في الفكر الاجتماعي عند الامام علي علیه السلام

هوية الکتاب

دراسة في ضوء نهج البلاغة

كافة حقوق الطبع محفوظه ومسجلة للناشر ومكتبة فدك

عبد الرضا الزبيدي

الناشر: باقيات

الكمية: 1000 نسخة

المطبعة: سرور

الطبعة: الأولى

تاريخ الطبع: 2005 م - 1426 ه. ق

القطع وعدد الصفحات: وزيري 396 صفحة

الزينكغراف: تيزهوش

شابك:

06 - 6168 - 964 - x

عنوان الناشر: ایران - قم - شارع معلم - رقم 44 - تلفون: 7743900

مركز التوزيع: ایران - قم - مجمّع الإمام المهدي (عج) - الطابق الأرضي رقم 116،117 - تلفون: 7833624

مَکْتَبَةُ فَدَکْ

محرر رقمي:روح اله قاسمي

ص: 1

اشارة

في الفكر الاجتماعي عند الامام علي علیه السلام

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي علیه السلام

دراسة في ضوء نهج البلاغة

تأليف

عبد الرضا الزبيدي

مَکْتَبَةُ فَدَکْ

ص: 4

المُقدمة

للامام علي بن أبي طالب علیه السلام صفات خاصة تميّز بها عمن سواه من معاصريه وسابقيه والمتأخرين عنه ولا غلو فى ذلك، فمنها على سبيل المثال لا الحصر سابقته في الاسلام وجهاده المستميت في سبيله حتى ثبتت اركان الدین، علاوة على اخلاقه التي ليس لها مثيل الا تلك التي حملها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أضافة الى الكثير من الصفات الحميدة مما احصاه الكتّاب والمؤرخون والتي لا مجال لذكرها هنا حصراً.

لقد كُتِبَ الكثير بشأن الامام علي علیه السلام اننا نجد في كل مرةٍ حدثاً جديداً أو مادة غير مطروحة أو بحثاً نافعاً وذا علاقة بحياتنا وتاريخنا بكل صوره وما الى ذلك؛ وفي هذا البحث المتواضع الذي يتعلق بالفكر الاجتماعي عند الامام علي علیه السلام لا ادّعي أو أُفاخر قائلاً بأنني احطتُ بكل ما يتعلق بالموضوع الا اني اشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفقني الى هذا الحد من المعرفة والبحث في فكر هذا الرجل الالهي الذي أفصح عن شيء من مكنونات حقيقته ولده الامام الحسن المجتبى علیه السلام في كلام له بعد استشهاده حين قال علیه السلام «والله لقد قبض فيكم الليلة رجل ما سبقه الاولون الا بفضل النبوة، ولا يدركه الاخرون وان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره

ص: 5

فلا يرجع حتى يفتح الله عليه» (1) «وكان معاوية يكتب فيما ينزل بهِ ليُسْأَلَ له علي بن ابي طالب عن ذلك. فلما بلغه قَتْله قال: ذهب الفقهُ والعلم. بموت ابن ابي طالب فقال له عُتَبةً اخوه: لا يسمع هذا منك أهلُ الشام. قال: دعنى عنك» (2)، فقد برع في كل جوانب الحياة، واطبق على المعارف كلها، وعلم من الاسرار الالهية في هذا الكون ما لا يعلمه أحد بعد النبي، وما زالت كلمته المدوية على مر التاريخ (سلوني قبل ان تفقدوني) ترن في اسماع العلماء والمفكرين في العالم أجمع.

فهو العالم الفضاء واسراره، والواصف الارض بما حملت، والمخبر عما جرى ويجري من الحوادث اعتماداً على ما اخذه عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن الله تبارك تعالى، والعالم الالهي في علوم الاديان، والواعظ الصادق بخطبه ورسائله ومواعظه والمفسر العظيم للقرآن الكريم «كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به» ومعلم الاخلاق الذي اصبحت سيرته وحكمه مناراً يهتدى بها ونوراً يكشف اغطاش الظلام عن الابصار، فاليه انتهى كل شيء.

لقد امتلك قلباً اتسع العالم كله رغم ما تعرض له من مآسٍ فهو بين نكبات تعرّض لها من رفاق عرفوا وفهموا كل ما أوصى به الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ثم نكثوا بيعته و آخرین مرقوا عليه، وبين آخرٍ اعتكف في داره مبتعداً عنه، فهو في مجتمع هدم صرح العهود الرسالية وباع بقاء الآخرة وعهودها بفناء الدنيا وانقضاء مدّتها وزوالها، فما أعظمه من مغبون، و الانكى تجاهل الكثير منهم لعدم معرفتهم بعظمته وسعة ادراكه، وقوة حجته، انه عاش في غير عصره. ولم يدرك كنهه ومداليل علمه أحدٌ من أولئك الذين ضيّعوه بل تركوه في احيان كثيرة يعيش 4.

ص: 6


1- المسعودي - مروج الذهب - م 2 ص 414 - دار الهجرة - 1404 ه. 1984م.
2- البرِّي التلمساني - محمد بن ابي بكر الانصاري - القرن السابع الهجري - تحقيق الدكتور محمد التنوخي - ص 74.

غصته وحسراته وحيداً على ايام صدر الاسلام وعهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حتى تعاقبت الازمان والدهور وتحررت العقول رويداً رويداً وبدأت البحوث العلمية تسبر غور هذا الرجل العظيم لتستجلب العلوم والمعارف من فكره حتى قال البعض: تعساً لذلك الزمان الذي عاش فيه ولم يقدروا حقه! فكلماته ليست خطباً ومواعظ انما هي دروس علمية اخلاقية تاريخية اجتماعية سياسية نفسية واقتصادية، وقد طُرحت انواع من البحوث بمختلف العلوم التي حملها هذا العملاق، ونحن الآن على اعتاب كل ذلك ندخل بوابة فكره لنطرح ما استطعنا ادراكه وفهمه من تلك المعارف والمفاهيم.

وقد خصصنا هذا البحث للجانب الاجتماعي من فكره الجبار لما فيه من الفائدة العملية والعلمية للمجتمعات البشرية، ولما تعاني منه الانسانية في هذه الازمنة من تعقيدات الحياة على هذا الكوكب السيّار الذي يعاني سكانه من الضغوطات النفسية والاختلافات السياسية والاجتماعية والتفاوت الاقتصادي بحيث انقسم العالم الارضي الى مجموعتين متناقضتين الاولى غنية والاخرى فقيرة، وازدادت الهوة بينهما يوما بعد يوم، واستغل الاغنياء الفقراء مادياً ومعنوياً والاخطر من ذلك كله تلك الحرب الثقافية التي حطمت - بافكارها الضالة - كل النظم الاجتماعية.

فماجت الارض بذلك الضياع الفكري وحالة الفراغ الروحي الذي يعيشه الكثير من الشباب في هذا الوقت، كل هذه الامور وغيرها دعت الى طرح الفكر الاجتماعى عند الامام على علیه السلام والدعوة لاستمرار اغناء العالم بهذه المباحث الاجتماعية نظرا للحاجة الملحة اليها فمع هذا الفكر العظيم تتحرر العقول والافكار التى اختلطت اوراق معرفتها وتشابكت خطوطها.

والذي أود قوله هو: انني بصدد وضع قراءة في فكر الامام علي علیه السلام

ص: 7

الاجتماعي ودراسته من خلال خطبه ورسائله وسيرته في الحكم لاننا بامس الحاجة للأخذ بالنظرية الاجتماعية الاسلامية.

ووجدت ان الفكر الاجتماعي للامام علیه السلام و هو ملىءٌ بأسس ومعالم (علم الاجتماع) بكل فروعه المطروحة على أنها مس مستحدثة وجديدة وهي في حقيقتها ومعالجاتها موجودة بكل ابعادها في فكر سيد الموحدين علیه السلام، بل تجده كأنه واضع مبادىء هذا العلم بكل مضامينه ولا اريد ان اجزم واقول أنه علیه السلام مؤسس علم الاجتماع قبل طرح افكاره في هذا المجال ومناقشتها وتحليلها في الفصول القادمة ان شاء الله، وهى مما اقتبس نورها من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم، علاوة على ما افاض به فكره الخلّاق وما حواه من سياسةٍ وتنظيمٍ وقضاءٍ واقتصادٍ و تربيةٍ وفلسفةٍ وعلومٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ بالاضافة الى كل القيم الاخلاقية الاسلامية.

ولست مبالغاً في مثل هذا الطرح، اذان «نهج البلاغة» أمامنا وبين ايدينا نتمعّن به ونستنتج منه ما نبغي ونريد ولم يأت طرحنا من وراء تصورات غير واقعية أو اطروحات وهمية، انما من اصل متين ثابت وقعه، قوي تأثيره، واسع مضمونه وهو نهج بلاغي الفصاحة والعلوم بما اتسعت، والفلسفة بما حوت.

فلو انصفنا العلم والتاريخ والحقيقة وتمعّنا في ما كتبه المؤرخ ابن خلدون في المقدمة وعشرات الكتب والدراسات التي تناولته سلباً وايجاباً تمعّن الفاحص الدقيق لعرفنا مصادر واصول الكثير من فصول مقدمته وهو المسمى بمؤسس علم الاجتماع وواضع اسسه فنحن لا ننكر شخصيته ولكن تسميته بمؤسس علم الاجتماع لا تعنى انه ابدع فى هذا العلم من دون مثال سابق، لأن القرآن الكريم ونهج البلاغة زاخر بعدد وفير من السنن والقوانين الاجتماعية.

نرجو من الباري عز وجل ان يوفقنا لمراضيه ويجنبنا معاصيه ويهدينا

ص: 8

سبيل الرشاد ويسددنا في طرح هذا المنهج بالصورة التي ترضيه ورسوله الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم و امام الهدى علي علیه السلام ويشرح صدورنا لذلك انه ولي نعمتنا وانه نعم المعين.

عبد الرضا الزبيدي

1 ربيع الأول 1418 ه

7 / 7 / 1997 م

ص: 9

ص: 10

الباب الاوّل

اشارة

مدخل عام

ص: 11

ص: 12

الفَصْلُ الأَوَّلُ

اشاره

علم الاجتماع

ص: 13

ص: 14

تعاریف علم الاجتماع وماهيته

وضعت دراسات عديدة خاصة في القرنين الاخيرين حول المجتمعات البشرية ومسارات حركتها نظراً للظروف القاسية التي مرت بها الانسانية، والتخبطات الفكرية، والانحرافات السلوكية، ففي الجانب المسيحي كان هناك ابتعاد كلي عن اصل العقيدة المسيحية التي هي عقيدة سماوية الهية تامة غير ناقصة في زمان عيسى علیه السلام وصاحبها نبي مرسل من أولي العزم الا أن التحريف الذي شوّه حقيقة هذا الدين وكتابه المقدس جعل الزمان يتدخّل في الفكر العقائدي للمسيحية ويشتت وحدته الى اعتقادات متشعبة متباينة في اصولها فضلاً عن فروعها وأدى بالتالي الى ظهور طبقات دينية وظّفت تلك العقيدة المصالحها الخاصة بالتعاون مع طبقة الملوك والامراء والنبلاء والاقطاعيين لاعتبارات التوافق المصلحي لاولئك في تلك العصور فضاع الحق بین ثنايا الباطل، واصبحت الامم تسير في طرق ومتاهات ومسالك خطرة لا نفع فيها لمستضعف أو مسكين ولا محافظة فيها على حرية أو كرامة لانسان بل العكس فقد حطمت كل تلك الصور الروحية المشرقة التي اعتبرتها خيالية في عالم الدنيا، واصبحت النزعة الموجودة الرضا بهذه الاوضاع السيئة لان الله فرضها عليهم - حسب ما أشبعوا الناس بهذه الفكرة المميتة - فالتسلط للملوك والامراء وغيرهم وللمجتمع العبودية، والظلم الذي سلطه أولئك على الرعية

ص: 15

هو من الله تعالى وعلى العبد ان يتكيف ويرضخ لما وقع عليه من ظلم لان الله هو الذى افترض هذا الامر عليهم (وحاشا لله ان يفعل ذلك) وصوّروا ان الملوك هم ظل الله في ارضه وعلى الرعية الطاعة فقط وتحمل المشاق لان الدين لا يقبل التحدي والعصيان لكل من (جعلهم الله) ملوكاً على الخلق، وسيجد المرء ثواب ذلك السكوت والتحمل في الاخرة كاملاً غير منقوص عند الله، بل بیعت قطع سكنية واراضٍ زراعية وقصور فارهة في الجنة عن طريق القساوسة بالاضافة الى صكوك الغفران للعاصين من خلق الله والظالمين منهم. بهذا الفكر الجامد وعظوا الناس، وساروا بهم سنين طويلة فتلك الطبقة المتسلطة ترفل برفاهية العيش ونعيمه وكأنهم تركوا الجنة للفقراء من الناس هدية منهم ورضوا هم بالعيش المؤقت في هذه الدنيا! فأيّة مهزلة هذه وأية سخرية بخلق الله تعالى وايُّ ظلم كبير.

أما في بلادنا الاسلامية فالحكّام ابتعدوا عن السير على ما رسمه القرآن والسنة النبوية الطاهرة حيث هجروا كتاب الله وعطلّوا سنّة نبيه واتخذوا هواهم منهجا، واتكأوا على طبقة من الوعّاظ الضالين المضلين في تأويل الآيات وتحريف الاحاديث النبوية الشريفة حتى يسهل امر السيطرة على الامة، وهو موضوع يشتمل على مباحث كثيرة لا اريد الخوض فيها والخروج عن صلب الموضوع المتعلق ببحثنا وهو (الاجتماع).

فالخلل اذاً ليس في العقيدة واصولها وفروعها انما في المسلك الخاطىء للحكام الذين لا يهمهم الا منافعهم الخاصة والسيطرة على البلاد والعباد، اما عند المسيحية فالخلل هو في العقيدة المحرّفة والكتاب المُختلف على نصوصه وكذلك في القيّمين على امور الدين والحكام، وعلى عكس ما هو موجود عند المسلمين الذين حافظوا على كتابهم وعقيدتهم من التحريف وبقوا على تمسكهم

ص: 16

بديانتهم رغم الظروف القاسية التي مروا بها وذلك لوجود ائمة اهل البيت علیه السلام الذين صانوا العقيدة والسنة النبوية الطاهرة من التحريف والابتعاد عن أصلها، بل كانوا يتخذون موقع الهادي والمحافظ وتثبيت الحقائق وتوضيحها للناس، فأصبحوا بذلك المرجعية الوحيدة والواقعية للمسلمين في ذلك الوسط المرِّ مع تلك المعاناة والصعوبات الشديدة التي رافقت مهمتهم الرسالية الكبرى.

ولا يذهبنَّ بالقارىء الى تصورات غير صحيحة من ان العالم الاسلامي كان يعيش ايضاً في ظلام الجهل في تلك الفترات فهذا صحيح في الجانب السياسي، اما الجانب الفكري والعقائدي والاجتماعي فهو غير ذلك وعكس ما يتصوره البعض، لان الدين الاسلامى عالم كامل فى كافّة مجالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فهو لا يحتاج الا للتطبيق العملي، وقد اشبعه وأغناه الفقهاء بالتفاصيل والمباحث حيث لا تجد نقصا في امر ما.

اذن الحالة المسيحية في اوربا انتجت تلك النظريات الفكرية والانحرافات عن العقائد السماوية بفعل تلك العوامل التي كانت موجودة في ذلك العصر وما يهمنا هنا من النظريات الاجتماعية التي سنتطرق الى بعضها سريعاً هو التعرف على مضامينها واهدافها ونقاط القوة والضعف فيها، ثم نوضح حجم الاستقاء الكبير من المفاهيم الانسانية الموجودة في الفكر الاسلامي ومطابقة ذلك مع اصل موضوعنا وهو الفكر الاجتماعي عند الامام على علیه السلام، فتبدأ اولًا بذكر بعض التعاريف لعلم الاجتماع وماهيته ثم نظريات بعض العلماء البارزين فى هذا الحقل.

لقد وضعت تعاريف متعددة لعلم الاجتماع ولا نستطيع القول انه لم يُتفق. للآن على تعريف واحد لهذا العلم عند الجميع، فكل تلك التعاريف لا تخلو من التقارب في المعاني والاهداف وعليه فانه «يمكن القول ان علم الاجتماع هو ذلك

ص: 17

العلم الذي يدرس طبيعة العلاقات الاجتماعية وأسباب هذه العلاقات ونتائجها، والعلاقة الاجتماعية حسب قول البروفسور مورس كنز برك هي أي اتصال أو تفاعل أو تجاوب بين شخصين أو اكثر بغية سد أو اشباع حاجيات الافراد الذين يكونون هذه أو تلك العلاقة الاجتماعية» (1).

أما دوركايم فيقول « ... علم الاجتماع هو الموضوع الذي يدرس المجتمعات الانسانية من ناحية نظمها ووظائفها ومستقبلها أو هو العلم الذي يدرس أصل وتطور المؤسسات الاجتماعية التي يبنى منها التركيب الاجتماعي». (2)

ويقول البروفسور هوب هوس الذي يتفق مع دوركايم في دراسة مورفولوجية وفسيولوجية المجتمعات «هي دراسة المجتمعات البشرية من ناحية نموها وتركيبها واضمحلالها وضعفها مع التطرق الى دراسة تأريخها و علاقاتها المشتركة». (3)

أما ادووستر مارك فيعرّف علم الاجتماع «بأنه الموضوع الذي يدرس المؤسسات الاجتماعية دراسة مقارنة» الا انه يختلف عن زميله هوب هوس في عدم اهتمامه بمشاكل موضوع التقدم الاجتماعي. (4)

الا «انّ اصطلاح (علم الاجتماع) قد ابتكره الفيلسوف (او جيست كُنت Auguste Conte) 1798 - 1857 م» وهو يستعمل في معان مختلفة جداً بحيث يتعسر معه تقديم تعريف له، وكما يقول عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر 2.

ص: 18


1- الحسن احسان محمد - بعض نظريات علم الاجتماع في القرن العشرين مجلة كلية الآداب العدد 17 ص 23، 1974 م - بغداد.
2- المصدر نفسه ص 31.
3- المصدر نفسه ص 31.
4- المصدر نفسه ص 32.

(ریمون بودن Ragmond Boudon) (عندما نحاول تعريف علم الاجتماع فإننا نتذكر فوراً حديث ريمون آرون الطريف حيث يقول: إنّ علماء الاجتماع لا يختلفون الا على نقطة واحدة وهي صعوبة تعريف علم الاجتماع)، وأحياناً يُطلق (علم الاجتماع) على (جميع العلوم الاجتماعية التوصيفية المهتمة بالشؤون الاجتماعية للانسان) ومن هنا فهو يصبح مرادفاً «للعلوم الاجتماعية» ويكون «علم الاجتماع» بهذا المعنى شاملاً لكثير من العلوم، ومن جملتها: الجغرافية الانسانية والجغرافية البشرية وعلم الاحصاء وعلم الاقتصاد والسياسة، ومعرفة الانسان، والتاريخ وعلم اللغة، فعندما يقول جورج گورفیج الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (1894 - 1965) على أيّ حال فنحن نعد الاثنولوجيا جزءاً من علم الاجتماع، لأن متعلّق البحث فيها هو معرفة الصور النوعية للمجتمعات التي تسمى بالقديمة، وحينما يقول عالم الاجتماع الفرنسي الاستاذ هنري مندراس:

انّ علم الاجتماع فى رأينا يشمل علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي و دراسة الشعوب معاً فإنهما يقصدان هذا المعنى العام (علم الاجتماع). (1)

وهناك من اعتبر ان (المهمة التاريخية للعلوم الاجتماعية هي مساعدة الانسان في السيطرة على المجتمع).

ويمكن ان نقول ان علم الاجتماع بصورة اجمالية يبحث في السبل الصحيحة لبناء المجتمعات باتباع المناهج العلمية والدراسات التطبيقية بالترابط مع بقية العلوم الاخرى الاجتماعية منها بالذات.

الا ان هناك من يهتم بالعلاقات الاجتماعية ويعتبرها الحلقة المهمة في .

ص: 19


1- اليزدي - محمد تقي مصباح - المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن الكريم ص 19 ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، دار امير كبير للنشر 1415 ه.

مفهوم هذا العلم فيرى «ان دراسة العلاقات الاجتماعية التي يهتم بها علم الاجتماع المعاصر هي دراسة تتطلب فحص المجتمع برمته بغية التطلع الى انماط علاقاته الاجتماعية التي لها اسباب مختلفة كالعلاقات التي تسببها العوامل والظروف الاقتصادية والتصوف والتدين، والعلاقات المتنوعة الاهداف والمقاصد تشكل حقل علم الاجتماع الواسع الذي يهتم بدراسة حياة الانسان باكملها، هذه الحياة التي تتشعب الى نشاطات الانسان المبذولة في سبيل المحافظة على كيانه ووجوده من الفقدان والضياع، وحقل علم الاجتماع يمتد الى القوانين والاحكام التي تنظم السلوك الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية بين اعضاء المجتمع ويدخل في دراسة نظم المعرفة والمعتقدات والفنون الجميلة والاخلاق والاديان والفلسفة دراسة وصفية تحليلية يعتمد على ما يمكن في هذه المواضع مع التطرق الى القوى والعوامل التي تعمل على سكونها أو حركتها» (1).

«وترتيباً على ذلك فإن موضوع علم الاجتماع هو (بنو الانسان في وجودهم الذي يقوم على الاعتماد المتبادل) وليس معنى ذلك أن موضوعه هو جسم الانسان وما تقوم به اعضاء هذا الجسم من وظائف، وانما يقوم موضوعه على الاهتمام بما يحدث عندما يقابل إنسان انساناً آخر، أو عندما يشكل الناس جموعاً أو جماعات، أو عندما يتعاونون ويقتتلون، أو يتحكم بعضهم في بعض، أو يحاكي بعضهم البعض الآخر، أو يطوّرون الثقافة أو يقوّضونها، إنَّ وحدة موضوع علم الاجتماع ليست على الاطلاق فرداً واحد، ولكنها تتمثل - على الاقل فى فردين يكونان معاً - على علاقة بشكل ما». (2) .

ص: 20


1- بعض نظريات علم الاجتماع في القرن العشرين ص 25.
2- عبد الباقي - الدكتور زيدان - التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره ص 184، الطبعة الثالثة 1401 - 1981.

أقسام علم الاجتماع

وضع علماء الاجتماع تقسيمات لهذا العلم كل حسب منظوره الخاص واتجاهاته واعتقاداته الا اننا نتطرق ابتداءً الى تقسيم العالم (دور کایم 1858 - 1917م) وهو زعيم المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع، ومنشىء علم الاجتماع الحديث وأحد دعائم الحركة العلمية بصفة عامة في تلك الفترة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

فحسب رأيه ينقسم علم الاجتماع الى ثلاثة أقسام بارزة:

القسم الاول: علم الاجتماع العام (Sociologie generale) ويشمل فلسفة العلم.

القسم الثاني: المورفولوجيا الاجتماعية وتتشعب الى:

الف - جغرافية البيئة وسكانها وعلاقة ذلك بالتنظيم الاجتماعي.

ب - دراسة السكان من حيث كثافتهم وتخلخلهم على مساحة المجتمع.

القسم الثالث: علم الوظائف الاجتماعية ويتشعب الى:

الف - علم الاجتماع الديني.

ب - علم الاجتماع الاخلاقي.

ج - علم الاجتماع القضائي.

د - علم الاجتماع الاقتصادي.

ه - علم الاجتماع اللغوي.

و - علم الاجتماع الجمالي.

تلك تقسيمات دوركايم لعلم الاجتماع وفروعه، وقد اضاف لها تلاميذه

ص: 21

ومعاونوه وسائر علماء الاجتماع فروعاً أخرى لا تقل اهمية عن هذه الفروع. (1)

أما اقسام مورس كنزبرك فهي:

1 - دراسة المورفولوجيا الاجتماعية:

وتهتم هذه الدراسة بالتركيز على العوامل الجغرافية واثرها في طبيعة المجتمع كدراسة آثار المناخ والتضاريس الارضية الطبيعية على نوعية الحياة الاجتماعية الموجودة في مجتمع معين.

2 - دراسة التشريح الاجتماعي (Social physiology).

وتعنى هذه الدراسة بالتخصص في المواضيع التي تهتم بدراسة جوانب معينة من الحياة كالجوانب الدينية والاخلاقية والسياسية والقانونية والاقتصادية واللغوية ... الخ ومواضع التشريح الاجتماعي التي تهتم بهذه الدراسات كثيرة ومتنوعة منها.

1 - علم اجتماع الدين.

2 - علم اجتماع المعرفة.

3 - علم اجتماع القانون.

4 - علم الاجتماع الاقتصادي.

5 - علم الاجتماع السياسي.

3 - علم الاجتماع العام: ووظيفة هذا العلم تتلخص بجمع النتائج التي توصلت اليها العلوم الاجتماعية الاخصّائية ثم التوصل الى الحقائق الاجتماعية المشتركة التي تتكهن في هذه العلوم وبالتالي كشف احتمالية وجود قوانين عامة مشتركة تفسر نتائج الدراسات الاجتماعية». (2) .

ص: 22


1- نفس المصدر السابق ص 374.
2- بعض نظريات علم الاجتماع - المصدر السابق، ص 29.

وربما نجد من المناسب إلفات نظر القارىء الى هذه الاقسام لاننا سنعود لطرحها مرة اخرى ولكن بصورة أخرى من خلال الحديث عن فكر الامام على علیه السلام الاجتماعي، اذ ان البحث في فكر هذا الرجل الخالد تناول كل ما طرحه المتأخرون وقسّموه، وهدفنا من التوضيح هو تبيان حقيقة هذا الامام العظيم الذي ظُلم في حياته وما بعدها بل حاول البعض حذف ومسح كل افكاره العظيمة التى هى دواء وشفاء للمجتمعات الانسانية بما حوته من المعارف والعلوم، لحاجة هذه المجتمعات لتلك الافكار المضيئة خصوصا في عصرنا الحاضر الذي يعيش التطور العلمى الكبير والانحراف الخلقى الواسع والصراع الفكري وفقدان حالة الاشباع الروحي الذي تعاني منه الكثير من الشعوب المتقدمة، وما حالات الانتحار الفردي والجماعي والمشاكل الاجتماعية والعقد النفسية وجهل الانسان لماهيّة وجوده في هذا الكوكب المعمور الا بسبب ذلك الفراغ العقائدي وافتقاد الإيمان الذي يغذي الروح الانسانية بالقوى المعنوية والارادة الذاتية المقاومة لتلك التحديات، وقد وصلت الانسانية الى منعطفات خطيرة يستفسر فيها انسان الكثير من مجتمعاتها عن سبب خلقه وعيشه، بل ويعتقد في أحيان كثيرة ان فكرة الموت أو الفناء التام افضل له وللمجموعة البشرية معاً. وتأتي اهمية طرح هذا الفصل لتعريف القارىء العزيز غير المختص بهذا العلم حتى يستطيع ادراك ما طرحه الامام علي علیه السلام، ومدى الجهل و التجاهل العلوم الاسلام وأفكاره وحتى من لدن بعضنا نحن المسلمين « ... الى ان اصبح المسلم المتفرنج يرغب بالشريعة السويسرية الخرقاء بدلاً من الاسلامية جاهلاً ما في الشريعة الاسلامية من القواعد في الحقوق والاجتماع والفلسفة ما يعتبر اكبر معجزة لرجال العصر وأعظم مأثرة تمتاز بها القرون الاخيرة عن سابقتها وما ولدته من الحضارات والمدنية.

ص: 23

لنضرب مثلاً - لابن المدنية الحاضرة - رجلاً عاش في القرون الوسطى التي يسميها بالظلمة والتوحش يسنُّ للمسلمين ما بعد اليوم آخر ما وصلت اليه أدمغة علماء الاجتماع في أحدث فن من الحقوق التي لم تدوّن الا بعد مجهودات طويلة وسنين عديدة وارتكزت على قواعد شتى وتتبعات متتالية الا وهي (الحقوق الادارية) الحديثة النشأة ولا شك انه يندهش أيمّا دهشة حينما يسمع بذلك الرجل وليد القرون الوسطى يملي على عامله مالك الاشتر النخعي رضي الله عنه نظريات الحقوق الادارية التي لا يستغني عنها أي موظف اداري في عصرنا هذا ذلك الرجل هو صاحب النبي الامي وصهره وابن عمه على بن أبى طالب». (1)

الظواهر الاجتماعية

«يدرس علم الاجتماع الظواهر الاجتماعية Social Phenomena وتعرف الظواهر الاجتماعية بأنها عبارة عن القواعد والاتجاهات العامة التي تتخذ في مجتمع ما أساساً لتنظيم الحياة الجمعية وتنسيق العلاقات التي تربط بين أفراد هذا المجتمع بعضهم ببعض وتربطهم بغيرهم ...

هذا و من أهم الخواص التي تمتاز بها ظواهر الاجتماع الانساني أنها لا تجمد على حال، بل تختلف أوضاعها باختلاف الامم والشعوب وتختلف في المجتمع الواحد باختلاف العصور، فمن المستحيل أن نجد أمتين تتفقان تمام الاتفاق في نظام اجتماعي ما، وفي طرق تطبيقه، كما أنه من المستحيل ان نجد نظاما اجتماعيا

ص: 24


1- الفكيكي - توفيق - الراعي والرعية والرعية - ص 61 - الطبعة الثانية 1402 ه - مؤسسة نهج البلاغة - شركة افست ايران.

قد ظل على حال واحدة في أمة ما في مختلف مراحل حياتها، وتصدق هذه الحقيقة على شؤون السياسة والاقتصاد والاسرة والقضاء وسائر انواع الظواهر الاجتماعية حتى ما يتعلق منها بشؤون الاخلاق ومقاييس الخير والشر والفضيلة والرذيلة، فما يكون خيراً في مجتمع قد يكون شراً في مجتمع آخر، وما تعده أمة فضيلة قد تعده امة أخرى رذيلة وما يراه شعب مباحاً قد يراه شعب آخر محظوراً». (1)

هناك نقطة تلفت النظر ويجب مناقشتها ولو بشكل مختصر، وهي ان الظواهر الاجتماعية وإن كانت لا تجمد على حال واحدة وأن أوضاعها تختلف من مكان الى آخر ومن زمان الى آخر، وان الامم لا تتوافق على نظام اجتماعي واحد، الا ان هناك نقطة تستدعى الوقوف عندها وهي مسألة التفاوت او الاتحاد في المقاييس الاخلاقية فإن الشر شر في كل العقائد الدينية السماوية والفضيلة فضيلة دائما وهذا ما نجده في الاسلام وغيره، حيث أن الاسلام بيّن ماهية الشر والخير والفضيلة والرذيلة وانها مفاهيم لها معان لا خلاف فيها. واقول لو أن الدين الاسلامي اصبح حاكماً على اغلب بقاع العالم ودانت الناس والمجتمعات به فما هو موقفها من الخير والشر والرذيلة والفضيلة هل هو التوافق على معاني هذه المفاهيم أو التفاوت في القبول والرفض لها؟ حتما سيكون التوافق التام على معانيها والالتزام بما حدده الدين لها من حيث التعامل مع الحقائق، فإذا كان الشخص مؤمنا او عكس ذلك فهو يعرف ان هذا خير وذاك شر وهذه فضيلة وتلك رذيلة الا ان انحرافه يجعله يرتكب الشر والرذيلة ويبتعد عن الخير والفضيلة، واذا عاد الى رشده فانه سيلتزم حتماً بتعاليم دينه ويبتعد 2.

ص: 25


1- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره - ص 182.

عن الشر والرذيلة، وكذلك بالنسبة للمباحات والمحرمات فهي واحدة في الاديان ولا خلاف عليها سواء كانت فى الشرق أو الغرب عند العربي والاعجمي، فالمباح ما اباحته الشريعة له والمحرّم ما حرمّته الشريعة عليه، وهو ليس لمجتمع واحد وينكفى عليه انما هو للبشرية كافة، للمجتمعات على اختلاف الوانها ومشاربها، الا أن ارتكاب المحرم وعدم السير وفق هدى الشريعة المحمدية شيء وكون المجتمعات الانسانية لا تتفق على نظرة واحدة تجاه المباح والمحظور أو ما تعده امة خيراً تعده الاخرى شراً شيء آخر، ونظرة عابرة الى كل الشعوب الاسلامية في هذا العالم نستوضح من خلالها الجواب على ان هذه الشعوب هل تختلف في نظرتها الى الخير والشر والمباح والمحضور؟ ام انها لا تختلف بل تتوافق في نظرة واحدة الى تلك المفاهيم وحسب ما اعطته الشريعة الاسلامية وحددته، وهذا ما يجب ان يعطى القارىء اللبيب رأيه فيه.

واذا ما عدنا قليلاً الى دراسة الفكر الاسلامي نجد ان الاسلام اول من درس الظواهر الاجتماعية ووضع الحلول المناسبة لها وقد دخل الامام علي علیه السلام بفكره الجبار في عمق هذه الظواهر ليرشد الفكر الانساني وينبهه إلى القواعد السليمة التي تحفظ المجتمع تحفظ المجتمع وتنقّي ظواهره من الشوائب والسلبيات وتعزّز الايجابي منها لتحقيق كيان اجتماعي نقي وسليم يتسم بالاستقرار والرفاهية.

وتبقى الظاهرة الاجتماعية هي محور الدراسات الاجتماعية و «اذا كانت الاسرة هي وحدة المجتمع فان الظاهرة الاجتماعية هي وحدة علم الاجتماع، وكل علم يختص بمجموعة من الظواهر التي تشكل منطقة نفوذه وما لم يقم كل علم بتحديد ظواهره وتعريفها، فإن تلك الظواهر تبقى معلقة تتلقفها العلوم الاخرى ومن دراستنا السابقة عرفنا ان ابن خلدون (مُنشىء علم الاجتماع) لم يعرّف الظاهرة الاجتماعية، وانما اكتفى بضرب امثلة لها كثيرة على حين لم يحدد لنا كونت

ص: 26

خصائص الظاهرة الاجتماعية أيضاً، وإنما قال ان موضوع علم الاجتماع يجب ان يتناول الموضوعات التي لم تتناولها العلوم الوضعية السابقة عليه في الظهور ... ومن هنا وجد دوركايم ان تحديد الطبيعة والخواص النوعية للظاهرة الاجتماعية من اهم موضوعات الدراسة في علم الاجتماع لارتباطه اشد الارتباط بامكانية قيام علم الاجتماع ومدى استقلاله». (1)

«ومن الامثلة العديدة لهذه الظواهر هي: قواعد الاخلاق، الاسرة، الممارسات الدينية، قواعد السلوك المهني، فمثل هذه الحقائق هي الظواهر الاجتماعية من وجهة نظر دوركايم وهي التي تشكل الميدان للدراسة السوسيولوجية ... هذا وتعتبر الظواهر الاجتماعية بمثابة تيارات اجتماعية قائمة، حتى وإن لم يكن هناك تنظيم اجتماعی محدود بوضوح مثل موجات الحماس التي تدفع الفرد الى الاندماج في الحشد أو الجمهرة.

هذه التيارات اجتماعية في جوهرها لان لها واقعاً موضوعياً كما تمارس ضغوطاً متعددة على الفرد والجماعة ...

وقد ضرب دوركايم أمثلة للظواهر من اجل زيادة الامور وضوحاً بقوله: في كل مجتمع إنساني مهما كانت درجة تحضّره، نجد أن الافراد يسيرون في مختلف شؤون حياتهم، وفي مختلف فروعها على اساليب خاصة وقواعد وأوضاع لا يحيدون عنها، وعلى سبيل المثل فإنه بصدد الدين، نجد الافراد يتفقون على امور عامة فيما يتعلق بطقوسهم وشعائرهم وكائناتهم المقدسة، وفى الواجبات التي تربطهم بهذه الكائنات» (2) وكذلك يذكر دوركايم في شؤون الاسرة والشؤون الاقتصادية والحياة السياسية كلها يتفق المجتمع على السير وفق 8.

