنت أتيتنى عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النّسخة، فلم ترغب فى شراء هذه الدّار بدرهم فما فوق، و النّسخة هذه. بِسْمِ اللّٰه الرَّحْمٰنِ الرَّحيم هذا ما اشترى عبد ذليل، من عبد قد أزعج للرّحيل، اشترى منه دارا من دار الغرور من جانب الفانين، و خطّة الهالكين، و تجمع هذه الدّار حدود أربعة: الحدّ الأوّل: ينتهى إلى دواعى الآفات، و الحدّ الثّانى ينتهى إلى دواعى المصيبات، و الحدّ الثّالث ينتهى إلى الهوى المردى، و الحدّ الرّابع ينتهى إلى الشّيطان المغوى، و فيه يشرع باب هذه الدّار!! اشترى هذا المغترّ بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، هذه الدّار بالخروج من عزّ القناعة، و الدّخول فى ذلّ الطّلب و الضّراعة، فما أدرك هذا المشترى فيما اشترى منه من درك فعلى مبلبل أجسام الملوك، و سالب نفوس الجبابرة، و مزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى و قيصر، و تبّع و حمير، و من جمع المال على المال فأكثر، و من بنى و شيّد، و زخرف و نجّد، و ادّخر و اعتقد، و نظر بزعمه للولد، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب، و موضع الثّواب و العقاب، إذا وقع الأمر بفصل القضاء «وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ »(1) شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، و سلم من علائق الدّنيا أقول: الشاخص: الداخل و اراد بمن يأتيه ملك الموت. و حاصل الكتاب التنفير عن الدنيا. و الركون الى فضولها، و فيه نكت:
احداها، وصف المشترى بالعبوديّة و الذلّة كسرا لما يعرض فى نفسه، من العجب و الفخر بشراء هذه الدار، و صفة البايع بالميّت، تنزيلا لما بالقوة مكان ما بالفعل مجازا للتحذير.
الثانية، انّ قوله من جانب الفانين الى قوله: الهالكين، ابتداء فى التعيين بالأعم و انتهاء بالأخص، كما جرت العادة به فى كتب البيع. و الخطّة بالكسر: البقعة يختطها
ص: 473
الرجل ليبتنى بها.
الثالثة، جعل الحدّ الاول دواعى الآفات، و اشار به الى ما يلزم الدار لزوما اولا من كمالاتها الضرورية كالمرأة، و الخادم و الدّابة و ما يلزم ذلك و يلحقهم من الأولاد و الاتباع و القينات و هى: دواعى الآفات لانّ كلاّ منها فى معرض الآفات.
الرابعة، جعل الحدّ الثاني دواعى المصيبات، و اشار بها الى الامور المذكورة باعتبار آخر اذ كانت من حيث يلحقها الآفات تدعوا صاحبها الى المصيبات بها.
الخامسة، جعل الحدّ الثالث ما ينتهى اليه من الهوى المردى. اذ كان اقتناء الدار و كمالاتها فى الدنيا و خوف فواتها و المصيبة بما فيها مرّة بعد اخرى يوجب محبّة النفس لها، و الألفة التامة بها، و ذلك هو الهوى المردى فى قرار النار المهلك فيها.
السادسة، جعل الحد الرابع ما ينتهى الى الشيطان المغوى لانّه الحدّ الأبعد الذى ينتهى اليه الهوى المردى، و كونه مغويا يعود الى جذبه للنفس عن سبيل اللّه الواضح. و كونه مشرع باب هذه الدار باعتبار كونه مبدأ باغوائه للدخول فى الدواعى الباعثة على شرائها، و اقتناء ما يلزمها فالشيطان كالحدّ و ما صدر عنه و انفتح بسببه من الدخول فى امر الدار و شرائها.
السابعة، جعل الثمن هو الخروج عن عزّ القناعة و الدخول فى ذلّ الطلب. و الضراعة.
اما خروجه بها عن القناعة فلأنها كانت فضلة فى حقه عن الحاجة الى الخلق. و لما كانت القناعة مستلزمة لأقليّة الحاجة الى الخلق المستلزمة لعزّ القناعة و غناها عنهم، كان الخروج عن ذلك خروجا الى ذلّ الطلب الى الناس و الضراعة.
الثامنة، علق الدرك و التبعة اللازمة فى هذا المبيع بملك الموت قطعا لأمل الدرك، و التبعة، و تذكيرا بالموت لغاية الأمل له. و كنى عنه بمبلبل اجسام الملوك، الى قوله للولد: تنبيها على انّ المشترى اولى بذلك. و البلبلة: الاضطراب و الاختلاط و افساد الشيء. و كسرى: لقب ملوك الفرس كاسم الجنس، و كذلك قيصر: لملوك الروم، و تبّع:
لملوك اليمن و حمير: ابو قبيلة فى اليمن و هو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. و التنجيد: تزيين الارض بالبسط و نحوها. و نظر للولد: فكر فى عاقبته فجمع له.
التاسعة، جعل الشاهد بجميع ما عدّده هو العقل المجرّد من مشاركة الهوى و النفس
ص: 474
الامارة، و هو كلام فى غاية الشرف و الفصاحة.
فإن عادوا إلى ظلّ الطّاعة فذلك الّذى نحبّ ، و إن توافت الأمور بالقوم إلى الشّقاق و العصيان، فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، و استغن بمن انقاد معك عمّن تقاعس عنك، فإنّ المتكاره مغيبه خير من مشهده، و قعوده أغنى من نهوضه.
اقول: الفصل من كتاب له الى عثمان بن حنيف، عامله على البصرة حين قدم طلحة و الزبير اليها و نكث معهما جماعة من اهلها، و خرجوا عن الطاعة، و استعار لفظ الظلّ ، لما يستلزمه الطاعة من الراحة عن متاعب الحرب. و توافت بهم الامور اى: توافقت أسباب العصيان و الشقاق، حتى تمّت علّتاهما و وجبا عنهما. و انهد اى: انهض. و تقاعس:
تأخر و قعد. و المتكاره للشيء: هو الّذى يتعاطى كراهيته، و مغيبه خير من محضره لانّه ربما ثبّط الناس عن الحرب و اقتدوا به فى عدم المنفعة.
و إنّ عملك ليس لك بطعمة، و لكنّه فى عنقك أمانة، و أنت مسترعى لمن فوقك. ليس لك أن تفتات فى رعيّة، و لا تخاطر إلاّ بوثيقة، و فى يديك مال من مال اللّه عزّ و جلّ ، و أنت من خزّانه حتّى تسلّمه إلىّ ، و لعلىّ أن لا أكون شرّ و لا تك لك و السّلام.
اقول: ليس لك ان تفتات فى رعية، اى: تستبدّ بحكم فيهم و تسبق اليه دون اذن ممن استرعاك. و المخاطرة: الاقدام على الامور العظام، و الاشراف فيها على الهلاك.
ص: 475
و الوثيقة: ما يوثق به فى الدّين. و اتى بلفظ الترجّى اطماعا له بعدم الايقاع به، و المؤاخذة له كى لا يفرّ الى العدوّ لانّه كان خائفا منه.
و روى انّه استقدمه الى الكوفة فلما قدم فتّش ثقله، فوجد فيه مائة الف درهم فأخذها فاستشفع بالحسن و الحسين عليهما السلام، و بعبد اللّه بن جعفر، فاطلق له منها ثلاثين الفا، فقال: لا يكفيني، فقال: لست بزائدك درهما واحدا و ما اظنها تحلّ لك فقال الأشعث: خذ من خدعك ما اعطاك.
إنّه بايعنى القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشّاهد أن يختار، و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشّورى للمهاجرين و الأنصار. فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك للّه رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، و ولاّه اللّه ما تولّى. و لعمرى - يا معاوية - لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّى أبرأ النّاس من دم عثمان، و لتعلمنّ أنّى كنت فى عزلة عنه، إلاّ أن تتجنّى، فتجنّ ما بدا لك، و السّلام.
اقول: انّما احتجّ عليه السلام على القوم بالإجماع لاعتقادهم انّه لم يكن منصوصا عليه، فلو احتجّ بالنص لم يقبل منه و لم يسلم له. و التجنّى دعوى الجناية ممن لم يفعلها، و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فقد أتتنى منك موعظة موصّلة، و رسالة محبّرة، نمّقتها بضلالك، و أمضيتها
ص: 476
بسوء رأيك! و كتاب امرىء ليس له بصر يهديه، و لا قائد يرشده، قد دعاه الهوى فأجابه، و قاده الضّلال فاتّبعه، فهجر لاغطا، و ضلّ خابطا و من هذا الكتاب: لأنّها بيعة واحدة لا يثنّى فيها النّظر، و لا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن، و المروّى فيها مداهن.
اقول: موصلة: ملتقطة من كلام الناس ملفقة لا تتناسب وصولها. و محبّرة: مزيّنة.
و التنميق: التزيّين بالكتابة. و البصر هنا البصيرة، و يحتمل ان يريد الحسّ باعتبار عدم اهتدائه من جهته. و القائد: الهادى فى سبيل. و هجر: هذى و افحش فى منطقه. و اللغط:
الأصوات المختلطة، و الخبط: الحركة على غير نظام.
اقول: هذا جواب لفصل ذكره معاوية فى كتابه و صورته: و لعمرى ما حجّتك على اهل الشام كحجّتك على اهل البصرة، و لا حجّتك عليّ كحجتك على طلحة و الزبير، لأنهما بايعاك و لم ابايعك، و اوّل الجواب. و امّا ما ميزّت به بين اهل الشام و اهل البصرة و بينك و بين طلحة و الزبير، فلعمرى ما الأمر فى ذلك الاّ واحدا لانّها بيعة واحدة الى آخره.
و فى نسخة لانّها بيعة عامة... و قوله: الخارج منها، الى آخره، قسمة لمن لم يدخل فى بيعته الى قسمين: لانّه امّا خارج عنها، و هو الطاعن فى صحّتها، و يجب مجاهدته لمخالفة سبيل المؤمنين، و امّا منزو فى ذلك و متوقّف، و حكمه انّه يداهن و هو نوع من النفاق، و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فإذا أتاك كتابى فاحمل معاوية على الفصل، و خذه بالأمر الجزم، ثمّ خيّره بين حرب مجلية، أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، و إن اختار السّلم فخذ بيعته، و السّلام.
ص: 477
اقول: الفصل فصل الحال معه فى الحرب و غيرها، لانّ معاوية كان يتلوّن أيام المهلة ليستعدّ له فلا يجيبه بجواب فاصل. و مجلبة: تجلّى عن الوطن. و سلم مخزية: فيها ذلّ - و روى مجزية - بالجيم - اى: كافية. و النبذ: الالقاء و هو كناية عن القاء الوعيد بالحرب او عن إيقاعها.
فأراد قومنا قتل نبيّنا، و اجتياح أصلنا، و همّوا بنا الهموم، و فعلوا بنا الأفاعيل، و منعونا العذب، و أحلسونا الخوف، و اضطرّونا إلى جبل وعر، و أوقدوا لنا نار الحرب، فعزم اللّه لنا على الذّبّ عن حوزته، و الرّمى من وراء حرمته: مؤمننا يبغى بذلك الأجر، و كافرنا يحامى عن الأصل، و من أسلم من قريش خلو ممّا نحن فيه بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمن. و كان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذا احمرّ البأس، و أحجم النّاس قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة و السّيوف، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، و قتل حمزة يوم احد، و قتل جعفر يوم مؤتة، و أراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الّذى أرادوا من الشّهادة، و لكن آجالهم عجّلت، و منيّته أجّلت، فيا عجبا للدّهر إذ صرت يقرن بى من لم يسع بقدمى، و لم تكن له كسابقتى، الّتى لا يدلى أحد بمثلها إلاّ أن يدّعى مدّع ما لا أعرفه، و لا أظنّ اللّه يعرفه، و الحمد للّه على كلّ حال. و أمّا ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فانّى نظرت فى هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك و لا إلى غيرك، و لعمرى لئن لم تنزع عن غيّك و شقاقك، لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك، لا يكلّفونك طلبهم فى برّ و لا بحر، و لا جبل و لا سهل، إلاّ أنّه طلب يسوءك وجدانه، و زور لا يسرّك لقيانه، و السّلام لأهله.
ص: 478
اقول: حاصل الفصل ذكر فضيلته عليه السلام و بلائه فى الاسلام، ليتبيّن قياس غيره اليه، و لذلك بنى عليه التعجب من مساواته بغيره.
و همّوا بنا الهموم، ارادوا بنا: الارادات. و أراد بالأفاعيل: الشرور. و العذب:
طيب العيش، و قيل: الماء فانّ قريشا منعتهم الطعام و الشراب. و الحلس: كساء رقيق يجعل تحت قتب البعير، فاستعار وصف الاحلاس لاخافتهم. و الجبل الوعر: من شعاب مكة، و قد كانت قريش حين فشا الاسلام فى القبائل اجتمعت و تعاهدت على ان لا يناكحوا بنى هاشم و بنى عبد المطلب، و لا يبايعوهم فانحاز هؤلاء الى ابى طالب فدخلوا معه شعبه، و خرج من بنى هاشم ابو لهب و ظاهر المشركين، و قطعوا عنهم الميرة، و حصروهم فى ذلك الشعب فى اوّل سنة سبع من النبوّة و بقوا كذلك ثلاث سنين لا يخرجون الاّ فى الموسم، و عزم اللّه ارادته الحازمة لهم و اختياره ان يذبّ عن حوزة دينه و حرمته و حرمة دينه، و كافرهم يومئذ كحمزة و العباس و ابى طالب على قول، فانّهم كانوا يمنعون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حميّة لأصلهم و بيتهم و من كان يومئذ قد اسلم من قريش عدا بنى هاشم، و عبد المطلب كانوا خالين من الخوف و الجهاد، فمنهم من كان له عهد به و حلف مع المشركين يمنعه، و منهم من كان له عشيرة يحفظه، و عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب. و بدر: اسم بئر. و احد: اسم جبل. و مؤته بالضّم: اسم ارض بأدنى البلقاء دون دمشق.
و من لو شئت ذكره، يعنى نفسه. و واقعة بدر، واحد، و مؤته، و غيرها من وقائع الرسول صلى اللّه عليه و آله مع المشركين مشهورة فى التواريخ، و قد نبهنا على خلاصتها فى الاصل(1).
و من لم يسع بقدمه: كناية عمن لم يماثله فى الجهاد، و السعى فى اقامة الدين.
و الإدلاء بالشىء: التقرّب به. و قوله: و لا اظنّ اللّه يعرفه، كناية عمّا لا اصل له فانّ ما لا وجود له لا يعلمه اللّه موجودا. و امّا عدم تسليم قتلة عثمان الى معاوية فلوجوه منها:
انّه لم يكن ولىّ دمه. و منها انّه لم يعيّن قتلته و يدّعى عليهم و يحاكمهم الى الامام الحق. و منها انّه لما سئل عليه السلام تسليمهم، قال: و هو على المنبر ليقم قتلة عثمان
ص: 479
فقام اكثر من عشرة الاف من المهاجرين، و الانصار و غيرهم، و معلوم انّ مثل هذا الجمع العظيم لا يتمكّن عليه السلام، من اخذهم و تسليمهم الى غيره و لو امكن ذلك مع انّ فيهم من شهد النبي صلى اللّه عليه و آله له بالجنة كعمّار، فربّما اقتضى الاجتهاد ان لا يقتل هذا الجمع العظيم من قواعد الدين برجل واحد احدث احداثا نقموها عليه و قتلوه لأجلها.
و الزور الزائرون، و افرد ضميره، نظرا الى افراد اللفظ، و قيل: هو مصدر. و باللّه التوفيق.
و كيف أنت صانع إذا تكشّفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهّجت بزينتها، و خدعت بلذّتها، دعتك فأجبتها، و قادتك فاتّبعتها، و أمرتك فأطعتها. و إنّه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجنّ ، فاقعس عن هذا الأمر، و خذ أهبة الحساب، و شمّر لما قد نزل بك، و لا تمكّن الغواة من سمعك، و إلاّ تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك، فإنّك مترف قد أخذ الشّيطان منك مأخذه، و بلغ فيك أمله، و جرى منك مجرى الرّوح و الدّم. و متى كنتم يا معاوية ساسة الرّعيّة، و ولاة أمر الأمّة، بغير قدم سابق، و لا شرف باسق، و نعوذ باللّه من لزوم سوابق الشّقاء! و أخذّرك أن تكون متماديا فى غرّة الأمنيّة، مختلف العلانية و السّريرة. و قد دعوت إلى الحرب فدع النّاس جانبا و اخرج إلىّ ، و أعف الفريقين من القتال ليعلم أيّنا المرين على قلبه، و المغطّى على بصره، فأنا أبو حسن قاتل جدّك، و خالك و أخيك شدخا يوم بدر، و ذلك السّيف معى، و بذلك القلب ألقى عدوّى! ما استبدلت دينا، و لا استحدثت نبيا، و إنّى لعلى المنهاج الّذى تركتموه طائعين، و دخلتم فيه مكرهين. و زعمت أنّك جئت ثائرا بعثمان، و لقد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالبا، فكأنّى قد رأيتك تضجّ من الحرب إذا عضّتك ضجيح الجمال بالأثقال، و كأنّى بجماعتك تدعونى - جزعا من الضّرب المتتابع، و القضاء الواقع، و مصارع بعد مصارع - إلى كتاب اللّه و هى كافرة جاحدة، أو مبايعة حائدة.
ص: 480
اقول: استعار لفظ الجلابيب، لأغطية الهيئات البدنيّة من محبّة الدنيا و باطلها.
و الجلباب: الملحفة. و تبهّجت: تحسنت. و يوشك اى: يقرب. و ما لا ينجو منه: الموت و ما بعده من أهوال الآخرة التي هو غافل عنها فى الدنيا. و الواقف له امّا اللّه تعالى او يعنى نفسه على سبيل التهديد له بالقتل. و اقعس اى: تاخّر. و الاهبة: الاستعداد. و ما نزل به امّا الحرب او الموت و ما بعده: اقامه للمتوقّع مقام الواقع النازل. و المترف: من اطغته النعمة. و الباسق: العالى. و سوابق الشقاء: ما سبق منه فى القضاء الالهى، و اللوح المحفوظ فى حق كل شقّى و لزم وجوده. و الأمنية: ما تتمنّاه نفسه و ترجوه من الخلافة، و اختلاف علانيته و سريرته: كناية عن نفاقه. و الرين: التغطية. و المرين على قلبه: من غطّت عليه الذنوب و الهيئات الدنيويّة. و جدّه المقتول: هو جدّه لأمه عتبة بن ابى ربيعة ابو هند. و خالة الوليد بن عتبة، و اخوه حنظلة بن ابى سفيان، و قتلهم عليه السلام يوم بدر جميعا. و الثائر: الطالب بالدم. و الكافرة الجاحدة من اصحاب معاوية: اشارة الى المنافقين منهم.
و المبايعة الحائدة الّذين بايعوه و عدلوا عنه. و حاد عن الأمر: عدل عنه، و اطلاعه عليه السلام على مصارعهم و دعائهم الى كتاب اللّه قبل وقوع ذلك من آياته، و كرامته.
فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم فى قبل الأشراف، أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءا و دونكم مردّا، و لتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، و اجعلوا لكم رقباء فى صياصى الجبال، و مناكب الهضاب، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافة أو أمن، و اعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، و عيون المقدّمة طلائعهم، و إيّاكم و التّفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، و إذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا، و إذا غشيكم اللّيل فاجعلوا الرّماح كفّة، و لا تذوقوا النّوم إلاّ غرارا أو مضمضة.
ص: 481
أقول: المعسكر بالفتح: موضع العسكر. و الاشراف: جمع شرف بالفتح، و هو المكان العالى. و قبلها بضم القاف قدّامها. و سفح الجبل أسفله حيث يسيل الماء.
و اثناء الانهار: منعطفها. و الردء: العون فى المقاتلة و فائدة القتال من وجه او اثنين انّ القتال من جهات متفرقة يوجب الضعف و التفرق. و الرقيب: الحافظ. و صياصى الجبال:
اطرافها العالية. و الهضاب: الجبال المنبسطة على الأرض. و قوله: و اعلموا، الى قوله:
طلائعهم: ارشاد الى وجوب التأهب عند رؤية المقدّمة او الطليعة و ان قلّ عددهم. و كفة بالكسر اى: مستديرة. و الغرار: النوم القليل، و استعار له لفظ المضمضه، و باللّه التوفيق.
لمعقل بن قيس الرياحىّ (1) حين أنفذه إلى الشام فى ثلاثة آلاف مقدّمة له اتّق اللّه الّذى لا بدّ لك من لقائه، و لا منتهى لك دونه، و لا تقاتلنّ إلاّ من قاتلك، و سر البردين، و غوّر بالنّاس، و رفّه فى السّير، و لا تسر أوّل اللّيل، فإنّ اللّه جعله سكنا، و قدّره مقاما لاظعنا، فأرح فيه بدنك، و روّح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السّحر، أو حين ينفجر الفجر، فسر على بركة اللّه، فإذا لقيت العدوّ فقف من أصحابك وسطا، و لا تدن من القوم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، و لا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس، حتّى يأتيك أمرى، و لا يحملنّكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم و الاعذار إليهم.
أقول: البردين: الغداة و العشى. و التغوير: القيلولة. و قوله: فاذا وقفت: اشارة الى ما جرت العادة به من وقوف صاحب الجيش وقت السحر لاستعداد اصحابه للسير. و ينبطح: ينبسط و يتّسع. و فائدة وقوفه فى الوسط استواءه الى الطرفين فى وصول اوامره اليهما. و الشنئان: البغض و العداوة.
ص: 482
و قد أمّرت عليكما و على من فى حيّزكما مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له و أطيعا، و اجعلاه درعا و مجنّا، فإنّه ممّن لا يخاف وهنه، و لا سقطته، و لا بطؤه عمّا الإسراع إليه احزم، و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل.
أقول: الأميران هما: زياد بن النضر(1) و شريح بن هانى(2) و استعار له لفظ الدرع و المجن باعتبار قوّته و ضعته لقومه فى الحرب. و الوهن: الضعف. و السقطة: الزلّة فى الرأى و نحوه. امثل: أشبه و أولى.
لا تقاتلوهم حتّى يبدءوكم، فإنّكم - بحمد اللّه - على حجّة، و ترككم إيّاهم حتّى يبدءوكم حجّة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة باذن اللّه فلا تقتلوا مدبرا، و لا تصيبوا معورا، و لا تجهزوا على جريح، و لا تهجوا النّساء بأذى، و إن شتمن أعراضكم، و سببن أمراءكم، فإنّهنّ ضعيفات القوى و الأنفس و العقول، إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ و إنّهنّ لمشركات، و إن كان الرّجل ليتناول المرأة فى الجاهليّة بالفهر أو الهراوة، فيعيّر بها و عقبه من بعده.
ص: 483
اقول: المدبر: المولى هاربا. و المعور: الذى امكن من نفسه. و اعور الفارس: ظهر فيه موضع خلل للضرب فيه. و اجهز على الجريح قتله. و قد فرّق عليه السلام، بين هؤلاء البغاة، و بين الكفّار بما ذكر من الامور الأربعة و ان اوجب قتالهم و قتلهم. و هجت الشيء و اهجته: اثرته. و الفهر: حجر مستطيل املس يسحق به الطيب و نحوه. و الهراوة: كالدبوس من الخشب. و العقب: الولد من الذّكر و الأنثى.
اللّهمّ إليك أفضت القلوب، و مدّت الأعناق، و شخصت الأبصار، و نقلت الأقدام، و أنضيت الأبدان. اللّهمّ قد صرّح مكتوم الشّنآن، و جاشت مراجل الأضغان. اللّهمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا، و كثرة عدوّنا، و تشتّت أهوائنا «رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفٰاتِحِينَ »(1).
اقول: افضت: وصلت اليك خارجة عن كل شيء. و انضيت: اهزلت فى طاعتك و السفر الى جهاد عدوّك. و النضو الجمل، انهكه السير و اضعفه. و صرح: ظهر. الشنآن:
العداوة. و استعار لفظ المراجل: للصدور، و القلوب التي هى مظنة الاضغان و الاحقاد باعتبار ثورانها.
لا تشتدّنّ عليكم فرّة بعدها كرّة، و لا جولة بعدها حملة، و أعطوا السّيوف حقوقها، و وطّئوا للجنوب مصارعها، و اذمروا أنفسكم على الطّعن الدّعسىّ ، و الضّرب الطّلحفىّ ،
ص: 484
و أميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل، فو الّذى فلق الحبّة، و برأ النّسمة، ما أسلموا، و لكن استسلموا، و أسرّوا الكفر، فلمّا وجدوا أعوانا عليه أظهروه!! اقول: الفصل من كلام له عليه السلام بصفين. و قوله: لا تشتّدنّ ، الى قوله حملة، اى: اذا اتّفق لكم ان فررتم مرة ثم عقبتموها بكرّة فلا تشتّدنّ عليكم الفرّة فتستحيوا منها، فان الكرّة كالماحية لها، و فيه تنبيه على الامر بالكرّة بعد الفرة. و كذلك قوله: و لا جولة:
و هى الدورة بعدها حملة. و اذمروا اى: حثوّا. و الدّعسىّ : ذو الاثر و النكاية فى العلم.
و الدّعس: الاثر. و الطّلحفىّ بكسر الطاء و فتح اللام الشّديد. و النسمة: الانسان.
17 - و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية، جوابا عن كتاب منه إليه(1)
فأمّا طلبك إلىّ الشّام، فإنّى لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، و أمّا قولك «إنّ الحرب قد أكلت العرب إلاّ حشاشات أنفس بقيت» ألا و من أكله الحقّ فإلى الجنّة، و من أكله الباطل فإلى النّار. و أمّا استواؤنا فى الحرب و الرّجال فلست بأمضى على الشّكّ منّى على اليقين، و ليس أهل الشّام بأحرص على الدّنيا من أهل العراق على الآخرة. و أمّا قولك «إنّا بنو عبد مناف» فكذلك نحن، و لكن ليس أميّة كهاشم، و لا حرب كعبد المطّلب، و لا أبو سفيان كأبى طالب، و لا المهاجر كالطّليق، و لا الصّريح كاللّصيق، و لا المحقّ كالمبطل، و لا المؤمن كالمدغل، و لبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوى فى نار جهنّم. و فى أيدينا بعد فضل النّبوّة الّتى أذللنا بها العزيز، و نعشنا بها الذّليل. و لمّا أدخل اللّه العرب فى دينه أفواجا، و أسلمت له هذه الأمّة طوعا و كرها كنتم ممّن دخل فى الدّين إمّا رغبة و إمّا رهبة على حين فاز أهل السّبق بسبقهم، و ذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم فلا تجعلنّ للشّيطان فيك نصيبا، و لا على نفسك سبيلا.
ص: 485
اقول: قد كان معاوية سأل منه عليه السلام أن يعطيه الشام على ان لا يكون له فى عنقه بيعة و لا طاعة. و الحشاشة: بقية الروح. و قوله: فلست بأمضى، الى قوله: اليقين:
يريد ان حركة معاوية فى هذا الأمر على شك منه فى استحقاقه و طلبه، و هو من ذلك على يقين و الشاكّ فى امر ليس بأمضى فى طلبه من المتقيّن له. و باقى الفصل افتخار عليه و فيه انماء الى انّه من الطلقاء و قد مرّ بيانه. و الصريح: خالص النسب. و اللصيق: الدعىّ .
و الادغال: الفساد و رذالة الاخلاق. و نعشه: رفعه. و الفوج: الجماعة الكثيرة، و باللّه التوفيق.
اعلم أنّ البصرة مهبط إبليس و مغرس الفتن فحادث أهلها بالإحسان إليهم، و احلل عقدة الخوف عن قلوبهم. و قد بلغنى تنمّرك لبنى تميم، و غلظتك عليهم، و إنّ بنى تميم لم يغب لهم نجم إلاّ طلع لهم آخر، و إنّهم لم يسبقوا بوغم فى جاهليّة و لا إسلام، و إنّ لهم بنا رحما ماسّة، و قرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، و مأزورون على قطيعتها، فاربع أبا العبّاس، رحمك اللّه - فيما جرى على لسانك و يدك من خير و شرّ، فإنّا شريكان فى ذلك، و كن عند صالح ظنّى بك، و لا يفيلنّ رأيى فيك، و السّلام.
اقول: الفصل من كلام طويل... و كونها مهبط ابليس و مغرس الفتن، باعتبار انّها منشأ الفتن و الآراء المختلفة و الأهواء المتّبعة التي منشأها ابليس، و انّما كان السبب الغالب فى ذلك كونها طرفا بعيدا عن مقرّ الخلفاء و ولاة الامر، فليس لما يقع فى نفوس من يطمع بالفساد فيها، و اثارة الفتنة بها من الوسوسة بذلك كاسر قريب، فتسرع فيها الفتن و تكثر. و كان ابن عباس قد اضرّ ببنى تميم حين ولىّ امر البصرة، من قبله عليه السلام لما عرفهم به من العداوة يوم الجمل لانّهم كانوا من شيعة طلحة و الزبير، فحمل عليهم
ص: 486
فأقصاهم و تنكّر لهم حتى كان يسميهم شيعة الجمل، و انصار عسكر، و هو اسم الجمل، و حزب الشيطان، فاشتدّ ذلك على نفر من شيعة علىّ عليه السّلام، من بنى تميم، منهم حارثة بن قدّامة(1) فكتب بذلك الى على عليه السلام شاكيا من ابن عباس فكتب عليه السلام الكتاب المذكور.
و التنمرّ: تنكّر الاخلاق، و استعار لفظ النجم، لمن يظهر من اشرافهم. و الوغم:
الحقد. و ماسة قريبة قبل ذلك، لاتّصال اسلافهم فى الياس بن مضر لانّ هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن لوىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر. و تميم بن مراد بن طانجة بن الياس بن مضر. و اصل مأزورون موزورون فقلب للتجانس. و اربع اى: ارفق و تأنّ . و فيالة الرأى: ضعفه. و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فإنّ دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة و قسوة، و احتقارا و جفوة، و نظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، و لا أن يقصوا و يجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللّين تشوبه بطرف من الشّدّة، و داول لهم بين القسوة و الرّأفة، و امزج لهم بين التّقريب و الادناء، و الابعاد و الاقصاء، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
ص: 487
أقول: الدهقان فارسىّ معرّب. و القسوة: الشدّة. و الجفاء: ضدّ البر. و استعار لفظ الجلباب و هو الملحفة لما اشتمل عليه و يتلبّس به من اللين و الرأفة. و الادالة: الادارة.
و داول بين القسوة و الرافة اى: استعمل كلاّ منهما مّرة. و المنقول أنّ هؤلاء كانوا مجوسا.
و هو خليفة عامله عبد اللّه بن عباس على البصرة، و عبد اللّه خليفة أمير المؤمنين على البصرة و الأهواز و فارس و كرمان. و إنّى أقسم باللّه قسما صادقا لئن بلغنى أنّك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظّهر، ضئيل الأمر، و السّلام.
اقول: زياد هذا هو: ابن سمية ام ابى بكرة، و هو دعىّ ابى سفيان و اوّل من دعاه بابن أبيه(1) عايشة حين سئلت لمن يدعى. و الشدّة: الحملة. و الوفر: المال. و الضئيل:
الحقير. و ثقل الظهر: بالآثام او بالعائلة. و تدعك اى: تتركك. و المنصوبات الثلاث أحوال و لا يلزم ان يكون تلك الأحوال من شدّته عليه السلام، لان الحال لا يلزم ان يكون من فعل الفاعل.
فدع الإسراف مقتصدا، و اذكر فى اليوم غدا، و أمسك من المال بقدر ضرورتك، و قدّم الفضل ليوم حاجتك. أ ترجو أن يعطيك اللّه أجر المتواضعين و أنت عنده من المتكبّرين ؟ و تطمع - و أنت متمرّغ فى النّعيم تمنعه الضّعيف و الأرملة - أن يوجب لك ثواب المتصدّقين ؟ و إنّما المرء مجزى بما أسلف، و قادم على ما قدّم، و السّلام.
ص: 488
أقول: التمرّغ: التقلّب. و الفصل ظاهر.
و كان عبد اللّه يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله كانتفاعى بهذا الكلام.
أمّا بعد، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها، و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا، و ليكن همّك فيما بعد الموت.
اقول: حاصل الفصل بيان ما ينبغي ان يفرح المرء به من الكمالات الاخرويّة، و يحزن لفوته منها، و ما لا ينبغي له منها فى متاع الدنيا و كمالاتها. و قوله: فان المرء، الى قوله: ليدركه، كالمقدّمة لذلك اشار فيها الى ان فى طبيعة الانسان ان يسرّ بما يدركه من المطالب، و ينسى بما يفوته منها فكأنه قال: و اذا كان فى طبيعة المرء ذلك فليكن سرورك بما تنال من الآخرة، و اسفك على ما يفوتك منها دون الدنيا. و فى قوله: ما لم يكن ليفوته، و ما لم يكن ليدركه: تنبيه على انّ ما يفوت و يدرك واجب فى القضاء الالهى فوته و دركه: و فائدة ذلك ان لا يشتدّ الفرح بما ينال من متاع الدنيا، و لا يشتدّ الأسف على ما يفوت منها لانّ الفرح بما لا بدّ من حصوله، و الأسف على ما لا بدّ من فواته جهل و سفه فى العقول، و ما نال من آخرته فى الدنيا هو الكمالات النفسانيّة الباقية. و الفصل من لطائف الكتاب.
وصيّتى لكم أن لا تشركوا باللّه شيئا، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا تضيّعوا
ص: 489
سنّته: أقيموا هذين العمودين، و خلاكم ذمّ . أنا بالأمس صاحبكم، و اليوم عبرة لكم، و غدا مفارقكم! إن أبق فانا ولىّ دمى، و إن أفن فالفناء ميعادى، و إن أعف فالعفو لي قربة، و هو لكم حسنة، فاعفوا «أَ لاٰ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَكُمْ »(1)؟ و اللّه ما فجأنى من الموت وارد كرهته، و لا طالع أنكرته، و ما كنت إلاّ كقارب ورد، و طالب وجد «وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ»(2). قال السيد - رضى اللّه عنه -: و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدّم من الخطب إلاّ أنّ فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره.
اقول: استعار لفظ العمودين: لتوحيد اللّه، و اتباع سنّة رسوله، لقيام الدين بهما.
و قوله: و خلاكم ذمّ من ممادح العرب. و نبّه بقوله: انا، الى قوله: مفارقكم على وجوب العبرة بحاله. و قوله: و ان اعف على تقدير البقاء، فكأنه قال: فانا ولىّ دمي و ان اقتص فذاك حقّي، و ان اعف فالعفو لي قربة. و لما كان عليه السلام سيّد الأولياء الذين هم أشدّ حبّا للّه و أشوق الى لقائه، لم يكن وارد الموت مكروها له و لا منكرا عنده بل محبوبا و مألوفا. فجأه الأمر: أتاه بغتة، و شبّه نفسه فى شدّة طلبه للقاء اللّه يومئذ بالقارب و هو طالب الماء اذا اورده بطالب الواجد لمطلوبه.
هذا ما أمر به عبد اللّه علىّ بن أبى طالب أمير المؤمنين فى ماله ابتغاء وجه اللّه، ليولجه الجنّة، و يعطيه به الأمنة. منها:
و إنّه يقوم بذلك الحسن بن عليّ : يأكل منه بالمعروف، و ينفق فى المعروف، فإن
ص: 490
حدث بحسن حدث، و حسين حىّ قام بالأمر بعده، و أصدره مصدره.
و إنّ لبنى فاطمة من صدقة علىّ مثل الّذى لبنى علىّ ، و إنّى إنّما جعلت القيام بذلك إلى ابنى فاطمة ابتغاء وجه اللّه، و قربة إلى رسول اللّه، و تكريما لحرمته، و تشريفا لوصلته.
و يشترط على الّذى يجعله إليه أن يترك المال على أصوله، و ينفق من ثمره حيث أمر به و هدى له، و أن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى و ديّة، حتّى تشكل أرضها غراسا.
و من كان من إمائى اللاّتى أطوف عليهنّ لها ولد أو هى حامل فتمسك على ولدها و هى من حظّه، فإن مات ولدها و هى حيّة فهى عتيقة: قد أفرج عنها الرّقّ ، و حرّرها العتق.
قال السيد - رحمه الله -: قوله عليه السلام في هذه الوصيه «أن لا يبيع من نخيلها وديه»: الوديه: الفسيله، و جمعها ودي، و قوله عليه السلام «حتى تشكل أرضها غراسا» هو من أفصح الكلام، و المراد به أنّ الارض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها.
اقول: يولجه: يدخله. و الأمنة: الأمن. و الضمير فى قوله، مصدره للأمر اى: اخرج الحق مخرجه و اطلعه مطلعه. و قيل: للحسن، اى: اصدر الحسين الحق مصدر الحسن، و كما فعل بالمعروف. و الضمير فى يشترط لعلّي، و يحتمل ان يكون للحسين: و فائدة النهى عن بيع الفسيل قبل اشكال الارض غراسا: انّه محتاج اليه، و انّ النخلة قبل ان تعلو لم يستحكم جذعها فيضّر بها قلع فسيلها. و الطواف هنا: كناية عن النكاح، و كنّ يومئذ ستّ عشرة امة. و قوله: فتمسك الى آخره اى: انّ ثمنها محسوب من نصيب ولدها، و تمسك عليه و قضاءه عليه السلام بذلك، وصية يعتق من مات ولدها من إمائه بعد موته بناء على مذهبه فى بقاء امّ الولد على الرقّ بعد موت سيّدها المستولد، و يصحّ بيعها و هو مذهب الامامية، و قول قديم للشافعى، و فى الجديد انّها تنعتق بموت سيّدها المستولد، و لا يجوز بيعها و عليه اتفاق فقهاء الجمهور.
ص: 491
و إنما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنّه كان يقيم عماد الحقّ ، و يشرع أمثلة العدل: فى صغير الأمور و كبيرها، و دقيقها و جليلها.
انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، و لا تروّعنّ مسلما، و لا تجتازنّ عليه كارها، و لا تأخذنّ منه أكثر من حقّ اللّه فى ماله، فإذا قدمت على الحىّ فانزل بمائهم، من غير أن تخالط أبياتهم، ثمّ امض إليهم بالسّكينة و الوقار حتّى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتّحيّة لهم، ثمّ تقول: عباد اللّه، أرسلنى إليكم ولىّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه فى أموالكم، فهل للّه فى أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه ؟ فإن قال قائل: لا! فلا تراجعه و إن أنعم لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده، أو تعسفه، أو ترهقه! فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزعنّها، و لا تسوءنّ صاحبها فيها و اصدع المال صدعين ثمّ خيّره: فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره، ثمّ اصدع الباقى صدعين، ثمّ خيّره: فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره، فلا تزال كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه فى ماله، فاقبض حقّ اللّه منه، فإن استقالك فأقله، ثمّ اخلطهما، ثمّ اصنع مثل الّذى صنعت أوّلا حتّى تأخذ حقّ اللّه فى ماله. و لا تأخذنّ عودا، و لا هرمة، و لا مكسورة، و لا مهلوسة، و لا ذات عوار، و لا تأمننّ عليها إلاّ من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتّى يوصّله إلى وليّهم فيقسمه بينهم، و لا توكّل بها إلاّ ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا، غير معنّف و لا مجحف و لا ملغب و لا متعب، ثمّ احدر إلينا ما اجتمع عندك، نصيّره حيث أمر اللّه، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة و بين فصيلها، و لا يمصّر لبنها فيضرّ ذلك بولدها و لا يجهدنّها ركوبا، و ليعدل بين صواحباتها فى ذلك و بينها، و ليرفّه على اللاّغب، و ليستأن بالنّقب و الظّالع، و ليوردها ما تمرّ به من الغدر، و لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق، و ليروّحها فى السّاعات، و ليمهلها عند النّطاف و الأعشاب، حتّى تأتينا، باذن اللّه، بدنا منقيات، غير متعبات و لا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، فانّ ذلك
ص: 492
أعظم لأجرك، و أقرب لرشدك، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
اقول: الروع: الفزع. و لا يختارون عليه اى: لا تطلب خيار ماله. و لا تخدج التحيّة اى: لا تنقضها. و انعم قال نعم. و العسف: الأخذ بشدّة. و الإرهاق تكليف العسر. و اصدع المال اقسمه. و العود: المسنّ من الإبل أسن من الباذل. و كذلك الهرمة:
عالية السنّ . و المكسورة: التي انكسرت احدى قوائمها. و المهلوسة: المسلولة و الهلاس:
السل. و العوار بالفتح -: العيب. و قد يضم. و المجحف: الذى يعنف بالمال فى سوقه فيذهب بلحمه. و الملغب: المتعب. و اوعز اليه بكذا امره به. و المصر(1): حلب كل ما فى الضرع من اللبن. و النقب: البعير ترقّ اخفافه. و الغدر: جمع غدير: الماء. و الساعات:
جمع ساعة مصدر قولك: ساعت الناقة اذا هملت تسوع سوعا و ساعة اى: بوجدها الراحة فى سوءهما بالصبر و التأنى عليها فى المرعى. و النطاف: المياه القليلة. و البدن: السمان.
و المنقيات: التي صارت من سمنها ذات نقى: و هو مخّ العظام و شحم العين. و مقاصد الوصيّة ظاهرة، و باللّه التوفيق.
آمره بتقوى اللّه فى سرائر أمره و خفيّات عمله، حيث لا شاهد غيره، و لا وكيل دونه.
و آمره أن لا يعمل بشىء من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ، و من لم يختلف سرّه و علانيته و فعله و مقالته، فقد أدّى الأمانة، و أخلص العبادة. و آمره أن لا يجبههم، و لا يعضههم، و لا يرغب عنهم تفضّلا بالامارة عليهم، فإنّهم الإخوان فى الدّين، و الأعوان على استخراج الحقوق.
و إنّ لك فى هذه الصّدقة نصيبا مفروضا، و حقّا معلوما، و شركاء أهل مسكنة،
ص: 493
و ضعفاء ذوى فاقة، و إنّا موفّوك حقّك فوفّهم حقوقهم! و إلاّ تفعل فإنّك من أكثر النّاس خصوما يوم القيامة، و بؤسا لمن خصمه عند اللّه الفقراء، و المساكين، و السّائلون، و المدفوعون، و الغارم، و ابن السّبيل!! و من استهان بالأمانة، و رتع فى الخيانة، و لم ينزّه نفسه و دينه عنها، فقد أحلّ بنفسه فى الدّنيا الذّلّ و الخزى، و هو فى الآخرة أذلّ و أخزى، و إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، و أفظع الغشّ غشّ الأئمّة، و السّلام.
اقول: الضمير فى قوله: آمره، يعود الى المعهود اليه. و قوله: و آمره، الى قوله: فيما اسرّ اى: لا يخالف بين ظاهر عمله فى طاعة اللّه و بين باطنه. و عضهة عضها: رماه بالبهتان و الكذب. و لا يرغب عنهم اى: لا ينقبض عنهم و يترفّع عليهم. و قوله: فانهم، الى قوله: الحقوق صغرى ضمير نبّه فيها على وجوب الانتهاء عن المنهيّات المذكورة، و تقدير كبراه، و كل من كان كذلك فلا يجوز ان يفعل به ذلك. و شركاؤه: المستحقون للصدقة. و البؤس: الشدّة. و الفقير: من له بلغة من العيش لا تكفيه. و المسكين: هو الذى لا شيء له. و المدفوعون: قيل: هم السائلون لدفعهم عند السؤال، و قيل: هم العاملون عليها باعتبار انّهم يدفعون الى الجباية او يدفعهم المسئول، هل عليه زكاة ام لا عن نفسه ؟ و الغارم:
من لزمه الدّين فى غير معصية. و ابن السبيل هو المنقطع به فى السفر يعطى من الصدقة و ان كان غنيا فى بلده. و افظع الغشّ : اشدّه. و باللّه التوفيق.
فاخفض لهم جناحك، و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك، و آس بينهم فى اللّحظة و النّظرة، حتّى لا يطمع العظماء فى حيفك لهم، و لا ييأس الضّعفاء من عدلك عليهم، فإنّ اللّه تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصّغيرة من أعمالكم و الكبيرة، و الظّاهرة و المستورة: فإن يعذّب فأنتم أظلم، و إن يعف فهو أكرم.
و اعلموا، عباد اللّه، أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا و آجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا
ص: 494
فى دنياهم، و لم يشاركهم أهل الدّنيا فى آخرتهم: سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدّنيا بما حظى به المترفون، و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون، ثمّ انقلبوا عنها بالزّاد المبلّغ، و المتجر الرّابح: أصابوا لذّة زهد الدّنيا فى دنياهم، و تيقّنوا أنّهم جيران اللّه غدا فى آخرتهم، لا تردّ لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من لذّة، فاحذروا عباد اللّه الموت و قربه، و أعدّوا له عدّته، فإنّه يأتي بأمر عظيم، و خطب جليل: بخير لا يكون معه شرّ أبدا، أو شرّ لا يكون معه خير أبدا! فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها، و من أقرب إلى النّار من عاملها؟ و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلّكم! الموت معقود بنواصيكم، و الدّنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد: دار ليس فيها رحمة، و لا تسمع فيها دعوة، و لا تفرّج فيها كربة، و إن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من اللّه، و أن يحسن ظنّكم به، فاجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه، و إنّ أحسن النّاس ظنّا باللّه أشدّهم خوفا للّه.
و اعلم، يا محمّد بن أبى بكر، أنّى قد ولّيتك أعظم أجنادى فى نفسى: أهل مصر، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، و أن تنافح عن دينك، و لو لم يكن لك إلاّ ساعة من الدّهر، و لا تسخط اللّه برضا أحد من خلقه، فإنّ فى اللّه خلفا من غيره، و ليس من اللّه خلف فى غيره.
صلّ الصّلاة لوقتها المؤقّت لها، و لا تعجّل وقتها لفراغ، و لا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال، و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك.
اقول: خفض الجناح: كناية عن التواضع، و بسط الوجه: كناية عن البشاشة و الطلاقة، و الضمير فى عليهم للضعفاء و قيل: للعظماء. و قوله: ذهبوا، الى قوله: الآخرة اى: حصلوا على ذلك. و قوله: بأفضل ما سكنت و بافضل ما اكلت: اى: استعملوها على الوجه الذى ينبغي لهم، و الذى امروا باستعمالها عليه و ذلك هو أفضل الوجوه. و الزاد المبلغ: و هو التقوى و استعار لها لفظ المتجر. و عامل الجنة: العامل لها. و استعار وصف الطىّ لتقضى احوال الدنيا و ايامها التي يقطعها الانسان و عذابها جديد كقوله تعالى:
ص: 495
«كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا» (1) و روى و عذابها جديد، هو كقوله تعالى:
«وَ لَهُمْ مَقٰامِعُ مِنْ حَدِيدٍ» (2) و نحوه. و قوله بينهما اى: بين شدّة الخوف و حسن الظن به.
و اعلم انّه عليه السلام لم يجعل احدهما علّة للآخر بل اشار الى ملازمتهما لانهما معلولا علّة واحدة، و هى معرفة اللّه تعالى، و قبولهما للشدّة و الضعف بحسب قبولهما فى نفس العبد الاّ انّ كلاّ منهما يستند الى اعتبار من المعرفة خاص يكون مبدأ قريبا له، اما فى حسن الظنّ و الرجاء، فان يلحظ العبد من ربّه صفات رحمته و جوده، و رأفته و وعده، و اما فى الخوف فان يلحظ منه اوصاف عظمته و بأسه و سطوته، و صولته و وعيده، و بحسب اشتداد تصوّر تلك الاعتبارات يكون اشتداد الخوف و لوازمه من انقباض الجوارح عن المعاصى، و نحول الابدان و غير ذلك. و تخالف على نفسك اى: الامّارة بالسوء فى هواها: و المنافحة: المضاربة و المخاصمة. و الخلف: العوض، و انّما كان كل عمل له تبعا لصلاته لأنها عمود الدين، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله «اوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فمن تمّت صلاته سهل عليه غيرها من العبادات، و من نقصت صلاته فانّه يحاسب عليها و على غيرها(3).» و من هذا العهد ايضا فإنّه لا سواء: إمام الهدى، و إمام الرّدى، و ولىّ النّبىّ ، و عدوّ النّبىّ . و لقد قال لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّى لا أخاف على أمّتى مؤمنا و لا مشركا: أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بإيمانه، و أمّا المشرك فيقمعه اللّه بشركه، و لكنّى أخاف عليكم كلّ منافق الجنان عالم اللّسان: يقول ما تعرفون، و يفعل ما تنكرون»(4).
اقول: اشار بامام الهدى، و ولىّ النبىّ الى نفسه، و بامام الردى و عدوّ النبىّ ، الى معاوية تنفيرا عنه. و يقمعه: يقهره و يذلّله. و علم اللسان قول الحقّ الّذى يعرفونه.
ص: 496
أمّا بعد، فقد أتاتى كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لدينه، و تأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه، فلقد خّبأ لنا الدّهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللّه تعالى عندنا، و نعمته علينا فى نبيّنا، فكنت فى ذلك كناقل التّمر إلى هجر، أو داعى مسدّده إلى النّضال، و زعمت أنّ أفضل النّاس فى الاسلام فلان و فلان! فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، و إن نقص لم يلحقك ثلمه، و ما أنت و الفاضل و المفضول، و السّائس و المسوس، و ما للطّلقاء و أبناء الطّلقاء، و التّمييز بين المهاجرين الأوّلين، و ترتيب درجاتهم، و تعريف طبقاتهم ؟ هيهات! لقد حنّ قدح ليس منها، و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها، ألا تربع، أيّها الانسان ؟ على ظلعك، و تعرف قصور ذرعك، و تتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب و لا ظفر الظّافر! و إنّك لذهّاب فى التّيه، روّاغ عن القصد، ألا ترى - غير مخبر لك، و لكن بنعمة اللّه أحدّث - أنّ قوما استشهدوا فى سبيل اللّه من المهاجرين، و لكلّ فضل! حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل «سيّد الشّهداء» و خصّه رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ؟ أ و لا ترى أنّ قوما قطعت أيديهم فى سبيل اللّه و لكلّ فضل! حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل:
«الطّيّار فى الجنّة، و ذو الجناحين» و لو لا ما نهى اللّه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين، و لا تمجّها آذان السّامعين. فدع عنك من مالت به الرّميّة، فإنّا صنائع ربّنا، و النّاس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا، و لا عادىّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء، و لستم هناك! و أنّى يكون ذلك كذلك، و منّا النّبىّ و منكم المكذّب ؟ و منّا أسد اللّه، و منكم أسد الأحلاف، و منّا سيّدا شباب أهل الجنّة، و منكم صبية النّار، و منّا خير نساء العالمين، و منكم حمّالة الحطب ؟ فى كثير ممّا لنا و عليكم فإسلامنا قد سمع، و جاهليّتنا لا تدفع، و كتاب اللّه يجمع لنا ما شذّ عنّا و هو قوله: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ » (1)
ص: 497
و قوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ »(1) فنحن مرّة أولى بالقرابة، و تارة أولى بالطّاعة. و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم! و زعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، و على كلّهم بغيت! فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و قلت: «إنّى كنت أقادكما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع، و لعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت، و أن تفضح فافتضحت! و ما على المسلم من غضاضة فى أن يكون مظلوما، ما لم يكن شاكّا فى دينه، و لا مرتابا بيقينه، و هذه حجّتى إلى غيرك قصدها، و لكنّى أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.
ثمّ ذكرت ما كان من أمرى و أمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيّنا كان أعدى له، و أهدى إلى مقاتله، أمن بذل له نصرته فاستقعده و استكفّه ؟ أمّن استنصره فتراخى عنه، و بثّ المنون إليه، حتّى أتى قدره عليه ؟! كلاّ و اللّه: «قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً»(2).
و ما كنت لأعتذر من أنّى كنت أنقم عليه أحداثا، فان كان الذّنب إليه إرشادى و هدايتى له، فربّ ملوم لا ذنب له.
و قد يستفيد الظنّة المتنصّح «إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاٰحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ »(3).
و ذكرت أنّه ليس لى و لأصحابى [عندك] إلاّ السّيف! فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بنى عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، و بالسّيف مخوّفين لبّث قليلا يلحق
ص: 498
الهيجا حمل فسيطلبك من تطلب، و يقرب منك ما تستبعد، و أنا مرقل نحوك فى جحفل من المهاجرين و الأنصار و التّابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة، و سيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها فى أخيك و خالك و جدّك و أهلك «وَ مٰا هِيَ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ بِبَعِيدٍ»(1).
اقول: طفق: مثل أخذ و جعل. و قوله: كناقل التمر الى هجر، و داعى مسدده الى النضال، مثلان يضربان لمن يحمل الشى الى معدنه، لينتفع به فيه، و هو اولى ان يؤخذ عنه. و اراد ان الاخبار ببلاء اللّه عندنا و نعمته علينا ينبغي ان يؤخذ عنّا و لا يليق ان تخبرنا انت به. و هجر(2): مدينة بالبحرين. و النضال: المراماة و اصله ان يدعو الانسان استاده فى الرّمى، و مسدّده فيه الى المراماة، و هو اولى بأن يدعوه الى ذلك. و قد كان معاوية فى كتابه ذكر درجات الصحابة، فى فضلهم حسب ترتيبهم فى الخلافة فاقتضى ذلك تفضيلهم عليه فأجابه بقوله: و ذكرت الى آخره. و الّثلم: الكسر و النقصان. و اما كونه طليقا و ابن طليق: فالمنقول انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حين فتح مكة قال: يا معشر قريش ما ترون انّى فاعل بكم ؟ قالوا: خيرا، اخ كريم، و ابن اخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطّلقاء، و كان فيهم معاوية، و ابو سفيان.(3) و قوله: حنّ قدح ليس منها: فاصله ان احد قداح الميسر اذا كان ليس من جوهر باقى القداح، ثم اجاله المفيض خرج له صوت يخالف اصواتها، فيعرف به انّه ليس من جملتها، فضرب مثلا لمن يمدح و يفتخر بقوم و ينسب فيهم مع انه ليس منهم، و ليس من متقدّميهم فى الفضل. و قوله: فطفق، الى قوله: لها: مثل آخر يضرب لمن يحكم فى قوم من اراذلهم و ليس للحكم بأهل. و ا لا تربع اى: تقف و تترفّق بنفسك. و الظلع: العرج. و الذرع:
بسط اليد، و استعار لفظ الظلع لقصوره عن رتبة السابقين كالظالع. و قصور ذرعه: كناية عن عجزه عن تناول تلك المرتبة. و التيه: الضّلال. و شهيدهم عمّه حمزة بن عبد المطلب رضى اللّه عنه، و خصّه بسبعين تكبيرة فى اربع عشر صلاة. و الّذى قطعت يداه منهم اخوه
ص: 499
جعفر بن ابى طالب عليه السلام، و سمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، ذا الجناحين، بذلك الاعتبار و الطيّار فى الجنة. و الذاكر يعنى نفسه. و لا تمجها اى: لا يلقيها. و قوله: من مالت به الرميّة: كالمثل يضرب لمن تميل به عن الحقّ اغراضه الباطلة. و الرميّة: الصيد يرمى و اصل المثل انّ الرجل يقصد قصدا فيعرض له الصيد فيتبعه فيميل به عن قصده الأصلى. و الصنيعة: الحسنة. و قوله: و الناس بعد صنائع لنا: اذ كان كل فعل و شرف للعرب فهم مبدؤه. و قوله: و انّى يكون ذلك كذلك، اى: و كيف يكونون اكفا لنا. و المكذب: ابو جهل. و اسد اللّه: حمزة بن عبد الطلب. و أسد الأحلاف: هو اسد ابن عبد العزّى. و الأحلاف: هم عبد مناف و زهرة و اسد، و تيم، و الحرث بن فهر، و سمّوا الاحلاف، لتحالفهم على محاربة بنى قصى فى امر اراده بهم. و صبية النار قيل: هم صبية عقبة بن ابى معيط حيث قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لك و لهم النار. و خير نساء العالمين فاطمة عليها السلام. و حمالة الحطب: امّ جميل بنت حرب عمة معاوية، كانت تحمل حزم الشوك فتنثرها فى طريق النبىّ صلى اللّه عليه و آله و قوله: و جاهليّتكم لا تدفع شرفنا و فضلنا فيها. و قوله: يجمع لنا ما شذّ عنّا اى: من هذا الامر، و هو احتجاج بالكتاب العزيز على اوليته من غيره، بأمر الخلافة و وجه الاحتجاج بالآية الاولى، انه من اخصّ اولى الأرحام برسول اللّه(1) و كل من كان كذلك فهو أولى به، و بالقيام مقامه. و الثّانية انّه كان اقرب الخلق الى اتباع الرسول عليه السلام، و أول من آمن به و صدّقه: و افضل من أخذ عنه الحكمة و كلّ من كان كذلك فهو أولى بمقامه و منصبه. و الفلج: الفوز و الظفر. و حجّة قريش على الانصار قوله صلى اللّه عليه و آله: الأئمة من قريش. و الفلج به اي: بالرسول عليه السلام، و تقدير الحجة انّ غلبة قريش للانصار ان كان بالرسول عليه السلام و قربهم منه، فنحن اولى بذلك لكوننا أقرب منه اليه، و ان كان بغير ذلك فدعوى الانصار فى الإمامة قائم اذ لم يكن فى الخبر ما يدلّ على بطلانها. و قوله: و تلك شكاة ظاهر عنك عارها: مثل يضرب لمن ينكر امرا لا يلزمه انكاره، و البيت لابى ذؤيب(2) و اوله: و عيّرها الواشون انّي أحبّها.
ص: 500
و ظاهر: زائل. و المخشوش: الذى جعل فى أنفه خشاش و هى خشبة تدخل فى أنف البعير ليقاد بها. و الغضاضة: الذلّة و المنقصة. و كون ما ذكره معاوية من ذلك فضيحة له باعتبار انّه لم يفرّق بين ما يمدح به و يذّم: و لأنه على تقدير ان يكون بيعته للأئمة قبله كرها، و هو افضل الناس أو من فضلائهم لا ينعقد الاجماع بدونه فتكون خلافتهم مدخولة فيكون ذلك طعنا فيهم، و فى ولاية من قبلهم و هو فضيحة. و قوله: الى غيرك قصدها اي: الى الذين ظلموا. و سنح: عرض و خطر. و اعدى عليه اشد عدوانا. و مقاتله وجوه قتله و معايبه التي قتل بها. و قد كان عليه السلام عرض نصرته له عليه، فقال: لا اريد نصرتك و لكن اقعد عنى لتهمته ايّاه بالمشاركة فى أمره، و قد كان قد استصرخ بمعاوية فما زال يعده و يتأخّر عنه الى ان قتل. و قوله: فربّ ملوم لا ذنب له مثل، لاكثم بن صيفى(1) يضرب لمن ظهر للناس منه امرا نكروه عليه، و هم لا يعرفون حجّته و عذره فيه. و كذلك قوله: و قد يستفيد الظنّة المتنضّح: يضرب مثلا لمن يبالغ فى النّصيحة حتى يتّهم أنّه غاش فضربه لنفسه في نصيحته لعثمان و صدر البيت:
و كم سقت فى آثاركم من نصيحة *** ......
و الظنّة: التهمة. و قوله: اضحكت بعد استعبار: كناية عن أبلغ العجب اذ كان الضحك بعد البكاء انّما يكون من عجب بالغ. و ألفيت: وجدت. و النكول: التأخّر جبنا. و قوله: فلبّث قليلا يلحق الهيجا حمل: مثل يضرب للوعيد بالحرب قاله حمل بن بدر(2) فى بعض وقائعه. و الأرقال: ضرب من السير السريع. و الجحفل: الجيش العظيم. و الساطع:
المرتفع. و القتام: الغبار. و استعار لفظ السرابيل، و هى: القمصان إما للدروع او لعدّة الحرب الجارية مجرى الأكفان. و قد سبق ذكر اخيه و خاله و جدّه، و باللّه التوفيق.
ص: 501
و قد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن مجرمكم، و رفعت السّيف عن مدبركم، و قبلت من مقبلكم، فإن خطت بكم الأمور المردية، و سفه الآراء الجائرة إلى منابذتى و خلافى، فها أنا ذا قد قرّبت جيادى، و رحلت ركابى، و لئن ألجاتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة لاعق، مع أنّى عارف لذى الطّاعة منكم فضله، و لذي النّصيحة حقّه، غير متجاوز متّهما إلى برىء، و لا ناكثا إلى وفىّ .
اقول: كنّى بانتشار حبلهم عن تفرّقهم عنه، و نكثهم لبيعته. و تغبوا عنه: لم يفطنوا له، يقال: غيبت عن الشيء و غبيته اذا جهلته و لم يفطن له. و المردية: المهلكة. و المنابذة: المخالفة. و كنّى بتقريب جياده و رحيل ركابه عن استعداده للكرّة عليهم. و شبّه وقعة الجمل بالنسبة الى الوقعة الّتى توعّدهم بها باللعقة فى الحقارة. و باللّه التوفيق.
فاتّق اللّه فيما لديك، و انظر فى حقّه عليك، و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته، فانّ للطّاعة أعلاما واضحة، و سبلا نيّرة، و محجّة نهجة، و غاية مطّلبة، يردها الأكياس، و يخالفها الأنكاس، من نكّب عنها جار عن الحقّ و خبط فى التّيه، و غيّر اللّه نعمته، و أحلّ به نقمته، فنفسك نفسك، فقد بيّن اللّه لك سبيلك، و حيث تناهت بك أمورك فقد أجريت إلى غاية خسر، و محلّة كفر، و إنّ نفسك قد أولجتك شرّا، و أقحمتك غيّا، و أوردتك المهالك، و أوعرت عليك المسالك.
ص: 502
اقول: ما لديه هو: أموال المسلمين و بلادهم، و ما لا تعذر بجهالته هو: وجوب طاعة اللّه، و طاعة رسوله، و طاعة أئمه الحق من بعده. و المحجّة: الطريق الواضح. و مطلبة بتشديد الطاء و فتح اللام: مطلوبة جدا. و اعلام: طاعة اللّه و الكتاب و السنة و أئمه الحق، و هى: السبل النيّرة و الطريق المضيئة، و غايتها المطلوبة الحصول على السعادة الباقية الأخروية. و الاكياس: العقلاء. و الانكاس جمع نكس بكسر النون و هو: الدّنى من الرجال. و نكب: عدل. و التيه: الضلال. و سبيله: سبيل الطاعة المأمور بسلوكها. و قوله: و حيث، الى قوله: و محلة كفر فى حيث معنى الشرط و جوابه، فقدوا المراد: اىّ موضع و مقام، وصلت تلك امورك و اعمالك اليه فقد وصلت فيه الى غاية خسر، و محلّة كفر اىّ غاية مستلزمة للخسر فى الآخرة، يقال: اجرى الى غاية كذا اذا قصدها و سعى اليها. و أولجته نفسه شرا، اي: أدخلته نفسه الامّارة بالسوء فى شرّ الدنيا و الآخرة، و هو مخالفة طاعة اللّه و رسوله و امام الحق. و روى أولجتك و اقحمتك: ادخلتك. و الغيّ :
الجهل. و اراد بالمهالك: الشبهات المردية. و اوعرت: صعبت و مبدأ جميع ذلك هو النفس الامّارة بالسوء، و باللّه التوفيق.
31 - و من وصيّة له عليه السّلام للحسن بن على عليهما السلام، كتبها إليه بحاضرين(1) منصرفا من صفين
من الوالد الفان، المقرّ للزّمان، المدبر العمر، المستسلم للدّهر، الذّامّ للدّنيا، السّاكن مساكن الموتى، و الظّاعن عنها غدا، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك، السّالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، و رهينة الأيّام، و رميّة المصائب، و عبد الدّنيا، و تاجر الغرور، و غريم المنايا، و أسير الموت، و حليف الهموم، و قرين الأحزان، و نصب الآفات، و صريع الشّهوات، و خليفة الأموات. أمّا بعد، فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّى، و جموح الدّهر علىّ ، و إقبال الآخرة إلىّ ، ما يزعني عن ذكر من سواى، و الاهتمام بما و رائى غير أنّى حيث تفرّد بى - دون
ص: 503
هموم النّاس - همّ نفسى، فصدفنى رأيى، و صرفنى عن هوائى، و صرّح لى محض أمرى، فأفضى بى إلى جدّ لا يكون فيه لعب، و صدق لا يشوبه كذب، و وجدتك بعضى، بل وجدتك كلّى، حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابنى، و كأنّ الموت لو أتاك أتانى فعنانى من أمرك ما يعنيني من أمر نفسى، فكتبت إليك كتابى هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت. فانّى أوصيك بتقوى اللّه أي بنيّ و لزوم أمره، و عمارة قلبك بذكره، و الاعتصام بحبله، و أىّ سبب أوثق من سبب بينك و بين اللّه إن أنت أخذت به ؟؟ أحى قلبك بالموعظة، و أمته بالزّهادة، و قوّه باليقين، و نوّره بالحكمة، و ذلّله بذكر الموت، و قرّره بالفناء، و بصّره فجائع الدّنيا، و حذّره صولة الدهر، و فحش تقلّب اللّيالى و الأيّام، و اعرض عليه أخبار الماضين، و ذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين، و سر فى ديارهم و آثارهم، فانظر فيما فعلوا، و عمّا انتقلوا، و أين حلّوا و نزلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة و حلّوا ديار الغربة، و كأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، و لا تبع آخرتك بدنياك، و دع القول فيما لا تعرف، و الخطاب فيما لم تكلّف و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال، و أمر بالمعروف تكن من أهله، و أنكر المنكر بيدك و لسانك، و باين من فعله بجهدك، و جاهد فى اللّه حقّ جهاده، و لا تأخذك فى اللّه لومة لائم، و خض الغمرات للحقّ حيث كان، و تفقّه فى الدّين، و عوّد نفسك التّصبّر على المكروه، و نعم الخلق التّصبّر، و ألجىء نفسك فى الأمور كلّها إلى إلهك فإنّك تلجئها إلى كهف حريز، و مانع عزيز، و أخلص فى المسألة لربّك فإنّ بيده العطاء و الحرمان، و أكثر الاستخارة و تفهّم وصيّتى، و لا تذهبنّ عنها صفحا، فإنّ خير القول ما نفع، و اعلم أنّه لا خير فى علم لا ينفع، و لا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه. أى بنىّ ، إنّى لمّا رأيتنى قد بلغت سنّا، و رأيتنى أزداد و هنا، بادرت بوصيّتى إليك، و أوردت خصالا منها قبل أن يعجل بى أجلى دون أن أفضى إليك بما فى نفسى، و أن أنقص فى رأيى كما نقصت فى جسمى، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى، أو فتن الدّنيا، فتكون كالصّعب النّفور، و إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية: ما ألقى فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل ان يقسو قبلك و يشتغل لبّك، لتستقبل بجدّ رأيك
ص: 504
من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته و تجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطّلب، و عوفيت من علاج التّجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه، و استبان لك ما ربّما أظلم علينا منه. أى بنىّ ، إنّى - و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلى - فقد نظرت فى أعمالهم، و فكّرت فى أخبارهم، و سرت فى آثارهم، حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّى بما انتهى إلىّ من امورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، و نفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله و توخّيت لك جميله، و صرفت عنك مجهوله، و رأيت - حيث عنانى من أمرك ما يعنى الوالد الشّفيق، و أجمعت عليه من أدبك - أن يكون ذلك و أنت مقبل العمر، و مقتبل الدّهر ذونيّة سليمة و نفس صافية، و أن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه و تأويله، و شرائع الاسلام و أحكامه، و حلاله و حرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم و آرائهم مثل الّذى التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إلىّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة، و رجوت أن يوفّقك اللّه لرشدك، و أن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيّتى هذه. و اعلم، يا بنىّ ، أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إلىّ من وصيّتى، تقوى اللّه و الاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، و الأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك و الصّالحون من أهل بيتك، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، و فكّروا كما أنت مفكّر، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا و الامساك عمّا لم يكلّفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم و تعلّم، لا بتورّط الشّبهات، و غلوّ الخصومات و ابدأ - قبل نظرك فى ذلك - بالاستعانة بالهك، و الرّغبة إليه فى توفيقك، و ترك كلّ شائبة أولجتك فى شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، و تّمّ رأيك فاجتمع، و كان همّك فى ذلك همّا واحدا، فانظر فيما فسّرت لك، و إن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك و فراغ نظرك و فكرك، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء، و تتورّط الظّلماء، و ليس طالب الدّين من خبط أو خلط! و الامساك عن ذلك أمثل.
ص: 505
فتفهّم، يا بنىّ ، وصيّتى، و اعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة، و أنّ الخالق هو المميت، و أنّ المفنى هو المعيد، و أنّ المبتلى هو المعافى، و أنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللّه عليه من النّعماء، و الابتلاء و الجزاء فى المعاد، أو ما شاء ممّا لا نعلم. فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به، فإنّك أوّل ما خلقت خلقت جاهلا ثمّ علّمت، و ما أكثر ما تجهل من الأمر، و يتحيّر فيه رأيك، و يضلّ فيه بصرك، ثمّ تبصره بعد ذلك، فاعتصم بالّذى خلقك و رزقك و سوّاك، و ليكن له تعبّدك، و إليه رغبتك، و منه شفقتك. و اعلم، يا بنىّ ، أنّ أحدا لم ينبئ عن اللّه كما أنبأ عنه الرّسول، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فارض به رائدا، و إلى النّجاة قائدا، فإنّى لم آلك نصيحة، و إنّك لن تبلغ فى النّظر لنفسك - و إن اجتهدت - مبلغ نظرى لك. و اعلم، يا بنىّ ، أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، و لرأيت آثار ملكه و سلطانه، و لعرفت أفعاله و صفاته، و لكنّه إله واحد! كما وصف نفسه، لا يضادّه فى ملكه أحد، و لا يزول أبدا، و لم يزل، أوّل قبل الأشياء بلا أوّليّة، و آخر بعد الأشياء بلا نهاية. عظم عن أن تثبت ربوبيّته باحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله فى صغر خطره، و قلّة مقدرته، و كثرة عجزه، و عظيم حاجته إلى ربّه، فى طلب طاعته، و الرّهبة من عقوبته، و الشّفقة من سخطه، فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن، و لم ينهك إلاّ عن قبيح.
أقول: أطلق لفظ الفانى عليه مجازا اطلاقا لاسم الغاية على ذى الغاية، و استعار له لفظ الرهينة باعتبار أن الانسان مربوط الوجود بالأيام كالرهن لما عليه. و الرمية: الغرض و الهدف. و لفظ التاجر: باعتبار بذله لنفسه فى تحصيل الدنيا و اضافه الى الغرور: اضافة المسبّب الى السبب، اذ الغفلة هى مبدأ ذلك. و لفظ الغريم: باعتبار طلب الموت له كالمتقاضى. و النصب: المنصوب. و استعار لفظ الجموح للدهر: باعتبار اختلاف تصرفاته، و عدم جريانه على قانون يحفظ كالجموح من الخيل. و يزعني: يمنعني. و محض أمره: خالصه، اي: انكشف له انّه راحل الى الآخرة، و انه لا بدّ من لزوم الأمر الذى ينبغي له. و وجدتك بعضى، اي: بمنزلة بعضى كقوله:
ص: 506
و انّما أولادنا بيننا *** أكبادنا تمشى على الأرض(1)
و كلّي اي: قائما مقام كلّى. و عبارة عني كان هو خليفته، و القائم مقامه فى علمه و فضائله، و اكّد قربه منه، و تنزيله منزلة نفسه بذكر الغايتين. و كذلك استعار لفظ الحبل: لما يتمسّك به من دين اللّه الموصل اليه، و قلبه الذى يحييه نفسه العاقلة. و احياؤها بالعلم و الحكمة، و الذى يميته هي نفسه الامارة بالسوء. و اماتتها: كسرها عن ميولها المخالفة لآراء العقل بترك الدنيا و الاعراض عنها، و تطويعها بذلك. و يحتمل أن يريد به النفس العاقلة ايضا، و اماتتها: قطعها عن متابعة هواها و تقويته باليقين اي: من ضعف الجهل، للنهوض الى افق علّيّين، و تقريره بالفناء: حمله على الاقرار به و ذلك بأدامة ذكره و كثرة اخطاره بالبال. و اراد بالإمساك عن طريق يخاف ضلالته التوقّف عند الشبهات. و الغمرات: الشدائد. و الاستخارة: الطلب الى اللّه ان يخيّر له فيما يأتي. و يذره صفحا اى: معرضا. و العلم الذى لا يحق تعلمه اي: لا ينبغي، كالعلوم التي لا تجدى نفعا فى الآخرة كالسحر و التكهّن و نحوهما. و الوهن: الضعف من الكبر و كان عليه السلام جاوز الستّين، و خصالا: مفعولا به. و بادرتها: سابقتها و سارعتها. و أفضى:
أوصل. و ضعف الرأى فى الكبر لضعف القوى النفسانية، و الارواح الحاملة لها و عجزها عن التصرّف فى طلب الآراء الصالحة، و سبق غلبات الهوى، لانّ الصبىّ اذا لم يؤخذ بالآداب فى حداثته و لم ترض قواه بمطاوعة عقله كان بصدد أن تميل به القوى الحيوانيّة الى مشتهياته، و تنجذب فى قياد هواه و تصرفه عن الوجهة الحقيقية فيكون حينئذ كالصعب النفور من البهائم فى عسر تصريفه على حسب المنفعة.
و قوله: و أتاك من ذلك، اى: من العلم التجربىّ ما كنا نأتيه و نطلبه. و عدت اى:
صرت. و نخيلة: خلاصته و مختاره. و اجمعت: صممت عزمى. و قوله: ثم اشفقت، عطف على رأيت اي: كنت رأيت أن أقتصر بك على ذلك، و لا اتجاوزه بك الى غيره من العلوم العقليّة، ثم خفت ان يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه، من اهوائهم و آرائهم مثل ما التبس عليهم فكان أحكام ذلك اى ما اختلف الناس فيه، من المسائل العقلية الإلهية التي تكثر التباس الحق فيها بالباطل، و تكتنفها الشّبهات المغلطة التي هى منشأ
ص: 507
فساد العقائد، و الهلاك بها فى الآخرة، و احكام ذلك ببيان وجه و اولجتك ادخلتك و اراد خبط العشواء فحذف المضاف. و نبّهه بقوله: و اعلم، الى قوله: المعاد، على جملة من صفات اللّه تعالى و افعاله التي يتوهّم تضادّها، و التناهى استنادها الى مبدأ واحد، امّا الصفات فأشار الى انّها ليست بمتضادّة، و إنّ مبدءها واحد، و قد اشرنا فى الخطب السابقة الى كيفية وصفه تعالى بالاعتبارات المتعدّدة.
و اما الأفعال فهو انّه تعالى، لما خلق الدنيا لم يكن خلقها و استقرار وجودها الاّ على ما خلقها عليه من سائر ما يعدّ نعمة، و ابتلاء، ثم لزوم الجزاء فى المعاد لنفوس المبتلين، و المنعم عليهم بحسب طاعتهم و معصيتهم فى النعماء، و الابتلاء و كذلك خلقه لها على ما شاء مما لا يعلم وجه الحكمة فيه الاّ هو، اذ ثبت فى اصول الحكمة انّ المقصود من العناية الألهية بالذات انّما هو الخير. و اما الشرور الواقعة فى الوجود فبالعرض من حيث انّه لا يمكن نزع الخير و تجريده عما يعدّ شرّا، مثلا كون النار نارا منتفعا بها انما يكون بكونها محرقة، و هو باعتبار احراق بيت الناسك مثلا شرّ، و كون الماء منتفعا به انّما هو من حيث هو سيّال من شأنه ان يغرق و هو باعتبار اغراقه شرّ، و لما كان الخير اغلب فى الوجود و كانت الشرور امورا لازمة لم يجز ترك الخير الكثير لأجلها، لان تركه لوجود شرّ قليل ينافي الحكمة و ذلك معنى قوله: و الدنيا لم تكن تستقر الاّ على ما جعلها اللّه عليه مما عدّده، اى لم يكن يمكن خلقها الاّ على ما فيها من خير مقصود بالذات، و شرّ لازم له.
و لزوم الجزاء على السّببية، و عقاب النفوس فى المعاد عليها من الشرور اللازمة لما حصلت عليه من الهيئات البدنية، و الملكات الرديّة فى الدنيا، و شفقتك: خوفك. و استعار وصف(1)الرائد للنبىّ صلى اللّه عليه و آله، ملاحظة: لشبهه فى استعلام اخبار السماء بالرائد فى استعلامه بالكلاء و الماء، و لم آلك نصيحة اي: لم أقصّر فى نصيحتك، و نصيحة تمييز.
و قوله: و اعلم يا بنى، الى قوله: عن قبيح: اشارة الى الحجّة على وحدانيّة الصانع تعالى، و على جملة من صفاته اما الحجّة على وحدانيّته فهى مقدم الشرطيّة فيه. قوله: لو كان لربّك شريك، و تاليها قوله: لأتتك رسله الى قوله: و صفاته، و ينتج باستثناء
ص: 508
نقائض اقسام التالى نقيض المقدّم، بيان الملازمة انّه لو كان له شريك لكان شريكه الصالح لشركته إلها، مستجمعا لجميع شرائط الألهيّة و الاّ لم يصلح لها، لكن من لوازم الألهية امور:
احدها، الحكمة فى وجوب بعثة الرسل الى الخلق لما علمت من وجوب البعثة.
الثانية، أن تكون آثار ملكه و سلطانه و صفات أفعاله ظاهرة مشاهدة.
الثالثة، أن تعرف أفعاله و صفات ذاته، لكن هذه اللوازم باطلة.
امّا الاوّل، فلأنه لم يأتنا رسول ذو معجزة(1) يدلنا على الثاني و يخبرنا عنه. و أما الثاني، و الثالث، فلأنّ آثار الملك، و السلطان، و مجرّد الأفعال انّما يدلّ على فاعل حكيم قادر، اما على تعدّد الفاعلين فلا، و كذلك صفات الألهية المكتسبة لنا من الأفعال، كالعلم و القدرة و الارادة و غيرها، إنّما تدلّ على صانع موصوف بها، فأمّا التعدّد فلا، فاذن القول بانّ له شريكا قول باطل. و أما الصفات فظاهرة، و اشار بقوله عظم:
الى قوله: او بصر، الى نزاهة صفات الربوبيّة عن احاطة العقول و الابصار بها. و الشفّقة:
الخوف، و باقى الفصل واضح. و باللّه التوفيق.
يا بنىّ ، إنّى قد أنبأتك عن الدّنيا و حالها، و زوالها و انتقالها، و أنبأتك عن الآخرة و ما أعدّ لأهلها فيها، و ضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها، و تحذو عليها! إنّما مثل من خبر الدّنيا، كمثل قوم سفر نبابهم منزل جديب فأمّوا منزلا خصيبا، و جنابا مريعا، فاحتملوا و عثاء الطّريق، و فراق الصّديق، و خشونة السّفر، و جشوبة المطعم، ليأتوا سعة دارهم و منزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألما، و لا يرون نفقة مغرما، و لا شيء أحبّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم، و أدناهم من محلّهم. و مثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب، فليس شيء أكره إليهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه و يصيرون إليه! يا بنىّ ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، و اكره له ما تكره لها، و لا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم، و أحسن كما تحبّ أن
ص: 509
يحسن إليك، و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، و ارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك، و لا تقل ما لا تعلم، و إن قلّ ما تعلم و لا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك. و اعلم أنّ الاعجاب ضدّ الصّواب، و آفة الألباب، فاسع فى كدحك، و لا تكن خازنا لغيرك، و إذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك. و اعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، و مشقّة شديدة. و أنّه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد، و قدّر بلاغك من الزّاد مع خفّة الظّهر فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالا عليك. و إذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه و حمّله إيّاه، و أكثر من تزويده و أنت قادر عليه، فلعلّك تطلبه فلا تجده، و اغتنم من استقرضك فى حال غناك ليجعل قضاءه لك فى يوم عسرتك. و اعلم أنّ أمامك عقبة كئودا، المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل و البطىء عليها أقبح حالا من المسرع، و أنّ مهبطك بها لا محالة على جنّة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، و وطّىء المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب، و لا إلى الدّنيا منصرف. و اعلم أنّ الّذى بيده خزائن السّموات و الأرض قد أذن لك فى الدّعاء، و تكفّل لك بالاجابة، و أمرك أن تسأله ليعطيك، و تسترحمه ليرحمك، و لم يجعل بينك و بينه من يحجبه عنك، و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه. و لم يمنعك إن أسأت من التّوبة، و لم يعيّرك بالانابة، و لم يعاجلك بالنّقمة، و لم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، و لم يشدّد عليك فى قبول الانابة، و لم يناقشك بالجريمة، و لم يؤيسك من الرّحمة، بل جعل نزوعك عن الذّنب حسنة، و حسب سيّئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا، و فتح لك باب المتاب، و باب الاستعتاب، فاذا ناديته سمع نداءك، و إذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، و أبثثته ذات نفسك، و شكوت إليه همومك، و استكشفته كروبك، و استعنته على أمورك، و سألته من خزائن رحمته مالا يقدر على إعطائه غيره: من زيادة الأعمار، و صحّة الأبدان، و سعة الأرزاق. ثمّ جعل فى يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته، و استمطرت شآبيب
ص: 510
رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النّيّة، و ربّما أخّرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل، و أجزل لعطاء الآمل، و ربّما سألت الشّىء فلا تؤتاه، و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته. فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، و ينفى عنك و باله، و المال لا يبقى لك، و لا تبقى له.
اقول: تحذو: تقتدى، و جذبه عن الدنيا الى الآخرة بتمثيلين: فالأول ذكر حال من خبّر الدنيا و زوالها، و خبّر الآخرة و بقاؤها، و مثلهم بحال قوم سفر اى: مسافرين، فارقوا منزلا جديبا الى منزل خصيب، و وجه التمثيل ان النفوس البشريّة لما كانت الحكمة فى هبوطها الى هذا العالم، و مقارنتها لهذه الهياكل المظلمة فى دار الغربة و محل الوحشة من عالمها، هو ان تحصل بواسطتها الكمالات العقليّة ثم ترجع بعد الكمال طاهرة عن علايقها و هيئاتها الرذيلة كانت كلّ نفس لزمت الصراط المستقيم، و حفظت العهد المأخوذ عليها فى المدة المضروبة لها، ناظرة بعين الاعتبار انّ الدنيا كالمنزل المجدب لخلوّه عن المطاعم الحقيقية، فهو لذلك غير صالح للاستيطان، و انّ الآخرة كالمنزل المخصب: المربع للفناء ذى الكلاء و الماء، من وصل اليه مستقيما على طريق الحق فاز بالمقاصد السنيّة و اللذات الباقيّة فكانت فى الدنيا فى طريق السفر، و قطع منازل سبيل اللّه و الاستعداد للوصول الى بهجة حضرته الشريفة، محتملة وعثاء السفر اى:
مشقّته. و جشوبة المطعم اى: غلظه قصدا الى سعة الدار لا تجد لذلك الما، و لا احب اليها منه لكونه وسيلة الى مطلوبها الأعظم.
و أما التمثيل الثاني، فذكر حال اهل الدنيا الذين قادتهم نفوسهم الامّارة بالسوء اليها فغفلوا عما ورائها و نسوا عهد ربّهم، و مثلهم بحال قوم كانوا فى منزل خصيب فنبا بهم الى منزل جديب، و المنزل الخصيب هنا الدنيا لانها محلّ سعادة اهلها و لذّاتهم، و المنزل الجديب هو الآخرة اذ لم يكونوا قد استعدّوا لدرك السعادة فيها، و وجه التمثيل هو فى ذلك من الشّر العظيم، و الحكم اللازم له هو ما ذكره من انّه ليس شيء اكره اليهم، الى قوله اليه: و مضادة الاعجاب للصواب مضادة الرذيلة للفضيلة. و كونه آفة الألباب
ص: 511
باعتبار انّه من الأمراض النفسانية المهلكة فى الآخرة كما سبق بيانه. و الكدح: الكسب، و السعى فيه اى: فيما ينبغي منه و هو كسب الفضائل. و خزنة لغيره: كناية عن رذيلة البخل: و استعار لفظ الطريق: لما يستقبله الانسان من احوال الدنيا و يعبر عنها الى الآخرة، و احوالها مسافر الى اللّه. و اشار بطولها و شدّتها الى عسر النجاة و السلامة من خطرها، اذ كان ذلك انّما يكون بلزوم القصد فيها و الثبات على صراط اللّه المستقيم، فبالحرىّ ان يكون ذا مسافة بعيدة و مشقّة شديدة، و انّه لاغناء فيه عن حسن الارتياد، اى طلب ما يقوم مقام الكلأ و الماء من الكمالات العقلية الموصلة الى الغاية الحقيقية.
و الزاد: هو التقوى. و خفة الظهر اى: من الرذائل و الآثام. و الوبال: الهلاك. و اشار بتجميل الفقراء الزاد الى ما يحصل له من ثواب الصدقة عليهم، و المواساة لهم و كذلك ثواب القرض. و استعار لفظ العقبة الكؤود اى: شاقة المصعد للطريق الى الآخرة، باعتبار ما فيها من الصعود و الارتقاء فى درجات الكمال بالفضائل، عن مهابط الرذائل، و وصفها بالمشّقة باعتبار ما فيها من العسر و كثرة الموانع. و المخف اى: من ثقل الآثام. و المبطى اى: عن اقتناص الفضائل. و ارتده اى: الطلب. و اذنه تعالى فى الدعاء و تكفّله بالاجابة فى قوله تعالى: «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »(1).
و الانابة: الرجوع. و نزع عن الذنب: خرج منه. و افضت: وصلت. و البثّ : النشر و الكشف. و ذات نفسك: حاجتك. و الشآبيب جمع شؤبوب و هى: الدفعة من المطر. و يقنطك: يؤيسك. و الفصل من الطف التأديب و الاستدراج الى طاعة اللّه و محبّته و هو واضح، و باللّه التوفيق.
و اعلم أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا، و للفناء لا للبقاء، و للموت لا للحياة و أنّك فى منزل قلعة، و دار بلغة، و طريق إلى الآخرة، و أنّك طريد الموت الّذى لا ينجوا منه هاربه، و لا يفوته طالبه، و لا بدّ أنّه مدركه فكن منه على حذر أن يدركك و أنت على حال سيّئة قد كنت تحدّث نفسك منها بالتّوبة فيحول بينك و بين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.
ص: 512
يا بنىّ ، أكثر من ذكر الموت، و ذكر ما تهجم عليه، و تفضى بعد الموت إليه، حتّى يأتيك و قد أخذت منه حذرك، و شددت له أزرك، و لا يأتيك بغتة فيبهرك! و إيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها، و تكالبهم عليها، فقد نبّأ اللّه عنها، و نعت لك نفسها، و تكشّفت لك عن مساويها، فإنّما أهلها كلاب عاوية، و سباع ضارية، يهرّ بعضها بعضا، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها، نعم معقّلة، و أخرى مهملة قد أضلّت عقولها، و ركبت مجهولها، سروح عاهة، بواد وعث! ليس لها راع يقيمها، و لا مسيم يسيمها! سلكت بهم الدّنيا طريق العمى، و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا فى حيرتها، و غرقوا فى نعمتها، و اتّخذوها ربّا فلعبت بهم و لعبوا بها و نسوا ما وراءها!! رويدا يسفر الظّلام كأن قد وردت الأظعان! يوشك من أسرع أن يلحق. و اعلم يا بنىّ أنّ من كانت مطيّته اللّيل و النّهار فانّه يسار به و إن كان واقفا، و يقطع المسافة و إن كان مقيما وادعا. و اعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك، و لن تعدو أجلك، و أنّك فى سبيل من كان قبلك، فخفّض فى الطّلب، و أجمل فى المكتسب، فانّه ربّ طلب قد جرّ إلى حرب، فليس كلّ طالب بمرزوق، و لا كلّ مجمل بمحروم، و أكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقتك إلى الرّغائب، فانّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا، و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرّا، و ما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ، و يسر لا ينال إلاّ بعسر؟! و إيّاك ان توجف بك مطايا الطّمع، فتوردك مناهل الهلكة، و إن استطعت أن لا يكون بينك و بين اللّه ذو نعمة فافعل، فإنّك مدرك قسمك، و آخذ سهمك! و إنّ اليسير من اللّه - سبحانه - أعظم و أكرم من الكثير من خلقه و إن كان كلّ منه. و تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، و حفظ ما فى الوعاء بشدّ الوكاء، و حفظ ما فى يديك أحبّ إلىّ من طلب ما فى يد غيرك. و مرارة اليأس خير من الطّلب إلى النّاس، و الحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور، و المرء أحفظ لسرّه. و ربّ ساع فيما يضرّه! من أكثر أهجر، و من تفكّر أبصر! قارن أهل الخير تكن منهم، و باين أهل الشّرّ تبن عنهم! بئس الطّعام الحرام، و ظلم الضّعيف أفحش الظلم. إذا كان الرّفق خرقا كان الخرق رفقا. ربّما كان الدّواء داء و الدّاء دواء، و ربّما نصح غير
ص: 513
النّاصح و غشّ المستنصح. و إيّاك و اتّكالك على المنى فإنّها بضائع النّوكى، و العقل حفظ التّجارب. و خير ما جرّبت ما وعظك! بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة. ليس كلّ طالب يصيب، و لا كلّ غائب يئوب، و من الفساد إضاعة الزّاد، و مفسدة المعاد، و لكلّ أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدّر لك، التّاجر مخاطر! و ربّ يسير أنمى من كثير، و لا خير فى معين مهين، و لا فى صديق ظنين، ساهل الدّهر ما ذلّ لك قعوده، و لا تخاطر بشىء رجاء أكثر منه، و إيّاك أن تجمح بك مطيّة اللّجاج! احمل نفسك من أخيك - عند صرمه - على الصّلة، و عند صدوده على اللّطف و المقاربة، و عند جموده على البذل، و عند تباعده على الدّنوّ، و عند شدّته على اللّين و عند جرمه على العذر، حتّى كأنّك له عبد، و كأنّه ذو نعمة عليك، و إيّاك أن تضع ذلك فى غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله، لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادى صديقك، و امحض أخاك النّصيحة حسنة كانت أو قبيحة، و تجرّع الغيظ فانّى لم أرجرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذّ مغبّة، و لن لمن غالظك، فإنّه يوشك أن يلين لك، و جد على عدوّك بالفضل فانّه أحلى الظّفرين و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما، و من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه، و لا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه، و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك، و لا ترغبنّ فيمن زهد عنك، و لا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته، و لا يكوننّ على الاساءة أقوى منك على الإحسان، و لا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك، فانّه يسعى فى مضرّته و نفعك، و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه. و اعلم، يا بنىّ ، أنّ الرّزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك. ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى. إنّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، و إن جزعت على ما تفلّت من يديك، فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك. استدلّ على ما لم يكن بما قد كان فإنّ الأمور أشباه، و لا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت فى إيلامه، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب، و البهائم لا تتّعظ إلاّ بالضّرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر و حسن اليقين، من ترك القصد جار، و الصّاحب مناسب،
ص: 514
و الصّديق من صدق غيبه، و الهوى شريك العناء، ربّ قريب أبعد من بعيد، و ربّ بعيد أقرب من قريب، و الغريب من لم يكن له حبيب. من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه، و من اقتصر على قدره كان أبقى له. و أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين اللّه، و من لم يبالك فهو عدوّك، قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطّمع هلاكا. ليس كلّ عورة تظهر، و لا كلّ فرصة تصاب، و ربّما أخطأ البصير قصده، و أصاب الأعمى رشده. أخّر الشّرّ فإنّك إذا شئت تعجّلته، و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. من أمن الزّمان خانه، و من أعظمه أهانه! ليس كلّ من رمى أصاب، إذا تغيّر السّلطان تغيّر الزّمان، سل عن الرّفيق قبل الطّريق، و عن الجار قبل الدّار. إيّاك أن تذكر من الكلام ما كان مضحكا، و إن حكيت ذلك عن غيرك، و إيّاك و مشاورة النّساء، فانّ رأيهنّ إلى أفن و عزمهنّ إلى و هن، و اكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ ، فانّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ ، و ليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ ، و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل، و لا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فانّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة، و لا تعد بكرامتها نفسها، و لا تطمعها فى أن تشفع لغيرها، و إيّاك و التّغاير فى غير موضع غيرة، فانّ ذلك يدعو الصّحيحة إلى السّقم، و البريئة إلى الرّيب، و اجعل لكلّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به، فانّه أحرى أن لا يتواكلوا فى خدمتك، و أكرم عشيرتك فانّهم جناحك الّذى به تطير، و أصلك الّذى إليه تصير، و يدك الّتى بها تصول. استودع اللّه دينك و دنياك، و أسأله خير القضاء لك فى العاجلة و الآجلة، و الدّنيا و الآخرة، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
اقول: اشار بالأمور التي خلق لها الى غاياته. و منزل قلعة: لا يصلح للاستيطان، و الدنيا دار بلغة: باعتبار انّ الواجب فى استعمالها قدر الضرورة التي يتبلّغ بها الى الآخرة، دون الاستكثار منها اذ كانت طريقا اليها. و استعار لفظ الطريد: باعتبار طلب الموت له كالطريدة من الصيد. و الازر: القوة. و بهره: غلبه و أتعبه. و الاخلاد الى الشيء: السكون اليه. و التكالب: التواثب. و المساوئ: العيوب. و الضراوة: تعوّد الصيد و الجرأة عليه. و اشار بقوله: فإنما اهلها الى قوله: صغيرها الى اهل الدنيا: باعتبار قواهم الغضبيّة و
ص: 515
اتباعها. و بقوله: نعم معقلة، الى قوله: و رآها الى اهلها: باعتبار اتبّاعهم لقواهم الشهويّة، ثم قسم هؤلاء قسمين فاستعار لفظ المعقلة: للذين تمسّكوا منهم بظواهر الشريعة و تقيّدوا بها عن الاسترسال الظاهر فى الشهوات المحرمة فى الدين، و ان لم يعقلوا اسرار الشريعة فهم: كالنعم التي عقلها راعيها، و اشعار لفظ المهملة: للّذين استرسلوا فى اتبّاع شهواتهم مطلقا و خرجوا عن طاعة امامهم. و قوله: عقولها قيل: اراد عقلها فاشبع الضمّة فقلبها و اوا للمناسبة بين القرينتين. و المجهول و المجهل: المفازة التي لا اعلام بها. و واد وعث:
لا يثبت به خفّ و لا حافر لكثرة سهولته. و المسيم: الراعى. و اراد بالعمى: الجهل. و رويدا اى: أمهل. و استعار لفظ الظلام: لحجب الابدان و ظلمات هيأتها الحاجبة لأبصار البصائر عن ادراك امور الآخرة، و هو وعيد بالموت و ما بعده. و كنّى بالاظعان عن المسافرين الى اللّه، و كأن المخفّفة من الثّقيلة و تفيد تقريب المستقبل من الامور يوشك من اسرع ان يلحق: ترغيب فى اسراع السير فى مراتب القربة الى اللّه تعالى، بذكر الغاية و هى اللحوق بمراتب السابقين و يحتمل ان يكون من تمام الوعيد بالموت و قربه، اذ الناس فى حد الاسراع اليه على مطيّتى الليل، و النهار، و من كان كذلك قربت لحوقه بمن سبقه. و الوادع، ذو الدّعة و لا يبلغ أمله لانّ الآمال لا تزال تتجدّد. و لا تعد اى:
لا تتجاوز. و خفّض: سهل على نفسك. و الاجمال فى الاكتساب: ان يكون على وجه جميل، و هو الوجه الذي ينبغي. و الحرب: سلب المال. و نهيه عن التعبّد للغير:
يستلزم النهى عن سببه و هو الطّمع. و قوله: فانك، الى قوله عرضا: صغرى ضمير، بيّن فيه علّة الامر باكرام نفسه و تقدير كبراه، و كلّ من كان كذلك فواجب عليه ان لا يبذل نفسه فى الدّنايا و يكرمها عنها. و الوجيف: ضرب من السير فيه سرعة. و استعار لفظ المطايا للاطماع و وصف الوجيف لها: باعتبار هجومها بالانسان على الهلاك الاخروى. و استعار لها لفظ المناهل و هى:
الشرائع و موارد الشرب. و قسمة المدرك له هو: ما قسمه اللّه له من رزق و غيره، فى كتابه المبين، و لوحه المحفوظ. و قوله: و تلافيك اى: تداركك الى قوله الوكاء: ارشاد الى حفظ اللسان و ضبطه عمّا لا ينبغي من القول. و قوله: و حفظ ما فى يدك الى قوله:
غيرك: ارشاد الى الاقتصاد فى المال، و ترك الاسراف، لما يستلزمه من الحاجة
ص: 516
الى الغير. و الحرفة: ضيق الرزق. و اهجر قال الهجر، و هو: الفحش فى المنطق. و قوله:
المرء احفظ لسرّه: اخبار فى معنى الأمر. و فى قوله احفظ: تنبيه على الفرق بين حفظ الانسان لسر نفسه و بين ايداعه الغير، و كذلك من تفكّر ابصر. و قوله: اذ كان الرفق الى قوله: رفقا، اى: اذا كان استعمال الرفق و هو اللين فى بعض المواضع، كالخرق و هو العنف فى كونه مفسدا و مفوتا للغرض كون استعمال الخرق فى ذلك الموضع كاستعمال الرفق فى استلزامه المصلحة غالبا، فكان اولى من الرفق فى ذلك الموضع و نحوه قول ابى الطيب(1):
و وضع الندى فى موضع السيف بالعلى *** مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
و هو: اخبار فى معنى النهى عن وضع كلّ منهما فى موضع الآخر، و ربّما يفهم منه معنى آخر، و هو: انّه اذ استعمل الرفق فى موضع الخرق لزم ذلك ان يستعمل الخرق فى غير موضعه و هو موضع الرفق، و ذلك مما لا ينبغي. و قوله: ربّما كان الى قوله دواء: تنبيه على ان فعل بعض الامور قد يعتقد مصلحة و هو مفسدة، و فعل بعض بالعكس، و نحوه قول المتنبىّ :
و ربّما صحتّ الأجساد بالعلل
و النوكى: الحمقى و قوله: و العقل حفظ التجارب: رسم للعقل العملىّ ، ببعض كمالاته و صفاته. و انّما خصّ العلوم التجربية: لانها أصل عظيم فيما ينبغي ان يفعل، و العقل قد يراد به قوّة النفس، و قد يراد به المصدر، و هو فعل تلك القوة و هو محتمل الارادة هاهنا. و الفرصة: وقت امكان العمل للآخرة. و الغصة: هو ما يلحق من ألم الندم بعد فوت الفرصة. و المهين: الضعيف. و الظنين: المتّهم. و قوله: ساهل الدهر، الى قوله:
قعوده: كمساهلته الجريان معه بقدر مقتضاه من دون تشدّد و تسخط عليه، و لفظ القعود:
مستعار للوقت الذى تتيسر فيه الأمور، و كذلك وصف الذلّة باعتبار سهولة المطالب فيه، و خصّ العقود: باعتبار انّه فى مظنّة النفار براكبه، و الزمان فى مظنّة التغير. و قوله: احمل، الى قوله غير أهله: امره ان يلزم نفسه و يحملها فى حقّ صديقه الاهل للصنيعة، على ان يقابل رذائله المعدودة بما يضادها من الفضائل. و الصرم: القطيعة.
ص: 517
و الجمود: ضدّ البذل. و امحض اى: اخلص. و حسنة او قبيحة اى: فى نظر المنصوح. و المغبة: العاقبة. و المغالظة: المخاشئة. و ما بينك و بينه، اى: من المودة. و قوله: فانه ليس لك الى قوله: حقه، صغرى ضمير نفرّ به عن اضاعة حق الأخ، اي: انّك اذا اضعت حقّه لا بدّ ان يفارقك، و نفعه على تقدير كونه مطلوبا حصوله على ثواب الصّابرين فى الآخرة. و الرزق المطلوب: ما كان مبدؤه الحرص فى الدنيا، و الرزق الطالب للانسان هو المقدّر له، و فيه تنبيه على الاجمال فى طلب الرزق. و الجفاوة: قسوة القلب. و مثواه:
موضع اقامته من الآخرة. و عزائم الصبر: ما جزمت منه. و حسن اليقين اى: باللّه تعالى، و هو ان يعلم يقينا انّ كل صادر فى الوجود فعلى وفق الحكمة الالهية، و لازم لها. و جار:
دخل فى رذيلة الجور و هو الانحراف عن فضيلة العدل، و روى بالحاء. و لفظ المناسب:
مستعار للصاحب باعتبار منفعته و قربه كالنسيب و الصديق اى: الخالص فى صداقته. و شريك العمى اى: فى كونهما لا يهتدى معهما الى ما ينبغي من المصلحة. و ضيق المذهب: المتعدّى باعتبار انّ الغالب على الخلق اتباع اكثر الحق، و المتعدّى عنه: مأخوذ بالأقوال الذامة و الافعال الرادعة مضيق عليه بها مذهبه، و حيث سلك من الباطل. و من لا يبالك اى: لا يهتمّ بأمرك عند حاجتك اليه، و استعار له لفظ العدوّ: باعتبار عدم المبالاة كالعدوّ. و قوله: و قد يكون، الى قوله: هلاكا أي: اذا كان الطمع فى امر يؤدّى الى الهلاك كان اليأس منه ادراكا للنجاة. و قوله: ليس كل عورة، الى قوله:
رشده: تنبيه على انّ من الامور الممكنة، و الغرض ما يفعل الطالب البصير بالامور عن وجه طلبه، فلا يصيبه و يهتدى له الأعمى الجاهل بما ينبغي. و العورة: كالفرصة و اعور: الفارس اذا بدامنه موضع للضرب. و قوله: و من اعظمه اهانة: فاعظامه من حيث انّه مشتمل على خيرات الدنيا و لذاتها بالصّحة و الشباب و الأمن و نحو ذلك، و بذلك الاعتبار، يكرم و يستعظم، و امّا لزوم اهانة من يستعظمه، فلاستلزام اعظامه الركون اليه، و الاشتغال بما فيه من اللّذات. ثم انّ الزمان بعد ذلك يكر (يدور) عليه بمقتضى طباعه فيزيل ما كان فيه من لذّة و خير، و يبدّله بالعزة هوانا و باللّذة الما. و قوله: اذا تغيّر السلطان اى: فى نيّته و فعله تغير الزمان، و ذلك ان الزمان انما يحمد او يذمّ بحسب ما يقع فيه من خير و شرّ.
ص: 518
و ظاهر ان تغيّر السلطان من احدهما الى الآخر يستلزم وقوع ما تغير اليه فى وقت وقوعه، و بحسب ذلك يكون تغيّر الزمان و نسبته الى الخير او الشر الواقع بعد ان لم يكن، و السابق الى الفهم من التغير هو التغير من الخير الى الشرّ. و الافن بالسكون: النقص و الضّعف، و ما جاوز نفسها: هو ما عدا ما يحلّ لها تملكه فى عرف الشريعة، و استعار لها لفظ الريحانة: باعتبار انّ الغرض بها اللذّة و الاستمتاع، و كرامة نفسها بما يجب من كسوة و نحوها. و الصحيحة: البريئة من الفساد. و غيرة الرجل على البريئة و اشعارها بتهمتها بالفساد ربّما يؤدى الى فسادها، لأنها ربما تستقبح ذلك فى اول الأمر و يعظم عليها ذكره فاذا تكررت المواجهة به هان عليها، و صار فى قوة اغرائها به. و الريب: الشك. و احرى: اولى و يتواكلوا اى: تكل كل منهم الأمر الى صاحبه. و اليه تصير اى: ترجع. و اكثر المقاصد فى هذه الوصية واضحة غنيّة عن الشرح و الاستقصاء فيها مذكور فى الاصل، و باللّه التوفيق.
و أرديت جيلا من النّاس كثيرا: خدعتهم بغيّك، و ألقيتهم فى موج بحرك، تغشاهم الظّلمات، و تتلاطم بهم الشّبهات، فجازوا عن وجهتهم، و نكصوا على أعقابهم، و تولّوا على أدبارهم، و عوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فانّهم فارقوك بعد معرفتك، و هربوا إلى اللّه من موازرتك، إذ حملتهم على الصّعب، و عدلت بهم عن القصد، فاتّق اللّه يا معاوية فى نفسك، و جاذب الشّيطان قيادك، فانّ الدّنيا منقطعة عنك، و الآخرة قريبة منك، و السّلام.
اقول: أرديت: أهلكت. و الجيل: الصنف. و الغىّ : الضلال. و استعار لفظ الموج:
للشبهات التي ألقاها معاوية الى الناس كشبهة قتل عثمان و شبهة التحكيم. و لفظ الظلمات لتلك الشبهة: باعتبار عدم اهتداء الخلق فيها الى تخليص الحق. و حاروا:
ص: 519
عدلوا. و نكصوا: رجعوا. و عوّلوا: اعتمدوا أحسابهم ما يفخرون به من مال و اصل. و فاء:
رجع، و معرفتك اى معرفتهم: بك. و الموازرة: المعاونة. و استعار لفظ الصعب من الإبل و نحوه: لما حملهم عليه من مخالفة الحق، و البغى على الامام العادل.
33 - و من كتاب له عليه السّلام إلى قثم بن العباس(1)، و هو عامله على مكة
أمّا بعد، فإنّ عينى بالمغرب، كتب إلىّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام، العمى القلوب، الصّمّ الأسماع، الكمه الأبصار، الّذين يلتمسون الحقّ بالباطل، و يطيعون المخلوق فى معصية الخالق، و يحتلبون الدّنيا درّها بالدّين، و يشترون عاجلها بآجل الأبرار المتّقين، و لن يفوز بالخير إلاّ عامله، و لا يجزى جزاء الشّرّ إلاّ فاعله، فأقم على ما فى يديك قيام الحازم الصّليب، و النّاصح اللّبيب، التّابع لسلطانه المطيع لامامه، و إيّاك و ما يعتذر منه، و لا تكن عند النّعماء بطرا، و لا عند البأساء فشلا.
اقول: العين: الجاسوس. و اراد بالمغرب: الشام، لأنها من الحدود المغربيّة. و الموجّه للقوم: هو معاوية. و الموسم: موسم الحج. و قوله العمى، الى قوله: الأبصار، اشارة: الى شدّة غفلتهم عن اللّه تعالى، و عن امور الآخرة. و الحق: هو ما يطلبونه من دم عثمان، و الباطل: وجه طلبهم له. و شبهتهم فيه. و درّها: بدل من الدنيا. و الفشل: الضعف و الجبن. و مقاصد الكتاب و استعاراته ظاهرة.
ص: 520
أمّا بعد، فقد بلغنى موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك، و إنّى لم أفعل ذلك استبطاء لك فى الجهد، و لا ازديادا لك فى الجدّ، و لو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لولّيتك ما هو أيسر عليك مئونة، و أعجب إليك ولاية. إنّ الرّجل الّذى كنت ولّيته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا و على عدوّنا شديدا ناقما فرحمه اللّه فلقد استكمل أيّامه، و لاقى حمامه، و نحن عنه راضون، أولاه اللّه رضوانه، و ضاعف الثّواب له، فأصحر لعدوّك، و امض على بصيرتك، و شمّر لحرب من حاربك، و «اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ »، و أكثر الاستعانة باللّه يكفك ما أهمّك، و يعنك على ما نزل بك، و السّلام.