ص: 27


1- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره - المصدر السابق - ص 356.
2- المصدر السابق - ص 358.

طبيعتها وكذلك اللغة والنقود فهذه كلها ظواهر اجتماعية عند دوركايم، «هذه الظواهر الاجتماعية تصبح خارج شعور الافراد حالة تفرقهم، ويقصد دوركايم بالصفة الخارجية وجود هذه الظواهر فى اللغة والدين والاقتصاد والقانون ... ودوامها من جيل الى جيل وعدم تأثرها بتغيير الافراد وذلك لكونها مستمرة وبشكل معين، ويولد الافراد ليجدوها سابقة على مولدهم، ويعرفونها ويأخذون بها عن طريق التعليم والتنشئة الاجتماعية، ويستدل دوركايم على خارجية الظواهر بثلاثة شواهد هي:

ألف - انها مسطوره وأغلبها مدون وله كتب و دساتير وقوانين موضوعة.

ب - بعضها محفوظ ومعروف يتحقق عمليا وهذا واضح في العادات والاعراف والتقاليد.

ج - ان بعضها موجات فعلية تظهر في المجتمع مثل الاقبال على الانتحار والزواج والطلاق، أو الاكثار من الانسال أو انتشار الاجرام ... ويمكن تحديد هذه الموجات تحديداً احصائياً» (1)

الظواهر الاجتماعية واثرها في بناء النظرية الاجتماعية

ان أي مجتمع من المجتمعات البشرية له تنظيمه الحياتي والسلوكي الخاص، وكذلك صيغ تعامل افراده فيما بينهم بغض النظر عن تقدم ذاك التنظيم البشري أو تخلفه، فالنظام العام الذي يسير عليه مجتمع ما لم يقم عبثاً انما هو حصيلة تراكمات ووقائع تاريخية تركت بصماتها على عملية حركة المجتمع ونظامه

ص: 28


1- المصدر السابق ص 356.

بالاضافة الى تراث الامة الحماسى وما يحمله من معانٍ ثابتة في اذهان الناس وصور متنوعة من الاحاديث الشعبية والاساطير الخيالية والمفاخر الابوية والعقائد والاداب والرسوم والعادات والتقاليد والفنون وغيرها، التي تعطي لذلك المجتمع قيماً دافعة باتجاه حركة معينة نحو اشباع رغبات الناس الذاتية يفرضها واقع المجتمع المعاش، فاتباع منهجية مشخصة في الاعمال المختلفة تعطي فى النهاية الصورة الجامعة لحياة المجتمع، فمثلاً هناك بعض السلوكيات ولنقل العادات والتقاليد الشعبية لا زالت متداولة بين الناس وان اختلف البعض منها عن الاصل بصورة جزئية الا أن صورتها من الاعلى واحدة.

ان الاساس في كل بناء اجتماعي ايجابي هو تنقية سلوك الانسان قبل كل شيء والارتفاع بمستوى القيم التي تنظّم أعماله، وهذا ما يضمنه الدين الاسلامي بتعاليمه الخالدة ومراعاته للحيثيات التي تدخل على مسيرة المجتمعات فتلقي بظلالها على النظام الاجتماعي السائد لتطرح ابعاداً جديدة وواقعاً متغيراً يحتاج الى تعامل جديد يعالج تأثير المتغيرات الحضارية الجديدة على حياة الناس وحاجاتهم فلابد إذن من فكر صالح يستوعب هذه الحالة الجديدة على الواقع ليعطي الجواب الشافي والعلاج الناجع دون أن ينفي ما قد يحويه التراث من معالم حسنة ومفيدة.

والاسلام بمبادئه يسد هذه الحاجة الملحّة حيث المرونة في التعامل مع المستجدات الحضارية القادمة وتلك المكتشفات العلمية بفقهه واصوله ومنهجه، فهو يشع بنور الهداية والامان والاستقرار.

والنظام الاجتماعي إنّما يأخذ خصائصه من المنهج الاصلي الذي اعتمده في مسيرته، والمشروع العام الذي يستوعب نظاما اجتماعياً متكاملاً محفوظاً من الاضافات الضارة، ومحتفظاً بالنص الحقيقي بعيداً عن الخرافات المضلّة، وله

ص: 29

قابلية استيعاب التطور العلمي النافع، ومعايشة العصر بأسس علمية ثابتة ستكون له القدره على جمع الاجناس البشرية في كيانه مع ضمان حرية الحركة بين ترات الامة الصالح وبين واقع المجتمع المتجدد من خلال دخول العناصر الحضارية الجديدة التى ستكون حتما ذات اثر خاص فى تغيير حياته المدنية وسلوكه الاجتماعي، ومدى التقبل والرفض في القيم الاجتماعية لما يفرضه الواقع الجديد بحيث تكون المحافظة على الاسس والاصول الحيّة للعلاقة مع المجتمع طافحة للوجود.

الاستعارة السلبية

ان بناء النظرية الاجتماعية بالاتكاء على مباني علم الاجتماع بصورته الاكاديمية الحديثة والمنبثق من الواقع الاوربي يعتبر منهجاً غير صحيح إن لم يكن ينظر إليه بالريبة والشك.

«ومع أن منشأ علم الاجتماع كان ولا يزال غربياً في اطاره العام، وتركيبته العلمية والثقافية كانت ولا تزال منتزعة من التقاليد والاعراف الاوربية، الّا إن ارتباط مبادىء علم الاجتماع بالفلسفة الاخلاقية يجعلنا ننظر اليه - وبتحفظ - من زاوية العلم الذي يدعو الى التماس الارتكاز العقلائي يساند الشريعة ويؤمن بها في كل توجيهاتها الفردية والاجتماعية، وما إنحياز العديد من رجال الفكر العقلاء امثال (والدو امرسون) و (برتراند رسل) و (روجيه الاوربي غارودي) وغيرهم الى الاسلام إلا دليل على ما ذهبنا اليه». (1)

ص: 30


1- الاعرجي - الدكتور زهير - مباني النظرية الاجتماعية في الاسلام - ص 63 المطبعة العلمية - قم - الطبعة الأولى 1417.

لقد جاءنا هذا العلم بصورة غريبٍ قادمٍ من مكانٍ بعيدٍ لا نعرف ماهيته ولا نستطيع التحاور معه لقلة البضاعة الثقافية والعلمية الموجودة في ايدينا، ولنقل بصراحة وبدون وجل عدم وجوده في عالمنا الحديث، فأصبحنا ننظر الى شكل القادم الجديد ولونه المبهر منتظرین نطقه، والانكى من ذلك انه ليس لدينا القدرة على استنطاقه واثارته لنسمع ماذا يحمل في جعبته، وحتى لو علمنا لا ندري أي شيء ينفعنا واي شيء يضرنا وهذا التصوير الواقعي عايشه من هم قبلنا ونحن شملنا ذلك ايضاً، فعدم اطلاعنا على العلوم والافكار والنظريات الجديدة جعلنا لا نستطيع الرد على تلك الاطروحات واخذ الصالح منها ونبذ ما يخالف عقيدتنا وطبيعة مجتمعنا لاننا نمتلك تراثاً علمياً زاخراً وتجربة فريدة ناجحة قادت الانسانية الى التطور العظيم قروناً متواصلة.

إن من أبين الخطأ ما يقع به البعض من محاولة استعارة تلك الصياغة الغريبة ذاتها لنظريات علم الاجتماع الحديث لاعتمادها في تفسير مشكلاتنا الاجتماعية وصناعة غدنا المنشود، دون الالتفات الى واقع تلك النظريات التي تمخضت اساساً عن دراسات أُخذت من واقع تلك المجتمعات التي كان يسودها الظلام والظلم والعبودية والحروب، وليس عن دراسات موضوعية شاملة كما أنها لم تنبثق في الاساس من قواعد معرفية أصيلة.

ومما ينبغي التنبيه له أيضاً هو «أن علم الاجتماع الذي يدرس الآن في الجامعات الاجنبية لم تكتمل معالمه بعد، وهو لا يزال متأثراً في بعض اصوله وأسسه بالمحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه ... إنه لم يبلغ بعد مستوى العلوم الاخرى التي نمت منذ زمن طويل فأصبحت تستند في مفاهيمها على أسس عامة تصلح للتطبيق في كلّ زمان ومكان، فقد نشأ علم الاجتماع منذ مائة سنة تقريباً، وهذا عمر يكاد يكون صغيراً بالنسبة لاعمار كثير من العلوم

ص: 31

الاخرى ... لا ننكر ما في علم الاجتماع الحديث من نظريات قيّمة تنير السبيل للباحث الاجتماعي اينما ذهب في انحاء الارض ولكننا مع ذلك لا يجوز أن نتخذ منه دستوراً صلباً أو نقلده تقليداً أعمى». (1)

نظرة عامة الى آراء بعض علماء الاجتماع

جان جاك روسو (1712 - 1778):

«تأثر روسو بكل ما كتب حول فلسفة التعاقد الاجتماعي وراح يسبغ عليها الكثير من الاراء التي يستخلصها من فكرة أو مشكلة سيطرت على تفكيره ومبناها (أن الافراد وجدوا أن ليس ثمة وسيلة لانقاذهم من حالة الطبيعة الا البحث عن شكل للوحدة أو الاجتماع من شأنه أن يحمي ويقي شخص كل عضو وممتلكاته ... شكل للوحدة يكون فيه كل عضو، وقد اتحد مع الاعضاء الآخرين، غير خاضع مع ذلك الا لنفسه، ويظل أيضاً متمتعاً بنفس الحرية التي كان يتمتع بها من قبل)، وهذه الفكرة هي محور كتابه (العقد الاجتماعي) وكان يبحث في تحقيق تلك الوحدة يفكر من خلال عقيدة اتخذها لنفسه نبراساً في كل دراساته، وهي أن الحالة الطبيعية أو الاجتماع الطبيعي الذي نشأ فى ظله الانسان الاول كان اسعد حالا، وان التطور والتقدم هو الذي افسد طبائع الافراد وسبب شقاءهم وأقام الفروق بينهم، وأدى بهم الى عدم التساوي مع أن الطبيعة خلقتهم احراراً». (2)

ص: 32


1- الوردي - الدكتور علي - دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - ص 20 - منشورات الشريف الرضي - قم.
2- المصدر السابق ص 238.

فيكو (1668 - 1744):

«ومجمل نظر نظرية فيكو في فلسفة التاريخ، أن التاريخ يمثل وحدة متماسكة وأنه من خلال التطور تمركل الشعوب ومظاهر حضاراتها في ثلاث مراحل:

1 - المرحلة الدينية وهي عهد الآلهه. Lage divin

2 - المرحلة البطولية أو عهد البطولة. Lage heroque

3 - المرحلة الانسانية أو عهد الانسانية. Lage humain

وهذه المرحلة - الثالثة - التي تسود فيها الحقوق المدنية والسياسية في ظل الحرية وتكون الحكومات فيها - فى الغالب - ديمقراطية وليس للدين من هدف سوى رفع المستوى العالمي للاخلاق في المجتمع وبذلك تختفى الفروق الطبيعية ولا يكون لافراد معينين امتيازات خاصة، أو تكون هناك فروق اجتماعية تفضلهم على غيرهم كما يسود الرخاء ويزداد الترف، حيث يكون كل فرد مسؤولاً عن انتاجه وعن عمله في ظل المنافسة الحرة». (1)

وهذا الفيلسوف له آراء تتناقض والواقع فيعبر عن شعب من الشعوب بانه کسول و جاهل ويمرُّ بعهد من عهوده التي حددها الا أنه في حقيقة الامر لم يدرس التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لكل شعب أو حضارة معينة، متناسياً أن هذه المراحل التي يعددها لا تمثل قانوناً عاماً لمختلف المجتمعات ولا منهجاً صالحاً ومثالياً لهم، لان الاساس هو دراسة تراث الاسم ودراسة حضارات البلدان والرقي والتمدن الحاصل لكل شعب من الشعوب واثر ذلك على حركة المجتمع وتطوره. بل الابعد من كل ذلك أنه تناسى الاحداث التاريخية .

ص: 33


1- المصدر السابق ص 247.

المهمة والتعاليم الدينية التى إن طُبقت كما وضعها الباري عزُّ وجل، وأُحسن الاستفادة منها في بناء المجتمع، ولم يسمح بإطلاق العنان للذات المريضة المنحرفة بالتخريب والانحدار، ستصل عند ذلك المجتمعات الى الرقى والازدهار، والا فقد تنشأ حضارة أو مدنية في فترة ما إلا أنها سريعة الانهيار وقد لا يمتد بها العمر طويلاً، لان الجذر الفاسد لا يمكن ان يعطى ساقاً واوراقاً خضراء و لا ثمراً ناضجاً طيباً: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ...) (1).

وقد يصدق القول بان الدين ليس له هدف سوى رفع المستوى الاخلاقي العالمي على المسيحية التي تنحصر تعاليمها في جملة من الوصايا الاخلاقية ولكنه لا يصدق على الاسلام الذي هو نظام متكامل للحياة. ولو كان هذا المفكر قرأ شيئاً عن فكر الامام على وشاهد المستوى الرفيع للنظام الاجتماعي الذي افتقد القدرة هو واسلافه ومن كان بعده على ادراكه بفعل عوامل الانحطاط الفكري واستغلال الانسان لاخيه الانسان لكان غيّر رأيه وقدم تصوراً آخر للدين ودوره في حياة الانسان.

وهذا مفكر الثورة الفرنسية والتي كانت آراؤه من اهم اسباب قيام الثورة الفرنسية وهو:

فولتير (1694 - 1778):

حيث « ... كان يدعو للدين العقلاني ويهاجم الدين الجامد والتعصب في أى صورة، ويخوض المعارك الضارية دفاعاً عن حرية الفكر وعن التسامح الديني، وينادي بحكم العقل ويناهض حكم العاطفة والشهوات ... رغم انه .

ص: 34


1- سورة الاعراف: الاية 58.

اتخد مذهبا في الفلسفة قريباً من مذهب (الدييزم) أي (الالهية) ... واساسه ان الله خلق الكون متقن القوانين كالساعة المتقنة الصنع، التي لا تحتاج الى إصلاح، ومنذ يوم الخليقة وكل شيء يسير فى انتظام وفقاً لهذه القوانين الثابتة، فهو ليس بحاجة الى التدخل لاصلاحه، حتى ما يبدو لنا في الظاهر أنه شر هو في حقيقته، شر جزئي، وجدَ من أجل خيرٍ كلّي وهذه الفلسفة العقلانية بطبيعة الحال، كانت في حقيقتها معادية للمسيحية وللكنيسة، لانها تنكر المعجزات وكل الوان التدخل الالهي في الزمان والمكان، وتقطع التواصل نهائياً بين السماء والارض الا في البداية والنهاية، وهي ليست فلسفة دهرية أو مادية، لأنها تعترف بوجود الله وقدمه على العالم المادي، ولكنها ترفض كالمعتزلة - فكرة الله المشخص ذي الصفات الحسان، المتدخل بذاته فى شؤون البشر داخل الزمان والمكان، فهو عندها كالملك الدستوري الذي يملك ولا يحكم، وقد حاول فلاسفة هذه المدرسة استرضاء الكنيسة والرأي العام المسيحى بقولهم ان الله تدخل مرة واحدة منذ بدء الخليقة عندما ارسل الروح القدس الى مريم العذراء ليخلق المسيح». (1) و

فولتير يريد أن يسير فى الطريق ولكن ليس على الطريق المعبد انما يريد ان يسير على اطرافه الترابية فان اتعبه ذلك صعد الى الطريق المعبد ولكن سرعان ما يعود الى طريقه الاصلي وهو تناسي النبوات وبالاخص نبوة محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

وكذلك لم يدخل في فكره مسألة الدعاء التي قد لا يعتقد بها (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (2) أو قد لم يفهم السنن 6.

ص: 35


1- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره ص 240.
2- سورة البقرة: الآية 186.

الالهية الكونية والتأريخية، اذ يرى فولتير ان الانسانية مرت بعهدين:

1 - عهد الفطرة.

2 - مرحلة صنع الانسان.

ويطرح فولتير العوائق الرئيسية لعدم وصول الانسان الى المرحلة الاخيرة وهي:

أ - الانحراف الطبقي: كان يرى ان النظام الطبقي ضرورة اجتماعية لان هناك فروقاً فى الاساس بين الافراد تختفى.

ب - انحراف الملكية

ج - انحراف اضطهاد الاجناس.

د - انحراف الاضطهاد الديني

وهناك علماء اخرون لا مجال لتعداد آرائهم وما يعتقدون به امثال ترجو وكوندرسيه وسان سيمون وغيرهم، لذا ننتقل الى نماذج اخرى اكثر ارتباطاً بعلم الاجتماع ونبدأ ب:

أو جيست كونت (1798 - 1857):

كان كونت فيلسوفاً اجتماعياً فرنسياً من مفكري القرن التاسع عشر ... يرى إن كل فرع من فروع معرفتنا، يمر في سيره عبر التاريخ نتيجة لطبيعة التفكير الانساني نفسه بثلاث حالات نظرية مختلفة هي الحالة الميثولوجية أو الخيالية ثم الحالة الميتافيزيقية أو المجردة واخيراً الحالة العلمية أو الوضعية.

وتلك الحالات الثلاث التي اعتبرها قانوناً هي التي مهدت لقيام علم الاجتماع الحديث لدى او جيست كونت ... ومن المعروف أن المؤرخين ينسبون الى (أوجيست كونت) الفضل في انشاء علم الاجتماع في اوربا ولا يزال هذا

ص: 36

الاعتقاد قائماً حتى الآن). (1)

«لاحظ كونت وجود بعض الفروق البسيطة في التكوين الجسماني بين الانسان وبين السلالات الحيوانية القريبة منه، كما لاحظ وجود شيء معين لدى الانسان غير موجود بالمرّة لدى كافة انواع الحيوانات وهذا الشي هو وجود حضارة معينة مرتبطة بتاريخ معين لدى الانسان كما لاحظ أن عنصر التاريخ هذا يميز الانسان على الحيوان، وأن هذا العنصر يتكون بصفة أساسية من المحافظة على القديم من جانب، والاتجاه نحو التقدم من جانب آخر، وكما يقوم عنصر التاريخ على النقل، فانه يحتوي ايضا على خاصية الابتكار، واستشهد على ذلك بتجمع القردة الذي يقوم على فكرة دون الابتكار، بينما التاريخ ينطوي على كثير من الاختراعات الانسانية، ذلك ان التاريخ هو الذي يسجل التأثير المنتظم والمستمر للاجيال بعضها على البعض الآخر، ومن هذه التأثيرات الحضارية يتكون الوجود التاريخي، كما ان الحضارة تسجل داخل هذا الوجود بواسطة التاريخ.

ولما كانت الخاصية المميزة للانسان هي حركة الحضارة عبر التاريخ فإن العلم الوضعي للانسان سوف يكون بالضرورة دراسة تلك الحركة الحضارية ... كما نستطيع تحديد الخطوط العريضة للتاريخ الذي هو جوهv الحياة الانسانية». (2)

ان افكار كونت هذه هي ليست اكتشافاً ذهنياً حضارياً للانسانية، فهو بتأكيده على العنصر التاريخى وما يضم من جانب المحافظة على تراث الامة الممتد لمئات السنين والعنصر الثاني خاصية التطور والابداع عند الانسان خلال .

ص: 37


1- التفكير الاجتماعي نشأته وتطوره - ص 302.
2- التفكير الاجتماعي - المصدر السابق - ص 304.

المسيرة الحضارية أو ما يسميه بالابتكار والاختراعات الانسانية انما اتخذ منهجاً كان الاسلام قد سبقه الى ذلك من خلال ما ستوضحه تباعاً؛ لانه قد تبقى امة خاملة لسنين طويلة على واقعها المريض لكنها بطبيعة وجود المؤثرات الاخرى لابد ان يصيبها التطور الحضاري الجزئي أو يشملها النزر اليسير من ذلك التقدم، ولا ريب ان الاجيال المتعاقبة يتأثر بعضها بالبعض أو تتأثر بتاريخها وتراثها الحضاري الباقي أو الزائل وكل ذلك ينقله التاريخ ويسجله لبواعث خاصة لها اثر ايجابي على مستقبل الامم والحضارات. والقرآن الكريم حينما يذكر ويؤكدان على الانسان ان يهتم بماضيه وما جرى وحلّ فيه من السنن التاريخية التي اعطاها القرآن للانسان كهداية ورحمة من الله وقانون اجتماعي تاريخي هدفه المحافظة على العنصر الانساني من الانحراف أو التمادي في الظلم والاستغلال (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (1).

وقد اكد النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم كذلك على تلك السنن التاريخية والاهتداء بها،

اما الامام علي علیه السلام فقد اهتم بالتراث وتاريخ الامم، وله في ذلك مقالة مهمة وقد شرحناها في الموضوع التالي تحت عنوان (تراث الامة وبناء المجتمع)، فاذن ما حاول (كونت) ان يطرحه ضمن افكاره ونظريته كان الامام على علیه السلام قد وضحه في عهده للاشتر رضي الله عنه وهو ليس بشيء جديد بالنسبة للفكر الاسلامي العظيم «ومفهوم التاريخ لدى كونت ينضوي تحت لوائه التاريخ الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والفني وكذلك تاريخ الاداب والفنون، وذلك لارتباطها .

ص: 38


1- سورة يوسف: الآية 111.

جميعاً برباط واحد وهو أنها من ابتكارات الانسان، بمعنى أن مزج هذه التواريخ يشكل تاريخ التفكير الذي يمهد لكافة أنواع النشاط الانساني في الوجود، ومن هنا فإن علم الانسان لدى كونت ليس شيئاً آخر سوى فلسفة التفكير عبر تاريخ العلوم، وفلسفة جميع فروع التاريخ التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً في داخل كل نوع من انواع الحضارة فاذا كانت السمة التي تميز الإنسان هي فكرة التاريخ التي تقوم على فكرة الحضارة، فإننا نجد أن هذه الفكرة هي التي تربط الافراد بعضهم بالبعض الاخر، وفي تلك الاثناء وقعت الثورة الفرنسية، وبدأ المفكرون في وضع اسس الاصلاح الاجتماعي المنشود للمجتمع الفرنسي مع اعادة تنظيم ذلك المجتمع بالصورة المثلى، ومن هنا اتخذكونت من دوره في الاصلاح الاجتماعي وسيلة لتأسيس علم جديد هو (علم الطبيعة الاجتماعية Physique Sociale) ثم عاد واطلق عليه اسم (علم الاجتماع Sociologie) على اعتبار ان كونت وجد أن المجتمع الفرنسي يعاني اضطراباً شديداً في التفكير وهذا الاضطراب ناشيء من وجود اسلوبين متناقضين للتفكير وفهم الظواهر احدهما الاسلوب العلمي الوضعي الذي يتجه اليه الناس في عصره وثانيهما التفكير الديني الميتافيزيقي الذي يلجأون اليه عند التفكير في الظواهر التي تتعلق بالانسان وبالمجتمع ... وبمقتضى استمرار هذين الاسلوبين سوف يستمر الاضطراب الفكري الانساني بل ويحدث اقصى ما يمكن حدوثه من اضطراب في التفكير، اذ ليس بعد قبول النقيضين خلل في التفكير، ولا اضطراب في الفهم. ومن هنا اطلق (كونت) على هذه الحالة اسم (الفوضى العقلية) ثم أكد - ما ترتب على ذلك - أي على الفوضى العقلية من فساد في الاخلاق والسلوك، لأن كل ما يعتري الفكر من اضطراب وفساد يتردد صداه في نظر كونت - في الاخلاق والسلوك - وكذلك ادى فساد الاخلاق والسلوك الى فساد شامل في

ص: 39

مختلف فروع الحياة، لان هذه الحياة قائمة على دعائم من الاخلاق والمثل، فبفساد هذه الدعائم وانهيارها تفسد جميع فروع هذه الحياة وتتقوض ارکانها ... فلا سبيل إذن للاصلاح الاجتماعي الا باصلاح الفكر الانساني، فبصلاحه يصلح ما أُفسد من الاخلاق، وبصلاح الأخلاق تصلح جميع فروع الحياة الاجتماعية» (1)، حتى تستقيم المجتمعات من خلال مبادئه الخاصة التي يؤمن بها ولا سيما بعد ابتداعه ديانة جديدة سماها - ديانة الانسانية - لتحل محل الله والديانات الاخرى وقد بينّا رأيه في فصل آخر.

ان اغلب علماء الاجتماع يتصفون بحالة واحدة كانهم اتفقوا عليها وهي الحوم حول الحقيقة ومجانبتها في نفس الوقت، وقد أشرنا الى ذلك قبلاً، ولاحقاً، لان هذه المسألة هي الاساس في الخلاف الفكري.

أما حول قضية ما يسميه كونت (بالفوضى العقلية) واصلاح الفكر الانساني الذي باصلاحه يصلح المجتمع وفروع الحياة الاجتماعية فهو كغيره يَدُل على البستان المثمر ولا يشير الى كيفية الوصول اليه وسلامة الانسان في هذا الطريق والمحافظة على هذا الانسان وعلاقاته هناك، فهو يؤكد على مسألة الاخلاق التي يعتبر فيها صلاح اخلاق الناس هي صلاح للمجتمع في كل جوانبه، والذي اعتقده ان ابتعاده عن الدين الذي يصون اخلاق الانسان والمجتمع هو بسبب الوضع السائد في الكنائس المسيحية في أوربا والبشاعة التي ارتكبت بحق الناس باسم الدين والرب، الأمر الذي جعله يدعو الى اصلاح هذه الامور حتى يستقيم المجتمع.

ولهذا «فالفكرة إذن هي اساس النسق الاجتماعي Social System و من .

ص: 40


1- نفس المصدر السابق ص 302.

هنا وجد كونت أن خلاص المجتمع من تلك الفوضى العقلية يحتاج الى فلسفة إصلاحية جديدة، فالفلسفة من وجهة نظره ليست لها غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة للوصول إلى غايات عملية في شؤون الاجتماع والاخلاق والسياسة والدين وأن الفلسفة بهذا المفهوم هي علم الاجتماع.

وأن هناك قاعدتين لكى يفهم الناس ظواهر المجتمع بهذا الاسلوب هما:

1 - أن تكون ظواهر المجتمع خاضعة لقوانين ولا تسير وفق اهواء ومصادفات.

2 - تيسير وسائل فهم الناس للقوانين التي تخضع لها ظواهر الاجتماع» (1).

وعلى اساس ما تقدم حول اصلاح الفكر الانساني والوضع العام الذي عاشه الفرنسيون بعد الثورة وما ترتب عليه من نشوء لجان للاصلاح كان كونت عضواً في لجنة الاصلاح الاجتماعي بعد الثورة فسعى الى معرفة ودراسة الظواهر الاجتماعية دراسة مباشرة - هدفه منها كشف القوانين التي تؤثر على الظواهر الاجتماعية للمجتمع الفرنسي ورأى انه لابد من قيام علم وظيفته دراسة ظواهر الاجتماع دراسة علمية وصفية تحليلية، واطلق عليه اسم (علم الاجتماع) هدفه القضاء على الفوضى الاخلاقية وبالتالي القضاء على الفوضى الاجتماعية.

نظریة کونت في الاسرة

«الاسرة في نظر كونت هي أساس الحياة الاخلاقية الفردية والحياة السياسية في نفس الوقت ففي داخل الاسرة تنشأ الفضائل الاجتماعية، والمجتمع الانساني في نظره عبارة عن أسرة كبيرة العدد، والحركة مستمرة فيها تعتمد على

ص: 41


1- المصدر السابق ص 308. 308

تقدم العلوم والفنون، ولهذا فإن علم الاجتماع يقرر حقيقة تاريخية، وهي أنه في كل مجتمع وصل الى درجة من التقدم توجد قوتان جماعيّتان تتميز كل منهما عن الاخرى ... إحداهما هي السلطة الزمنية التي تحكم وتسيطر، والاخرى هي السلطة الروحية التي توجه وترشد (من خلال ديانته الجديدة ديانة الانسانية) وهذا الازدواج هو مظهر من مظاهر الحضارة، ولهذا يجب أن ندركه ادراكاً تاما و أن ننظمه تنظيماً يحقق للمجتمع تقدمه وسعادته». (1)

ولابد ان نشير إلى هناك مدارس اجتماعية متعددة منها:

1 - المدرسة الاجتماعية البيولوجية: بزعامة هربرت سبنسر، وافكار هذه المدرسة تقوم على الربط بين الظواهر البيولوجية والظواهر الاجتماعية.

2 - المدرسة المادية التاريخية: بزعامة الفيلسوف الالماني کارل ماركس وتعتبر المادية الاقتصادية بمثابة قطب الرحى في التطور السياسي والاخلاقي والاجتماعي، ومن ثم ينتهي الى أن العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد الذي يشكل شؤون المجتمع في السياسة والاخلاق والدين ومعنى ذلك أن كل ما يحدث في جو المجتمع، وكل ما ينشأ فيه من ظواهر ونُظم إنّما يرجع الى طبيعة اقتصادية.

3 - المدرسة الجغرافية بزعامة برون وميشليه: وتقوم على تفسير كل ما يحدث فى المجتمع بظواهر جغرافية وبصورة تعسفيه.

4 - المدرسة النفسية: بزعامة (تارد و غوستاف لوبون) تلك التى لا تعترف باستقلال علم الاجتماع، وتقول بأن ظواهر علم الاجتماع إنما تقوم على التقليد والمحاكاة الناجمين عن الارادة الفردية وترتيباً على ذلك تلحق ظواهر الاجتماع بعلم النفس، وتلك محاولة كان هدفها القضاء على شخصية علم .

ص: 42


1- المصدر السابق ص 324.

الاجتماع وتفسير الظواهر الاجتماعية تفسيراً نفسياً.

وهناك مدارس أخرى منها المدرسة الاثنولوجية، والمدرسة الانثربولوجيا الاجتماعية أو دراسة المجتمعات المختلفة، والمدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع بزعامة دوركايم ومعاوينه. (1)

البناء المستقبلي وعلم الاجتماع

كان لطرح فكرة معرفة الطبيعة البشرية، واستخلاص القوانين والمبادىء التي تتحكم في تطور المجتمعات و تقدمها اثره الايجابي وذلك من خلال معرفة الظواهر الاجتماعية في أي مجتمع كان، والتأثيرات التي تتركها تلك الظواهر بالاضافة الى المؤثرات الحضارية الخارجية والانفجار العلمي الواسع الذي بدأ من خلاله طرح الافكار والنظريات وبقوة للتاثير على سلوكيات الناس بادخال طرق حضارية جديدة نابعة من الحرب الاعلامية والنفسية التي تقودها الدول المتقدمة ضد دول العالم الثالث التي لا سبيل لها للدفاع عن فكرها ومعتقدها وتراثها امام الاقمار الصناعية والاجهزة الكومبيوترية المعقدة والانترنيت الدولي والبث الاذاعي والتلفزيوني الذي يدخل كل بيت وفي كل نقطة من العالم وفي كل لحظة ودون حياء أو استئذان، كل ذلك مؤثرات تحتاج الى البحث والدراسة بصورة عامة ووضع العلاج المناسب لكل داء، فالشبكات والقنوات الفضائية التلفزيونية التي تحمل السموم في مضامينها وتوجّه بثّها الى البلدان الاخرى نستطيع ان نصفها بالفاسد المنافق لان هدفها الأول افساد المجتمع وحرف الناس عن معتقداتهم الدينية وقيمهم الاخلاقية وبالتالي طمس المعالم الحضارية

ص: 43


1- المصدر السابق ص 353.

والتراثية وتدميرها بصورة كاملة فى حين تعطى صورة مغايرة لهدفها الاصلى بانها رسول الحرية والتقدم الحضاري.

و امام هذا الغزو الثقافي فنحن نحتاج الى علم الاجتماع في هذا الوقت اكثر من أي وقت مضى، ذلك العلم الذي قدّمه علي علیه السلام بفكره الاجتماعي الواسع لا بالنظريات الاجتماعية الاوربية وغيرها، فالذي يستهوينا ويجذب قلوبنا هو تخطيط مستقبلي وفق اسس علمية ومنهجية واضحة، وبناء حضاري وتقدم عمراني واقتصادي وثبات سياسي و اجتماعي، ونمو حقيقي وواقعي يعطينا الهيكلية الصحيحة لبناء المجتمع المتماسك الذي يسوده العدل والمساواة، وهذا يحتاج الى الدراسة والبحث في جميع جوانب خلايا النسيج الاجتماعي، وقد اعطى الامام علیه السلام صورة واضحة لذلك البناء من خلال تعاطيه كافة المشكلات بصورة علمية وموضوعية بحيث وضع لتحليل ودراسة الظواهر الاجتماعية أُسساً مثالية تستند الى دراسة لم يسبقه احد بها مستوحاة من الفكر الاسلامي العظيم، فبالاضافة الى معرفة كافة الجوانب المؤثرة في الحياة العامة والطرق والاساليب الواجب اتخاذها والنابعة من خزين عميق وخلفية علمية واسعة لا يسع أحد حملها الا على علیه السلام نراه يعطي لكل جانب من جوانب مسيرة المجتمع وحركته تصوراته المستقبلية بصورة متوازنة، والتي ما إن بعدت عن المسيرة حتى انحرف المجتمع وحلّ الضياع الذي يتبعه الفساد الاجتماعي والاداري والخلل في المعاملات العامة الاقتصادية وغيرها وبالتالي ينهدم كيان المجتمع ويفلت زمام الامر من ايدي اهل السلطة وقوامها، فالامام على علیه السلام يُصلح في موقع الاصلاح، وينبه قبل اجتياح الفيضان و خراب المجتمع والبلدان، ويضع لنا صورة القائد الذي يجب ان يكون في مكانه الحقيقي، وكأن تناسق وترادف الكلمات في بياناته ورسائله خطوات مبرمجة وواضحة المعالم يسير عليها

ص: 44

المهتدي الى جادة السلام والتي بدورها تعطي الملاكات الكاملة لازدهار حياة الامة وابعاد كل المخاطر عنها وعن مسيرة تطور وضع المجتمع.

كما نعلم ان هناك اتصالاً وثيقاً بين العلوم الاجتماعية بأشكالها سواء كان في حقل التاريخ والجغرافية أو علم النفس وعلم الاجتماع والتربية أو العلوم السياسية والاقتصادية فهي العلوم التي تدرس الجوانب المتعددة لموضوع واحد - المجتمع والحياة الاجتماعية - فمن الطبيعي ان تتقاطع وتتماسك ويتصل بعضها ببعض ليكمله.

وأكثر ما تكون هذه الظاهرة بروزاً في العقود المتأخرة من قرننا الحالي حيث تطورت الحياة واحتاجت المجتمعات والدول الى دراسات علمية معمقة لغرض استخلاص النتائج الايجابية لبلورة صيغة تكفل بناء مجتمع لا نستطيع ان نقول انه مثالى بل تُضمن فيه الحقوق المشروعة، ويمنع الظلم، وتسود العدالة والسعادة والاستقرار والرفاهية، وبالتالي فالحاجة اصبحت ماسة الى صياغة سياسات اجتماعية جديدة، ومثال واحد يكفى في توضيح مستوى الترابط الوثيق بين هذه العلوم المختلفة، ومثالنا الذي نختاره هو مشروع تخطيط سياسة تعليمية في مجتمع ما، فمشروع كهذا لابد أن يبدأ بالدراسات التالية:

1 - دراسة ديموغرافية لذلك المجتمع.

2 - دراسة تاريخية للمراحل الحضارية التي مر بها هذا المجتمع وكياناته.

3 - الاطلاع على المراحل التي كان فيها التقدم الاجتماعي والحضاري واضح المعالم، والاثار السياسية المنعكسة على ذلك.

4 - دراسة سايكولوجية أفراد كل منطقة من مناطق الكيان الاجتماعي ومعرفة الترابط والتنافر الموجود فيه.

5 - العقيدة الدينية التي يؤمن بها المجتمع وقوة الايمان لدى افراده والتلازم

ص: 45

الموجود في سلوكية المجتمع من جراء ذلك ومدى الايمان بالقيم الاخلاقية والروحية والالتزام بها.