اقول: الموجدة: ما يجده الانسان. و الجهد: الاجتهاد. و أعجب: أحب. و اصحر اى: اظهر و ابرز. و بصيرته: علمه و تيقنه انّه على الحق و انّ خصمه على الباطل. و التشمير كناية عن الاستعداد.
أمّا بعد، فإنّ مصر قد افتتحت و محمّد بن أبى بكر رحمه اللّه قد استشهد، فعند اللّه نحتسبه ولدا ناصحا، و عاملا كادحا، و سيفا قاطعا، و ركنا دافعا، و قد كنت حثثت النّاس على لحاقه، و أمرتهم بغياثه قبل الوقعة، و دعوتهم سرّا و جهرا، و عودا و بدءا: فمنهم الآتى كارها، و منهم المعتلّ كاذبا، و منهم القاعد خاذلا. أسأل اللّه أن يجعل لي منهم فرجا عاجلا، فو اللّه لو لا طمعى عند لقائى عدوّى فى الشّهادة، و توطينى نفسى على المنيّة، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا، و لا التقى بهم أبدا.
ص: 521
اقول: احتسب بكذا عند اللّه: اطلب به. الحسبة بالكسر و هى: الأجر فى الرزيّة به.
و استشهد: كانه استحضر الى اللّه بالقتل. و كونه ولدا: باعتبار انه كان ربيبا له عليه السلام.
و امّه اسماء بنت عميس الخثعمية، كانت تحت جعفر بن ابى طالب رضع فولدت له محمدا و عونا، و عبد اللّه، بالحبشة حين هاجرت معه اليها. و تزوّجها بعد قتله ابو بكر فولدت له محمدا هذا. ثم تزوّجها بعد وفاته على عليه السلام، فولدت له يحيى. و الكدح: السعي.
و استعار لمحمد لفظ السيف و الركن باعتبار فائدته كفائدتهما. و باقى الفصل واضح، و باللّه التوفيق.
فسرّحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلمّا بلغه ذلك شمّرها ربا، و نكص نادما، فلحقوه ببعض الطّريق، و قد طفّلت الشّمس للإياب، فاقتتلوا شيئا كلا و لا، فما كان إلاّ كموقف ساعة حتّى نجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنّق، و لم يبق معه غير الرّمق، فلأيا بلأى ما نجا. فدع عنك قريشا و تركاضهم فى الضّلال و تجوالهم فى الشّقاق، و جماحهم فى التّيه، فانّهم قد أجمعوا على حربى كإجماعهم على حرب رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبلى، فجزت قريشا عنّى الجوازى، فقد قطعوا رحمى، و سلبونى سلطان ابن أمىّ . و أمّا ما سألت عنه من رأيى فى القتال، فانّ رأيى قتال المحلّين حتّى ألقى اللّه، لا يزيدني كثرة النّاس حولى عزّة، و لا تفرّقهم عنّى وحشة، و لا تحسبنّ ابن أبيك - و لو أسلمه النّاس - متضرّعا متخشّعا، و لا مقرّا للضّيم واهنا، و لا سلس الزّمام للقائد، و لا وطىء الظّهر للرّاكب المتقعّد، و لكنّه كما قال أخو بنى سليم: -
فان تسألينى: كيف أنت ؟ فانّنى *** صبور على ريب الزّمان صليب
يعزّ علىّ أن ترى بى كابة *** فيشمت عاد أو يساء حبيب
اقول: طفلّت الشمس بالتشديد: مالت للمغيب. و آبت: لغة فى غابت. و كلا و لا:
ص: 522
لفظان قصيران عند السمع سريعا الانقطاع، كنى بهما عما كان سريعا من الفعل لمشابهته فى قصر الزمان لهما، و نحوه قول ابن هانى المغربى(1).
و اسرع فى العين من لحظة *** و اقصر فى السمع من لا و لا
و الموقف: هنا مصدر. و الجريض: المغموم الذى يبتلع ريقه على غصة من الحزن.
و المخنّق بالتشديد: هو من العنق موضع الخنق بالكسر. و الرمق: بقيّة النفس. و اللأي:
الشدّة و هو مصدر حذف عامله، و ما: مصدرية فى موضع الرفع فاعلا لفعل المصدر اى:
فلأى لأيا نجاؤه اى: اشتد و عسر. و قوله بلأى تأكيدا اى: لأيا متصلا بلأى. و التركاض مبالغة فى الركض، و استعاره: لجرى اذهانهم فى الضلال عن سبيل اللّه. و كذلك لفظ التجوال و الجماح. و ابن امه يعنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، لأنهما ابنا فاطمة بنت عمر بن عمران بن عائذ بن مخزوم(2)، ام عبد اللّه، و ابى طالب. و المحلّين: الذين احلّوا ذمة اللّه و نقضوا عهده. و الوهن: الضعف.
فسبحان اللّه!! ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة، و الحيرة المتّبعة، مع تضييع الحقائق، و اطّراح الوثائق، الّتى هى للّه طلبة، و على عباده حجّة فأمّا إكثارك الحجاج فى عثمان و قتلته فانّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النّصر لك، و خذلته حيث كان النّصر له.
اقول: اراد بالحقائق: ما هو حق فى نفس الأمر ينبغي اتّباعه من العقائد، كاعتقاد إمامته الحقّة و اتبّاعه. و قوله: حيث كان النصر لك، اى: الآن و انت منصور تنتصر له.
ص: 523
من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين، إلى القوم الّذين غضبوا للّه حين عصى فى أرضه، و ذهب بحقّه، فضرب الجور سرادقه على البرّ و الفاجر، و المقيم و الظّاعن، فلا معروف يستراح إليه، و لا منكر يتناهى عنه. أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل عن الأعداء ساعات الرّوع، أشدّ على الفجّار من حريق النّار، و هو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له، و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ ، فإنّه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظّبة، و لا نابى الضّريبة، فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنّه لا يقدم و لا يحجم، و لا يؤخّر و لا يقدّم، إلاّ عن أمرى. و قد آثرتكم به على نفسى لنصيحته لكم و شدّة شكيمته على عدوّكم.
اقول: السرادق: البيت من القطن و هو مستعار لما امتدّ من جور الظالمين و عمّ .
و الروع: الفزع. و ينكل بالضم: يرجع. و مذحج كمسجد: ابو قبيلة من اليمن، و هو:
مذحج بن جابر بن مالك بن ثقلان بن سبأ. و الظبة بالتخفيف: حدّ السيف. و نبا السيف عن الضربة اذا لم يقطعها، و هو: كناية عن صرامته و قوة بأسه. و الاحجام: التأخر.
و الشكيمة الحديدة المعترضة فى فم الفرس، و كنى بشدّتها: عن شدّة وطأته على العدوّ.
فإنّك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرىء ظاهر غيّه، مهتوك ستره. يشين الكريم بمجلسه، و يسفّه الحليم بخلطته، فاتّبعت أثره و طلبت فضله اتّباع الكلب للضّرغام: يلوذ إلى مخالبه، و ينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته، فأذهبت دنياك و آخرتك! و لو بالحقّ
ص: 524
أخذت أدركت ما طلبت، فإن يمكّنّى اللّه منك و من ابن أبى سفيان أجز كما بما قدّمتما، و إن تعجزانى و تبقيا فما أمامكما شرّ لكما، و السّلام.
اقول: كون دينه تبعا لدنيا معاوية لتبعه إيّاه بطعمة مصر، و ما اعطاه من مال. و كون مجلسه يسفه الحليم: لان دأبه، و بنى اميّه، شتم بنى هاشم، و التعرّض بذكر اكابر الصحابة و ذلك مما يسفه(1) الحليم عن الثبات على سماعه. و الضرغام: الاسد، و وجه التشبيه ظاهر. و الذى امامها: ما يلقيانه من عذاب الآخرة، و هو شرّ لقوله تعالى: «وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقىٰ »(2).
أمّا بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك و عصيت إمامك و أخزيت أمانتك. بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك و أكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، و اعلم أنّ حساب اللّه أعظم من حساب الناس.
اقول: أخزيت أمانتك: أهنتها. و جرّدت الارض: قشرتها و هو كناية عن أحده جمع المال.
أمّا بعد، فإنّى كنت أشركتك فى أمانتى، و جعلتك شعارى و بطانتى، و لم يكن فى أهلى رجل أوثق منك فى نفسى لمواساتى و موازرتى، و أداء الأمانة إلىّ ، فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب، و العدوّ قد حرب، و أمانة النّاس قد خزيت، و هذه الأمّة قد فنكت و شغرت، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ ، ففارقته مع المفارقين، و خذلته مع الخاذلين،
ص: 525
و خنته مع الخائنين فلا ابن عمّك آسيت، و لا الأمانة أدّيت، و كأنّك لم تكن اللّه تريد بجهادك و كأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك، و كأنّك انّما كنت تكيد هذه الأمّة عن دنياهم، و تنوى غرّتهم عن فيئهم، فلمّا أمكنتك الشّدّة فى خيانة الأمّة أسرعت الكرّة، و عاجلت الوثبة، و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصّدر بحمله غير متأثّم من أخذه كأنّك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك و أمّك فسبحان اللّه! أ ما تؤمن بالمعاد؟ أ و ما تخاف من نقاش الحساب ؟ أيّها المعدود - كان - عندنا من ذوى الألباب كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنّك تأكل حراما و تشرب حراما؟ و تبتاع الإماء و تنكح النّساء من مال اليتامى و المساكين و المؤمنين و المجاهدين الّذين أفاء اللّه عليهم هذه الاموال و أحرز بهم هذه البلاد!! فاتّق اللّه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فانّك إن لم تفعل ثمّ أمكننى اللّه منك لأعذرنّ إلى اللّه فيك، و لأضربنّك بسيفى الّذى ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النّار! و اللّه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الّذى فعلت ما كانت لهما عندى هوادة، و لا ظفرا منّى بارادة، حتّى آخذ الحقّ منهما، و أزيح الباطل عن مظلمتهما، و أقسم باللّه ربّ العالمين: ما يسرّنى أنّ ما أخذت من أموالهم حلال لى أتركه ميراثا لمن بعدى، فضحّ رويدا فكأنّك قد بلغت المدى، و دفنت تحت الثّرى، و عرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذى ينادى الظّالم فيه بالحسرة، و يتمنّى المضيّع الرّجعة، و لات حين مناص.
أقول: المرويّ انّ الكتاب الى عبد اللّه بن العباس كما هو فى بعض النسخ، حين كان واليا له على البصرة. و امانته: هى ولاية أمور المسلمين. و الشعار: ما يلي الجسد من الثياب، و استعار له لفظه باعتبار قربه منه. و بطانته خاصّته. و الموازرة: المعاونة.
و كلب الزمان: شدّته. و حرب العدوّ: اشتد غضبه. و خزيت الامانة: هانت و ذلّت.
و الفتك: القتل على غرة. و شغرت: تفرقت. و قوله: قلبت، الى قوله: ظهر المجن: مثل يضرب لمن يكون مع اخيه فيتغيّر عنه و يقاتله. و اصله ان الترس انما يقاتل به الرجل و يعطى ظهره فى الحرب، فكنّى به عن: تغيّره عليه و خروجه عن امر، و لم يكن على بيّنة
ص: 526
من ربّه اى: على ثقة من وعده و وعيده و يقين من ذلك. و غرّتهم غفلتهم. و الشدة:
الحملة. و الازل خفيف الوركين، و وجه التشبيه سرعة الاخذ، و رحب الصدر كناية عن الفرح و السرور به، و نقاش الحساب استقصاؤه و ادخل حسابه له فى الفضلاء فى خبر كان:
تنبيها على انّه لم يبق عنده كذلك. و آفاه: جعله فيا، و الفىء: الغنيمة. و الهوادة:
المصالحة و المصانعة. و قوله فضح رويدا: كلمة يؤمر بها للتؤدة، و اصلها الرجل يطعم ابله ضحى و يثيرها مسرعا للسير، فلا يشبعها فيقال: ضح رويدا اى: مهلا. و المدى: الغاية و هى الموت و ما بعده. المناص: المهرب و المخلص، و النوص: التخلص. و شبّهوا لات بليس، و اضمروا فيها اسم الفاعل، و قد جاءت مرفوعة على أنها اسمها، و لا يستعمل لات إلاّ مع حين، و قيل: التاء زائدة كهى فى ثمت، و ربت. و معانى الكتاب ظاهرة، و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فإنّى قد ولّيت نعمان بن عجلان الزّرقىّ على البحرين، و نزعت يدك بلا ذمّ [لك] و لا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية، و أدّيت الأمانة فأقبل غير ظنين، و لا ملوم، و لا متّهم، و لا مأثوم. فلقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشّام، و أحببت أن تشهد معى، فإنّك ممّن أستظهر به على جهاد العدوّ، و إقامة عمود الدّين، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
اقول: هذا كان ربيبا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و امه امّ سلمة، و ابوه ابو سلمة ابن عبد الاسد من بنى مخزوم. و النعمان بن عجلان، من سادات الانصار من بنى زريق.
و التثريب: التعنيف. و الظنين: المتّهم.
ص: 527
بلغنى عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، و أغضبت إمامك: أنّك تقسم فيء المسلمين الّذى حازته رماحهم و خيولهم، و أريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك. فو الّذى فلق الحبّة، و برأ النّسمة، لئن كان ذلك حقّا لتجدنّ بك علىّ هوانا، و لتخفّنّ عندى ميزانا، فلا تستهن بحقّ ربّك، و لا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا. ألا و إنّ حقّ من قبلك و قبلنا من المسلمين فى قسمة هذا الفىء سواء: يردون عندى عليه، و يصدرون عنه. و السّلام.
اقول: اعتامك: اختارك للطلب. و خفّة ميزانه: صغر منزلته عنده. و ميزانا: تمييز.
و قد عرفت معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك، و يستفلّ غربك، فاحذره، فانّما هو الشّيطان: يأتي المؤمن من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله، ليقتحم غفلته، و يستلب غرّته. و قد كان من أبى سفيان فى زمن عمر بن الخطّاب فلتة من حديث النّفس، و نزغة من نزغات الشّيطان: لا يثبت بها نسب، و لا يستحقّ بها إرث، و المتعلّق بها كالواغل المدفّع، و النّوط المذبذب.
فلمّا قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها و رب الكعبه، و لم تزل فى نفسه حتى ادّعاه
ص: 528
معاويه. قال السيد - رحمه اللّه -: قوله - عليه السلام - «الواغل»: هو الذى يهجم على الشّرب يشرب معهم، و ليس منهم، فلا يزال مدفّعا محاجزا. و «النوط المذبذب»: هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك، فهو أبدا يتقلقل اذا حثّ ظهره و استعجل سيره.
اقول: زياد هذا هو دعىّ ابى سفيان، و ولاّه على عليه السلام فارس، فضبطها و حماها فكتب اليه معاوية يخدعه باستلحاقه اخا له فعلم عليه السلام بذلك فكتب اليه الكتاب.
و غرب السيف: حدّه. و الاستفلال: طلب الفل،، و هو الثلم و هو كناية عن كسر قوته فى نصح على عليه السلام، و اتيانه من الجهات الأربع: كناية عن تمام حيلته فى الخدعة. قال سفيان الثورى رحمه اللّه: ما من صباح إلا و يقعد الشيطان على أربعة مراصد، من بين يدي، فيقول: لا تخف «فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ». فاقرأ «وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىٰ »(1). و من خلفى فيخوّفنى الضيعة على مخلّفي فأقرء: «وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا»(2). و من قبل يميني فيأتينى من جهة الثناء فاقرأ:
«وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » (3) . و من قبل شمالى فياتينى من قبل الشهوات فاقرأ: «وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مٰا يَشْتَهُونَ »(4).
و اما الفلتة من ابى سفيان فى ادعائه اياه فهو: ما روى انّه تكلم يوما بحضرة عمر فأعجب الحاضرين كلامه، فقال عمرو بن العاص: للّه ابوه لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه، فقال ابو سفيان: و اللّه انّه لقرشىّ و لو عرفته لعرفت انّه من خير اهلك، فقال: و من ابوه ؟ فقال: انا و اللّه وضعته فى رحم امه، فقال: هلا تستلحقه ؟ قال: اخاف هذا العبر الجالس ان يخرق علىّ اهابى يعنى عمر. و حديث النفس الوسوسة و كونها نزعة من نزعات الشيطان: باعتبار انّها على غير وجه شرعىّ و فيها اقرار بالزنا. و شبه المتوغّل فى
ص: 529
هذا النسب اى: الداخل فيه بامعان بالواغل، و وجه الشبه كونه لا يزال مدفعا عنه، كما يدفع الواغل عن الشراب و كذلك تشبيهه بالنوط المذبذب، باعتبار انّه لا يستقرّ بنسبه.
و التذبذب التحرّك و التردد.
و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها أمّا بعد يا ابن حنيف: فقد بلغنى أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، و تنقل إليك الجفان! و ما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، و غنيّهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألا و إنّ لكلّ مأموم اماما يقتدى به و يستضيء بنور علمه، ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه، ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينونى بورع و اجتهاد، و عفّة و سداد. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا و لا ادّخرت من غنائمها و فرا، و لا أعددت لبالى ثوبى طمرا. بلى ؟ كانت فى أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس قوم آخرين. و نعم الحكم اللّه! و ما أصنع بفدك و غير فدك و النّفس مظانّها فى غد جدث ؟ تنقطع فى ظلمته آثارها و تغيب أخبارها، و حفرة لو زيد فى فسحتها، و أوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر و المدر، و سدّ فرجها التّراب المتراكم، و إنّما هى نفسى أروضها بالتّقوى لتأتى آمنة يوم الخوف الأكبر، و تثبت على جوانب المزلق، و لو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هو اى، و يقودني جشعى إلى تخيّر الأطعمة، و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له فى القرص، و لا عهد له بالشّبع!! أو أبيت مبطانا و حولى بطون غرثى، و أكباد حرّى!! أو أكون كما قال القائل :
ص: 530
و حسبك داء أن تبيت ببطنة *** و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ!
أ أقنع من نفسى بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم فى مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم فى جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلنى أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها، و تلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى و أهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة. و كأنّى بقائلكم يقول:
«إذا كان هذا قوت ابن أبى طالب فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران و منازلة الشّجعان»؟! ألا و إنّ الشّجرة البريّة أصلب عودا، و الرّوائع الخضرة أرقّ جلودا، و النّباتات البدوية أقوى وقودا و أبطأ خمودا! و أنا من رسول اللّه كالصّنو من الصّنو، و الذّراع من العضد. و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالى لما ولّيت عنها، و لو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. و سأجهد فى أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس، و الجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد. إليك عنّى يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، و أفلتّ من حبائلك، و اجتنبت الذّهاب فى مداحضك. أين القوم الّذين غررتهم بمداعبك ؟ أين الأمم الّذين فتنتهم بز خارفك ؟ هاهم رهائن القبور، و مضامين اللّحود! و اللّه لو كنت شخصا مرئيّا، و قالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود اللّه فى عباد غررتهم بالأمانى، و أمم ألقيتهم فى المهاوى، و ملوك أسلمتهم إلى التّلف و أوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد و لا صدر. هيهات من وطىء دحضك زلق، و من ركب لججك غرق، و من ازورّ عن حبالك وفّق، و السّالم منك لا يبالى إن ضاق به مناخه، و الدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه. أعزبى عنّى، فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّنى، و لا أسلس لك فتقودينى، و ايم اللّه - يمينا برّة أستثنى فيها بمشيئة اللّه - لأروضنّ نفسى رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، و تقنع بالملح مأدوما، و لأدعنّ مقلتى كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها. أ تمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك ؟ و تشبع الرّبيضة من عشبها فتربض ؟ و يأكل علىّ من زاده فيهجع ؟ قرّت اذا عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، و السّائمة المرعيّة! طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها، و عركت بجنبها بؤسها، و هجرت فى اللّيل
ص: 531
غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، و توسّدت كفّها، فى معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم و همهمت بذكر ربّهم شفاههم، و تقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ »(1). فاتّق اللّه يا ابن حنيف، و لتكفك أقراصك، ليكون من النّار خلاصك.
اقول: المأدبة بالضم: الطعام دعى اليه. و العائل: الفقير. و القضم: الأكل. و علمه اى: علم حله و حرامه. و الطمر: الثوب الخلق و طمراه: كانا عمامة و مدرعة قد استحيا من راقعها. و قرصاه: كانا من شعير غير منخول. و اراد بالورع هنا: الكف عن المحارم.
و الوفر: المال الكثير. و فدك: قرية كانت لرسول اللّه عليه و آله خاصة صالح اهلها على النصف بعد فتح خيبر، و اجماع الشيعة على انه اعطاها فاطمة عليها السلام فى حياته(2)فلما ولى ابو بكر الخلافة، عزم على اخذها منها فارسلت اليه تطلب ميراثها من رسول صلى اللّه عليه و آله، و يقول: انّه اعطانى فدكا فى حياته، و استشهدت على ذلك عليا و امّ ايمن، فشهدا لها بها، فأجابها عن الميراث بخبر رواه و هو (نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة) و عن دعوى فدك انها لم تكن للنبى صلى اللّه عليه و آله، و انما كانت مالا للمسلمين فى يده يحمل به الرجال و ينفقه فى سبيل اللّه و انا اليه، كما كان يليه فلما بلغها ذلك لاثت و اقبلت فى لمّة من حفدتها، و نساء قومها تطأ فى ذيولها حتى دخلت عليه و معه، جلّ المهاجرين و الانصار، فضربت بينها و بينهم قطيفة، ثم انّت انّة اجهش لها القوم بالبكاء، ثم امهلت طويلا حتى سكتوا من فورتهم ثم خطبت خطبة طويلة(3) ذكرنا مختصرا منها فى الأصل، تشتمل على توبيخ الجماعة و تقصيرهم فى حقها، ثم رجعت الى بيتها، و اقسمت ان لا تكلم ابا بكر، و لتدعونّ اللّه عليه(4)، و لم تزل كذلك حتى حضرتها الوفاة، فاوصت ان لا يصلى عليها، فصلّى عليها العباس و دفنت ليلا(5) و اشار
ص: 532
بالنفوس التي سخت عنها الى بنى هاشم. و قوله: و انّما هى، اى: و انما همتى و حاجتى نفسى، و رياضتها و رياضة النفس مأخوذة من رياضة البهيمة، و هى منعها عن الاقدام على حركات غير صالحة لصاحبها.
فالقوة الحيوانية التي هى مبدأ الادراكات و الافعال، اذا لم تكن مطيعة للقوّة العاقلة كانت بمنزلة بهيمة لم ترض فهى تتّبع الشهوة تارة، و الغضب اخرى. و تستخدم القوّة العاقلة فى تحصيل مراداتها فتكون هى امّارة، و العاقلة مؤتمرة. اما اذا راضتها القوة العاقلة حتى صارت مؤتمرة لها متمرّنة على ما يقتضيه العقل العملىّ ، تأتمر بأمره و تنتهى بنهيه كانت العاقلة مطمئنّة لا تفعل افعالا مختلفة المبادى، و كانت باقى القوى مسالمة لها، اذا عرفت ذلك فنقول: لما كان الغرض الاقصى من رياضة الانسان نفسه انما هو نيل الكمال الحقيقى، و لا بدّ له من استعداد، و كان ذلك الاستعداد موقوفا على زوال الموانع الخارجيّة و الدّاخلية، كانت للرياضة اغراض ثلاثة:
احدها، حذف كل محبوب و مرغوب عدا الحق سبحانه عن القصد، و هو حذف الموانع الخارجية.
و الثاني، تطويع النفس الامّارة للنفس المطمئنّة فينجذب التخيّل، و التّوهم عن الجانب السفلى الى العلوىّ و يتبعهما سائر القوى فتزول الدواعى الحيوانيّة، و هو حذف الموانع الداخلية.
و الثالث، توجيه السّر الى الجنّة العالية لتلقى السوانح الالهية و اقتناصها. و يعين على الاوّل الزهد الحقيقى، و هو الاعراض عن متاع الدنيا، و طيّباتها بالقلب. و على الثاني العبادة المشفوعة بالفكر فى ملكوت السماوات و الارض، و عظمة اللّه سبحانه و الأعمال الصالحة المنويّة لوجهه خالصا، و عبّر عن هذه الأمور المعيّنة بالتقوى التي يروّض نفسه بها. و نبّه على بعض لوازم الغاية، بقوله: لتأتى، الى قوله المزلق: و هو الصراط المستقيم.
و القمح: الحنطة و الجشع: اشدّ الحرص على الطعام. و المبطان عظيم البطن من كثرة الأكل. و غرثى: جائعة، و كبد حرّى: عطشى. و جشوبة العيش: غلظه. التقمّم: تتبع القمامة و هى الكناسة. و الاكراش: ملأ الكرش. و سدى اى: مهملا. و المتاهة: موضع التيه و الحيرة. و الروائع: الاشجار التي تروع بنضارتها. و الغدية التي لا يسقيها الاّ المطر.
ص: 533
و شبّه نفسه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بالصنو من الصنو، و هما: النخلتان يجمعهما اصل واحد، و هو وجه الشبه. و كذلك تشبيهه منه بالذراع من العضد و وجه الشبه كونه ذرعا(1) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فى المعاونة و المعاضدة كالذراع. و تظاهرت:
تعاونت. و قوله: لسارعت اليها اى: حين القتال لكفرهم و عداوتهم للحق، و قبح العفو عنهم حينئذ. و اشار بالشخص المعكوس و الجسم المنكوس: الى معاوية، و جعله مجرّد جسم كأنه خال عن النفس الانسانية، لاتباعه الكمالات الجسمانية دون العقليّة. و كونه منكوسا و معكوسا: باعتبار التفاته عن الامور العالية و انتكاسه عن تلقى الكمالات الروحانية، و انعكاس وجه عقله عن القبلة الحقيقية الى تحصيل الدنيا و العناية بها. و استعار لفظ المدرّة: له و حبّ الحصيد للمؤمنين، و وجه المشابهة: أنه يخلص المؤمنين من وجوده بينهم، لئلا يفسد عقائدهم و يستغويهم كما يفعله اهل البيادر من تصفية غلاّتهم من المدر و غيره. و استعار لفظ المداحض و هى المزالق لطرق تحصيلها التي هى مظنّة الزلق، و الوقوع فى الرذائل المهلكة. و لفظ المضامين للموتى: ملاحظة لشبههم فى اللحود بالأجنة فى بطون امّهاتهم. و ازورّ أخذ جانبا. و اعزبى: ابعدى. و هش الى كذا: انطلق وجهه بشرا به. و الهشاشة: طلاقة الوجه. و سلس بالفتح: يسلس بالكسر، سهل قياده. و المعين:
الماء الجارى. و الربيضة: الجماعة الرابضة من الغنم. و قوله: و عركت بجنبها بؤسها: كناية عن الصبر على الشدائد، يقال: عرك فلان بجنبه الاذى: اذا اغضى عمن يؤذيه و صبر عليه. و استعار وصف التقشّع: لزوال الذنوب عن لوح النفس ملاحظة لشبهه بالسحاب المنجاب عن وجه السماء. و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فإنّك ممّن أستظهر به على إقامة الدّين، و أقمع به نخوة الأثيم و أسدّ به لهاة الثّغر المخوف. فاستعن باللّه على ما أهمّك، و اخلط الشّدّة بضغث من اللّين، و ارفق
ص: 534
ما كان الرّفق أرفق، و اعتزم بالشّدّة حين لا يغنى عنك إلاّ الشّدّة، و اخفض للرّعيّة جناحك، و ابسط لهم وجهك، و ألن لهم جانبك، و آس بينهم فى اللّحظة و النّظرة، و الاشارة و التّحيّة، حتّى لا يطمع العظماء فى حيفك، و لا ييأس الضّعفاء من عدلك.
اقول: النخوة: الكبر. و الأثيم: الآثم. و لفظ اللهاة: مستعار للثغر لحاجته الى من يسدّه و يمنعه كالحيوان المفترس و هو تجريد للاستعارة. و الضغث: النصيب من الشيء. و اعتزم الرجل الطريق مضى فيه لا ينثني، و اراد ان كلّ امر لا يغنيك فيه الا الشدّة فامض فيه بالشدة. و آس: اى سوّ.
أوصيكما بتقوى اللّه، و أن لا تبغيا الدّنيا و إن بغتكما، و لا تأسفا على شيء منها زوى عنكما، و قولا بالحقّ ، و اعملا للأجر، و كونا للظّالم خصما و للمظلوم عونا. أوصيكما، و جميع ولدى و أهلى و من بلغه كتابى، بتقوى اللّه، و نظم أمركم، و صلاح ذات بينكم، فإنّى سمعت جدّكما، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يقول: «صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة و الصّيام» اللّه اللّه فى الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، و لا يضيعوا بحضرتكم، و اللّه اللّه فى جيرانكم، فإنّهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصى بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم، و اللّه اللّه فى القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم، و اللّه اللّه فى الصّلاة، فإنّها عمود دينكم، و اللّه اللّه فى بيت ربّكم، لا تخلوّه ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناظروا، و اللّه اللّه فى الجهاد بأموالكم و أنفسكم و ألسنتكم فى سبيل اللّه، و عليكم بالتّواصل و التّباذل، و إيّاكم و التّدابر و التّقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم ثم قال:
يا بنى عبد المطّلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا! لا تقتلنّ بى إلاّ قاتلى.
ص: 535
انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، و لا يمثّل بالرّجل، فإنّى سمعت رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يقول: «إيّاكم و المثلة، و لو بالكلب العقور»(1).
اقول: بغيت كذا: اردته. و زوى: غيّب. و ذات البين: كناية عن الحالة الموجبة للافتراق. و اغباب افواههم: ان يطعموهم يوما و يتركوهم يوما. و المناظرة: المراقبة اى: لم تراقبوا من اللّه و من الخلق لإهمالكم أمر دينكم، و بيت ربكم: اذ فى المحافظة عليه عزّ باللّه، و اعتصام به، يوجب مراعاة الخلق. و التدابر: التقاطع و التعادى. و الفيته: وجدته.
و خوض الدماء: كناية عن كثرة القتل.
و إنّ البغى و الزّور يوتغان المرء فى دينه و دنياه، و يبديان خلله عند من يعيبه، و قد علمت أنّك غير مدرك ما قضى فواته، و قد رام أقوام أمرا بغير الحقّ فتأوّلوا على اللّه فأكذبهم، فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله، و يندم من أمكن الشّيطان من قياده فلم يجاذبه. و قد دعوتنا إلى حكم القرآن و لست من أهله و لسنا إيّاك أجبنا، و لكنّا أجبنا القرآن فى حكمه، و السّلام.
اقول: الوتغ: بالتحريك الهلاك. و يوتغانه: يهلكانه. و ما قضى فواته: هو نصرة عثمان التي كانت تنبغى فى حياته و لا يمكن دركها بعد فواتها المقضى. و يحتمل ان يريد الآمال الدنيوية التي لا تدرك. و الّذين راموا غير الحق: اصحاب الجمل. و تأوّلهم على اللّه: اظهارهم للتمسّك فى حربهم بما دلّ عليه القرآن الكريم، من الامر بالمعروف
ص: 536
و النهى عن المنكر فى الطلب بدم عثمان. و اكذاب اللّه لهم: بذمّ الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه، و وعيدهم اذ نقضوا بيعته عليه السلام. و قيل: بنصره عليهم. و قيل: تأوّلهم على اللّه تمسكهم بقوله: «أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ »(1) و تسميتهم لمن نصبوه من قبلهم اميرا اولى الأمر فاكذبهم اللّه بكونهم ظالمين بغاة. و يغتبط: يسّر. و روى تغبط اى: يتمنّى الناس مثل حاله. و قد مضى ذكر التحكيم.
أمّا بعد، فإنّ الدّنيا مشغلة عن غيرها، و لم يصب صاحبها منها شيئا إلاّ فتحت له حرصا عليها، و لهجا بها، و لن يستغنى صاحبها بما نال فيها عمّا لم يبلغه منها، و من وراء ذلك فراق ما جمع، و نقض ما أبرم! و لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقى، و السّلام.
اقول: اللهج بالفتح: الحرص الشديد. و حاصل الكتاب: التنفير عن الدنيا بذكر معايبها. و ما أبرم اى: احكم من امورها. و حفظت ما بقى اى: من العمر، كى لا يضيع فى الباطل.
من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى أصحاب المسالح:
أمّا بعد، فإنّ حقّا على الوالى أن لا يغيّره على رعيّته فضل ناله، و لا طول خصّ به، و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده، و عطفا على إخوانه. ألا و إنّ لكم عندى أن لا أحتجز دونكم سرّا إلاّ فى حرب، و لا أطوى دونكم أمرا
ص: 537
إلاّ فى حكم، و لا أؤخّر لكم حقّا عن محلّه، و لا أقف به دون مقطعه. و أن تكونوا عندى فى الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النّعمة و لى عليكم الطّاعة، و أن لا تنكصوا عن دعوة، و لا تفرّطوا فى صلاح، و أن تخوضوا الغمرات إلى الحقّ ، فإن أنتم لم تستقيموا [لى] على ذلك لم يكن أحد أهون علىّ ممّن اعوجّ منكم، ثمّ أعظم له العقوبة و لا يجد عندى فيها رخصة، فخذوا هذا من أمرائكم، و أعطوهم من أنفسكم ما يصلح اللّه به أمركم(1).
اقول: احتجز: امنع و احفظ. و استثنى الحرب، لأن الاعلام بها مظنّة المفسدة من بعضهم، اما لكراهتهم لها او لخوف انتشار الحال الى العدوّ، فتكون سبب حذره و تأهّبه، و لذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله اذا اراد حرب قوم ورّى بالسفر الى جهة اخرى.
و كذلك استثنى الحكم لأنّ احكام اللّه لا مشورة فى إمضائها و تركها، و الذى لا يقف به دون مقطعه كالاحكام المتعلّقة بالمتخاصمين، فانه لم يكن يقف فيها دون فصلها مراقبة لأحد منهما. و الغمرات: الشدائد.
من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج:
أمّا بعد، فإنّ من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدّم لنفسه ما يحرزها. و اعلموا أنّ ما كلّفتم يسير، و أنّ ثوابه كثير. و لو لم يكن فيما نهى اللّه عنه من البغى و العدوان عقاب يخاف لكان فى ثواب اجتنابه مالا عذر فى ترك طلبه. فأنصفوا النّاس من أنفسكم، و اصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرّعيّة، و وكلاء الأمّة، و سفراء الأئمّة. و لا تحسموا أحدا عن حاجته، و لا تحبسوه عن طلبته، و لا تبيعنّ للّناس فى الخراج كسوة شتاء و لا صيف و لا دابّة يعتملون عليها، و لا عبدا، و لا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم، و
ص: 538
لا تمسّنّ مال أحد من النّاس مصلّ و لا معاهد إلاّ أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام، فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك فى أيدى أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه، و لا تدّخر و أنفسكم نصيحة، و لا الجند حسن سيرة و لا الرّعيّة معونة، و لا دين اللّه قوّة، و أبلوا فى سبيل اللّه ما استوجب عليكم، فانّ اللّه، سبحانه، قد اصطنع عندنا و عندكم أن نشكره بجهدنا، و أن ننصره بما بلغت قوّتنا، و «لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ ».
اقول: السفراء: الرسل. و تحشّموا اى: تغضبوا و تخجّلوا. و المصلّى: المسلم.
و المعاهد: الذمّى. و الشوكة: القوّة. و الضمير فى عليهم: لأهل الاسلام. و أبلوا أىّ :
اعطوا، يقال: ابليته معروفا اى: اعطيته. و قوله: اصطنع، الى قوله: ان نشكره اى: جعل شكرنا له صنيعة عندنا، و وفقنا لذلك. و قيل: اراد لأن نشكره.
أمّا بعد، فصلّوا بالنّاس الظّهر حين تفىء الشّمس مثل مربض العنز، و صلّوا بهم العصر و الشّمس بيضاء حيّة فى عضو من النّهار حين يسار فيها فرسخان، و صلّوا بهم المغرب حين يفطر الصّائم و يدفع الحاجّ ، و صلّوا بهم العشاء حين يتوارى الشّفق إلى ثلث اللّيل، و صلّوا بهم الغداة و الرّجل يعرف وجه صاحبه، و صلّوا بهم صلاة أضعفهم و لا تكونوا فتّانين.
أقول: فيء الشمس: رجوعها عن القيام و زوالها. و بيضاء: لم تصفر للمغيب. و العضو هاهنا: القطعة. و الضمير فى قوله فيها: اما للشمس او للعضو باعتبار كونه قطعة.
و يدفع الحاج اى: يفيض من عرفات، و لشهرة هاتين العلامتين عرف الوقت بهما. و يتوارى الشفق اى: من المغرب. و صلاة اضعفهم: كناية عن الصلاة الخفيفة التي يقدر على القيام بها الشيخ الهم و الضعيف. و فتانين أى: بإطالة الصلاة و القراءة فانها تشبه الابتلاء بالأمر الشّاق المعجز للضعفاء عن صلاة الجماعة و لزومها.
ص: 539
و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن(1)
«بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ » هذا ما أمر به عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر فى عهده إليه، حين ولاّه مصر: جباية خراجها، و جهاد عدوّها، و استصلاح أهلها، و عمارة بلادها.
أمره بتقوى اللّه، و إيثار طاعته، و اتّباع ما أمر به فى كتابه: من فرائضه، و سننه، الّتى لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، و لا يشقى إلاّ مع جحودها و إضاعتها، و أن ينصر اللّه سبحانه بقلبه و يده و لسانه، فإنّه، جلّ اسمه، قد تكفّل بنصر من نصره، و إعزاز من أعزّه.
و أمره أن يكسر نفسه من الشّهوات و يزعها عند الجمحات، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء، إلاّ ما رحم اللّه.
ثمّ اعلم، يا مالك أنّى قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أنّ النّاس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصّالحين بما يجرى اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصّالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك فإنّ الشّحّ بالنّفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت. و أشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة، و المحبّة لهم، و اللّطف بهم، و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك فى الدّين، أو نظير لك فى الخلق، يفرط منهم الزّلل، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم فى العمد و الخطإ. فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الّذى تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنّك فوقهم و والى الأمر عليك فوقك،
ص: 540
و اللّه فوق من ولاّك! و قد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم، و لا تنصبنّ نفسك لحرب اللّه.
فإنّه لا يدي لك بنقمته، و لا غنى بك عن عفوه و رحمته، و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة، و لا تسر عنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، و لا تقولنّ إنّى مؤمّر آمر فأطاع فإنّ ذلك إدغال فى القلب، و منهكة للدّين، و تقرّب من الغير. و إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك و قدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يطا من إليك من طماحك، و يكفّ عنك من غربك، و يفىء إليك بما عزب عنك من عقلك.
إيّاك و مساماة اللّه فى عظمته و التّشبّه به فى جبروته، فإنّ اللّه يذلّ كلّ جبّار، و يهين كلّ مختال.
أنصف اللّه و أنصف النّاس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك، فانّك إلاّ تفعل تظلم! و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، و من خاصمه اللّه أدحض حجّته و كان للّه حربا حتّى ينزع و يتوب و ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فانّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظّالمين بالمرصاد.
و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها فى الحقّ ، و أعمّها فى العدل و أجمعها لرضا الرّعيّة، فانّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة و إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة.
و ليس أحد من الرّعيّة أثقل على الوالى مئونة فى الرّخاء و أقلّ معونة له فى البلاء، و أكره للانصاف، و أسأل بالالحاف، و أقلّ شكرا عند الاعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدّهر من أهل الخاصّة و إنّما عماد الدّين و جماع المسلمين.
و العدّة للأعداء العامّة من الأمّة، فليكن صغوك لهم، و ميلك معهم.
و ليكن أبعد رعيّتك منك و أشنأهم عندك أطلبهم لمعايب النّاس، فإنّ فى النّاس عيوبا الوالى أحقّ من سترها، فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، و اللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحبّ ستره من رعيّتك. أطلق عن النّاس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر، و تغاب عن كلّ مالا يصحّ لك، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإنّ السّاعى غاشّ و إن تشبّه بالنّاصحين.
ص: 541
و لا تدخلنّ فى مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزيّن لك الشّره بالجور، فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظّنّ باللّه! إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم فى الآثام فلا يكوننّ لك بطانة، فإنّهم أعوان الأثمة، و إخوان الظّلمة، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم و نفاذهم، و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه: أولئك أخفّ عليك مئونة، و أحسن لك معونة، و أحنى عليك عطفا، و أقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك و حفلاتك، ثمّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك و أقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق، ثمّ رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الاطراء تحدث الزّهو و تدنى من العزّة.
و لا يكوننّ المحسن و المسىء عندك بمنزلة سواء، فإنّ فى ذلك تزهيدا لأهل الاحسان فى الاحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الاساءة! و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه. و اعلم أنّه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم و تخفيفه المئونات عليهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك فى ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظّنّ برعيّتك، فانّ حسن الظّنّ يقطع عنك نصبا طويلا و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده.
و لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمّة، و اجتمعت بها الألفة، و صلحت عليها الرّعيّة، و لا تحدثنّ سنّة تضرّ بشىء من ماضى تلك السّنن فيكون الأجر لمن سنّها، و الوزر عليك بما نقضت منها.
و أكثر مدارسة العلماء، و منافثة الحكماء فى تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به النّاس قبلك.
أقول: النخع: قبيلة من مذحج. و جبوة: بدل من مصر. و يزعها: يكفها اى، يروّض نفسه الامارة بتطويعها للعقل. و استعار لها وصف الجماح: باعتبار خروجها عن طاعة
ص: 542
العقل، فلا يملكها كالفرس الجموح. و رسم الشح بالنفس: بانّه الانصاف منها، و هو تعريف له ببعض لوازمه اذ كان الانصاف منها ملازما للضنّة بها عن عذاب اللّه. و يفرط:
يسبق. و اراد بالعلل التي تعرض لهم الامور المشغلة الصارفة لهم عمّا ينبغي من اجراء اوامر الوالى على وجوهها. و قوله: و يؤتى على أيديهم: كناية عن كونهم غير معصومين بل هم ممّن يخطى، و تؤتى الناس أو انفسهم على أيديهم فى خطائهم و عمدهم، فيدخل عليهم الزلاّت. و استكفاك امرهم: طلب منك كفاية امورهم و القيام بها. و ابتلاك:
اختبرك بهم. و استعار لفظ الحرب لمقابلة اللّه بالمعصية. و لا يدي لك أي: لا قوّة لك.
و التبجح: اظهار السرور و البجح بسكون الجيم، السرور و الفرح. و البادرة: حدة الغضب.
و المندوحة: السّعة. و الادغال: الافساد، و كنى به عن رذيلة الكبر و العجب و نحوهما.
و النهك: و هو الضعف. و الغير جمع غيرة و هى: الاسم من التغيّر و الاشارة الى قوله:
تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ »)(1) و الأبّهة: العظم. و الخيلاء:
الكبر. و الطماح: العلو، واصله ارتفاع البصر. و غربه: حدّته. و عزب غاب. و المساماة:
مفاعلة من السّمو. و الجبروت: اشد الكبر. و المختال: ذو الخيلاء. و حجّة داحضة: باطلة.
و يجحف برضا العامة اى: يذهب بأصله. و الالحاف: شدة الميل و السؤال. و ابطأ عذرا اى: اعذارا و مسامحة. و جماع المسلمين: جماعتهم. و الصغو: الميل. و اشنأهم:
ابغضهم. و العورة: القبيحة تبدو من الرجل. و الوتر: الحقد. و التغابىّ : التّجاهل. و يزيّن لك الشرة بالجور اذ الحريص فى تحصيل المال و جمعه انّما يشير بما يلائم خلقه فيخرج بالمشار عليه الى رذيلة الشره و الجور، و الباء: للاستصحاب. و الغريزة الخلق و الطبيعة، و بيان كون الثلاثة عن مبدأ هو: سوء الظن باللّه، انّ سوء الظنّ ينشأ عن عدم معرفته تعالى بما هو اهله. فالجاهل به لا يعرفه من جهة ما هو جواد فيّاض بالخيرات لمن استعدّ لذلك، فيسوء ظنه به و لا يثق به، بأنه مخلوق عليه عوض ما يبذله فيمنعه ذلك مع ملاحظة الفقر عن البذل و يقوى نفسه الامّارة فى الحرص.
و اما الجبان: فيجهله من جهة لطفه بعباده و عنايته بهم، و لا يعلم سرّ القدر فى الآجال فيسوء ظنه بانه لا يحفظ من التّلف، و يتصوّر الهلاك فيمنعه ذلك عن الاقدام
ص: 543
فى الحرب و يلزمه رذيلة الجبن. و البطانة: خاصّة الرجل. و الآصار: اثقال الآثام جمع اصر و هو الثقل. و عطفا مصدر أحنى، اى: معنى قوله: و احنى عطفا اى: و احنى حنوا فجعل عطفا: بدل حنوا مصدر من غير اللفظ. و حفلاتك جمع حفلة بالكسر و هى: الجماعة او هي جفلة و هى: الخلوة، و الظهور فى الجماعات. و قوله: واقعا الى قوله: حيث وقع اى:
واقعا ذلك القول منه، و النصيحة و قلّة المساعدة حيث وقع من هواك سواء كان موافقا له او مخالفا. و الاطراء: المدح الكثير. و الزهو: الكبر. و التدريب: التعويد. و قوله: و الزم كلا ما: الزم نفسه اى: من مقابلة الاحسان او الاسائة بمثلها. و النصب: التعب.
و المناقشة: المحادثة، و باللّه التوفيق.
و وضع كلّ فى موضعه اللائق به فى الحكمة المدنيّة، و الاشارة الى كل طبقة بالاخرى و الى من يستصلح من كلّ صنف، و يكون أهلا لتلك المرتبة و ذلك قوله:
و اعلم أنّ الرّعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، و لا غنى ببعضها عن بعض:
فمنها جنود اللّه، و منها كتّاب العامّة و الخاصّة، و منها قضاة العدل و منها عمّال الانصاف و الرّفق، و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذّمّة و مسلمة النّاس، و منها التّجّار و أهل الصّناعات، و منها الطّبقة السّفلى من ذوى الحاجة و المسكنة، و كلّ قد سمّى له اللّه سهمه. و وضع على حدّه فريضته فى كتابه أو سنّة نبيّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - عهدا منه عندنا محفوظا.
فالجنود، باذن اللّه، حصون الرّعيّة، و زين الولاة، و عزّ الدّين، و سبل الأمن، و ليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم، ثمّ لا قوام للحنود إلاّ بما يخرج اللّه لهم من الخراج الّذى يقوون به في جهاد عدوّهم، و يعتمدون عليه فيما يصلحهم، و يكون من وراء حاجتهم، ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلاّ بالصّنف الثّالث من القضاة و العمّال و الكتّاب، لما يحكمون من المعاقد و يجمعون من المنافع، و يؤتمنون عليه من خواصّ الأمور و عوامّها و لا قوام لهم جميعا إلاّ بالتّجّار و ذوى الصّناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم و يقيمونه من أسواقهم، و يكفونهم من التّرفّق بأيديهم مالا يبلغه رفق غيرهم، ثمّ الطّبقة السّفلى من أهل الحاجة
ص: 544
و المسكنة الّذين يحقّ رفدهم و معونتهم و فى اللّه لكلّ سعة، و لكلّ على الوالى حقّ بقدر ما يصلحه. فولّ من جنودك أنصحهم فى نفسك للّه و لرسوله و لامامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما: ممّن يبطىء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضّعفاء، و ينبو على الأقوياء و ممّن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضّعف.
ثمّ الصق بذوى الأحساب و أهل البيوتات الصّالحة و السّوابق الحسنة ثمّ أهل النّجدة و الشّجاعة و السّخاء و السّماحة، فانّهم جماع من الكرم، و شعب من العرف، ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّده الوالدان من ولدهما، و لا يتفاقمنّ فى نفسك شيء قوّيتهم به و لا تحقرنّ لطفا تعاهدتهم به و إن قلّ ، فإنّه داعية لهم إلى بذل النّصيحة لك، و حسن الظّنّ بك. و لا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه.
و ليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم فى معونته، و أفضل عليهم من جدته، بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل فى البلاد، و ظهور مودّة الرّعيّة، و إنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة أمورهم و قلّة استثقال دولهم، و ترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح فى آمالهم و واصل فى حسن الثّناء عليهم و تعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم: فانّ كثرة الذّكر لحسن أفعالهم تهزّ الشّجاع، و تحرّض النّاكل، «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
ثمّ اعرف لكلّ امرىء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرىء إلى غيره، و لا تقصّرنّ به دون غاية بلائه، و لا يدعونّك شرف امرىء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرىء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.
و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك من الخطوب و يشتبه عليك من الأمور، فقد قال اللّه تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ »(1) فالرّدّ إلى اللّه: الأخذ بمحكم كتابه، و الرّدّ إلى الرّسول: الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة.
ص: 545
ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك فى نفسك ممّن لا تضيق به الأمور، و لا تمحكه الخصوم، و لا يتمادى فى الزّلّة، و لا يحصر من الفىء إلى الحقّ إذا عرفه، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، و أوقفهم فى الشّبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه، و افسح له فى البذل ما يزيل علّته، و تقلّ معه حاجته إلى النّاس، و أعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرّجال له عندك، فانظر فى ذلك نظرا بليغا، فإنّ هذا الدّين قد كان أسيرا فى أيدى الأشرار: يعمل فيه بالهوى، و تطلب به الدّنيا.
ثمّ انظر فى أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهم جماع من شعب الجور و الخيانة، و توخّ منهم أهل التّجربة و الحياء من أهل البيوتات الصّالحة و القدم فى الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا، و أصحّ أعراضا، و أقلّ فى المطامع إشرافا، و أبلغ فى عواقب الأمور نظرا. ثمّ أسبغ عليهم الأرزاق فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثمّ تفقّد أعمالهم و ابعث العيون من أهل الصّدق و الوفاء عليهم، فانّ تعاهدك فى السّرّ لأمورهم عدوة لهم على استعمال الأمانة و الرّفق بالرّعيّة و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه، عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة فى بدنه، و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التّهمة.
و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ فى صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم الاّ بهم، لانّ النّاس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك فى عمارة الأرض أبلغ من نظرك فى استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد، و لم يستقم أمره إلاّ قليلا، فان شكوا ثقلا أو علّة أو انقطاع شرب أو بالّة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. و لا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به
ص: 546
المئونة عنهم فإنّه ذخر يعودون به عليك فى عمارة بلادك، و تزيين و لا يتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، و تبجّحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم و الثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم فى رفقك بهم، فربّما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإنّ العمران محتمل ما حمّلته، و إنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، و إنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، و سوء ظنّهم بالبقاء، و قلّة انتفاعهم بالعبر.
ثمّ انظر فى حال كتّابك، فولّ على أمورك خيرهم، و اخصص رسائلك الّتى تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممّن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك فى خلاف لك بحضرة ملأ، و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك عليك و إصدار جواباتها على الصّواب عنك فيما يأخذ لك و يعطى منك، و لا يضعف عقدا اعتقده لك، و لا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، و لا يجهل مبلغ قدر نفسه فى الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل، ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك و استنامتك و حسن الظّنّ منك، فإنّ الرّجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النّصيجة و الأمانة شيء، و لكن اختبرهم بما ولّوا للصّالحين قبلك: فاعمد لأحسنهم كان فى العامّة أثرا، و أعرفهم بالأمانة وجها، فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن وليت أمره، و اجعل لرأس كلّ أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها، و لا يتشتّت عليه كثيرها، و مهما كان فى كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثمّ استوص بالتّجّار و ذوى الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله، و المترفّق ببدنه، فإنّهم موادّ المنافع، و أسباب المرافق و جلاّبها من المباعد و المطارح فى برّك و بحرك و سهلك و جبلك، و حيث لا يلتئم النّاس لمواضعها و لا يجترءون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته و صلح لا تخشى غائلته، و تفقّد أمورهم بحضرتك و فى حواشى بلادك. و اعلم - مع ذلك - أنّ فى كثير منهم ضيقا فاحشا، و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع، و تحكّما فى البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، منع منه، و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع،
ص: 547
فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به، و عاقبه فى غير إسراف.
ثمّ اللّه اللّه فى الطّبقة السّفلى من الّذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤسى و الزّمنى فإنّ فى هذه الطّبقة قانعا و معترّا، و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك، و قسما من غلاّت صوافى الإسلام فى كلّ بلد فإنّ للأقصى، منهم مثل الّذى للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر فإنّك لا تعذر بتضييعك التّافه لإحكامك الكثير المهمّ ، فلا تشخص همّك عنهم و لا تصعّر خدّك لهم، و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون و تحقره الرّجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التّواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّه يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرّعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، و كلّ فأعذر إلى اللّه فى تأدية حقّه إليه، و تعهّد أهل اليتم و ذوى الرّقّة فى السّن ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل و الحقّ كلّه ثقيل، و قد يخفّفه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم، و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم.
اقول: قسّم الناس الى طبقات سبع، لا يصلح بعضها الاّ بالبعض كما بيّنه. و اهل الذمة: تفسير لاهل الجزية و الخراج معا، لانّ للامام أن يقبل ارض الخراج من سائر المسلمين و أهل الذمة. و أراد بالسهم الذي سمّاه اللّه لكل منهم: استحقاقه فى كتابه إجمالا من الصدقات: كالفقراء و المساكين و عمّال الخراج. و الصدقة و حدّه: الذى وضع اللّه عليه عهدا منه هو مرتبته و منزلته من الناس، مثل الجندىّ له مرتبة و مقام من العمل محدود، أخذ عليه عهد من اللّه فى النصيحة و القيام بطاعة اللّه فيه و فريضة لزومه للعمل بذلك، و كذلك سائر الطبقات. و المعاقد جمع معقد: مصدر كعقود البياعات و الانكحة و نحوها، و أحكامها تعود الى القضاة. و جمع المنافع تعود الى العمّال.