6 - دراسة العادات والتقاليد والاعراف الاجتماعية والثقافية العامة التي يحملها ذلك المجتمع واستخلاص ما كان فيها نفع ودفع و ما كان منها يشل ويهدم.

7 - دراسة جغرافيّة من كافة النواحي (المناخ، والطقس، واختلاف درجات الحرارة، والامطار) واثر ذلك على حركة الافراد وقوة الابداع لديهم وعلى أمزجتهم.

8 - البناء الاقتصادي للمجتمع وحجم الفواصل الطبقية بين الناس ومدى اهمية وتأثير ذلك فى حركة وتطور المجتمع ونموه.

9 - الاسرة التي تعتبر النواة الأولى في الكيان الاجتماعي ومعرفة قوة ترابط النسيج الاجتماعي ومدى تأثير ذلك الترابط في المسيرة العامة.

10 - الاطلاع على البيانات والاحصائيات عن المتعلمين وغير المتعلمين واثر ذلك في الدفع المعنوي للاقبال على التعليم العام.

هذه نقاط عن الجوانب المهمة والاساسية التي يجب دراستها لغرض وضع سياسة تعليمية خاصة لاي مجتمع، وهذا يدخل ضمن علم الاجتماع التعليمي وبالتالي نرجو من ذلك الحصول على نتائج ايجابية لبناء تلك السياسة حتى نحصل على النجاحات المرجوة والمطلوبة.

وقد وضّح علي علیه السلام ذلك لنا في صور مختلفة واعطانا نتائج مثمرة جاهزة ومتكاملة في مختلف جوانب الحياة العامة لذلك تبرز اهمية دراسة علم الاجتماع.

وللامام علیه السلام كما قلنا افکار رسمها وعلوم بثها فى مختلف المجالات سبقت عقول اولئك الذين ادعوا الريادة في العلوم الاجتماعية أو غيرها، وكما هو معلوم

ص: 46

من جملة التعاريف والمعاني الموجودة لعلم التاريخ، انه «كل تطور حاصل في المجتمع»؛ فاذا ما علمنا ان الامام علیه السلام هو أول من وضع اساس الارتباط الوثيق بين حركة التاريخ وعلم الاجتماع كدعامة اساسية للتخطيط المستقبلي وبناء الدولة المتكاملة والمجتمع المترّاص والوصول بالمجتمع الى اعلى مرحلة من مراحل النضج الفكري ووضوح الرؤى وهذه القضايا لا تنفذ الى المجتمع وتأخذ قرارها في فكر المجتمع الانساني خلال سنة واحدة أو سنتين أو اكثر انما تحتاج الى عملية بناء طويلة.

اننا نؤكد ان الامام علیه السلام رجل الاجتماع الاول ورجل العدالة الاجتماعية والنظام الاجتماعي الحديث بما حوته افكاره الدقيقة والمشخصة لكل السلبيات والايجابيات.

ص: 47

ص: 48

الفَصْلُ الثّاني

اشارة

الترابط الوثيق

ص: 49

ص: 50

تراث الامة وبناء المجتمع

الحضارات التي تعاقبت على الأرض حمّلت هذه الكرة الفضائية تاريخاً تراثاً ضخماً دَلَّ على تطور الشعوب ومدنيتها والاحوال التي مرت بها، واصبح لدى الاجيال فيما بعد علماً تراكمي في كافة مناحي الحياة، وبالاخص الجانب الاجتماعي منها.

وحياة الامم والشعوب فيها تنوع واختلاف وسلائق خاصة بكلِّ منها، وكما نعلم فإن لكل مجتمع بشري طبائع وأعرافاً متداولة وقيماً متواردة تميّزه عن غيره ولا يمكن للانسان الباحث ان يغض النظر عن ذلك، فدراسة حياة الشعوب لابد ان تبدأ من دراسة التراث المتراكم الذي ما زال البعض منه حياً تتداوله المجتمعات من جيل الى آخر وتعمل به، فالقيم والاعراف والعادات والتقاليد وغيرها مضافةً الى التطورات الحضارية المختلفة تلقي بظلالها على حركة تطور المجتمع وتقدمه، لذا فالبحث التاريخي الاجتماعي يحتاج الدخول في مفاصل الحياة العامة للمجتمعات البشرية، أو ما يسمى بالظواهر الاجتماعية، ومنها القيم والافكار والمعتقدات والمفاهيم الشعبية الخاصة، أي التراث بصورة عامة نحصل من خلالها على الصورة الحقيقية الناصعة عن ذلك المجتمع، ولا نتغافل عن جانب ونبرّز جانباً آخر، كما لا نطوي طبيعة حياة الجمع العام ونتعلق بحياة البلاط والحاشية، فالحركة الاجتماعية لا تقوم بها طبقة من المجتمع دون الاخرى

ص: 51

فالكل رسم بصماته على تاريخ البلد، وأنّ حركة المجتمع تبدأ من الصغير والكبير على السواء، فالكل يتكامل باجزائه، و لا تنهض المدنية الحضارية لبلدٍ نحو الافضل الا بتظافر اجزاء كيانه، وكذلك لا ننسى ان افكار العامة تحمل من التراث ما لم يحمله غيرها وتحتفظ وتفخر به وهذا يعتبر عندهم جزءاً من الارث المعنوي الكبير لهم، اذن لا يمكن سحق كل ذلك والحكم عليه بالاعدام، لانه جزء من ادوات حركة المجتمع العامة لذلك نرى قيام الدين الاسلامي بمراعاة هذا الأمر وطوّر فيه الصالح من العادات والتقاليد والاعراف، وخير مثال ما قام به الرسول صلی الله علیه و آله و سلم خلال مسيرته الخالدة والحافلة عندما أقرّ الكثير من السنن والاعراف والعادات الصالحة، واصلح ما فسد منها ضمن إطار المحافظة على تراث الامة من خلال الاقتداء بالسنة الطيبة الطاهرة في قيادة الناس للصلاح، اما أن يقوم من يدّعى التقدمية والتطور بطمس افكار الديانات البشرية وقلعها من اذهان الناس الذين اعتنقوها منذ مئات السنين، ويهتم بامور لا تمثل حقيقة معنى التراث النافع للمجتمع ويعمل على تنمية المفاسد الاجتماعية فيه انما ذلك يعتبر سحقاً لكل القيّم التي تحيي الانسان وتحافظ على كرامته، وقد نسي هؤلاء ان الفطرة الطاهرة ستبقى ما بقي الانسان في هذه الحياة، ويخرج زرعها من الارض عند اول قطرة ماء تسقى بها و هذا ما شاهدناه في حياتنا المعاصرة، وكما أنّ هناك سنتاً الهية لا يمكن اهمالها والابتعاد عنها وادارة الظهر لها، هناك ايضا سنن - اجتماعية سارت عليها المجتمعات لا يمكن محوها من الاذهان بصورة تامة، فما صلح منها يعتبر عاملاً مهماً في تقدم المجتمعات وتطورها وماكان سيئاً منها يجب تقويمه بصورة صحيحة بعيدا عن العنف والتهور والقوة، لان ازالة الافكار الخاطئة عن اذهان بعض الناس يحتاج الى بناء ذهنية جديدة، كما فعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مع ذلك المجتمع البدوي المتعصب المتمسك بتقاليده وعاداته التي

ص: 52

تحسبه لا يتنازل عنها يوماً، الا أنه بخلقه الكريم وشريعته السمحاء قام ببناء ذلك المجتمع على اساس الاسلام وحضارته العظيمة، اذن يجب ان يعتمد عملنا على التحاور العقلائي الذي يستند الى الادلة الواقعية الحية والمعتمدة على الصور التاريخية والواقع المعاش، وتوضيح ما تتركه تلك العادات والسنن السيئة من سلبيات ظاهرة في حياة المجتمع، ولذلك نقول اننا بحاجة الى الكثير من الاهتمام بدراسة تراث الامم وتشذيبه للاستفادة منه في بناء المجتمعات فنأخذ المآثر الحسنة للاستفادة منها، ونضع الدراسات التاريخية الاجتماعية على ضوء ذلك وطرح منهج تفسيري وتحليلي مناسب للضرورة المطلوبة حتى نحصل على الصورة الحقيقية للمجتمع ومناحيه وما يعتمده، كي نفقه ما نخطط له و نكتب اليه ونتحدث عنه وتقدّم ما هّذبناه من الافكار الى الاجيال القادمة نقياً صافياً نافعاً وهذا هو هدفنا وهدف علم الاجتماع.

فعليٌّ علیه السلام قد اهتم بالتاريخ والتراث الصالح والحضارات والدول واكد على معرفتها وصور اعمالها حتى يمكن الاستفادة من بعضها في المحافظة على تشكيلات المجتمع والكيان السياسي «ثَمَّ اعْلَمْ يا مالِكُ، أنّي قد وجَّهتُك إلى بلادٍ قد جَرتْ عليها دُوَلٌ قَبْلَكَ من عدلٍ وجور».

ثم ان الامام علیه السلام يؤكد على الاهتمام بالسنن الصالحة للمجتمع ويرفض ان تُنقضُ مثل تلك السنن أو يحدث بها اضرار «وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الاُْمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الاُْلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْء مِنْ مَاضِي تِلْکَ السُّنَنِ، فَيَکُونَ الاَْجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْکَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا. وَأَکْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُکَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِکَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ

ص: 53

قَبْلَکَ». (1)

فالامام علیه السلام يشير الى احتمال أن تطغى على ذات الانسان الحاكم حالة من رفض لما سنّهُ من كان قبله على سدّة الحكم لتداخل عوامل عديدة منها الطموح وحب الذات والظهور بمظهر المصلح والاغترار بالنفس أو الكره لما هو موجود بحيث يدفعه ذلك الى ترك العمل بما وضعه أو سنه من كان قبله أو ما صلح عليه أمر الرعية، وكما ذكرت سابقاً فإن المجتمعات لها سنن انتقلت اليها تعاقبا أو سارت عليها من جيل الى جيل، فالامام علیه السلام يوضح الامور بحيث يُشعر الوالي بالالتفات الى صغائرها، فهو ينظر الى جميع جوانب حياة المجتمع كعالمٍ اجتماعي تاريخي لا مثيل له وعارفٍ بطبائع الخلق ومعلمٍ للانسانية، فالسنة الصالحة هي لصالح المجتمع و تقدمه از دهاره، والمجتمع الذي جرت سليقته على المسير في تلك السنن الصالحة سوف يحفلى بالرقى فما من شيء حُفظ في قلب الامة من سنة صالحة أو طبع سليم أو اخلاق اجتماعية صحيحة متداولة أو اعراف وتقاليد تنجي المجتمع من الاخطار والمشاكل أو ادب جرى على الالسن وحفظ في الصدور الّا واعتبر اسلم طريق لحفظ الاستقامة والعدالة من غيره ومن كل تعليم جديد وارد من بعيد؛ فالخزين المحفوظ خيرٌ من الحديث الذي لا يألفه الانسان ولا يستقرىء ويعالج واقعه «ولا تنقضن سنَّةً صالحة عَملَ بها صدور هذهِ الامَّة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرَّعيَّةُ» فالامام علیه السلام يشير الى ان المجتمع اذاكان يعيش وادعاً سليماً بتلك السنن ولم تخالف شرعاً ولا عقيدة فما الداعي للاضرار بها، فتغيير ثقافات المجتمعات بصورة كاملة وطمرها تحت الارض يورث العناء والتبعثر والتشتت، لان هذه الثقافات تداولها المجتمع .

ص: 54


1- نص عهد الامام علي علیه السلام للاشتر - نهج البلاغة - تحقيق الدكتور صبحي الصالح - ص 431 دار الهجرة - 1395.

ومرّت بمخاضات كثيرة حتى صُقلت ووصلت الى الاخرين شبه تامة تقريباً وذلك نتيجة لما قدمه السابقون من تجارب وتضحيات وربما خسائر مادية ومعنوية حتى وصلت الينا سنة صالحة.

فالامام علیه السلام هنا يؤكد على السنة الصالحة فقط لانها الاكثر اثراً فى النفس وبها سارت الامة بالمنهج الصحيح، فالمجتمعات البشرية التي لديها تراث حضاري ضخم هي اكثر المجتمعات ثقافةً وعلماً لكن الظروف التي مرت على بعض تلك الشعوب من حروب دامية وسيطرة اجنبية وايام قاحلة سوداء مظلمة واقتتال طائفي وقومي بعيد كل البعد عن القيم الانسانية ادى الى خمود حركة تلك الشعوب ودمارها بحيث أصبح من العسير عليها أن تنهض مرة اخرى بل تراجعت و تخلفت فالامام على علیه السلام يشير الى البعد الثقافي والحضاري للشعوب واثره في النظرة الاجتماعية للوالي اتجاه رعيته، وما نلاحظه الآن هو كثرة اهتمام الدول بماضي الامم وحضاراتها وتراثها وقد سارت على هذا النهج الكثير من الدول واهتمت بالتراث الشعبي من حيث الأزياء وفن العمارة والمساكن والاداب بالاضافة الى الفنون الشعبية والصناعات اليدوية المحلية، واخذت تطورها وتبعث فيها الحياة من جديد لتبرزها الى الشعوب وتفخر بها وتصرف الاموال الطائلة عليها من اجل ذلك.

ولا زال الكثير من الشعوب يعتز بتراثه وامجاده وهى وسائل دفع معنوي لتلك المجتمعات للنهوض والتقدم، وما من شعب بدّل ثقافته وتراثه وطرحها جانبا واستعاض عنهما بافكار وثقافات دخيلة الا وبرز الخلل فيه وانتشر الفساد ولم تعمر البلاد، فالتقدم الحضاري لا يعني تدمير افكار الشعوب أو افسادها وترك كل ما هو خيّر وصالح، فالحضارة والتقدم لا تتنافى مع السنن الصالحة وحفظ التراث بل بالعكس إذا امتزج العلم والمعرفة بتلك السنن

ص: 55

الصالحة تحدث تطورات عظيمة وطفرات حضارية واسعة، ولا يكون هناك تنافر بين الصور الحضارية الانسانية وبين التراث العام للامة ما كان صالحاً منه بل يزيد من ثباته ويقوي إرادة المجتمعات في التقدم والتطور في كافة نواحي الحياة ولا اعنى هنا بالتراث (الفجور والرقص وحالات تبنى القوانين الجاهلية، وصور التعامل القديم وغيرها) فذلك لنا موقف آخر اتجاهه.

ثم ينتقل الامام على علیه السلام الى جانب مرتبط بما سبقه وهو دور العلم والعلماء في مساعدة الوالي لقيادة المجتمع فيقول:

«واكثر مُدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت مَا صَلُحَ عَليهِ أَمْرُ بلادكَ وإقامةِ ما استقامَ بهِ الناسُ قبلكَ». (1)

فالعلماء وأهل المعرفة وحكماء الامة من ذلك البلد هم اعرف بخفايا وخبايا وتاريخ مجتمعهم والادوار السياسية التي مرت عليهم، وهنا يطلب الامام علیه السلام الاخذ بافكارهم والتباحث معهم ومحادثتهم في امور البلاد من اجل الصالح العام، لانهم اعرف الناس بما صلح عليه امر الامة والبلاد، واكثر الناس دراية فيما استقاموا عليه من قبل لانهم في حقيقة الامر أئمة في واقع مجتمعهم واعلم بالحال من غيرهم، وعندهم التاريخ الاجتماعي كله، فالوالي بامكانه بناء نهجه باستخلاص العبر والدروس مما يحمله هؤلاء، فهم سجل ناصح للحقائق التاريخية، وهؤلاء نستطيع أن نعبّر عنهم ايضاً بالقيّمين الحقيقيين على تراث المجتمع فيجب ان يتقدموا على غيرهم في مباحثة ومداولة الوالي، والاخذ منهم افضل من الاخذ من طرف بعيد غيرهم لانهم مستودع علمي وثقافي وتراثي .

ص: 56


1- نهج البلاغة - تحقيق د. الصالح - ص 431.

و تاريخي ضخم، ونستدل من ذلك ان الامام علیه السلام اعطانا قانوناً اجتماعياً عاماً ينفع المجتمعات البشرية، وهو ان كل مجتمع انسانی له خصائصه وميزاته وتراثه و امتداده التاريخي عند هذا الطرف الاجتماعي أو ذاك لان التاريخ الانساني مترابط بعضه ببعض بحيث لا يمكن تطبيق سنن وطرق حياتية لهذه المجتمعات أو وضع تشريعات وقوانين تمس حياة الامة وتحذف عنها تراثها وتاريخها بصورة كاملة، الا بشريعة واحدة استوعبت كل هذه المعاني وهي الشريعة الالهية التي جاء بها محمد صلی الله علیه و آله و سلم لانها أقرت الشيء الصالح والقانون الثري والملائم الذي تحتفظ به الامم والذي لا يتناقض مع اصل العقيدة الدينية والايمان بالله والرسل واليوم الآخر.

فالمجتمعات التي لها تراث حضاري كبير، امتزجت فيه السنن الصالحة مع التشريعات الالهية القادمة عليهم حققت طفرات حضارية وعلمية كبيرة، وتقدّماً منقطع النظير في تلك الحياة التي تسودها العدالة الاجتماعية، وفرق كبير بين هذا وبين الافكار الوضعية الواردة لتلك الشعوب، والتي تؤدي الى مسخ ثقافاتها وتراثها عن طريق الافكار التي تتنافر اساساً مع البنية الثقافية والتراثية لتلك المجتمعات، ولم تمتزج معها حتى لفَظَتها بعيداً عن واقع مجتمعاتها ولو بعد مدة طويلة وعادت الشعوب الى مبادئها الاصيلة.

فمعالجة مشاكل المجتمع تأتي من خلال اخذ الحقائق والمعارف عن المجتمعات من خلال علماء الامة وحكمائها حتى لا تضيع البلاد في المتاهات الضالة المنحرفة، وقد لاحظنا انه ما من حاكم حاول ابدال التقاليد واساليب الحياة وعادات المجتمع الصالحة وتراثه الخالد خصوصاً في بلداننا الاسلامية التي عمل الدين على تنقية التراث فيها وتربية المجتمع تلك التربية الصالحة الا وفشل.

ص: 57

حيث اخذت الشعوب المبادىء الاسلامية واحتفظت بالتراث المنقى رغم محاولات الحكام المتأثرين بالغرب الذين حاولوا اتخاذ ذلك المنهج الغريب لتلك الصور الحضارية المزيّفة وغير الواقعية والتي لا علم ولا معرفة ولا تقدم في جنباتها كنظام اجتماعي جديد حاولوا تطبيقه بالقوة ليسحقوا تلك القيم والمبادىء الاسلامية لتعيش الشعوب السنين من عمرها على السراب حيث انتشر الفساد وضاع كل شيء منهم، الا ان المبادىء الاصيلة التي حفظت التراث الصالح عادت وبرزت من جديد متحدية كل التعدي والتغيير والابدال الذي حاول الحكام العمل به.

وما (رضاخان) فی ایران و (کمال اتاتورك) في تركيا الاصور حقيقية وتاريخية لما قام به هؤلاء من تلك الاعمال الشائنة ضد شعوبهم.

ولیس ما نشاهده الآن من انقلاب حقيقى وعودة الى الفطرة السليمة في ايران وتركيا الا شاهداً حيّاً على ما ذكرناه سابقاً.

منفعة الامة وصلاح أمرها إذاً هما من واجبات الوالي وما يتعين عليه القيام به، والامام على علیه السلام يؤكد ذلك ويقول: «والواجبُ عَليْكَ أنَ تتذكَّرَ ما مضَى لِمَن تَقَدَّمك مِنْ حُكومَةٍ عَادِلةٍ أو سُنَّةٍ فاضِلَةٍ، أو أَثرٍ عن نبّينا صلی الله علیه و آله و سلم، أو فريضةٍ في كتابِ الله فتقتدي بما شاهَدتَهُ ممّا عملنا به فيها» (1) وهذا تأكيد ثانٍ للامام صلی الله علیه و آله و سلم على الاخذ بالعبرة التاريخية النافعة والسنة الفاضلة مع الاهتداء بالقرآن والسنة النبوية الطاهرة ثم الاقتداء بامامه في اعماله المقيدة في هذا الجانب بما شاهده من عمل الامام علي علیه السلام بتلك الفريضة يضة او السنة النبوية. .

ص: 58


1- نص العهد للاشتر.

علم الاجتماع والتاريخ

هناك ارتباط وثيق بين علم الاجتماع والتاريخ، إذ إن المجتمع بحركته اليومية هو تاريخ للبشرية مستقبلاً، والدراسة الاجتماعية لا تكون ناضجة وتامة اذا لم تكن هناك دراسة متكاملة للتاريخ الاجتماعي وظواهره الاجتماعية ثم تأتي دراسة الامور الاخرى السياسية والاقتصادية والنفسية والعسكرية وغيرها، وكلها تدخل في هذا النطاق ولهذا بُذلت الجهود لوضع فلسفة خاصة لتفسير التاريخ وكانت هناك عدة تفسيرات متنوعة حسب الايدلوجيات المطروحة ومنها التفسير الاسلامي للتاريخ الذي يعتمد على السنن التاريخية التي وضحها، القرآن الكريم وكان هناك مجموعة من العلماء والفلاسفة الذين درسوا التاريخ والمجتمعات ليعطوا للعالم نظرياتهم الخاصة التي لا تعتبر قانونا تاماً للمجتمعات انما فيها الغث والسمين الا أن اغلبهم كان يؤكد على الجانب الاخلاقي في حياة الامم والشعوب فقد «كان (فيخته) وهو اقرب الى العنصر الاخلاقي في فكر (كانت) يعتبر المطلق جوهرياً من حيث أنه نظام اخلاقي، فإن مفهومه الاساس (للأنا) كان يعنى (كما كان يردده بيسر) لا (الأنا) الفردية ولكن المطلق والارواح الفردية المتناهية هي الاحوال التي تفصح بها الحياة اللامتناهية عن نفسها، ووفقاً لهذه النظرة فإن كل واحد يجب أن يكون له مكان وحيد في التاريخ، ومع ذلك فان فيخته كان يعلن في محاضراته المنشورة بعنوان منهج للوصول الى الحياة الاسعد (من لا يزال له أنا بعد، فليس يوجد فيه بكل تأكيد أي شيء طيب)». (1)

ص: 59


1- ويد جيري - البانج المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس الى توينبي - ص 230 ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم بيروت - الطبعة الثانية 1979.

إلّا أن هذا الفيلسوف كان ضائعاً في متاهات اللامعقول والخيال العاري فهو يضع فكره على بساط الريح ولا يعلم متى وكيف ينزل الى عالم الواقع، ثم يؤكد على عنوان (الانا) في الانسان دون ان يوضح الطبيعة الذاتية للانسان وهو يريد ان يحصل على الاشياء الطيبة أي زينة النفس الانسانية (الاخلاق الفاضلة) ويهمل مسألة مهمة وهي النوازع الذاتية في نفس الانسان والطموحات والرغبات التي تدفعه الى المنازلة مع العالم المجهول لاكتشاف الحقائق النافعة لتطوير المجتمع وتقدمه، فقد نفى كل شيئاً ولم يعط شيء للنفس الانسانية وللدغدغة الذاتية للروح، فهو يغوص في مفاهيم غامضة نوعاً ما ويبتعد فيها عن الواقع الذي لا مناص منه وهو تأثير العقائد الروحية على كبح جماح النفس امام المطالب غير المشروعة والتي تضر بالقيم الروحية والاخلاقية وتفسد الحالة الاجتماعية وتتفشى فيها حالة (الأنا) بصورة قاطعة على خلاف رغباتها ونوازعها باتجاه الخير، فحب الانسان للظهور بموقع عامل الخير هو دافع ذاتي وحب للأنا اذا ما اردنا مقايسته واثره في النفس العاملة، ولكنه في واقع الحال شيء حسن وهو ان يعمل الانسان الخير ولو كان الدافع الاول هو حب الظهور للحصول على الاطراء والثناء والمديح من الآخرين، وهنا يبدأ دور العقائد الروحية في تهذيب فكر الانسان لترشده الى أن هذا العمل الطيب اذاكان خالصاً لله وبعيداً عن الرياء فهو أصلح وأنفع؛ فصلاحه يحافظ على كرامة الانسان، ونفعه هو الفلاح بالثواب عند الله، حتى في مجالات العبادة والتوسل والدعاء فان الدوافع الاساسية لذلك هو اشباع رغبات النفس للتقرب الى الله تعالى والحصول على ثوابه وحسناته، فإذن (الأنا) هنا مشروعة بارادة الله تعالى وهي لا تتناقض مع العدالة والحق والاستقامة في المجتمع بل تعطي هذه المفاهيم قوة كاملة للتطبيق والعمل بها. اذن لابد من فصل بين الدوافع الذاتية

ص: 60

المشروعة النافعة والضارة غير المشروعة، فعملية بناء الذات لدى الانسان وفق التصورات الواقعية لا تأتي من الطرح النظري الفارغ انما تأتي من اصالة المبادىء الروحية التي تصقل افکار الانسان و نفسه باتجاه حفظ المعالم الاجتماعية والتعاون الانساني.

وقد «كان فيخته وهو يناقش مصيرية الانسان يصف (الكمال (كأنه (غاية الانسان البعيدة المنال (وانه (أبدية استكمال موهبته) فإنني (اعرف في كل لحظة من حياتي ما يجب أن أفعله وفي هذا تكمن قابليتي في النطاق الذي يتعلق هذابي (ولكنني) لا أستطيع ان افهم قابليتي بتمامها: فإن ما أكونه في العالم الاخر يفارق فكري) (1) ويظل (فيخته) في هذا الدوران الذي لا يبلغ بصاحبه مركز الدائرة انما غايته البقاء في محيطها الأبعد «غير أن الإرادة الابدية تتصرف بالكل في سبيل الاحسن وفي النهاية كل شيء يصل الى مرفأ السلام الامين وإلى التطهير الابديين». (2) وكان فيخته يقر بأن هذا الضرب من التفكير لا يمكن أن ينتج بأية حال من ملاحظة العالم البسيطة، فكان يبرهن في الواقع، على أن أول حكمة لنا يجب ان تكون «عدم قبول الحياة الظاهرة في الزمن كشيء اكيد وحقيقي بذاته، وانما افتراض وجود ما هو أرفع، فيما وراء هذه الحياة».(3)

وكان (ماكس نوردو) 1849 - 1923 م بتأثير اوجست كونت يجنح أحياناً الى جعل علم الاجتماع والتاريخ متماثلين.

«ان علم الاجتماع هو التاريخ ولكن بدون أسماء اعلام، والتاريخ هو علم .

ص: 61


1- نفس المصدر السابق ص 230.
2- نفس المصدر السابق ص 230.
3- نفس المصدر السابق ص 230.

الاجتماع مجداً و فرداً» وكان يتوجه، منطلقاً من هنا نحو علم النفس فيلح الحاحاً نوعياً على الشخص الفردي «إن علم النفس الفردي وحده هو الحقيقي» اذ ليس من الممكن الوصول الى فكرة دقيقة عن بنية الحياة الانسانية الداخلية الا بدراسة المميزات الفردية وضروب الفكر ورد الفعل، باختصار البيولوجية والسيكولوجية الفرديين، ذلك إن «تاريخ البشرية مؤلف من اعمال رجال فرديين واذ كان يعطي وصفا قائماً على السعادة الحسية لرغبة الفرد في الحياة، فهو يعيش وسوف يعيش لأنه ينتفع باللذة من الحياة» الا انه في ختام رأيه يعلن ان المثل الاعلى وحده يستطيع دعم بحث في المعرفة غير منحاز: (الطِيبة والحب النزيه). (1)

ان (نوردو) تدور آراؤه كما هو (نيتشه) ايضا على (الانا) أى حب الذات وهي في نظره تقود الانسان الى الافكار الاخلاقية واللاهوتية ثم يطلب (المحافظة عليها) وكان قد سبقه العالم الالماني (فريديريك نتشه 1844 - 1900 م) في ذلك التخبط الممقوت والدوران الزائف والابتعاد الممزوج بالتعصب عن صور الحق، وكان هذا قد هاجم تصورات هيجل العقلية والمثالية ويعتبر التاريخ (مجرداً من المعنى) أو يقول «ان القوى التي تعمل في التاريخ تكون ممكنة التميّز منذ ان نضع جانبا من التأملات في معنى الغائية والاخلاقية والدينية فيجب ان تكون هذه القوى التي تعمل كذلك في مجموع ظاهرة الوجود العضوي، ان اوضح حالات ظهورها توجد في مملكة النبات». (2)

وهو متأثر الى ابعد حد حول حركة الانسانية بالتفسير البيولوجي للتطور حيث يعتبر ايضاً «(النفس) و (الروح) و (حرية الاختيار) و (الله) 4.

ص: 62


1- المصدر السابق ص 277.
2- المصدر السابق ص 274.

كلها معاني في خدمة الاخلاق وليست سوى (اکاذیب)». (1)

انها مجرد افكار سطحية يدور بها صاحبها في سوق بائر ولا مكان لها في المجتمع البشري الذي انقلب على واقعه الآن بحثا عن المبادىء السماوية والروحية والاخلاقية للتخلص من كابوس المدنية المعاصرة الذي سحق كل القيم.

الا أن عالماكوليام وينوود ريد (1838 - 1875م) وضع دراسات تحت عنوان (استشهاد الانسان) بحث فيه من وجهة نظره الخاصة في امرٍ مهمٍ وأبدى رأياً متميزاً عن غيره وباشر فى طرح نظريته وتشعباتها ثم عالج تاريخ البشرية بصور اخرى حيث «اعتبر طبيعة التقدم من خلال الحروب، ومن خلال الاديان، والكفاح في سبيل الحرية ورقي الذكاء ونمو المعرفة، بواعث اساسية، وكانت فكرته الرئيسية هي أن الاجيال المتتابعة لا تتوصل الى الارتقاء الى مستويات ارفع في الحياة الا (بالاستشهاد) وكان (ريد) يرمي من وراء هذه النظرة الشاملة التصويرية للتاريخ الحقيقي، الى البرهان على ان الحروب وان كانت وهمية خرافية والعبودية مهما كان الذم الذي يوجه اليها - بل والجهل - أمور كانت تساعد في تقدم الجنس البشري». (2)

انه يخلط بين القيم السماوية والاهداف الرسالية وبين الافكار الوهمية التي لا تصلح الى الايمان بها ابداً وهذا الخلط غير منطقي وليس فيه أية واقعية.

أما هيجل فيعتقد «أن هذه الفكرة عن الاخلاقية تحل احد الالغاز الكبرى في حياة البشر، وهو أن الطيب التقى غالباً، أو اكثر الاحيان يعيش حياة نكدة في هذا العالم، بينما الخبيث الذي يميل الى الشر يعيش حياة رغدة، فهو يرى أن الانسانية إذا اخلصت نفسها لهدف واحد ووجهت جهودها اليه دون النظر 9.

ص: 63


1- المصدر السابق ص 275.
2- المصدر السابق ص 279.

الى ما سواه فحينئذٍ لا يمكن أن يعتبر ما يسمى تعساً أو منعماً من الافراد عناصر اساسية في النظام المنطقى المحكم الذي يسير عليه العالم، وكل ما هو مطلوب إنما هو أن يتحقق هذا الهدف العظيم، وأن الناس يشعرون بعدم الرضا لمجرد أنهم لا يجدون الحاضر ملائماً لتحقيق الاهداف التي يعتقدون أنها حق وعدل.

ولكن ما هو الشكل الذى به يمكن تحقيق الهدف العظيم؟

یجیب هيجل بأنه الدولة، ولكنها لا تعنى عنده السلطة الملزمة التى تكون قانوناً فوق كل فرد أو جماعة وتكون جزءاً من المجتمع، إنها الشكل الذي تتخذه الروح اذ تتجسد تجسداً كاملاً «وهذا هو اتحاد الذاتي مع الارادة العقلية» انها الكل الاخلاقي، الذي هو ذلك الشكل من الحقيقة الذي يكون فيه للفرد حرية يتمتع بها، ولكن على شرط أن يعترف بالامور المشتركة لهذا (الكل) ويعتقد فيها وتتجه ارادته نحوها، إن الارادة الذاتية، والاندفاع الذاتي يحركان البشر ويدفعانهم الى النشاط الذي يحقق (الوجود العملي) إن الفكرة هي المنبع الداخلى للعمل، والدولة هى الحياة الخلقية المتصورة التي توجد حقيقة في عالم الواقع لذلك فكل ما لدى الافراد من اخلاق انما حصل لديهم بهذه الطريقة فقط، أنها الحقيقة فكرة الروح ظاهرة في المظهر الخارجي للارادة الانسانية وحريتها ويعرفها هيجل بأنها (فكرة الهية)». (1)

أما كتابات هج. ويلز (1866 - 1947 م) مثل مختصر لتاريخ العالم فهو يعطي جانباً من اهتمامه وبحوثه الى المسيحية والاسلام إذ «تأتي اهمية المسيحية والاسلام التاريخية الهائلة من انهما كلاهما، وفقاً لطريقة كل منهما الخاصة، قد وعدا ولأول مرة في سير التجربة البشرية، باعطاء تربية اخلاقية مشتركة لكتلة ب.

ص: 64


1- الشرقاوي - محمود - التفسير الديني للتاريخ ج 1 - ص 86 - دار الشعب.

من الناس، وتقديم تاريخ مشترك للماضي وكذلك بتقديم فكرة مشتركة عن المصير الانساني واهدافه ... وراى (ويلز) انه بالرغم من انه كُتب الكثير، وبصورة خاطئة عن تناقض العلم والدين، فالحقيقة ليس ثمة شيء كهذا، فما كشفت عنه جميع الاديان العالمية بالالهام والحدس هو أن التاريخ كلما أصبح اكثر وضوحاً والعلم كلما اتسعت آفاقه يؤيدانه كواقعة معقولة ويمكن البرهان عليها. ان الناس يشكلون أخاءً عالميا، وهم أصل مشترك تتقاطع حيواتهم الفردية واممهم وعروقهم وتتمازج وتتجه نحو اتحادٍ نهائي في مصيرٍ مشتركٍ بين الجميع فوق هذا السيّار الصغير التائه بين الكواكب». (1)

وقد رُدَّ عليه بان «هذا الاعتراف بالدور الذي تلعبه الاديان في التاريخ لا يمنع من أن نتساءل مع ذلك فيما إذا كان (ويلز) يعطيها اعتبارها تماما كما يجب، فقد كان يتصور الدين من زاوية اجتماعية قبل كل شيء كتصور مثالي ساذج للإخاء بين الناس، ويؤدي ما في هذا التصور من نقص، عمليا، الى رؤية خاطئة لطبيعة الدين كما ظهر في التاريخ، كان (ويلز) نادراً ما يستخدم عبارة (الله) وفي كتابه: الله، الملك الذي لا يرى 1917، يصف الله كأنه شخص والدليل الذي يقود البشرية في حربها ضد الشر وفي كفاحها من اجل الخير، غير ان (ويلز)، كأنما كانت هذه الفكرة تركبه، يعدل عنها في كتاباته التالية ... وكان (ويلز) في ختام مؤلفه يلح على الاخلاق، فالمعرفة يجب أن ترتكز على متانة الاخلاق (والتاريخ لم يتوصل بعد ليكون أثراً عظيماً في مستوى الكرامة الانسانية) والحياة الانسانية ستبقى على الدوام مشروعاً يتقدم وسيتقدم» (2)..

ص: 65


1- المذاهب الكبرى في التاريخ - ص 294.
2- نفس المصدر السابق ص 294.