و الضمير فى يؤتمنون: يعود الى الصنفين. و المرافق: المنافع، و الرفق: المنفعة. و الرفد:
المعونة و يحقّ يجب. و نقاء الجيب: كناية عن الامانة. و يستريح الى العذر اي: بقبوله.
و ينبو على الأقوياء اي: يعلو عليهم، و لا يميل ميلهم على من دونهم. لا يثيره العنف اي:
لا يكون له عنف فيثيره، و قيل: لا يثيره عنف الغير. و لا ينزعج منه و لا يقعد به الضعف
ص: 548
اي: لا يكون ضعيفا يقعد ضعفه عمّا ينبغي. و الحسب: ما يعدّ من المآثر و المكارم.
و الحسب الكفاية. و النجدة: فضيلة تحت الشجاعة. و العرف: المعروف. و تفاقم الأمر: اشتدّ و صعب. و لطيف امورهم: صغيرها. و جسيمها: عظيمها اى: لا تدع تفقد حاجاتهم الجزئية اعتمادا على قضائك لحاجتهم الكليّة فى العطاء العام و نحوه، و معونته: رزقه. و جدته: غناه. و الخلوف: المتخلّفون عنهم. و حيطتهم: شفقتهم. و الناكل الراجع: الفار. و يضلعك: يثقلك. و ضاق الامر: اذا لم يقدر عليه. و تمحكه الخصوم:
تغلبه على الحق بالمحك، و هو: اللجاج و اللداد. و الحصر الوقوف من العمى. و التبرّم التضجر. و يكشف الأمور: ايضاحها. و يزدهيه الاطراء فيه: كثرة المدح. الزهو: الكبر.
يزيح حيلته: يزيل عذره و ما يكون علّته فى عجزه عن القيام بالقضاء. و الاغتيال: الأخذ على غرّة، و يدخل فيه الغيبة و نحوه. و الاشرار: الولاة قبله، و قيل: محمد بن ابى بكر.
و لا تولهم محاباة أي: معاطاة. و اثرة اى: استبدادا كمن تأخذ من شخص شيئا و توليه امرا، و يستبدّ بذلك دون مشاورة فيه. و جماع من شعب الجور، و الخيانة اى: جماعة منها، اما انهما من شعب الجور: فللخروج بهما عن فضيلة العدل المأمور به شرعا و هو التحرّى فى طلب الوالى الأصلح للعباد و البلاد و الأقوم بطاعة اللّه فيهما. و اما انهما من شعب الخيانة: فلأن من الدين التحرّي فى طلب الوالى الأصلح، و هو امانة فعدم التحرّى فى ذلك خروج عنها الى رذيلة الخيانة. و التوخّى: طلب القصد. و الثلم: الكسر و كنّى به عن الخيانة. و حدوه لهم أي: حثّه. و الضمير فى قوله صلاحهم: يعود الى اهل الخراج. و الشرب: النصيب من الماء. و البالّة اليسير من الماء تبلّ به الأرض. و احالة الارض: تغيّرها عمّا كانت عليه من الاستواء فلم ينجب زرعها و لم يثمر نخلها. و اجحف بها: ذهب. تبجحك اى: اظهار سرورك و فخرك. و معتمدا اى: قاصدا. و الاجمام:
الراحة. و الرفق: ضدّ العنف. و الاعواز: الفقر. و سوء ظنهم بالبقاء اى: بقاء العمل فى أيديهم. و قوله: و لا يضعف الى قوله الامور اى: يكون ممن اذ اعقد لك عقدة امر أحكمها، و اذا عقد عليك غيرك امرا قام بحلّه. و لا يدخل فى امر الأبعد معرفته به. و استنام الى الامر: سكن اليه، و اعتمد عليه. و قوله: ليس وراء ذلك اى: تصنّعهم لفراسة الولاة.
و اعمد اى: اقصد. و تغابيت: تغافلت. و الزمته اى: عند اللّه و فى الآخرة. و لما أوصى
ص: 549
بالتجار و ذوى الصناعات، نبّه على ذلك بضميرين صغرى الاول قوله: فإنهم مواد المنافع الى قوله: يجترءون عليها، و ذلك: اشارة الى وجود المنفعة منهم. و صغرى الثاني قوله:
فانهم سلم الى غائلته. و اشار بذلك: الى عدم المضرّة منهم. و المترفّق ببدنه:
طلب المنفعة بصنيعته، و المطارح جمع مطرح و هى: الارض البعيدة. و لا يلتئم الناس لمواضعها و ذلك: كالجبال و البحار. و الضمير فى مواضعها: للمرافق. و البائقة: الداهية.
و الغائلة: الشرّ. و الضيق: البخل. و الاحتكار: حبس المنافع عن الناس عند الحاجة اليها، و ورد النهى الشرعى عن ذلك فى الاجناس التي يعمّ نفعها و يكثر الحاجة اليها، و هى الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن و الملح، و التحكّم فى البياعات: ان يبيع على حكمه بمجرّد الهوى من غير رجوع الى شريعة أو عرف. و قارف كذا أى: اكتسبه و فعله.
و الحكره بالضّم: الاسم. البؤس: الشدة. و القانع: السائل يقنع بما يعطى. و المعترّ: الذى يتعرّض للعطاء من غير سؤال. و الصوافى: جمع صافية و هى أرض الغنيمة. و الأقصى و الادنى اى: الأبعد عنك و الأدنى منك. و البطر: تجاوز الحدّ فى الفرح و النشاط. و اراد لا يكن لك بطر بما انت فيه من الأمرة فيشتغل عنهم. و التافه: الشيء القليل. و يشخص همّك ترفعه. و تصعير الخد: أمالته(1). و تقتحمه العيون: تزدريه. و اعذر الرجل: اذا عذر. و ذوى الرّقة فى السّن: العاجزون الذين رقّت حالهم عن تحصيل المعاش. و لا ينصب للمسألة نفسه اىّ : حياء و تعفّفا.
بعضها خاصة بنفسه و احوال عباده و بخاصته و عماله الى غير ذلك، و هو قوله:
و اجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الّذى خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّى سمعت رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يقول فى غير موطن: (لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القوىّ غير متتعتع)(2) ثمّ
ص: 550
احتمل الخرق منهم و العىّ ، و نحّ عنك الضّيق و الأنف يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته، و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع فى إجمال و إعذار! ثمّ أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك، و منها إصدار حاجات النّاس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك، و أمض لكلّ يوم عمله، فإنّ لكلّ يوم ما فيه، و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه أفضل تلك المواقيت، و أجزل تلك الأقسام و إن كانت كلّها للّه إذا صلحت فيها النّيّة، و سلمت منها الرّعيّة.
و ليكن فى خاصّة ما تخلص به للّه دينك: إقامة فرائضه الّتى هى له خاصّة فأعط اللّه من بدنك فى ليلك و نهارك، و وفّ ما تقرّبت به إلى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم و لا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ، و إذا قمت فى صلاتك للنّاس فلا تكوننّ منفّرا و لا مضيّعا، فإنّ فى النّاس من به العلّة و له الحاجة. و قد سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين وجّهنى إلى اليمن كيف أصلّى بهم ؟ فقال «صلّ بهم كصلاة أضعفهم، و كن بالمؤمنين رحيما»(1).
و أمّا بعد، فلا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرّعيّة شعبة من الضّيق، و قلّة علم بالأمور، و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، و يعظم الصّغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل، و إنّما الوالى بشر لا يعرف ما توارى عنه النّاس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات تعرف بها ضروب الصّدق من الكذب، و إنّما أنت أحد رجلين: إمّا امرو سخت نفسك بالبذل فى الحقّ ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه ؟ أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ النّاس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أنّ أكثر حاجات النّاس إليك ممّا لا مئونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف فى معاملة.
ثمّ إنّ للوالى خاصّة و بطانة فيهم استئثار، و تطاول، و قلّة إنصاف فى معاملة فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة و لا يطمعنّ منك فى اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من النّاس فى شرب أو عمل مشترك يحملون مئونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك و عيبه عليك فى الدّنيا و الآخرة.
ص: 551
و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن فى ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة.
و إن ظنّت الرّعيّة بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فانّ فى ذلك رياضة منك لنفسك، و رفقا برعيّتك، و إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ .
و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضى، فانّ فى الصّلح دعة لجنودك و راحة من همومك، و أمنا لبلادك، و لكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فانّ العدوّ ربّما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم، و اتّهم فى ذلك حسن الظّنّ . و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة، فحط عهدك بالوفاء، و ارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فانّه ليس من فرائض اللّه شيء النّاس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك و لا تختلنّ عدوّك، فانّه لا يجترئ على اللّه إلاّ جاهل شقىّ . و قد جعل اللّه عهده و ذمّته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، و حريما يسكنون إلى منعته، و يستفيضون إلى جواره، فلا إدغال و لا مدالسة و لا خداع فيه، و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل، و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التّأكيد و التّوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ ، فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه و فضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، و أن تحيط بك من اللّه فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك و لا آخرتك.
إيّاك و الدّماء و سفكها بغير حلّها، فإنّه ليس شيء أدنى لنقمة، و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة و انقطاع مدّة، من سفك الدّماء بغير حقّها، و اللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدّماء يوم القيامة، فلا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندى فى قتل العمد، لأنّ فيه قود البدن، و إن ابتليت بخطاء و أفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فانّ فى الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّى إلى أولياء المقتول حقّهم.
ص: 552
و إيّاك و الاعجاب بنفسك، و الثّقة بما يعجبك منها، و حبّ الأطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشّيطان فى نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. و إيّاك و المنّ على رعيّتك باحسانك، أو التّزيّد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعودك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الاحسان، و التّزيّد يذهب بنور الحقّ ، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و النّاس، قال اللّه تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ »(1). و إيّاك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التّسقّط فيها عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ عمل موقعه. و إيّاك و الاستئثار بما النّاس فيه أسوة، و التّغابى عمّا تعنى به ممّا قد وضح للعيون، فإنّه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، و ينتصف منك للمظلوم، املك حميّة أنفك، و سورة حدّك، و سطوة يدك، و غرب لسانك، و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة، و تأخير السّطوة، حتّى يسكن غضبك فتملك الاختيار، و لن تحكم ذلك من نفسك حتّى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربّك. و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو فريضة فى كتاب اللّه، فتقتدى بما شاهدت ممّا عملنا به فيها، و تجتهد لنفسك فى اتّباع ما عهدت إليك فى عهدى هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسى عليك، لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه بسعة رحمته، و عظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة، أن يوفّقنى و إيّاك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه و إلى خلقه، مع حسن الثّناء فى العباد، و جميل الأثر فى البلاد، و تمام النّعمة، و تضعيف الكرامة، و أن يختم لى و لك بالسّعادة و الشّهادة، إنّا إليه راغبون. و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الطّيّبين الطّاهرين، و سلّم تسليما كثيرا.
الشّرط: العلامة، و سمّى الشرطة بذلك، لأعلامهم أنفسهم بعلامة يعرفون بها. و التقديس: التطهير. و الخرق العنف فى القول و هو: ضدّ الرفق. و الضيق: سوء الخلق. و أكناف رحمته: جوانبها و امور مبتدأ قدّم خبره أى ثمّ هناك امور. و كنّى بحرج صدور
ص: 553
اعوانه: عن عجزهم عن اصدار ما يرد عليهم. و أجزل: أعظم. و الجزل: العظيم. و قوله و ان كانت كلّها للّه، الى قوله و الرّعية: اشارة الى حسن التدبير فى الولاية عن الامام الحق بعباده. و منفّرا أى: يطوّل الصلاة. و الضمير فى منهم: للولاة. و قوله فيصغر، الى قوله:
القبيح: اشارة الى المفاسد اللازمة من الاحتجاب. و الضمير فى عندهم: للرعيّة. و صغر الامر الكبير: كان يظلم القوىّ فيصغّر النّاس حرمته، و كبر الضعيف كان يقع من بعض الضعفاء صغيرة فيعظمها الناس، و كذلك قبح الحسن، و حسن القبيح. و السمات:
العلامات. و تلك الأحوال، اشارة الى الاستيثار و التطوّل و قلة الانصاف(1). و الحسم:
القطع و اسباب تلك الاحوال هو: كما اشار اليه و نهاه عنه من اقطاع القطائع لحاشيته و خاصّته و هى قرابته. و اعتقاد: العقد، و كنى بها عمّا يقتنى من الضياع. و العقدة:
الضيعة، و المكان كثير الشجر و النخل. و اعتقد الضيعة: اقتناها. و من لزمه أى: الحق. و محتسبا اى: متقرّبا به الى اللّه تعالى. و قوله: واقعا ذلك، اى: الزام الحق، و حيث وقع اى: من سخط او رضى منهم، و عاقبته: هو ثواب الآخرة و الذكر الجميل(2). و مغبّة ذلك: عاقبته المذكورة. و أصحر: اظهر. و الدّعة: الراحة. و لما استوبلوا، اى: لما وجدوه من الوبال فى عاقبة الغدر، و هو وخمها و سوءها. و خاس بالعهد: نقضه. و الختل:
الخداع، و نبّه على انّ الخداع بالمعاهدة و العذر بها جرأة على اللّه يستلزم الشقاوة، بقوله:
فانّه الى قوله: شقّى، و فيه: تنبيه على ضمير تقدير صغراه فانّك بذلك مجتر على اللّه و تقدير كبراه، و كلّ مجتر على اللّه تلزمه الشقاوة الأخروية. و افضا: وسعه و بسطه. و يستفيضون: يندفعون الى جواره و لزومه. و الادغال: الافساد. و المدالسة: مفاعلة من التدليس. و العلل: الاحداث المفسدة للعهود و نحوها. و لحن القول: كالتورية، و التعرض فيه. كما ادّعاه طلحة فى بيعته لعليّ عليه السلام. و لا يستقبل و يتلقى الاّ الخير، و روى يستقيل بالياء اى: لا يكون لك من تلك البيعة اقالة فى الدنيا و الآخرة. و أحرى:
أولى. و القود: قتل القاتل بالمقتول. و أفرط: سبق. و الوكزة: مثل الضربة بجمع اليد على الذقن. و لا يطمحن اى: لا ترتفع. و الفرصة: امكان الشيء من نفسه. و التزيد: اظهار
ص: 554
الزيادة مع عدمها فى معرض الافتخار، و نفر عن المنّ ، و التزيد، و الخلف: بضمائر ثلاثة و تقدير كبرياتها، و كلّ ما كان كذلك فلا يجوز فعله، و نبّه على صغرى الثالث، و هى قوله: الخلف، الى قوله: الناس، ضمير صغراه قوله: فان اللّه سبحانه. الى قوله تفعلون. و قولهم ما لا يفعلون هو الخلف، و تقدير كبراه و كلّ ما وعد اللّه المقت على فعله، اوجب فعله المقت عنده و عند الناس. و العجلة فى الامور قبل أوانها. و اللجاجة فى طلبها اذا تنكّرت اى: لم يعرف وجه تحصيلها. و تعسّرت: هو طرف الافراط فى طلبها، و التساقط فيها و القعود عنها عند امكانها، و الوهن عنها عند وضوحها. و ضع كل أمر موضعه. و اسوة اى:
سواء. التغابى: التغافل. و يعنى به اى: ما ينبغي العناية به من رد المظالم الواقعة منك او بسببك. و اشار باغطية الامور: الى غطاء البدن، و هيئته الحاجبة لحقائق الأمور: ان يدركها بعين بصيرته. و حميّة الانف: الغضب و الأنفه. و سورة حدته: غضبه و بأسه. و غرب اللسان: حدّته. و البادرة: سرعة السطوة و العقوبة. و العلّة: التعلّل بما يشبه الغدر. و اعلم انّ مقاصد هذا العهد واضحة بيّنة و لا مزيد على ما اودعه عليه السلام من الحكمة الخلقية و المدنية و السياسية، و كمالات القوّة العملية التي ورثها الأنبياء و المرسلون أوصياءهم، و الحكماء السابقون من بعدهم، و كفى بذلك شرفا و فضلا. و باللّه التوفيق.
ذكره أبو جعفر الاسكافى فى كتاب المقامات فى مناقب أمير المؤمنين عليه السلام أمّا بعد، فقد علمتما و إن كتمتما أنّى لم أرد النّاس حتّى أرادونى، و لم أبايعهم حتّى بايعونى، و إنّكما ممّن أرادنى و بايعنى، و إنّ العامّة لم تبايعنى لسلطان غالب، و لا لعرض حاضر، فإن كنتما بايعتمانى طائعين فارجعا و توبا إلى اللّه من قريب، و إن كنتما بايعتمانى كارهين فقد جعلتما لى عليكما السّبيل بإظهار كما الطّاعة، و إسراركما المعصية. و لعمرى ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالتّقيّة و الكتمان، و إنّ دفعكما هذا الأمر [من] قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به.
ص: 555
و قد زعمتما أنّى قتلت عثمان، فبينى و بينكما من تخلّف عنّى و عنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امرىء بقدر ما احتمل. فارجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما، فإنّ الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يجتمع العار و النّار.
اقول: خزاعة: قبيلة من الازد. و الاسكافى: منسوب الى اسكاف(1) رستاق كبير كان بين النهروان و البصرة. و كتاب المقامات: الذى صنّفه الشيخ المذكور فى مناقب أمير المؤمنين عليه السلام(2). و قوله: ثم يلزم كلّ امرئ أى: من اللاّئمة و العار بقدر ما احتمل من الاثم و الغدر. و العرب تعيّر بالغدر و نقض العهد كثيرا. و المعنى ظاهر، و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه جعل الدّنيا لما بعدها، و ابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملا، و لسنا للدّنيا خلقنا، و لا بالسّعى فيها أمرنا، و إنّما وضعنا فيها لنبتلى بها، و قد ابتلانى اللّه بك و ابتلاك بى: فجعل أحدنا حجّة على الآخر، فعدوت على طلب الدّنيا بتأويل القرآن، فطلبتنى بما لم تجن يدي و لا لسانى، و عصبته أنت و أهل الشّام بى، و ألّب عالمكم جاهلكم و قائمكم قاعدكم، فاتّق اللّه فى نفسك، و نازع الشّيطان قيادك، و اصرف إلى الآخرة وجهك فهى طريقنا و طريقك، و احذر أن يصيبك اللّه منه بعاجل قارعة تمسّ الأصل، و تقطع الدّابر، فإنّى أولى لك باللّه أليّة غير فاجرة: لئن جمعتنى و إيّاك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك «حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ بَيْنَنٰا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ »(3).
اقول: اراد بالسعى فيها: السّعى المذموم فى طلبها لنفسها، و قد سبق معنى ابتلاء
ص: 556
لعباده. و وجه كونه عليه السلام، حجّة على معاوية: دعائه اياه الى طاعة اللّه، و ذلك حجّة اللّه عليه ان يقول يوم القيامة انى كنت من الغافلين. و وجه كون معاوية حجّة عليه:
عصيانه للّه و محاربته ايّاه، حتى لو قصّر فى مقاومته كان ملوما، فكان معاوية حجّة اللّه على تقصيره فى طاعته: و عدوت: يحتمل ان يكون من العدو فهو الجرى، او من العدوان، و تأويل القرآن كقوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصٰاصُ فِي اَلْقَتْلىٰ »(1) و تأويله لذلك: بإدخال نفسه فيه و طلب القصاص لعثمان، و انما دخل بالتأويل: لان الخطاب خاص ممن قتل، و قتل منه، و معاوية بمعزل عن ذلك، اذا لم يكن ولىّ دمه فتأول الآية بالعموم: ليدخل فيها. و ما لم تجن يدي، اى: من القتل و المشاركة فيه. و عصبته: علقته. و التأليب: التحريض. و القارعة: الدّاهية. و الدابر ألمتأخّر: من النسل. و الاليّة: اليمين. و باحة الدار: ساحتها. و فى وعيده بعدم انفكاكه عنه الى الغاية المذكورة بلاغ فى التخويف و الانذار.
56 - و من وصيّة له عليه السّلام وصّى بها شريح بن هانى(2)، لما جعله على مقدّمته إلى الشام
اتّق اللّه فى كلّ صباح و مساء، و خف على نفسك الدّنيا الغرور، و لا تأمنها على حال، و اعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحبّ مخافة مكروهه سمت بك الأهواء إلى كثير من الضّرر. فكن لنفسك مانعا رادعا، و لنزوتك عند الحفيظة واقما قامعا.
اقول: لا تأمنها على حال اى: تركن اليها البتّة، لانّها غرور و نفسه التي أمر بكفّها:
الامارة بالسوء. و النزوة: الوثبة. و الحفيظة: الغضب. و الرادع: الذى يردّ الشيء أقبح الرد. و الوقم: القهر و الاذلال. و كذلك القمع.
ص: 557
أمّا بعد، فإنّى خرجت من حيّ هذا، إمّا ظالما، و إمّا مظلوما، و إمّا باغيا و إمّا مبغيّا عليه، و إنّى أذكّر اللّه من بلغه كتابى هذا، لمّا نفر إلىّ ، فإن كنت محسنا أعاننى، و إن كنت مسيئا استعتبني.
اقول: الحىّ : القبيلة، و قوله: إمّا ظالما، الى قوله عليه: من باب تجاهل العارف، او لأن اهل الكوفة لم يكن بعد ظهرت لهم القضّية ليعرفوا الظالم من المظلوم و من بلغه:
مفعول اول لا ذكر اخّر لطوله. و لمّا مشددة: بمعنى الاّ، و مخفّفه هى «ما» زائدة دخل عليها لام التأكيد، اى: لينفرنّ الى. و باللّه التوفيق.
و كان بدء أمرنا أنّا التقينا و القوم من أهل الشّام، و الظّاهر أنّ ربّنا واحد، و نبيّنا واحد، و دعوتنا فى الاسلام واحدة، و لا نستزيدهم فى الايمان باللّه و التّصديق برسوله و لا يستزيدوننا: الأمر واحد إلاّ ما اختلفنا فيه من دم عثمان، و نحن منه براء! فقلنا: تعالوا نداو مالا يدرك اليوم باطفاء النّائرة، و تسكين العامّة، حتّى يشتدّ الأمر و يستجمع فنقوى على وضع الحقّ مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة! فأبوا حتّى جنحت الحرب و ركدت، و وقدت نيرانها و حمست. فلمّا ضرّستنا و إيّاهم، و وضعت مخالبها فينا و فيهم، أجابوا عند ذلك إلى الّذى دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا، و سارعناهم إلى ما طلبوا، حتّى استبانت عليهم الحجّة، و انقطعت منهم المعذرة. فمن تمّ على ذلك منهم فهو الّذى أنقذه اللّه من الهلكة، و من لجّ و تمادى فهو الرّاكس الّذى ران اللّه على قلبه، و صارت دائرة السّوء على رأسه.
ص: 558
اقول: يروى بدء امرنا اى: مبتدأه. و الثائرة: العداوة. و قوله: فقلنا، الى قوله مواضعه: كناية عن دعائه لهم الى حقن الدماء بترك الحرب. و قوله: فقالوا الى قوله المكابرة: كناية عن إبائهم و مخالفتهم له. و جنحت: مالت. و ركدت: ثبتت. و حمست:
اشتدّت. و روى بالشين المعجمة اى: التهبت غضبا. و اجابتهم الى ما دعاهم اليه طلبهم للصلح، و حقن الدماء: صبيحة ليلة الهرير كما سبق، و اجابته لهم فى رضاه:
بالتّحكيم و ظهور الحجّة عليهم، برجوعهم الى عين ما كان يدعوهم اليه من حقن الدماء، و فى ذلك انقطاع عذرهم: فى المطالبة بدم عثمان، اذ كان سكوتهم عن دم صحابىّ لا حق لهم فيه، اسهل من سفك دماء سبعين الفا من المهاجرين و الانصار و التابعين بإحسان. و من تمّ على ذلك اى: على الصلح و الرضا به، فهو الذى انقذه اللّه اى: اخلصه من الهلكة. و من لجّ اى: فى انكار الصلح، و تحكيم كتاب اللّه و تمادى فى ذلك اى:
اقام عليه، و هم الخوارج، و استعار لهم لفظ الراكس، و هو: المردود مقلوبا باعتبار انتكاس عقولهم، فى ظلمة الجهل، و الشبه الباطلة، بعد استنارتها و ظهورها بنور الايمان او انتكاسهم فى العقوبة، و القتل فى الدنيا، و العذاب فى الآخرة كقوله تعالى: «وَ اَللّٰهُ أَرْكَسَهُمْ بِمٰا كَسَبُوا»(1) اى ردّهم الى عقوبة كفرهم.
أمّا بعد، فإنّ الوالى إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن أمر النّاس عندك فى الحقّ سواء، فإنّه ليس فى الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله، و ابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك راجيا ثوابه، و متخوّفا عقابه. و اعلم أنّ الدّنيا دار بليّة لم يفرغ صاحبها فيها قطّ ساعة إلاّ كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة، و أنّه لن يغنيك عن الحقّ شيء أبدا، و من الحقّ عليك حفظ نفسك، و الاحتساب على الرّعيّة بجهدك، فإنّ الّذى يصل إليك من ذلك أفضل من الّذى يصل بك، و السّلام.
ص: 559
اقول: ما تنكر امثاله: من غيرك، و لم يفرغ اى: من العمل فى طاعة اللّه و حفظ نفسك اى: فى الآخرة. و الاحتساب على الرعية اى: بالأخذ على أيديهم فى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر. و قوله: فان الّذى الى آخره: صغرى ضمير نبّه به على وجوب الاحتساب، و المعنى، الذى يصل اليك من ثواب العمل بذلك: افضل ممّا يصل الى الرعيّة من عدلك، و احسانك اليهم.
من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى من مرّ به الجيش من جباة الخراج و عمّال البلاد. أمّا بعد، فإنّى قد سيّرت جنودا هى مارّة بكم «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ »، و قد أوصيتهم بما يجب للّه عليهم من كفّ الأذى و صرف الشّذى، و أنا أبرأ إليكم و إلى ذمّتكم من معرّة الجيش إلاّ من جوعة المضطرّ لا يجد عنها مذهبا إلى شبعه فنكّلوا من تناول منهم شيئا ظلما عن ظلمهم، و كفّوا أيدى سفهائكم عن مضادّتهم و التّعرّض لهم فيما استثنيناه منهم، و أنا بين أظهر الجيش، فارفعوا إلىّ مظالمكم و ما عراكم ممّا يغلبكم من أمرهم، و لا تطيقون دفعه إلاّ باللّه و بى، فأنا أغيّره بمعونة اللّه تعالى، إن شاء اللّه.
أقول: الشذى: الشر(1). و معرّة الجيش: مضرّته. و نكّلوا: جبّنوا و خوّفوا، و ما استثناه منهم هو جوعة المضطّر. و كونه بين اظهر الجيش: كناية عن كونه مرجعا لهم. و عراكم:
غشيكم.
ص: 560
و هو عامله على هيت، ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدوّ طالبا الغارة أمّا بعد، فإنّ تضييع المرء ماولّى، و تكلّفه ما كفى، لعجز حاضر، و رأى متبّر، و إنّ تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا، و تعطيلك مسالحك الّتى ولّيناك، ليس بها من يمنعها و لا يردّ الجيش عنها، لرأى شعاع، فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك غير شديد المنكب و لا مهيب الجانب، و لا ساد ثغرة، و لا كاسر شوكة، و لا مغن عن أهل مصره، و لا مجز عن أميره و السّلام.
اقول: المتبّر: الهالك الفاسد. و الشعاع: المتفرّق و استعار له لفظ الجسر باعتبار عبور العدوّ اليه الى عمله. و شدّة المنكب: كناية عن القوّة على الدفع. و الثّغرة و الثّغر: الفرج من البلدان تحتاج الى السدّ بالرجال. و الشوكة: القوة.
أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، نذيرا للعالمين، و مهيمنا على المرسلين، فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده، فو اللّه ما كان يلقى فى روعى و لا يخطر ببالى أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أهل بيته و لا أنّهم منحّوه عنّى من بعده! فما راعنى إلاّ انثيال النّاس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم الّتى إنّما هى متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السّراب أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت فى تلك
ص: 561
الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق، و اطمأنّ الدّين و تنهنه. و منه: إنّى و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها ما باليت و لا استوحشت، و إنّى من ضلالهم الّذى هم فيه و الهدى الّذى أنا عليه لعلى بصيرة من نفسى و يقين من ربّى، و إنّى إلى لقاء اللّه لمشتاق، و لحسن ثوابه لمنتظر راج، و لكنّنى آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا، و عباده خولا، و الصّالحين حربا، و الفاسقين حزبا فانّ منهم الّذى [قد] شرب فيكم الحرام، و جلد حدّا فى الاسلام، و إنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الاسلام الرّضائخ، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم، و لتركتكم إذ أبيتم و ونيتم. ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت، و إلى أمصاركم قد افتتحت، و إلى ممالككم تزوى، و إلى بلادكم تغزى، انفروا - رحمكم اللّه - إلى قتال عدوّكم و لا تثّاقلوا إلى الأرض فتقرّوا بالخسف، و تبوءوا بالذّلّ ، و يكون نصيبكم الأخسّ ، و إنّ أخا الحرب الأرق، و من نام لم ينم عنه، و السّلام.
اقول: المهيمن: الشاهد. و الروع بالضّم: القلب و كذلك البال. و الانثيال:
الانصاب. و فلان هو: ابو بكر. و راجعة الناس الذين رجعوا عن الدّين و ارتدّوا فى خلافته.
و المحق: الهلاك. و الثلم: الكسر. و تلك الأحداث وقائع العرب الذّين ارتدّوا و راح:
ذهب. و زهق: اضمحل. و تنهنه: اتّسع. و طلاع الارض: ملاؤها. و آسى: أحزن. و اراد بالسفهاء و الفجّار: بنو امية. و الدّول بالضم: جمع دولة بالضم و الفتح. و انّما خصّص الضمّ بالمال، و الفتح بالحرب، هو: ان يصير المال او الغلبة مرّة لهذا، و مرّة لذلك. و الخول: العبيد. و الذى شرب فيكم الحرام من بنى امية، هو: المغيرة بن شعبة فى عهد عمر حين كان واليا من قبله على الكوفة فانه شرب الخمر، و صلّى بالناس سكران و زاد فى الركعات، و قاء الخمر فى المحراب فشهدوا عليه و جلد الحد(1). و كذلك عتبة بن ابى سفيان جلده فى الخمر خالد بن عبد اللّه بالطائف. و الرضايخ، جمع رضيخة و الرضخ و الرضيخة: العطّية. و الذى رضخ له قيل: هو ابو سفيان، و ابنه معاوية، حين كانا من المؤلّفة
ص: 562
قلوبهم يستمالون الى نصرة الدين بالعطاء، و قيل: هو عمرو بن العاص حين اطعم مصر على حرب عليّ عليه السلام. و التأليب: الجمع و التحريض. و التأنيب: التعنيف و اللوم.
ونيتم: فترتم، و الونى: الفتور و الضعف و التّباطى عن الامر. و تزوى: تقبض و تجمع. و تقرّوا بالخسف: ترضوا بالدنية و النقصان. تبوءوا: ترجعوا، و باء بكذا: رجع به. و الارق:
كثير السهر، و هو كناية عن المتيّقظ فى الامور المهتمّ بها.
و هو عامله على الكوفة، و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لمّا ندبهم لحرب أصحاب الجمل من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس أمّا بعد، فقد بلغنى عنك قول هو لك و عليك، فإذا قدم رسولى عليك فارفع ذيلك، و اشدد مئزرك، و اخرج من جحرك، و اندب من معك. فإن حقّقت فانفذ، و إن تفشّلت فابعد! و ايم اللّه لتؤتينّ من حيث أنت، و لا تترك حتّى يخلط زبدك بخاثرك، و ذائبك بجامدك، و حتّى تعجل عن قعدتك، و تحذر من أمامك كحذرك من خلفك، و ما هى بالهوينا الّتى ترجو، و لكنّها الدّاهية الكبرى يركب جملها، و يذلّ صعبها، و يسهل جبلها. فاعقل عقلك، و املك أمرك و خذ نصيبك و حظّك فإن كرهت، فتنحّ إلى غير رحب و لا فى نجاة، فبالحرىّ لتكفينّ و أنت نائم حتّى لا يقال: أين فلان ؟ و اللّه إنّه لحقّ مع محقّ ، و ما يبالي ما صنع الملحدون.
اقول: ثبّطه عن الامر: أشغله عنه و أقعده. و القول الذى هو له و عليه و هو: تثبيطه الناس عن النهوض الى حرب البصرة بقوله: انّ ذلك فتنة، و ما كان يرويه عن الرسول صلى اللّه عليه و آله من القعود عن الفتنة و هو له: باعتبار ظاهر الدين و عليه: باعتبار انّه تنفير عن طاعة الإمام الحق واجب الطاعة. و خروج عنها بالجهل، و ذلك عائد على فاعله بالمضرّة الاخروية و الدنيويّة. و رفع ذيله و شدّ مئزره: كناية عن تشميره فى المسارعة الى امره. و استعار لفظ الجحر لبيته: ملاحظة لشبهه بالثعلب و نحوه. و اندب أىّ : أبعث. و
ص: 563
قوله: و ان حققت اى: ما نحن فيه من هذا الأمر و صحّة وجوب المتابعة فيه فانفذ فى ذلك و امض فيه. و ان تفشّلت اى: جبنت و ضعفت عن معرفة ذلك فابعد عنا و عنه. و قوله: حتى يخلط، الى قوله: بحامدك، كالمثلين كنّى: بهما عن خلط احواله الصّافية بالتكدير كعزّته بذلّته، و سروره بغمّه، و سهولة امره بصعوبته.
و القعدة: هيئة القعود، و انما جعل الحذر من خلف اصلا فى التّشبيه: لانه المعتاد فى الحذر، و هو كناية عن غاية الخوف.
و قيل: أراد حتى تخاف من الدنيا كخوفك من الآخرة. و قوله: و ما هى بالهوينا، اى: و ما القصّة المعهودة بالهيّنة السهلة. و قوله: يركب جملها، الى قوله جبلها اى: يركب الجمل فيها و يذلّ الصعب الداخل فيها. و استعار لفظ الجبل: للثابت من الرجال، الرابط: الجأش. و يسهل اى: يلين فيها و يذلّ ، كلّ ذلك، كناية عن شدّتها. و عقلك مصدر يقال: فلان عقل عقله اذا رجع نفسه كأنه شعر بشعوره بالشىء، فنصبه اى: اعقل عقلك بهذه الحال العظيمة. و قيل: هو مفعول به. و اعقله مأخوذ من العقال اى: اضبط عقلك و احبسه على معرفة الحق لا تفرّقه فيما لا ينبغي. و نصيبه من حظه اى: من طاعة اللّه. و قوله: بالحرى لتكفّين، اى: فبالأجدر و الاولى ان تكفى مؤنة هذا الامر، و انت نائم عن طاعة اللّه حتى لا يسأل عنك و لا تلتفت اليك. و الضمير فى انّه: للامر المدعو اليه. و ألحد فى الدّين: مال عن الاستقامة فيه. و باللّه التوفيق.
64 - و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية، جوابا(1)
أمّا بعد، فإنّا كنّا نحن و أنتم على ما ذكرت من الألفة و الجماعة ففرّق بيننا و بينكم أمس أنّا آمنّا و كفرتم، و اليوم أنّا استقمنا و فتنتم، و ما أسلم مسلمكم إلاّ كرها، و بعد أن كان أنف الإسلام كلّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزبا. و ذكرت أنّى قتلت طلحة و الزّبير، و شرّدت بعائشة و نزلت، المصرين! و ذلك أمر غبت عنه فلا عليك، و لا العذر فيه إليك.
ص: 564
و ذكرت أنّك زائرى فى المهاجرين و الأنصار، و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك، فإن كان فيك عجل فاسترفه، فإنّى إن أزرك فذلك جدير أن يكون اللّه إنّما بعثنى للنّقمة منك! و إن تزرنى فكما قال أخو بنى أسد:
مستقبلين رياح الصّيف تضربهم *** بحاصب بين اغوار و جلمود
و عندى السّيف الّذى أعضضته بجدّك و خالك و أخيك فى مقام واحد و إنّك - و اللّه - ما علمت الأغلف القلب، المقارب العقل، و الأولى أن يقال لك: إنّك رقيت سلّما أطلعك مطلع سوء عليك لالك، لأنّك نشدت غير ضالّتك، و رعيت غير سائمتك، و طلبت أمرا لست من أهله و لا فى معدنه، فما أبعد قولك من فعلك!! و قريب ما أشبهت من أعمام و أخوال حملتهم الشّقاوة و تمنّى الباطل على الجحود بمحمّد، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فصرعوا مصارعهم حيث علمت لم يدفعوا عظيما، و لم يمنعوا حريما بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، و لم تماشها الهوينا. و قد أكثرت فى قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه النّاس، ثمّ حاكم القوم إلىّ أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه تعالى، و أمّا تلك الّتى تريد، فإنّها خدعة الصّبىّ عن اللّبن فى أوّل الفصال، و السّلام لأهله.
اقول: امس: كناية عن بدأ الاسلام. و فتنتم، اى: ابتليتم بالبغى. و ممّن اسلم كرها: ابو سفيان كما نبّهنا عليه فى الاصل(1). و استعار لفظ الانف: لأشراف المسلمين، باعتبار شرفهم و تقدّمهم كالانف. و التشريد: الإبعاد. و المصرين: البصرة و الكوفة، و قوله و لقد انقطعت الهجرة يوم أسر اخوك اشارة: الى انهم لم يكونوا من المهاجرين، اذ كان هو و ابوه و جماعتهم ممن أخذ يوم الفتح، و منّ عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأطلقهم و سمّاهم بالطّلقاء، بعد ان اسلموا يومئذ كما سبق بيانه.
و قال صلى اللّه عليه و آله يومئذ: لا هجرة بعد الفتح. و روى اسر اخوك و اخوه المأسور هو: عمرو بن ابى سفيان يوم بدر. و وجه التمثيل بالبيت انّه لاحظ مشابهة استقبال معاوية له باستقبالهم رياح الصيف فى شدّة حرّها، و حملها للحصاة فى وجوه مستقبلها، و مشابهة نفسه و جمعه برياح الصيف الموصوفة باعتبار شدّة بأسهم و سطوتهم. و استعار بحسب
ص: 565
تلك المشابهة لفظ الرياح المذكورة و أوصافها لهم. و الحاصب: الريح الشديدة ترمى بالحصباء. و الاغوار: المنخفضة من الارض جمع غور و الجلمود: الحجارة. و اغصصت السيف بفلان اى: جعلته يغصّ به و هو من المغلوب لان المضروب هو الذى يغصّ بالسّيف. و قد ذكرنا انه عليه السلام قتل جدّه لامه، و خاله، و اخاه حنظلة يوم بدر. و روى اعضضته بالضاد المعجمة: استعارة. و ما: بمعنى الذى. و لفظ الأغلف: مستعار لقلبه باعتبار كونه مغشّى بالشبهات و الهيئات البدنيّة الحاجبة له عن ادراك الحقّ . و فلان مقارب العقل، اى: قليله و ناقصه. و قوله: نشدت الى قوله: سائمتك مثلان: كنّى بهما عن طلبه لما ليس له بحق. و قوله: هو طلبه: لما ليس له نحلة عثمان، و فعله و حركاته فى طلب الملك، و ما: مصدريّة محلها الرفع بالابتداء، و قريب خبره مقدما. قيل: فمن اهل الشقاوة، من جهة عمومته حمّالة الحطب. و من جهة خؤولته الوليد بن عتبة. و يدخل فى ذلك: عمومة ابويه كشيبة عمّ هند. و الباطل: الذي كانوا يتمنّونه كالنصرة على محمّد عليه السلام، و اقامة امر الشرك. و حيث علمت كبدر و حنين، و غيرها من المواطن.
و الوغى: الحرب. و قوله: و لم تماشها الهوينا، اى: لم يلحق ضربها هون و لا سهولة. و ما دخل فيه الناس: هو بيعته عليه السلام و طاعته. و اما تلك التي تريدها: فهى خدعته بتغليبه، و بغيه لغاية ان يرضى باقراره على الشام. و باللّه التوفيق.
أمّا بعد، فقد آن لك أن تنتفع باللّمح الباصر من عيان الأمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل، و إقحامك غرور المين و الأكاذيب، و بانتحالك ما قد علا عنك، و ابتزازك لما اختزن دونك، فرارا من الحقّ ، و جحودا لما هو ألزم لك من لحمك و دمك: ممّا قد وعاه سمعك، و ملئ به صدرك، فما ذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال المبين، و بعد البيان إلاّ اللّبس ؟ فاحذر الشّبهة و اشتمالها على لبستها، فإنّ الفتنة طالما أغدفت جلابيبها، و أعشت الأبصار ظلمتها.
ص: 566
و قد أتانى كتاب منك ذو أفانين من القول ضعفت قواها عن السّلم، و أساطير لم يحكها منك علم و لا حلم، أصبحت منها كالخائض فى الدّهاس، و الخابط فى الدّيماس، و ترقّيت إلى مرقبة بعيدة المرام نازحة الأعلام، تقصر دونها الأنوق و يحاذى بها العيّوق. و حاش للّه أن تلى للمسلمين بعدى صدرا أو وردا أو أجرى لك على أحد منهم عقدا أو عهدا!! فمن الآن فتدارك نفسك و انظر لها، فإنّك إن فرّطت حتّى ينهد إليك عباد اللّه أرتجت عليك الامور، و منعت أمرا هو منك اليوم مقبول، و السّلام.
أقول: استعار لفظ اللمح: الباصر، لادراك عقله بسرعة، من عيان الأمور: متعلّق بتنتفع. و المدارج: المسالك و المذاهب. و الاقتحام: الدخول فى الشيء بشدّة. و انتحل الشيء: ادّعاه لنفسه. و ليس له و ما علا عنه: هو ما يطلبه من الملك و الإمرة. و الابتزاز لما اختزن دونه، هو: استلابه به و غصبه لمال المسلمين الّذي من شأنه ان يخزن دونه، و ما هو الزم له هو طاعته عليه السلام. و ما وعاه سمعه: من دليل ذلك، و ملىء به صدره:
من العلم بوجوبه. و اللّبسة: اللابسون بها، و لفظه مستعار لهم: باعتبار دخولهم فيها. و اغدقت: أرسلت. و الأفانين: الاجناس المختلفة. و ذمّ الكتاب من جهة اللفظ بانّه:
اقوال مختلفة ملفقّة لا يتناسب. و ليس لها قوّة توجب صلحا او عاطفة. و من جهة المعنى بانّه: اباطيل غير محكمة النسج لا من جهة العلم و لا من جهة الحلم، لانّ الكتاب، يشتمل على خشونة و غلظة مع انّه فى معرض طلب الصلح. و الأساطير جمع اسطوره: و هى الاباطيل الكذب. و الدهاس: المكان السهل اللّين كالرمل. و الديماس: المكان شديد الظلمة، و شبهه بالخائض و الخابط فيهما، باعتبار. انّه لا يهتدى لوجه الحق فى مسلكه و حركاته. و المرقبة: موضع عال مشرف يرتفع عليه الراصد. و الانوق: الرخم(1).
و العيوق: نجم معروف. و استعار لفظ المرقبة: لولاية المسلمين و خصّ الرخمة: لانها بقصد الأماكن العاليّة الصعبة من رؤس الجبال فتوكر هناك. و تنهد: تنهض. و ارتجت:
اغلقت. و ما هو مقبول منه اليوم: التّوبة و الرجوع الى الطاعة. و باللّه التوفيق.
ص: 567
أمّا بعد، فإنّ المرء ليفرح بالشّىء الّذى لم يكن ليفوته، و يحزن على الشّىء الّذى لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت فى نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، و لكن اطفاء باطل أو احياء حقّ !! و ليكن سرورك بما قدّمت، و أسفك على ما خلّفت، و همّك فيما بعد الموت.
اقول: بما قدّمت اى: لنفسك من الأعمال الصالحة النافعة فى الآخرة. و ما خلّفت اى: من الدنيا. و اسفه عليه ان يكون أنفقه فى غير سبيل اللّه.
أمّا بعد، فأقم للنّاس الحجّ ، و ذكّرهم بأيّام اللّه، و اجلس لهم العصرين فأفت المستفتى، و علّم الجاهل، و ذاكر العالم، و لا يكن لك إلى النّاس سفير إلاّ لسانك، و لا حاجب إلاّ وجهك، و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فإنّها إن ذيدت عن أبوابك فى أوّل وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها و انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوى العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة و الخلاّت، و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا. و مر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فانّ اللّه سبحانه يقول: «سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ»(1) فالعاكف: المقيم به، و البادى: الّذى يحجّ إليه من غير أهله، وفّقنا اللّه و إيّاكم لمحابّه و السّلام.
اقول: أيّام اللّه: كناية عن عقوباته التي نزلت بمن مضى فى الأيّام الخالية.
ص: 568
و العصرين: الغداة و العشىّ . و السفير: الرسول. و ذيدت: دفعت و ردّت. و المفاقر: مواضع الفقر و وجوهه. و اضاف مواضع اليه، لتغاير اللّفظين.
أمّا بعد، فانّما مثل الدّنيا مثل الحيّة ليّن مسّها قاتل سمّها، فأعرض عمّا يعجبك فيها لقلّة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها، و كن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها، فإنّ صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى محذور! أقول: آنس حال، و ما، مصدريّة و خبر كان احذر، اى: كن حال أنسك بها احذر كونك منها. و قوله: فانّ صاحبها الى آخره اى: إنّ سكون صاحبها الى اللّذة يستلزم العذاب المحذور فى الآخرة، و قد نبّهنا عليه مرّات.
و تمسّك بحبل القرآن و انتصحه، و أحلّ حلاله، و حرّم حرامه، و صدّق بما سلف من الحقّ ، و اعتبر بما مضى من الدّنيا ما بقى منها، فإنّ بعضها يشبه بعضا، و آخرها لا حق بأوّلها! و كلّها حائل مفارق و عظّم اسم اللّه أن تذكره إلاّ على حقّ ، و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت، و لا تتمنّ الموت إلاّ بشرط وثيق و احذر كلّ عمل يرضاه صاحبه لنفسه و يكره لعامّة المسلمين، و احذر كلّ عمل يعمل به فى السّرّ و يستحى منه فى العلانية و احذر كلّ عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه. و لا تجعل عرضك غرضا لنبال القول، و لا تحدّث النّاس بكلّ ما سمعت به، فكفى بذلك كذبا و لا تردّ على النّاس كلّ ما حدّثوك به فكفى بذلك جهلا، و اكظم الغيظ و احلم عند الغضب، و تجاوز عند المقدرة، و اصفح مع الدّولة تكن لك العاقبة، و استصلح كلّ نعمة أنعمها اللّه عليك، و لا تضيّعنّ
ص: 569
نعمة من نعم اللّه عندك، و لير عليك أثر ما أنعم اللّه به عليك. و اعلم أنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه و أهله و ماله، فإنّك ما تقدّم من خير يبق لك ذخره، و ما تؤخّره يكن لغيرك خيره، و احذر صحابة من يفيل رأيه و ينكر عمله، فانّ الصّاحب معتبر بصاحبه. و اسكن الأمصار العظام فإنّها جماع المسلمين، و احذر منازل الغفلة و الجفاء و قلّة الأعوان على طاعة اللّه، و اقصر رأيك على ما يعنيك، و إيّاك و مقاعد الأسواق فانّها محاضر الشّيطان و معاريض الفتن، و أكثر أن تنظر إلى من فضّلت عليه، فإنّ ذلك من أبواب الشّكر، و لا تسافر فى يوم جمعة حتّى تشهد الصّلاة إلاّ فاصلا فى سبيل اللّه أو فى أمر تعذر به، و أطع اللّه فى جميع أمورك فإنّ طاعة اللّه فاضلة على ما سواها، و خادع نفسك فى العبادة، و ارفق بها و لا تقهرها، و خذ عفوها و نشاطها إلاّ ما كان مكتوبا عليك من الفريضة، فإنّه لا بدّ من قضائها و تعاهدها عند محلّها، و إيّاك أن ينزل بك الموت و أنت آبق من ربّك فى طلب الدّنيا، و إيّاك و مصاحبة الفسّاق فإنّ الشّرّ بالشّرّ ملحق، و وقّر اللّه و أحبب أحبّاءه، و احذر الغضب فإنّه جند عظيم من جنود إبليس.
اقول: همدان بسكون الدّال: قبيلة. و حبل القرآن: مستعار له يتمسّك به منه ليتوصّل به الى اللّه. و انتصحه اى: اتّخذه ناصحا. و حائل: اى: زائل مفارق. و الشرط الوثيق:
طاعة اللّه و ما يرضاه صاحبه لنفسه، و يكرهه لعامة الناس كالاستيثارات بالخيرات و هو كقوله: ارد للناس ما تريد لنفسك و اكره لهم ما تكره لها. و استصلاح نعمة اللّه و اظهار اثرها بدوام شكرها و الاحسان منها الى الغير، و اضاعتها بقلّة ذلك و الغفلة عنه. و التقدمة من النفس و الاهل: استعمالهم فى طاعة اللّه و عبادته. و صحابة: مصدر كالصحبة. و يفيل رأيه: يضعف. و جماع المسلمين: جامعتهم. و كون الاسواق محاضر الشيطان: باعتبار كونها مظانّ ثوران الشهوة و رؤية موادّها. و فاصلا فى سبيل اللّه: ذاهبا فيه. و خادع نفسك اى: اجذبها الى العبادة بالخديعة دون المقاهرة. و عفوها: ما سهل عليها و نحوه قول النبي صلى اللّه عليه و آله: (انّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، و لا تُبغّض فيه الى نفسك عبادة اللّه، فان المنبتّ ، لا أرضاً قطع و لا ظهرا ابقى)(1). و استعار الآبق: للخارج
ص: 570
عن الطاعة فى طلب الدنيا باعتبار خروجه عنها. و التوقير: الإجلال و التعظيم.
و هو عامله على المدينة فى معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية أمّا بعد، فقد بلغنى أنّ رجالا ممّن قبلك يتسلّلون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، و يذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيّا و لك منهم شافيا فرارهم من الهدى و الحقّ ، و إيضاعهم إلى العمى و الجهل، و إنّما هم أهل دنيا مقبلون عليها، و مهطعون إليها، و قد عرفوا العدل و رأوه و سمعوه و وعوه، و علموا أنّ النّاس عندنا فى الحقّ أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعدا لهم و سحقا!! إنّهم - و اللّه - لم ينفروا من جور، و لم يلحقوا بعدل، و إنّا لنطمع فى هذا الأمر أن يذلّل اللّه لنا صعبه، و يسهّل لنا حزنه «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ »، و السّلام.
اقول: التسلّل: الذهاب واحدا واحدا. و الايضاع: الاسراع. و كذلك الاهطاع.
و الإثرة: الاستبداد بالمال و نحوه و السحق: البعد، و احزنه: اشدّه.
أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرّنى منك، و ظننت أنّك تتّبع هديه، و تسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقّى إلىّ عنك لا تدع لهواك انقيادا، و لا تبقى لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك، و تصل عشيرتك بقطيعة دينك، و لئن كان ما بلغنى عنك حقّا لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك، و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك فى أمانة، أو يؤمن على خيانة، فأقبل إلىّ حين يصل إليك كتابى هذا «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ».
ص: 571
كتابى هذا «إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ». (قال السيد الرضى: و المنذر هذا هو الذى قال فيه امير المؤمنين - عليه السلام - إنّه لنظار في عطفيه، مختال فى برديه، تفال فى شراكيه).
اقول: رقّى اليّ : رفع. و العتاد: العدّة و عمارة الدنيا بخراب الآخرة: استعمالها على الوجه الذى لا ينبغي ممّا يستلزم الغفلة عن الآخرة. و ترك العمل لها. و الشسع: سير بين الأصبعين فى النّعل العربى. و قوله: أ و يؤمن على خيانة: أي حال خيانه لأنّ كلمة على يفيد الحال.
أمّا بعد، فانّك لست بسابق أجلك، و لا مرزوق ما ليس لك، و اعلم بأنّ الدّهر يومان:
يوم لك، و يوم عليك. و أنّ الدّنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك.
أقول: انّما ذكر الضعف و القوة: ليعلم استناد الأعمار و الأرزاق و غيرها الى مدبّر حكيم، هو مبدأ أسبابها.
أمّا بعد، فانّى على التّردّد فى جوابك، و الاستماع إلى كتابك لموهّن رأيى، و مخطئ فراستى، و إنّك إذ تحاولنى الأمور، و تراجعنى السّطور كالمستثقل النّائم تكذبه أحلامه، و المتحيّر القائم يبهظه مقامه، لا يدرى أ له ما يأتي أم عليه، و لست به غير أنّه بك شبيه، و أقسم باللّه إنّه لو لا بعض الاستبقاء لوصلت إليك منّى قوارع: تقرع العظم، و تهلس
ص: 572
اللّحم! و اعلم أنّ الشّيطان قد ثبّطك عن أن تراجع أحسن أمورك، و تأذن لمقال نصيحتك.
اقول: موهّن: مضعّف. و السطور: الكتب، و شبّهه فى طمعه منه بما يحاوله من الشام، بالمستثقل فى نومه. و وجه الشبه قوله: تكذبه احلامه. و اراد انّ تخيّلاته و أمانيه لوصول الأمر اليه تخيّلات كاذبة. و السطور: نصب بحذف الجار. و كذلك شبّهه بالمتحيّر:
القائم، و وجه الشبه قوله: يبهظه مقامه، اي: يتعبه و يثقله، الى قوله: عليه. و أراد: انّه متحيّر فى طلب هذا الأمر مجدّ فيه، و قد اتعبه ذلك مع انّه لا يعلم عاقبته بخير هى ام شرّ.
و قوله: و لست بهذا المشبّه شبيها، و لكنّه بك شبيه، و جعله هو اصلا فى التّشبيه مبالغة.
و القوارع: شدائد الحرب و أهواله. و تهلس اللّحم: تذهب بأصله. و كذلك تنهس. و ثبّطه:
شغله. و تأذن اي: تصغى باذنك.
هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها و باديها، و ربيعة حاضرها و باديها أنّهم على كتاب اللّه: يدعون إليه و يأمرون به، و يجيبون من دعا إليه و أمر به لا يشترون به ثمنا و لا يرضون به بدلا، و أنّهم يد واحدة على من خالف ذلك و تركه، أنصار بعضهم لبعض:
دعوتهم واحدة، لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب، و لا لغضب غاضب، و لا لاستذلال قوم قوما و لا لمسبّة قوم قوما! على ذلك شاهدهم و غائبهم، و حليمهم و سفيههم، و عالمهم، و جاهلهم. ثمّ إنّ عليهم بذلك عهد اللّه و ميثاقه إنّ عهد اللّه كان مسئولا، و كتب: علىّ بن أبى طالب.
اقول: حاضرها: بدل من أهل. و قوله: و لا لاستذلال، الى قوله: قوما، اى: لا ينقضون العهد لمعونة قوم استذلّهم قوم، أو أرادهم قوما. و روى لمسبة: من غير مضاف بالباء، و هو ظاهر.
ص: 573
من عبد اللّه علّى أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان: - أمّا بعد، فقد علمت إعذارى فيكم و إعراضى عنكم، حتّى كان ما لا بدّ منه و لا دفع له، و الحديث طويل. و الكلام كثير، و قد أدبر ما أدبر، و أقبل ما أقبل، فبايع من قبلك و أقبل إلىّ فى وفد من أصحابك.
اقول: اعذاره: اظهار عذره الى اللّه فى نصيحة عثمان، و اعراضه عنهم، بعد اليأس من قبول نصيحته، و عجزه عن نصرته. و ما لا بدّ منه هو قتله الذى وجب فى علم اللّه وقوعه.
و طول الحديث فى أمره. و من أدبر: اشارة الى اهل الجمل، و يحتمل ان يريد الانشاء اى: دخل فى الإدبار من أدبر عنّي. و فى الإقبال من اقبل عليّ . و الوفد: الواردون(1). و يحتمل ان يكون قوله فيكم، و عنكم: لمعاوية و غيره من المسلمين، و اعذاره اليهم بالنصيحة و اداء الامانة، و إعراضه عنهم بترك معاجلة المسىء بالعقوبة. و ما لا بدّ منه، حرب النّاكثين من أصحاب الجمل. و الحديث: شرح قصّتهم و شبهتهم طويل. و قد أدبر منهم من أدبر، و أقبل اليه من أقبل.
سع النّاس بوجهك و مجلسك و حكمك، و إيّاك و الغضب فإنّه طيرة من الشّيطان، و اعلم أنّ ما قرّبك من اللّه يباعدك من النّار، و ما باعدك من اللّه يقرّبك من النّار.
ص: 574
اقول: سعة الناس بوجهه: كناية عن بشره و طلاقته لهم. و بمجلسه: كناية عن تواضعه و رأفته بهم. و الطيرة الاسم من التطّير و هو: التشأم. و اضافه الى الشّيطان، لأنّه مبدأ الغضب.
لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول و يقولون، و لكن حاججهم بالسّنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصا.
أقول: إنّما كان القرآن حمّالا للوجوه، لانّ اكثر الآيات غير ناصّة على المطلوب، بل محتملة تمكنّهم المجادلة(1). و المحيص: المعدل.
78 - و من كتاب له عليه السّلام إلى أبى موسى الأشعرىّ جوابا فى أمر الحكمين ذكره سعيد بن يحيى الأموىّ فى كتاب المغازى (2)
فإنّ النّاس قد تغيّر كثير منهم عن كثير من حظّهم، فمالوا مع الدّنيا و نطقوا بالهوى، و إنّي نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم، فإنّى أداوى منهم قرحا أخاف أن يكون علقا، و ليس رجل - فاعلم - أحرص على جماعة أمّة محمّد، صلّى اللّه عليه
ص: 575
و آله و سلّم، و ألفتها منّى أبتغى بذلك حسن الثّواب و كرم المآب. و سأفى بالّذى وأيت على نفسى، و إن تغيّرت عن صالح ما فارقتنى عليه، فإنّ الشّقىّ من حرم نفع ما أوتى من العقل، و التّجربة و إنّى لأعبد أن يقول قائل بباطل. و أن أفسد أمرا قد أصلحه اللّه:
فدع ما لا تعرف. فانّ شرار النّاس طائرون إليك بأقاويل السّوء.
اقول: عن كثير من حظّهم، اى: الحظّ الذى ينبغي لهم من الدّين و الهدى. و الحظّ:
النصيب. و الأمر: أمر الخلافة. و المنزل المعجب: الذى نزله منه حاله التي حصل فيها مع اصحابه و صارت محلّ التعجّب. و كيف صار محكوما لهم فى قبول الحكومة، و الرّضى بالتحكيم. و قوله: اجتمع به صفة منزل. و استعار لفظ القرح: لما فسد من حاله معهم. و لفظ العلق: و هو الدّم الغليظ لما يخاف من تفاقم أمرهم عن تلك الحال. و وأيت:
وعدت. و أعبد: أستنكف و آنف.
أمّا بعد: فإنّما هلك من كان قبلكم أنّهم منعوا النّاس الحقّ فاشتروه، و أخذوهم بالباطل فاقتدوه.
اقول: اشتروه بمعنى باعوه أي: فباعه الناس و تعوّضوا عنه بالباطل. فاقتدوه اى:
جعلوه قدوة و متبوعا(1). و باللّه التوفيق.
ص: 576
و يدخل فى ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج فى سائر أغراضه(1)
قال عليه السّلام: كن فى الفتنة كابن اللّبون. لا ظهر فيركب، و لا ضرع فيحلب.
اقول: ابن اللبون: و لد الناقة اذا استكمل سنتين، و دخل فى الثالثة. و أراد التشبّه فى الفتنة بابن اللّبون، فى عدم انتفاع الظالمين بك بوجه، كما لا نفع فيه بظهر و لا ضرع
و قال عليه السّلام: إحدى و عشرين كلمة من الأدب و الحثّ على مكارم الأخلاق و هى قوله:
أزرى بنفسه من استشعر الطّمع، و رضى بالذّلّ من كشف عن ضرّه، و هانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه، و البخل عار، و الجبن منقصة، و الفقر يخرس الفطن عن حجّته، و المقلّ غريب فى بلدته، و العجز آفة، و الصّبر شجاعة، و الزّهد ثروة، و الورع جنّة، و نعم القرين الرّضا، و العلم وراثة كريمة، و الآداب حلل مجدّدة، و الفكر مرآة صافية، و صدر العاقل صندوق سرّه، و البشاشة حبالة المودّة، و الاحتمال قبر العيوب (المسالمة خباء العيوب)، و من رضى عن نفسه كثر السّاخط عليه، و الصّدقة دواء منجح، و أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم فى آجلهم.
ص: 577
أقول: استشعر الطمع اى: اتخذّه شعارا لقلبه و الشعار، ما يلي الجسد من الثياب، فاستعار هاهنا لمكان المشابهة، و هى مستلزم لهون النفس و الازراء بها عند الناس بحسب الحاجة اليهم و الذلّة لهم، و تأمير اللسان: تحكيمه فى القول من غير مراجعة النفس، و نفرّ عن ذلك بذكر ما يلزمه من سهولة نفسه عليه، لانّه ربّما كان سبب هلاكها فى الدارين كقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله: (و هل يكبّ الناس على مناخرهم فى النار الاّ حصايد ألسنتهم). و عار البخل، و نقصان الجبن: باعتبار كونهما رذيلتين. و استعار وصف الخرس عن الفقر: لكونه مذلّة يفعل فى النفس قبضا و فتورا، و عجزا عن المقاومة بالحجّة كالخرس.
و غربة المقلّ : باعتبار قلّة الالتفات اليه. و الآفة: النقصان. و الصبر شجاعة: باعتبار انّه مقاومة النفس الامّارة لئلاّ تنقاد الى قبائح اللّذات و ذلك مستلزم لأتم الشجاعة. و الزهد:
مستلزم لغنى النفس لانّه إعراض عن متاع الدنيا و الحاجة اليها، و الورع: لزوم الأعمال الجميلة و هو جنّة ساترة من عذاب اللّه.
و استعار لفظ المجدّدة للآداب: باعتبار دوام زينة المتلبس بها. و لفظ المرآة: لقوّة الفكر: باعتبار انتقاشها بصور الاشياء كالمرآة. و لفظ الصندوق: باعتبار حفظه للسّر. و رغّب بذكر العقل فى حفظ السّر، و لفظ الحبالة للبشاشة فى وجوه الناس: باعتبار استلزامها للمودّة كالحبالة للصيد. و لفظ القبر للاحتمال: باعتبار ستره للعيوب من صاحبه. و كذلك لفظ الخباء، فى الرواية الثانية. و كثرة الساخط على من رضى عن نفسه: لانّه يرفعها فوق قدرها لاعتقاده كمالها. و الناس يرونه بدون ذلك فيكثر الإنكار عليه، و سخط فعله و استعار لفظ الدواء للصدقة: باعتبار انّها حسنة يذهب السيّئة التي هى الداء النفساني، و لانّها تستجلب الهمم، و الأدعية الصالحة لشفاء الامراض البدنيّة فتشفى،
كما قال صلى اللّه عليه و آله: (داووا مرضاكم بالصدقة). و كون اعمال العباد نصب أعينهم فى آجلهم: لما علمت انّ النفوس تنتعش بملكات الخير و الشّر لكنها فى أغطية من الأبدان بحجبها عن ادراك الأمور كما هى، فاذا زالت تلك الحجب بالموت ادركت ما فيها من خير و شرّ، و كانت نصب عينها مشاهدة لها، كما قال تعالى: «فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ »(1).
ص: 578
و قال عليه السّلام: اعجبوا لهذا الانسان ينظر بشحم، و يتكلّم بلحم، و يسمع بعظم، و يتنفّس من خرم!!
و قال عليه السّلام: إذا أقبلت الدّنيا على أحد أعارته محاسن غيره و إذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
يريد: انّ اقبال الدّنيا: بسبب توافق أسباب الخير فيها لقوم يعدهم للحصول على مثل كمالاتها التي حصلت لمن كان قبلهم ممّا يعد حسنا. و اذا أدبرت عنهم اعدّتهم لأضداد ذلك و سلبوا ما كان منه حاصلا لهم. و استعار وصف العارية لتلك الكمالات:
باعتبار عدم دوامها
و قال عليه السّلام: خالطوا النّاس مخالطة إن متّم معها بكوا عليكم، و إن عشتم حنّوا إليكم.
اراد المخالطة: بمكارم الاخلاق، فانّها يستلزم ما ذكر.
و قال عليه السّلام: إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.
الشكر: هو الاعتراف بالنعمة: و العفو: مستلزم للاعتراف بنعمة القدرة على العدوّ، فامر بالعفو المستلزم للشكر. و اطلق لفظه على العفو مجازا: اطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
و قال عليه السّلام: أعجز النّاس من عجز عن اكتساب الإخوان و أعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم.
امّا الاوّل: فلانّ اكتساب الاخوان اما يفتقر الى كرم الاخلاق و حسن المعاشرة و هى امور طبيعيّة فى اكثر الناس سهلة عليهم. و اما المضيع لهم اعجز، فلأنه لا يفتقر فى حفظهم الى كلفة التحصيل، فكان سبب حفظهم اسهل فكان مضيّعهم أعجز.
ص: 579
و قال عليه السّلام: فى الذين اعتزلوا القتال معه:
خذلوا الحقّ و لم ينصروا الباطل و المعنى واضح.
و قال عليه السّلام: إذا وصلت إليكم أطراف النّعم فلا تنفّروا أقصاها بقلّة الشّكر.
و هو: تمثيل للنعم بالنعم. و اطرافها: اوائلها. و اقصاها، ما يأتي بعد ذلك. و استعار وصف التنفير لانقطاعها بترك الشكر: لأنه سبب لمزيدها، فانقطاعها بانقطاعه، و فيه تنبيه على لزوم الشكر.
و قال عليه السّلام: من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد.
اى من أهله و قومه اتيح له الأبعد، اى: قدّر لمنفعته و معونته لوجوب ذلك فى عناية اللّه تعالى.
و قال عليه السّلام: ما كلّ مفتون يعاتب.
اى: ليس كلّ مبتلى بمعصية ينفع معه العتاب.
و قال عليه السّلام: تذلّ الأمور للمقادير حتّى يكون الحتف فى التّدبير.
فذلّتها: مطاوعتها للقدر بحسب القضاء الإلهى. و ربّما كان الهلاك المفضى منها مقدّرا فيما يعتقده الانسان تدبيرا صالحا لجهله بسرّ القدر.
و سئل عليه السّلام: عن قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم «غيّروا الشّيب، و لا تشبّهوا باليهود»(1) فقال عليه السلام: إنّما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك و الدّين قلّ ، فأمّا الآن و قد اتّسع نطاقة، و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار.
ص: 580
قد كان الرسول صلى اللّه عليه و آله ندب الى الخضاب ليرى الكفار المسلمين بعين الشيبة و القوة حيث كانوا قليلين، و كان ينفرهم عن تركه بانّ ذلك يشبّه باليهود، و لذلك نبّه عليه السلام على المقصود فى قوله: و الدين قلّ . و استعار لفظ النطاق، و هو: شقة طويلة تنجر على الارض اذا البست للاسلام باعتبار عمومه و انبساطه. و لفظ الجران: و هو صدر البعير له، باعتبار تمكّنه و ثباته. و اشار بقوله: و امرؤ و ما اختار: الى الإباحة بعد الندب.
و قال عليه السّلام: من جرى فى عنان أمله عثر بأجله.
استعار وصف الجرى: للاندفاع فى الأمل. و وصف العثار للأجل: باعتبار المعقول من قطعه لذلك الاندفاع تنفيرا عن الغفلة و الجرى فيه.
و قال عليه السّلام: أقيلوا ذوى المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر الاّ و يد اللّه بيده يرفعه.
استعار لفظ العثرات: للزلاّت الواقعة منهم. و لفظ اليد: لعناية اللّه تعالى و قدرته. و كنّى عن تداركه لحاله و تعلق العناية به، بكون يده بيده، ترفعه و ترفقه.
و قال عليه السّلام: قرنت الهيبة بالخيبة، و الحياء بالحرمان، و الفرصة تمرّ مرّ السّحاب فانتهزوا فرص الخير.
فاقترانهما: عبارة عن ملازمتهما غالبا، و هو تنفير عن الهيبة و الحياء المذمومين. و انتهز الفرصة: بادر وقتها. و الفرصة ما أمكن من نفسه.
و قال عليه السّلام: لنا حقّ فإن أعطيناه و إلاّ ركبنا أعجاز الابل و إن طال السّرى.
قال الرضى: و هذا من لطيف الكلام و فصيحه، و معناه إنا إن لم نعط حقنا كنا اذلاء، و ذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد و الأسير و من يجرى مجراهما.
و قال عليه السّلام: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
ص: 581
يريد ان من لم يكن له عمل حسن يرفعه، فتأخّر سبب ذلك(1) عن معالى الرتب، لم يسرع به نسبه و شرف بيته اليها. و روى حسبه، و الحسب، ما يعدّ من المآثر.
و قال عليه السّلام: من كفّارات الذّنوب العظام إغاثة الملهوف و التّنفيس عن المكروب.
فالملهوف: المظلوم يستغيث. و التنفيس: التفريح.
و قال عليه السّلام: يا ابن آدم، إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه و أنت تعصيه فاحذره.
تتابع نعم اللّه على العبد مع معصيته له استدراج منه يوجب حذره.
و قال عليه السّلام: ما أضمر أحد شيئا الاّ ظهر في فلتات لسانه، و صفحات وجهه.
لانّ الوجود اللّسانىّ ، مظهر للوجود الذّهني. و التصوّرات النفسانية مبادئ للامارة الظاهرة كصفرة الوجل، و حمرة الخجل، فالمضمر لشيء، لا يكاد يضبطه دائما لغفلة العقل، وقتا مّا، او اشتغاله بمهمّ آخر عن العناية بحفظ ما اضمر فينفلت به اللسان و يظهر ما يدلّ عليه فى الوجه، كما يتبيّن من العداوة و الغضب.
و قال عليه السّلام: امش بدائك ما مشى بك.
اى: ما دام المرض لا ينهضك فلا ينفعك عنه، لانّ فى التجلّد معاونة للطبيعة على دفعه، و من الأمراض ما يتحلّل بالحركات البدنيّة.
و قال عليه السّلام: إذا كنت فى إدبار و الموت فى إقبال فما أسرع الملتقى.
أراد ما يعقل من إدبار الانسان فى قطع منازل العمر عن اوله، و من وصول فنائه اليه بحسب توجّهه اليه.
و قال عليه السّلام: الحذر الحذر! فو اللّه لقد ستر حتّى كأنّه قد غفر.
و هو ظاهر.
و سئل عليه السّلام: عن الإيمان، فقال: الإيمان على أربع دعائم: على الصّبر، و اليقين، و العدل، و الجهاد، و الصّبر منها على أربع شعب: على الشّوق و الشّفق، و الزّهد، و التّرقّب: فمن اشتاق إلى الجنّة سلاعن الشّهوات، و من أشفق من النّار اجتنب المحرّمات، و من زهد فى الدّنيا استهان بالمصيبات و من ارتقب الموت سارع إلى الخيرات. و اليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، و تأوّل الحكمة، و موعظة العبرة، و سنّة الأوّلين: فمن تبصّر فى الفطنة تبيّنت له الحكمة، و من تبيّنت له الحكمة عرف العبرة، و من عرف العبرة فكأنّما كان فى الأوّلين. و العدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، و غور العلم، و زهرة الحكم، و رساخة الحلم: فمن فهم علم غور العلم، و من علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، و من حلم لم يفرّط فى أمره و عاش فى النّاس حميدا. و الجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، و النّهى عن المنكر، و الصّدق فى المواطن، و شنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، و من نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين، و من صدق فى المواطن قضى ما عليه، و من شنىء الفاسقين و غضب للّه غضب اللّه له و أرضاه يوم القيامة. و قال عليه السلام: الكفر على أربع دعائم: على التّعمّق، و التّنازع، و الزّيغ، و الشّقاق: فمن تعمّق لم ينب إلى الحقّ ، و من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحقّ ، و من زاغ ساءت عنده الحسنة، و حسنت عنده السّيّئة، و سكر سكر الضّلالة، و من شاقّ و عرت عليه طرقه، و أعضل عليه أمره، و ضاق عليه مخرجه. و الشّكّ على أربع شعب:
على التّمارى و الهول، و التّردّد، و الاستسلام: فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله، و من هاله ما بين يديه نكص على عقبيه، و من تردّد فى الرّيب و طئته سنابك الشّياطين، و من
ص: 583
استسلم لهلكة الدّنيا و الآخرة هلك فيهما. (و بعد هذا كلام طويل تركنا ذكره خوف الإطالة و الخروج عن الغرض المقصود فى هذا الباب).
أقول: اراد بالإيمان: الايمان الكامل، و له اصل و كمالات، اما الأصل فهو:
استكمال القوّة النظريّة للنفس بتصور الامور، و التصديق بالحقائق النظريّة، و العمل بقدر الطاقة البشريّة، و يسمّى حكمة علمية. و اما الكمالات فهى: التحلّى بالملكات الفاضلة و مكارم الاخلاق، فمنها: استكمال القوّة العمليّة للنفس بملكة العلم، بوجود الفضائل الخلقيّة، و كيفية اكتسابها و وجود الرذائل النفسانية و كيفية اجتنابها، و تسمّى حكمة عملية، و عبّر عن هذه الحكمة و التي قبلها باليقين: لانّها لا تسمّى حكمة، حتى تصير هذه الكمالات ملكة للنفس و يقينا. و منها العفّة و عبّر عنها بالصبر: لانّه من لوازمها، و منها الشجاعة و هى: ملكة الإقدام الواجب على الأمور التي تنبغى دفعها و مقاومتها، و عبّر عنها بالجهاد: لملازمتهما. و منها العدل و هو: ملكة فاضلة ينشأ عن الفضائل الثلاثة المذكورة و يلزمها. و استعار لهذه الأربع لفظ الدعائم: باعتبار قيام الايمان الكامل بها.
ثمّ نبّه على ما يتشّعب عن هذه الدعائم من الفضائل، و يكون كالنوع تحتها، فالشوق الى الجنّة و الاشفاق من النار و الزهد فى الدنيا. و ترقّب الموت يلزمها العفّة و الصبر عن المحارم، و تبصرة الفطنة و اعمالها، و تأوّل الحكمة و هو تفسيرها، و استخراج الحقائق ببراهينها. و الإتّعاظ عن العبر و ملاحظة سنن الأوّلين حتى يصير كأنّه منهم.
شعب اليقين و فروعه، و بعضها كالفرع لبعض، و الفهم الغائض و غور العلم و اقصاه، و هو العلم بالشىء بحقيقته، و نور الحكم اى: الاحكام الصادرة عنه نيّرة واضحة، و يحتمل ان يريد بالحكم الحكمة و نورها ان يكون ملكة واضحة. و رساخة الحلم و هو:
ان يصير ملكة من شعب العدل و فروعه.
و اعلم، انّ فضيلتى جودة الفهم، و غور العلم، و ان كانتا داخلتين تحت الحكمة، و كذلك فضيلة الحلم، داخلة تحت ملكة الشجاعة، إلاّ ان العدل لما كان فضيلة موجودة فى الاصول الثلاثة، كانت فى الحقيقة هى و فروعها شعبا للعدل.
و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و الصدق فى المواطن المكروهة. و شنآن الفاسقين أي: بغضهم المستلزم لعداوتهم و حربهم و جهادهم فى سبيل اللّه من
ص: 584
شعب الشجاعة المعبّر عنها بالجهاد، و لكلّ من هذه الفضائل ثمرة، و بعض ثمراتها ثمرات لبعض كما اشار اليه و هو ظاهر.
و أمّا الكفر، فله اصل، هو الجهل بالصانع. و جحده انكار بعض رسله و ما علم مجيئهم به، بالضرورة او الشكّ فى شيء من ذلك، و متمّمات هى رذائل تفوته و تدعمه فمنها، التعمّق و هو الافراط فى طلب الحق، و التعسّف فيه بالجهل و هو رذيلة الجور، و نفّر عنها بذكر ثمرتها، و هو عدم الانابة الى الحق.
ثم التنازع، و هو: رذيلة الافراط (من فضيلة العلم، و يسمّى جربزة)(1) و يعتمد الجهل المركّب، و يلزمه دوام العمى عن الحق.
ثم الزيغ و هو: رذيلة التفريط من فضيلة العلم، و يسمّى غباوة، و جهلا بسيطا، و لذلك لزمه قبح الحسن، و حسن القبيح.
ثمّ الشقاق، و يشبه أن يكون رذيلة الافراط من فضيلة الشجاعة، و يسمّى تهوّرا و يلزمها عسر للسالك على صاحبها و ضيق مخرجه من الأمور، لأن مبدا سهولة المسالك و اتساع المداخل و المخارج فى الامور هو الحلم عن الناس، و احتمال مكروههم. و أعضل اشتدّ.
و امّا الشكّ ، فهو: تردّد الذهن فى اعتقاد احد طرفي النقيض، و يتشّعب عنه التماري لأنه مبدء له، و نفّر عمن اتخذّه ملكة بكونه لا يصبح ليله، و كنّى بذلك عن عدم وضوح الحق له من ظلمة ليل الشكّ و الجهل.
ثمّ الهول، لأن الشكّ فى الامور، يستلزم الخوف من الاقدام عليها، و ثمرته الرجوع على الاعقاب.
ثم التردّد فى الريب الى الانتقال من بعض جزئيات الشكّ الى بعض و ذلك دأب من تعوّد الشك، و صار له ملكة، و نفّر عن ذلك بما يلزم ممّا كنّى عنه بوطئ سنابك الشياطين، و هو ملك الوهم و الخيال لأرض قلبه، حتى يكون سلطان العقول بمعزل عن الحزم بما من شأنه الجزم به(2). و استعار لفظ السنابك جمع سنبكة و هى(3) الاستسلام
ص: 585
لهلكة الدنيا و الآخرة، و يلزم عن الشك فى امورها لأن الشاكّ فيها غير عامل لشيء منها، و لا متهمّ باسبابها، و بحسب ذلك يكون استسلامه(1) لما يرد منها عليه، و لزوم هلاكه عن ذلك ظاهر. و باللّه التوفيق.
و قال عليه السّلام: فاعل الخير خير منه، و فاعل الشّرّ شرّ منه.
لأن كلاّ منهما علّة، و العلّة أفضل من معلولها، و اقوى فيما هى علّة فيه.
و قال عليه السّلام: كن سمحا و لا تكن مبذّرا، و كن مقدّرا و لا تكن مقترّا.
فالتبذير: طرف الافراط من فضيلة السّماحة. و التقتير: طرف التفريط منها و التقدير:
هو العدل و الاستواء عليها.
و قال عليه السّلام: أشرف الغنى ترك المنى.
و ذلك لملازمته القناعة المستلزمة لغنى النفس، و هو اشرف انواع الغنى. و المنى جمع منية: بمعنى التّمنّى.
و قال عليه السّلام: من أسرع إلى النّاس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون.
و ذلك لغلبة قواهم الغضبيّة على عقولهم بباعث تصوّر المكروه منه.
و قال عليه السّلام: من أطال الأمل أساء العمل.
و ذلك لاستلزام طولة الغفلة عن الآخرة و الاهتمام بها.
و قال عليه السّلام: و قد لقيه عند مسيره الى الشام دهاقين الأنبار، فترجّلوا له و اشتدّوا بين يديه، فقال: ما هذا الّذى صنعتموه ؟ فقالوا: خلق منّا نعظّم به أمراءنا، فقال:
ص: 586
و اللّه ما ينتفع بهذا أمراؤكم، و إنّكم لتشقّون على أنفسكم فى دنياكم، و تشقون به فى آخريكم، و ما أخسر المشقّة و رءاها العقاب، و أربح الدّعة معها الأمان من النّار.
اشتدّوا: عدوا بين يديه، و الشقاء فى الآخرة بذلك: لأنه تعظيم لغير اللّه.
و قال عليه السّلام لابنه الحسن:
يا بنىّ ، احفظ عنّى أربعا، و أربعا، لا يضرّك ما عملت معهنّ : إنّ أغنى الغنى العقل، و أكبر الفقر الحمق، و أوحش الوحشة العجب، و أكرم الحسب حسن الخلق. يا بنّىّ ، إيّاك و مصادقة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، و إيّاك و مصادقة البخيل فإنّه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه، و إيّاك و مصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتّافه، و إيّاك و مصادقة الكذّاب فإنّه كالسّراب: يقرّب عليك البعيد، و يبعد عليك القريب.
لمّا كان العقل أشرف من المال، و أفضل، كان الغنى به أفضل انواع الغنى، و الفقر منه بالحمق اكثر انواع الفقر. و امّا العجب بالنفس: فهو و ما يلزمه من رذيلة الكبر أقوى الأسباب الموجبة لاستيحاش المعجب من الخلق، لما يرى لنفسه من الفضيلة عليهم، و لا يرى لنفسه قريبا و لا أهلا للمصاحبة، و بحسب ذلك يكون نفرتهم منه، و لذلك كان التواضع مستلزما لانفسهم. و الحسب ما يعد من المآثر، و اشرفها الكمالات النفسانيّة الباقية. و قد يخصّ حسن الخلق فى العرف بسعة الصدر و التواضع و البشاشة. و التافه:
الشيء القليل. و باقى الفصل ظاهر.
و انّما قال: اربعا و اربعا لأن الأربع الاولى، من باب اكتساب الفضائل الخلقيّة، و الثانية من باب المعاملة مع الخلق. و قيل: الاولى من باب الاثبات، و الثانية من باب النفى.
و قال عليه السّلام: لا قربة بالنّوافل إذا أضرّت بالفرائض.
فالإضرار بالفرائض: تخفيفها، و تنقيص فضلها للتعب، و الملال من النافلة، و أراد بنفى القربة: كمالها و فضيلتها.
ص: 587
و قال عليه السّلام: لسان العاقل وراء قلبه، و قلب الأحمق وراء لسانه.
و اقول: انه استعار الوراء فى الموضعين، لما يعقل من تأخّر لفظ العاقل عن رويّته، و تأخّر رويّة الاحمق، و فكره فيما يقول عن بوادر مقاله، من غير مراجعة لعقله، و المعنى ظاهر ممّا سبق.
قال السيد - رحمه الله -: «و هذا من المعاني العجيبة الشريفه. و المراد به أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرويّة و مؤامرة الفكرة، و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره و حافضة رأيه، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه، و كأنّ قلب الأحمق تابع للسانه» و قد روي عنه (ع) هذا المعنى بلفظ آخر و هو قوله: «قلب الأحمق فى فيه»، و لسان العاقل فى قلبه، و معنا هما واحد.
و قال لبعض أصحابه فى علّة اعتلّها: جعل اللّه ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، و لكنّه يحطّ السّيّئات و يحتّها حتّ الأوراق. و إنّما الأجر فى القول باللّسان، و العمل بالأيدي و الأقدام، و إنّ اللّه سبحانه يدخل بصدق النّيّة و السّريرة الصّالحة من يشاء من عباده الجنّة.
و اقول: انّ الأجر و الثواب انّما يستحقّان بالأفعال، و الأحوال، لإعدادها النفس لذلك، كما اشار اليه بقوله، و انّما الأجر الى قوله: و الاقدام. و كنّى بالاقدام: عن القيام بالعبادة و السعي فيها. و كذلك ما يكون كالأفعال من عدمات الملكات كالصوم و نحوه.
و المرض: ليس بفعل للعبد و لا ما هو كالفعل. فامّا حطّة السيّئات: فباعتبار كسره لقوّتى الشهوة، و الغضب الّلذين هما مبدء ان للذنوب، و لانّ من شأنه أن يرجع الانسان فيه الى ربّه بالتّوبة و الخضوع فما كان من السيئات حالات غير متمكّنة من جوهر النفس، فإنه يسرع زوالها منها. و ما صار ملكة فربّما يزول على طول المرض، و دوام الانابة معه الى اللّه تعالى. و وجه تشبيهه بحّت الورق: سقوطه بالكلّية. و ما ذكره السيّد مقتضى مذهب المعتزلة.
قال السيد - رحمه الله -: صدق - عليه السلام - إنّ المرض لا أجر فيه، لأنّه من قبيل ما يستحق عليه العوض، لانّ العوض يستحقّ على ما كان فى مقابلة فعل الله - تعالى - بالعبد من الالآم و الامراض و ما يجرى بحرى ذلك، و الأجر و الثواب يستحقّان على ما كان في
ص: 588
مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بيّنه - عليه السلام - كما يقتضيه علمه الثاقب و رأيه الصائب.
و قال عليه السّلام فى ذكر خباب بن الأرت رحمه اللّه: يرحم اللّه خبّاب بن الأرت، فلقد أسلم راغبا، و هاجر طائعا، و عاش مجاهدا. طوبى لمن ذكر المعاد، و عمل للحساب، و قنع بالكفاف، و رضى عن اللّه.
خبّاب بخاء معجمة و باء مضعفة: كان من المهاجرين، مات بعد انصرافه من صفّين بالكوفة، و هو أوّل من قبره عليه السلام بها.
و قال عليه السّلام: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفى هذا على أن يبغضنى ما أبغضنى، و لو صببت الدّنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبّنى ما أحبّنى، و ذلك أنّه قضى فانقضى على لسان النّبىّ الأمّىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أنّه قال «يا علىّ ، لا يبغضك مؤمن، و لا يحبّك منافق».
الخيشوم: اصل الأنف. و الجمات جمع جمّة، و هو: مجتمع الماء من الأرض. و استعار لمجتمع المال.
و قال عليه السّلام: سيّئة تسوءك خير عند اللّه من حسنة تعجبك.
أى: تندم عليها و تحزن، و انّما كانت خيرا. لأن الحزن على السّيئة ماح لها.
و العجب بالحسنة سيّئة باقية مع إحباطها الحسنة.
و قال عليه السّلام: قدر الرّجل على قدر همّته. و صدقه على قدر مروءته، و شجاعته على قدر أنفته، و عفّته على قدر غيرته.
قدره: منزلته فى اعتبار الناس من تعظيم أو احتقار، و هو من لوازم علوّ همّته، و هو ان لا يقتصر على بلوغ غاية من الامور التي يزداد بها شرفا و فضيلة حتى يسمو الى ما وراءها فما هو أعظم، و يلزم ذلك نبله و تعظيمه. و صغرها ان يقتصر على محقّرات الأمور و
ص: 589
يقصر عن عليّاتها، و بحسب ذلك تكون قلّة قدره. و كذلك المروّة فضيلة تتعاطى الانسان الأفعال الجميلة، و اجتناب ما تعود عليه بالنقص و ان كان مباحا فلذلك لزمه الصدق، و كانت قوّته و ضعفه بحسب قوّتها و ضعفها. و الانفة: حميّة الأنف و ثوران الغضب لما يتخيّل من مكروه يعرض استنكارا له و استنكافا من وقوعه. و ظاهر كونه مبدأ للشجاعة و الاقدام على الامور. و الغيرة نفرة طبيعيّة تكون عن تخيّل مشاركة الغير فى أمر محبوب له، او معتقد لوجوب حفظه، و بحسب قوّة تلك النفرة، و تخيّل مشاركة الغير فى أمر يحضّه محبوب له، يكون وقوعه عن اتباع شهوته فى الامور المختصة بالغير المحبوبة لهم، و هو معنى العفّة.
و قال عليه السّلام: الظّفر بالحزم، و الحزم بإجالة الرّأى، و الرّأى بتحصين الأسرار.
أشار إلى اسباب الظفر القريب، و المتوّسط، و البعيد. فالحزم: ان يقدّم العمل للحوادث الممكنة قبل وقوعها بما هو أبعد من الغرور، و اقرب الى السلامة، و هو السبب الأقرب للظفر بالمطالب. و التوسّط و هو: اجالة الرّأى و إعماله فى تحصيل الوجه الأحزم و هو: سبب أقرب للحزم. و الأبعد و هو: اسرار ما يطلب و هو: سبب أقرب للرأى الصالح، اذ قل ما يتمّ رأى و يظفر بمطلوب مع ظهور ارادته، و وجه التشبيه ظاهر.
و قال عليه السّلام: احذروا صولة الكريم إذا جاع، و اللّئيم إذا شبع.
أراد بالكريم: شريف النفس عالي الهمّة. و كنّى بجوعه: عن شدّة حاجته و استلزام ذلك لثوران حميّته، و القاء نفسه فى غلبات الأمور كالولاية على الناس و طلب مجازاتهم، و الانتقام منهم فيما اسلفوا معه من قلّة الالتفات اليه، و العناية بحاله. و شبع اللّئيم: كناية عن غناه و هو مستلزم لاستمراره على مقتضى طباعه من اللّؤم و مؤكّد له فيه.
و قال عليه السّلام: قلوب الرّجال وحشيّة، فمن تألّفها أقبلت عليه.
الوحشة عدم الأنس و الألفة عمّا من شأنه أن يأنس به، و يألف، و جعلها أصلا و
ص: 590
الالفة فرعا لحاجة الألفة الى اكتساب.
و قال عليه السّلام: عيبك مستور ما أسعدك جدّك.
الجدّ: حسن البخت و توافق أسباب المصالح، و منها: ستر العيوب.
و قال عليه السّلام: أولى النّاس بالعفو أقدرهم على العقوبة.
انّما يصدق مع القدرة على العقوبة، فالأقدر عليها هو الأولى أن يسمّى عفوا.
و قال عليه السّلام: السّخاء ما كان ابتداء، فأمّا ما كان عن مسألة فحياء و تذمّم.
السخاء: ملكة بذل المال لمستحقّه بقدر ما ينبغي، ابتداءا بباعث النفس، و حسن المواساة لذوى الحاجة فيه، و بهذا الرسم خرج ما كان عن مسألة و تذمّم. و التذمّم:
الاستنكاف ممّا يقع من السائل كالحاف و نحوه.
و قال عليه السّلام: لاغنى كالعقل، و لا فقر كالجهل، و لا ميراث كالأدب، و لا ظهير كالمشاورة.
لفضله على المال. و لا ظهير كالمشاورة: لانّها انفع من القوة، و كثرة العدد.
و الظهير المعين.
و قال عليه السّلام: الصّبر صبران: صبر على ما تكره، و صبر عمّا تحبّ فالصبر الاوّل: مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها، و ثباتها عن الغضب و عن الانفعال عنها و قد يسمّى سعة الصدر. و احتمال المكروه، و هو داخل تحت الشجاعة.
و الصبر الثاني: مقاومة النفس لقوّتها الشهويّة و هو فضيلة تحت العفّة.
و قال عليه السّلام: الغنى فى الغربة وطن، و الفقر فى الوطن غربة.
استعار له لفظ الوطن: باعتبار انّه مطيّة راحته و سكونه اليه، فلا يرى للغربة معه كبير
ص: 591
أثر. و لفظ الغربة للفقر فى الوطن: باعتبار ضيق الخلق به و تعسّر الامور معه.
و قال عليه السّلام: القناعة مال لا ينفد.
(قال السيد الرضى: و قد روى بعضهم هذا الكلام عن النّبى صلى اللّه عليه و آله.) و استعار لفظ المال الموصوف للقناعة باعتبار عدم الحاجة معها.(1)
و قال عليه السّلام: المال مادّة الشّهوات.
و قال عليه السّلام: من حذّرك كمن بشّرك.
اى: من الامر كمن بشرّك اى: بالنجاة منه، و وجه الشبه ظاهر.
و قال عليه السّلام: اللّسان سبع إن خلّى عنه عقر.
و لفظ السبع، و وصف العقر: مستعاران باعتبار انّ اهمال اللسان و عدم ضبطه عن القول بالتفكّر سبب للهلاك الاكثري، و الاذى الغالب.
و قال عليه السّلام: المرأة عقرب حلوة اللّبسة.
و استعار لها لفظ العقرب: لاشتراكهما فى الاذى. و كنّى بحلاوة لبستها عمّا فيها من اللّسبة للعقرب، كاللّسعة للحيّة.
و قال عليه السّلام: الشّفيع جناح الطّالب.
باعتبار توصّله به الى مراده.
و قال عليه السّلام: أهل الدّنيا كركب يسار بهم و هم نيام.
ص: 592
وجه الشبه قوله: يسار بهم: اذ الدنيا طريق لأهلها هم فيها سائرون الى الآخرة.
و كنّى بنومهم: عن غفلتهم.
و قال عليه السّلام: فقد الأحبّة غربة.
فاستعار لفظ الغربة لفقد الأحبّة: لما يلزمها من الوحشة(1).
و قال عليه السّلام: فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها.
يعنى: اللئام لما فى ذلك من فواتها غالبا و زيادة ذلّ الطلب اليهم.
و قال عليه السّلام: لا تستح من إعطاء القليل، فانّ الحرمان أقلّ منه.
اي: أحقر فى الإعتبار.
و قال عليه السّلام: العفاف زينة الفقر.
لأنه فضيلة تزيّن بها صاحبها.
و قال عليه السّلام: إذا لم يكن ما تريد فلا تبل ما كنت.
كيف كنت عليها فيه من عدمه او حصول بعضه لانّه غير مقدور لك، فمبالاتك و اهتمامك به مضرّة خالصة و سفه.
و قال عليه السّلام: لا ترى الجاهل إلاّ مفرطا أو مفرّطا.
أي: مرتكبا لأحد طرفى الافراط و التفريط من العدل فى الامور لجهله به.
و قال عليه السّلام: إذا تمّ العقل نقص الكلام.
و ذلك: لضبط العقل ايّاه و وزنه له. و الموزون اقل من المكيال و الجزاف.
ص: 593
و قال عليه السّلام: الدّهر يخلق الأبدان، و يجدّد الآمال، و يقرّب المنيّة، و يباعد الأمنيّة: من ظفر به نصب، و من فاته تعب.
اخلاقه للابدان: اعداده لضعفها و فنائها بتغيّراته. و تجديده الآمال بالغرور: بطول البقاء و الصحّة فيه. و تبعيده للأمنية بحسب تقريبه للمنيّة. و من ظفر به اى: بمواتاته و بمساعدته بما يراد فيه من متاع الدنيا نصب بها و شقى بحفظها. و من فاته ذلك منه تعب بعدم ما يحتاج اليه فيه.
و قال عليه السّلام: من نصب نفسه للنّاس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، و معلّم نفسه و مؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم النّاس و مؤدّبهم.
لانّ الناس للافعال: اطوع و اكثر انفعالا. و معلّم نفسه و مؤدّبها: احق بالاجلال من مؤدّب الناس و معلّمهم و هو ظاهر.
و قال عليه السّلام: نفس المرء خطاه إلى أجله.
فاستعار للنفس لفظ الخطا: باعتبار تقريبه ينقصه من غايته و هو الأجل كالخطا المقرّبة الى غايتها.
و قال عليه السّلام: كلّ معدود منقض، و كلّ متوقّع آت.
و فيه التنفير عن الدنيا: بالتنبيه على ما يستعقبه من الموت.
و قال عليه السّلام: إنّ الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها بأوّلها.
اى: اذا التبست فى مبادئها بمعرفة وجه الدخول فيها و تعسّر، قيس على ذلك آخرها و استدلّ على انّه كذلك فى التعسّر فيجب التوقّف عنها و عدم التعسّف فيها.
و من خبر ضرار بن ضمرة الضّبابى عند دخوله على معاوية و مسألته له
ص: 594
عن أمير المؤمنين، و قال: فأشهد لقد رأيته فى بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم فى محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكى بكاء الحزين، و يقول:
يا دنيا يا دنيا، إليك عنّى، أ بى تعرّضت ؟ أم إلىّ تشوّقت ؟ لا حان حينك هيهات! غرّى غيرى، لا حاجة لى فيك، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها! فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقيراه من قلّة الزّاد، و طول الطّريق، و بعد السّفر، و عظيم المورد(1).
السدول جمع سدل و هو: ما أسبل على الهودج. و التّململ: التقلقل من الألم.
و السليم: الملسوع. و اليك من اسماء الأفعال اي: تنحّ . و لا حان حينك اي: لا قرب وقتك اي: وقت خديعتك و غرورك اليّ . و خاطبها خطاب الزوجة المكروهة منافرا لها و هو أغرب و الذ. و يسير الخطر، قلّة القدر، و الفصل ظاهر.
و من كلام له عليه السّلام: للسائل الشامى لمّا سأله: أ كان مسيرنا إلى الشام بقضاء من اللّه و قدر؟ بعد كلام طويل هذا مختاره:
ويحك! لعلّك ظننت قضاء لازما، و قدرا حاتما، و لو كان ذلك كذلك لبطل الثّواب و العقاب، و سقط الوعد و الوعيد إنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييرا، و نهاهم تحذيرا، و كلّف يسيرا، و لم يكلّف عسيرا، و أعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكرها، و لم يرسل الانبياء لعبا، و لم ينزل الكتاب للعباد عبثا، و لا خلق السّموات و الأرض و ما بينهما باطلا «ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ»(2).
اقول: روى انّه عليه السلام قال فى جواب السؤال المذكور: و الّذى فلق الحبّة و برئ النسمة، ما وطئنا موطئا و لا هبطنا واديا إلاّ بقضاء و قدر. فقال السائل: عند اللّه احتسب، اى: ما ارى لى من الأجر شيئا. فقال مه ايها الشيخ: لقد اعظم اللّه اجركم فى مسيركم و أنتم سائرون و منصرفكم، و لم تكونوا فى شيء من حالاتكم مكرهين و اليها مضطرّين.
فقال الشيخ: و كيف و القضاء و القدر ساقانا؟ فقال: ويحك الفصل. و الويح: كلمة
ص: 595
ترحّم. و الحاتم: الواجب. و قوله: ويحك الى قوله حاتما: بيان لمنشأ وهمه و هو، ما لعله يظنّه من تفسير القضاء و القدر، بمعنى العلم الملزم. و الايجاد الواجب على وفقه، و استدلّ على بطلان ذلك التفسير بقوله: و لو كان، الى قوله الوعيد: و بيان الملازمة ظاهر على طريق المعتزلة و على غيرهم. فربما يحتاج الى ايضاح ليس هذا موضعه. و قوله:
انّ اللّه سبحانه امر اشارة: الى تفسير القضاء بالامر و الحكم كما قال تعالى: «وَ قَضىٰ رَبُّكَ »(1) الآية. و معلوم انّ امر اللّه و نهيه: لا ينافي اختيار العبد فى فعله و تركه، فلذلك ذكر من لوازم الاختيار و التكليف المقصود من الحكمة امورا عشرة نسقها.
و قد تفسّر قوم، القضاء و القدر بمعنى آخر اشرنا اليه فى الأصل(2) و على ذلك ايضا لا ينافي الاختيار و التكليف كما بينّاه هناك. و قوله: و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها أي: بل فوّض فعل العبد اليه، و لو كان العبد مجبرا، كانت الطاعة كرها، و بعثة الرسل و الكتب لعبا و عبثا و التالى بأقسامه باطل.
و قال عليه السّلام: خذ الحكمة أنّى كانت فإنّ الحكمة تكون فى صدر المنافق فتلجلج فى صدره، حتّى تخرج فتسكن إلى صواحبها فى صدر المؤمن.
كنّى بتلجلجها: عن عدم ثباتها فى قلب المنافق لانّه ليس مظنّة لها، و سكونها الى صواحبها فى صدر المؤمن عن ثباتها فى قلبه لانّه أهلها.
و قال عليه السّلام: الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة و لو من أهل النّفاق.
فاستعار لفظ الضالّة باعتبار انّ من شأنه أن يطلبها و ينشدها كصاحب الضالّة.
و قال عليه السّلام: قيمة كلّ امرئ ما يحسنه.
فقيمته: محلّه عند الناس، و الكلمة ظاهرة. و غرضها الترغيب فى أعلى ما يكتسب من الكمالات.
ص: 596
و قال عليه السّلام: أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلا: لا يرجونّ أحد منكم إلاّ ربّه، و لا يخافنّ إلاّ ذنبه، و لا يستحينّ أحد إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول لا أعلم، و لا يستحيّن أحد إذا لم يعلم الشّىء أن يتعلّمه، و عليكم بالصّبر فإنّ الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد، و لا خير فى جسد لا رأس معه، و لا فى إيمان لا صبر معه.
كنّى بضرب آباط الأبل: عن الرحلة فى طلبها، و ذلك انّ الراكب يضرب ابطى راحلته برجليه ليحثّها. و الفصل ظاهر. و انّما شبه فضيلة الصبر من الإيمان بالرأس من الجسد، لشرفها و حاجة جميع الفضائل التي هى أجر الايمان الكامل الى الصبر على اكتسابها، ثم على البقاء عليها عن الخروج عنها فاشبهت الرأس فى عدم قيام البدن بدونه.
و قال عليه السّلام: لرجل أفرط فى الثّناء عليه، و كان له متّهما: أنا دون ما تقول و فوق ما فى نفسك.
و قال عليه السّلام: بقيّة السّيف أبقى عددا و أكثر ولدا.
و لا أرى ذلك: الاّ للعناية الالهية ببقاء النوع، و حفظه و اقامته بلا خلاف من قتل ممّن بقى.
و قال عليه السّلام: من ترك قول «لا أدرى» أصيبت مقاتله.
الترك المذكور كناية: عن القول بغير علم. و اصابة المقاتل كناية: عن الهلاك الحاصل بسبب القول بالجهل فى الدنيا و الآخرة.
و قال عليه السّلام: رأى الشّيخ أحبّ إلىّ من جلد الغلام. و روي «من مشهد الغلام» و جلده: قوته. و انّما خصّ الرأى بالشيخ و الجلد بالغلام: لانّ كلاّ منهما مظنّة لما خصّه به. و الرأى الصالح مقدّم على القوّة كما قال: الرأى قبل شجاعة الشجعان. و مشهد الغلام حضوره.
ص: 597
و قال عليه السّلام: عجبت لمن يقنط و معه الاستغفار.
و حكى عنه أبو جعفر محمد بن علىّ الباقر عليهما السلام أنّه قال:
كان فى الأرض أمانان من عذاب اللّه و قد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به:
أمّا الأمان الّذى رفع فهو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّا الأمان الباقى فالاستغفار:
قال اللّه تعالى: «وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ »(1).
القنوط: اليأس. و المعنى واضح.
قال السيد الرضي: و هذا من محاسن الاستخراج و لطائف الاستنباط.
و قال عليه السّلام: من أصلح ما بينه و بين اللّه أصلح اللّه ما بينه و بين النّاس:
و من أصلح أمر آخرته أصلح اللّه له أمر دنياه، و من كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللّه حافظ.
أى: بتقواه. لانّ بالتّقوى صلاح قوّتى الشهوة و الغضب، اللّذين فسادهما بهذا الفساد بين الناس. لانّ الدنيا المطلوبة لمن أصلح امر آخرته سهلة. و قد تكفّلت العناية الالهية باصلاحها، و لانّ مصلح آخرته معامل للخلق بمكارم الاخلاق، و ذلك مستلزم اصلاح دنياه مع أهلها. و من كان له فى نفسه واعظ اى: زاجر عن المعاصى باعث على لزوم العدل فى النفس الامّارة التي هى مبدأ الشّر، فى الدارين كان عليه من اللّه حافظ فيهما.
و قال عليه السّلام: الفقيه كلّ الفقيه من لم يقنّط النّاس من رحمة اللّه، و لم يؤيسهم من روح اللّه، و لم يؤمنهم من مكر اللّه.
أي: التّام فى العمل و ذلك أن لكلّ من النفوس الجاهلة دواء من الموعظة مخصوص لا تشفى بغيره. فلبعضها الوعد، و لبعضها الوعيد، و لبعضها البشارة، و لبعضها النذارة.
و الفقيه العالم بغرض الحكمة الالهية من الكتاب العزيز يضع كلاّ موضعه.
ص: 598
و قال عليه السّلام: أوضع العلم ما وقف على اللّسان، و أرفعه ما ظهر فى الجوارح و الأركان.
يريد بالعلم الأوّل: العلم الذى لا عمل معه، و ظهوره فى الوصف اللّساني فقط.
و بالثّاني: العلم المقرون بالعمل، و هو العلم الراسخ الذى تظهر آثاره فى العبادات البدنيّة على جوارح العبد، ظهور العلّة فى معلولها، و هو العلم المنتفع به فى الآخرة.
و قال عليه السّلام: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم.
و طرائفها: لطائفها و غرايبها المعجبة للنفس اللّذيذة لها، و ذلك ليكون ابدا فى اكتساب الحكمة بنشاط.
و قال عليه السّلام: لا يقولنّ أحدكم «اللّهمّ إنّى أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فإنّ اللّه سبحانه يقول: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ »(1) و معنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال و الأولاد ليتبيّن السّاخط لرزقه، و الرّاضى بقسمه، و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن لتظهر الافعال الّتى بها يستحقّ الثّواب و العقاب، لأنّ بعضهم يحبّ الذّكور و يكره الإناث، و بعضهم يحبّ تثمير المال، و يكره انثلام الحال. قال السيد الرضى: و هذا من غريب ما سمع منه فى التفسير.
و أقول: مضلاّت الفتن: ما يضلّ بها عن سبيل اللّه، و هى المستعار منها و هى أخصّ من مطلق الفتنة، كما اشار اليه عليه السلام.
و سئل عن الخير ما هو؟ فقال: ليس الخير أن يكثر مالك، و ولدك و لكنّ الخير أن يكثر علمك و أن يعظم حلمك، و أن تباهى النّاس بعبادة ربّك، فإن أحسنت حمدت اللّه، و إن أسأت استغفرت
ص: 599
اللّه، و لا خير فى الدّنيا إلاّ لرجلين: رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها بالتّوبة، و رجل يسارع فى الخيرات و لا يقلّ عمل مع التّقوى، و كيف يقلّ ما يتقبّل؟ قوله: و لا يقلّ عمل مع التقوى أي: و رجل يسارع فى الخيرات، و ان أتى منها بالقليل اذا كان متّقيا، لانّ ذلك مع التقوى يقبله اللّه منه. و يحتمل ان يريد بذلك:
انّ المذنب و ان كانت حسنته بالتوبة قليلة، بالنسبة الى حسنات من سارع فى الخيرات و سيق اليها، لكنها ليست بقليلة عند اللّه اذ لا يقلّ ما يتقبله.
و قال عليه السّلام: إنّ أولى النّاس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، ثمّ تلا:
«إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا» (1) ثمّ قال: إنّ ولىّ محمّد من أطاع اللّه و إن بعدت لحمته: و إنّ عدوّ محمّد من عصى اللّه و إن قربت قرابته! انّما جعل الآية دليلا على انّ الأعلم بما جاءت به الأنبياء اولى بهم، لانّ الاتّباع مستلزم للعلم بما جاءوا به، و المراد بالوليّ الأولى: باتباعهم، و الأخصّ بهم.
و قال عليه السّلام: و قد سمع رجلا من الحروريّة يتهجد و يقرأ فقال:
نوم على يقين خير من صلاة فى شكّ .
الحروريّة: فرقة من الخوارج نسبوا الى قرية بالنهروان تعرف بحرورا. و كان اوّل اجتماعهم بها. و التهجّد: السهر فى العبادة. و الشكّ الذى هم فيه، شكّهم فى الامام و ما يتفرّع على وجوب طاعته، و الاقتداء به من سائر الاحكام.(2)
و قال عليه السّلام: اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإنّ رواة العلم كثير، و رعاته قليل.
فعقل الرعاية: تدبّره و تفهّم معناه. و عقل الرواية نقل ألفاظه فقط.
ص: 600
و سمع رجلا يقول: «إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ » فقال عليه السّلام: إنّ قولنا «إِنّٰا لِلّٰهِ » إقرار على أنفسنا بالملك، و قولنا «وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ » إقرار على أنفسنا بالهلك.
و المعنى ظاهر.
و مدحه قوم فى وجهه، فقال: اللّهمّ إنّك أعلم بى من نفسى، و أنا أعلم بنفسى منهم، اللّهمّ اجعلنا خيرا ممّا يظنّون، و اغفر لنا ما لا يعلمون.