السنن التاريخية ودورها الايجابي

ان الشيء المهم هو وضع دراسة للمجتمعات البشرية تحت عنوان «لماذا الانحراف؟» واخذ ابعاد ذلك من واقع المجتمع وصور من المراحل التي مرت بها المجتمعات ودراسة كل مرحلة على حدة، ومعرفة اسباب السعادة والاستقرار أو الانحراف والانحطاط، فهذا الفيلسوف والمؤرخ (ارنولد توينبي) صاحب نظرية (التحدي والاستجابة) في التاريخ يعطي صورة اقرب من غيرها الى الواقع « ... ان التاريخ الكلى للمدنية يمكن أن يدرك على أنه سلسلة من التحديات الخلقية والعقلية التي واجهت الانسان ووضعت أمام عبقريته نوعاً من الحيرة، كان عليه أن يتحرك مستخدماً كل فكره وطاقاته لمحاولة التصدي لها، وعندما يعثر المجتمع على الحلول الناجحة يتحرك نحو مستويات أعلى وأعلى جديدة، فإذا لم يتمكن المجتمع من مواجهة هذه التحديات فإنه يتفكك وينهار الى حد التلاشى، وإذن فتاريخ المدنية عبارة عن مراحل من النجاح والفشل فى مواجهة التحديات، وهذا هو السر في تعاقب المدنيات في كل منطقة من العالم، إن أحد العلامات المميزة للمشاكل أنها شديدة الصلة بالقيم الاخلاقية، وهي اجتماعية من وجهة نظر خاصة، لأنها متصلة إتصالا وثيقاً بالعلاقات الانسانية وتظهر فى المضمون الذي تتواجد فيه باستمرار علاقات الانسان، أو هى مشاكل لانها تعتبر خروجاً على ما يمكن اعتباره صوابا أو صحيحاً على أساس ما يحدده المجتمع للصفات المرغوبة أو بمعنى آخر إن المشاكل تعتبر كذلك لانها تقلقل الانماط والعلاقات التي يضع المجتمع لها اهمية كبرى خلال التاريخ». (1)

ص: 66


1- غيث - دكتور محمد عاطف - دراسات في علم الاجتماع التطبيقي ص 66 - دار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت.

الا أن توينبي لم يحدد في هذا المقطع اسباب تعثر المجتمع و تفككه وانهياره بل تلاشيه كما يذكر، أو الطرق التي اتخذها مجتمع ما والحلول الناجحة كما يصفها التى تأخذ به الى العلا والتقدم أو الاسباب فى النجاح والفشل في مسيرة المدنيات التي مرت وانقضت، فكل ذلك لم يبيّنه لنا (توينبي) ليسهل علينا الطريق في وضع المنهج الحقيقي لدراسة المجتمعات، ورغم ان توينبي له نظريته الخاصة فهو دائما يعز و تحرك المجتمع الى تحدي الواقع وشدة وطأته على الامم فيحفز طاقات البشر فتحرك كوامنها بتدافع قوي ضد ضغط ذلك التحدي ليتمكن المجتمع عند ذاك من بناء حضارة أو مدنية، لكن لم يذكر الوسائل أو المبادىء التي تتحكم بهذه الاستجابة وتعطيها دافعاً معنوياً كبيراً في نفوس المجتمع، فلابد من قيمٍ تفرض نفسها وتعطي زخماً قوياً لبناء معنويات الانسان المنهارة اساساً بفعل الضغوطات الطاغوتية أو المبادىء الفاسدة المستشرية بما فيها الظلم والجور وسيادة الباطل واندثار الحق وغير ذلك، في حين وضح لنا القرآن الكريم السنن التاريخية التي ابصرت العيون وفتقت العقول واعطت المدلول ليبني الانسان مستقبله على احسن ما يكون، قال الله تعالى في كتابه المجيد:

(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴿42﴾ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿43﴾) (1)

(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (2)

« ... فإن الله يحدثنا عن الثبات في سنة الله فلا تتبدل ولا تتحول الى سنّة.

ص: 67


1- سورة فاطر: الآية 42 و 43.
2- سورة الاحزاب: الآية 62.

اخرى أو الى مسار آخر تماما كما هو القانون الطبيعي الذي يحكم الوجود الكوني الذي لا مجال لتبديله، كما يحدثنا عن بعض هذه السنن بأنها (سنة الأولين) للايماء بأن الانسان هو الذي يحرك هذه القوانين التاريخية، فلا منافاة بين نسبتها الى الله من حيث أنه هو الذي أودع في الاسباب سرّ السببية وربط بين السبب والمسبب، ونسبتها الى الانسان باعتبار أنه هو الذي يمسك بالسبب في حركته الارادية في تحريك الاسباب في حركة الوجود في الامر الذي يجعل من التنمية الثقافية للإنسان هدفاً كبيراً للرسالات، لتكون حركته في اتجاه الامساك بالخير لا الشر لتنطلق السنن فى خط الايجاب بإرادته المنطلقة من فكره ومشاعره وتطلعاته ولابد لنا في الدراسة القرآنية من اكتشاف هذه السنن في حركة التاريخ على مستوى القاعدة التي تحكم النظام الانسانى الطبيعى فى الكون، ليستفيد من ذلك في وعي النتائج السلبية أو الايجابية في الواقع، ولنعرف كيف نحرك القضايا الانسانية في اتجاه الحصول على حياة انسانية متوازنة والابتعاد عن كل الاوضاع السيئة التي ترهق مسير الانسان وتنقل مصيره لان هناك فرقاً بین دراسة الحركات الانسانية في التاريخ الذي صنعه الانسان في الماضي والتاريخ الذي يصنعه في الحاضر والمستقبل». (1)

وكذلك فقد قال امامنا علي علیه السلام:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ؛ خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ اسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَ سَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ؛ وَ هُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ وَ بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ رُسُلَهُ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا وَ لِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا وَ لِيُبَصِّرُوهُمْ ه.

ص: 68


1- المنهاج - مجلة تصدر عن مركز الغدير للدراسات الاسلامية - العدد الثالث، السنة الاولى 1996 م - 1417ه ص 263، منتدى المنهاج، السيد محمد حسين فضل الله.

عُيُوبَهَا وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا وَ حَلَالِهَا وَ حَرَامِهَا وَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَ الْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ. أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ وَ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً وَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلًا وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً». (1)

يبين الامام علیه السلام قدرة الله تعالى وسلطانه وعظمته وعزته، ويدلل على ان الذي خلق الخلق واسكنه الارض سواء كان الجن والانس هو الله تعالى واعطاه العقل والتفكير ثم لم يترك خلقه بدون واعظ أو هادٍ ومُدل على الطريق الذي يؤدي بصاحبه الى الراحة والاطمئنان في الدنيا والاخرة، فلذلك ارسل الرسل الى مخلوقاته، ليبيّنوا معایب هذه الدنيا التي نزلوا فيها الى اجل محدد فرفعوا الغطاء عن وجهها الحقيقي بما نقلوه عن الباري عز وجل ووضحوا ذلك بالسيرة الصالحة لهم، ونبهوا الى قدرة الانسان على اكتشاف الحقائق والسير على خط الاستقامة واتخاذ ذلك منهجاً بالبعد عن مغريات الدنيا، ويحذرون الخلق ثم يضربون الامثال والقصص التي مرت بها الامم، أي التعريف بالسنن التاريخية التي تحدثنا عنها، وبعد ان يأتى الرسول ليكشف الغطاء ويحذر ويضرب الامثال ليفتح عين الخلق على عيوب الدنيا وزخرفها، وتبدل أحوالها

بین صحة وعافية وعافية ونعيم وامراض وحلال وحرام فانها غير مستقرة في طبيعتها كما وضح لنا القرآن ذلك، وغير دائمة في صداقتها وعلاقتها فهي تقذف بالانسان من حالٍ الى حال في لحظة من لحظاتها، دون أن تستثني احداً من سكّانها وتسقط الجبابرة من عروشهم الى الموت أو قعر السجون، انها متقلبه كما يصفها الامام علیه السلام، ثم يُذكّر بالاجر والثواب الالهي الذي أعده الله تبارك وتعالى لمن .

ص: 69


1- نهج البلاغة ص 265 خطبة 183.

احسن العمل في الدنيا وشخصت عينه للاخره، واستفاد من الفيوضات الالهية التي أودعها في الارض ليبني ويعمّر، فحصل عند ذاك على الجنة وذلك هو الفلاح، والعقاب كل العقاب للعصاة المردة الذين سعوا بكل قوة وراء دنياهم وحاولوا استعباد کل انسان بل ظلمه وسلبه بل استخدموا اسلوب الخراب بدل البناء، والانحطاط بدل الرفعة والسمو، وجعلتهم كالكلب يلهث وراء صاحبه املاً بالحصول على شيء من فتات موائده ان بقي منه شيء، ثم تركتهم في غرامهم يهيمون يديرون الرؤوس يمينا وشمالاً بحثاً عنها فلا يرون الا عجوزاً شمطاء ذهبت كل زينتها التي غطت بها وجهها الكالح كما وصفها نبي الله عیسی بن مريم علیه السلام، فهي ليست حورية عذراء، كما اغرتهم بذلك فخسروا كل شيء في الدنيا وأُدخلوا النار في الاخرة بعد ان باعوا كل بضاعتهم وضاعت عليهم اثمانها، والمطيع لله المتعظ بعبرته السائر على نهج نبيه فقد حصل على العزة والكرامة، وعكسه العاصى الذي هانت عليه نفسه وضعفت حيلته اصبح في هوان تام. ثم يحدد الامام العمر للانسان وللحياة بصورة عامة (ان لكل قدرٍ اجلاً ولك أجَلٍ كتاباً).

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). (1)

فكلام الامام علیه السلام الذي يعبر عما اعطاه كتاب الله من عبر وامثال صادقة يؤكد على ان المصدر الحقيقى لافكار الامام علیه السلام هو الاسلام العظيم فقد طرح كتاب الله الحقائق الناصعة عن حياة الامم والشعوب السالفة فاعطانا هَدْيه باتخاذنا من وقائع في الماضى درساً وعبره ولحياة المجتمعات صيانة من .

ص: 70


1- سورة الاعراف: الآية 34.

الانحرافات والخرافات التي تُضل وتُصم وتعمي وتغطي (أي تغطي الحق) فإلى أي شيء في هذا الواقع الفاسد يلتجيء الانسان للخلاص من الغي والظلم والانهيار وبناء المستقبل على دعائم ثابتة متجنباً الاخطاء والسلبيات اذا لم يأخذ بما مر على الاقوام التي سبقت من عظه و اعتبار؛ انها سنة الله في الاولين.

اذن القانون الذي سار عليه الامام علیه السلام وطرحه للمستقبل هو الاخذ بسنن الله في خلقه كعبرة ماضية تحتاج الى تمعن وبصيرة للحصول على النتائج المفروزة من جراء انحراف الامم وطغيانهم بما ابتعدت فيه عما قدره الله واعطاه لخلقه بحيث أساءت التعامل مع الحقائق الموجودة في الكون وتخلخلت العلاقات الاجتماعية الصحيحة وفضلت الانحراف على السلوك السليم الذي اراده الله فكانت النهاية القاتلة، لان الانسان اذا لم يعتبر بما مضى وما جرى ولا يأخذ بالصالح ولا يترك الطالح فمعنى ذلك تفضيل الانحراف على الاستقامة والدمار على الاعمار لطمع وجشع دنيوي قصير آمده قليل فائدته اذا ما عرفنا ان هناك ثواباً وعقاباً عند الله للعاصين من خلقه وهذه المعاني وهذه الدراسات هي التي نريد من خلالها دراسة مستقبلنا ووضع منهج صحيح للعمل به في مجتمعنا يكون أنموذجاً رائعاً ليعمم على المجتمعات الانسانية من خلال طرحه كمنقذ للانسانية من الضلال والانحطاط والقلق المستمر التي تعيشه تلك الشعوب وخوفها من مستقبلها المظلم والفراغ العقائدي الواسع لديهم لاخراجهم من الواقع المر الذي يمرون به، فالمنحى اذن هو الاتجاه نحو الدعوة الى اللهِ والسير على النهج القويم الذي رسمه الباري عز وجل لعباده بما حوته الشريعة من الحلال والحرام والاخلاق الفاضلة والتقوى التي هي الماسك الحقيقي للمجتمعات من الزيغ والانحراف والفساد العام عن خط الاستقامة، والا نبقى جميعاً نعيش دوامة النظريات والتطبيقات والدراسات، ومرة أخرى يقول الامام علیه السلام:

ص: 71

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا، لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (علیه السلام) الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ. وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً!

أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ؟ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ؟ أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ!». (1)

أنها اروع مثال واعظ، وعبرة جارية، وصوّر حية لواقع مضى، وأَمْرٍ قادم، ودول تفنى، واخرى تقوم، انها اعظم ناقوس يدق في اعماق العقل لينبه الى ما قد سلف وما قد يأتى وما تدور به السنين والايام من عوالم ورجال و افكار فكلها سنن تاريخية مضت، فلا يأمن الانسان من غده، ولا يطغى بما مَلكَ واقام، ولا يأنس بمال وسلطان وعساكر مؤلفة، فان لها أجلاً محدداً وهذا هو قانون الله وهذه كلماته ولا مبدل لكلمات الله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (2)

اذن كل انحراف زائل وكل تخطى على الحق ساقط فالتحول يكون باتخاذ السنن عبرة وواعظاً حتى لا ينحرف من هو جبار عنيد ولا يسير خلفه شعب ذليل مسكين، فينحرف الجميع ويسقطوا في الفتنة كلهم، وهذا ليس ببعيد عن .

ص: 72


1- نهج البلاغة ص 263 تحقيق د. صبحي الصالح.
2- سورة الانبياء: الآية 105.

عصرنا الحالي اذ ان التاريخ يعيد نفسه والعالم سائر بلا وعي وادراك الى الغاية التي يطلبها، فلابد من هدف لحياة الانسان وتآلف المجتمعات، واذا ما بقيت الانسانية بدون هدف سامٍ تنظر اليه الابصار في لحظة من حياتها. لا تستقيم الامور ولا تهدأ الاوضاع فمن ضياع الى دمار و من دمار الى خراب اكثر وهكذا يبقى الجميع في دوامة الرعب والخوف والحذر ليس من الله بل من خلق الله الذين انحرفوا وحرّفوا وسار الجميع في خط الانحراف التام، وقد أعطى الامام على علیه السلام صورة بلاغية ناطقة وذات معان حيّة تتعلق بتلك السنن من خلال قوله علیه السلام:

«بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ. أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً، لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ، وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً وَ الْعِقَابُ بَوَاءً.» (1)

وملخص الكلام ان الامام علیه السلام في بياناته المعبرة خير تعبير عن كل الوقائع أعطى للعقل المتبصر حقائق لا يمكن اغضاء البصر عنها وهي التي نستطيع ان تعبّر عنها بانها اساس وقوائم بناء النظرية الاجتماعية الاسلامية العالمية وهى محور الكلام الذي ذكره امامنا علیه السلام وارقى ما يمكن اتخاذه كنهج ناضج وكتخطيط مستقبلی مرسوم تسير عليه البشرية بسعادة تامة واستقرار وثبات لا مثيل له، فيمكن لنا ان نستخرج هذه الدعائم الاساسية بما يلي:

1 - الاعتبار بالسنن التاريخية والتي بينها القرآن الكريم.

2 - المحور الاساس هو العقيدة الاسلامية كنهج وسلوك صائن من الخلل .

ص: 73


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 200.

والزلل.

3 - تحريك العقل واثارة كوامنه من خلال هذه العقيدة.

4 - معرفة السنن الكونية التي ذكرها القرآن لكشف حقائق الكون والاستزادة بالمعرفة بها للاستفادة مما وضعه الله لنا في مسيرتنا الحياتية.

5 - من خلال العقيدة الاسلامية تنبع القيم الاخلاقية السامية للاسلام التي تحصن الفرد وترفع الحالة المعنوية للمجتمع بالاطمئنان التام والاستقرار.

6 - كل هذه النقاط والثوابت من اجل الهدف الاعلى وهو رضاء الله وكما قال الباري عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴿1﴾ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿2﴾). (1)

هذه الثوابت هى الرموز الاساسية لبناء النظرية الاجتماعية الاسلامية العالمية والتي بدونها لا يمكن الاتكاء على اي شيء آخر في تصحيح مسيرة المجتمعات.

فقد أكد الامام علیه السلام على مسألة الاعتبار والعظة بحال الشعوب السالفة والامم الماضية وأولاها اهتمامه، وهذه المقاطع من خطبة للامام على علیه السلام تعطى الشواهد الكاملة لهذا الطرح الواسع:

«فاعتبرُوا بمَا أَصَابَ الأُمَمَ المستكبرينَ من قبلكُمْ مِنْ بَأْسِ الله وصولاته، ووقائِعِه وَمَثُلاتِهِ (2)، واتَّعِظُوا بمَثَاوي (3) حُدُودِهِم (4)، ومصارع ت.

ص: 74


1- سورة الملك: الآيات 1 و 2.
2- المثلات: العقوبات.
3- مثاوي: جمع مثوى بمعنى المنزل.
4- ومنازل الحدود: مواضعها من الأرض بعد الموت.

جنوبِهِم (1)». (2)

وفي جانب آخر من خطابه علیه السلام:

«فاعتبرُوا بحال وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وبني اسحقَ وبني إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ السلام، فما أَشدَّ اعتدال (3) الأحوالِ، وَأَقَربَ اشتِبَاه (4) الأمثالِ!» (5).

ثم يطرح الامام علیه السلام جانباً آخر من جريان السنن على خلقه، وحال امر الشعوب والامم التي كفرت بانعم الله، وطغت وتجبّرت، فالبسها الله ثوب الخزي ونزع عنها لباس الكرامة والعزة، وسلبهم النعم التي حاطتهم بخيرها، فاصبحوا بعد ذلك قاعاً صفصفا وعبرةً لغيرهم.

«أَلم يكونوا أَرْبَاباً (6) في أقطار الارضينَ، وَمُلُوكاً على رقابِ العَالَمِينَ! فَانْظُرُوا إِلى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَت الْفُرْقَةُ، وَتَشَّتَتِ الأُلْفَةٌ، وَاخْتَلَفَتِ الكَلِمَةُ والأَفِئدةُ، وتشعَّبُوا مُختلفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحاربينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كرامَتِهِ، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ (7)، وبقيَ قَصَصُ أخبارهم (8) فيكم عِبَراً للمُعْتَبِرِينَ» (9).

ثم يحذر الامام علیه السلام من سوء الاعمال وقبائح الافعال التي تقلب الاحوال: 7.

ص: 75


1- ومصارع الجنوب: مطارحها على التراب.
2- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح، ص 290.
3- الاعتدال: هنا التناسب.
4- الاشتباه: هنا التشابه.
5- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 297.
6- أربابا: سادات.
7- غضارة النعمة: سعتها.
8- وقصص اخبارها: حكايتها وروايتها.
9- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 297.

«وَاحْذَرُوا مَا نَزَلَ بالأُمَمِ قبْلَكُمْ مِنَ المُثلاتِ بسوءِ الأَفْعَالِ، وَذَميم الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا في الخيْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ». (1)

فالعبر كالايات التي تخبر عما أصاب الأمم الماضية من النكال ونزل بهم من العذاب لما حادوا عن الحق وركبوا طرق الظلم والعدوان. 6.

ص: 76


1- المصدر نفسه ص 296.

ص: 77

الفَصْلُ الثّالِثُ

اشارة

السير على نهج على علیه السلام

ص: 78

الامام علي علیه السلام والفكر الاجتماعی الاسلامی

لقد كُتبت الكثير من الكتب التي بحثت في الشؤون التاريخية والاجتماعية الا ان بعضها وللاسف الشديد لم يتوخ الدقة أو يعتمد على الطرح العلمي السليم، الذي يجب ان لا يبحث صاحبه في جانب ويترك حقائق اخرى من نفس الموضوع، ومع ذلك فان ما كتب حول الفكر الاجتماعي الاسلامي لا يفي بالغرض المطلوب أو يسد الحاجة الواسعة لوضع نظرية اجتماعية اسلامية نحن بأَمسِّ الحاجة اليها، وما ظهر من كتب فانها بارقة أمل على الطريق الطويل أمّا فكر الامام علیه السلام الاجتماعي لا يزال حبيس النظرة الضيقة، والتبعيد المتعمد والمجحف واغماط الحق الواضح، والظلم هنا عمّ جانبين مهمين:

1 - الاسلام كدين وفكر حي.

2 - على علیه السلام كعبقرية فكرية في كافة المجالات.

فما بال الذين يرغبون بذكره لم يوفّوه حقه؟ وغيرهم يترك فكره وعلمه جانباً ويتمسك بالافكار الوافدة والغربية التي تفصلنا عنها مسافات فكرية واجتماعية كبيرة، وهذا مالا يقبله منطق ولا عقل، ثم أن يبرز كتّاب من المسلمين متحمسین با هتمام بالغ على انهم مفكرون اجتماعيون لكنهم يتركون فكر علي علیه السلام على الرفوف في طيّات الكتب فهذا هروب من الحقيقة هي والواقع والامانة العلمية الى السلبية الجامدة والانغلاق الفكري والتقوقع على الفكر

ص: 79

المذهبي، ولا عدالة وحق في ذلك، فالاسلام دين الجميع وهو شامل لكل البشرية، والاهتمام ببث وتحليل فكر رجاله الصالحين هو الدين، ووظيفة شرعية تحتم على الجميع اظهار الحقائق كما هي بدون أي تحريف أو تشويه.

ثم انه ليس من حق أحد ان يدعي الحيادية يكون بجانب فئة معينة ويهمل الاخرى، ثم بيان اي مفكر وطرحه والاهتمام به يجب ان يكون ذلك تابع الى الصفات والخصائص التي تجلّت فيه من علم ومعرفة ونبوغ وشجاعة، فعلي علیه السلام برز عن غيره ووضع فكره وعلمه وشجاعته في خدمة الاسلام، والنبي علیه السلام قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، فهو غرس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وثمرته اليانعة و قرآنه الناطق في خلق الله.

اذن لابد من توضيح الحقائق ووضع فكر الامام علیه السلام أَمام الباحثين والمنظرين فيما يتعلق ببحثنا حول علم الاجتماع عند علي علیه السلام أو مصادر التفكير الاجتماعي عنده، واعطائه متكاملاً من ابرز جوانبه لكي ينهل منه العلماء افکارهم ويضعوا المناهج السليمة لمجتمعاتهم حتى يكون البناء المستقبلي لتلك المجتمعات صحيحاً غير عليل، وواقعياً لا افكاراً وتصورات ذهنية بحتة ومتيناً حتى لا ينهار. ان الامام أعطى بكلامه وخطبه المعانى المدروسة والطرق الحيّة التي تنير المستقبل للامم والاجيال الانسانية، حتى كأن ما طرحه كان نتائج لدراسات واحصاءات واستقراءات اجتماعية متكاملة واعطى بذلك طريقة اتّباع المنهج العلمي الصحيح في البناء الاجتماعي ووضع بذلك اسس هذا العلم ويجب أن لا نغفل أن هذا «العلم لا يزال فى مبدأ نشأته وان ظهرت عدة مؤلفات قيمة لبعض الاساطين في الغرب والشرق وكانت لجهودهم المحمودة ثمرات طيبة رفعت من شأن هذا العلم الجليل ونبهت اذهان النوابغ الى مكانته بين العلوم السياسية والاقتصادية والقضائية والاخلاقية وغيرها، وان اقدم من ألف بهذا

ص: 80

العلم في اللغة العربية هو ابن خلدون في مقدمته وقد اعتبره بعضهم أول استاذ كتب وبحث في موضوعاته في الشرق كما أن الفيلسوف الفرنسي «كونت» أول من صاغ عنوان علم الاجتماع في الغرب عام 1839 م وحدد موضوعه بدراسة الفرد من حيث تركيبه الفسيولوجي والعضوي وانفعالاته النفسية وملكاته الذهنية باعتبار انه الوحدة التى يتألف منها المجتمع غير أن هذا الفصل من العهد العلوى - طبقات الهيئة الاجتماعية - يثبت لابناء المشرقين ان غارس نواة هذا العلم وواضع سننه المطردة هو الامام علي بن أبي طالب علیه السلام وذلك بعد البعثة المحمدية المشرفة». (1)

الاسلام والاتجاه الحقيقي للعلوم

عندما نتحدّث عن الفكر الاجتماعي عند علي علیه السلام لا يعني اننا اتخذنا منهجاً غربياً بان ربطنا علم الاجتماع بالمنهج الاسلامي بل نستطيع القول ان المناهج الاجتماعية ودراسة الظواهر الاجتماعية واستخلاص النتائج التخطيطية للحياة البشرية نابعة من الاسلام كدين وكمنهاج بما اعطاه كتاب الله من قوانين تحكم هذا الكون الرحب، وبمعرفتها يسهل التعامل العلمي مع المحيط العام وكذلك ما بينت لنا السنن التاريخية في الايات القرآنية التي « ... اكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية». (2)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ

ص: 81


1- الراعي والرعية - المصدر السابق - ص 82.
2- الصدر - محمد باقر - المدرسة القرآنية ص 70.

قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). (1)

ثم ان العلوم والقوانين التي ظهرت ابّان عصر الانحطاط والتدهور الحضاري الذي ساد اوربا في العصور الوسطى وما بعدها وخلال عصر النهضة وبداية التحولات والتطور الصناعي وما رافق ذلك من تخلف وتعنت كنسي ورفض لاي انبعاث علمى وتجديدي في الساحة البشرية والكونية ادت الى تطوير الفكرة التجديدية الرافضة لتلك المواقف.

ان الدين يجب ان يقوم بالهداية والاشراف على هذه التحولات الفكرية والصناعية ويرشدها نحو الصالح الذي يرضاه الله، فالباري عز وجل لا يرضى ان يرتكب ذلك الخطأ الفاحش بشأن المجتمعات البشرية والتطور العلمي، لان الحقيقة هي ان العلماء الذين برزوا انذاك استفادوا من اكتشافهم العلل التي تتحكم بقوانين الطبيعة وهذا ما وضعه الله لنا ولا ينافي القدرة الالهية وعظمة الخالق، حيث وضع الكون وما حواه وفق قوانین و سنن كونية خاصة وتوازن علمي في غاية الدقة لا يمكن ان يحدث أي خلل في الحركة العامة لهذه المجموعات الكونية كافة (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿38﴾ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿39﴾ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿40﴾) (2)

والباري عز وجل دعا الانسان الى ممارسة التفكر العلمى لاكتشاف القوانين المتلازمة في هذا الجانب والاستفادة مما سخره الله (سبحانه وتعالى) لنا الخدمة الانسانية، هذا هو نظر الاسلام بايجاز، والاسلام لا ينظر الى التقدم العلمي نظرة رافضة الا ما يضر بحياة البشرية ويدمر مسيرتها ويسحق مبادئها .

ص: 82


1- سورة محمد: الآية 10.
2- سورة يس: الآية 38 - 40.

الخلقية بحيث يسخر الخلق لخدمة الاغراض المدمرة عند ذلك يرفض الدين هذا التوجه والا لا محظورات ولا ممنوعات على التفكير العلمي السليم في الاسلام الذي يدعم بالتشجيع والدفع المعنوي العلماء ليبرزوا في مجالاتهم حتى يحققوا الانجازات للبشرية جمعاء.

«فالاسلام يرى أن لكل موضوع يتعلق بالحياة الانسانية صفة ذاتية ووصفاً ذاتياً ... فكل موضوع في الحياة الانسانية: أما أن يكون خيراً ونافعا بذاته ويحقق وجوده مصلحة، وأمّا أن يكون شراً و ضرراً بذاته، يجرّ وجوده مفسده ... وهدف الشريعة هو (جلب المصالح ودرء المفاسد) (1).

اذن الدين الاسلامي يتجه بالانسان نحو الاكتشافات العلمية التي فيها مصلحة عامة للبشرية، في حين ان الكنيسة لم تستوعب هذا التحرك العلمي الواسع كما هو في الاسلام، بل اعتبرت كل حدث علمي جديد هو ضد الله والدين، ووضعت نفسها وسط العقيدة المحرّفة واضفاء القدسية، وسعيهم أي - رجال الكنيسة - الى ان تكون السلطة الروحية والزمنية في أيديهم وذلك ما يعبر عنه با (الثيوقراطية) حيث يقودون المجتمع بدون نظام معلوم أو قانون الهي حقيقي يسيرون عليه وليس لهم هدف سوى استدامة الحالة الجاهلة لدى المجتمع ثم جعل امر الملوك والامراء وسياستهم في قبضة الكنيسة لتسيّرهم وفق طموحاتهم وتطلعاتهم الدنيوية بحيث اصبح من الصعب عليها بعد ذلك تقبل كل فكر جديد أو تطور علمى يكون الخلاص فيه من تلك التعاليم الزائفة، وما يبغونه بقاء التعاليم الموضوعة والتي لا تخدم الا اهدافهم ومصالحهم الذاتية، فلم تقر ولم تعترف بأي شيء من تلك التحولات فادى ذلك الى انحرافات فكرية .

ص: 83


1- مؤسسة البلاغ - الفكر الاسلامي - ج 2، ص 37.

كبيرة وظهور نظريات اجتماعية واقتصادية وسياسية وغيرها، مناهضة ان لم تكن محاربة لاصل الدين والاعتقادات الالهية، بل أكثر من ذلك اعتبرت الدين عقبة كأداء أمام التطور الحضاري والتقدم العلمي واقنعت الكثير من الجموع الغاضبة من الكنيسة وتصرفاتها بذلك. فترشحت لنا نظريات بعضها اشبه بالخيال والبعض يبحث عن معانٍ ومسميات جديدة لها، وهذا غير موجود اصلاً في الدين الاسلامي الحنيف بوجود كتابه العظيم القرآن الكريم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1).

وحينما نتحدث عن العلوم بتسمياتها الجديدة لا نريد من ذلك ان نطوّع الفكر الاسلامي للانتهال من تلك العلوم، انما نوضح الحقائق الخافية والدامغة والتي اخفيت عن العالم وحُمّلت من البغض والتشويه ما لا يسعه عقل انسان ابداً، فحينما نتكلم عن المعالم العامة للفكر نعنى بذلك بحثنا عن مصادر العلوم ومنابعها الاصلية لنوضح ذلك للاخرين.

اذن فسعينا للتعريف بان مباني أغلب هذه العلوم هي من منبع اصيل وهو الاسلام وسيرة نبينا صلی الله علیه و آله و سلم وكذلك ما تركه لنا امامنا على علیه السلام من اثر علمی خالد في نهج البلاغة، ومن قراءتنا لهذا الكتاب القيّم وجدت ان علماء الغرب قد اخذوا الكثير بشأن علم الاجتماع والسياسة وغيرها من هذا الفكر الجبار وصاغوها بصيغهم الخاصة واعطوها تلك التسميات، وصاحب العلم هو ابن أبي طالب علیه السلام فهو رائد الفكر الاجتماعي وواضع اسسه التطبيقية والعملية ولا خلاف في ذلك من خلال ما بحثته في هذه الدارسة التي ساطرحها فيما بعد، فالغرض اننا لا نقرن الفكر الاسلامي في الاجتماع بالنظريات الحديثة والهدف هو.

ص: 84


1- سورة الحجر: الآية 9.

الحصول على منهج جديد في هذا المجال، فمعالم النظرية الاجتماعية الاسلامية موجودة بالاصل، وعلم الاجتماع بتعريفه الحالي والكامل نابع من فكر علي علیه السلام، والاسلام غني بكل المناهج والطرق والاساليب المتخذة والمعمول بها في الحياة العامة، انما العلة تكمن في الفهم الصحيح والسير على النهج الاصيل والابتعاد عن الطرق الملتوية والاساليب التي لا تجدي نفعاً، والبحث عن برنامج عمل واضح لطرح نظرية اجتماعية مستوحاة من الشريعة الغراء وفق مفاهيم جديدة ومعاصرة تحفظ المبادىء وتبتعد عن الانحراف، فمتن العلوم الاجتماعية موجود في عمق الفكر الاسلامي، وما نحتاجه هو الإبراز والتوضيح بالصورة المناسبة التي تبتعد عن المصطلحات العقيمة والالفاظ الرنانة والتمثل بالمفكرين المعاصرين والقدماء من الغربيين، ووضع منهج خاص في العمل بالعلوم الاجتماعية، سيكون من أوضح المناهج واكثرها ملاءمةً لحياة المجتمعات واكثر موضوعية، ولا يهمنا ما كُتب وما قيل عن مناهجهم العلمية في هذا (الشأن الا ما صلح منها للانسانية)، تلك التي نقضت نفسها بنفسها في كثير من المواقف بل بعضها غير صالح للاخذ به وفشلت في المجالات التطبيقية، في حين ما سنعرضه من منهج علي علیه السلام في ادارة البلاد وقيادة المجتمع ونظم مسيرة حركة الافراد وعلاقاتهم فيما بينهم كل مراحل الدراسات التطبيقية قد تمت في فكر علي علیه السلام والتي اعطتنا النتائج الكاملة بدون نقص للعمل وفقها مع بيان العلل والاسباب عند كل نقطة من ذلك المنهج وتوضيحها بحيث لا يمكن ان توضع نظرية اجتماعية اسلامية معاصرة دون التبحّر فى فكر سيد الموحدين ففكره المنهال الواسع للعقول الذي يعطى الحياة السعيدة للمجتمع.

ص: 85

ص: 86

البابُ الثّاني

اشارة

السلطة والمجتمع

ص: 87

ص: 88

الفَصْلُ الاَوَّلُ

اشارة

الحقوق وأثرها في التماسك الاجتماعي

ص: 89

ص: 90

ان الدولة أو السلطة الزمنية كما يُعبر عنها لها دور كبير في بناء المجتمع وتحديد طبيعة مسيرته بالصورة التى تؤمن بها سواءً كانت ذات أيدلوجيا محددة كانت تعتمد أو تتخذ منهجاً هامشياً غير واضح الاهداف والمعالم أو انها مجرد سيطرة راعي على رعيته، وقد وضع كثير من الفلاسفة نظرياتهم في هذا الامر، وذاك هوبز مثلاً يرى «أن الدولة تكوين صناعي بمقتضى تعاقد ارادي» بمعنى أن المجتمع لم ينشأ تلقائياً، وانما ارادة الناس هي السبب في وجود المجتمع، ومسؤولية الملك والحكومة إنّما هي توفير الفرصة لاشباع غرائز الانانية لدى الافراد في المجتمع، وبالتالي فان على هؤلاء الافراد الالتزام بالقوانين التي تصدرها الحكومة (1).

هذه واحدة من النظريات في السلطة والمجتمع التي حددت مسؤولية السلطة في اطار اشباع غريزة الانانية لدى الافراد (2)، ثم أن من واجب الافراد الالتزام بالقوانين الصادرة من السلطة.

أما (جون لوك) فيرى « ... أن حالة الطبيعة لم تكن ابداً حالة حرب وصراع وانانية بل كانت حالة يعيش فيها الانسان حراً، ويتصرف على اساس عقلى، وكان من شأنه أن يخفف من آثار الحرية المطلقة وليس معنى ذلك أن .

ص: 91


1- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره ص 236.
2- وضحنا في فصول اخرى هذه المناهج بصورة اكثر تفصيلا.

حالة الطبيعة تخلو من المتاعب والانانية والصراع، بسبب فساد بعض الافراد، ولخلوها من اسباب الاستقرار الثلاثة التي حددها (لوك) على النحو التالي:

الف - قانون مستقر واضح.

ب - قاض عادل يحكم بين الأفراد.

ج - قوة تنفيذ تستطيع تنفيذ القانون.

ومن هنا فان (لوك) يعترف بحالة الفطرة كحقيقة تاريخية ولكنه ينظر اليها من منظور اجتماعي ... وقال ان الافراد فيها متساوون في الحقوق والواجبات بالطبيعة، باعتبارهم افراداً في مجتمع طبيعي، أسبق من المجتمع المدني أو السياسي، عاشوا في رحابه منذ نعومة اظفارهم، وكان رأي لوك ان الحياة التي تزداد تشابكاً يوما بعد يوم، لم تكن لتسير هكذا، وإنما كان من الضروري الاتفاق على شخصٍ ما لكي يتولى تنفيذ القانون الطبيعي دون تحيز لزيدٍ أو لعمرو، ومن هنا اتجه التفكير الى ايجاد سلطة عليا وظيفتها إقامة العدل بين الناس، وتنظيم حريتهم التي يتمتعون بها منذ عهد الفطرة، وبذلك اصطلحوا على إبرام عقد بينهم وبين شخصٍ ما». (1)

ان لوك اقرب في رأيه ونقاطه التي حددها الى الموضوعية من غيره، ولكن هذه النظريات التي اتعب الفلاسفة انفسهم في استخراجها لم تكن متكاملة المضمون واضحة الاهداف مناسبة للتطبيق العملي انما هي افكار مبتورة وتصورات جاء بعضها غير موضوعي أساساً فهى في أحيان كثيرة أشبه ما تكون بالاماني الفارغة. وبقيت المجتمعات في حالة من الغثيان من عقم تلك الافكار وابتعادها عن واقع الامر. .

ص: 92


1- المصدر السابق ص 236.

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي

من العوامل المؤثرة في طبيعة تشكيل النظام الاجتماعي وتوالد أو تراكم الظواهر الاجتماعية هو ماهية الحكم والحاكم في المجتمع اذا ما علمنا ان السلطة لها - أي سلطة - تتبنّى مبادىء ومناهج معينة في السياسة والثقافة والتربية فاما ان تكون هذه المباديء وضعية من صنع الانسان نفسه أو الهية.

ففى الانظمة الوضعية يحل حكم الانسان محل حكم الله تعالى، وتضحى اطروحة الانسان في التربية والثقافة بديلة عن التشريع الالهي المعصوم.

«والامر في الاسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً، ففي (نهج البلاغة)، مثلا مع أنه كتاب معرفة الله وتوحيده ومع أنه يتكلم في كل مكان عن الله وعن حقوقه على العباد، لم يسكت هذا الكتاب المقدس عن حقوق الناس الحقة والواقعية، وعن مكانتهم المحترمة الممتازة أمام حكامهم، وعن أن الحاكم في الواقع ليس الا حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكد على ذلك كثيراً.

ان الامام الحاكم - في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم، وإن كان لابد من أن يكون أحدهما للاخر فالحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدس للناس لا أن يكون الناس للحاكم!». (1).

«وفي الدر المنثور بأسانيده عن على علیه السلام أنه قال: (حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الامانة، فاذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وان يجيبوا إذا دعُوا) فالملاحظ هو أن القرآن الكريم يرى الحاكم

ص: 93


1- مطهري - الشيخ مرتضى - في رحاب نهج البلاغة ص 103 - ترجمة هادي اليوسفي، دار التعارف 1400 - 1980.

حارساً أميناً على المجتمع وان الحكومة العادلة إنما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب ان يؤديها الى الامة، وأن أمير المؤمنين والائمة المعصومين من ولده علیه السلام إنما اخذوا عن القرآن ما قالوه بهذا الصدد» (1).

هذه بعض الصور أو الحقائق الايجابية ونقيضها الجانب السلبي في الطرف الاخر فالمجتمعات اذا ما وضِعَت في طريقها السليم المستقيم مع ايمان الحاكم بانه خادم الشريعة وراعي جوانب التطبيق وادارة الامر ضمن ما حصل عليه من صلاحيات حددها القرآن والسنة النبوية الطاهرة فانه سيكون حتماً اثر ذلك ايجابيا بصورة كبيرة للنظام الاجتماعي.

لكنّ الصورة تتماسك أمامنا، وتنتظم أطرافها ليأخذ بعضها بتلابيب البعض، إذا ما أمعنا النظر في التصور الذي يقدمه الامام علي علیه السلام للسلطة والمجتمع حيث ان الامام علیه السلام اعطى صورة واقعية حيّة للعلاقة بين السلطة والمجتمع أولاً ثم بين الافراد انفسهم الذين يكونون المجتمع اولاً، ثم وضّح حقوق الناس على السلطة، وحقوق الافراد على المجتمع داخل النسيج الاجتماعي، وحقوق السلطة على المجتمع، في افضل ما وُضع واجمل ما طُرح، وبه تتحقق سعادة المجتمع وتقدمه ورقيه.

فقد دخل الامام علیه السلام في ادق التفاصيل في العلاقات العامة ثم اعطى السبل الصحيحة والمناسبة لتفادى حالات السقوط والانهيار. وقد اشار الى القوى التي تبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أي وقت، ثم ربط الهياكل المكونة لهذه العلائق وطبيعتها وحدد الطرق الواجب اتخاذها كمنهج عملي وعلمى لتسيير دورة الحياة اليومية، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر، انما توجه علیه السلام .

ص: 94


1- نفس المصدر السابق ص 105.

الى كل جوانب الحياة فأعطى، وما ارقى ما اعطى.

ففى احدى خطبه الرائعة يطرح الامام على علیه السلام جانباً من علم الاجتماع بفروعه المتعددة، وبالاخص السياسي والاخلاقي، بالاضافة الى المعاني الاخرى التي تهدي المجتمعات الى التعاون وفرز كل السلبيات التي تتناقض مع الاهداف العليا التي ارادها الله تعالى للانسانية فقد قال علیه السلام: «أما بَعْدُ فَقَدْ جعلَ الله لي عليكُمْ حقاً بولاية أَمركُمْ.

ولَكُمْ عَليَّ على الحقّ مثل الذي لي عليكُمْ، فالحقُّ اوسع الأشياء في التواصف (1) وأضيقُها في التناصف. لا يجري لأحد الّأ جرى عليه، ولا يجري عليه إلّا جرى لَهُ، وَلَوْ كانَ لأحدٍ أن يجري له ولا يجري عليه لكانَ ذلك خالصاً لله سُبْحانَهُ دون خلقه لقُدْرَتِهِ على عباده، ولعدلِهِ في كُلِّ ما جَرتْ عليه صُرُوفُ قَضائهِ، ولكنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ على العباد أنْ يطيعُوهُ، وجَعَل جَزَاءَهُمْ عَلَيهِ مُضاعَفَةَ الثَّوابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ من المزيد أَهلُهُ» (2) وحديثه علیه السلام لمنصبٌّ في وصف وتحليل وإثبات الحقوق المفروضة على الانسان اتجاه خالقه من خلال ابراز الحق واطاعة امره والسير على عدله، وبيان الاحدية والكمال الخالص لله والقدرة المطلقة التي يجب ان يفهمها الانسان بالهدى والفكر الناصح.

ان الامام علیه السلام اكد ان المسؤولية الأعظم هي على ولي الأمر الذي هو مسؤول امام الله تعالى عن أمةٍ يلي أمرها بتطبيق الحق والعدالة والسير بهم على .

ص: 95


1- (أي يتسع القول في وصفه باللسان حتى إذا وجب على الواصف شيء منه تضايق في أدائه ولم ينتصف من نفسه كما يُنتصف لها).
2- الخطيب - السيد عبد الزهراء الحسيني - مصادر نهج البلاغة وأسانيده - ج 3 ص 113 - الطبعة الرابعة - بيروت.

طريق الهداية والاستقامة والابتعاد عن الغي والجبروت والطغيان، وهي امانة في عنقه كما قال علیه السلام في رسالة له الى رفاعة بن شداد البجلي؛ قاضيه على الاهواز «واعَلمْ يا رفاعةُ أن هذه الامارة أَمانةٌ فمن جعلها خيانةً فعليه لعنة الله الى يوم القيامة، ومن استعمل خائناً فإن محمداً صلی الله علیه و آله و سلم برىٌ منه في الدنيا والاخرة» (1).

كما جعل الله له الحق في أن يطيعه عباده في اوامره ونواهيه ليثبت لهم مضاعفة الثواب والعطاء الجزيل وهذا يعتبر تفضل من الباري عز وجل على عباده وتوسعةً منه كما يعتبر في الوقت نفسه تمنناً ورحمة منه جلت قدرته وعطاء مضاف ومضاعفاً من الخالق لعباده.

«ثم جعلَ سُبحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افترضَهَا لبَعْضِ النَّاس على بعضٍ، فجعَلها تتكافاً في وُجُوهِها ويُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، ولا يُستَوجبُ بعضها إلّا ببعضٍ» ان الامام علي علیه السلام جعل كل الامور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل و تبادل و تناصح، بل العلاقات العامة والصيغ المتبادلة في العمل وفق ما اراده الله تعالى لان الباري عز وجل اوجب هذه لتلك بموجب قانون الهى وهو التساوي في وجوه الحق المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الانسانية وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه الا ببعض، ثم بين علیه السلام ذلك بصورة اوضح «وأعظمُ ما افترضً سُبحانهُ من تلك الحُقوق حَقَ الوالى على الرَّعيَّةُ وحَقَ الرَّعيَّة على الوالي، فريضةً فرضها الله سُبحانهُ لكُلٍّ على كُلٍّ فجعلها نظاماً لأُلفتِهم وعزّاً لدينهم. .

ص: 96


1- المحمودي - الشيخ محمد باقر - نهج السعادة ومستدرك نهج البلاغة المجلد 4 و 5 - ص 130.

فليْستْ تَصلُحُ الرَّعيَّةُ إِلّا بصَلاحِ الوُلاةِ، وَلَا تصلُحُ الولاةُ إلَّا باستقامةِ الرَّعيَّةِ.

فإذا أَدَّت الرَّعيَّةُ إلى الوالي حَقَّهُ، وأدى الوالي إليها حقَّها، عَزَّ الحَقُّ بينهم، وقامَتْ مناهج الدِّينِ، واعتَدلَتْ معالِمُ العَدْلِ، وَجَرَتْ على أَذْلالِهَا السُّنَنُ (1) فصَلحَ بذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ في بقاءِ الدَّولَةِ، ويئسَتْ مطامِعُ الأَعداء». (2)

ان الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين كما ذكرها الامام علیه السلام فيها الجوانب المهمة والدعائم الاساسية لثبات كيان المجتمع وحفظ مظاهره الايجابية وصورة نظامه، هذا اذا شعر الوالى بان الله قد فرض له حقوقاً على رعيته وكذلك حقوقاً للرعية على الوالي، وبحفظهما وعدم الاخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم) وبهذه الالفة وهذا التعاون والمحبة والصدق في نياتهم وضمان تسديد الحقوق الى مستحقيها والالتزام اتجاه بعضهم البعض الآخر هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة.

اذن هذه الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين هي حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالى. والمقصود بالحق الاول هو حق الدولة وقائدها أي السلطة القائمة على المجتمع.

فالامام علیه السلام في نصّه يطرح هذا الموضوع شرطاً في نمو الدولة ودوامها، ويضع هنا واحداً من مفاتح تفسير التاريخ، في واحد من شروط نمو الحضارات ودوامها. 4.

ص: 97


1- ورد في معنى (أَذْلالِهَا) - بفتح الهمزة - أي على مجاريها وطرقها.
2- مصادر نهج البلاغة المصدر السابق ص 114.

ويمكن طرح الجوانب الايجابية للعلاقة المتبادلة بين الراعي والرعية كما یلی:

1 - ان هذه العلاقة الودية والتى استوجبت على الطرفين حقوقاً متبادلة اصبحت نظاما للالفة والمحبة والوفاء.

2 - بهذا الود والحب والتعايش العائلي داخل البلد والتوافق والانسجام ومراعاة الضوابط التي حددها الباري عز وجل فى العلاقة الحقوقية المتبادلة سيُعز الدين ويرتفع شأنه.

3 - صلاح الوالي، فبصلاحه واهليته كإنسان مؤمن وصادق وامين غير خوّان ولا منافق يُدلِّس على الناس اعماله أو يخفي أمره واسراره، فانه تصلح به الرعية، واذا كان فاسداً مفسداً عند ذاك تفسد الرعية، لانه لا صلاح للرعية الا بصلاح القدوة القائد.

كذلك اذا انحرف المجتمع وانفردت به الشهوات والرغبات الانانية والمطامح الشخصية - أي حب الذات بكل معنى لها - تاركاً امر الله وحقوقه مبتعداً عن تعاليم دينه مقدماً مصلحته على الصالح العام مقراً بالصفات الذميمة والشريرة والرذيلة، بعيداً عن الاستقامة التي حددها القرآن فانه سيفسد أمر الولاة ولا يستقيم، وبالتالي تنهار العلاقة الايجابية التي وُضعت اسسها سابقاً ويُدمَّر النسيج الاجتماعي المتراص مع الحاكم، اذن لابد ان يؤدي الناس حق الوالي ويؤدي الوالي حق الناس حتى يسود الحق بالعدالة والسمو في المجتمع بالالتزام المتبادل بالحقوق الواجب أداؤها على كل طرف إزاء الطرف الاخر.

وسيترتب على ذلك:

1 - ارتفاع شأن الحق بينهم.

2 - التطبيق الكامل لمنهج الحق وطريق الدين الحنيف.

ص: 98

3 - وضوح معالم العدل الذي يسود المجتمع.

4 - جريان السنن الالهية كما أرادها الله سبحانه وتعالى.

5 - رفاهية المجتمع وسعادته في الزمان الذي طُبقت فيه اوامر الله تعالى.

6 - الرغبة والتمني لطول بقاء الدولة والدفاع عنها في الوقت العصيب.

7 - يأس العدو ورده على نحره وطمر كل مطامعه.

هذه سبع نقاط ايجابية مهمة يحصل عليها المجتمع والدولة معا من خلال الوفاء بالواجب الالهى المفروض على الطرفين، وإنه ليس (عقداً اجتماعياً) كما وصفه (جان جاك روسو) أو غيره انما سنن صالحة معتمدة تامة التطبيق ومضمونة النتائج لصلاح المجتمع والسلطة معاً.

والامام علیه السلام لا يسكت عند هذا الحد انما يتحول الى الجانب السلبي من العلاقة بعد ان تحدث عن الجانب الايجابي المثمر، وسنأتي الى طرحها تباعاً انشاء الله.

بقي لنا ان نتساءل ما هي هذه الحقوق التي توفر الامن للعلاقة الايجابية وتعطي الطاقة الفاعلة للسير على طريق الحق والاستقامة، واقامة العدل في المجتمع، لانه كما قلنا إن هدفنا هو اتباع منهجية أو اعطاء ملامح عامة لنظرية اجتماعية اسلامية تسير عليها المجتمعات الانسانية باتخاذها منهجاً سليماً للعمل به، فنعود ونسأل الامام علي علیه السلام ان يعطينا صورة لهذه الحقوق وماهيتها، فجاءنا الجواب بهذا الكلام البليغ:

«أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ لي عليكُمْ حقّاً، ولَكُمْ عَليَّ حَقٌّ:

فأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فالنَّصيحةُ لَكُمْ، وتوفيرُ فيئكُمْ عَلِيكُمْ، وتعليمكم كيلا تجَهلوا، وتأديبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا.

وأما حقي عليكُمْ فَالوَفَاءُ بالبيْعَةِ، والنصيحةُ في المشهد، والمغيبِ،

ص: 99

والإجابَةُ حين ادعُوكُمْ، والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ» (1).

أربعة نقاط رئيسية حددها الامام علیه السلام في كلامه كحقوق للرعية على الوالي الشرعى واربعة اخرى كحقوق للوالي على الرعية، وهذه الجمل المعبّرة تعتبر بحق العناصر الاساسية في حفظ المجتمع وصيانته ونمو الدولة واستمرارها وقد عبرت عن عمق المعاني والمفاهيم الانسانية والاخلاقية ولنأت على هذه النقاط بشيء من التفصيل.

أولاً: حقوق الرعية على الوالي

أ - النَّصيحة للأمة:

ان اي حاكم اذا كان صادقاً محباً لامته فانه لا يفعل امر الا ما يصلحها ويساعد على تقدمها، فالنصيحة هي اداء الامانة التي أُلزم بها الوالي أو الحاكم على احسن ما تصدق به نفسه، وهى فى نفس الوقت الوفاء للامة بحيث يحميها من الشرور بقوة ارادته وحكمته وتدبير امره، ولا يوقع بها في المواقف التي تحطّ من كرامتها وحريتها وشرفها وعزتها وسعادتها من اجل رغبة ذاتية أو سوء تدبير، وان يخلص لها ويصدِقَها، ويقتبس الماوردي من أمير المؤمنين علیه السلام هذا البعد فيحرم على الملك استعمال المكايد مع الرعية ويقصر جوازها على العلاقة مع العدو، ويعتبر ذلك من اصول العدل في السياسة «ومطلب الماوردي مأخوذ من سياسة على بن على بن أبي طالب علیه السلام في عدم حجب الاسرار عن الرعية» (2)

ص: 100


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 79.
2- العلوي - هادي - فصول من تاريخ الاسلام السياسي ص - 1995 قبرص شركة F - k - n المحدودة للنشر.

وعلى نقيضه كان خصومه الامويون «الذين جربّوا مبدأ سبق لأرسطو ان قرره في سياساته يسمح بتضليل الجمهور للحصول على دعمه للملك (1).

لكن هادي العلوي وهو ينقل هذه المقارنة يميل الى ترجيح السياسة الاموية في تضليل الجمهور التي قادتهم الى السلطة!

وقد وقع بذلك في قلب التناقض حين فاته أن مثل هذا النصر الذي حققه الامويون بتضليل الجمهور إنما هو نصر لهم وليس للأمة! فلقد وقعت الامة في شراكهم فيما تربعوا هم على عرش الملك!

وكم من حادثة وحادثة تثبت ذلك في تاريخنا المعاصر «وكم كانت شؤون العالم واحوال البشر ستكون افضل لو اننا التزمنا بشيء اكثر قليلاً من الامانة والنزاهة والاستقامة والعقلائية، أو لو حاولنا بالفكر المنهجي الواعي المنظم الثاقب ان نتقدم بخطوات قليلة معدودة على الوقائع والاحداث والتطورات، وان ندرك مسبقاً الاخطار والاضرار التي ستنجم عن السكوت على الشر والجور والغدر، والتورط فى الظلم والخداع والتضليل ... ولو نظرنا الى العالم الآن بعقول واعية وعيون مفتحة، فسندرك تماماً انه محكوم بشريعة الغاب الى حد كبير، وربما سيبقى كذلك الى وقت طويل قادم في المستقبل المنظور أو المجهول. تلك هي الحقيقة الموضوعية الصارمة القاسية المريرة، ولا مناص للانسان العاقل الحكيم من معرفتها ومواجهتها ولكن هذه الحقيقة لا تعني بالضرورة القاهرة ان نكون نحن معشر البشر من الوحوش والهمج والبرابرة، ولا تعني ايضاً من جهة ثانية أن نكون بالحتمية المطلقة من السذّج والبسطاء والمغفلين، ولكنها تعني أن البقية الباقية والثمالة الاخيرة والبارقة الوحيدة من .

ص: 101


1- المصدر نفسه.

الامل في تأمين مصير العالم ومستقبل الحضارة هي المزيد من تمسك الانسان بانسانیته، على الرغم من (الغابة) وشرائعها وقوانينها واخطارها وأهوالها وفواجعها». (1)

ب - المحافظة على بيت المال:

وهذا جانب اخر مهم يعبر عن الامانة والاخلاص وهو المحافظة على ما يدخل بيت مال المسلمين من خراج وغيره لانه ملك المسلمين، حتى يبذله في مواقع صرفه المحددة بالشريعة أو المساحات التي تركت الشريعة للامام حق التصرف فيها، ثم على الامام الحق ان يقوم بالرعاية الاقتصادية للامة ومواجهة الخلل والتدهور الاقتصادي ووضع الخطط الاقتصادية المناسبة بما يعين الامة على اعمالها وينشر الرخاء بين صفوفها، وكم عانى الامام علي علیه السلام من بعض الاطراف فى عصره بسبب مسألة تقسيم الاموال على الصحابة من اهل بدر والانصار حيث قسمّها كما اراد الله وعمل بها رسوله ولم تأخذه في الله لومة لائم أو لم يمنعه شيء من احقاق الحق «وكان على بن ابى طالب علیه السلام اذا دخل بيت المال ونظر ما فيه من الذهب والفضة قال: ابيْضيّ واصفريّ وغرُيّ غيْري إنيّ من الله بكل خير» (2).

ج - التعليم:

التعليم ضد الجهل واذا اردت ان تعرف مدى اخلاص الدولة الى ابنائها فانظر الى اهتمامها بالتعليم، وان اعظم ما يقوم به حاكم أو قائد في أي بلد هو .

ص: 102


1- هارت - ليدل - التاريخ فكراً استراتيجياً ص 141 ترجمة حازم طالب مشتاق، الطبعة الأولى بغداد 1985.
2- باقر - عبد الغني - التظلم من الحكام - مجلة كلية الاداب - العدد السادس ص 122 نیسان 1963 - بغداد.

النهوض لمحاربة الجهل والتخلف والامية، ونشر المعرفة والعلم بين صفوف المجتمع، حتى يستطيع ذلك المجتمع ان يعي الحقائق ويساهم في التطور العلمي والمعرفي الذي هو اساس التقدم والازدهار، ولهذا اهتم أمامنا علي علیه السلام في هذا الاصل المهم فى الحياة، وقال: «وتعليمكُمْ كَيْلا تجهلُوا» ناهيك عن اهتمام رسول الانسانية محمد صلی الله علیه و آله و سلم بالتعليم وحادثة اطلاق سراح اسری بدر مقابل تعلیم ابناء المسلمين من أروع أمثلة العناية بالتعليم التي شهدتها البشرية في تاريخها.

د - التأديب:

هو تربية المجتمع على المبادىء الروحية والقيم الاخلاقية، واي شيء أجمل من أن يقوم الوالي الشرعي ببناء الذات الانسانية للمجتمع بناءً سليماً يحفظ المسيرة الاجتماعية ويصونها من الانحراف؟ وذلك ببث الاداب العامة الاسلامية التي سوف تعطي مجتمعاً نموذجياً اخلاقياً في تعامله والفَتِهِ وتعاونه.

هذه النقاط الاربعة لو عدنا ووضحتاها اكثر فاكثر، وطابقناها مع فروع علم الاجتماع الرئيسية لوجدناها تتطابق في اهدافها مع تلك الفروع بصورة جلية وواضحة حيث نلاحظ:

1 - النصيحة للامة: تندرج ضمن علم الاجتماع السياسي.

2 - المحافظة على بيت المال: تندرج ضمن علم الاجتماع الاقتصادي.

3 - التعليم: يندرج ضمن علم الاجتماع التعليمي.

4 - التأديب: يندرج ضمن علم الاجتماع الاخلاقي.

فالامام علیه السلام اوضح ضرورة مراعاة الترابط في الحقوق بين الحاكم والرعية بصورة كاملة، والمحافظة على اساس العلاقات الاجتماعية وحالة التجاوب والتعاون بين الجميع.

ص: 103

ونظرة عامة الى وظائف علم الاجتماع التي حددها العلماء والكتاب والمهتمين بهذا الامر توضّح لنا قيمة افكار الامام علي علیه السلام الحيّة التي طرحناها انفاً وهي تعالج الواقع الاجتماعي من خلال القانون الاجتماعي العام الذي وضعه للعلاقات الاجتماعية بصورة عامة وتامة.

وفيما يلي اهم وظائف علم الاجتماع كما تقررها اهم الدراسات المعاصرة:

1 - يحاول علم الاجتماع الحديث وضع مورفولوجية (1) خاصة بالعلاقات الاجتماعية تأخذ على عاتقها تصنيف وتقسيم العلاقات الاجتماعية الى انواع أو اشكال مختلفة خصوصاً تلك العلاقات التى تأخذ مكانها في مؤسسات ومنظمات المجتمع المختلفة.

2 - يحاول علم الاجتماع الحديث دراسة العلاقة بين أجزاء وأقسام وعوامل الحياة الاجتماعية، كالعوامل الاقتصادية والسياسية والاخلاقية والدينية، مع دراسة العلاقة بين العناصر الاخلاقية أو العناصر الاقتصادية مع الفكرية.

3 - يحاول علم الاجتماع الحديث تشخيص الظروف والقوى التي تسبب التغيير الاجتماعي والسكون الاجتماعي، وعندما تعتمد العلاقات الاجتماعية على طبيعة الافراد وهم في حالة اتصال الواحد بالاخر أو بالاتصال مع مجتمعهم الكبير يحاول علم الاجتماع الوصول الى قوانين موضوعية ايجابية قادرة على تفسير الوجود الاجتماعي والكيان الاجتماعي. (2) 5.

ص: 104


1- المورفولوجية: معناها الظواهر التي تتعلق ببنية المجتمع.
2- بعض نظريات علم الاجتماع في القرن العشرين - مجلة كلية الاداب - العدد 17 - ص 35.

ثانياً: حق الوالي على الرعية

أ - الوفاء بالبيعة:

ان تبقى الأمة على بيعتها للخليفة أو الحاكم، تخلص لها، وتدافع عنها، وتحافظ عليها، وتفى بما قطعته على نفسها من عهود الوفاء معه.

ب - النصيحة في المشهد والمغيب:

ان الخليفة ما دام صادقاً مع أمته مؤدياً أمانته، فمن حقه ايضاً ان يصدق معه ابناء الامة بحيث لا يدور النفاق في انفسهم في الحضور والغياب في الشدة والرخاء.

ج - اجابة الدعوة:

حينما يدعوهم الخليفة الى أمر ما يتخذونه أو يطلبهم لا تخاذ طريق معين أو ترك عمل مخالف لارادة الله ومصلحة عموم الناس، أو تقويم في طبع ما مضر بالخلق، يجب أن تكون اجابة الامة سريعة وبدون تباطؤ أو تلكؤ.

د - تنفيذ الأوامر الصادرة:

ان الامة اذا شعرت بمحبة و ليها وسيرته العادلة بحيث أدى حق المجتمع فما عليها حينذاك الا اطاعة الاوامر الصادرة منه والعمل على تنفيذها.

لو تابعنا النقاط الاربعة الاولى مقابلةً بالنقاط الاربعة الثانية على طاولة البحث الاجتماعي لا فرزنا النتائج الايجابية المهمة من هذه العلاقات الاجتماعية العمودية، ولأعطت تلك ظواهر اجتماعية نوعية ذات اثر بالغ ومهم في تقدم مسيرة الانسان. وبجمع كل هذه النقاط نحصل على صورة لانموذج اجتماعي وصالح سعيد يعيش أفراد كيانه في رخاء كامل وأمن واستقرار، وهذه في الحقيقة

ص: 105

لیست افكاراً مثالية بعيدة المنال انما هي حقائق موجودة في المجتمعات الاسلامية بالذات لكنها مبتورة الاطراف مشلولة اللسان مبعثرة هنا وهناك وليس هناك من يجمَعها ويؤلف بينها، اما لوجود ذات انسانية جشعة حاقدة أو المصادمتها مع مصالح الحكام أو عدم الثقة والاطمئنان من قبل الامة بحاكمها فتبقى تلك المعالم الواقعية والصادقة والاساسية لبناء المجتمعات رهينة تلك العُقد والمطامع. بل وتبقى في منأى عن التطبيق والممارسة التطبيق والممارسة بحيث تغيب حالة الوعى والوفاء والاخلاص ويحل محلها الجهل والخيانة، وبالتالى الضرر العام للمجتمع.

اذن فصلاح الامة بصلاح قائدها وسائسها، وفسادها بفساده وان اية امة أو مجتمع كبير في أي بقعة اذا كان راعيها منحرف المنهج والنفس لا يهمه امر امته، يعمل بالمنكر والهوى مبتعداً عن الحق واهله فان الامة ستتبعه في منهجه وعلى نفس الطريق الذي يؤدي الى الانحطاط وقد قيل (ان الناس على دين ملوكهم). وكذلك فان امر الولاة لا يستقيم ولا يستقر الا باستقامة المجتمع، والعمل على اقامة ومساعدة الوالي وقد سبق الكلام عن ذلك، فان حصل التوافق الروحي والمبدئي بين الوالي والرعية، فان الاحوال تسير على احسن ما یرام، بحيث تسقط مطامع الاعداء وتحركاتهم المريبة وهذا ما يعبر عنه بالمفهوم الحالي (بمتانة الوضع الداخلي) بحيث يتحدى القائد اعداء بلده ويقف بشعبه اتجاههم مطمئن البال ومستقر الحال وهذا يضيف دعما معنوياً ومادياً عظيماً الى القيادة وجيشها بحيث يقل التفكير بوجود رتل خامس فى البلاد الذي ينشأ عادة من الاوضاع السيئة والسلوك المنحرف لبعض الافراد حيث يسعون الى تحريك الوضع واثارة الشغب بين الناس نظراً لسوء الاحوال وعدم استقامة الامور وعدم جريان العدل في مجاريه الصحيحة. ثم ارسال المعلومات عن الوضع القائم الى الاعداء ونشر الاخبار الكاذبة والاشاعات المفرقة والمثبطة

ص: 106

للعزائم والهمم وهذا كله يأتى من عدم اداء الحقوق بين الوالي والرعية، وقد بين الامام علیه السلام ذلك بصورة اكثر جلاءً ووضوحاً: «وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَ تُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ، فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ». (1)

بعد ان وضح الامام النتائج المستحصلة من الصورة الايجابية المثمرة وبعد أن بيّن نوع الحقوق بين الطرفين في كلام مفصّل وفي مواضع مختلفة يستمر علیه السلام في عرض النتائج المستحصلة من الصورة السلبية في العلاقة التي ان وقعت اختل التوازن بين الطرفين، وهذا يحصل حينما تشعر الرعية بغبن وظلم الطرف الاخر حيث تسعى هي الاخرى الى غلبة واليها أو التخلص منه والعبث بالمقدرات العامة وترك العمل بالحقوق، وتصبح العملية هنا ساحة حرب وتسارعاً نحو الاهداف الشيطانية بين الوالي ورعيته عند ذاك تظهر النتائج التالية للصورة اعلاه:

1 - انتشار معالم الجور والظلم.

2 - كثرة الامور التي تفسد حقيقة وواقع الدين.

3 - ترك المحجة البيضاء والطريق الوسطى أو الانحراف يميناً وشمالاً في 4.

ص: 107


1- مصادر النهج المصدر السابق ص 114.

طرق اخرى.

4 - غلبة الاهواء والرغبات الذاتية للنفس الانسانية.

5 - تعطيل احكام الله والعمل بما لا يرضي الباري عز وجل.

6 - كثرة تعلل النفوس بالباطل.

7 - موت الشعور بالمسؤولية أزاء المنكرات وتعطيل الاحكام الى الحد الذي قد يتجاوز عدم الاستنكار والنفرة فيها الى الرضا والإقرار.

لقد جعل الامام علیه السلام عملية التوازن في العلاقات بين الراعي والرعية الاساس المهم الذي يتكى عليه الكيان الاجتماعي المنسجم، الذي تُضمن فيه الحقوق والواجبات بصورة عادلة بين الجانبين، والمقومات الحقيقية لذلك هو الايمان والصدق والامانة.

وهناك صورة اخرى يعطيها الامام علي علیه السلام للإمام الحاكم، مسؤولياته، وأثره فى الحالة الاجتماعية هذه الصورة حين نضعها الى جنب ما قدّمناه نقف على نسق متجانس ومنهجية رائعة في التنظيم الاجتماعي.

ففى الخطبة الاولى اعطى الامام على علیه السلام معالم الحقوق المفروضة على الراعي والرعية إتجاه بعضهم البعض ثم اعطى النتائج التي سوف تترتب حتماً على توفر هذه الحقوق، أو على إهدارها كاشفاً عن عمق الرؤية في السنن التاريخية وفلسفته السياسية المدنية ... ثم جاءت الخطبة الاخرى بتفسير مفصّل لطبيعة واصناف الحقوق المفروضه على كل من طرفي المعادلة الاجتماعية، وقد عكست عن حالة تامة بوظائف علم الاجتماع والآن نورد كلامه في دور الامام العادل والامام الجائر في المجتمع، وهو قسم من كلمته التاريخية مع عثمان بن عفان حين شكاه الناس والتمسوا من على علیه السلام مخاطبته واستعتابه، فكان مما قال: « ... فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَ هَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً

ص: 108

وَ أَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وَ إِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَ إِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ. وَ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَ ضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَ أَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً؛ وَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَ لَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَ لَا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا.» (1)

ثم يعطي الامام علیه السلام العلاج التام لتلك الأمراض والأخطاء التي تترك أثارها على المجتمع بصورة عامة، وكيان الدولة كذلك، فيقول علیه السلام:

«فعليكم بالتِّناصُحِ في ذلك وحُسْنِ التَّعَاوُنِ عليه، فلَيْسَ أَحَدٌ وإن اشتَدَّ على رضاءِ اللهِ حِرْصُهُ وطَالَ في العَمَلِ اجتهادُهُ ببالغ حقيقة ما اللهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةَ لَهُ ... ولكن من واجب حقوقِ اللهِ على العبادِ النَّصيحَةُ بمبلَغِ جُهْدِهِمْ، والتَّعاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الحَقِّ بَيْنَهُمْ.

وليس امرُؤٌ وإِنْ عَظُمِتْ في الحقِّ مَنزِلتُهُ، وَتَقَدَّمتْ في الدِّينِ فَضيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ من حَقِّهِ، ولا امْرُؤٌ وإنْ صَغَّرَتْهُ النَّفُوسُ واقتحمتَهُ العُيُونُ بدُونِ أَنْ يُعينَ عَلَى ذلِكَ أَو يُعَانَ عَلَيْهِ».

فالتناصح والتعاون هما مطلبان اساسيان لحياة الناس والسلطة القائمة، والانسان مهما قام وقعد وبذل جهده وحرص على عمل الخير واجتهد فيه من اجل رضاء الله فهو لم يبلغ ولا يستطيع ان يدرك (حقيقة ما الله اَهْلُهُ من الطاعة لهُ) أذن الواجب من الحقوق الالهية هو النصيحة بآخر جهد مع التعاون من أجل اقامة العدل والحق بين الناس، لا يتعالى عن ذلك ذو مقام لمقامه، ولا يعتذر صغير لصغره. .

ص: 109


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص الصالح ص 235.

ص: 110

الفَصْل الثَّاني

اشارة

الحرب والسلم والمجتمعات الانسانية

ص: 111

ص: 112

لقد كتب الكثير من علماء التاريخ والفلسفة والاجتماع والجغرافية عن اثر الحروب في الكيانات الاجتماعية ووجودها، وقام البعض من الفلاسفة بطرح نظرياتهم الفكرية حول الوجود الاجتماعي ككل والانسان بصورة خاصة وارتباطات ذلك بالحرب والسلم.

وهل للمجتمعات البشرية دورات حضارية تتكرر دائماً بنمط معين واحد؟ أم حتمية تاريخية، اقتصادية، أو نفسية، او مثالية؟ أو تحدي واستجابة، أم ديالكتيك حسب قانون التناقض؟ أم أن أصل ذلك كما جاء في نظرية (الصراع من اجل البقاء) أو البقاء للأصلح الدارونية؟ أو (التعاقد الاجتماعي) لهو بزولوك وروسو؟ أم غير ذلك.

إنّ كل تلك نظريات من بنات أفكار البشر، وان لهذا الكون سنتاً الهية موضوعة من قبل الباري عز وجل، وإن أول البشر هو آدم علیه السلام، وان أول حرب شرعت بين المخلوقات هي الحرب النفسية العقائدية التي قادها إبليس: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿16﴾ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾ (1).

ثمّ كان صراع قابيل وهابيل وقتل احدهما الآخر، ولكن ليست بالصورة .

ص: 113


1- سورة الاعراف: الآية 16 و 17.

التي طرحها توينبي كما ذكرها الوردي في كتابه حيث قال: «يميل بعض الباحثين بأن قصة آدم التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة ليست سوى قصة رمزية ... وخلاصة القول إن آدم وزوجته حواء كانا يعيشان في جنة عدن منعمين، ثم عصيا ربهما بتحريض من الشيطان ... فطردهما الله من الجنة، حيث صارا من يكسبان قوتهما عن طريق الكدح وعرق الجبين ورزقهما الله بعد ذلك ولدين هما: هابیل و قابیل، فاتخذ هابيل مهنة الرعى بينما اتخذ قابيل مهنة الزراعة، وجرى بين الاخوين نزاع فقتل قابيل أخاه هابيل، ومن الباحثين الذي عنوا بهذه القصة المؤرخ الذي اشرنا اليه توينبي، فكان من رأيه أن جنة عدن التي عاش فيها آدم وزوجته، قبل سقوطهما، تمثل الحالة المطمئنة التى كان البشر يعيشون فيها قبل انحسار العصر الجليدي، اما النزاع بين هابيل و قابيل فيمثل الصراع الذي حدث بعدئذٍ بين البداوة والحضارة» (1)!