و قال عليه السّلام: لا يستقيم قضاء الحوائج إلاّ بثلاث: باستصغارها لتعظم، و باستكتامها لتظهر، و بتعجيلها لتهنؤ.
اراد باستقامة قضائها كونه على قانون العدل، و استصغاره لما تقضيه منها يدلّ على علوّ الهمّة و السماحة، و هو مستلزم لعظمها و اشتهارها بين الناس، و استكشافها يدلّ على بعده عن الرياء، و السمعة، و الاستصغار، و الاستكتام: يعود فى الحقيقة الى ما يقضى به الحاجة. لكن تسمية المحتاج اليه بالحاجة مجاز من باب اطلاق اسم المتعلّق على التعلق، فلذلك عادت الضمائر الى لفظ الحوائج. و باقى الكلام ظاهر.
و قال عليه السّلام: يأتي على النّاس زمان لا يقرّب فيه إلاّ الماحل، و لا يظرّف فيه إلاّ الفاجر، و لا يضعّف فيه إلاّ المنصف: يعدّون الصّدقة فيه غرما، و صلة الرّحم منّا، و العبادة استطالة على النّاس! فعند ذلك يكون السّلطان بمشورة النّساء و إمارة الصّبيان و تدبير الخصيان.
الماحل: الساعى، بالنّميمة الى السلطان. و المحل الكيد، و روى الماجن و هو:
المستهزئ اللاّعب عوض الفاجر. و يضعّف: يعدّ ضعيفا عاجزا. و قيل: يعدّ ضعيف العقل لترك الظلم كان له حقّا يهمله بالانصاف. و عدم التعدّى و الاستطالة بالعبادة أن يرى صاحبها له على الناس حقا فيرفع عليهم كالممتّن بها.
و رؤي عليه إزار خلق مرقوع فقيل له فى ذلك، فقال: يخشع له القلب،
ص: 601
و تذلّ به النّفس، و يقتدى به المؤمنون.
و المعنى ظاهر.
و قال عليه السّلام: إنّ الدّنيا و الآخرة عدوّان متفاوتان، و سبيلان مختلفان:
فمن أحبّ الدّنيا و تولاّها أبغض الآخرة و عاداها و هما بمنزلة المشرق و المغرب، و ماش بينهما: كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، و هما بعد ضرّتان! و المعنى ايضا ظاهر.
و عن نوف البكالى، قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة و قد خرج من فراشه فنظر فى النجوم فقال لى: يا نوف، أراقد أنت أم رامق ؟ فقلت: بل رامق قال: يا نوف. طوبى للزّاهدين فى الدّنيا الرّاغبين فى الآخرة، أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا، و القرآن شعارا، و الدّعاء دثارا، ثمّ قرضوا الدّنيا قرضا على منهاج المسيح. يا نوف، إنّ داود عليه السّلام قام فى مثل هذه السّاعة من اللّيل فقال: إنّها ساعة لا يدعو فيها عبد إلاّ استجيب له إلاّ أن يكون عشّارا أو عريقا أو شرطيّا، أو صاحب عرطبة (و هى الطنبور) أو صاحب كوبة (و هى الطبل. و قد قيل أيضا: إن العرطبة الطبل و الكوبة الطنبور.
و الرامق: الناظر. و العريف: نقيب الشرطة. و عرّف الزاهد فى الدنيا بستة اوصاف لغرض معرفتهم و الاقتداء بهم. و استعار لفظ الشعار للقرآن: باعتبار ملازمتهم له كالشعار للجسد. و لفظ الدثار للدعاء: باعتبار احتراسهم به من عذاب اللّه، و قرضهم للدنيا: اكلهم منها أيسر ما يدفع ضرورتهم. و انّما استثنى المذكورين، لملازمتهم المعصية التي تحجب نفوسهم عن قبول رحمة اللّه.
و قال عليه السّلام: إنّ اللّه افترض عليكم الفرائض فلا تضيّعوها و حدّ لكم
ص: 602
حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها.
ما سكت عنه كالعلوم التي لم يرد فى الشرع التكليف بها، كالبحث عن القضاء و القدر و نحوه من المسائل.
و قال عليه السّلام: لا يترك النّاس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلاّ فتح اللّه عليهم ما هو أضرّ منه.
ذلك(1) كمن يخفف عبادته و يؤخّرها عن أوقاتها لاشتغاله بإصلاح صنعته أو تجارته.
و لمّا كان الحرص فى كلّ امر دنيوىّ معدّا لطلب الزيادة فيه، و الاستكثار منه، و بحسب ذلك يكون البعد عن الآخرة، كان ذلك بابا من أبواب طلبها و اصلاحها أشدّ من تركها، و اوسع فكان أصعب و اضّر.
و قال عليه السّلام: ربّ عالم قد قتله جهله و علمه معه لا ينفعه.
اراد علماء الرّواية دون الدراية. و العلماء بما لا نفع فيه من العلوم فى الآخرة، كعلم السحر مثلا لمن جهل شرائع الاسلام، فتعدّى حدا، اوجب هلاكه فى الدنيا، و استلزم هلاكه فى الآخرة مع وجود ذلك العلم معه.
و قال عليه السّلام: لقد علّق بنياط هذا الإنسان بضعة هى أعجب ما فيه و هو القلب، و له موادّ من الحكمة و أضداد من خلافها: فإن سنح له الرّجاء أذلّه الطّمع، و إن هاج به الطّمع أهلكه الحرص، و إن ملكه اليأس قتله الأسف، و إن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، و إن أسعده الرّضا نسى التّحفّظ، و إن ناله الخوف شغله الحذر، و إن اتّسع له الأمن استلبته الغرّة، و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع، و إن أفاد مالا أطغاه الغنى، و إن عضّته الفاقة شغله البلاء، و إن جهده الجوع قعد به الضّعف، و إن أفرط به الشّبع كظّته البطنة، فكلّ تقصير به مضرّ، و كلّ إفراط له مفسد.
ص: 603
اقول: النياط: عرق علّق به القلب. و الموادّ من الحكمة هى الفضائل الخلقيّة التي هى موادّ كمال النفس، و اضدادها، و المخالفة لها هى: ما يضادّها من الرذائل، و هى اطراف الافراط و التفريط منها. فالطمع: رذيلة الافراط من فضيلة العدل فى الرجاء الّذي ينبغي. و نفّر عنه بما يلزمه من الذلّة و من الحرص المهلك فى الدارين. و اليأس رذيلة التفريط منه و نفرّ عنه بما يلزمه من شدّة الأسف القاتل. و اشتداد الغيظ: طرف الافراط من الغضب المعتدل الملازم للشجاعة، و يسمّى طيشا. و ترك التحفّظ رذيلة تلزم الافراط، فى رضى الناس(1) بما يحصل عليه من دنياه و الاشتغال بالحذر، رذيلة الافراط فيه فيشتغل به الانسان عمّا ينبغي من الاخذ بالحزم، و العمل للامر المخوف، و استلاب الغرّة و الغفلة لعقل الأمن حتى لا يفكر فى مصلحته، و عاقبة أمنه رذيلة تلزم الافراط فى الأمن و الجزع بما يلزمه من الفضيحة به رذيلة تلزم التفريط من فضيلة الصبر على المعصية، و احتمال المكاره و الطغو بكثرة المال، رذيلة تلزم الافراط فى كثرته. و الطغو: تجاوز الحدّ، و الاشتغال بالمحنة و البلاء رذيلة التفريط: من فضيلة الصبر على الفقر و لوازمه، و قعود الضعف به لازم التفريط من العدل فى الأكل. و جهد البطنة: رذيلة تلزم من افراط الشبع من فضيلة. القصد فيه.
و قال عليه السّلام: نحن النّمرقة الوسطى، بها يلحق التّالى، و إليها يرجع الغالى.
النمرقة: وسادة صغيرة، و استعار لفظها بصفة الوسطى له، و لأهل بيته عليهم السلام:
باعتبار كونهم ائمّة العدل يستند الخلق اليهم، فى تدبير معاشهم و معادهم. و من حقّ الامام العادل ان يلحق به التالى اى: المفرط المقصّر فى الدين. و يرجع اليه الغالى، اى:
المفرط المتجاوز فى طلبه حدّ العدل، كما يستند الى الوسادة المتوسّطة من على جانبها.
و ربّما كان وصف الوسطى راجعا الى المستعار له، فلا يدخل فى وجه الشبه الاّ مجرّد كونها مستندا إليها.
ص: 604
و قال عليه السّلام: لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلاّ من لا يصانع و لا يضارع، و لا يتّبع المطامع.
فالمصانعة: المصالحة بالرشوة و نحوها. و المضارعة، مفاعلة من الضّرع، و هو: الذلّة كأنّ كلاّ منهما يضرع للآخر. و استلزام الامور الثلاثة ليضيع أوامر اللّه. و اللّين فى اقامة امر دينه ظاهر.
و قال عليه السّلام: «و قد توفىّ سهل بن حنيف الأنصارىّ بالكوفة بعد مرجعه معه من صفيّن، و كان من أحبّ النّاس إليه:
لو أحبّنى جبل لتهافت.
قال الرضىّ «و معنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه و لا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار و المصطفين الأخيار، و هذا مثل قوله:
من أحبّنا أهل البيت فليستعدّ للفقر جلبابا.
و تهافت: سقط قطعة قطعة. و قد يؤوّل ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره.»
و قال عليه السّلام:
لا مال أعود من العقل، و لا وحدة أوحش من العجب، و لا عقل كالتّدبير، و لا كرم كالتّقوى، و لا قرين كحسن الخلق، و لا ميراث كالأدب، و لا قائد كالتّوفيق، و لا تجارة كالعمل الصّالح، و لا ربح كالثّواب، و لا ورع كالوقوف عند الشّبهة، و لا زهد كالزّهد فى الحرام، و لا علم كالتّفكر، و لا عبادة كأداء الفرائض، و لا إيمان كالحياء و الصّبر، و لا حسب كالتّواضع، و لا شرف كالعلم، و لا مظاهرة أوثق من المشاورة.
فقوله: اعود أي: أنفع لصاحبه، و استعار لفظ المال للعقل: لانّ بهما الغنى. و لفظ الوحدة للعجب لما يلزمهما من الوحشة فانّ المعجب بنفسه يرى الناس دونه فيلزم ذلك عدم الأنس بهم، و عدم التواضع لهم المستلزم للوحشة كما سبق. و التدبير تصرّف العقل العملى فى المصالح، كما ينبغي فقد يسمّى عقلا و ان كان ثمرة العقل. و لما كان التقوى مستلزما للزهد فى الدنيا، و بذل اشرف متاعها بسهولة و طيب نفس، فلا كرم مثله.
ص: 605
و التوفيق: عبارة عن توافق اسباب الشيء و شرائطه العائدة الى حصوله. و استعار لفظ التجارة: للعمل الصالح، و هو اشرف التجارات لاستلزامه اشرف الأرباح، و هو: الثواب الأخروىّ . و الورع فى العرف: الوقوف عن المناهى، و لذلك كان الوقوف عمّا اشتبه من الامور فى حلّه، و حرمته، أبلغ اقسام الورع. و الزهد فى الحرام: هو الزهد الواجب و كان أفضل افضليّة الواجب على الندب. و التفكر علم به تحصل العلوم المكتسبة، فكان أفضل افضلية الأصل على الفروع. و كل فضيلة من اجزاء الايمان الكامل ايمان. و الحياء و الصبر من اشرفها. و يحتمل ان يريد لا ايمان: كأيمان كمل بالحياء و الصّبر، و الحسب:
ما يعدّ من المكارم. و التواضع، من اشرفها و أعظمها استلزاما للخيرات الكثيرة.
و قال عليه السّلام: إذا استولى الصّلاح على الزّمان و أهله ثمّ أساء رجل الظّنّ برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم! و إذا استولى الفساد على الزّمان و أهله فأحسن رجل الظّنّ برجل فقد غرّر.
و روى عوض خزية حوبة اي: اثم، و غرّر: اوقع نفسه فى الغرّة و الغفلة.
و قيل له عليه السّلام: كيف نجدك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: كيف يكون حال من يفنى ببقائه، و يسقم بصحّته، و يؤتى من مأمنه.
سببيّة البقاء للفناء. و الصحّة للسقم تقريبهما اليهما، و كونهما غائبين. و المأمن:
هو الدنيا. و انّما يؤتى المرء يدخل عليه ما يكره منها.
و قال عليه السّلام: كم من مستدرج بالإحسان إليه، و مغرور بالسّتر عليه، و مفتون بحسن القول فيه! و ما ابتلى اللّه أحدا بمثل الإملاء له.
المستدرج: المأخوذ على غرّة. و المفتون: المبتلى. و الإملاء: الإمهال.
و قال عليه السّلام: هلك فىّ رجلان، محبّ غال، و مبغض قال! قال: الغلوّ فى محبّته: طرف افراط، و بغضه: طرف تفريط منها، و هما: رذيلتان
ص: 606
يستلزمان النفاق بل الكفر و الهلاك به فى الآخرة. أما المحبّ الغالى: فيجعله إلها. و امّا المبغض القالى: فبتكفيره له كالخوارج.
و قال عليه السّلام: إضاعة الفرصة غصّة.
فالفرصة: ما امكن من نفسه.
و قال عليه السّلام: مثل الدّنيا كمثل الحيّة ليّن مسّها و السّمّ النّاقع فى جوفها: يهوى إليها الغرّ الجاهل، و يحذرها ذو اللّبّ العاقل! وجه التمثيل: انّ لذّة الدنيا و طيبها، يشبه لين المسّ من الحيّة، و ما يحصل من لذّاتها من الهيئات الرديّة المتمكنّة من جوهر النفس التي يحصل بها التعذيب فى الآخرة. يشبه سمّها و هوى الجاهل اليها: ميله الى ما فى ظاهرها من اللين و اللّذة: و حذّر العاقل منها، لمعرفته بها.
و سئل عليه السّلام: عن قريش فقال: أمّا بنو مخزوم فريحانة قريش نحبّ حديث رجالهم، و النّكاح فى نسائهم، و أمّا بنو عبد شمس، فأبعدها رأيا، و أمنعها لما وراء ظهورها، و أمّا نحن فأبذل لما فى أيدينا، و أسمح عند الموت بنفوسنا، و هم أكثر و أمكر و أنكر، و نحن أفصح و أنصح و أصبح.
بنو مخزوم: بطن من قريش. قيل: كان لمخزوم ريح كالخزامى، و لون كلونه(1)و هما، غالبان فى ولده، و لذلك سمّى هذا البطن: بريحانة قريش. و قيل: كان فى رجالهم كيس و فى نسائهم لطف و تصنّع للرجال. و بعد الرأي كناية: عن جودته و قوّته.
يقال: فلان بعيد الرأى اذا كان يرى المصلحة على بعد. و كونهم امنع لما وراء ظهورهم كناية: عن الحميّة. و انكر: اكثر نكرا. و النكر: المنكر. و أصبح أحسن وجوها أو اطلق وجوها، و أشدّ بشاشة.
ص: 607
و قال عليه السّلام: شتّان ما بين عملين: عمل تذهب لذّته و تبقى تبعته، و عمل تذهب مئونته و يبقى أجره.
فالعمل الأوّل: العمل للدنيا، و الثاني، العمل للآخرة.
و تبع جنازة فسمع رجلا يضحك، فقال عليه السلام: كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، و كأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، و كأنّ الّذى نرى من الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون! نبوّئهم أجداثهم، و نأكل تراثهم، كأنّا مخلّدون بعدهم قد نسينا كلّ واعظة، و رمينا بكلّ جائحة!! طوبى لمن ذلّ فى نفسه، و طاب كسبه، و صلحت سريرته، و حسنت خليقته، و أنفق الفضل من ماله، و أمسك الفضل من لسانه، و وسعته السّنّة و لم ينسب إلى البدعة. «قال الرضىّ : أقول: و من الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم.» وجه التشبيهات: قلّة اهتمام الناس بالموت لغفلتهم و عدم اعتبارهم بمن يموت.
و تبوأ المكان: أخذ منه. و الجائحة: الداهيّة. و الكلام واضح.
و قال عليه السّلام: غيرة الرّجل إيمان، و غيرة المرأة كفر.
و ذلك انّ غيرة الرجل: انكار لما أسخط اللّه. و غيرة المرأة: انكار لما أحبّه و رضيه.
و قال عليه السّلام: لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلى: الإسلام هو التّسليم، و التّسليم هو اليقين، و اليقين هو التّصديق، و التّصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل الصّالح.
هذه النسبة بالتعريف، أشبه منها بالقياس. فعرّف الاسلام: بانّه التسليم للّه، و الدخول فى طاعته و هو تفسير لفظ بلفظ أعرف منه. و التّسليم بانّه اليقين، و تعريف بلازم مساو. إذ التسّليم الحقّ : انّما يكون عن تيقّن بيّن سلم له، و استحقاقه التسليم، و اليقين بانّه التصديق أي: التصديق الجازم المطابق البرهانىّ ، فذكر جنسه و نبّه بذلك على حدّه او رسمه.
ص: 608
و التصديق بانّه: الاقرار باللّه و رسله، و ما جاءوا به من البيّنات و هو: تعريف بلفظ اعرف. و الاقرار: بانّه الأداء اى: اداء ما أقرّ به من واجب الطاعات و هو: تعريف بخاصّة له. و الاداء: بانّه العمل للّه و هو: تعريف بلفظ اعرف، و آلت النسبة الى تعريف الاسلام بالعمل، و هو: تعريف له ببعض خواصّه.
و قال عليه السّلام: عجبت للبخيل يستعجل الفقر الّذى منه هرب، و يفوته الغنى الّذى إيّاه طلب، فيعيش فى الدّنيا عيش الفقراء، و يحاسب فى الآخرة حساب الأغنياء، و عجبت للمتكبّر الّذى كان بالأمس نطفة و يكون غدا جيفة، و عجبت لمن شكّ فى اللّه و هو يرى خلق اللّه، و عجبت لمن نسى الموت و هو يرى الموتى، و عجبت لمن أنكر النّشأة الأخرى و هو يرى النّشأة الأولى، و عجبت لعامر دار الفناء و تارك دار البقاء!!! استعجال البخيل الفقر: لعدم انتفاعه فى يده من مال حتى كأنّه فقير. و ذكر عليه السلام، محل العجب من هؤلاء الاربعة تنفيرا عنهم، و هو ظاهر.
و قال عليه السّلام: من قصّر فى العمل ابتلى بالهمّ ، و لا حاجة للّه فيمن ليس للّه فى ماله و نفسه نصيب.
اراد العمل للّه و ذلك: انّ المقصّر فيه يكون غالب أحواله فى طلب الدنيا التي لا تقف طلبها، و الابتلاء بالهمّ من لوازم ذلك الطلب. و فى المشهور: خذ من الدنيا: ما شئت و من الهمّ ضعفه(1).
و قال عليه السّلام: توقّوا البرد فى أوّله، و تلقّوه فى آخره فانّه يفعل فى الأبدان كفعله فى الأشجار: أوّله يحرق و آخره يورق.
امّا توقّيه فى اوّله: فلانّ البرد الخريفىّ يرد على ابدان قد استعدّت لفعله بحرارة الصيف و يبسه، و ما يستلزمانه من التخلخل و كثرة التحلّل(2) فلذلك: يكون قهره للفاعل
ص: 609
الطبيعىّ ، و ضعف الحار الغريزىّ و حدوث ما يحدث عن اجتماع البرد و اليبس، اللّذين هما طبيعة الموت من ضمور الأبدان و ضعفها و انحسار الاوراق. و امّا تلقيّه فى آخره و هو، آخر الشتاء، و اول من الربيع: فلاشتراك الزمانين فى الرطوبة التي هى مادّة الحياة، و انكسار سورة برد الشتاء، بحرارة الربيع و اعتداله فيقوى لذلك الحار الغريزىّ ، و تنتعش الأبدان، و يكون بذلك، نموّها و قوّتها، و ظهور الاوراق و الثمار.
و قال عليه السّلام: عظم الخالق عندك يصغّر المخلوق فى عينك.
هذا امر، وجده اولياء اللّه. و قيل لبعضهم: فلان زاهد، فقال: فيما ذا؟ فقيل:
فى الدنيا، فقال: الدّنيا لا تزن عند اللّه، جناح بعوضة فكيف يعتبر الزهد فيها؟ و الزهد انّما يكون فى شيء، و الدنيا عندى لا شيء، و ذلك لما وجد من عظمة اللّه تعالى.
و قال عليه السّلام:
و قد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة:
يا أهل الدّيار الموحشة، و المحالّ المقفرة، و القبور المظلمة، يا أهل التّربة، يا أهل الغربة يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، و نحن لكم تبع لا حق، أمّا الدّور فقد سكنت، و أمّا الأزواج فقد نكحت، و أمّا الأموال فقد قسمت. هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم فى الكلام لأخبروكم أنّ خير الزّاد التّقوى.
أقول: الفرط: الّذي يتقدّم الواردة فيهيّىء الارشاء و الدلاء. و خاطبهم عليه السلام خطاب من يسمع اقامة لحالهم المعهودة مقام اشخاصهم الموجودة. و الفصل من أبلغ المواعظ و التذكير، بأمر الآخرة و هو واضح.
ص: 610
و قال عليه السّلام:
و قد سمع رجلا يذم الدنيا:
أيّها الذّامّ للدّنيا المغترّ بغرورها المخدوع بأباطيلها! أ تغترّ بالدّنيا ثمّ تذمّها، أنت المتجرّم عليها أم هى المتجرّمة عليك ؟ متى استهوتك أم متى غرّتك ؟ أ بمصارع آبائك من البلى ؟ أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثّرى ؟! كم علّلت بكفّيك ؟ و كم مرّضت بيديك ؟ تبغى لهم الشّفاء، و تستوصف لهم الأطبّاء، غداة لا يغنى عنهم دواؤك، و لا يجدي عليهم بكاؤك، و لم ينفع أحدهم إشفاقك و لم تسعف بطلبتك، و لم تدفع عنه بقوّتك! و قد مثّلت لك به الدّنيا نفسك! و بمصرعه مصرعك. إنّ الدّنيا دار صدق لمن صدقها، و دار عافية لمن فهم عنها، و دار غنى لمن تزوّد منها، و دار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء اللّه، و مصلّى ملائكة اللّه و مهبط وحى اللّه، و متجر أولياء اللّه، اكتسبوا فيها الرّحمة، و ربحوا فيها الجنّة، فمن ذا يذمّها و قد آذنت ببينها، و نادت بفراقها، و نعت نفسها و أهلها فمثّلت لهم ببلائها البلاء، و شوّقتهم بسرورها إلى السّرور؟؟!! راحت بعافية، و ابتكرت بفجيعة، ترهيبا و ترغيبا، و تخويفا و تحذيرا، فذمّها رجال غداة النّدامة، و حمدها آخرون يوم القيامة، ذكّرتهم الدّنيا فتذكّروا، و حدّثتهم فصدّقوا، و وعظتهم فاتّعظوا.
قوله: بمصارع آبائك: استفهام استهزاء. و مثلّت: صوّرت. و تصديق من صدّقها:
اعترافه بتغيّرها و زوالها. و ما مثلّت به نفسه. و دار عافية لمن أي: عذاب اللّه لمن فهم عنها ما اخبرت به من عظاتها و عبرها. و آذنت: أعلمت. و البلاء و السرور: بلاء الآخرة و سرورها، اذ كان كلّ ما فى هذا العالم فهو صور و مثال لما فى عالم الغيب، و نسخة منه يعتبر به. و غداة الندامة حين الموت.
و قال عليه السّلام: إنّ للّه ملكا ينادى فى كلّ يوم: لدوا للموت، و ابنوا للخراب، و اجمعوا للفناء.
أشار الى غايات الدنيا على وفق ما علم من القضاء الالهي.
و قال عليه السّلام: الدّنيا دار ممّر إلى دار مقّر، و النّاس فيها رجلان: رجل
ص: 611
باع فيها نفسه فأوبقها، و رجل ابتاع نفسه فأعتقها.
أوبقها: اهلكها فى الآخرة، بما باعها به من متاع الدنيا. و اعتقها: بما شراها به من ذلك بالزهد فيه، و انفاقه فى سبيل اللّه.
و قال عليه السّلام: لا يكون الصّديق صديقا حتّى يحفظ أخاه فى ثلاث:
فى نكبته، و غيبته، و وفاته.
اراد: الصديق الحق.
و قال عليه السّلام: من أعطى أربعا لم يحرم أربعا: من أعطى الدّعاء لم - يحرم الإجابة، و من أعطى التّوبة لم يحرم القبول، و من أعطى الاستغفار لم يحرم المغفرة، و من أعطى الشّكر لم يحرم الزّيادة. و تصديق ذلك فى كتاب اللّه، قال اللّه فى الدّعاء: «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »(1) و قال فى الاستغفار: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ يَجِدِ اَللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً»(2) و قال فى الشكر: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »(3) و قال فى التوبة: «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً»(4).
تحتاج الامور الأربعة فى استلزامها للامور الأربعة: الى الاستعداد التّام بالاخلاص فيها.
و قال عليه السّلام: الصّلاة قربان كلّ تقىّ ، و الحجّ جهاد كلّ ضعيف، و لكلّ شيء زكاة و زكاة البدن الصّيام، و جهاد المرأة حسن التّبعّل.
التبعل: معاشرة البعل.
و قال عليه السّلام: استنزلوا الرّزق بالصّدقة.
اى: استعدّوا لنزوله بالصدقة. من أيقن بالخلف جاد بالعطيّة.
ص: 612
و قال عليه السّلام: تنزل المعونة على قدر المئونة.
و ذلك لتكفّل العناية الالهية بالأرزاق.
و قال عليه السّلام: ما أعال من اقتصد.
العيلة: الفقر، و الاقتصاد: الإنفاق بقدر الحاجة.
و قال عليه السّلام: قلّة العيال أحد اليسارين، و التّودّد نصف العقل، و الهمّ نصف الهرم.
أراد بالعقل: العقل العملىّ ، و لفظه مجاز في تصرّفاته. و لما كان الانسان محتاجا فى اصلاح معاشه الى غيره، و كان عقله فى معاملته للخلق امّا على وجه التودّد و ما يلزمه من جميل المعاشرة و المسامحة و الترغيب، و امّا على ضدّ ذلك من القهر و الغلبة كان التودد. و فى معناه نصف تصرّف العقل فى تدبير امر معاشه. و لمّا كان الهرم امّا طبيعيا و امّا بسبب من خارج، و هو: الهمّ و الحزن، و الخوف المستلزم له، فهو اذن: قسيم للمسبب الطبيعىّ ، و قسم من اسباب الهرم كالنصف له فاستعار له لفظ النصف، و اراد نصف سبب الهرم.
و قال عليه السّلام: ينزل الصّبر على قدر المصيبة، و من ضرب يده على فخذيه عند مصيبته حبط أجره.
نزول الصبر من سماء الجود الالهي بسبب الاستعداد بالمصيبة و لواحقها له. و حبط أجره بطل على الصبر. و قيل: ثوابه السابق ايضا، و هو بعيد.
و قال عليه السّلام: كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع و الظّمأ، و كم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السّهر و العناء، حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم.
أراد صوم الجاهلين بأسرار العبادة، و سهرهم فيها لأخلالهم غالبا بشرائطها الحقّة و توجيهها الى من هى له. و الكيّس هو: الذى يستعمل ذكره و فطنته فى طريق الخير، و
ص: 613
يضع الاشياء مواضعها فيسهر، و ينام فى مواضع السهر و النوم و على وجهيهما.
و قال عليه السّلام: سوسوا إيمانكم بالصّدقة، و حصّنوا أموالكم بالزّكاة، و ادفعوا أمواج البلاء بالدّعاء.
سوسوا، اي: املكوا و ذلك انّ الصدّقة من كمال الايمان التّام، فحفظه لا يكون بدونها. و لفظ الأمواج مستعار للحوادث المتواترة.
و قال عليه السّلام:
لكميل بن زياد النخعي رحمه اللّه قال كميل: أخذ بيدى أمير المؤمنين عليه السلام فأخرجنى إلى الجبان، فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم قال:
يا كميل إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنّى ما أقول لك: النّاس ثلاثة: فعالم ربّانى، و متعلّم على سبيل نجاة، و همج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجئوا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك و أنت تحرس المال، و المال تنقصه النّفقة و العلم يزكوا على الإنفاق، و صنيع المال يزول بزواله. يا كميل، العلم دين يدان به، به يكسب الانسان الطّاعة فى حياته و جميل الأحدوثة بعد وفاته، و العلم حاكم و المال محكوم عليه. يا كميل، هلك خزّان الأموال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقى الدّهر: أعيانهم مفقودة، و أمثالهم فى القلوب موجودة. ها إنّ ههنا لعلما جمّا (و أشار عليه السّلام بيده إلى صدره) لو أصبت له حملة! بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدّين للدّنيا مستظهرا بنعم اللّه على عباده، و بحججه على أوليائه، أو منقادا لحملة الحقّ لا بصيرة لهم فى أحنائه، ينقدح الشّكّ فى قلبه لأوّل عارض من شبهة. ألا لا ذا و لا ذاك! أو منهوما باللّذة سلس القياد للشّهوة، أو مغرما بالجمع و الادّخار، ليسا من رعاة الدّين فى شيء، أقرب شيء شبها بهما الأنعام السّائمة! كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللّهمّ بلى! لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة: إمّا ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا
ص: 614
لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته. و كم ذاو أين أولئك أولئك - و اللّه - الأقلّون عددا، و الأعظمون قدرا. بهم يحفظ اللّه حججه و بيّناته حتّى يودعوها نظراءهم، و يزرعوها فى قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، و باشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى أولئك خلفاء اللّه فى أرضه، و الدّعاة إلى دينه آه آه شوقا إلى رؤيتهم! انصرف إذا شئت.
أقول: الجبّان: الصحراء. و الصعداء: نوع من التنفّيس يصعده المتلهّف(1) الحزين. و وجه قسمة الناس انّهم عالم أو ليس، و غير العالم امّا طالب له أو ليس. و الربانىّ : من علم علم الربوبيّة، و النسبة على غير قياس، و زيدت الألف و النون: للمبالغة فى النسبة. و استعار لفظ الهمج و هو: ذباب صغار للعوام باعتبار حقارتهم. و الرعاع: الأحداث و العوام. و كنّى بميلهم مع كلّ ريح عن ضعفهم عن التّماسك فى مذهب واحد. و استعار لفظ الركن الوثيق: للاعتقادات الحقّة البرهانية. و صنيع المال: الإحسان به، و الطاعة المكتسبة به:
طاعة الخلق لصاحبه، او طاعته للّه تعالى فانّ الطّاعة بلا علم، لا أصل لها. و العلم حاكم:
باعتبار أنّ تحصيل المال و تصريفه انّما يكون بالعلم بوجوه الحركة، و السعى، و المصارف. و اللّقن: سريع الفهم، و المنقاد لحملة الحق هو المقلّد. و اشار بعدم بصيرته: الى عدم علمه بالبرهان و الحجة. و الاحناء: الجوانب. و قوله: الا لا ذا و لا ذاك، اى: ليسا من حملة العلم الذى أطلب. و المنهوم باللّذة و الشره فيها، و الحريص عليها. و قوله: كذلك اى: تشابه تلك الأحوال من عدم من يصلح للعلم، و حمله وجود من لا يصلح له موت العلم بموت حامليه، و اراد بالظاهر: ممّن يقوم بحجّة اللّه من عساه يتمكّن من اظهار العلم و العمل به من أولياء اللّه. و بالخائف المغمور: من لم يتمكّن من ذلك. قالت الاماميّة: هذا تصريح بوجوب الإمامة في كلّ زمان التكليف، و انّ الامام قائم بحجّة اللّه على خلقه و يجب وجوده بمقتضى الحكمة، و هو امّا ان يكون ظاهرا معروفا بين الناس، كالّذين سبقوا الى الإحسان، و وصلوا الى المحل الأعلى من الائمة الاثنى عشر و من ولده العترة عليهم السلام، و امّا أن يكون خائفا مستورا لكثرة اعدائه و قلّة المخلصين من اوليائه، كالحجّة المنتظر. و قوله: و كم ذا: استبطاء لظهوره. و استطالة
ص: 615
المدّة غيبته. و تبرّم من امتداد دولة الظالمين. و قوله: اين هم: استقلال لعدد أئمه الدين، و قوله: هجم بهم، الى قوله: البصيرة، اى: فاجاءهم و دخل على عقولهم دفعة لانّ علومهم، لدنيّة حدسيّة. و قيل ذلك على المقلوب، اى: هجمت بهم عقولهم على حقيقة العلم، و باشروا روح اليقين اي: وجدوا لذّته. و ما استوعر المترفون، اى: ما استصعبوه من جشوبة المطعم، و خشونة المضجع و الملبس، و مصابرة الصيام و السّهر و ما استوحش منه الجاهلون هو الأمور المذكورة. و قوله: معلّقة بالمحلّ الأعلى اى: عاشقة لما شاهدته من جمال حضرة الربوبيّة، و صحبة الملأ الأعلى من الملائكة.
و قال عليه السّلام: المرء مخبوء تحت لسانه.
فاستعار لفظ المخبوء له: باعتبار انّه لا يظهر مقداره حتى يتكلّم فيعرف كالمخبوء.
و قال عليه السّلام: هلك امرؤ لم يعرف قدره.
و ذلك لانّ من لم يعرف قدره فى مظنّه ان يتجاوزه فتلعب به ألسنة الناس و أيديهم حتّى يهلك.
و قال عليه السّلام: لرجل سأله أن يعظه:
لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، و يرجّى التّوبة بطول الأمل، يقول فى الدّنيا بقول الزّاهدين، و يعمل فيها بعمل الرّاغبين، إن أعطى منها لم يشبع، و إن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتى، و يبتغى الزّيادة فيما بقى، ينهى و لا ينتهى، و يأمر بما لا يأتي، يحبّ الصّالحين و لا يعمل عملهم، و يبغض المذنبين و هو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، و يقيم على ما يكره الموت له، إن سقم ظلّ نادما، و إن صحّ أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفى، و يقنط إذا ابتلى، إن أصابه بلاء دعا مضطرا، و إن ناله رخاء أعرض مغترّا، تغلبه نفسه على ما تظنّ ، و لا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، و يرجو لنفسه بأكثر من عمله، إن استغنى بطر و فتن، و إن افتقر قنط و وهن، يقصّر إذا عمل، و يبالغ إذا سأل، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية، و سوّف التّوبة، و إن عرته
ص: 616
محنة انفرج عن شرائط الملّة، يصف العبرة و لا يعتبر، و يبالغ فى الموعظة و لا يتّعظ، فهو بالقول مدلّ ، و من العمل مقلّ ، ينافس فيما يفنى، و يسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرما، و الغرم مغنما، يخشى الموت، و لا يبادر الفوت. يستعظم من معصية غيره ما يستقلّ أكثر منه من نفسه، و يستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على النّاس طاعن، و لنفسه مداهن، اللّهو مع الأغنياء أحبّ إليه من الذّكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه، و لا يحكم عليها لغيره، يرشد غيره و يغوى نفسه. فهو يطاع و يعصى، و يستوفى و لا يوفى، و يخشى الخلق فى غير ربّه، و لا يخشى ربّه فى خلقه.
قال السيد الرضى: و لو لم يكن في هذا الكتاب الاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة، و حكمة بالغة، و بصيرة لمبصر، و عبرة لناظر مفكّر.
و أقول: يرجّيها: يؤخّرها. و روى بالزاى المعجمة أي: يدفعها. و قوله: يغلبه نفسه على ما يظنّ اى: من مطامع الدنيا و لا يغلبها على ما يستيقن، اى: من ثواب الآخرة و لا يغلبها على ذلك، اي: على العمل به. و انفراجه عن شرائط الملّة عند نزول المحنة به:
خروجه عن فضيلة الصبر عليها. و رؤيته المغنم مغرما، كالانفاق فى سبيل اللّه. و الغرم مغنما، كالانفاق فى معصيته. و يغوى نفسه اي: لا يسلك بها سبيل الحقّ . و الكلام من شريف الحكمة و الموعظة الحسنة، و اكثره ظاهر.
و قال عليه السّلام: لكلّ امرىء عاقبة حلوة أو مرّة.
اشار الى غايته الخيريّة و الشرّية، كالجنّة و لذّاتها، و النار بعذابها. و استعار لفظىّ الحلوة و المرّة، للذيذ، و المكروه.
و قال عليه السّلام: لكلّ مقبل إدبار، و ما أدبر كأن لم يكن.
و هو تزهيد: فى متاع الدّنيا و فنائها.
و قال عليه السّلام: لا يعدم الصّبور الظّفر و إن طال به الزّمان.
ص: 617
و قال عليه السّلام: الرّاضى بفعل قوم كالدّاخل فيه معهم، و على كلّ داخل فى باطل إثمان: إثم العمل به، و إثم الرّضا به.
و هو ظاهر.
و قال عليه السّلام: اعتصموا بالذّمم فى أوتادها.
الذمم: العهود، و العقود، و الأيمان. و استعار لفظ الأوتاد لشرائطها: باعتبار انّها سبب حفظها كالوتد لما يحفظ به. و اراد امتنعوا بالمحافظة عليها و لزوم الوفاء بها، من عذاب اللّه.
و قال عليه السّلام: عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته.
يريد طاعة اللّه تعالى. و قيل: ائمّة الخلق ايضا، اذ لا يعذر الخلق فى الجهل بهم لتعلّم قوانين الدّين منهم.
و قال عليه السّلام: قد بصّرتم إن أبصرتم، و قد هديتم إن اهتديتم، و أسمعتم إن استمعتم.
اى قد بصّرتم سبيل الرشاد، و هديتم اليها، و أسمعتم الدلالة عليها.
و قال عليه السّلام: عاتب أخاك بالإحسان إليه، و اردد شرّه بالانعام عليه.
و قال عليه السّلام: من وضع نفسه مواضع التّهمة فلا يلو منّ من أساء به الظّنّ .
لانه هو السبّب فى اساءة الظن به.
ص: 618
و قال عليه السّلام:
من ملك استأثر، و من استبدّ برأيه هلك، و من شاور الرّجال شاركها فى عقولها.
استبدّ اراد ان شأن الملوك الاستبداد بالامور دون الناس. و من استبدّ برأى هلك، اذ كان الاستبداد بالرأي مظنّة الخطأ و ما يلزمه من الهلك. و من شاور الرجال، شاركها فى عقولها لاستنتاجه الراى الأصلح منها فكأنّه قد حصل على مثل ما حصل جميعهم عليه من العقل.
و قال عليه السّلام: من كتم سرّه كانت الخيرة بيده.
اى: فى اذاعته و كتمانه، و هو ترغيب فى كتمان السّر.
و قال عليه السّلام: الفقر الموت الأكبر.
استعار له لفظ الموت: باعتبار انقطاع النفع بمتاع الدنيا معه كالموت، و كونه أكبر: باعتبار تضاعف آلامه فى الحياة، و راحة الميّت بموته(1).
و قال عليه السّلام: من قضى حقّ من لا يقضى حقّه فقد عبده.
و ذلك لانّ قضاك لحق من لا يقضى حقّك من الإخوان ليس طلب نفع منه لك، و لا دفع مضرّة الغير عنك، بل لانّه هو لرهبة منه و هى يشبه العبادة.
و قال عليه السّلام: لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
و ذلك كالتقرّب بالوضوء بالماء المغصوب. و الصلاة فى الدار المغصوبة. و النفى هنا لذات الطاعة الشرعيّة كما هو مذهب أهل البيت عليهم السلام. و عند الشافعى يحمل على نفي الفضيلة.
و قال عليه السّلام: لا يعاب المرء بتأخير حقّه إنّما يعاب من أخذ ما ليس له.
ص: 619
لانّ الأوّل حق. و الثاني ظلم، و هو من اقوى الرذائل، و أكبر العيوب.
و قال عليه السّلام: الإعجاب يمنع من الازدياد.
و ذلك لتصوّر المعجب بنفسه لكماله فيمنعه من التكمّل.
و قال عليه السّلام: الأمر قريب، و الاصطحاب قليل.
اي: أمر اللّه و هو الموت. و الاصطحاب قليل اي: فى الدنيا.
و قال عليه السّلام: قد أضاء الصّبح لذى عينين.
استعار لفظ الصبح: لسبيل اللّه. و وصف الضياء: لوضوحها، و لفظ العينين: للعقل. و هو كالمثل و نحوه قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ »(1) الآية.
و قال عليه السّلام: ترك الذّنب أهون من طلب التّوبة.
و قال عليه السّلام: كم من أكلة منعت أكلات! يضرب مثلا لمن يفعل فعلا فيحرم به ما كان معتادا له من منفعة و لذّة.
و قال عليه السّلام: النّاس أعداء ما جهلوا.
و ذلك لاعتقاد اكثر الجّهال انّ تصوّراتهم، و اعتقاداتهم الوهمية هى الحقّ ، و ليس بعد الحق الاّ الضّلال الذى ينبغي أن يعادى و يجانب. و يتأكّد عداوتهم للعلم، و أهله بغبطتهم لهم، و فخر العلماء عليهم و احتقارهم ايّاهم.
و قال عليه السّلام: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
ص: 620
فاستقبالها: تصفحها و استقراؤها و هو مستلزم لمعرفة الخطأ من الصواب و مظنّة لذلك.
و قال عليه السّلام: من أحدّ سنان الغضب للّه قوى على قتل أشدّاء الباطل.
لأن الغاضب للّه يشتدّ بعزّته التي هى أقوى من عزّة الباطل، و المتمسّك بالأقوى اقوى، و بذلك كان قتله عليه السلام لجبابرة العرب.
و قال عليه السّلام: إذا هبت أمرا فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه.
و قال عليه السّلام: آلة الرّياسة سعة الصّدر.
سعة الصدر فضيلة تحت الشجاعة، و هى: ان لا يدع الانسان قوّة التجلّد عند ورود الأحداث المهمّة عليه، و اعتلاجها، و لا يحار أو يدهش فيما يرد عليه منها، و هى من لوازم الرياسة الحقّة، فعرّفها بها.
و قال عليه السّلام: ازجر المسىء بثواب المحسن.
لانّ تصوّر المسيء جزاء المحسن بإحسانه، يجذبه الى الإحسان و يزجره عن الاساءة.
و قال عليه السّلام: أحصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك.
لانّ نيّة الشّر للغير تظهر اماراتها فى فلتات القول، و صفحات الوجه، و ذلك مبدء التغيّر نيّة الغير، و اضماره المقابلة بالشّر فكان عدمها بعدمها.
ص: 621
و قال عليه السّلام: اللّجاجة تسلّ الرّأى.
اي: تأخذه و تذهب به، و ذلك انّ الانسان قد يلج فى طلب الشيء مع الرأى فى تحصيله التأنّى فيكون اللّجاج فيه سببا مفوّتا للرأى الأصلح فيه، و هو مفوّت للمطلوب غالبا.
و قال عليه السّلام: الطّمع رقّ مؤبّد.
فاستعار له لفظ الرّق: لاستلزامه التعبّد للمطموع فيه و طاعته كالرّق.
و قال عليه السّلام: ثمرة الحزم السّلامة، و ثمرة التّفريط النّدامة.
فالحزم: هو تقديم العمل للحوادث بما هو أقرب الى السلامة منها. و التفريط:
اضاعته.
و قال عليه السّلام: لا خير فى الصّمت عن الحكم، كما أنّه لا خير فى القول بالجهل.
لما كانت فضيلة القول هو النطق بالحكمة، كان السكوت عنها رذيلة تضادّها و لا خير فيها.
و قال عليه السّلام: ما اختلفت دعوتان إلاّ كانت إحداهما ضلالة.
فالدّعوة امّا الى حقّ ، او الى غيره، و هو الباطل، و لا واسطة بينهما، و هذا يؤيّد المنقول عنه، و عن اهل بيته عليهم السلام انّ الحق فى جهة، و انّه ليس كلّ مجتهد مصيبا.
و قال عليه السّلام: ما شككت فى الحقّ مذ أريته.
و ذلك لقوّة استعداده للعلم و وضوحه له.
ص: 622
و قال عليه السّلام: ما كذبت و لا كذّبت، و لا ضللت و لا ضلّ بى.
و قال عليه السّلام: للظّالم البادى غدا بكفّه عضّة! احترز بالبادى عن المجازى للظلم بمثله. و كنّى بعضّ كفه عن الندامة.
و قال عليه السّلام: الرّحيل وشيك.
اى: قربت الى الآخرة.
و قال عليه السّلام: من أبدى صفحته للحقّ هلك.
اى: من ظهر و نصب نفسه لاظهار الحق هلك عند الجهّال، لضعف الحقّ عندهم و حبّهم للباطل، و قد مرّ بيانه.
و قال عليه السّلام: من لم ينجه الصّبر أهلكه الجزع.
اى: من لم يصبر فينجو بصبره من اثم الجزع و الهلاك به فى الآخرة او فى الدنيا، هلك به.
و قال عليه السّلام: وا عجباه أ تكون الخلافة بالصّحابة و لا تكون بالصحابة و القرابة ؟ قال الرضى: و روى عنه عليه السلام شعر فى هذا المعنى و هو
فان كنت بالشّورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا و المشيرون غيّب ؟!
و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنّبىّ و أقرب
روى هذا عنه عند بيعة عثمان، و هو صورة جواب لما كان يسمعه من تعليل استحقاق عثمان للخلافة تارة بالشورى، و تارة بانّه من الصحابة. و فيه اشارة الى انّه عليه السلام أولى بها من غيره، لاجتماع الصحابة و القرابة فيه.
و قال عليه السّلام: إنّما المرء فى الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا، و نهب
ص: 623
تبادره المصائب، و مع كلّ جرعة شرق، و فى كلّ أكلة غصص و لا ينال العبد نعمة إلاّ بفراق أخرى، و لا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله. فنحن أعوان المنون و أنفسنا نصب الحتوف فمن أين نرجو البقاء و هذا اللّيل و النّهار لم يرفعا من شيء شرفا إلاّ أسرعا الكرّة فى هدم ما بنيا، و تفريق ما جمعا؟! استعار لفظ الانتضال و هو الرمى: لرمى الانسان بالأمراض و الأعراض. و نهب بمعنى: منهوب. و كنّى بالشرق و الغصص: عن شوب لذّات الدنيا بالتّكدير، و عدم خلوصها. و النعمة فى الحقيقة هى: اللذّة و ما يكون وسيلة اليها نعمة بالغرض، و لا يكاد يحصل للنفس فى الدنيا لذّتان معا، بل ان كانتا فاحداهما بعد زوال الاخرى. و كذلك ما يتعدّد من النعم المتعارفة غالبا، اذ طبيعة الدنيا و متاعها التقضّى و التجدّد. و نحن أعوان المنون على انفسنا: باعتبار انّ كل نفس و حركة فهى مقرّبة للانسان الى اجله فكأنّه ساع الى أجله.
و قال عليه السّلام: يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك.
أراد بغيره: الحادث او الوارث.
و قال عليه السّلام: إنّ للقلوب شهوة و إقبالا و إدبارا فأتوها من قبل شهوتها و إقبالها، فإنّ القلب إذا أكره عمى.
أراد بالإدبار: النفرة و الملال. و استعار وصف العمى له: باعتبار عدم ادراكه مع النفرة و الملال، و ذلك لوقوف القوى المدركة عن المطلوب لكلال او ملال.
و كان عليه السّلام يقول: متى أشفى غيظى إذا غضبت ؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لى لو صبرت ؟ أم حين أقدر عليه فيقال لى لو عفوت.
نفرّ عن رذيلة: شفاء الغيظ و ارادته بما يلزمه من لائمة الخلق على الاحتراق و القلق عند العجز. و على ايقاع العقوبة و ترك فضيلة العفو عند القدرة.
ص: 624
و قال عليه السّلام: و قد مر بقذر على مزبلة: هذا ما بخل به الباخلون. و روى فى خبر آخر أنه قال: هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس.
اشار الى الغاية: اقامة لها مقام ذى الغاية.
و قال عليه السّلام: لم يذهب من مالك ما وعظك.
اى: لا يعدّ ما ذهب من مالك بآفة تفيدك موعظة ذاهبا لوجود منفعته و هى العبرة به.
و قال عليه السّلام: لما سمع قول الخوارج «لا حكم إلا للّه»: كلمة حقّ يراد بها باطل.
و قد مرّ بيانه.
و قال عليه السّلام: فى صفة الغوغاء: هم الّذين إذا اجتمعوا غلبوا، و إذا تفرّقوا لم يعرفوا، (و قيل: بل قال عليه السلام): هم الّذين إذا اجتمعوا ضرّوا، و إذا تفرّقوا نفعوا، فقيل: قد عرفنا مضرّة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم ؟ فقال: يرجع أصحاب المهن إلى مهنتهم، فينتفع النّاس بهم كرجوع البنّاء إلى بنائه، و النّسّاج إلى منسجه، و الخبّاز إلى مخبزه.
و المهنة: الحرفة و الصناعة.
و قال عليه السّلام: و أتى بجان و معه غوغاء، فقال: لا مرحبا بوجوه لا ترى إلاّ عند كلّ سوأة.
اراد لا يرى مجتمعة فى الغالب الاّ كذلك، و السؤة فعلة من السوء و هى: القبيحة.
و قال عليه السّلام: إنّ مع كلّ إنسان ملكين يحفظانه، فإذا جاء القدر خلّيا بينه و بينه، و إنّ الأجل جنّة حصينة.
استعار لفظ الجنّة و هى: الدرع للأجل.
ص: 625
و قال عليه السّلام: (و قد قال له طلحة و الزبير: نبايعك على أنّا شركاؤك فى هذا الأمر): لا، و لكنّكما شريكان فى القوّة و الاستعانة، و عونان على العجز و الأود.
و الأود: الاعوجاج.
و قال عليه السّلام: أيّها النّاس، اتّقوا اللّه الّذى إن قلتم سمع، و إن أضمرتم علم، و بادروا الموت الّذى إن هربتم [منه] أدرككم، و إن أقمتم أخذكم، و إن نسيتموه ذكركم.
و المعنى ظاهر.
و قال عليه السّلام: لا يزهدنّك فى المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشىء منه، و قد تدرك من شكر الشّاكر أكثر ممّا أضاع الكافر، «وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ».
نبّه على ترك الزهد فى المعروف، بثلاثة ضمائر، صغرى الاوّل قوله: فقد يشكرك الى قوله، منه. و صغرى الثّانى قوله: و قد، الى قوله: الكافر. و نبّه على الصغرى الثالث، بقوله، «وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ». و تقدير الكبرى فى الاوّل و كلّ ما يشكرك عليه من لا يستمتع بشىء منه فواجب ان لا يزهدك فيه من لا يشكر لك. و تقديرها فى الثاني، و كلّ ما قد تدرك من شكر الشاكر فيه اكثر مما اضاعه الكافر فلا يجوز الزهد فيه، و اراد:
كافر النعمة. و تقديرها فى الثالث و كل من أحبّه اللّه فواجب ان يفعل ما لأجله أحبّه و لا يزهد فيه.
و قال عليه السّلام: كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم فانّه يتّسع.
و ذلك انّ الأوعية المحسوسة: مظنّة ان يضيق بما يوضع فيها لتناهى اتّساعها.
و الأوعية المعقولة: كالنفوس غير متناهية القوّة و القبول، فهى غير متناهية الاتّساع لادراك الأشياء و حفظها و لفظ وعاء العلم: مستعار لها.
ص: 626
و قال عليه السّلام: أوّل عوض الحليم من حلمه أنّ النّاس أنصاره على الجاهل.
أراد بالعوض: جزاءه على حلمه، او عوض ما يفوته من لذّة الانتقام بسبب الحكم و يكون التقدير اول عوض الحليم الحاصل من حلمه.
و قال عليه السّلام: إن لم تكن حليما فتحلّم، فإنّه قلّ من تشبّه بقوم الاّ و أوشك أن يكون منهم.
التحلّم تعوّد الحلم، لانّ اكثر مبادئ الملكات الخلقية حالات مكتسبة.
و قال عليه السّلام:
من حاسب نفسه ربح، و من غفل عنها خسر، و من خاف أمن، و من اعتبر أبصر، و من أبصر فهم، و من فهم علم.
محاسبة النفس على عملها: الاحتراز من الخسران بالتفريط، و مخافة عذاب اللّه يستلزم العمل له، و الاعتبار الفكر فى مواقع العبرة، و هو مستلزم لرؤية الطريق الحقّ الى اللّه، و ذلك مستلزم لفهم منازلها و مراحلها، و آفاتها و هو مستلزم للعلم بغاياتها و مقاصدها.
و قال عليه السّلام: لتعطفنّ الدّنيا علينا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها. و تلا عقيب ذلك: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ »(1).
شماس: الدّابة نفارها. و الضروس: الناقة تعضّ حالبها لتبقى لبنها لولدها لفرط شفقتها عليه.
و قال عليه السّلام: اتّقوا اللّه تقيّة من شمّر تجريدا و جدّ تشميرا، و أكمش
ص: 627
فى مهل و بادر عن وجل، و نظر فى كرّة الموئل، و عاقبة المصدر و مغبّة المرجع.
أي: اسرع الى العمل فى مهلة الحياة. و بادر اليه عن وجل من خوف اللّه. و فكّر فى كرّة الموئل اى: الرجعة الى ملجأ الحق و مبدأهم من حضرة اللّه. و عاقبة المصدر: الّذى عنه صدر و اليه يعود. و مغبّة: المرجع عاقبته من خير او شر ليعمل لهما.
و قال عليه السّلام:
الجود حارس الأعراض، و العلم فدام السّفيه، و العفو زكاة الظّفر و السّلو عوضك ممّن غدر، و الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استغنى برأيه، و الصّبر يناضل الحدثان، و الجزع من أعوان الزّمان، و أشرف الغنى ترك المنى، و كم من عقل أسير تحت هوى أمير، و من التّوفيق حفظ التّجربة، و المودّة قرابة مستفادة، و لا تأمننّ ملولا.