وبعضهم طرح افكاره بصورة خيالية غير واقعية أو تفسيرات مادية وما شابه ذلك.

وأقول: لقد تكونت المجتمعات وازدادت الحاجات وبُنيت المدن والدول وبعث الله الانبياء مبشرين ومنذرين فبدأ هنا الصراع بين قوى الحق وقوى الضلال بين الانبياء واتباعهم المخلصين والطواغيت وجلاوزتهم المغرورين، وهذا القرآن الكريم يستعرض التاريخ البشري بصورة كاملة وصادقة وقد اعطى بل وضع بين يديّ الانسان القوانين الكونية وبقي على الانسان ان يستخرج ما ينفعه ويكتشف العلل والاسباب لكل حادث وحدث ليحصل على الصورة الواضحة التي تساهم في استقراره وطمأنينته إلا أن الانسان كان ظلوماً جهولاً، 5.

ص: 114


1- دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ص 25.

والالسارت المجتمعات على هداها في طريقها المستقيم، إن وراء الصراع الدامي أطماعاً بشرية وانانيات ذاتية، وتعصبات قومية، بل حتى في أحيان كثيرة التعصب الديني للفكرة الاعتقادية التي سار عليها الاباء والأجداد رغم ظهور الانبياء والرسل: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (1).

التعصب ونشوء الحرب

إن التعصب يأخذ عدة مناحٍ منها الديني أو السياسي أو العشائري أو القومي أو الشخصي وهذه قضية اجتماعية نفسية متأصلة في نفوس البشرية منذ أن خلقت وتكونت، والتعصبات بأنواعها هي السبب لنشوب الحروب والغزوات، و «إعْلَمْ أَنَّ الحُرُوب وأَنواع المقاتلَةِ لمْ تَزَلْ واقعةً في الخليقة مُنذُ براها الله وأَصْلُهَا إرادةُ انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامُر وا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهُما تطلب الانتقام والاخرى تُدافع كانت الحربُ، وهو أمرٌ طبيعي في البشر لا تخلو عنه أُمَّةٌ، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسةٌ، وامَّا عُدوانٌ، وإما غضب لله ولدينه، واما غضبُ للملك وسعيٌ في تمهيده ... فالاول: أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة. والثاني، وهو العدوان: أكثر ما يكون من الامم الوحشية الساكنين بالقفر، كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم، لأنهم جعلوا أرزاقهم فى رماحهم ودمائهم، فيما بأيدي غيرهم ومن دافَعَهُم عن متاعه آذنُوهُ بالحرب، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنما همُّهم ونصب أعينهم غَلْبُ على ما

ص: 115


1- سورة الاعراف: الآية 70.

في أيديهم. والثالث: هو المسمى فى الشريعة بالجهاد. والرابع: هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها. فهذه اربعة اصناف من الحروب، الصنفان الاولان منها حروب بغي وفتنة، والصنفان الاخيران حروب جهاد وعدل». (1)

هذا رأي ابن خلدون في عصره، أما في عصرنا فكانت اهم اسباب الحروب الاطماع، والتوسع، والدوافع السياسية والقومية واتخذت شكلاً آخر في الفترات المتأخرة فيما يسمى بحروب النيابة أو لوقف نفوذ فكري أو ديني واسباب اخرى متعددة.

الصراعات والتطور

هناك من يقول إنه لولا يقول إنه لولا الحروب لما تطورت البشرية ووصلت إلى هذه المرحلة من التقدم التقني، إذ الحاجة هي أم الاختراع، والحروب قد كشفت دائماً عن مواضع النقص في الحاجات الضرورية لادارة ماكنة الحرب، وعجلة الاقتصاد فيرى هؤلاء المفكرون انه لولا الحروب العالمية العظمى الأخيرة لما ترقى فن الطيران بهذه السرعة التي ترقى بها، بل لاستغرق ارتقاؤه نصف قرن على الاقل.

وهناك أمور كثيرة أحدثتها هذه الحرب كتحسن فن الجراحة واختراع الكثير من المواد والادوات ووسائل استغلال المادة والطاقة، التي أصبحت بعد الحرب تستخدم اقتصادياً وصناعياً، كالغوص في البحار، وبعض مكائن الحرب التي يرجى أن تنفع في مجال الزراعة والصناعات على الاقل.

ص: 116


1- مقدمة ابن خلدون. الفصل السابع والثلاثون ص 270 مؤسسة الاعلمي - بيروت.

وهكذا تكون الحرب من العناصر الفعالة فى تقدم الحضارة والمدنية احيانا، وهى ضرورة اجتماعية أحياناً تتمخض عن تحقيق نسب افضل من التوازن الاممي، ويشاهد الانسان اثرها حتى في توازن الكون، ولولا التصادم الموجود في عالم الحيوان والانسان لتعطلت سنة الكون ولتعطل العمران وتأخرت البشرية: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (1)، لأن الناس والجماعات مختلفو المصالح والاغراض والمآرب فهم يعملون متناهضين متعارضين، وعلى تعبير الرياضيين الميكانيكيين: يتحركون متقاطعين، وفى هذه الحالة يتصادمون و تصادمهم ينتهي بتدمير بعض أنظمتهم فاذا لم يكن ثمة وسيلة لكبح جماع القوة الاجتماعية المتفوقة أو الزائدة حتى تتوازن مع غيرها كانت النتيجة دماراً للاجتماع، إذن يجب أن يكون في روح الاجتماع ما يسيطر على تلك القوى الاجتماعية المعتركة ويدربها في سبيل التوازن حتى تستقر في نظام، هو (العقل الاجتماعي) فالارتقاء في التمدن يسلتزم هذا التغيير في الانظمة وتنقيحها أو ابدالها بأنظمة أكثر موافقة للحالة التمدنية التي يتجه اليها المجتمع في نموه، اذن اعتراك القوى مفيد للاجتماع البشري ولازم له (2). إن هذا الامر ليس اساساً يؤخذ به على انه لولا الحروب في الكرة الارضية لما تبدلت الانظمة أو صلح امرها أو تطورت من النواحي المادية، ان ذلك يخالف الاجتماع العام والتوافق الاممي على العيش إلا بالظرف التي يستحدثه الطغاة.

فرسول الاسلام صلی الله علیه و آله و سلم أرسل في بداية دعوته رسائل السلام والوئام إلى قادة دول العالم الرئيسية آنذاك، الروم والفرس والأقباط والأحباش، ان لم .

ص: 117


1- سورة البقرة: الآية 251.
2- انظر: الراعي والرعية ص 109.

ينزعوا من فكرة الشرك فان عليهم آثامهم وآثام شعوبهم التي يضلونها عن طريق الهدى. حتى أذن الله له بقتال المشركين والكفار لتثبيت ونشر مبادىء الاسلام وإحقاق الحق وإنقاذ الأمم من الظلم المخيم على العالم انذاك.

وحدد الاسلام انواع الجهاد وفيها أحكام فقهية مختلفة لسنا بصدد بحثها إلا أنه على العموم لم يكن الجهاد المعنى في الاسلام هو الحروب والقتال والغزو والسيطرة كما هو الأمر لدى الامبراطوريات والدول السابقة، إنما هو رسالة الحرية والسلام والخلاص من الظلم والعبودية بإذن وأمر من الباري عز وجل لاطباق المبادىء الحقّة على العالم.

فالسيف كان مع القرآن، لا مع دوافع الاستبداد والتوسع والدين لا يؤخذ على حين غرة.

لقد فتحت البلدان وعاش الكثير من أهلها أديانهم السابقة في رعاية المسلمين، وسموا بأهل الذمة مقابل دفع الجزية التي تعفيهم من مهمات الحرب ومن حق الزكاة الذي يؤديه المسلمون، اذن معنى التدافع ليس بالضرورة أن يكون التصادم والحرب، إنما المعنى في ذلك هو صراع الحق مع الباطل والدفاع عن الحق، وهناك آية شريفة تدلل على هذا المعنى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ) (1).

وقد ذكر السيد الطباطبائي في الميزان أن الآية في مقام الاشارة الى حقيقة يتكيء عليها الاجتماع الانساني الذي به عمارة الأرض، وباختلافه يختل العمران وتفسد الارض، وهي غريزة الاستخدام الذي جُبل عليه الانسان، .

ص: 118


1- سورة الحج الآية 40.

وتأديتها الى التصالح في المنافع، أعني التمدّن والاجتماع التعاوني، وهذا المعنى وان كان بعض أعراقه وأُصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي تقوم عليه عمارة الارض ومصونيتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الارض عليه، لا على ما ذكر من القاعدتين - التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي - ، وبعبارة أخرى واضحة إن هاتين توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الوحدة، فإن كلاً من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضم ماله من الوجود ومزاياه الى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون الواحد الباقي منهما أقواهما وأمثلهما، فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدلها الى واحد أمثل، وهذا أمر ينا في الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي اليه بغريزته و به عمارة الارض، بهذا النوع لا إفناء قوم منه قوماً، وأكل بعضهم بعضاً، والدفع الذي تعمر به الارض وتصان عن الفساد هو الدفع الذي يدعو الى الاجتماع والاتحاد المستقر على الكثرة والجماعة، دون الدفع الذي يدعو الى إبطال الاجتماع وايجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الارض وعدم فسادها من حيث أنه تحيي به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين، لا من حيث يتشتت به الجمع وتهلك به العين ويمحى به الاثر (1)

فليس الهدف إذن من وراء الحروب هو تقدم فن الجراحة والاختراعات العلمية والاستخدامات التقنية العالية، انما الهدف هو الوصول إلى تحقيق العدالة .

ص: 119


1- الطباطبائي - السيد محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن - المجلد الثاني ص 305، مؤسسة الاعلمي.

والسعادة للبشرية بوجود هذا التدافع لا كما يفلسفه الماديون.

فالبشرية حين استقرت وابتعدت عن الحروب بعض الشى توجهت عقول علمائها وابنائها الى كشف حقائق مجاهيل الكون، وتطورت العلوم الطبية والهندسية والقانونية والصناعية، واستُخدمت الذرة للاغراض الانسانية، والاستخدامات الكومبيرترية والاتصالات عبر الاقمار الصناعية وغير ذلك. في حين ان المجتمعات التي لا تزال تعيش في دوامة الحرب لم يصبها التطور الجدى والسريع.

فالانسان حينما خُلِقَ لم يُخلق من اجل ان يتصارع ويتقاتل مع اخيه الانسان. حتى ان الله سبحانه وتعالى قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1).

فبینمانری مجتماً يندفع قدماً في بناء حضاره متجدده، لا يزال هناك مجتمعاً لم يتقدم بعد بفعل الدمار الذي تخلفه الحروب المتعاقبة عليه.

نعم قد تكون ظاهرة الحروب بين بني البشر محفزاً نحو التكامل والاستعداد الشامل لمتطلبات الحياة ودفع عدوان محتمل الوقوع، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (2).

وقد قال بعض أهل الفكر انه إذا أردت أن تعيش بسلام فعليك أن تستعد للحرب، والكلام واضح هنا أي أن تكون قوياً مهاب الجانب فلا يجترىء عليك

عدوٌ باغٍ. .

ص: 120


1- سورة الحجرات: الآية 13.
2- سورة الانفال: الآية 60.

فالحرب في الاسلام لم تكن يوماً سبيلاً الى نموّ اقتصادي أو تطور تقني يرتجى من ورائها إنّما هي احدى اثنتين: اما وقاية من عدو ودفاع عن الكيان، واما سبيل إلى نشر الهدى والعدل. فأما حرب الوقاية والدفاع فالأمر فيها لا يحتاج إلى بيان، وأما حرب الهجوم، ففي منهاجها الذي يعبر عنه دائماً اول بیاناتها، ما يكفى للاجابة على كل الاسئلة، كما أن فيه ما يطلّ بنا من جديد على البعد الاجتماعي المبرز في اهتمامات الفكر الاسلامي، وذلك المنهاج الذي وضعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولقّنه امراء سراياه، فإذا ما بعث جيشاً فاتحاً قال لقائده: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى احدى خصال ثلاث فايتهن ما أجابوك اليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم أدعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك كان لهم ما للمهاجرين وان عليهم ما على المهاجرين فأن ابوا أن يتخلوا منها فاخبرهم انهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم فى الفيء والغنيمة نصيب الا أن يجاهدوا مع المسلمين فان هم أبوا فاسألهم الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان أبوا فاستعن بالله وقاتلهم». (1)

ولما غزا سلمان الفارسي المشركين من اهل فارس قال: «كفوا حتى أدعوهم كما كنت أسمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يدعوهم. فأتاهم، فقال: إنّا ندعوكم الى الاسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم مثل ما علينا، وإن أبيتم فأعطونا الجزية، وأن أبيتم قاتلناكم، فدعاهم كذلك ثلاثاً فأبوا عليه، وقال للناس: انهدوا لقتالهم». (2) .

ص: 121


1- الراعي والرعية ص 114.
2- نفس المصدر السابق ص 114.

ومع علىّ علیه السلام

كان الامام علي علیه السلام يهتم بموضوع «الإعذار» والإعذار هو إيضاح الأمر لدى الخصم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من بينة ويحيا من حيى عن بينة.

هذه العناية المؤكدة في البعد الاجتماعي نجدها عند علي علیه السلام في أكبر مصاديقها إشراقاً وأكثر نماذجها احكاماً، فرغم كونه القائد الحقّ، ورغم كونه المبدوء دائماً بالحرب، رغم ذلك فإنه لا يواجه عدواناً بالسيف حتّى يبدأ بالوعظ والنصح والارشاد ويحاجج من جيّش الجيوش عليه واقبل بالاثم والعدوان اليه!

وها هو علیه السلام قد اقبل الى البصرة مع جيشه حتى نزلوا بالموضع المعروف بالزاوية، فصلى أربع ركعات وعفر خديه على التراب، وقد خالط ذلك دموعه، ثم رفع يديه يدعو: «اللهم رب السموات وما أظلت، والارض وما أقلت ورب العرش العظيم، هذه البصرة واسألك من خيرها، وأعوذ بك من شرها، اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين، اللهم إن هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتى، وبغوا على، ونكثوا بيعتى، اللهم احقن دماء المسلمين» وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء، وقال: عَلامَ تقاتلونني؟ فأبوا إلا الحرب! فبعث اليهم رجلاً من أصحابه، يقال له مسلم، معه مصحف، يدعوهم إلى الله، فرموه بسهم فقتلوه، فحمل إلى على، وقالت امه:

ياربِّ إن مسلماً أتاهم *** بتلو کتاب الله لا يخشاهم

فخضَّبُوا من دمه لحاهم *** وأمه قائمة تراهم

وخاطب طلحة والزبير بنفسه وبالغ فى الوعظ والتذكير، فأصر طلحة على الحرب فيما عاد الزبير الى صوابه وادرك حق علي علیه السلام فأقسم أن لا يقابله،

ص: 122

لكن سرعان ما صرفه إبنه عبد الله ورجع به عن ... یمینه!

وأمر علي علیه السلام أن يصافُّوهم، ولا يبدؤهم بقتال، ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح، حتى جاء عيد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل، فقال على علیه السلام: اللهم اشهد، وأعذروا الى القوم.

ومع ذلك لم تكن هذه آخر مساعيه في حقن الدماء فبعث إليهم عبد الله بن عباس فأبلغ في الحجة والبيان لكنهم أبوا إلا الحرب، فتأمل علي علیه السلام في عمار بن ياسر سبيلاً إلى السلام ودرء الحرب لعلّهم يذكرون قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في عمار «تقتلك الفئة الباغية»! (1)

فقام عمار بن ياسر بين الصَفّين فنادى: «أيها الناس، ما أنصفتم نبيكم حین كففتم عقائلكم في الخدور وأبرزتم عقيلته للسيوف»! وعائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر، وجعلوا دونه اللبود، وقد غشي على ذلك بالدروع، فدنا عمار من موضعها، فنادى الى ماذا تدعين؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان. فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتعلمون أينا الممالى في قتل عثمان! ثم انشأ يقول وقد رشقوه بالنبل:

فمنك البكاء، ومنك العويل *** ومنك الرياح، ومنك المطَرْ

وأنت أمَرتِ بقتل الامام *** وقاتله عندنا مَنْ أمر

وتواتر عليه الرمي واتصل، فحرك فرسه، وزال عن موضعه وأتى علياً .

ص: 123


1- طي - الدكتور محمد - الامام علي ومشكلة نظام الحكم - ص 148، الطبعة الثانية - 1417 ه - 1997 م.

فقال: ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين وليس لك عند القوم إلا الحرب؟! (1).

وتلك رسائله المتعددة الى معاوية بن أبي سفيان يدعوه الى العودة عن غيه في رسائل تترى، حتى إذا يئس منه دعاهُ الى البراز وترك الناس حفظاً لدمائهم «وَ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ، فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَ اخْرُجْ إِلَيَّ وَ أَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ، لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَ الْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ؛ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي. مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً، وَ إِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ» (2).

حتى وصل علیه السلام الى حالة التعبئة العامة للجيش ثم التقابل مع العدو أي بين جيش الامام علیه السلام وجيش معاوية بن ابي سفيان قال عند ذاك الامام علیه السلام: «لَا [تُقَاتِلُونَهُمْ] تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ؛ فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لَا تُصِيبُوا مُعْوِراً وَ لَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَ لَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ ...» (3).

وإذا اصر الخصم على مواقعه الخاطئة عند ذلك كان الامام علیه السلام يرى أن الحرب لابد واقعة والمواقف الخاطئة التي يراها الإمام مسوِّغة للحرب تتلخص باثنتين. (4)

الاول: أن يدعى امرؤ ما ليس له. 3.

ص: 124


1- انظر: مروج الذهب - المجلد الثاني - ص 261.
2- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 370.
3- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 373.
4- شرح نهج البلاغة م 2، ج 9، ص 503.

والثاني: أن يمنع الذي عليه، في ظل الحكومة الشرعية بطبيعة الحال. (1)

اذن الحرب ليست هدفا عند الامام علي علیه السلام انما الاجتماع والتعاون والتعايش السلمي هو الهدف ... والدفاع عن الدين ورايته هي ليست دعوة الى الحرب وتأجيج نارها، إنما هي إصلاح واقع الهيكل الاجتماعي وتطبيق الشريعة ورسم الصورة الصحيحة للمسيرة البشرية في حياتها ودحر الباغي على الدين وأهله، فإنه لا يمكن الإغضاء عنه والابتعاد منه وتركه في غيّه يصول ويجول وانه اذا ما تمادى في ذلك فانه سيسعى فساداً في الارض ويهلك الحرث والنسل وهذا ما حدث فعلاً من خلال غارات جيش معاوية على القرى والنواحي والمدن فى اطراف الدولة الاسلامية، حينما انخدع فريق بحيلة معاوية في رفع المصاحف، ونكص عن حربه، وما أفعال بسر بن أرطأة - أحد قادة معاوية - الا شاهد واضح على ذلك حيث قام هذا الذَنَبْ بالتَقتيل وتشريد وسلب النساء وذبح الاطفال على صدور أمهاتهم كما فعل مع اطفال عبيد الله بن العباس والي الامام على علیه السلام على اليمن.

واذا ما راجعنا عهد الامام علي علیه السلام لمالك الاشتر نجد هذا النص: «وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاکَ إِلَيْهِ عَدُوُّکَ وَلِلَّهِ فِيهِ رِضًى، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِکَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِکَ وَأَمْناً لِبِلاَدِکَ، وَلَکِنِ الْحَذَرَ کُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّکَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِکَ حُسْنَ الظَّنِّ» (2) فالقبول بالدعوة إلى الصلح والسلم هي نابعة من حب عليّ علیه السلام الى الحق والعدالة «وصاحب هذا التوجه في تاريخ العرب لابد له أن يكون محباً للسلم كارهاً للقتال إلا إذا كان القتال ضرورةً اجتماعية وإنسانية، ،

ص: 125


1- الامام علي ومشكلة نظام الحكم ص 150.
2- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر،

وحبّه للسلم إنّما كان نتيجةً منطقية محتومة لمعنى المجتمع لديه، ولما قاده إليه العقلُ والتجربة من إدراك هول الحروب ومقدار ما تسيء الى الغالب والمغلوب من أبناء آدم وحواء، ولابن أبي طالب في هذا المجال موقفٌ جليلٌ آخذٌ من العقل والقلب والشرف جميعاً، ونحن لا نغالي إذا قلنا إنّ دعوة ابن أبي طالب للسلم كمبدأ عام، كانت منعطفاً إلى الخير في تاريخ العرب الذين كان حب القتال شريعةً لهم في الجاهلية أنكرها النبيّ وأنكرها العاقلون وحبّ السلم في القرآن من عمل الله، وحب القتال لغير سبب معقول من عمل الشيطان وفى سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ... أما اروع ما في هذا المبدأ الذي كشف عنه ابن أبي طالب دون عنتٍ ودون إجهاد، فهو أنّ هذه الثورية الدافعة إلى التطور أبداً، إنّما هي ثورية خيّرة تنقل البشر أبداً من حال الى حال افضل.

وقد سبق لنا وقلنا إن علياً يوحد ثوريّة الحياة وخيرَ الوجود روحاً ومعنى قاشَدّ ما رأيناه يوحد معنى التطور، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود كُلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي إنها في تطور لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن ابي طالب، سنّة طبيعية لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

غير أن الانسان قادر على أن يفهم هذه الحقيقة فيساعد الطبيعة في مهمتها الثورية الكبرى فيفيد من الزمن وينجو من خطر المعارضة لناموس الحياة. أمّا إذا وقف في طريق هذا التطور أن يعوقه أو يحوّل مجراه، فإنه خاسرٌ إذ ذاك مسحوقٌ بعجلة الحياة السائرة الى أمام» (1).ة.

ص: 126


1- جرداق - جورج - الامام علي صوت العدالة الانسانية - المجلد الخامس، ص 94 دار مكتبة الحياة.

الصلح والسلم

ان سفك الدماء واستدامته في وجود الدعوة الى الصلح الجاد وعدم البغي على دين الله تعالى الله تعالى ففي حقيقة الامر غير مقبول عند الامام علیه السلام. ويضيف الامام علي علیه السلام ان في الصالح رضاً لله واستراحة للجند ثم راحةً من الهموم التي تشغل فكر القائد بأمر الحرب وتأخذ منه ومن وقته مأخذاً كبيراً وهي قبل ذلك كلّه امن للبلاد واستقرار للمجتمع، استقرار يهيىء له فرص التكامل والنموّ، ثم لا يترك الامر بهذه الصورة ولم يجلب نظر الوالى الى القضايا الاخرى التي ترتبط بالصلح والامن فهو يحذر من غدر العدو واستعداده واعادة تنظيم قواته وتشكيلاته العسكرية والتسلح من جديد ليبادر بالضربة الأولى التي ربما تنهي الامر، وتأخذ بزمام المبادرة ثم قد يكون هذا العدو يستخدم صلحه غطاءً لعمل غادر كبير بعد ان يلتف عليك غفلة ويستغل حالة التراخى الموجود بفعل حالة

السلم، حيث قال علیه السلام: «وَلَکِنِ الْحَذَرَ کُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّکَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِکَ حُسْنَ الظَّنِّ» (1).

العقود والعهود

ان مسألة عقد الاتفاقيات وابرامها أو اعطاء العهود للخصم في وقت الحرب عند عليه علیه السلام هي من المسائل المهمة التي لا تراجع فيها، حيث يمضي علیه السلام في وصل حلقات منهاجه القويم في ظروف الحرب فيقول: وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَکَ وَبَيْنَ

ص: 127


1- نص عهد الامام علي علیه السلام للاشتر.

عَدُوِّکَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْکَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَکَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَکَ بِالاَْمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَکَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ. وَقَدْ لَزِمَ ذَلِکَ الْمُشْرِکُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ; فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِکَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِکَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّکَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْکُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ» (1)

إذن إحفظ العهد الذي أعطيته بالوفاء، وارعَ الذمّة بالأمانة «ثم إن الناس لم يجتمعوا على فريضة من فرائض الله اشد من اجتماعهم على تعظيم الوفاء بالعهود مع تفرق اهوائهم وتشتت آرائهم حتى ان المشركين التزموا الوفاء فيما بينها فأولى أن يلتزمه المسلمون» (2).

وفي كتاب الله تعالى نقرأ آيات متعددة بهذا الشأن: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (3)، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (4)، (والَّذِينَ هُمْ لأماناتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ) (5).

ثم ان هؤلاء قد عرفوا ان الغدر يعود عليهم وبالاً و (لا تخيسن بعهدك) أي لا تخُن عهدك وتنكث و (لا تختلن عدوك) من باب المخاتلة، اي المكر 8

ص: 128


1- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر.
2- نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - ج 3 ص 106.
3- سورة البقرة: الآية 177.
4- سورة الاسراء الآية 34.
5- سورة المؤمنون: الآية 8

والخداع.

ثم (فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه) معناه لا افساد ولا خيانة ولا خداع، فهي ثلاث من الصفات الذميمة التي تستنزل غضب الله تعالى، وتقود الى تفكك عرى الكيان الاجتماعي، لينحدر حتماً في مسار التدني الحضاري.

ثم يتطرق الامام علیه السلام الى المواثيق السياسية والديبلوماسية بعرفنا الحالي وضمن حالة الحرب والسلم والاتفاقات المتعلقة بها، حيث يقول: «وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْل بَعْدَ التَّأْکِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ وَلاَ يَدْعُوَنَّکَ ضِيقُ أَمْر، لَزِمَکَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَکَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِکَ مِنَ اللهِ فِيهِ طِلْبَةٌ، لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاکَ وَلاَ آخِرَتَکَ» (1).

فإذا تعلل المعاقد لك بعلةٍ قد تطرأ على الكلام وطلب شيئاً لا يوافق ما أكّدته وأخذت عليه الميثاق، فلا تعوّل عليه، وكذلك لو رأيت ثقلاً فى التزام العهد فلا تركن الى لحن القول لتتملص منه، فخذ بأصرح الوجوه لك وعليك (2).

هذه هي مفاهيم الاسلام العظيمة، فالامانة والعهد والوفاء والصدق هي مفاهيم أكدها الاسلام طريقاً الى سعادة البشرية وتكاملها.

وإن المرء ليقف مذهولاً بحق أمام عظمة هذا الرجل الملهم وهو يفصّل في ذلك الزمان البعيد أرقى نظم الحرب والسلم وشروط المعاهدات الدولية.

إن الذي يدرّس اليوم في أعلى المراحل الجامعية، والمعاهد الديبلوماسية .

ص: 129


1- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر.
2- انظر: نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 3 ص 107.

كقانون حقوقي وسياسي ثابت في العلاقات الدولية، وتعتمده الامم المتحدة أو المنظمات الدولية الاخرى في إبرام المعاهدات والاتفاقات الدولية لم يتخطّ هذه المواد التى فصلّها الامام علیه السلام.

خذ مثلاً على ذلك المعاهدات والاتفاقيات المعقودة بين دولتين أو أكثر بسبب نزاع حدودي، أو صراع على جرف قاري، أو حول كيفية استغلال منابع وثروات معدنية مشتركة - تقع ضمن الحدود الفاصلة بين البلدين - أو تحديد طبيعة استغلال تلك الثروات النفطية أو الغازية بفعل تأثير عمليات السحب في هذا الجانب أو ذاك، أو بفعل تدخلات في الشؤون الداخلية للبلد الآخر، والتي غالبا ما تؤدي الى حرب أو صراع دولي، لأجل الحصول على موطىء قدم أو تشکیل مناطق نفوذ دولية ... هذه المعاهدات أخذ العالم المعاصر يحتاط في تدوينها خشيةً من وقوع فرص التعلّل بما قد يعتري بعض ألفاظها من إبهام.

فغالباً ما تلجأ الدول الى كتابة هذه المواثيق بلغات مختلفة، فيكتب مثلا نص المعاهدة بلسان البلدين وبلغة واضحة، ثم يضيفون لغة ثالثة عالمية يتفقون عليها تعتبر كمرجع أساس في حالات تباين التفسيرات في مواد الاتفاق ويكتب ذلك في الملاحق القانونية للمعاهدة، أي يعتمدون على النص الذي أتفقوا عليه كمرجع لتفسير النصوص واعتماد ذلك المرجع وتثبيته، ورغم ذلك فهناك تحايل والتفاف و تلاعب بمعانى الكلمات واستخدام التورية بحيث تحتمل الكلمة عدة معانٍ لغرض التهرب من الالتزامات التي وافقت ووقعت عليها الدولة، وما أكثر ما يحدث هذا في عالمنا المعاصر، ولهذا تسعى الدول إلى استخدام أذكى وأقدر الخبراء والسياسيين في تثبيت النصوص وتدقيقها حتى لا تقع في المزالق القانونية والسياسية في عصر المكر والخداع وانعدام المبادىء في العلاقات العامة.

ص: 130

وهذا ما أكده الامام على علیه السلام قبل مئات السنين وحذّر من الوقوع في مداخله «ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل» كذلك يطلب علیه السلام ان لا يستخدم لحن القول كملاذ للهروب من الالتزام والمواثيق، هذا هو منهج علي علیه السلام. وما أكثر ما يتمنى المرء لو أن المجتمعات البشرية سارت على هداه ومنهجه لتتجنب السقوط والدمار والخراب العام في الحضارة، وبالتالي خسارة الانسان لما بني وما بذل من جهد في سبيل الرقي والمدنية بفعل نقض عهد أو تهور سلطان، أو اعتداء اثيم، أو غزو فى ليلة ظلماء وما شابه ذلك.

ثم يؤكد الامام علیه السلام على ان صبر الوالي على الضيق الذي لحقه من العهد وتحمل ذلك على امل الانفراج في العقد والمشاكل التي احاطت به هو خير وافضل من غضب الله وعدم رضاه في حالة الغدر ونقض العهود والمواثيق.

ان هذا الكلام يحمل في طيّاته أعلى القيّم وأرقى المفاهيم الاخلاقية في التعامل الانساني، يحمل قيمة الانسان معه وإنسانيته التي دمرها المتوحشون في عصرنا الحالي، يحمل معه روحاً عالمية الآفاق، بعيدة كل البعد عن الضيق والانغلاق الحضاري والفكري، وبعيدة أيضا عن القيم الزائفة، من غدر وكذب ونكث واحتيال، والتي جرّت الى ويلات الحروب والصراع الذي أكل من البشرية مالا يعد ولا يحصى من ذلك المخلوق الذي كرمه الله تعالى وهو الانسان ومن تلك الطبيعة التي خلقها الله تعالى للانسان لكي يتمتع بنعمها ويستغل مواردها في سبيل راحته ويعمرها من أجل سعادته.

لكنّ هذا - كما تأكّد سلفاً - لا يمنع من التأهبّ والاستعداد لمواجهة الطوارىء المحتملة، فالاسلام لم يمنع ذلك، بل أقره.

فالحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، انما هي وسيلة للدفاع عن الدين والجهاد في سبيل إعلاء راية الحق. وهذا علي علیه السلام يدير الحرب والسلام معاً، الحرب لانه

ص: 131

اضطر اليها بعد أن أتم الحجة، فهي للدفاع عن دين الله وهيبته ومبادئه السامية التي حاول الطامعون والمنافقون والمضللون اختراقها.

أنموذج من معاهداته علیه السلام

بعد أن رضي علیه السلام مضطراً بعقد الهدنة مع معاوية، وخرج عليه اولئك الذين انخدعوا بخدعة معاوية اولاً تحت شعار: «لا حكم إلا لله» زاعمين أنه علیه السلام قد حكم الرجال في كتاب الله، نهض إليهم يعرّفهم منهجه في المعاهدة بعد أن أبطل شبهتهم ضارباً مثلاً آخر في هذا الميدان، فقال: «إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ، هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.

وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى، وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ»؛ فَرَدُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ. فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَ أَوْلَاهُمْ بِهَا.

وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا فِي التَّحْكِيمِ، فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ وَ يَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ.. إن أَفضلَ الناس عندَ اللهِ من كانَ العَملُ بالحقِّ أَحَبَّ إليه - وإنْ نقصّهُ وكرثَهُ - من الباطلِ وإن جَرَّ إليه فائدةً وزادهُ». (1)

ص: 132


1- نهج البلاغة تحقيق د. صبحي الصالح ص 182.

فالامام يأمل أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة، فربما تبين الحق لبعض من جهل وانحرف، فهو يؤكد على انه لم يكن الطرف المتولى عن القرآن، ثم استمع إليه وهو يخطط لعقد الهدنة الذي اضطرّه اليه هؤلاء أنفسهم، فيقول:

«فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس وخذُوا مَلَل الايّام، وُحُوطُوا قواصي الاسلام، ألا ترون الى بلادكم تغزى، وإلى صفاتكم ترمى» لاحظ الهم الاكبر للأمام علیه السلام، فأطراف البلاد الاسلامية أضحت تُغزى من قبل اعداء الاسلام المتلبسين به، وتنتهب أموالها ويقتل رجالها وتسبى نساؤها! إنها العناية الكبرى بأمن المجتمع الاسلامي والدفاع عنه، هذا هو الهم الاكبر، وليس محاربة طائفة باغية بحد ذاتها هي الهم.

القتل وسفك الدماء

مسألة القتل أو سفك الدماء بدون حق هي من المسائل المهمة التي تناولها الامام علیه السلام لما لها من اثار سلبية خاصة على المجتمع والدولة. وتناول هذا الامر باهتمام لما قد يقع فيه الولاة من أخطاء تؤدي الى سفك الدماء بغير حق. وقد يحدُث للوالي أثناء تأديبه لأحد أفراد المجتمع أن يقتله بدون قصد سابق، والشريعة حددت أبواب القتل للمجرمين. أما أن يكون إسراف في القتل بما لا يرضاه الله والامام فإنه حرام، لانه في غير محله، ولهذا أوصى الامام علیه السلام بذلك «إِيَّاکَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْکَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْکِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُکْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيمَا تَسَافَکُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ; فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَکَ بِسَفْکِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذَلِکَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ،

ص: 133

لاَِنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ.

وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإ وَأَفْرَطَ عَلَيْکَ سَوْطُکَ أَوْ سَيْفُکَ أَوْ يَدُکَ بِالْعُقُوبَةِ; فَإِنَّ فِي الْوَکْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِکَ نَخْوَةُ سُلْطَانِکَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ» (1).

إنّه ليس شيء أدعى إلى حلول النقم، وزوال النعم، وانتقال الدُّول، من سفك الدم الحرام، وإنك إن ظننت أنّك تُقوي سلطانك بذلك، فليس الأمر كما ظننت، بل تُضعفه، وتُعدمه بشكلٍ كامل!

اذن حياة الدول والحكومات لا تدوم بسفك الدماء، وخصوصاً دماء الابرياء بل إن ذلك مما يوهنها ويفتت وحدة كيانها.

هذا في الواقع المعاش مع المجتمع، أما مع الله فذلك شيء آخر، فلا عذر له أمام الباري عز وجل فى القتل العمد.

إنّ السبب فى طرح هذه الامور بشواهدها وتنوعها هو أنّ العملية الاجتماعية كلٌ مترابط، إذ لا يمكن أن تدرس قضية مجتمع أو يُخطَط لبناء مستقبل إلا بدراسة كافة الجوانب المتعلقة بحياة المجتمع، حتى يكون القانون واحداً متكاملاً غير منقوص في جوانب آخرى. لذا فان الامام علي علیه السلام دخل في أدق تفاصيل الحياة وارتباطاتها لكي يكون بناء المجتمع بناءً سليماً تاماً ليس فيه عيب أو نقص.ر.