اقول: استعار لفظ الحارس: للجود باعتبار حفظه للاعراض من الشتم. و لفظ الفدام:
و هو ما يوضع فى فم الإبريق ليصفى ما فيه، و الخرقة التي يشدّ بها المجوسى فمه للحلم عن السفه باعتبار انّه يسكته كالفدام. و لفظ الزكاة: للعقول لاستلزامهما الثواب و فيه ملاحظة. شبّه الظفر: بالمال. و خاطر اشرف على الهلاك لانّ الاستبداد بالرأى مظنّته.
و لفظ المناضلة: لفائدة الصبر لدفعه الهلاك عن الجزع. و اعانة الجزع: للزمان فى اعداده للهرم و الفناء. و أشرف الغنى: غنى النفس بالكمالات النفسانيّة، و هو مستلزم لترك المنى. فأخبر باللازم عن الملزوم. و استعار لفظ الأسير: للعقل لانقياده للهوى الغالب. و لفظ الأمير: للهوى. و أخبر عنه بكم لكثرته، و حفظ التجربة ملازمتها و مداومتها، و لسرعة انصراف الملول عن صاحبه وجب ان لا يؤتمن على صداقة و سرّ، و لا يؤتمن(1) به.
و قال عليه السّلام: عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله.
فاستعار له لفظ الحاسد: باعتبار انّه يؤثر فى منعه من ازدياد الفضيلة و فى تنقيص حاله كالحسد.
ص: 628
و قال عليه السّلام: أغض على القذى و إلاّ لم ترض أبدا.
فكنّى بالاغضاء: عن احتمال المكروه و كظم الغيظ و لانّ طبيعة الدّنيا معجونة بالمكاره، وجب احتمالها و الاّ لدام التعب بالتسخّط و الغضب.
و قال عليه السّلام: من لان عوده كثفت أغصانه.
و هو كالمثل: يضرب لمن يتواضع للناس فيألفونه، و يحبّونه فيكثر بهم، و يقوى باجتماعهم عليه.
و قال عليه السّلام: الخلاف يهدم الرّأى.
و ذلك عند أن يجتمع الناس على رأى فيخالف فيه بعضهم، فيفسد ما اجتمعوا عليه.
و قال عليه السّلام: من نال استطال.
اى: من نال ما من شأنه أن يستطال به من مال اوجاه، و هو كالمثل.
و قال عليه السّلام: فى تقلّب الأحوال علم جواهر الرّجال.
اي: تقلّب احوال الدّنيا على المرء برفعته بعد اتضاعه و بالعكس، و نزول الشدائد به يعرف حاله فى طبيعته، و ما يلزمها من الاخلاق كالصبر، و احتمال المكروه، و سعة الصدر و اضدادها.
و قال عليه السّلام: حسد الصّديق من سقم المودّة.
لدلالته على ضعفها.
و قال عليه السّلام: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
فاستعار لفظ المصارع: لهوى العقل الى ما يطمع فيه، و انجذابه نحوه بحسب ما يلقيه اليه الوهم و الخيال من تخيّل الأمور النافعة. و لفظ البروق: لما يلوح من تلك التخيّلات.
ص: 629
و قال عليه السّلام: ليس من العدل القضاء على الثّقة بالظّنّ .
اى: من كان عندك ثقة مأمونا لم يكن الحكم عليه بالرذيلة لمجرّد الظنّ عدلا، بل ظلما لانّ العلم بكونه ثقة ارجح، و لانّ الأصل كونه ثقة.
و قال عليه السّلام: بئس الزّاد إلى المعاد، العدوان على العباد.
و قال عليه السّلام: من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم.
اى: تغافله.
و قال عليه السّلام: من كساه الحياء ثوبه لم ير النّاس عيبه.
لاستلزام حياء المرء تركه لما يعاب به. و قوله: لم ير الناس عيبه اى: لم يكن له عيب يرى و ان كان له عيب فهو يتستر به.
و قال عليه السّلام: بكثرة الصّمت تكون الهيبة، و بالنّصفة يكثر المواصلون، و بالإفضال تعظم الاقدار، و بالتّواضع تتمّ النّعمة و باحتمال المؤن يجب السّؤدد، و بالسّيرة العادلة يقهر المناوىء، و بالحلم عن السّفيه تكثر الأنصار عليه.
اشار عليه السلام، الى سبع فضائل، و رغّب فيها بما يستلزمه من الخير، و هى ظاهرة. و تمام النعمة بكثرة الإخوان، و أهل المودّة لانّ التواضع نعمة و ما يلزمها تمام لها.
و المناوى: المعادي، و قهره لانّ الناس مع السيرة العادلة.
و قال عليه السّلام: العجب لغفلة الحسّاد عن سلامة الأجساد.
لانّ العافية أكبر نعم الدنيا فغفلتهم عن الحسد عليها عجب.
و قال عليه السّلام: الطّامع فى وثاق الذّلّ .
ص: 630
فاستعار لفظ الوثاق: للطمع المذّل باعتبار تقيّده به كالوثاق.
و قال عليه السّلام: الإيمان معرفة بالقلب، و إقرار باللّسان، و عمل بالأركان.
و اراد الإيمان الكامل.
و قال عليه السّلام: من أصبح على الدّنيا حزينا فقد أصبح لقضاء اللّه ساخطا، و من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فقد أصبح يشكو ربّه، و من أتى غنيّا فتواضع [له] لغناه ذهب ثلثا دينه، و من قرأ القرآن فمات فدخل النّار فهو ممّن كان يتّخذ آيات اللّه هزوا، و من لهج قلبه بحبّ الدّنيا التاط قلبه [منها] بثلاث: همّ لا يغبّه، و حرص لا يتركه، و أمل لا يدركه.
ذكر خمس خصال مذمومة نفرّ عنها بما يلزمها من الشرّ، فالحزن على ما فاتت الدنيا يلزمه عدم الرضا بذلك المقضى، و هو مستلزم لسخط القضاء، و شكوى المصيبة يلزمها شكوى المبتلى بها و هو اللّه تعالى. و ذهاب ثلثي الدّين من المتواضع للغنى لغناه لانّ مدار الدين على الحقّ فى الاعتقاد، و القول، و العمل، و المتواضع المذكور خارج عن الحق و العدل فى تواضعه بقوله. و فعله، فهو خارج عن ثلثى دينه. و قيل: لانّ مداره على كمال النفس بفضيلة الحكمة و العفّة و الشجاعة. و المتواضع المذكور مضيّع لحكمته لوضعه التواضع فى غير موضعه، و لعفّته لخروجه عنها الى رذيلة الفجور حتى كأنه عابد لغير اللّه و ذلك هدم لثلثى دينه، و دخول النار للقارئ: يستلزم كونه لم يتدبّر القرآن و لم يعمل به، و كان ذلك كالمستهزئ به غير المعتقد لصدقه. فاستعار له: لفظ المستهزئ. و لهج بالشىء: حرص عليه و أولع به. و التاط: التصق. و لا يغبه اى لا يفارقه يوما و يأتيه يوما.
و قال عليه السّلام: كفى بالقناعة ملكا، و بحسن الخلق نعيما، فاستعار لفظ الملك: للقناعة لانّ بهما الغنى، و الترفّع عن الخلق. و لفظ النعيم:
لحسن الخلق للالتذاذ بهما و الراحة معهما.
ص: 631
و سئل عليه السّلام عن قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً »(1) فقال:
هى القناعة
و قال عليه السّلام: شاركوا الّذى قد أقبل عليه الرّزق، فإنّه أخلق للغنى و أجدر بإقبال الحظّ.
أخلق و اجدر اى: اولى لانّ مشاركته مظنّة اقبال حظ مشاركه و درور الرزق عليه.
و قال عليه السّلام: فى قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ »(2) العدل:
الإنصاف، و الإحسان: التّفضّل.
و هو تعريف لفظ بلفظ اعرف منه عند السائل.
و قال عليه السّلام: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطّويلة كنّى باليد الطويلة: عن العطاء الكثير. و بالقصيرة: عن القليل، و هو كقوله تعالى:
«مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا» (3) .
و قال عليه السّلام: لابنه الحسن عليهما السلام. لا تدعونّ إلى مبارزة و إن دعيت إليها فأجب فانّ الدّاعى باغ و الباغى مصروع.
اى: فى مظنّة ان يصرع.
و قال عليه السّلام: خيار خصال النّساء شرار خصال الرّجال: الزّهو، و الجبن، و البخل، فاذا كانت المرأة مزهوّة لم تمكّن من نفسها، و إذا كانت بخيلة حفظت مالها و مال بعلها، و إذا كانت جبانة فرقت من كلّ شيء يعرض لها.
ص: 632
الزهو: الكبر، و الكلام واضح.
و قيل له عليه السّلام: صف لنا العاقل، فقال عليه السلام: هو الّذى يضع الشّىء مواضعه، فقيل: فصف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت.
قال السيد الرضى: يعني أن الجاهل هو الذى لا يضع الشيء مواضعه فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل.
و اقول: عرّف العاقل بخاصّة من خواصه. و الجاهل بعدم تلك الخاصية و هو من خواصّ الجاهل.
و قال عليه السّلام: و اللّه لدنياكم هذه أهون فى عينى من عراق خنزير فى يد مجذوم.
عراق جمع عرق، و هو: جمع غريب كتوأم، و توأم و هو: العظم الّذي يسحت عنه اللحم، و هو فى غاية بيان كراهية الدنيا عنده و التّنفير عنها.
و قال عليه السّلام: إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التّجار. و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار.
و الاولى عبادة التجار، لانّهم يستعيضون عنها الثواب. و الثّانية عبادة العبيد لانّ غالبها عن رهبة. و الثالثة عبادة العارفين الّذين يعبدون اللّه للّه. و لانّه اهل للعبادة و هم الاحرار من رقّ الرغبة و الرهبة.
و قال عليه السّلام: المرأة شرّ كلّها، و شرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها! امّا انّها من شرّ ما فيها: قلّة الاستغناء عنها. امّا انّها شرّ: فلأن مدارها على مئونتها و هو شرّ عاجل و على الالتذاذ بها، و الاشتغال عن اللّه و يلزمه شرّ آجل. و امّا ان الحاجة اليها شرّ من ذلك: فلأنها سبب تلك الشرور. و السبب أقوى من المسبب.
ص: 633
و قال عليه السّلام: من أطاع التّوانى ضيّع الحقوق، و من أطاع الواشى ضيّع الصّديق.
و قال عليه السّلام: الحجر الغصيب فى الدّار رهن على خرابها.
(و يروى هذا الكلام عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله، و لا عجب أن يشتبه الكلامان لأن مستقاهما من قليب، و مفرغهما من ذنوب(1).) اقول: استعار لفظ الرهن: للمغصوب لاستلزامه غالبا خراب بيت الغاصب، كاستلزام الرهن اداء ما عليه من مال.
و قال عليه السّلام: يوم المظلوم على الظّالم أشدّ من يوم الظّالم على المظلوم.
فيوم المظلوم: يوم القيامة، و خصّه به لأنه يوم انصافه و أخذ حقه فهو له، و كذلك تخصيص يوم الظالم به.
و قال عليه السّلام: اتّق اللّه بعض التّقى و إن قلّ ، و اجعل بينك و بين اللّه سترا و إن رقّ .
لأن التقوى هي الزاد الى الآخرة، و لا يجوز ترك الزاد بالكليّة فى مثل تلك الطريق. و استعار لفظ الستر: لحدود اللّه، و جعلها بينه و بين اللّه حفظها و عدم انتهاكها الموقع فى مهاوى الهلاك.
و قال عليه السّلام: إذا ازدحم الجواب خفى الصّواب.
اى: اذا كثرت الأجوبة من جماعة عن مسألة من واحد، خفى الصواب منها لكثرتها و اختلاطها، و اكثر ما يكون ذلك فى المسائل الاجتهاديّة.
ص: 634
و قال عليه السّلام: إنّ للّه فى كلّ نعمة حقّا، فمن أدّاه زاده منها، و من قصّر عنه خاطر بزوال نعمته.
فحقّ اللّه فى النعمة: شكرها الواجب و استلزام وجوده للمزيد منها، و عدمه و هو الكفران لزوالها كما فى قوله تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »(1) الآية.
و قال عليه السّلام: إذا كثرت المقدرة قلّت الشّهوة.
و ذلك لاستشعار قليل القدرة على الشيء خوف فواته، فلا تزال فى قلبه دغدغة، و هميّة تحمله على شهوته و طلبه. اما كثير القدرة عليه فإنّه يأمن قوّته فيضعف باعثه عليه و تقلّ شهوته له.
و قال عليه السّلام: احذروا نفار النّعم فما كلّ شارد بمردود.
فاستعار لفظ النفار و الشّارد: للنعم الزائلة، ملاحظة شبهها بالإبل النافرة. و نبّه بالتحذير من ذلك على وجوب تقييدها بالشكر.
و قال عليه السّلام: الكرم أعطف من الرّحم.
اى: الكريم لكرمه على المنعم عليه، اعطف من ذى الرحم على ذي رحمه لأنّ عاطفة الكريم طبع، و عاطفة ذي الرحم قد تكون تكلّفا.
و قال عليه السّلام: من ظنّ بك خيرا فصدِّق ظنّه.
اى: بمطابقة فعلك لظنّه فيك الحير.
و قال عليه السّلام: أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه.
و ذلك لانّ فائدة الأعمال الصّالحة تطويع النفس الأمارة بالسّوء للنفس العاقلة، و فى اكراهها كسرها و قهرها، و بحسب ذلك تكون كثرة الفائدة و المنفعة و كان أفضلها
ص: 635
اكرهها. و فى الحديث: أفضل الأعمال احمزها(1) بالزاى المعجمة، اى: اشقّها.
و قال عليه السّلام: عرفت اللّه سبحانه بفسخ العزائم، و حلّ العقود.
ففسخ العزائم: الرجوع عمّا يعزم عليه. و حلّ العقود: تغيّر ما يعقد عليه الضمير من الأمر. و وجه الاستدلال بها على المعرفة انها تغيّرات و خواطر ممكنة محتاجة فى طريق وجودها و عدمها الى مرجّح ليس هو العبد دفعا للدور و التّسلسل. فالمرجّح الأوّل لها هو اللّه تعالى و هو المطلوب.
و قال عليه السّلام: مرارة الدّنيا حلاوة الآخرة، و حلاوة الدّنيا مرارة الآخرة.
فاستعار لفظ المرارة: لمشقّة الأعمال الصالحة فى الدنيا، و لما يستعقبه اللذّة الدنيويّة من الألم و العذاب فى الآخرة. و لفظ الحلاوة: و لما يستعقبه الاعمال الصالحة من لذّة السعادة الاخرويّة، و لما فى متاع الدنيا من اللذّة و هو ظاهر.
و قال عليه السّلام: فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشّرك و الصّلاة تنزيها عن الكبر، و الزّكاة تسبيبا للرّزق، و الصّيام ابتلاء لاخلاص الخلق، و الحجّ تقربة للدّين، و الجهاد عزّا للاسلام، و الأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ ، و النّهى عن المنكر ردعا للسّفهاء، و صلة الرّحم منماة للعدد، و القصاص حقنا للدّماء، و إقامة الحدود إعظاما للمحارم، و ترك شرب الخمر تحصينا للعقل، و مجانبة السّرقة إيجابا للعفّة، و ترك الزّنا تحصينا للنّسب، و ترك اللّواط تكثيرا للنّسل، و الشّهادة استظهارا على المجاحدات، و ترك الكذب تشريفا للصّدق، و السّلام أمانا من المخاوف، و الأمانات نظاما للأمّة، و الطّاعة تعظيما للامامة.
اقول: الايمان يلزمه الطهارة عن الشرك لما فيه من التصديق بالوحدانيّة، و يلزم الصلاة التنزيه عن الكبر، لما فيه من التواضع و تسبيبا للرزق، اى: رزق من فرضت لهم
ص: 636
من الاصناف، و الاخلاص فى الصيام للّه لما فيه من المشقّة و هجر الملاذ. و تقوية الدين بالحجّ لما فيه من الاجتماع و اظهار شعائر اللّه، و منماة: للعدد و زيادته فى الرحم بصلتهم لما فى ذلك من استقامة امر معاشهم. و تشريف الصدق بترك الكذب لما فى الصدق من بناء اكثر مصالح العالم فى المعاش و المعاد عليه. و الامان من المخاوف فى السلم لما فيه من الاشعار و سلامة الصدر و الأمن من اضمار الشرور. و روى الاسلام و هو ظاهر و باقى الاسرار ظاهرة. و قد سبق بيان اسرار اكثرها.
و كان عليه السّلام يقول: أحلفوا الظّالم - إذا أردتم يمينه - بأنّه برىء من حول اللّه و قوّته فانّه إذا حلف بها كاذبا عوجل [العقوبة]، و إذا حلف ب «اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ» لم يعاجل، لأنّه قد وحّد اللّه تعالى.
و قال عليه السّلام: يا ابن آدم، كن وصىّ نفسك فى مالك، و اعمل فيه ما تؤثر ان يعمل فيه من بعدك.
اى: ضع مالك فى مواضعه المأمور بوضعه فيه شرعا من القربات و غيرها، و ذلك ما يختار أن يعمل فيه من بعده.
و قال عليه السّلام: الحدّة ضرب من الجنون، لأنّ صاحبها يندم، فان لم يندم فجنونه مستحكم.
استعار للحدّة و هى: الافراط فى الغضب لفظ الجنون لاستلزامها الخروج فى هذه القوّة عن طاعة العقل فيما ينبغي ان يعمل.
و قال عليه السّلام: صحّة الجسد، من قلّة الحسد.
اى: انّ الحسد قد يؤثّر فى فساد الجسد، فكانت قلّته من شرائط صحّته و أسبابها.
و قال عليه السّلام: لكميل بن زياد النخعي: يا كميل، مر أهلك
ص: 637
أن يروحوا فى كسب المكارم، و يدلجوا فى حاجة من هو نائم، فو الّذى وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلبا سرورا إلاّ و خلق اللّه له من ذلك السّرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء فى انجداره حتّى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
الإدلاج: السير بالليل. و كنّى بالنائم: عن غير المتكلّف لطلب الحاجة. و اللطف ما يكون الانسان عنده اقرب الى صلاح الحال. و اشار به: الى ما يستمدّه المحسن من الأدعية الصالحة و الثناء من المسرور، و ذلك لطف يصلح به حاله عند اللّه و عند الناس و يعدّه لدفع المكان و لنازلة به. و روى النائبة و هى: المصيبة. و شبّه طرده لها بطرد غريبة الابل فى قوة الطرد.
و قال عليه السّلام: إذا أملقتم فتاجروا اللّه بالصّدقة.
فالاملاق: الفقر، و متاجرة اللّه: استفاضة عطائه و ثوابه فى الدنيا و الآخرة، بما تيسر من صدقة الفقير ثقة بقوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ »(1).
و قال عليه السّلام: الوفاء لأهل الغدر غدر عند اللّه، و الغدر بأهل الغدر وفاء عند اللّه.
فاستعار لفظ الغدر: للوفاء الاول لكونهما وضعا للشيء فى غير موضعه. و لفظ الوفاء الثاني: للغدر لكونهما وضعا للشيء فى موضعه.
فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدّين بذنبه، فيجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف.
ص: 638
قال السيد الرضى: اليعسوب: السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ، و القزع:
قطع الغيم التي لاماء فيها.
و اقول: قوله ذلك اشارة الى علامات ذكرها فى آخر الزمان، لظهور صاحب الأمر، و استعار له لفظ اليعسوب(1).
إنّ الايمان يبدوا لمظة فى القلب كلّما ازداد الايمان ازدادت اللّمظة.
قال: و اللّمظه مثل النكته أو نحوها من البياض. و منه قيل فرس ألمظ اذا كان بجحفلته شيء من البياض.
و أقول: لفظ اللمظة مستعار: للتصديق القلّبى، و اوّل ما يقع فى القلب يكون حالة تشبه النقطة من شعاع الشمس و غيرها لا يزال يزداد حتّى يقوى و يتأكد بالبراهين و الحجج الى ان يصير ملكة تامة. و الجحفلة من الفرس هى المسمّاة من الانسان شفة.
3 - و من(2) حديثه عليه السلام:
إنّ الرجل إذا كان له الدّين الظّنون يجب عليه أن يزكّيه لما مضى إذا قبضه. فالظنون:
الذى لا يعلم صاحبه أ يقبضه من الذى هو عليه أم لا، فكأنّه الذى يظن به فمرة يرجوه و مرة لا يرجوه. و هذا من أفصح الكلام، و كذلك كل أمر تطلبه و لا تدرى على أى شيء أنت منه فهو: ظنون، و على ذلك قول الأعشى:
ما يجعل الجدّ الظّنون الّذى *** جنّب صوب اللّجب الماطر
مثل الفراتىّ إذا ما طما *** يقذف بالبوصىّ و الماهر
و الجد: البئر. و الظنون: التي لا يعلم هل فيها ماء ام لا. و اللجب فى قول الأعشى، هو: السحاب المصوّت. و الفراتى: الفرات و الياء للتأكيد لقولهم، و الدهر بالانسان دوّارى اى: دوّار. و يحتمل ان يريد النهر الفراتى. و البوصىّ : سفينة صغيرة معروفة. و الماهر السابح. و باقى الفصل ظاهر.
ص: 639
و قال عليه السّلام: لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار: فخرج بنفسه ماشيا حتى أتى النخيلة فأدركه الناس، و قالوا: يا أمير المؤمنين، نحن نكفيكهم، فقال: ما تكفوننى أنفسكم فكيف تكفوننى غيركم ؟ إن كانت الرّعايا قبلى لتشكو حيف رعاتها، و إنّنى اليوم لأشكو حيف رعيّتى، كأنّنى المقود و هم القادة، أو الموزوع و هم الوزعة! (فلما قال عليه السلام هذا القول فى كلام طويل قد ذكرنا مختاره فى جملة الخطب، تقدم إليه رجلان من أصحابه فقال أحدهما: إنى لا أملك إلا نفسى و أخى فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين ننفذ له) فقال عليه السلام: و أين تقعان ممّا أريد؟ أقول: هذا الفصل قد مرّ مشروحا في الخطب.
و قيل إن الحارث بن حوت أتاه عليه السلام فقال: أ ترانى أظنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة ؟ فقال عليه السلام: يا حارث، إنّك نظرت تحتك و لم تنظر فوقك فحرت! إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، و لم تعرف الباطل فتعرف من أتاه، فقال الحارث: فإنّى أعتزل مع سعد بن مالك، و عبد اللّه بن عمر؟ فقال عليه السلام: إنّ سعدا و عبد اللّه بن عمر لم ينصرا الحقّ و لم يخذلا الباطل.
قيل: فى قوله: انك نظرت تحتك و لم تنظر فوقك، اى: نظرت الى شبهة اصحاب الجمل، و لم تنظر الى الحق الذى مع إمامك. و فى العرف: انّ الحقّ فوق الباطل، فوقيّة الشرف و الفضيلة، و الباطل تحته، تحتيّة الدناءة. و قيل: اراد: نظرت الى الخلق و راقبتهم و لم تنظر الى اللّه فتعمل له، فحرت اى: لنظرك فى شبهتهم او لمراقبتك إيّاهم. و سعد ابن مالك هو: سعد بن ابى وقّاص.
و قال عليه السّلام: صاحب السّلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، و هو أعلم بموضعه.
و وجه التشبيه: صعوبة المركب و خطره. و نبّه عليه بقوله يغبط الى آخره.
ص: 640
و قال عليه السّلام: أحسنوا فى عقب غيركم تحفظوا فى عقبكم.
لأن المجازاة واقعة فى الطبيعة. و لانّ الذكر الجميل بعد المرء، و المحسن: لعطف الناس على من يخلفه من ولده و اهله.
و قال عليه السّلام: إنّ كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواء، و إذا كان خطأ كان داء.
اراد: داء الجهل و دواؤه من العلم.
و سأله رجل أن يعّرفه الأيمان فقال عليه السلام: إذا كان الغد فأتنى حتّى أخبرك على أسماع النّاس، فإن نسيت مقالتى حفظها عليك غيرك، فإنّ الكلام كالشّاردة ينقفها هذا و يخطئها هذا.
و قد ذكرنا ما أجابه به فيما تقدّم من هذا الباب و هو قوله: الايمان على أربع شعب.
و ينقفها اى: يدركها و يجدها، و هو: وجه الشبه بالشاردة من الإبل. و اراد يحفظه واحد و لا يضبطه آخر.
و قال عليه السّلام: يا ابن آدم، لا تحمل همّ يومك الّذى لم يأتك على يومك الّذى قد أتاك، فإنّه إن يك من عمرك يأت اللّه فيه برزقك.
و قال عليه السّلام: أحبب حبيبك هونا مّا، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، و أبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما مّا.
فعسى فى الموضعين صغريا ضميرين نبّه بهما على وجوب الاعتدال فى المحبّة و البغض.
و قال عليه السّلام: النّاس فى الدّنيا عاملان: عامل عمل فى الدّنيا للدّنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر و يأمنه على نفسه، فيفنى عمره فى
ص: 641
منفعة غيره، و عامل عمل فى الدّنيا لما بعدها فجاءه الّذى له من الدّنيا بغير عمل، فأحرز الحظّين معا، و ملك الدّارين جميعا فأصبح وجيها عند اللّه لا يسأل اللّه حاجة فيمنعه.
و قوله: يأمنه على نفسه اى: الفقر فى الآخرة من الخير النافع فيها.
و روى أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب فى ايامه(1) حلى الكعبة و كثرته، فقال قوم: لو أخذته فجهزّت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر و ما تصنع الكعبة بالحلى ؟ فهمّ عمر بذلك، و سأل أمير المؤمنين عليه السلام فقال عليه السلام: إنّ القرآن أنزل على النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأموال أربعة: أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة فى الفرائض، و الفىء فقسّمه على مستحقّيه، و الخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، و الصّدقات فجعلها اللّه حيث جعلها، و كان حلى الكعبة فيها يومئذ، فتركه اللّه على حاله، و لم يتركه نسيانا، و لم يخف عليه مكانا، فأقرّه حيث أقرّه اللّه و رسوله. فقال له عمر: لو لاك لافتضحنا، و ترك الحلى بحاله.
مكانا: نصب على التّمييز، و الفصل واضح.
و روى أنه عليه السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال اللّه: أحدهما عبد من مال اللّه، و الآخر من عرض الناس فقال عليه السلام:
أمّا هذا فهو من مال اللّه و لا حدّ عليه، مال اللّه أكل بعضه بعضا، و أمّا الآخر فعليه الحدّ فقطع يده.
و عرض الناس: سايرهم و عامّتهم.
و قال عليه السّلام: لو قد استوت قدماى من هذه المداحض لغيّرت أشياء.
فكنّى باستواء قدميه: عن ثباته، و تمكّنه من اجراء الاحكام الشرعيّة: على وجوهها، و استعار لفظ المداحض: للمسائل الاجتهادية، لانّها مزالق اقدام العقول. و اراد بالأشياء:
احكاما سبقت من الائمة قبله على خلاف ما يراه من الحق.
ص: 642
و قال عليه السّلام: اعلموا علما يقينا أنّ اللّه لم يجعل للعبد - و إن عظمت حيلته، و اشتدّت طلبته، و قويت مكيدته - أكثر ممّا سمّى له فى الذّكر الحكيم، و لم يحل بين العبد فى ضعفه و قلّة حيلته، و بين أن يبلغ ما سمّى له فى الذّكر الحكيم، و العارف لهذا العامل به أعظم النّاس راحة فى منفعة، و التّارك له الشّاك فيه أعظم النّاس شغلا فى مضرّة، و ربّ منعم عليه مستدرج بالنّعمى، و ربّ مبتلى مصنوع له بالبلوى، فزد أيّها المستمع فى شكرك، و قصّر من عجلتك، وقف عند منتهى رزقك.
فالذكر الحكيم هو: اللوح المحفوظ، فقد قام البرهان على انّ ما علم اللّه تعالى وجوده او عدمه، و اثبته فى اللوح المحفوظ وجب معلومه وفق علمه، فلذلك أمر بعلمه يقينا، و يلزم ذلك اليقين الراحة من الاهتمام به و التعب فى طلبه بما لا بد من وصوله اليه من رزق و غيره، و يلزم الشكّ فيه ما ذكر من كونه أعظم الناس شغلا اى: باعتبار خلوّ شغله عن الفائدة، و بحسب ذلك لزمته المضرّة: و قوله: و ربّ منعم عليه، الى قوله: البلوى، ترغيب فى الاجمال فى طلب الرزق، بذكر ما قد يلزم النعمة من استدراج المنعم عليه و هو: الأخذ على غيره. و ما قد يلزم الابتلاء بالفقر من الصنع له و اللطف بذلك فى حقه.
و قال عليه السّلام: لا تجعلوا علمكم جهلا، و يقينكم شكّا إذا علمتم فاعملوا، و إذا تيقّنتم فأقدموا.
فجعلهم علمهم جهلا و شكّا، اى: فى قوّتهما لتركهم العمل على وفقه. فكأنهم جاهلون بما علموه من حال الآخرة شاكّون فى ذلك.
و قال عليه السّلام: إنّ الطّمع مورد غير مصدر، و ضامن غير و فىّ ، و ربّما شرق شارب الماء قبل ريّه، و كلّما عظم قدر الشّىء المتنافس فيه عظمت الرّزيّة لفقده، و الأمانىّ تعمى أعين البصائر، و الحظّ يأتي من لا يأتيه.
موارد الطامع موارد الذلّ و الهلكة فى الآخرة غير مصدر له عنها. و استعار له لفظ الضامن: لوثوق الطامع به كالضامن. و قوله: تعمى أعين البصائر اى: عن ادراك المطالب الحقّة. و الكلام مشتمل على صغريات الضمائر: ستة نفرّ بها عن الطمع و ما
ص: 643
.....
و قال عليه السّلام: اللّهمّ إنّى أعوذ بك أن تحسن فى لامعة العيون علانيتى، و تقبح فيما أبطن لك سريرتى، محافظا على رئاء النّاس من نفسى بجميع ما أنت مطّلع عليه منّى. فأبدى للنّاس حسن ظاهرى، و أقضى إليك بسوء عملى، تقرّبا إلى عبادك، و تباعدا من مرضاتك.
فالباء فى قوله: بجميع: متعلق برياء او بقوله محافظا. و افضى اليك اى: اصل.
و الفصل واضح.
و قال عليه السّلام: لا و الّذى أمسينا منه فى غبر ليلة دهماء تكشر عن يوم أغرّ ما كان كذا و كذا.
فغبر الليل: بقاياه. و الدّهماء: السوداء. و استعار لفظ الكشر، و هو: التبسّم تبدوا معه الاسنان لأسفارها عن ضوء يومها. و الأغرّ: الواضح.
و قال عليه السّلام: قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول [منه].
فأرجى: اكثر رجاء للنفع.
و قال عليه السّلام: إذا أضرّت النّوافل بالفرائض فارفضوها.
و قد مرّ مثله.
و قال عليه السّلام: من تذكّر بعد السّفر استعدّ.
اى: السفر الى الآخرة، و الاستعداد بزاد التقوى.
و قال عليه السّلام: ليست الرّويّة كالمعاينة مع الإبصار فقد تكذب العيون أهلها، و لا يغشّ العقل من استنصحه.
ص: 644
و اراد: فى العلوم على العقل، دون الحسّ : لكذبه فى مواضع.
و قال عليه السّلام: بينكم و بين الموعظة حجاب من العزّة.
اى: الغفلة و لفظ الحجاب: مستعار لها.
و قال عليه السّلام: جاهلكم مزداد، مسوّف. [و في روايه: جاهلكم مزداد، و عالمكم مسوّف!] اى: من الإثم. مسوّف اى: بالتّوبة.
و قال عليه السّلام: قطع العلم عذر المتعلّلين.
و اراد: العلم بالدّين و بما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله، من البشارة و النذارة فان ذلك قاطع لمن عصاه(1) يقول: («إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ »). و كذلك بما جاء من التّنبيهات على دفاين العقول كالعبر بأحوال الماضين، و وجود الصانع و صفاته.
و قال عليه السّلام: كلّ معاجل يسأل الانظار، و كلّ مؤجّل يتعلّل بالتّسويف.
و هو توبيخ: على ترك العمل للمعاجل و المؤجل.
و قال عليه السّلام: ما قال النّاس لشيء «طوبى له» إلاّ و قد خبأ له الدّهر يوم سوء.
فاستعار لفظ الخبأ: لما يألفوه فى طبيعة الزمان، من الحوادث المهلكة لسترها عن افهام الخلق.
و سئل عليه السّلام عن القدر فقال: طريق مظلم فلا تسلكوه، و بحر عميق
ص: 645
فلا تلجوه، و سرّ اللّه فلا تتكلّفوه.
فاستعار له لفظ الطريق، بوصف المظلم الغموض البحث و تصرّف الذهن فيه، و عدم الاهتداء الى الخلق منه. و كذلك لفظ البحر العميق البحث فيه و دقّته: و كونه سرّ اللّه: باعتبار انّه لم يبح الخوض فيه، و تكلّف البحث عنه.
و قال عليه السّلام: إذا أرذل اللّه عبدا حظر عليه العلم.
فاستعار لفظ الحظر و هو: المنع: لعدم توفيقه له، و تعسّر اسبابه عليه.
و قال عليه السّلام: كان لى فيما مضى أخ فى اللّه، و كان يعظمه فى عينى صغر الدّنيا فى عينه، و كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهى ما لا يجد و لا يكثر إذا وجد، و كان أكثر دهره صامتا، فإن قال بدّ القائلين و نقع غليل السّائلين، و كان ضعيفا مستضعفا! فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب و صلّ واد، لا يدلى بحجّة حتّى يأتي قاضيا، و كان لا يلوم أحدا على ما يجد العذر فى مثله حتّى يسمع اعتذاره، و كان لا يشكو وجعا إلاّ عند برئه، و كان يفعل ما يقول و لا يقول ما لا يفعل، و كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السّكوت، و كان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، و كان إذا بدهه أمران ينظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الأخلاق فالزموها و تنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خير من ترك الكثير.
قيل: اراد: ابا ذر الغفارى. و قيل: عثمان بن مظعون. و كنّى بصغر الدنيا فى عينه:
عن زهده فيها، و بخروجه عن سلطان بطنه الى قوله: وجد: عن عفّته. و بذّ: غلب.
نقع الغليل: سكن العطش. و هما كنايتان: عن قول الحكمة فى مواضعها بعد طول السكوت فى موضعه. و كنّى بضعفه و استضعافه: عن تواضعه و ذلّته للّه. و استعار له لفظ الليث و الصل فى مواطن الحرب: موضع انكار المنكر لسطوته و بأسه فيها. و أدلى بحجّته: ارسلها. و بدهة الأمر: أتاه من غير ترّو. و كثرة حرصه على الاسماع، تغليبا للاستفادة على الافادة. و الفصل يشتمل على اثنتى عشرة فائدة، و هي واضحة.
ص: 646
و قال عليه السّلام: لو لم يتوعّد اللّه على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكرا لنعمه.
اراد: فكيف و قد توعّد فاولى ان يحبّ ترك معصيته.
و قال عليه السّلام: و قد عزّى الأشعث بن قيس عن ابن له -: يا أشعث، إن تحزن على ابنك فقد استحقّت منك ذلك الرّحم، و إن تصبر ففى اللّه من كلّ مصيبة خلف. يا أشعث، إن صبرت جرى عليك القدر و أنت مأجور، و إن جزعت جرى عليك القدر و أنت مأزور، [يا أشعث] ابنك سرّك و هو بلاء و فتنة و حزنك و هو ثواب و رحمة.
اصل مأزور: الواو فهمز: لمناسبة القرينة الاولى، و هو: بلاء و فتنة لما يلزم الوالد بسببه من الجبن و البخل و الحرص و الحزن و غيرها. و ثواب و رحمة: لوالده اذا راعى فيه العدل و الفضيلة من الرذائل المذكورة.
و قال عليه السّلام: على قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ساعة دفن: - إنّ الصّبر لجميل الاّ عنك، و إنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك، و إنّ المصاب بك لجليل، و إنّه قبلك و بعدك لجلل.
فالجلل هو: الأمر الهيّن، و هو ايضا: الأمر العظيم، و هو من الاضداد. و اراد: انّ المصائب قبل موتك و بعده بمن كان من الناس سهل هيّن بالنسبة اليك. قيل: اراد:
انّ المصاب بك قبل موتك عظيم عند الناس، اذا تصوّروه و لخوفهم منه، و انّه بعدك عظيم لاختلال امر الدّين به، و الاوّل اظهر.
و قال عليه السّلام: لا تصحب المائق، فإنّه يزيّن لك فعله، و يودّ أن تكون مثله.
فالمائق: الأحمق، و نفرّ عنه بضمير صغراه، قوله: فانّه، الى آخره.
ص: 647
و قد سئل عن مسافة ما بين المشرق و المغرب، فقال عليه السّلام:
مسيرة يوم للشّمس.
و هو جواب واضح مقنع، اذ غرض الخطيب الأقناع.
و قال عليه السّلام: أصدقاؤك ثلاثة: صديقك، و صديق صديقك، و عدوّ عدوّك. و أعداؤك ثلاثة: عدوّك، و عدوّ صديقك، و صديق عدوّك.
اراد: العداوة و الصداقة الخالصتين. و الحكم بانّ صديق الصديق و عدو العدو صديق:
اكثرى، لاحتمال كون الصديق غير عالم بانّ لصديقه صديقا، و العدوّ غير عالم بأن لعدوّه عدوّ أفضلا ان يصادقه او يعاديه. و كذلك الحكم بانّ عدوّ الصديق و صديق العدوّ عدوّ.
و قال عليه السّلام: لرجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرار بنفسه: إنّما أنت كالطّاعن نفسه ليقتل ردفه.
و قال عليه السّلام: ما أكثر العبر و أقلّ الاعتبار! اراد بالعبر: مواضع الاعتبار.
و قال عليه السّلام: من بالغ فى الخصومة أثم، و من قصّر فيها ظلم، و لا يستطيع أن يتّقى اللّه من خاصم.
نفّر عن طرف الافراط و التفريط فى المخاصمة، بما يلزمهما من الظلم المستلزم للإثم و من الانظلام. و نبّه على بعد العدل فيها صعوبة الوقوف على حدّه.
محوه و تكفيره.
و قال عليه السّلام: ما أهمّنى ذنب أمهلت بعده حتّى أصلّى ركعتين.
و ذلك لاستلزامهما محوه و تكفيره.
ص: 648
و سئل عليه السّلام: كيف يحاسب اللّه الخلق على كثرتهم ؟ فقال عليه السلام: كما يرزقهم على كثرتهم، فقيل: كيف يحاسبهم و لا يرونه ؟ فقال عليه السلام: كما يرزقهم و لا يرونه.
اجاب عليه السلام: بما يفيد الاقناع، و الجواب الحقّ للمسألة: مبنىّ على معرفة حقيقة الحساب، و حقيقة المحاسب و معرفة المحاسب، و هى: ثلاث مسائل اصولية صعبة يطول الخوض فيها.
و قال عليه السّلام: رسولك ترجمان عقلك، و كتابك أبلغ ما ينطق عنك! فاستعار لفظ الترجمان: للرسول: باعتبار: انّه يعبّر عن مقدار عقل المرسل و جهله.
و الكتاب أبلغ ناطق عن الانسان: لضبط مراده فيه دون الألسنة و لمطابقته نطق المرسل عن نفسه.
و قال عليه السّلام: ما المبتلى الّذى قد اشتدّ به البلاء بأحوج إلى الدّعاء من المعافى الّذي لا يأمن البلاء! اى: انّهما سواء فى الحاجة الى الدعاء فذاك لزوال بلائه، و هذا لدوام عافيته.
و قال عليه السّلام: النّاس أبناء الدّنيا، و لا يلام الرّجل على حبّ أمّه.
و لفظ الابن و الامّ : مستعاران باعتبار كونهم فرعا، و كونها اصلا.
و قال عليه السّلام: إنّ المسكين رسول اللّه فمن منعه فقد منع اللّه، و من أعطاه فقد أعطى اللّه.
باعتبار: انّه للّه و بأمره.
و قال عليه السّلام: ما زنى غيور قطّ.
اى: البتّة لاستلزام الغيرة الحقّة من الزنا تصور الغيور وقوع مثله فى حقّه من الغير،
ص: 649
فيعارض خياله داعيه فيستقبحه فيكفّ عنه.
و قال عليه السّلام: كفى بالأجل حارسا.
فاستعار لفظ الحارس له: باعتبار انّ الانسان محفوظ لوجوده فى مدّة كالحافظ.
و قال عليه السّلام: ينام الرّجل على الثّكل و لا ينام على الحرب!! قال السيد - رحمه الله -: و معنى ذلك أنّه يصبر على قتل الاولاد و لا يصبر على سلب الاموال.
و اقول: الحرب سلب الأموال و انّما لم يصبر عليه دون الثكل: لامكان انتزاع المال و استرجاعه دون من يثكل.
و قال عليه السّلام: مودّة الآباء قرابة بين الأبناء و القرابة إلى المودّة أحوج من المودّة إلى القرابة.
فاستعار لفظ القرابة: للاتصال بين الابناء باعتبار قوّة المودّة، و فضّل المودّة على القرابة: لحاجة القرابة اليها دون العكس.
و قال عليه السّلام: اتّقوا ظنون المؤمنين، فإنّ اللّه تعالى جعل الحقّ على ألسنتهم.
و ذلك: لصفاء سرائرهم و تلقّيهم السوانح الالهية بافكارهم الصافية، و حدوسهم الصائبة فلا ينطق ألسنتهم الاّ بالحق عن امارات صادقة.
و قال عليه السّلام: لا يصدق إيمان عبد حتّى يكون بما فى يد اللّه أوثق منه بما فى يده.
فصدق الايمان، هو: اليقين التّام باللّه. و يلزمه حسن الرجاء له، و صدق التوكّل عليه و يلزمه: ان يكون بما يرزقه(1) اوثق مما فى يده.
ص: 650
و قال عليه السّلام: لأنس بن مالك، و قد كان بعثه إلى طلحة و الزبير لمّا جاء إلى البصرة يذكّر هما شيئا مما سمعه من رسول اللّه عليه و آله و سلم فى معناهما، فلوى عن ذلك، فرجع إليه، فقال (إنّى أنسيت ذلك الأمر) فقال عليه السلام: إن كنت كاذبا فضربك اللّه بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة.
(يعنى: البرص. فأصاب أنسا هذا الداء فيما بعد فى وجهه فكان لا يرى الاّ مبرقعا (1) ).
قيل: ما بعثه به هو ما سمعه من قول الرسول صلى اللّه عليه و آله لهما: أنّكما ستقاتلان عليّا و أنتما له ظالمان. و بيضاء: فى موضع جرّ بدلا من الضمير فى «بها».
و قال عليه السّلام: إنّ للقلوب إقبالا و إدبارا: فإذا أقبلت فاحملوها على النّوافل، و إذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض.
خصّ اقبالها بالنوافل: لنشاطها و اتّساعها فيه، و للفرائض دون إدبارها.
و قال عليه السّلام: و فى القرآن نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم.
فنبأ ما قبلهم: القرون الماضية. و ما بعدهم: أحوال القيامة. و حكم ما بينهم:
الاحكام الخمسة، و كيفية فصل الحكومات.
و قال عليه السّلام: ردّوا الحجر من حيث جاء، فإنّ الشّرّ لا يدفعه إلاّ الشّرّ.
كنّى بالحجر: عن الشّر و بردّه من حيث جاء: عن مقابلة الشّر بمثله، و هو مخصوص بشر لا يندفع الاّ بالشّر.
و قال عليه السّلام: لكاتبه عبيد اللّه بن أبى رافع: ألق دواتك، و أطل جلفة قلمك، و فرّج بين السّطور، و قرمط بين الحروف فإنّ ذلك أجدر بصباحة الخطّ.
ص: 651
الق دواتك: اصلحها بالمداد. و جلفة القلم: سنانه.
و قال عليه السّلام: أنا يعسوب المؤمنين، و المال يعسوب الفجّار.
قال السيد رحمه الله: و معنى ذلك أنّ المؤمنين يتبعّونني و الفجّار يتّبعون المال كما تتّبع النحل يعسوبها و هو رئيسها.
(و قال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه ؟) فقال عليه السلام له: إنّما اختلفنا عنه لا فيه، و لكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم: «اِجْعَلْ لَنٰا إِلٰهاً كَمٰا لَهُمْ آلِهَةٌ قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ »(1).
فاختلافهم عنه اى: عما جاء به من الكتاب و السنّة، لعدم معرفة جميعهم بهما لا فيه، اذ لم يشكّوا فى نبوّته و انّما لزم بنى اسرائيل الشكّ فى نبوّة موسى عليه السلام، لشكّهم فى الألة المرسل له.
(و قيل له عليه السّلام بأىّ شيء غلبت الأقران ؟) فقال عليه السلام:
ما لقيت رجلا إلاّ أعاننى على نفسه.
قال السيد - رحمه الله - يومئ بذلك الى تمكّن هيبته فى القلوب.
و قال عليه السّلام لابنه محمد بن الحنفيّة: يا بنىّ ، إنّى أخاف عليك من الفقر فاستعذ باللّه فإنّ الفقر منقصة للدّين مدهشة للعقل داعية للمقت.
فتنقيضه للدّين: باعتبار الاهتمام بأمر المعاش عنه، و ما يلزم الفقير غير الصّابر من الرذائل، و دهشة العقل به: ضيق الصّدر بسببه و الحيرة منه.
و قال عليه السّلام لسائل سأله عن معضلة: سل تفقّها، و لا تسأل تعنّتا، فإنّ الجاهل المتعلّم شبيه بالعالم، و إنّ العالم المتعسّف شبيه بالجاهل المتعنّت.
ص: 652
فالمعضلة: المشكلة. و التعنّت: طلب التعنّت و هو الأمر الشّاق. و لا تسأل تعنّتا اى:
لغير الوجه الذى ينبغي طلب العلم له، كالمجادلة و المغالبة.
(و قال عليه السّلام لعبد اللّه بن العبّاس، و قد أشار عليه فى شيء لم يوافق رأيه): لك أن تشير علىّ و أرى، فإن عصيتك فأطعنى.
روى: ان الّذى اشار عليه هو: اقرار معاوية على الشام. و تولية طلحة البصرة، و الزبير الكوفة.
(و روى أنّه عليه السلام لما ورد الكوفة قادما من صفيّن مر بالشّبامييّن فسمع بكاء النساء على قتلى صفيّن، و خرج إليه حرب بن شر حبيل الشّبامى و كان من وجوه قومه فقال عليه السلام له): أ تغلبكم نساؤكم على ما أسمع ؟ ألا تنهونهنّ عن هذا الرّنين، (و أقبل يمشى معه و هو عليه السلام راكب فقال له): ارجع فإنّ مشى مثلك مع مثلى فتنة للوالى و مذلّة للمؤمن.
شبام بالكسر: حىّ من العرب. و الفصل واضح.
و قال عليه السّلام، و قد مرّ بقتلى الخوارج يوم النهروان: بؤسا لكم، لقد ضرّكم من غرّكم، (فقيل له: من غرهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال): الشّيطان المضلّ و الأنفس الأمارة بالسّوء، غرّتهم بالأمانىّ ، و فسحت لهم بالمعاصى، و وعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النّار.
فالبؤس: الشدّة. و الاظهار اى: اظهارهم على من غالبهم. و الاقتحام الدخول بسرعة.
و قال عليه السّلام: اتّقوا معاصى اللّه فى الخلوات، فانّ الشّاهد هو الحاكم.
اراد: فان الشاهد عليكم بما تعملون، هو الذى يحكم عليكم بجزاء ذلك، و هو صغرى ضمير نفرّ به عن المعاصى.
ص: 653
و قال عليه السّلام: (لما بلغه قتل محمد بن أبى بكر): إنّ حزننا عليه على قدر سرورهم به، إلاّ أنّهم نقصوا بغيضا و نقصنا حبيبا.
اراد: سرورهم بقتله.
و قال عليه السّلام: العمر الّذى أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستّون سنة.
اعذر اليه: اتاه بالعذر، و هو: امهاله المدّة المذكورة التي تمكّنه تحصيل زاد التقوى.
و قال عليه السّلام: ما ظفر من ظفر الإثم به، و الغالب بالشّرّ مغلوب.
و اراد: ظفر الظالم لانّه مقهور بالإثم عند اللّه.
و قال عليه السّلام: إنّ اللّه سبحانه فرض فى أموال الأغنياء أقوات الفقراء: فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غنىّ ، و اللّه تعالى سائلهم عن ذلك.
و اراد: فرض الزكاة.
و قال عليه السّلام: الاستغناء عن العذر أعزّ من الصّدق به.
يريد: ان الاستغناء عن ترك الجريمة اكثر عزّة للنفس منه، و ان كان صادقا لما فيه من المذلّة.
و قال عليه السّلام: أقلّ ما يلزمكم للّه أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
و ذلك لانّ وضع النعمة لك للاستعانة بها على طاعة اللّه، فلا اقلّ من ترك المعصية معها.
و قال عليه السّلام: إنّ اللّه سبحانه جعل الطّاعة غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة.
فالاكياس: الذين استعملوا فطنتهم فيما ينبغي. و العجزة: المقصّرون عما ينبغي.
ص: 654
و قال عليه السّلام: السّلطان وزعة اللّه فى أرضه.
فالوزعة (1) : الرّادع، و اراد: السلطان العادل بقرينة اضافته الى اللّه.
و قال عليه السّلام: فى صفة المؤمن: المؤمن بشره فى وجهه، و حزنه فى قلبه، أوسع شيء صدرا، و أذلّ شيء نفسا، يكره الرّفعة، و يشنأ السّمعة، طويل غمّه، بعيد همّه كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة! نفسه أصلب من الصّلد و هو أذلّ من العبد.
اقول: عرّفه فى معرض المدح بستّة عشر وصفا. و حزنه فى قلبه، سعة الصدر:
فضيلة تحت الشجاعة. و ذلة نفسه: تواضعا للّه. و كراهته للرفعة: تنزّها عن رذيلة الكبر.
و طول غمّه: نظرا الى ما بين يديه من الموت و ما بعده بحسب ذلك كان بعد همّته فى المطالب العالية، و السعادة الباقية. و شغل وقته: بعبادة ربّه مغمور بفكرته فى ملكوت السماوات و الارض. و ضنّته بخلّته اى: لا يسرع الى صداقة احد، لقلّة اخوان الصدق، او لانقطاعه عن الخلق الى اللّه. و روى: بفتح الخاء اى: يضنّ بحاجته ان يذكرها لأحد.
و الخلّة: الحاجة، و كنّى بصلابته: عن شجاعته و قوّته فى الدين.
و قال عليه السّلام: لو رأى العبد الأجل و مصيره لأبغض الأمل و غروره.
فاستعار لفظ مسير الأجل: لسرعة انقضاء الزمان المستلزم للفناء.
و قال عليه السّلام: لكلّ امرىء فى ماله شريكان: الوارث، و الحوادث.
و قال عليه السّلام: الدّاعى بلا عمل كالرّامى بلا وتر.
اراد: من يدعو اللّه لمراده من غير وسيلة اليه من العمل له.
و قال عليه السّلام: العلم علمان: مطبوع و مسموع، و لا ينفع المسموع إذا
ص: 655
لم يكن المطبوع.
و اراد بالمطبوع: ما يعلم بطبيعة العقل من الأصول، كالتوحيد، و العدل.
و بالمسموع: العلوم الشرعيّة التي هى فرع العقليّة. و قيل: اراد بالمطبوع: العلوم الضروريّة، و بالمسموع: المكتسبة، و ظاهر انّ المكتسب لا ينتفع به الاّ أن يستند الى البرهان و مقدّماته اليقينيّة إذ التقليد غير كاف.
و قال عليه السّلام: صواب الرّأى بالدّول: يقبل باقبالها، و يذهب بذهابها.
لما كان صواب الرأى(1) بالدولة و تمامها: كان مصاحبها لها و ملازما، و يدلّ ذهابها على ذهابه: دلالة عدم المعلول على عدم العلّة.
و قال عليه السّلام: العفاف زينة الفقر، و الشّكر زينة الغنى.
و قال عليه السّلام: يوم العدل على الظّالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم!
و قال عليه السّلام: الأقاويل محفوظة، و السّرائر مبلوّة، و «كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ »(2)، و النّاس منقوصون مدخولون إلاّ من عصم اللّه: سائلهم متعنّت، و مجيبهم متكلّف، يكاد أفضلهم رأيا يردّه عن فضل رأيه الرّضا و السّخط، و يكاد أصلبهم عودا تنكؤه اللّحظة، و تستحيله الكلمة الواحدة! معاشر النّاس، اتّقوا اللّه فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، و بان ما لا يسكنه، و جامع ما سوف يتركه، و لعلّه من باطل جمعه، و من حق منعه: أصابه حراما، و احتمل به آثاما، فباء بوزره، و قدم على ربّه آسفا لاهفا، قد «خَسِرَ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ اَلْمُبِينُ »(3).
اقول: مبلوّة: مختبرة، مسئولة يوم القيامة. و مدخولون اي: فى عقولهم، دخل و علّة.
و اصلبهم عودا اى: فى دينه. و تنكؤه: تؤثّر فيه. و اراد: اللحظة و الكلمة ممّن يستهويه
ص: 656
للدنيا، و تستحيله: تغيّره. و باء: رجع. و الوزر: ثقل الآثام. و اللاّهف: المتحسّر. و الفصل واضح.
و قال عليه السّلام: من العصمة تعذّر المعاصى.
اى: من أسباب العصمة، لانّ العصمة ملكة ترك المعاصى، و قد تحصل عن تعوّد الترك لعدم الوجدان.
و قال عليه السّلام: ماء وجهك جامد يقطره السّؤال، فانظر عند من تقطره.
فاستعار لفظ ماء الوجه: للحياء. و قيل: كنّى به عن العرق، قد يعرض للسائل من الحياء عند سؤاله.