ص: 134


1- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر.

ص: 135

البابُ الثّالثُ

اشارة

المجتمع بصورة عامة

ص: 136

ص: 137

الفَصْلُ الاَوَّلُ

اشارة

بناء الذات الانسانية وفق المعايير الاسلامية

ص: 138

لو قمت بقراءة أفكار الامام علي علیه السلام من خلال دراسة نهج البلاغة لاقتنعت بأن العامل أو المحور الرئيس الذي تدور حوله اهتمامات الامام علیه السلام هو بناء المجتمع ككل وبناء الذات الانسانية، وهذا إنما يكشف عن تمثّلٍ تامٍّ لحقيقة أن صلاح المجتمع هو شرط استقراره الأمني ونموّه المطرد، وأن صلاح المجتمع موقوف على صلاح افراده. إنها الرؤية الصادقة والواضحة للمعادلات الاجتماعية ولطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع، العلاقة التي تحفظ الاثنين معاً و تقرُّ لكلٍ بدوره الحقيقي الكامل، هذه العلاقة التي تفرعت من حولها نظريات الاجتماع المعاصر، فبين مصدّقٍ و مدافع متسلّح بالادلّة الواقعية، وبين متحيّزٍ الى هذا أو ذاك من طرفي المعادلة، فينفي وجود الفرد وأثره بالكلية ليجعله ذرّة يحملها السيل الجارف المتمثل بالمجتمع أو يضع الفرّد موضع المتفرّد في التأثير بكل المعادلات الاجتماعية ويلغي أي دور للكيان الاجتماعي في توجيه الحياة في حاضرها ومستقبلها.

فهناك بعض علماء الاجتماع يدورون حول محور بناء الذات والاخلاق ويؤكدون على القيم الاخلاقية في حفظ النسق الاجتماعي ولكن لم يضعوا لنا منهجاً واضحاً عن كيفية نشر هذه القيم بين المجتمع والمحافظة عليها، وما هو الشيء الذي يمسك الناس للاخذ بها والسير على هداها اذا طغت (الانا) على فكره وعمله بحيث تسحق حق الجماعة الذين يكونون المجتمع.

ص: 139

وهذا نموذج لآراء واحدٍ من العلماء البارزين كما طرحه الدكتور زيدان في كتابه حيث قال: «وعرض كونت للنظريات الاقتصاديه ونقدها جميعا كما عرض النواحى الاخلاقية، بل طالب بقيام (علم الاخلاق) غايته كشف القوانين الاخلاقية لاهميتها من الناحية الاجتماعية غير أن قيام علم الاخلاق يتطلب أولاً قيام علم الاجتماع الوضعي لكي يغذّيه بمبادئه العامه ومادة بحثه ومنهاجه، والموضوعات الاساسية التي يعالجها، وكانت الاخلاق التي ينشدها هي: الاخلاق المستمدة من الديانة المسيحية ولا سيما مبدأ (عش لغيرك) الذى يؤدي الى الشعور بالمشاركات الوجدانية بين مختلف الافراد والطبقات وقد تصدی كونت في محاضراته عن الفلسفة الوضعية للاسلام والمسيحية و اوضح أن كلاً من الديانتين لم تصل بالعلم الى الحقيقة الوضعية التي تقوم على اساس علمى، وطالب المسلمين و المسيحين ولا سيما اتباع المذهب الكاثولوكي - أن يأخذوا بديانته الجديدة (ديانة الانسانية) ومبدؤها الحب واساسها النظام، وغايتها التقدم، وهذه الديانة هي التي تجعل من الانسانية جمعاء (الاله الذي يجب ان نقدسه) ومن هذا نرى أن فكرة (الانسانية لدى كونت) تحل محل فكرة (الله) غير ان فشله في استيعاب واقناع الاخرين بتلك القضية الخاسرة ادى به الى الوقوع ضحية المرض العقلي في اخريات ايامه، الامر الذي دفعه الى ترك الحرية للناس للايمان بالاديان السماوية أو بدينه المقترح». (1)

ومن خلال قراءتنا لمذهب اوجيست كونت نلاحظ مدى التخبط العشوائي الذي عاش معه هذا الفيلسوف فهو يتهرب اساساً من الديانات السماوية ثم يستمد منها المعونة بالاخذ ببعض قيمها الاخلاقية ثم يعتمد اعتماداً 5.

ص: 140


1- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره - ص 325.

مباشراً على الوجدان كمحرك عملي للتطبيق الاخلاقي فقط دون التوضيح والاشاره الى من يحرك هذا الوجدان ويدفعه الى تبنى الحقيقة والواقع والانصاف، واذا كان الضمير ميتاً فمن الذي يحييه. ثم يطرح دينه الجديد تحت اسم (ديانة الانسانية) لتحل محل واجب الوجود وخالق الكون ليسحق بذلك اطول تاريخ دينيٍّ اجتماعي اخلاقي وسياسي في الوجود وهو تاريخ الانبياء من اولهم آدم علیه السلام الى خاتمهم نبي الهدى سيدنا محمد صلی الله علیه و آله و سلم ليعطينا نظريته هذه التي حكم عليها التاريخ بالتقهقر والانزواء الى حيث انزوى الكثير من تراث الانسانية البائس، الذي يتجاهل التركيب الانساني والاجتماعي والكوني.

ولا يخفى ما للبعد الأُخروي من أثر فعال فى اصلاح الفرد والمجتمع معاً، فكيف استثمر الامام علي علیه السلام هذا البعد في تحقيق أهدافه في الاصلاح؟ لنقف عند واحدة من بياناته على هذا الصعيد: «أَلاَ وَإِنَّ القدَرَ السّابق قد وَقَعَ، والقضاءَ المَاضِي قَدْ تَوَرَّدَ [ أي ورد شيئاً بعد شيء ]، وإِنِّي متكلّمٌ بعِدَةِ الله وحُجَّتَهِ، قالَ الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، وَقَدْ قُلْتُم «رَبُّنا الله» فاستقيمُوا على كتابه، وعلى مِنْهاجِ أَمرهِ، وعَلى الطَّريقةِ الصَّالحَةِ من عبادَتِهِ، ثُمَّ لاَتَمرُقُوا منها، ولا تبتدعُوا فيها، ولا تُخالِفُوا عَنْها فَإِنَّ أَهْلَ المروق مُنْقَطَع بهمْ عِندَ اللهِ يَوْمَ القِيامَةِ» (1).

وهكذا نكتشف أن العمَدَ الاهم الذي يقوم على تلك القاعدة النظرية المتقدمة هو البعد الاخروي، وأن البعد الاخروي إنما يتحدد في الاستقامة على نهج الكتاب والسنّة، شريعة مالك الدار الآخرة والقاضي فيها بسلطانه ... لقد .

ص: 141


1- نهج البلاغة تحقيق د. صب الصالح ص 253.

قلتم «ربنا الله» فاعلموا أن لهذا القول تبعة هي الاستقامة على شريعة الله، هدى كتابه وسنة رسوله الامين خاتم الرسل والنبيين علیهم السلام.

القرآن أولا

يأتي القرآن في المرتبة الاولى في سبيل تحقيق هذه الوظيفة: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَ الْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى.

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَ لَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَ اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ (1)، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَ هُوَ الْكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الْغَيُّ وَ الضَّلَالُ. فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ. وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ.

فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ؛ وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ اتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ (2)». (3)

ص: 142


1- اللأواء: الشدة. (محمد عبده).
2- استغشوا أهواءكم: أي ظنوا فيها الغش وارجعوا الى القرآن. (محمد عبده).
3- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 252.

اذن القرآن هو المنجي، فقد أعطانا القوانين والسنن التي تنفذ من خلالها الى ساحة الرحمة والسمو والرفعة والتقدم والازدهار «وما جالسَ هذا القُرآن أحَدٌ الاقام عنهُ بزيادةٍ أو نقصانٍ، زيادةٍ في هُدىً أَو نُقصانٍ من عميٍ» فمن يتمسك به و تزوّد من زاده فلا فقر يخشى ولا حاجة الى هادٍ غيره، وفوق ذلك ينبغي أن يعلم أنه ليس وراء القرآن غنىً.

إنه لبلسم لكلّ جرح عميق ف «استعينوا به على لأوائكم» وليس جراح الروح وحدها، بل جراحات الدنيا ومعادلاتها.

الحالة الاخطر

ومع الذات الانسانية بنحو أكثر تحديداً، حيث يستمر الامام على علیه السلام في كلامه فيقول:

(ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ الْأَخْلَاقِ وَ تَصْرِيفَهَا(1)، وَ اجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ، فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ، وَ اللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ.

وَ إِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ؛ وَ إِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ، لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ؛ وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ

ص: 143


1- تهزيع الشيء: تكسيره، فالصادق إذا كذب فقد انكسر صدقه، والكريم إذا لؤم فقد انتلم لؤمه، فهو نهي عن حطم الكمال بمعول النقص. وتصريف الاخلاق: التلون بها. (انظر محمد عبده / شرح النهج: 93).

قَلْبُهُ وَ لَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَ هُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَلْيَفْعَلْ» (1).

إنه الفيصل الاعظم بين الصدق والوضوح وبين النفاق، ذلك الداء الذي ليس فى الادواء أشد منّه خطراً على بناء الذات الانسانية، وعلى بناء الكيان الاجتماعي. إنه الداء الذي يستحق من مهندس الاصلاح الاجتماعي وقفةً اخرى، بل وقفات: «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ. قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُ ... هُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ وَ مُقْنِطُو الرَّجَاءِ. لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ. إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَ إِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا. قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً. يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَ يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ. يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ، قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ وَ أَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ النِّيرَانِ، «أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُون». (2) .

ص: 144


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 253.
2- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 307 خطبة 194.

ذلك هو الداء الاجتماعى الوخيم بكل خصاله، أولئك هم أهله بكل مزاياهم، فهل ترك هذا البنيان لمتعلّل حجّة؟ أم ترك شيئاً من شعب النفاق، المؤدية الى تفسخ الذات وانهدام المجتمع، لم يكشف عنها النقاب ويرسم من حولها حدودها الحمراء؟!

الخطر الكبير الجاد لزمر النفاق

ففي رسالة له الى أهل مصر، أرسلها مع محمد بن أبي بكر رحمه الله يقول علیه السلام: «إني لا أخافُ عليكم مؤمناً ولا مشركاً، اما المؤمنُ فيمنعُهُ اللهُ بايمانه، وأمّا المشرك فيحجزُه الله عنكم بشركه ولكني أخافُ عليكم من المنافِق يقولُ ما تعرفوُنَ، ويعمل ما تنكرون». (1)

اذن الدواء اللازم لهذا المرض والتحصين التام من هؤلاء كيف يُنجز؟ وكيف يتخلص الانسان من شرهم ودورهم المخرب؟ ان القضايا كلها مترابطة الواحدة بالاخرى في حياة المجتمعات، بحيث لا تستطيع ان تبنى اساساً متيناً في جانب وتترك الجانب الآخر يُبنى من التراب أو الرمل. اذ لا يعقل أن يقوم جدار ولا بناء متكامل متراص مُهنْدَس يصلحُ للسكنى والعيش فيه على اساس هش. فالامام علیه السلام حينما اعطى هذه الحقائق عن تلك الفئة الضالة والمُضلةِ دلّل على عبقرية فذه ونادرة لانه لا يمكن لاى عالم كان لو أعدّ مختلف الدراسات التطبيقية على المجتمعات ان يحصل على مثل هذه النتائج عن هذا المرض الاجتماعى المخرب والمدمر الذي لو سرى في مجتمع ما لانهار ذلك المجتمع بما تفرزه هذه الفئة من الناس من مخاطر عظيمة على الحياة العامة.

ص: 145


1- نهج السعادة، نفس المصدر السابق ص 121.

واذا كان للمنافق هذه الخطورة الكبيرة، فما بالك به اذا حَدّث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ وكان حديثه عن صاحب الرسالة سهباً، منمق لفظه، خبيثاً هدفه، يُضل بمعناه من سمعه، ولا يهدي إلا الى طريق الشيطان والعدوان، يُبعّد الناس عن أهل الخير والرحمة وأهل الصدق والمعرفة إرضاءً للحكام الذين وظفوّهم لبث الفرقة بين اتباع الملة الواحدة، أو اتباعاً لهوى، أو رغبة في المال والسلطان وبغضا لدين الرحمن، وحقداً وحسداً لاهل بيت النبوة علیهم السلام!

فكم من رجل ربما أسهب في الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهو «رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ، مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) مُتَعَمِّداً؛ فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله)، رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ - وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ؛ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ، فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ» (1).

هؤلاء المنافقون اظهروا ايمانهم سلعة يرتزقون بها تصنعوا بالاسلام كأنهم أهل الدين المخلصون له، الحافظون لمبادئه، لا خوف من الله يمنعهم، ولا حرج في أنفسهم. إنهم ارتكبوا أفضع الاثام حين حرّفوا كلام النبي الامين، وقد أحسن الظن بضلالتهم خلق كثير ولو علموا بكذبهم ودجلهم ونفاقهم لا نتقموا منهم ولم يأخذوا شيئا عنهم أو يقبلوا حديثا لهم، الا انهم او هموا الناس بنفاقهم هذا فقبل .

ص: 146


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 325.

منهم من فاتته الحكمه والبصيره.

ذلك الخطر الماحق الذي يتسبب به المنافقون هو الذي يفسّر لنا السّر في قوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الاسفل) (1)! تجمعهم مع الكافرين لعنة الآخرة!

(وعد الله المنافقين والمنافقات و الكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم و لعنهم الله ولهم عذاب مُّقيم) (2).

وفي الدنيا أيضاً تجمعم مع الكافرين أحكام (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (3).

ثم بعد ذلك لهم على الكافرين مزية في سوء حظ وبئس منقلب: (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) (4).

قانون اجتماعی خطیر

مما يلفت النظر في كلام أمير المؤمنين علیه السلام الجملة الاخيرة منه «وإنَّما الناس مع الملوك والدنيا، إلّا من عصم الله»!

وكأن هذا هو مبدأ اساس او جزء مهم من الظواهر الاجتماعية على الكرة الارضية، يا ترى هل ان الناس دائما مع الملوك وحب الدنيا والتساقط على الدنانير، وماهى اسباب ذلك هل الدوله ام السلطان ام الايدلوجيا ذات تأثير مباشر على هذا السلوك الخاطىء، وماهو العلاج اذن؟

ص: 147


1- سورة النساء: الآية 145.
2- سورة التوبة: الاية 68.
3- سورة التحريم: الاية 9.
4- سورة النساء: الاية 145.

ان تأثير الدولة الصالحة والدوله المفسدة على المجتمع هي من حقائق الامور الظاهرة هذا فى الواقع العملي، الا أن ذلك يحتاج الى دراسه وتحقيق لمعرفة جذوره، كما أن له صلة وثيقة فى معرفة العوامل التي تؤدي بالدوله الى الصلاح أو الى الفساد.

ان التاريخ يحدّثنا عن حياة الامم التي مضت و الحضارات التي قامت واندثرت، فيبين لنا سيرة الملوك والحكام واثرها السلبي أو الايجابي على حياة ومسيرة وتطور المجتمعات.

فلننظر إلى أُمّة على رأسها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قائداً وموجهاً و مقنناً وراسماً للمنهج الذي يستنير به الناس، ومربياً يسعى ليلاً ونهاراً باذلاً جهده لبناء مجتمع سليم قوي تسوده العداله والسعادة والرفاهية. إنّها الصور الرائعة التي تجذبنا وتهزنا من الاعماق وتجدد فينا الحياة وتبعث فينا الطمأنينه والاستقرار لبناء المستقبل الزاهر على ما سنه و اختطه رسول الانسانية، فالكل على علم بالسيرة النبوية الطاهرة وبذلك المجتمع المدني الاسلامي الذي عاش في ظله الفقير سعيداً و مكرماً، وفيه من مراتب الايثار والتضحية والمؤاخاة ما تحلم به النفوس، بل ذلك الصبر والتحمل وهوان النفس اتجاه الدين هو من علاماته أيضاً، والاندفاع اللامتناهى نحو الشهادة والموت فى سبيل الله من اجل الحق والمبدأ القويم، ومن شواهده ذاك المجاهد عمر بن الحمام - أخو بني سلمة - حينما سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحرّض الناس على القتال، حيث قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» فقال عمر بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنَّة إلّا أن يقتلنى هؤلاء! ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قُتل (1)، هذا المجتمع الذي بناه القائد العظيم والامام الهادي ت.

ص: 148


1- ابن هشام - السيرة النبوية - المجلد 1 - 2 - ص 627 - دار المعرفة بيروت.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

لكن مع أمثال هذه الصورة ومما لا يمكن حصره على شاكلتها، وهذا التماسك الاجتماعي فان ذلك لا يمنع من وجود منافق هنا وهناك في قلبه مرض، فى هذا الجانب أو ذاك وقد تأصل في قلبه الجشع وحب الدنيا، إلا أن الاعم الاغلب هم حملة الرسالة الّذين نشروا مبادءها في كل البقاع وهم المثل الذي يضرب به في السلوك الانساني القويم والخلق الرفيع.

إنّ الشعوب إذا ما تهيأت لها الاسباب من قيادة رائدة تجعل من الذات الانسانية التائهة حقيقة أخلاقيه لها دورها الحقيقي في ترابط المجتمع وحفظ جمعه وفق المبادىء العادله السليمة تكون في مستوى اخلاقي رائع تغمرها السعادة والاطمئنان.

ان مثل هذه القيادة وهذه الامه ستكون فى المقدمة بالنسبة للشعوب الاخرى وعلى العكس من ذلك تكون أُمّة يقودها فرعون طاغية يستخفّ بقومه ويقهرهم على طاعته، بل على تصديق ضلالاته والدفاع عنها!

انها امة يصعب ان تذعن لبرهان حقٍّ، أو تستفيق من طغيان ظلم واستهتار، حتى وهي تبصر الآيات والدلائل البيّنة، فلا استوقفتها هزيمة السحرة واذعانهم لمعجزات موسى، ولا استفاقت لآيات العذاب والرعب في الضفادع والقمّل والجراد والدم، وحتى انغلاق البحر لقوم موسى لم يحرك في ضمائرهم نزعة التحرر من ذل العبودية والخنوع!

الشورى وقبول الرأي وموضع ذلك لدى الحاكم

حينما اصبح على علیه السلام خليفة للمسلمين احتج طلحة والزبير بعد البيعة على العلي علیه السلام لعدم مشورتهما والاستعانة بهما واشراكهما في الحكم فاجابهما

ص: 149

امير المؤمنين علیه السلام:

«فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ وَ مَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ (صلی الله علیه وآله) فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَ لَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لَا عَنْ غَيْرِكُمَا. وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَ لَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اللَّهِ عِنْدِي وَ لَا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى.

أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ». (1)

إنه المبدأ الذي سار عليه على علیه السلام لم يتغيّر حتى حينما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أمر الخلافة بعد مقتل الخليفة الثاني، لم يساوم، ولم يتبع منهجاً ملتوياً لكى يستحوذ على الحكم فأجابَ ابن عوف فأما كتاب الله نبيه وسنة صلی الله علیه و آله و سلم فنعم، وأما سيرة غيره ممن سبقه فلا، وكذلك فالامر واحد عندما أجاب طلحة والزبير بنفس ذلك الكلام.

حتى أن عبد الله بن عباس أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه قال له علیه السلام:

«لَكَ أَنْ تُشيرَ عَلَيَّ وَأرَى، فَإِنْ عَصَيْتُكَ فَأَطِعْني» (2)

فالامام علیه السلام لم يكن يرفض المشورة أو المناقشة في الامور بل كان يحث على ذلك ولكن ليس بصيغة تحميل الرأي المخالف للشريعة الاسلامية على الامام الحق. 1.

ص: 150


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 322.
2- المصدر نفسه ص 531.

ثم أن رجلاً كعلي علیه السلام عاش مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم صغره! ومع الرسالة صباه! وشبابه! كاتب للوحى! اقضى المسلمين كلهم وابلغ رجالاتهم كلاماً، واعلمهم باسرار الرسالة لم يكن يخفى عليه أمر ما، أو تستعصى عليه مسألة متعلقة بمجمل الشريعة المحمدية حيث يقول: «ولا وقع حُكمٌ جهلته فاستشيركما وإخواني من المسلمين» فالباب مفتوح وضمن إطاره المحدد الذي رسمه علي علیه السلام في قوله هذا «رحمَ اللهُ رجُلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً،فردَّه، وكان عوناً بالحقِّ على صاحبه». (1) .

ص: 151


1- المصدر نفسه ص 322.

ص: 152

الفَصْلُ الثّاني

اشارة

الطريق الأمثل

ص: 153

ص: 154

حقائق ثابتة

ان محور كلام الامام علیه السلام يدور حول العمل مع المجتمع من خلال تطبيق الحق والعدالة وتسيير أموره وفق ما حددته الشريعة الاسلامية، فكان همه ووصاياه يندرج في هذا الامر.

ولهذا نجد ان اغلب كتب الامام فيها تذكير أو توبیخ او تقریع او وصايا اجتماعية وغير ذلك والدافع هو حماية رعيته، وأغلبها لها علاقة خاصة بالمجتمع وتحولاته واعماله ومراعاته والرفق به ومساعدته في الظروف الصعبة التي تستوجب ذلك.

فالفكر الذي يحمله علیه السلام هو فکر اسلامي انساني، والترابط وثيق بين الاسلام والانسان؛ والحق، والعدالة، والمساواة هي من سنن القرآن وشريعة محمد علیه السلام، ومن اجل ذلك ارسل الله الانبياء والرسل مبشرين ومنذرين، و علي علیه السلام صورة صادقة للوعى الرسالي والتطبيق العادل والشامل لكل مفاهيم القرآن على المجتمع بل البشرية جمعاء. فرسالة علي علیه السلام هي رسالة الاسلام والقرآن الى الانسانية، ولهذا نجد الروح الانسانية العالية في نفس علي علیه السلام تدور معه حيثما دار كدوران الحق معه. اذن فالسمات البارزة والرئيسية في حياة امير المؤمنين علیه السلام هي رفع شأن الدين ورضاء الله، ورضاء الله لا يتم إلا برضاء عيال الله، ونبذ كل ما هو ضد تقدم البشرية وحريتها وسعادتها، ونلاحظ من خلال

ص: 155

ذلك أن المفاهيم العامة التي يحملها سيد الموحدين والتي طبقها على نفسه واهله قبل تطبيقها على غيره هي التي جذبت النفوس وجعلته رمزاً خالداً على مر الدهور.

فالثورة الفرنسية التي مازال العالم الغربي يتبجح باهدافها الانسانية وعلى أنها من بُنات أفكارهم وأن فلاسفتها اعطوا معنىً لحياة الانسان من خلال شعار (حرية - عدل - مساواة) نجد ان هذا الشعار هو جزء من المبادىء الاسلامية التي أعلنها رسول الله علیه السلام، وهي بكل ما حوت من قيم انسانية طرحها الامام علي علیه السلام قبلهم بمئات السنين.

فلناخذ بايدي هؤلاء وتفتح اذهانهم على الصور الواقعية التطبيقية في تراثنا الاسلامى المجيد من عقيدة متكاملة تامة وفكر عظيم ثاقب ونريهم ماذا اعطى الاسلام من مفاهيم خالدة، وما هي سيرة محمد صلی الله علیه و آله و سلم و ما هو فكر على علیه السلام وما تضمنته رسائله وكتبه بشأن ذلك، إلا إن الذي يحز في النفوس، و يخلق الآهات والحسرات في الصدور هو ضياع الاسلام بين أهله، وتعلق الاخرين بمبادئه والاستفاده منها تحت عناوين مختلفة.

العمل الصالح والآخرة

انتقل امامنا علیه السلام في رسالته الى فدك التي سلبت واخذت من فاطمة بنت النبي (سلام الله عليهما) غصباً وظلماً، تلك الارض التي اعطاها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الى ابنته فاطمة (علیها السلام) في حياته وما ان توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وحل ابو بكر الصديق كخليفة للمسلمين بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حادثة السقيفة المشهورة والمذكوره في جميع كتب التاريخ ومصادره (راجع الطبري وابن الاثير

ص: 156

والمسعودي وغيرهم في كتبهم المعروفة) اخذها ابو بكر من فاطمة علیه السلام وحدث ما حدث في تلك الايام حينما طالبت سيدة نساء العالمين علیها السلام بحقها ورُفض طلبها وزُجرت في حينها حتى وفاتها علیها السلام وبقوا ابناء علي وفاطمة يطالبون بها حتى اعادها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز اليهم ثمّ انتزعها يزيد بن عبد الملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني مروان (1).

فالامام يتحدث عن ذلك الامر ويذكر ان ابا بكر قد سلبها ولم يعيدها و(سخت عنها نفوس آخرین) اي نفوس بني هاشم ثم ينتهي من ذلك ويقول: «ونعم الحكم الله» فماذا اصنع بفدك وغيرها اذا كانت النفس غدا في ذلك المكان المظلم مستقر لها ثم يصف بتلك الصور الرائعة الحالة التي يكون فيها الانسان بعد موته في قبره الذى حتي لوزيد في سعته وقام حفّاره باضافةٍ فسحةٍ جديدة الى حجمه السابق فان الحجر والمدر سوف يضغط عليه، ويُسد كل شيء بالتراب المتراكم، ثم يعود ويذكر كيف روّض نفسه وذللها بتقوى الله، حتى يكون امنا في ذلك اليوم العظيم، يوم ينفخ في الصور فتخرج الاموات من اجداثها لتلاقي اعمالها، فمن اتقى الله وعمل صالحا في دنياه فقد اجتنب المزلق ومن أساء لنفسه وحبط عمله في دنياه فلا عبور له على الصراط المستقيم والنار والعذاب مقرّه والمستقر.

اذن اليس من حقنا ان نفتخر بواضع الحقائق التاريخية والاجتماعية ومجسد العقيدة الاسلامية بصورتها الواقعية، برجلٍ عاش فاعطى وطرح فاغنى وترك

ففاز. .

ص: 157


1- راجع كتاب فدك في التاريخ - للسيد محمد باقر الصدر - تحقيق الدكتور عبد الجبار شراره - اصدارات مركز الغدير للدراسات الاسلامية.

المواساة المثالية

هناك من يبغي الدنيا وزينتها فيعيش سعيداً في ملذاتها وهو ينظر الآف الجياع والمعوزين يتضورون جوعاً، يقاسون الالآم ويعيشون المآساة بكل معانيها، وكأن هذا لا يعنيه وهناك ايضاً من رفض هذه الدينا وعاش مع الناس حياتهم يواسيهم أحوالهم المختلفة، وهذا أمير المؤمنين علي علیه السلام مثال رائع للحالة الثانية ورسالته لابن حنیف تعطى ابعاد ذلك حيث قال:

«ولو شِئتُ لا هتَدَيْتُ الطَريقَ الى مُصَفّى هذا العسل ولُبابِ هذا القَمْحِ وَنَسائجِ هذا القَزّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أن يغلبني هواي وَيَقُودني جشعي إلى تخَيُّر الاطعمةِ. ولَعَلَّ بالحجازِ أو اليمامَةِ من لا طمَعَ لَهُ فِي القُرْص ولا عَهْدَ لَهُ بالشِّبع، أو أبيتُ مِبْطاناً وحولي بُطونٌ غرثى وأكبادٌ حَرَّى؟ أَو أَكُونَ كما قَالَ القائل:

وحسبك داءً أن تَبيّتَ ببطنةٍ *** وحولك أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ

أأَقْنَعُ مِنْ نَفْسي بأَنْ يُقالَ أمير المؤمنين ولا اشاركهم في مكارهِ الدّهْر، أو أكونَ أُسوةً هُمْ في جُشوبةِ العيش فما خُلِقْتُ لِيشغَلَني أكْلُ الطيِّباتِ كالبهيمةِ المربوطةِ هَمُّهَا عَلَفُها، أو المُرسلَةِ شُغْلُهَا تَقمُّمُها، تكترشُ مِنْ أعلافها وتلهوُ عَمّا يُرادُ بها أوْ أُتْرَكَ سُدَّى أو أُهْمَلَ عابثاً أَوْ أَجُرَّ حبلَ الضلالةِ او أعتسِفَ طريقَ المتاهةِ» (1).

وهذا واضح في بيانه على انه قادر على أن يتمتع بكل ما وهبته الارض من طعام ولباس وبناء وغير ذلك، لكنه يؤكد وبشدة (هيهات) ان يغلبه هواه

ص: 158


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 417.

ويقوده حرصه الى اختيار الطعام وتصنيفه لنفسه، وهذا لا يكون لامام الامة مثل علي علیه السلام.

ويضيف على انه قد يكون في الحجاز أو اليمامة من لا يأكل الطعام ولا يوجد لديه رغيف الخبر وانه لم يشبع ولا يعرف الشبع من وطأة الفاقة والعوز والفقر، اذن كيف ينام خليفة المسلمين ممتلىء البطن وفي اطراف عاصمته ومملكته بطون مطوية لا تنام من شدة الجوع والعطش، فكيف يكون هذا، ويؤكد انه كيف يقنع نفسه بان يقال له أمير المؤمنين ولا يشارك الناس في حياتهم ومشاكلهم، ولا يكون لهم اسوة في خشونة العيش، ثم يردد إنه لم يخلق لكي ينشغل باختيار لذائذ الطعام كالبهيمة (همّها علفها) أو التي تبحث في القمامة بحيث تهتم بملء كرشها الذي يشغلها عن عملها.

انه يحمل معنى الانسانية في ذاته وطبقها عملياً في حياته، اذا قلت اسوه حسنه فقط فقد تعود وتعطى صفة اعظم من ذلك فلو قارنت عيشه علیه السلام مع حياة الحاكمين من بني أمية وبني العباس ممن يطلقون على انفسهم لقب أمير المؤمنين او خليفة المسلمين لا تضح الفارق بشكلٍ جلي وواضح، فاي مؤمنين هؤلاء امراؤهم واي مسلمين هؤلاء خلفاؤهم. لقد سحقوا وقتلوا الايمان واهله، وداسوا على كرامة اهل الاسلام، وبقت للايمان والاسلام صور يزينون بها دولتهم ويتزهدون بها وقت حاجاتهم. عد الى كتب التاريخ واقرا ماشئت من فضائح وانتهاك للحرمات، بل وفساد وجوع وعطش وقحط وبلاء وفقر في ايام هؤلاء السلاطين الذين استحوذوا على ماليس لهم. این هؤلاء و اين ما اعطاه من نفسه هذا الرجل الخالد علي علیه السلام الذي كان باستطاعته ان يعيش كغيره واكثر كسلطان حاكم وليس كامام للامة بكامل المعنى. اين اولئك الذين عاثوا في الارض فسادا وقهروا الامة بشتى الوسائل ليعيشوا هم عيشة الترف المنقطع

ص: 159

النظير في القصور الزاهية والحدائق الغناء واكواز الخمور والالاف من الجواري الحسان والغلمان والعبيد، وحولهم اكواخ الفقراء التي لا تقي اهلها حرصيف ولا قر شتاء، يتحسرون على لقمة العيش ليسدوا بها افواه صغارهم، وبعد ذلك وصلوا ببلاد الاسلام العظيمة التي صنعها محمد صلی الله علیه و آله و سلم وعلى علیه السلام والاوائل من المخلصين والمضحين، الى الدمار والخراب الشامل وتشرذم البلاد وتفتتها وانتهت دولهم ولو بعد حين لانهم ساروا بالناس بالظلم والعدوان، فقد انتهت دولهم بعد ان انغمسوا في الملذات وتركوا الامة تتلضى تحت سياط الجلاد وامتداد السيف على رقابها وقطع الرؤوس ونهب الاموال بشتى الحجج والادعاءات التي ما انزل الله بها من سلطان بالاضافة الى حكم الجواري والغلمان والغانيات حيث «كانت اموال الدولة تُنفق على قصور الخلفاء والامراء وملاهيهم وعلى عمال الدولة الموالين، وكان هؤلاء في دورهم ينفقونها اكياساً على المقربين والاتباع والجواري والخصيان، والخلفاء والامراء والعمال هم طبقة المجتمع العباسي الاول من حيث اليسر تليهم فيه طبقة التجار، أما عامة الشعب فلهم البؤس والدمار والموت المهين». (1)

وهذه صورة تاريخية لوجه من وجوه الخلافة والامارة، انه الامين بن هارون الرشيد حينما الت اليه السلطنة واصبح يلقب (بأمير المؤمنين) زوراً وبهتاناً لاحظ ما وصلت اليه الحالة في عهده فقد «استلزمت العادة في بيوت السادة والكبراء عند الدول الشرقية وفي الدولة الرومانية أن تُهيّأ هذه البيوتات بالخصيان وقد حرم الاسلام ذلك، وشدد القرآن وشددت السنة في تحريم خصاء الانسان أو البهائم، ووكل لوالى الحبشة أن يمنع ذلك، ويؤدب عليه، 6.

ص: 160


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية - م 5 ص 106.

وهنا أيضاً - كما في نواح أخرى - دخل على الاسلام عام 200 ه - 815 م، بسبب تقلص ظل الروح العربية، عادات شرقية قديمة، رغم ما جاء به النبي علیه السلام في شأنها من الانكار والمنع الصريح وذلك الخليفة الامين، وهو ابن هارون الرشيد لما ملك، بلغ من كَلَفه بالخصيان أنه (طلبهم وابتاعهم، وغالى بهم وصيّر هم لخلوته في ليله ونهاره وقوامه وقوام طعامه وشرابه وامره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية، فرضاً من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والاماء حتى رمى بهن نقلا عن الطبري؛ وقد قال ابو نواس ساخراً:

احمدوا الله جميعا *** يا جميع المسلمينا

ثم قولوا لا تملّوا *** ربنا أبق الامينا

صير الخصيان حتى *** صير التعنين دينا

فاقتدى الناس جميعا *** بأمير المؤمنينا» (1).

ان الامين وامثاله لا يمثلون الدين ولا حقيقة الانسان المسلم انما يمثل الدين اهله الاوائل (سلمان وعمار وابو ذر وخزيمة وهاشم المرقال وسعد بن قيس وعدي بن حاتم وبلال وحجر بن عدي والاشتر ... وغيرهم) ولا ننسى ايضاً ما حدث من تقدم وعمران في ايام الدولة الاسلامية في الاندلس (اسبانيا والبرتغال الحالية)؛ وكيف توغل المسلمون الأوائل في عمق اوربا المسيحية التي كانت تعيش في احلك ظروفها في تلك القرون المظلمة والتخلف والجهالة فما ان انتشرت المفاهيم الاسلامية حتى سعى رجالهم الى ترجمتها ودراستها ابتداءً من .

ص: 161


1- متز - ادم - الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجرى - ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريده - المجلد الأول - ص 127 - 1377 ه 1957 م.

التاريخ الحافل وسير الائمة الاوائل والرجال الذين ساروا مع النبى وجاهدوا ذلك الجهاد المرير، ثم درسوا تاريخ الدولة الاموية والعباسية فتوصلوا الى حقائق مهمة عرفوا من خلالها كيفية تدمير الدولة الاسلامية فى الاندلس ومن خلال ما وضعته من نقاط:

1 - فصل الحاكم عن المجتمع وابعاده عنهم.

2 - بسط سيطرة الطبقة الارستقراطية من المجتمع على مقدرات الامور.

3 - إنحلال الرقابة الذاتيه او الحكومية لامور البلاد.

4 - الدعم والتشجيع لانغماس اهل السلطنة والحكومة - وعلى رأسهم ما يسمى بخليفة المسلمين والقدوة العليا للاخرين - في الملذات الشخصية والفساد الاخلاقي والتفنن في بناء القصور وغير ذلك، واهمال الطبقة الاجتماعية.

5 - اهمال الاصغاء الى أهل الفكر والعلم وأصحاب الرأي السديد الذين تحترق قلوبهم آلماً على ما يجري.