و قال عليه السّلام: الثّناء بأكثر من الاستحقاق ملق، و التّقصير عن الاستحقاق عىّ أو حسد.
فالملق: التلطّف الشديد بالقول و الإفراط فى المدح.
و قال عليه السّلام: أشدّ الذّنوب ما استهان به صاحبه.
لاستلزامه ذلك مداومته حتى يصير ملكة.
و قال عليه السّلام:
من نظر فى عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، و من رضى برزق اللّه لم يحزن على ما فاته، و من سلّ سيف البغى قتل به، و من كابد الأمور عطب، و من اقتحم اللّجج غرق، و من دخل مداخل السّوء اتّهم، و من كثر كلامه كثر خطؤه، و من كثر خطؤه قلّ حياؤه و من قلّ حياؤه قلّ ورعه، و من قلّ ورعه مات قلبه، و من مات قلبه دخل النّار، و من نظر فى عيوب النّاس فأنكرها ثمّ رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه، و من أكثر من ذكر الموت رضى من الدّنيا باليسير، و من علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه.
ص: 657
اقول: انّما يشتغل عن عيب غيره: اذا اعتبر نقصان نفسه بعيبها. و كنّى بسلّ سيف البغى: عن القتل ظلما، و هو مستلزم لمثله لوجوب المجازاة فى الطبيعة، و مكابدة الامور: مقاساتها بالنفس و هى: مظنّة العطب و الهلاك. و كنّى باللّجج: عن الامور العظام كالحروب و تدبير الدول. و بالغرق: عن الهلاك بها لانّها مظنّته. و التهمة فى الدخول مداخل السوء: لانّها مظنّة ما يتّهم به من السوء، و كثرة الخطأ فى كثرة الكلام: لانّها مظنّة. و كثرة الخطأ يستلزم قلّة الحياء: لكثرة مقابلة الناس بما يستحيى منه، و تعوّده حتى يصير خلقا. و قلّة الورع بقلّة الحياء: لانّه من الورع فنقصانه بنقصانه، و موت القلب بقلّة الورع: لانّ بالورع، و لزوم الاعمال الجميلة حياة القلب و بعدمها موته. و استعار لعدم الفضائل: لفظ الموت، و الراضى لنفسه بما ينكره من عيب غيره احمق: لمخالفته الرّأى الأصوب فى انكارها. و استلزام ذكر الموت للرضا باليسير من الدنيا: لعلمه للذاكر بعدم الانتفاع بالكثير منها. و بالحسرة اللازّمة: لمفارقته. و لزوم قلّة الكلام الاّ فيما يعنى:
للعلم بانّ الكلام من جملة العمل بدليل، هكذا الكلام من الأعمال، و الاعمال تكتب و تؤاخذ على الفضول منها ينتج أنّ الكلام يكتب و يؤاخذ على الفضول منه.
و قال عليه السّلام: للظّالم من الرّجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، و من دونه بالغلبة، و يظاهر القوم الظّلمة.
اراد بمن فوقه: خالقه و إمامه. و المظاهرة: المعاونة.
و قال عليه السّلام: عند تناهى الشّدّة تكون الفرجة، و عند تضايق حلق البلاء يكون الرّجاء.
لانّ تناهى الشدّة ان لم يستلزم الخلاص منها، لم تكن قد تناهت و قد فرضت. و كذلك استعار لفظ الحلق: للشّدائد على احاطتها بالانسان لا يجد منها مخلصا كالحلقة.
و قال عليه السّلام لبعض أصحابه: لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك و ولدك:
فان يكن أهلك و ولدك أولياء اللّه فانّ اللّه لا يضيع أولياءه، و إن يكونوا أعداء اللّه فما
ص: 658
همّك و شغلك بأعداء اللّه؟! اراد شغله بهم: صرف همّته كلّها، او اكثرها الى مصالحهم الدنيوية، و هو المنهّى عنه لصرفه عن عبادة اللّه، دون القدر الضرورىّ من ذلك.
و قال عليه السّلام: أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله.
(و هنّأ بحضرته رجل رجلا بغلام ولد له فقال له: ليهنئك الفارس فقال) عليه السلام: لا تقل ذلك، و لكن قل شكرت الواهب، و بورك لك فى الموهوب، و بلغ أشدّه، و رزقت برّه.
و هذا ارشاد الى كيفية التهنئة المندوب اليها شرعا.
(و بنى رجل من عمّاله بناء فخما) فقال عليه السلام: أطلعت الورق رءوسها إنّ البناء يصف لك الغنى.
فالفخم: العظيم. و كنّى بطلوع الورق لرءوسها: عن ظهور اثرها فى البناء.
(و قيل له عليه السّلام: لو سدّ على رجل باب بيته و ترك فيه، من أين كان يأتيه رزقه ؟) فقال عليه السلام: من حيث يأتيه أجله.
فنبّه على حيثية الرزق: بحيثية الأجل، لاشتراكهما فى مبدء واحد و هو قدرة الصانع تعالى.
و عزّى قوما عن ميّت مات لهم فقال عليه السلام: إنّ هذا الأمر ليس بكم بدأ، و لا إليكم انتهى، و قد كان صاحبكم هذا يسافر فعدّوه فى بعض أسفاره، فإن قدم عليكم و إلاّ قدمتم عليه.
عدّوه اى: افرضوه كذلك.
ص: 659
و قال عليه السّلام: أيّها النّاس، ليركم اللّه من النّعمة وجلين كما يراكم من النّقمة فرقين! إنّه من وسّع عليه فى ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا، و من ضيّق عليه فى ذات يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيّع مأمولا.
فالاستدراج: الأخذ على غرّة، و هو اشارة: الى كون النعمة بلاء يجب مقابلته بالشّكر، كما انّ النقمة بلاء يجب مقابلته بالصبر. و المأمول: الذى ضيّعه اجر الصبر على الاختيار بالفقر و ضيق ذات اليد.
و قال عليه السّلام: يا أسرى الرّغبة أقصروا، فإنّ المعرّج على الدّنيا لا يروعه منها إلاّ صريف أنياب الحدثان. أيّها النّاس، تولّوا من أنفسكم تأديبها، و اعدلوا بها عن ضراوة عاداتها.
فاستعار لفظ الأسرى: لمن ملكته رغبته فى الدنيا. و استعار لفظ صريف الأنياب:
لمقدّمات الموت من الأمراض المخوفة و نحوها. و لفظ الضراوة و هى: الجراة: على الصيد لجرأة النفس(1)! و اقدامها على العادات المضرّة فى الآخرة.
و قال عليه السّلام: لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها فى الخير محتملا.
و ذلك من مكارم الأخلاق: و داخل تحت حسن الظّن.
و قال عليه السّلام: إذا كانت لك إلى اللّه، سبحانه، حاجة فابدأ بمسألة الصّلاة على رسوله، صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ سل حاجتك فانّ اللّه أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضى إحداهما و يمنع الأخرى.
و قال عليه السّلام: من ضنّ بعرضه فليدع المراء.
اى: من بخل بعرضه لانّ المراء داعية المخاصمة و المسابّة، و اخذ العرض
ص: 660
بين المتمارين.
و قال عليه السّلام: من الخرق المعاجلة قبل الامكان و الأناة بعد الفرصة.
و الخرق: ضد الرفق، و هو التعسّف فى الامور و العجلة فيها، هى: طرف الافراط من فضيلة طلبها كما ينبغي. و الأناة: طرف التفريط، و هما مذمومان و نفرّ عنهما بكونهما من الخرق.
و قال عليه السّلام: لا تسأل عمّا لا يكون ففى الّذى قد كان لك شغل.
اى: من احكام الحوادث التي لم تقع. ففى الّذى قد كان لك شغل، اى: باستنباط مسائلها الكثيرة و احكامها الدّقيقة.
و قال عليه السّلام:
الفكر مرآة صافية، و الاعتبار منذر ناصح، و كفى أدبا لنفسك تجنّبك ما كرهته لغيرك.
فاستعار لفظ المرآة الصافية: للفكر لانتقاش الصور المعقولة، كانتقاش المرآة بالصّور المحسوسة. و لفظ المنذر الناصح: للاعتبار لصدقه فيما يفيده من اليقين بالموت و ما بعده.
و قال عليه السّلام: العلم مقرون بالعمل: فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل: فإن أجابه و إلاّ ارتحل عنه.
اى: مقرون به بمقتضى الحكمة الالهية فى كمال النفس الانسانية، لانّ العلم:
كمال القوة النظرية، و العمل: كمال القوّة العملية، و لا كمال لها بدونهما. و قوله: فمن علم عمل، اى: لزمه ان يعمل بعلمه و الاّ لم يكن علما. و قيل: لزمه بمقتضى الحكمة ان يعمل بعلمه. و استعار لفظ الهتف و هو النداء: للمعقول من طلب العلم لمقارنة العمل و جذبه الطبيعىّ الى مقارنته ليكون منهما كمال الانسان. و قوله: فان أجابه و الاّ ارتحل
ص: 661
عنه، اى: ان لم يقارنه زال لانّ العمل يؤكد العلم و يصيّره ملكة و ترك ذلك ينسيه و يستلزم الغفلة عنه، و يزول و هو المراد بالارتحال.
و قال عليه السّلام: يا أيّها النّاس، متاع الدّنيا حطام موبئ فتجنّبوا مرعاه!! قلعتها أحظى من طمأنينتها، و بلغتها أزكى من ثروتها.
حكم على مكثر بها بالفاقة، و أعين من غنى عنها بالرّاحة. و من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها، و من استشعر الشّعف بها ملأت ضميره أشجانا لهنّ رقص على سويداء قلبه. همّ يشغله و همّ يحزنه حتّى يؤخذ بكظمه فيلقى بالفضاء منقطعا أبهراه، هيّنا على اللّه فناؤه، و على الاخوان إلقاؤه، و إنّما ينظر المؤمن إلى الدّنيا بعين الاعتبار، و يقتات منها ببطن الاضطرار، و يسمع فيها بأذن المقت و الابغاض إن قيل أثرى قيل أكدى!! و إن فرح له بالبقاء حزن عليه بالفناء! هذا و لم يأتهم يوم فيه يبلسون.
اقول: استعار لفظ الحطام لمتاعها. و الموبئ: المهلك فى الآخرة، بجمعه و اقتنائه.
و لفظ مرعاه: لمحلّ تحصيله. و القلعة: الرحلة و عدم الاستقرار. و احظى: انفع، و اراد: انّ عدم الاستقرار فيها انفع من السكون اليها. و ازكى: اطهر للنفس، و من غني عنها اى:
بقناعته و زهده فيها و كمالات نفسه. و قوله: من راقه، الى قوله كمّها، اى: من اعجبته زينتها فاحبّها اعمت عين بصيرته عن ادراك ما وراءها من احوال الآخرة. و الكمه: العمى خلقة. و استشعر الشغف بها اى: اتّخذ محبّتها شعارا. و الاشجان: الهموم و الاحزان.
و الرقص: الاضطراب و الحركة. و اراد بذلك: حركة الفكر و الخيال فى الاهتمام بها و العمل لها. و الكظم: مجرى النفس، و الأخذ به: كناية عن الموت. و الابهران: عرقان متعلّقان بالقلب. و قوله: ان قيل: اثرى، الى قوله الفناء: وصف لحال الانسان فيها من تنغيص اللذّة و تكدير العيش لمعاقبة المكاره. و اكدى: قلّ خيره، و هذا من تمام الكلام الاول، و وصف حال المؤمن اعتراض بينهما. و قوله: هذا، اى: هذا البلاء و لم يأتهم يوم القيامة. و الابلاس: اليأس من الرحمة.
و قال عليه السّلام: إنّ اللّه سبحانه وضع الثّواب على طاعته، و العقاب على
ص: 662
معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، و حياشة لهم إلى جنّته.
فالزيادة: الدفع و المنع. و الحياشة: الجمع.
و قال عليه السّلام: يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه و من الإسلام إلاّ اسمه، و مساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكّانها و عمّارها شرّ أهل الأرض: منهم تخرج الفتنة، و إليهم تأوى الخطيئة، يردّون من شذّ عنها فيها، و يسوقون من تأخّر عنها إليها، يقول اللّه سبحانه: فبى حلفت لأبعثنّ إلى أولئك فتنة أترك الحليم فيها حيران و قد فعل، و نحن نستقيل اللّه عثرة الغفلة.
رسم القرآن: أثره و تلاوته. و قوله: و قد فعل: يستلزم انّه ادرك ذلك الزمان و اهله، فكيف بزماننا، و الفصل واضح.
و روى أنّه عليه السلام قلّما اعتدل به المنبر إلاّ قال أمام خطبته: أيّها النّاس، اتّقوا اللّه فما خلق امرؤ عبثا فيلهو، و لا ترك سدى فيلغو! و ما دنياه الّتى تحسّنت له بخلف من الآخرة الّتى قبّحها سوء النّظر عنده، و ما المغرور الّذى ظفر من الدّنيا بأعلى همّته كالآخر الّذى ظفر من الآخرة بأدنى سهمته.
فالسّدى: المهمل. و سهمته: نصيبه. و الفصل واضح من افصح العبارت فى تفضيل الآخرة على الدنيا.
و قال عليه السّلام: عشر كلمات:
لا شرف أعلى من الاسلام، و لا عزّ أعزّ من التّقوى، و لا معقل أحصن من الورع، و لا شفيع أنجح من التّوبة، و لا كنز أغنى من القناعة، و لا مال أذهب للفاقة من الرّضا بالقوت، و من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الرّاحة و تبوّأ خفض الدّعة، و الرّغبة مفتاح النّصب و مطيّة التّعب، و الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التّقحّم فى الذّنوب، و الشّرّ جامع مساوى العيوب.
و قال عليه السلام: لا شرف اعلى من الاسلام: و ذلك لاستلزامه شرف الدارين. و لا
ص: 663
عزّ اعزّ من التقوى: لاستلزامها دوام العزّة فيهما. و لا معقل احصن من الورع: للتحرّز به عن أشد المخاوف فى الآخرة، و من مذام الرذائل فى الدنيا و لوازمها، و الورع: لزوم الاعمال الجميلة، و المعقل: الحصن. و لا شفيع انجح من التوبة: لاستلزامها العفو عن المجرم جرما دون سائر الشفعاء. و لا كنز أغنى من القناعة: لانّها غنى النفس الذى لا حاجة معه. و لا مال اذهب للفاقة من الرضا بالقوت: و هو القناعة او لازمها. و من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، اى: البلغة التي تكف عن الناس، و انتظم الراحة: دخل فى سلكها.
و تبّوأ خفض الدعة: اتّخذ لين الراحة مباءة و مقاما. و الرغبة مفتاح النصب و مطيّة التعب: فاستعار لفظ المفتاح و المطيّة: للرغبة فى الدنيا، لكونهما سببا للمتاعب فيها.
و الحرص و الكبر و الحسد، دواع الى التقّحم فى الذنوب، اى: الدخول فيها بسرعة. و الشرّ جامع مساوئ العيوب: لصدقه على جميعها كالجنس لها.
و قال عليه السّلام: لجابر بن عبد اللّه الأنصارىّ : يا جابر، قوام الدّنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، و جاهل لا يستنكف أن يتعلّم، و جواد لا يبخل بمعروفه، و فقير لا يبيع آخرته بدنياه، فاذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم، و إذا بخل الغنىّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه. يا جابر، من كثرت نعم اللّه عليه كثرت حوائج النّاس إليه، فمن قام للّه فيها بما يجب فيها عرّضها للدّوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزّوال و الفناء.
فاستعمال علمه: عمله على وفقه. و اشار بقوله: عالم، الى قوله: بدنياه الى ما به قوام الناس و صلاح حالهم فى معاشهم، و معادهم من الفضائل. و الى ضدّ ذلك المستلزم حالهم من الرذائل، و قيام العبد بما يجب للّه فى نعمته عليه الشكر عليها و صرفها فى مصارفها الشرعيّة، و عدم قيامه فيها بذلك كفواتها و منعها عن وجوهها.
و روى ابن جرير الطبرىّ فى تأريخه عن عبد الرّحمن بن أبى ليلى الفقيه - و كان ممّن خرج لقتال الحجّاج مع آبن الأشعث - أنّه قال فيما كان يحضّ به الناس على الجهاد: إنى سمعت أمير المؤمنين على بن ابى طالب عليه السلام يقول يوم لقينا
ص: 664
أهل الشّام:
أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و برىء، و من أنكره بلسانه فقد أجر و هو أفضل من صاحبه و من أنكره بالسّيف لتكون «كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا» و كلمة الظّالمين هى السّفلى فذلك الّذى أصاب سبيل الهدى، و قام على الطّريق، و نوّر فى قلبه اليقين.(1)
و قد قال فى كلام له - عليه السلام - غير هذا يجرى هذا المجرى.
فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه فذلك المستكمل لخصال الخير، و منهم المنكر بلسانه و قلبه و التّارك بيده فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير و مضيّع خصلة، و منهم المنكر بقلبه و التّارك بيده و لسانه فذلك الّذى ضيّع أشرف الخصلتين من الثّلاث و تمسّك بواحدة، و منهم تارك لانكار المنكر بلسانه و قلبه و يده فذلك ميّت الأحياء. و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد فى سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر إلاّ كنفثة فى بحر لجّىّ ، و إنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر.
اقول: الضمير فى «انّه قال» راجع الى ابن الاشعث. و سلم: برئ من الإثم. و اشار بقوله: ليكون «كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا»، الى شرط اصابته سبيل الهدى دون عرض آخر فى انكار المنكر. و استعار لفظ الميّت: لتارك الأمر بالمعروف مطلقا باعتبار خلوّه عن جميع خصال الخير التي يستلزمها. و وجه شبه اعمال البرّ: بالنفثة كون اعمال البرّ خزينة تحت الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و داخلة فيهما و قليلة جدا بالنّسبة اليهما كالنفثة فى البحر.
(و عن أبى جحيفة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول) أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثمّ بألسنتكم ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا
ص: 665
و لم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله و أسفله أعلاه.
و معنى عليهم على الجهاد بقلوبهم: انّهم اذا غلبوا عنه بأيديهم و ألسنتهم الفوا المنكر، و اعتادوا الانقهار عن انكاره فزال من قلوبهم، و لم يبق لها انكاره، و استعار وصف القلب: لانتكاس عقله فى مهاوى الرذائل.
و قال عليه السّلام: إنّ الحقّ ثقيل مرىء، و إنّ الباطل خفيف وبىء.
اى: مهلك عند اللّه.
و قال عليه السّلام: لا تأمننّ على خير هذه الأمّة عذاب اللّه لقوله تعالى:
«فَلاٰ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخٰاسِرُونَ » (1) و لا تيأسنّ لشرّ هذه الأمّة من روح اللّه لقوله تعالى «إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ »(2).
فاستعار لفظ المكر لامهال اللّه، ثم اخذه على غرّة و هو: صورة مكر و خداع.
و قال عليه السّلام: البخيل جامع لمساوى العيوب، و هو زمام يقاد به إلى كلّ سوء.
و ذلك لانّه يستلزم الجهل بمواضع بذل المال و وضعه فيها. و الفجور: العبور فى تحصيله عن فضيلة شهوته و هى العفّة الى طرف الافراط و الجبن، لانّ البخيل بماله أبخل بنفسه. و الظلم و الانظلام و هو ظاهر، و هذه الرذائل الاربع امهات العيوب و الرذائل، و تحتها رذائل كثيرة كالانواع لها كالحرص، و الحسد و الكذب و الشّره و دناءة الهمّة و الغدر و الخيانة و قطع الرحم و عدم المواساة، و كلها لوازم البخل و توابعه، و الاستقراء يحقّق صدقه عليه السلام.
و قال عليه السّلام: الرّزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك فان لم تأته أتاك، فلا تحمل همّ سنتك على همّ يومك! كفاك كلّ يوم على ما فيه، فان تكن السّنة من عمرك فانّ اللّه تعالى جدّه سيؤتيك فى كلّ غد جديد ما قسم لك، و إن لم تكن السّنة
ص: 666
من عمرك فما تصنع بالهمّ بما ليس لك، و لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن يغلبك عليه غالب، و لن يبطىء عنك ما قد قدّر لك.
و قد مضى هذا الكلام فيما تقدّم من هذا الباب الاّ انّه هاهنا اوضح و اشرح، فلذلك كرّرناه على القاعدة المقررة فى اوّل الكتاب. قوله: فيه، اى: فى يومك. و الفصل واضح، و قد سبق مثله شرحا.
و قال عليه السّلام: ربّ مستقبل يوما ليس بمستدبره، و مغبوط فى أوّل ليله قامت بواكيه فى آخره.
و قال عليه السّلام: الكلام فى وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك و ورقك، فربّ كلمة سلبت نعمة و جلبت نقمة.
فالوثاق: الحبل. و لفظه مستعار.
و قال عليه السّلام: لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كلّ ما تعلم فإنّ اللّه فرض على جوارحك كلّها فرائض يحتجّ بها عليك يوم القيامة.
اراد فرض عليك فى جوارحك: لانّ الانسان هو المكلّف بالفرض.
و قال عليه السّلام: احذر أن يراك اللّه عند معصيته و يفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين، و إذا قويت فاقو على طاعة اللّه، و إذا ضعفت فاضعف عن معصية اللّه.
و هو ظاهر.
و قال عليه السّلام الرّكون إلى الدّنيا مع ما تعاين منها جهل، و التّقصير فى حسن العمل إذا وثقت
ص: 667
بالثّواب عليه غبن، و الطّمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار عجز.
اراد بما تعاين منها من التغيّر و الزوال، و جهله بما ينبغي له مع ذلك من الحذر و الاستعداد للامور الثابتة الباقية فى الآخرة. و التقصير فى حسن العمل: غبن، لانّه ترك خير كثير لعمل يسير، و العجز فى الطمأنينة الى كلّ أحد، اى: عن البحث عمّن ينبغي السكون اليه و النفرة عنه.
و قال عليه السّلام: من هوان الدّنيا على اللّه أنّه لا يعصى إلاّ فيها، و لا ينال ما عنده إلاّ بتركها.
و قال عليه السّلام: من طلب شيئا ناله أو بعضه.
اى: غالبا و فى المعتاد.
و قال عليه السّلام: ما خير بخير بعده النّار، و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة، و كلّ نعيم دون الجنّة فهو محقور، و كلّ بلاء دون النّار عافية.
اراد: ما خير بعده النار يستحق ان يسمّى خيرا، و ما شرّ بعده الجنة ينبغي ان يعدّ شرّا.
و قال عليه السّلام: ألا و إنّ من البلاء الفاقة، و أشدّ من الفاقة مرض البدن، و أشدّ من مرض البدن مرض القلب. ألا و إنّ من النّعم سعة المال و أفضل من سعة المال صحّة البدن، و أفضل من صحّة البدن تقوى القلب.
فالتفاوت بين مرض البدن، و مرض القلب: بالرذائل بالشدّة و الضعف بحسب تفاوت غايتهما، و هو الموت المحسوس و الموت المعقول: و ما يلزمهما من الشدّة و العذاب و ما يفوت بسببهما من العاقبة و الحسّية العقلية(1).
ص: 668
و قال عليه السّلام: للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجى فيها ربّه، و ساعة يرمّ معاشه، و ساعة يخلّى بين نفسه و بين لذّتها فيما يحلّ و يجمل و ليس للعاقل أن يكون شاخصا إلاّ فى ثلاث: مرمّة لمعاش، أو خطوة فى معاد، أو لذّة في غير محرّم.
قسم زمان المؤمن الى اقسامه الثلاثة التي ينبغي له بحسب مقتضى الحكمة العملية. و رمّ المعاش: اصلاحه و يجمل: يحسن. و الشّاخص: الذاهب من بلد الى بلد.
و قال عليه السّلام: ازهد فى الدّنيا يبصّرك اللّه عوراتها، و لا تغفل فلست بمغفول عنك! الزهد فى الشيء مستلزم لادراك عيوبه: لانّ حبّك الشيء يعمى و يصمّ .
و قال عليه السّلام: تكلّموا تعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه.
و قد مرّ مفسّرا.
و قال عليه السّلام: خذ من الدّنيا ما أتاك، و تولّ عمّا تولّى عنك فإن أنت لم تفعل فأجمل فى الطّلب.
فامر بالقناعة(1) ثم بالاجمال فى طلب الدنيا ان لم يكن القناعة و هو طلبها من الوجه الذى ينبغي، و على الوجه الجميل الّذى ينبغي.
و قال عليه السّلام: ربّ قول أنفذ من صول.
اى: قد يبلغ الانسان بالقول ما لا يبلغه بالشدّة و الصولة، فيكون القول انفذ فى غرضه، و يضرب مثلا للرفق و اللين الذى يبلغ به ما لا يبلغ بالعنف(2).
و قال عليه السّلام: كلّ مقتصر عليه كاف.
ص: 669
اى: مما يمكن الاقتصار عليه، و فيه جذب الى القناعة.
و قال عليه السّلام:
المنيّة و لا الدّنيّة! و التّقلّل و لا التّوسل، و من لم يعط قاعدا لم يعط قائما. و الدّهر يومان: يوم لك، و يوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، و إذا كان عليك فاصبر! و قال عليه السلام: المنيّة و لا الدنيّة، اى: تحتمل المنيّة و لا تحتمل الدنيّة. و قيل:
المنيّة مبتدأ دلّعلى خبره، قوله و لا الدنيّة، اى: اسهل من ركوب الدنيّة، و هى:
الأمر الخسيس يرتكب فى طلب الدنيا. و التقلّل و لا التوسل اى: الى اهل الدنيا فى طلبها. و من لم يعط قاعدا لم يعط قائما، فكنّى بالقعود عن: الطلب السهل، و بالقيام عن:
التعسّف فى الطلب، اى: من لم يرزق بالطلب السهل لم ينفعه التّشديد، و التعسّف فى طلبه، و الحكم اكثرىّ . و قيل: اراد من لم يرزق الشيء فى نفس الامر لم تنفعه الحركة فيه. و الدهر يومان، يوم لك، و يوم عليك، فاذا كان لك فلا تبطر، و اذا كان عليك فاصبر. و البطر: تجاوز الحدّ.
و قال عليه السّلام: مقاربة النّاس فى أخلاقهم أمن من غوائلهم.
اى: يستلزم الأمن منها. و الغائلة: الحقد.
و قال عليه السّلام: لبعض مخاطبيه - و قد تكلم بكلمة يستصغر مثله عن قول مثلها -: لقد طرت شكيرا، و هدرت سقبا.
قال السيد رحمه اللّه: و الشّكير هاهنا: اوّل ما ينبت من ريش الطّائر قبل ان يقوى و يستحصف. و السّقب: الصغير من الإبل و لا يهدر الاّ بعد أن يستفحل.
و اقول: الشكير هو الفرخ قبل النهوض، و استعار لفظى الشكير، و السقب: باعتبار صغر قدره عمّا تكلّم به. و وصف الطيران و الهدير له: باعتبار نهوضه الى كلام ليس من شأنه.
ص: 670
و قال عليه السّلام: من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل.
اراد بالمتفاوت التي يتعذّر اجتماعها و يضعف الوسع عن تحصيلها فى العادة. و استعار وصف الخذلان لعدم مواتاة الحيل له فيما يرومه من ذلك.
و قال عليه السّلام: و قد سئل عن معنى قولهم «لا حول و «لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ »» - إنّا لا نملك مع اللّه شيئا، و لا نملك إلاّ ما ملّكنا فمتى ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا و متى أخذه منّا وضع تكليفه عنّا.
و قال عليه السّلام لعمّار بن ياسر - رحمه الله -، و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما: دعه يا عمّار، فإنّه لم يأخذ من الدّين إلاّ ما قاربه من الدّنيا، و على عمد لبّس على نفسه ليجعل الشّبهات عاذرا لسقطاته.
اراد انّه لا يعمل من الدّين الاّ بما يستلزم دنيا و يقرب منها. و سقطاته زلاّته.
و قال عليه السّلام: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند اللّه! و أحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالا على اللّه.
و فيه تنبيه على انّ التيه له موضع يحسن فيه.
و قال عليه السّلام: ما استودع اللّه امرأ عقلا إلاّ استنقذه به يوما مّا! اى: يكون سببا لخلاصه من بلاء دنيوىّ و اخروىّ .
و قال عليه السّلام: من صارع الحقّ صرعه.
فمصارعة الحق: مغالبته، و مقاومته، و الحقّ اكثر اعوانا و اعزّ انصارا.
و قال عليه السّلام: القلب مصحف البصر.
فاستعار لفظ المصحف: للقلب باعتبار انتقاشه بصور ما ينبغي التكلّم به فى لوح
ص: 671
الخيال، و ادراك الحسّ المشترك له من باطن فهو كالمصحف يقرأ منه.
و قال عليه السّلام: التّقى رئيس الأخلاق.
لأفضليتّه على جميعها باستلزامه السعادة الابديّة دون كلّ فرد فرد منها.
و قال عليه السّلام: لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك، و بلاغة قولك على من سدّدك.
و هو كالمثل يضرب لمن يحصل من الانسان علما او ادبا، فيستعين بذلك على مخاصمته. ذرب اللسان: حدّته.
و قال عليه السّلام: كفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك.
اراد بما يكرهه من غيره من الرذائل، و اجتنابها نعم الأدب، و نفرّ عنها بكونها مكروهة له.
و قال عليه السّلام: من صبر صبر الأحرار، و إلاّ سلا سلوّ الأغمار.
و فى خبر آخر أنّه - عليه السلام - قال للأشعث بن قيس معزّيا:
إن صبرت صبر الأكارم، و إلاّ سلوت سلوّ البهائم.
و الاغمار جمع غمر: و هو الجاهل.
و قال عليه السّلام: فى صفة الدنيا: تغرّ و تضرّ و تمرّ. إنّ اللّه تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه، و لا عقابا لأعدائه، و إنّ أهل الدّنيا كركب بيناهم حلّوا إذ صاح سائقهم فارتحلوا.
اراد تضرّ لمحبتها، و تغرّ بزينتها، و تمرّ بفراقها من المرارة.
و قال لابنه الحسن عليه السلام: لا تخلّفنّ وراءك شيئا من الدّنيا، فإنّك
ص: 672
تخلّفه لأحد رجلين: إمّا رجل عمل فيه بطاعة اللّه فسعد بما شقيت به، و إمّا رجل عمل فيه بمعصية اللّه فكنت عونا له على معصيته، و ليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك. (و يروى هذا الكلام على وجه آخر و هو) أمّا بعد، فإنّ الّذى فى يدك من الدّنيا قد كان له أهل قبلك، و هو صائر إلى أهل بعدك، و إنّما أنت جامع لأحد رجلين: رجل عمل فيما جمعته بطاعة اللّه فيه فسعد بما شقيت به: أو رجل عمل فيه بمعصية اللّه فشقي بما جمعت له، و ليس أحد هذين أهلا أن تؤثره على نفسك و لا أن تحمل له على ظهرك فارج لمن قد مضى رحمة اللّه، و لمن بقى رزق اللّه. و يروى هذا الكلام على وجه آخر و هو:
امّا بعد: فإن الذى فى يديك من الدنيا...
و الفصل من أحسن الآداب فى بذل المال.
و قال عليه السّلام (لقائل قال بحضرته «أستغفر اللّه») ثكلتك أمّك أ تدرى ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيّين، و هو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، و الثّانى: العزم على ترك العود إليه أبدا، و الثّالث: أن تؤدّى إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللّه أملس ليس عليك تبعة، و الرّابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّى حقّها، و الخامس: أن تعمد إلى اللّحم الّذى نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد، و السّادس: أن تذيق الجسم ألم الطّاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: «أستغفر اللّه».
اقول: لمّا كان الاستغفار هو طلب المغفرة، و كان الطلب بدون التّوبة و العمل للمطلوب حمقا كما اشار اليه فيما قبل، كانت الأمور المذكورة من اللوازم التي ينبغي للاستغفار فعبّر بها عنه. و استعار لفظ الأملس: لنقّى الصحيفة من الإثم.
و قال عليه السّلام: الحلم عشيرة.
فاستعار لفظ العشيرة: باعتبار انّه يحمى صاحبه و يجنبه الأذى ممّن ينافره و يعاديه.
ص: 673
و قال عليه السّلام: مسكين ابن آدم: مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقّة، و تقتله الشّرقة، و تنتنه العرقة.
فالعلل الأمراض و الأعراض و الصفات المذكورة: وجوه المسكنة و الضعف.
(و روى أنّه عليه السلام كان جالسا فى أصحابه، فمّرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم) فقال عليه السلام: إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، و إنّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله: فإنّما هى امرأة كامرأة، (فقال رجل من الخوارج «قاتله اللّه كافرا ما أفقهه «فوثب القوم ليقتلوه،،) فقال عليه السلام:
رويدا إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب! و الرمق: النظر. و طموح البصر: ارتفاعه. و الهبيب، و الهباب: صوت التّيس عند هياجه. و الكلام واضح.
و قال عليه السّلام: كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رشدك.
فاشار الى غاية العقل العملىّ .
و قال عليه السّلام: افعلوا الخير و لا تحقروا منه شيئا فإنّ صغيره كبير و قليله كثير، و لا يقولنّ أحدكم إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّى فيكون و اللّه كذلك. إنّ للخير و الشّرّ أهلا فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهله.
قوله: فيكون و اللّه كذلك لانّ ذلك القول من التارك ربّما يكون باعثا لمن توسّم فيه فعل الخير. و نسبه اليه فيصدق قوله، و ظنّه بفعله فيكون اولى به منه.
و قال عليه السّلام: من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، و من عمل لدينه كفاه اللّه أمر دنياه، و من أحسن فيما بينه و بين اللّه كفاه اللّه ما بينه و بين النّاس.
لأنّ احوال الظاهرة كالثّمرات و الآثار للأحوال الباطنة، و صلاحها، و فسادها تابعان لصلاح الباطن و فساده.
ص: 674
و قال عليه السّلام: الحلم غطاء ساتر، و العقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، و قاتل هواك بعقلك.
فاستعار لفظ الغطاء: للحلم لستره رذائل الاخلاق. و لفظ الحسام: للعقل لقهر النفس الامّارة(1) به.
و قال عليه السّلام: إنّ للّه عبادا يختصّهم بالنّعم لمنافع العباد فيقرّها فى أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم ثمّ حوّلها إلى غيرهم.
و قال عليه السّلام: لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية، و الغنى، بينا تراه معافى إذ سقم، و بينا تراه غنيّا إذ افتقر.
نفرّ عن الثقة بهما، لاستلزامها الغفلة عن الآخرة بضمير صغراه، قوله بينا تراه الى آخره.
و قال عليه السّلام: من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنّه شكاها إلى اللّه، و من شكاها إلى كافر فكأنّما شكا اللّه.
و ذلك انّ المؤمن حبيب اللّه فالشّكاية اليه كالشكاية الى اللّه، و هو فى معرض ان يكون وسيلة الى اللّه فى قضاء الحاجة. و الكافر عدوّ اللّه فالشكاية اليه تشبه شكاية اللّه الى عدوّه، اذ هو مبدأ الحاجة و الغنى.
و قال عليه السّلام فى بعض الأعياد: إنّما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه و شكر قيامه، و كلّ يوم لا يعصى اللّه فيه فهو عيد.
و قال عليه السّلام: إنّ أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل كسب مالا
ص: 675
فى غير طاعة اللّه فورثه رجل فأنفقه فى طاعة اللّه سبحانه فدخل به الجنّة و دخل الأوّل به النّار.
كون ذلك اعظم الحسرات لعدم انتفاعه بماله و عذابه فى الآخرة و مشاهدته(1)لانتفاع غيره به.
و قال عليه السّلام: إنّ أخسر النّاس صفقة، و أخيبهم سعيا رجل أخلق بدنه فى طلب ماله، و لم تساعده المقادير على إرادته، فخرج من الدّنيا بحسرته، و قدم على الآخرة بتبعته.
و تبعته: آثامه التي يطلب بها، و يتبّع فيها.
و قال عليه السّلام: الرّزق رزقان: طالب، و مطلوب، فمن طلب الدّنيا طلبه الموت حتّى يخرجه عنها، و من طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتّى يستوفى رزقه منها.
فاستعار لفظ الطالب للرزق لانّه لا بدّ من وصوله، فأشبه الطالب لصاحبه.
و قال عليه السّلام: إنّ أولياء اللّه هم الّذين نظروا إلى باطن الدّنيا إذا نظر النّاس إلى ظاهرها، و اشتغلوا بآجلها إذا اشتغل النّاس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، و تركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم و رأوا استكثار غيرهم منها استقلالا، و دركهم لها فوتا، أعداء ما سالم النّاس و سلم ما عادى النّاس! بهم علم الكتاب و به علموا و بهم قام الكتاب و هم به قاموا، لا يرون مرجوّا فوق ما يرجون و لا مخوفا فوق ما يخافون.
فميّز اولياء اللّه بعشر صفات. و باطن الدنيا: حقيقتها. و عرض الحكمة الالهية فيها، و آجلها: ثواب العمل فيها الموعود فى الآخرة. و ما اماتوا منها هو: نفوسهم الامّارة التي خافوا ان تغلب نفوسهم المطمئنّة فتهلكها، و استقلالا اى: من الخير الّذى ينبغي طلبه و فوتا له. و ما سالم الناس هو، الدنيا، و ما عادوه هى: الآخرة، و به علموا: لاشتهارهم
ص: 676
به، و قاموا اى: بما امرهم به.
و قال عليه السّلام: اذكروا انقطاع اللّذّات، و بقاء التّبعات.
و قال عليه السّلام: اخبر تقله.
قال السيّد رحمه الله: و من الناس من يروي هذا للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و ممّا يقوى أنّه من كلام امير المؤمنين عليه السلام ما حكاه ثعلب عن ابن الاعرابي، قال المأمون: لو لا أنّ عليّا قال «اخبر تقله» لقلت: اقله تخبر.
و قلاه: يقليه، و قليه يقلاء: ابغضه. و الهاء مزيدة للسكت و هو: كالمثل يضرب لاستلزام اختبار الناس بعضهم، و اجتنابهم لما هم عليه من الرذائل و ما ينكشفون عنه من قبح البواطن.
و قال عليه السّلام: ما كان اللّه ليفتح على عبد باب الشّكر و يغلق عنه باب الزّيادة، و لا ليفتح على عبد باب الدّعاء و يغلق عنه باب الإجابة و لا ليفتح لعبد باب التّوبة و يغلق عنه باب المغفرة.
فاشار الى استلزام امور ثلاثة، لأمور ثلاثة و تصديقها من القرآن الكريم.
و سئل عليه السّلام: أيما افضل: العدل، أو الجود؟ فقال عليه السلام: العدل يضع الأمور مواضعها، و الجود يخرجها من جهتها، و العدل سائس عامّ ، و الجود عارض خاصّ ، فالعدل أشرفهما و أفضلهما.
و قال عليه السّلام: النّاس أعداء ما جهلوا.
و قد مرّ بيانه.
و قال عليه السّلام: الزّهد كلّه بين كلمتين من القرآن: قال اللّه سبحانه.
ص: 677
«لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ » (1) و من لم يأس على الماضى و لم يفرح بالآتى، فقد أخذ الزّهد بطرفيه.
اقول: الاعراض عن الدنيا: بترك الأسف عليها، و الفرح بها فى قوّة خاصّة مركّبة تلزم الزهد عرّفه بها. و كنّى بأخذ الزهد بطرفيه عن استكماله بمبدئه و غايته.
و قال عليه السّلام: الولايات مضامير الرّجال.
فاستعار لفظ المضامير و هى: الأمكنة التي يضمر فيها الخيل للسباق: للولايات لانّها مظنّة معرفة خيرهم من شرّهم.
و قال عليه السّلام: ما أنقض النّوم لعزائم اليوم.
و هو كالمثل يضرب: لمن يعزم على امر فيغفل عنه، او يتهاون فيه حتّى ينتقض عزمه عليه، و اصله انّ الرجل ينوى السير ليلا ليتوفّر فى نهاره على مسيره، فيغلبه النوم الى الصباح فيفوت وقت العزم و ينتقض فى يومه.
و قال عليه السّلام: ليس بلد بأحقّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك.
اى: ما حمل مؤنتك و قام بها.
و قال عليه السّلام: (و قد جاءه نعى الأشتر رحمه اللّه:) مالك و ما مالك لو كان جبلا لكان فندا لا يرتقيه الحافر، و لا يوفى عليه الطّائر.
[قال السيد رحمه الله: و الفند: المنفرد من الجبال] (و مالك مبتدأ او فاعل اى:
مات مالك. و ما استفهاميّة فى معرض التعجّب من مالك رحمه اللّه، و قوّته فى الدّين.
و استعار لفظ «الفند» له: لقوّة بأسه و عدم انفعاله عن العدوّ، و اراد: انّه لو كان جبلا لكان منفردا من الجبال(2) مستقلاّ فى علوّه و رفعته.
ص: 678
و قال عليه السّلام: قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه.
اى: من الامور الّتى ينبغي ان تفعل.
و قال عليه السّلام: إذا كان فى رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها.
و الرائقة: المعجبة اى: اذا كان فيه خلق فاضل، فانّ طبعه مظنّة ان يكون فيه امثاله فيتوقّع منه.
(و قال عليه السّلام لغالب بن صعصعة أبى الفرزدق فى كلام دار بينهما:) ما فعلت إبلك الكثيرة ؟ قال: ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: ذلك أحمد سبلها.
فذعتها بالذال المعجمة مكررة: فرّقتها.
و قال عليه السّلام: من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم فى الرّبا.
ارتطم فى الوحل و نحوه: وقع فيه فلم يتمكّن الخلاص. و استعار لفظه: للتاجر الجاهل لوقوعه فى الربا.
و قال عليه السّلام: من عظّم صغار المصائب ابتلاه اللّه بكبارها.
لاستعداده بتضجّره و تسخّطه من قضاء اللّه لزيادة البلاء.
و قال عليه السّلام: من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته.
لعداوتهما و تضادّ كماليهما.
و قال عليه السّلام: ما مزح امرؤ مزحة إلاّ مجّ من عقله مجّة.
فاستعار لفظ المجّة لما انتقص من العقل العملىّ بالمزاح غير المعتدل، فانّه يخالف الرأى الأصلح و هو يؤذن بنقصان الرأى المؤذن بنقصان العقل.
ص: 679
و قال عليه السّلام: زهدك فى راغب فيك نقصان حظّ، و رغبتك فى زاهد فيك ذلّ نفس.
و هو ظاهر.
و قال عليه السّلام: ما لابن آدم و الفخر: أوّله نطفة. و آخره جيفة، لا يرزق نفسه، و لا يدفع حتفه.
و قد مرّ مثله.
و قال عليه السّلام: الغنى و الفقر بعد العرض على اللّه.
فالغنى الحقيقىّ بالثواب، و الفقر بعدمه فى الآخرة.
(و سئل عليه السّلام عن أشعر الشعراء؟) فقال عليه السلام: إنّ القوم لم يجروا فى حلبة تعرف الغاية عند قصبتها، فإن كان و لا بدّ فالملك الضّلّيل (يريد امرؤ القيس).
اراد انّهم لم يقولوا الشّعر على نهج واحد، حتى تفاضل بينهم، بل لكلّ منهم خاصة يجيد فيها، و تنبعث فيها قريحته، فواحد فى الرغبة و آخر فى الرهبة. و لذلك قيل:
اشعر العرب امرؤ القيس اذا ركب، و الأعشى اذا رغب. و النابغة اذا رهب. و استعار لفظ الحلبة و هى: القطعة من الخيل يقرن للسباق للطريقة الواحدة. و انّما حكم لامرئ القيس بذلك لجودة شعره فى اكثر حالاته. و سمّى ضلّيلا: لقوّة ضلالته و فسقه.
و قال عليه السّلام: ألا حرّ يدع هذه اللّماظة لأهلها؟ إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها.
فاللماظة بضمّ اللام: بقيّة الطعام فى الفم، و استعار لفظها: للدنيا لحقارتها الى تركها، و ثمن النفوس: الجنّة فى قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ »(1) الآية.
ص: 680
و قال عليه السّلام: علامة الإيمان أن تؤثر الصّدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك و أن لا يكون فى حديثك فضل عن عملك و أن تتّقى اللّه فى حديث غيرك.
اراد بحديث غيره الحديث فى عرضه بغيبة أو سماعها. و قيل: اراد ان يحتاط فى الرواية فلا يروى كذبا.
و قال عليه السّلام: يغلب المقدار على التّقدير حتّى تكون الآفة فى التّدبير.
(و قد مضى هذا الكلام فيما تقدّم برواية تخالف هذه الرواية.) و المقدار: القدر، و التقدير تقدير العبد لنفسه و تدبيرها لها، و ذلك للجهل باسرار القدر فربّما ظنّ ما هو آفة و سبب للهلاك مصلحة. و قد سبق شرحه.
و قال عليه السّلام: الحلم و الأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة.
لانهما فضيلتان تحت علوّ الهمة من فضائل القوّة الغضبيّة تحت الشجاعة. و استعار لها لفظ (التوءمان): لكونهما متلازمين فى مرتبة واحدة.
و قال عليه السّلام: الغيبة جهد العاجز.
لأنها اكثر ما تصدر عمّن لا يقدر على الانتقام فيعدل اليها.
و قال عليه السّلام: ربّ مفتون بحسن القول فيه.
اى: مبتلى بذلك ليعلم شكره من كفره.
و قال عليه السّلام: الدّنيا خلقت لغيرها، و لم تخلق لنفسها.
اى: للاستعداد فيها لثواب الآخرة.
و قال عليه السّلام: إنّ لبنى أميّة مرودا يجزون فيه، و لو قد اختلفوا فيما
ص: 681
بينهم ثمّ كادتهم الضّباع لغلبتهم.
قال السيد الرضى - رحمه الله -: و المرود هنا مفعل من الإرواد، و هو الامهال و الانظار، و هذا من أفصح الكلام و اغربه، فكأنه عليه السلام شبه المهله التي هم فيها بالمضمار الذين يجرون فيه الى الغايه، فاذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها.
و اقول: استعار لفظ المرود: لمدّة دولتهم. و قد استعار لفظ الضباع: للاسقاط و الاراذل(1).
و قال عليه السّلام: فى مدح الأنصار: هم و اللّه ربّوا الاسلام كما يربّى الفلو مع غنائهم بأيديهم السّباط و ألسنتهم السّلاط.
الفلو: المهر، و السباط: السّماح. و يقال: للحاذق فى الطعن انّه لبسط اليدين اى:
انّه ثقيف. و السلاط: الحداد الفصيحة. و وجه الشبه بتربية الفلو: حسن الرعاية له و القيام فيه.
و قال عليه السّلام: العين و كاء السّه.
قال السيد الرضي: و هذه من الاستعارات العجيبه، كأنه يشبه السه بالوعاء، و العين بالوكاء، فاذا اطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء، و هذا القول فى الاشهر الأظهر من كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و قد رواه قوم لأمير المؤمنين عليه السلام، و ذكر ذلك المبرد فى كتاب «المقتضب» فى باب «اللفظ بالحروف» و قد تكلمنا على هذه الاستعاره فى كتابنا الموسوم «مجازات الآثار النبويه».
اقول: انّه استعار لفظ الوكاء و هو رباط القربة: باعتبار حفظ الانسان لنفسه فى يقظته ان يخرج ريح و نحوها كما يحفظ الوكاء.
و قال عليه السّلام: فى كلام له: و وليهم و ال فأقام و استقام، حتّى ضرب الدّين بجرانه.
ص: 682
و الكلام من خطبة طويلة له ايّام خلافته، ذكر فيها قربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اختصاصه به الى ان قال (فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلا منهم فقارب و سدّد حسب استطاعته على ضعف و جدّ كانا فيه. ثم وليهم بعده وال فاقام و استقام حتى ضرب الدّين بجرانه على عسف، و عجز، كانا فيه. ثم استخلفوا ثالثا لم يكن يملك امر نفسه شيئا غلب عليه اهله فقادوه الى اهوائهم كما يقود الوليدة البعير المحطوم. و لم يزل الأمر بينه و بين الناس يبعد تارة، و يقرب اخرى حتى نزلوا عليه فقتلوه. ثم جاءوا فى مدبّ الدّبا يريدون بيعتى). فى كلام طويل.
و الجران: مقدّم عنق البعير، و ضربه بجرانه: كناية عن استقراره، كناية بالوصف المستعار.
و قال عليه السّلام: يأتي على النّاس زمان عضوض يعضّ الموسر فيه على ما فى يديه و لم يؤمر بذلك، قال اللّه سبحانه: «وَ لاٰ تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ »(1) تنهد فيه الأشرار و تستذلّ فيه الأخيار، و يبايع المضطرّون و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المضطرّين.
فاستعار لفظ العضوض: لشدّته، و عضّ الموسر على ما فى يديه: كناية عن بخله.
و تنهد: ترتفع.
و قال عليه السّلام: يهلك فىّ رجلان: محبّ مطر، و باهت مفتر.
قال السيد الرضي: و هذا مثل قوله (ع) يهلك فى رجلان محبّ غال و مبغض قال و المطرى: كثير المدح كالغلاة. و الباهت له: المفترى عليه كالخوارج.
و سئل عن التوحيد و العدل فقال عليه السلام: التّوحيد أن لا تتوهّمه، و العدل أن لا تتّهمه.
لأن غاية التوحيد ان يحذف عنه تعالى كلّ امر اثبته الوهم كما نقل عن الباقر عليه السلام: (فكلّ ما ميزتموه باوهامكم فهو مخلوق مثلكم مردود عليكم) كما مرّ بيانه
ص: 683
فى الخطبة الأولى. و المراد من العدل: اعتقاد جريان العدل فى جميع افعاله تعالى و اقواله، فلا يفعل قبيحا و لا يخلّ بواجب و لا يتوهّم(1) بهما.
و قال عليه السّلام: لا خير فى الصّمت عن الحكم، كما أنّه لا خير فى القول بالجهل.
فالحكم: الحكمة، و قد مرّ مثله.
و قال عليه السّلام: فى دعاء استسقى به: اللّهمّ اسقنا ذلل السّحاب دون صعابها.
قال السيد الرضي: و هذا من الكلام العجيب الفصاحة، و ذلك انه عليه السلام شبّه السحاب ذوات الرعود و البوارق و الرياح و الصواعق بالابل الصعاب التي تقمص برحالها و تقص بركبانها، و شبه السحاب خالية من تلك الروائع بالابل الذلل التي تحتلب طيعه و تقتعد مسمحة.
و اقول: انّه استعار لفظ الذلل و الصعاب: للسحب لمكان المشابهة المذكورة.
و التوقّص: النزو، و تقارب: الخطو. و الروايع: الأمور المخوفة.
و قيل له عليه السّلام (لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين) فقال عليه السلام:
الخضاب زينة و نحن قوم فى مصيبة! (يريد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم).
و قال عليه السّلام: منهومان لا يشبعان: طالب علم، و طالب دنيا.
و النهم بالفتح: افراط الشّهوة فى الطعام. و لفظه مستعار: لشدّة طلب العلم و المال.
و قال عليه السّلام: لزياد بن أبيه (و قد استخلفه لعبد اللّه بن العبّاس على فارس و أعمالها، فى كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقدّم الخراج): استعمل العدل،
ص: 684
و احذر العسف و الحيف، فإنّ العسف يعود بالجلاء و الحيف يدعو إلى السّيف.
اى: يعود بالجلاء على الرعيّة. و الحيف يدعو الى السيف اى: الى محاربتهم للوالى، او الى هلاكه بسيف غيره.
و قال عليه السّلام: ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا.
لانّ وجوب التعليم على الجاهل مستلزم لوجوب التعليم على العالم فى الحكمة الالهية. و عن النّبى صلى اللّه عليه و آله: (من تعلّم علما فكتمه، ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار)(1).
و قال عليه السّلام: شرّ الإخوان من تكلّف له.
قال السيد الرضى: لانّ التكليف مستلزم للمشقّة و هى: شرّ لازم عن الاخ المتكلّف له فهو شرّ الأخوان.
و قال عليه السّلام: إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه.
قال السيد الرضى: يقال: حشمه و احشمه بمعنى: اغضبه. و قيل: اخجله. و احتشمه طلب ذلك له و هو مظنّة مفارقته.
و باللّه التوفيق و العصمة. و هو حسبنا «وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ ».
هذا اختيار (مصباح السالكين) لنهج البلاغة من كلام مولانا و امامنا امير المؤمنين على بن ابى طالب عليه السلام. و رجاؤنا فى اللّه سبحانه اذ وفقنى لتمامه ان يجعله خالصا لوجهه و يسعدنا فى الدارين بمنّه و لطفه. و فرغ من اختصاره افقر عباد اللّه تعالى ميثم بن على بن ميثم البحرانى عفا اللّه عنه فى آخر شوال سنة احدى و ثمانين و ستمائة (681) بعون اللّه و حسن توفيقه، و الحمد للّه كما هو اهله و صلّى اللّه على سيّدنا نبىّ الرحمة محمد
ص: 685
و آله و سلّم تسليما كثيرا...(1).
ص: 686
ص: 687
ص: 688
الصورة
ص: 689
الصورة
ص: 690
الصورة
ص: 691
الصورة
ص: 692
الصورة
ص: 693
الصورة
ص: 694
الصورة
ص: 695
الصورة
ص: 696
الصورة
ص: 697
الصورة
ص: 698
الصورة
ص: 699
الصورة
ص: 700
الصورة
ص: 701
الصورة
ص: 702
الصورة
ص: 703
الصورة
ص: 704
الصورة
ص: 705
الصورة
ص: 706
الصورة
ص: 707
الصورة
ص: 708
الصورة
ص: 709
الصورة
ص: 710
الصورة
ص: 711
الصورة
ص: 712
الصورة
ص: 713
الصورة
ص: 714
الصورة
ص: 715
الصورة
ص: 716
الصورة
ص: 717
الصورة
ص: 718
الصورة
ص: 719
الصورة
ص: 720
الصورة
ص: 721
الصورة
ص: 722
الصورة
ص: 723
الصورة
ص: 724