6 - ارسلوا وبشكل ملفت للنظر النساء الجميلات الاوربيات وباعداد كبيره وبثّوهن في قصور ملوك الطوائف بحيث اصبح هؤلاء الامراء نياماً لا يعرفون ليلهم من نهارهم بين أقداح الخمور والجواري والغلمان.

7 - تشجيع حالة النفاق والتحاسد والتباغض بين الملوك وتشجيع احدهم في الاستحواذ على أخيه، فاصبح الاخ يقتل أخاه جشعاً وطمعاً وانانية.

8 - بعث الارساليات الغربية على هيئة رجال كنيسه الى داخل قصور الامراء، يتلبسون بالدين للخداع والكيد والتجسس.

9 - الاصل المهم في كل هذه الحقائق هو الابتعاد عن اصل الشريعة المحمدية الحقة الواضحة و الابتعاد عن تلك التعاليم السمحة ثم تحطيم كل القيم الاخلاقية التي كانت تميز المسلم عن غيره وتحفظ كيان المجتمع من التخلخل.

ص: 162

اذن المشكلة ليست في الفكر اسلامي كما يدعي البعض بان الاسلام غير صالح للعمل بمنجهه وعقيدته في عصرنا الحالي لتخلفه وعدم قدرته على مسايرة التقدم الحضاري الكبير، المشكلة تكمن فيمن اساء للدين باعماله الشنيعة والذي اعطى انطباعاً سلبياً عنه، والمستشرق والقاري الغربي بل حتى المسلم في بعض الاحيان يرى صورة الاسلام في اعمال هؤلاء وسلوكياتهم وقد قدمنا نموذجاً صغيراً من تلك السيرة التي مرت على الامة. فالتقدم والازهار الذي يؤمن به الدين هو التقدم الروحي الاخلاقي الايماني وبناء الانسان اولاً بالاضافة الى العمران والمدنية، لان ما فائدة التطور المادي اذا كانت المجتمعات تعانى من المشكلات الاخلاقية والنفسيه والاجتماعية والاقتصادية وغيرها وهذا ما نلاحظه اليوم في العالم الغربي دون استثناء. فلابد اذن من فكر مرن يستوعب كل التطورات الحاصلة ضمن هذه العقيدة التي تجعل من الانسان انساناً بحقيقة معناه وتخلق منه فرداً صالحاً يسعى الى رفاهية المجتمع ويستخدم التقدم العلمي الهائل خدمة البشرية لا لدمارها، وهذا لا يكون الا باتخاذ العقيدة الاسلامية قاعدة واساس مع ايمان كامل بها، وخلق نظرية اجتماعية تعتمد على منهج علي علیه السلام وتطبيقاته واطروحاته النابعة من المباديء العظيمة للدين الاسلامي. فالاهتمام بابراز سيرة النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ومنهج على علیه السلام في الحياة والحكم واجبة لانها من الضروريات الاساسية وهي خير من يدحض وينكر على من يتقولون على الاسلام واهله.

ان أي مجتمع إذا ما داخله ترف الامراء وطبقة (الاشراف) على حساب مصالح عامة للناس وعمران البلاد، فإن مصيره الانهيار لا محالة وكذلك انحطاط وضع الطبقات الدنيا من المجتمع مادياً واقتصادياً «ولكن الامر لا يقتصر على تلك الاحوال الاقتصادية، بل يجر معه الاحوال الاخلاقية فهناك ارتباط بين

ص: 163

هذه وتلك لأن حال الحضارة في العمران، حينما تصل الى هذا الحد، لابد من أن يتبعها فساد الاخلاق وانتشار الشرور، ويكون ذلك في بادىء الامر، في الطريق المتبع في تحصيل المعاش. أما ابن خلدون فيقول: اما فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد.

التلون بالوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من الوانها فذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص فيه واستجماع الحيلة له. فتجدهم أجرياء على الكذب والمغامرة والغش، والخلابه والسرقه، والفجور في الأيمان، والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطريق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة بدواعيه؛ ... ويموج بحر بالسفلة من اهل الاخلاق الذميمة، ويجاريهم في ذلك كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ومن أهمل عن التاديب، وغلب عليه خلق الجواري وان كانوا اهل انساب وبيوتات. وذلك أن الناس بشر متماثلون، انما تفاضلوا وتميزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل فمن استحكمت فيه الرذائل بأي وجه كان وفسد خلق الخير فيه لم ينفعه زكاء نسبه، ولا طيب منبته ولهذا نجد كثيراً من أعقاب البيوتات وذوي الاحساب والاصالة وأهل الدولة منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنية في معاشهم، بما فسد من أخلاقهم وتلونوا به من صبغة الشرور والسفسفه، وهكذا تنتهي الحضارة الى فساد الاخلاق كما انتهت الى فساد وجود المجتمع، ووقوع الناس في هوة الفقر، بل ان فساد الاخلاق ليس الا نتيجة لفساد وجوه المعاش وانتشار الفقر» (1) لقد فات الكاتب مسألة مهمة

المدينة ة

ص: 164


1- شيخ الارض - تيسير - علم الاجتماع عند ابن خلدون - ص 154 - الجامعة الاسلامية العدد الثالث السنة الثانية

وهي عامل الدين والحاكم والمجتمع، واتجه الى تفسير الانحطاط الاخلاقي وانتشار الفساد بالعوامل الاقتصادية، واتيت بذلك شاهداً على اننا لحد الان لم نفسر التاريخ تفسيراً سليماً انما هناك ارهاصات، وهذه الارهاصات يشوب الكثير منها تبنى افکار او نظريات خاصة واعتمادها، وعدم درس الحقائق التاريخية دراسة علمية دقيقة. وما ذلك إلا الضعف في منهجية بحوثنا. وقد ساير بعض الكتاب الايديولوجيات التي يؤمنون بها لتفسير التاريخ طبقاً لتلك المعتقدات وغاب التفسير الديني للعوامل التى أثرت على حركة المجتمع وتطوره ثم انحداره وموته فالكاتب هنا اكد على التفسير الاقتصادي للانحلال الخلقي وانتشار الفساد وكان كل اعتماده على رأى ابن خلدون في ذلك، من زيادة الضرائب والمكوس والغارة على أموال العامة وجمع الاموال بشتى الوسائل لبناء القصور والحدائق وبذخ الاموال على شراء الجواري وغيرها، التي أثرت على الاسعار والتجارة والصناعة والزراعة فارتفعت أيضاً اسعارها وتحمل الضغط كله الطبقة الفقيرة، واستشرت حالة الانتفاخ الحرام للطبقة المتسلطة من المجتمع على حساب الطبقة العامة.

وهذا مضمون ماطرحه ابن خلدون واعتمده الكاتب.

ان للعوامل الاقتصادية أثراً لا ينكر، لكن لو التفتنا الى جانب مهم ومؤثر هو مدى ايمان الناس واحترامهم لمبادئهم وعقيدتهم وتمسكهم بها مع وجود حاكم مسلم بمعنى الكلمة يعي ويفهم حقائق الدين ويطبقها على شعبه كما يطبقها على نفسه يسود واقعه الحق والعدالة والانصاف، ويعين الضعفاء، ويهين الاقوياء الظلمة، ويراقب نفسه فيما امره الله تعالى من حفظ اموال الرعية وصيانة مممتلكاتهم والدفاع عن حياتهم و ارواحهم من العدوان والطغيان. وفي طرح الامام علي علیه السلام في عهده لمالك الاشتر خير معلم وبيان، حينئذ لا يمكننا ان نسمع

ص: 165

عن فساد اخلاقي و اجتماعي، وما عاشه المسلمون الاوائل مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو خير مثال لذلك، فاذن هناك ترابط تام بين كل هذه العوامل التي ادت الى الدمار والانهيار، ويجب ان نعي هذا الامر ونؤكد عليه من خلال اطروحاتنا وبحوثنا.

النظام الاجتماعي الاخلاقي والحضارة

ان وجود نظام اخلاقي اجتماعي يستلهم اصوله ومبادئه من العقيدة الاسلامية ويقوم بالاسهام في نظم الحياة الانسانية كلها لابّد منه «والحق أن صياغة الفرد والجماعة والدولة صياغة اخلاقية على النحو الذي شرعه الاسلام في نظامه الاخلاقي بحيث تسودها الاخلاق الاسلامية في كافة التصرفات والقرارات والتطبيقات وسائر الاحوال يهم الى درجة كبيرة في ايجاد خضوع للقانون مضموناً وجوهراً لا شكلاً ومظهراً، وهو أمر يحتاج الى نظام اخلاقي عملي يوصل الى هذا الهدف، يمتلك من الخصائص والضمانات والوسائل العملية ما يمكن له من أن يتحول الى واقع ماثل حى، وان ينقل من النظرية الى التطبيق، وهذه الخصائص والضمانات والوسائل قد انفرد بها نظام الاخلاق الاسلامي اما (الاخلاق الانسانية) في مختلف الفلسفات الداعية الى الاخلاق والتى تمثل دعوة عامة الى الاخلاق الحسنة مع الاختلاف في مضمونها ومفرداتها، فانها ليست سوى دعوة غير ملزمة، وهمسات توجيهية وتذكير بالاخلاق في لائحة مواعظ وارشادات مع ترك الانسان حراً في مدى الاقتناع والاستجابة، واذا كانت كذلك فماذا تجدي؟ وماذا بها من غنى؟ وأنّى لها أن تصمد امام هوى النفس وبريق الذهب، وفرصة المتاع ولذائذ الدنيا؟». (1)

ص: 166


1- البياتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الاسلامي مقارناً بالدولة القانونية ص 137 الطبعه الثانية

ونستطيع ان نقول ان اي تطور حضاري يجب ان يرافقه تطور اخلاقي في المجتمع وهذا يستلزم وجود عقيدة صائنة حية تحدد معالم واسس ذلك المنحى ولم نر غير الاسلام جامعاً لهذين الشطرين معاً، فمع وجود العقيدة الصحيحة السليمة وتلازم الاخلاق مع التطور الحضاري فان المجتمع حتما سينجو من المخاطر الاكيدة والمحيطة به مع هذا التطور الحاصل في العلوم والتقنية العالية في الاستخدامات الصناعية والتي طوت المسافات في الكره الارضية وانغمست في الراحة التامة، الا ان ذلك لم يمنع الانحلال الخلقى والتدهور الحضاري بعد انطماس القيم الاخلاقية وذوبانها في المفاهيم الديمقراطية والحرية الشخصية والحضارة الزائفة، والعالم الان يعيش ذلك، فالغرب المتقدم في طريقه الى الظلام الدامس والموت الاحمر والقضاء على البشرية تدريجياً، حيث انتشار الفساد بكافة أنواعه، من زنى ولواط وفجور متنوع و خمور و مخدرات مستشريه بين الشباب والاطفال وامراض متنوعه لا علاج لها اصلاً ك (الايدز) وغيره من الادواء التي ستقضى على آثار ذلك التقدم العلمى وتلك المدينة، إذن تبقى القضية الاخلاقية بكافة صورها هي الاساس في المحافظة على قيم المجتمع وتماسكه والمحافظة على ظواهره الاجتماعية.

فدراسة العلم الاجتماعي الاخلاقي لدى علي علیه السلام والاستفادة منه والعمل به لا يكون الا من خلال الحاكم الذي يتحرق قلبه على رعيته ويتمسك بحبل الله الممدود ويتخذ من وصايا علي انموذجاً تطبيقياً في قيادته وحياته مع الناس ويكون هو أمثولة القائد الشجاع والمؤمن الذي يسعى لخير اهله وبلده ويبعدهم عن تلك الشرور المحرقة في الدنيا وفي الآخرة والالاصبح المجتمع ذانسق واحد في الحياة وعندئذٍ تنتفي الحاجة للتنظيم والتدبير، فالمجتمعات خليط من مختلف افکار و عقول شتى ومستويات علمية متباينة، وفقر وغنى بينهما هوة شاسعة،

ص: 167

و ایمان عال وجحود وابتعاد عن دين الله، فما بين هذا وذاك يتضح لنا الاختلاف البائن وصور السلوك المختلف وما ينتج عن ذلك من مشاكل و اختلافات تحتاج الى طرق معالجة علمية ودقيقة، لان قيادة المجتمعات ليست في طرح النظريات على الورق ولاهى قوالب جاهزة مصنوعة في المعامل نأخذها ونضعها على روؤس الناس ليسيروا بها وفق ما صنعت اليه.

حرية الانسان في المجتمع

هناك من يقول ان الانسان يولد حراً والمجتمع هو الذي يقيد حريته وحركته فالطفل حينما يولد تأخذه القابله فورا وتقمطه بقماطه وتشد يديه ورجليه وتمنع حركته، فاذن اول شيء يستقبله هو القيد بيد عضو من المجتمع الكبير وهي القابله، فتقيد حريته، في حين ان هناك كلمة للامام علیه السلام وهي ابلغ من كل كلام واكثر واقعية من غيرها ولها مدلولاتها التحررية، وفيها معانٍ سامية هدفها خلق الارادة الفكرية و العملية لدى الانسان فقد قال علیه السلام:

«لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً» فالعبودية خالصة لله تعالى لا لغيره، والانسان حر في ارادته وفى تفكيره وفى حياته العامة، وهذه الحريات يجب أن يرافقها مراعاة الجوانب والضوابط التي حددتها الشريعة حتى لا تنتهك حقوق الاخرين المشروعة في العيش بسلام وامان، وتصان الحياة العامة والنظم التي تسيّر الحياة الاجتماعية من كل انحراف أو تجاوز مع احترام القوانين التي تنظّم المسيرة الاجتماعية، ومع ضمان سلامة الحريات العامة ضمن اطار الشريعة الاسلامية فان الانسان سيتحرر ذهنه من الضغوطات القاتلة لحركة الابداع والتطور وبالتالى فان هذا الانسان سوف لا يشعر بالذل والاستعباد والحقارة

ص: 168

ويكون عنصراً نافعاً، وحتى فى جانب الايمان العقائدي يرفض الدين الاعتقاد الوراثي المقولب والجاهز انما يرى فى ذلك اثاراً سلبية مستقبلاً، ويؤكد على أن الانسان يجب عليه التفكير والتدبر قبل الايمان والاعتقاد حتى يضمن التماسك والرصانة امام كل التيارات المختلفة؛ فعلى هو سعاده للبشرية في افكاره وسلوكه لانها قابله للتطبيق مع العقيدة الاسلامية في وقت واحد لان الاولى فرع من الثانية، فانهما قانون شامل للمجتمعات تسعد به و تعيش بسلام معه. ولو عدت لكتب الامام علیه السلام وكلامه لوجدته كيف يهتم بامته بل برعيته وهم عموم المجتمع سواء كانوا مسلمين أو ذميين فالعداله عنده للجميع مادام هو في ظل الاسلام.

الحزم واللين

ان طبيعة الناس الذين يكونون المجتمع لا تتوافق في سلوكية معينة نتيجة للتباين في الافكار والفهم والاعتقادات في القوانين والنظم والامام علیه السلام يرسم خط سير القائد في علاقته مع شعبه مادام المجتمع بهذا الشكل من الاختلاف فلابد اذن من مسيرة خاصة وهو خلط الشدة بضغث من اللين «والضغث في الاصل: قبضة حشيش مختلط يابسها بشيء من الرطب، ومنه (أضغاث الاحلام) للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد! أمزج الشدة بشيء من اللين فاجعلهما كالضغث» (1).

ثم اذا بدا ان الامر لا ينفع معه الا اتخاذ الحزم والشدة بناءً على مقتضيات المصلحة الاسلامية والعامة وضمن الحدود الشرعية، فاستخدام ذلك

ص: 169


1- ابن ابى الحديد - شرح نهج البلاغة - تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم - م 17 - ص 4 - دار احياء الكتب العربية - الحلبي وشركاه.

ضروري.

وهذه مسأل اساسية في ادارة الحياة الاجتاعية والسياسية للبلد وهي أيضاً حالة نفسيه توجد في اعماق الكثير من الناس فهي تستخف بالحاكم الذي يكون سياج مملكته هدفاً واهنا للاعداء والطامعين، والمجتمع اذا استشعر ضعف الدولة وعدم قدرتها في السيطرة على مقاليد الامور لضعف الوالى فسوف يختل التوازن الاجتماعي والسياسي وينهار معه النظام الاجتماعي والامني ويصبح الأمر في غاية الخطورة.

والبلد يكون حينئذ غابة لوحوش ضاريه ومتنوعه يأكل بعضها البعض الاخر. انها مسألة عظيمة وحيوية فالوالى المسلم عليه ان يحافظ ويصون ويعدل ويراعي الجميع باسطاً لهم نفسه، ماداً يده، معطياً الحقوق والحريات بما شرعته العقيدة الاسلامية وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«كلكم راع وكلكم مسؤول فالامام راع وهو مسؤول، والرجَّل راعٍ على اهله وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهى مسؤولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول الا فكلكم راع وكلكم مسؤول» (1).

فالمسؤولية جسيمة وخطيرة وتتطلب نفساً تخاف الله وترعى حرماته، وقلباً رؤوفاً، وفكراً ناضجاً يستعمله فى الملمات، مديراً قديراً، اميناً شجاعاً.

هذه كلها متطلبات واقعية تعطي معاني اساسية لطبيعة علاقة الراعي مع الرعية والحاكم مع المحكوم. .

ص: 170


1- صحيح البخاري ضبط وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلد الخامس - ص 1988 - الحديث رقم 489 - مطبعة الهندي.

الرعاية للجميع

طرف آخر من المعادلة الاجتماعية تشمله الرعاية الانسانية الاسلامية ويدخل في الموازنة العامة وفق إطار خاص تنظّمه صورة الرسالة التالية التي توضح تتبع الامام علیه السلام للاحداث ودفاعه عن طوائف المجتمع المختلفة حيث قال علیه السلام:

«أأَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَ قَسْوَةً وَ احْتِقَاراً وَ جَفْوَةً؛ وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لِأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ، وَ لَا أَنْ يُقْصَوْا وَ يُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ؛ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ، وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَ الرَّأْفَةِ، وَ امْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَ الْإِدْنَاءِ وَ الْإِبْعَادِ وَ الْإِقْصَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» (1).

لقد اعطى الامام علیه السلام الطريقة العمل مع صنف أخر من المجتمع بعد ان وصل اليه خبر تعرض بعض اكابر القوم من الدهاقين الذين يأمرون ولا يُأتمرون للضغط والشدة والقسوة وكذلك الاحتقار والجفوة لهم، فالامام يقول يجب أن يكون هناك توازن في التعامل والعلاقة مع هؤلاء الناس لا أن تدينهم فهم ليسوا اهلاً لذلك لأنهم من اهل الشرك وانت والي المسلمين، ولا تقصيهم أي تبعدهم وتجفوهم لانهم من المعاهدين، فاشعرهم بالمعاملة اللينة مشوبه بطرف من الشدة حتى لا يشعروا بضعفك فى حيالهم وعند ذلك يستهينون بأمرك، وأشعرهم بانك شديد في وقت الشدة، اي يكون عملك متداخلاً بين قوة ورأفة أو تقريب وابعاد مع هؤلاء للاسباب النفسية التي يجب ان يراعيها العالم او والى المسلمين،

ص: 171


1- نهج البلاغة - ص 276 - تحقيق د. صحبى الصالح.

هذا في جانب العلاقة مع المشركين والمعاهدين.

هناك جانب اخر يظهره الامام ويوضحه لعماله وكما جاء فى هذا الكلام له علیه السلام «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ. فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ، وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ، وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ، وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ؛ وَ السَّلَام» (1).

فبعد ان اثنى علیه السلام على عامله على عامله من انه من الرجال الذين يعتمدهم في مهماته فى ادارة البلاد ومن الذين يستعين به على اقامة العدل واظهار دين الله استمر الامام علیه السلام في بيان مزاياه على انه من الولاة الذين يقمع «اي يدحر» به الاعداء ويكسر به شوكة المتكبرين، اصحاب الذنوب والخطايا ثم قال «وَأَسُدُّ به لَهَاة الثَّغْر المخفوف» «النغر: مظنة طروق الاعداء فى حدود المملكة، واللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الانسان» (2). ففي كلامه علیه السلام التشبيه رائع من انه الخندق المتقدم الذي يدافع من خلاله عن ثغور المسلمين امام اطماع الاعداء الغاصبين ثم يطلب منه الاستعانة بالله اولاً وقبل كل شيء امام الهموم والمشاكل التي تواجهه، والنظر الى الامور بدقة وحذر متناهي، فالمجتمع واي مجتمع كان لا يمكن ان يتصف بسلوك واحد و مسيرة واحدة ابداً اللهم ربما الا في حالة واحدة عابرة، لها وقت محدد وتزول .

ص: 172


1- شرح نهج البلاغة - المجلد 17 ص 3.
2- نهج البلاغة - محمد عبده - ص 76.

بزوال المؤثر وهى حالة (العقل الجمعى) التي تمر بها المجتمعات في وقت ومكان واحد ومحدد. فالامام علیه السلام يشدد على الموازنة الدقيقة في التعامل مع الناس « ... قيل لبعضهم: من أرجح الملوك عقلاً واكملهم أدبا وفضلاً. قال: من صحب يامه بالعدل، وتحرز جهده من الجور، ولقى الناس بالمجاملة، وعاملهم بالمسالمة، ولم يفارق السياسة مع لين في الحكم، وصلابة في الحق، فلا يأمن الجريء بطشه ولا يخاف البريء سطوته» (1).

ثقل الموازنة

قد ذكرنا انفاً ان المجتمع في طبقاته وسلوكه متنوع، وكل طبقه يجب ان يكون لها تعامل خاص بها علاوة على ان يكون هم الوالي الاول هو النظر الى شؤون العامة من الناس ومراقبة سير حياتهم واحتياجاتهم من جميع النواحي مع اقامة توازن توازن في التعامل بما يفرضه الواقع، فلا يمكن أهمال وجوه المجتمع والاهتمام بما دونهم ولا العكس كذلك فلكل موقع خاص، ولا أقصد بوجوه المجتمع الطبقة الخاصة التي ذكرها الامام في عهده للاشتر انما تلك لها مبحث خاص بها وهي بعيدة عن هذا المعنى المطروح وهناك فاصله بينهما. والرعية عموماً تؤلف الاغلبية الساحقة من المجتمع وهم العامة، وهذه الطبقة هي النقل الاساس في المجتمع والطبقة المضحية اذا ما تعرضت البلاد للعدوان، فهي في المقدمة وقد وضح امامنا ذلك ايضا في عهده للاشتر، واغلب ما تكون هذه الفئة من الناس اصحاب نفوس طيبه طاهرة مع وجود الرعاع فيهم فلا منافاة في

ص: 173


1- ابن الازرق بدائع السلك في طبائع الملك - ج 1 - ص 231 - تحقيق الدكتور علي سامي النشار.

ذلك، وهي راضية بما قسم الله لها من رزق ومن منزلة غير آبهة بما يتصارع عليه الاخرون طلبا لجاه أو سلطة أو سلطة أو جمع مال، يريدون أن يسدوا رمق اطفالهم بمعيشتهم اليومية. فليس من العقل الحاق الضرر بهذا الانسان المستضعف لان ذلك معناه انهيار الدوله، لان هؤلاء الناس ليسوا جثثاً هامدة لا قول ولا فعل لهم طيلة حياتهم انما كلمتهم اقوى من أي شيء، واذا أُطلقت فهي البركان المتفجر وهذا لا يحدث الا في حالات معينة منها انتشار الظلم واستدامته، ومحاربتهم في معايشهم، واهمال حقوقهم المشروعة وقضمها حين ذاك يحدث ما لم يكن في الحسبان وما لا يحمد عقباه، لانهم الطبقة الاوسع الطبقة الاوسع انتشاراً والاكثر عدداً و القوه العاملة التي تدير حركة المجتمع بجهدها وبذلها، فالشدة المطلوبة هنا ليس مع هؤلاء المساكين الضعفاء وان بدر منهم شيء فذلك لا يعنى أن يكون مسوغاً للوالي لكي يمارس حالة الظلم والاجحاف، بل سوء العمل والخطأ، والتأديب يتناسب مع الاساءة التي ارتكبها وهي حالة عادية في المجتمعات، انما الشدة مع الذي يدعي القوة ويحاول بكل امكاناته كسب المنافع الباطله واكل السحت الحرام ولو على حساب حق المجتمع بل احياناً اجحافه وظلمه، واحيانا تطمع نفسه وتمنيه للسيطرة على مقدرات البلاد والحكم، وهذه الطبقة على ما اعتقد هي التي يقصدها الامام علیه السلام لغرض الحذر منها ومتابعتها واستخدام القوة معها حيث تكون في اغلب الاوقات قريبة من الوالي بل في بلاطه وقد سماها الامام بتسميات متعددة منها الطبقة الخاصة والاخرى (بالعظماء) وجعل قبالها مصطلح للعامة (بالضعفاء). والعظماء هؤلاء يحاولون بناء كياناتهم على حساب من هم اضعف قدرة واقل مقدرة وابعد رغبة، الذين اكتفوا بما اعطاهم الله من مكانة.

ص: 174

علم النفس الاجتماعي والعلاقات العامة مع المجتمع

ان قائد البلد وحاكمه لابد وأن يستخدم مختلف الاساليب في علاقته بطبقات الشعب، ولابّد أن يكون ملماً بعض الشيء بعلم النفس الاجتماعي الذي يعطى للموازنة الاجتماعية حالة الضخ المعنوي لاستقرار وضع المجتمع وفي ذلك قال علیه السلام: «واخفض للرعيّة جناحك، وابسط لهم وجهك و ألن لهم جانبك، و آس بينهم في اللحظة والنظرة، والاشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا يبئس الضعفاء من عدلك والسلام» (1).

إن انزال النفس للرعية والالتفات الكريم لهم تضع حالة الاستقرار في موضعها وتعطى زخماً قوياً للعلاقة الصميمة بين الراعي والرعية.

إن الشعور باحاسيس المجتمع له دور في تبادل المحبة والوفاء بين الوالي والرعية. فلا يأتي لمقابلة رعيته بوجه مقطب عبوس يقطر بغضاً وحقداً وكراهية اي لا يقابل المجتمع والا وهو مبسوط الوجه اي الانبساط والراحة حتى يعطي الدلالة على الرضا والمحبة لانه ليس رئيس للشرطة او المحتسب في البلاد ليكون بتلك الصورة حتى يخافه المجرم والمسيء انما هو اب للرعية وقائد لمسيرتهم. ثم يطلب الامام علیه السلام أن يعطيهم من نفسه حتى يتحدثوا معه ويستأنسوا به، والسماح لهم بتقديم طلباتهم وطرح مظالمهم، فالمساواة بينهم مبدأ اساسی عند الامام علیه السلام، و هذه المساواة لا تكون في جانب واحد محدود بل حتى في اقل الاشياء في اللحظة والنظرة، وهذا الوصف كمال الدقة في التعبير حيث يتبين من خلاله حجم العلوم

ص: 175


1- نص العهد للاشتر

النفسيه والاجتماعية التي يحملها الامام علیه السلام والتي صورّها في كلام بليغ لا يدركه الا مَنْ أمعن في التصوير البلاغي، وهذه تحتاج الى بحوث خاصة في العلوم النفسية والاجتماعية حيث لو نظرنا الى القرب الدقيق في الحالة الوضعية الدقيقة للحظة والنظرة او في الحركة التي تتم بين الاجفان وادارة العين، والعين اذا نظرت بحركات معينة او الجفن اذا تحرك نجد أنها تحمل في طياتها معان كثيرة، فالمحبة والغضب وعدم الرضا فيها والقبول الحسن و ما يتبع ذلك، والشاعر يقول:

اقسم اللحظ بيننا ان فى اللح *** ظ لعنوان ما تجُنُّ الصدورُ

انما البر روضةٌ فإذا ما *** كان بشرٌ فروضةٌ وغديرُ

وكذلك فى الاشارة والتحية وهي قضية نتعرض لها يومياً في مجتمعاتنا حيث نقول ان فلاناً نظر الى نظر شازرة فما هو قصده في ذلك وربما تحدث مشكلة تؤدي الى قضية اجتماعية تنسحب الى اطراف اخرى من جراء تلك النظرة التي ربما تكون مقصودة أو غير مقصودة. او ان فلاناً من الناس كانت تحيته عابره فالسبب في ذلك حتما انه قد سمع شيئاً اتجاهه، وقد تكون هذه الصورة غير موجوده اصلا وليس فيها اى هدف او معنى او ان نظرته تدل على ارتياحه واشارته تدل على حبه لي. فاذن المجتمعات في حياتها اليومية قد اهتمت في هذه العناوين والاعراف وتعودت عليها وتوراثتها، واخذت النفوس تقرأ المعانى في العيون وتعرف الاهداف في الاشارة والتحية، فالناس اخذت تلتفت الى هذه الامور وتهتم بها. فاذا ما كان صاحب تلك التعبيرات في العين والوجه واليدين (الوالى او الحاكم) فهنا الامر يكون أشد وأكثر اهمية وخطورة ولكن اذ ما ساوى هذه الصور بين الناس فلا يبقى هناك تأويل معين او اشعار بحالة رضى او رفض لبعض الناس دون الاخرين. لله درك يا أمير المؤمنين فى عمق هذه العلوم ياسيدي فقد اعطيتنا دروساً لنا ولما بعدنا في كافة نواحي الحياة؛ ثم «حتى لا

ص: 176

يطمع العظماء في حيفك ولا يبئس الضعفاء من عدلك» كل ذلك من اجل رعاية ضعفاء الناس من المجتمع لان كبراء القوم أي عظماءهم يترصدون حركة وكلام الوالي وهدفهم الانقضاض على الفريسة او الجيفة ان صح التعبير لان من يطمع بظلم ضعفاء الناس وسرقة حقوقهم المشروعة عند الوالي لمصالحه الذاتيه ومتابعة ما يقوم به الوالي لهؤلاء من حركات وأفعال لاجهاض كل عمل خير وصالح للناس هو في حقيقة الامر سقوط على المطامع الدنيويه التي هي في واقع امرها جيفة نتنه. وهؤلاء العظماء يحاولون الاستفادة من كل باب مفتوح حتى يستطيعون اقتحام قلب ونفس الوالي لتحقيق مآربهم على حساب غيرهم، وهذه حقيقة واقعة فهم اذن اظلم من عليها لظلمهم ضعفاء المجتمع واستغلال الحضوة والجاه عند الوالي، وقد قال امامنا علیه السلام في جانب من وصيته لابنه الحسن علیه السلام «وظُلمُ الضعيف أفحشُ الظلم» فالاعمال التي قد تبدو عادية بسيطه وهي اشارة ونظره وتحية ولحظة الا انها تترك اثاراً عظيمة لدى الآخرين، فالمنتفع يتربص تلك الحركات ويدركها فوراً فاذا كانت حيفاً للناس او ظلماً فقد فتح فاه ومد يديه وانبسطت أساريره طمعاً بالوالي لسلب وظلم الضعيف. وكذلك ان الامام علیه السلام يخبر الوالى ان الضعفاء اذا شعروا بظلمك سوف يصيبهم اليأس من عدالتك ومسألة اليأس من العدل تجر الى امور كثيرة سنتداولها في بحثنا هذا.

ص: 177

ص: 178

الفَصْلُ الثّالِثُ

اشارة

تقسيمات المجتمع

ص: 179

ص: 180

لقد اعطى الامام علي علیه السلام عدة تقسيمات للمجتمع، تنفرد عن غيرها بتنوعها، واسلوب التعامل معها أو معالجتها، حيث كان لكل منها خصيصه تنفرد فيها عن غيرها، مع وجود الاسم العام والشامل وهو (الرعية).

وهذه التصانيف حسب خصائص معينة اما نفسية، أو معرفية أو انسانية وغيرها.

كل ذلك كشف الامام علیه السلام من خلاله عن مدى التعمق في المعارف والعلوم الاجتماعية في اطروحته الاجتماعية والتي لا تسمح للعلماء والمتخصصين بالتردد في الأخذ من هذا المنهل العظيم، وتلك العلوم للاستفادة منها في اختصاصهم.

اما صور هذه التصانيف فهي كما يلي:

- التقسيم الطبقي.

- التقسيم النفسي (السايكولوجي).

- التقسيم العلمي (المعرفي).

- التقسيم الانساني.

- التقسيم الايماني.

- التقسيم الاداري (الجند والكتاب أو القضاة وموظفي الدولة الاخرون).

- التقسيم المهني (تجار وصنّاع وزرّاع ومهن اخرى).

وهؤلاء يشكلون النسيج الاجتماعي المتكامل.

ص: 181

التقسيم الطبقي

اشارة

وينضوي تحت هذا العنوان:

الف - الطبقة الخاصة والعامة.

ب - الطبقة السفلى

أ - الخاصة والعامة:

إن معرفة تشكيلات المجتمع بهذه الصور يعطينا النور لكشف ودراسة الظواهر الاجتماعية بصورة واضحة وتحقق لنا النتائج المرجوه ونبدأ (بالخاصة والعامة) حيث قال لي:

«وَلْيَکُنْ أَحَبَّ الاُْمُورِ إِلَيْکَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ؛ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَکْرَهَ لِلاِْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالاِْلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ الاِْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ؛ وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلاَْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُْمَّةِ؛ فَلْيَکُنْ صِغْوُکَ لَهُمْ، وَمَيْلُکَ مَعَهُمْ» (1) / اوصاه (أي الاشتر) باتخاذ طريق الوسط في الحق واكثرها في العدل «ثم عرّفه أن قانون الامارة الاجتهاد في رضا العامة، فإنه لا مبالاة بسخْط خاصّة الامير مع رضا العامة، فأما اذا سخطت العامّة لم ينفعه رضا الخاصة، وذلك مثل أن يكون فى البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه، وذوى الثروة من

ص: 182


1- نص عهد الامام علي علیه السلام للاشتر.

اهله، يلازمون الوالى ويخدمونه ويسامرونه وقد صار كالصديق لهم، فإن هؤلاء ومن ضارعهم من حواشي الوالي وارباب الشفاعات والقُرُبات عنده لا يغُنُون عنه شيئاً عند تنكر العامة له، وكذاك لا يضرّ سُخْط هؤلاء إذا رضيت العامّة، وذلك لأن هؤلاء عنهم غنى، ولهم بدل، والعامّة لا غنى عنهم ولا بدل منهم، لأنهم اذا شغبوا عليه كانوا كالبحر اذا هاج واضطرب، فلا يقاومه أحد وليس الخاصة كذلك، ثم قال علیه السلام ونعم ما قال: ليس شيء أقلَّ نفعاً، ولا أكثر ضرراً على الوالي من خواصّة ايام الولاية، لأنهم يثقلون عليه الحاجات، والمسائل والشفاعات، فاذا عزل هجروه ورفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلّمو عليه» (1).

اذن رعاية المصالح الاجتماعية للرعية بصوره عامة هي فوق كل مصلحة اخرى وكل هدف اخر فالمجتمع بشريحته الكبرى وقاعدته الواسعة يتكون من عامة الناس، اما السلطة وما تلفّ مغرياتها من اشخاص فهم فئة قليلة العدد وهي الطبقة المتسلطة بموقعيتها لدى الحاكم، وهذه ايضاً تمتلك قوى مادية ومعنوية لا تملكها العامة من الناس من مال وجاه واستقرار نسبي وصور الراحة والترف و امور اخرى كثير. فالامام علیه السلام يصل الى هذه النقطة الحساسة ويجعل لنا ميزاناً من كلماته وعبرة نصون به المجتمع من التفكك والانحلال الذي يؤدي الى الصراع الاجتماعي المدمر وما يتبع ذلك من المشاكل الكبيرة التي تهدم كل شيء، وغاية الامام علیه السلام من هذا الطرح وهذه الصور هو جر انتباه ولاته الى مسألة مهمة وهي التمحور حول الناس المغلوب على أمرهم المهدور حقهم المسلوبة ارادتهم الذين سيواجهون الظلم أن تغافل الوالى او انحرف عن خطه. فلو غضب هذا 6.

ص: 183


1- ابن ابى الحديد - شرح النهج - 17 و 18 - ص 36.

المجتمع العظيم من العامة ضد الظلم، او انتفض ضد استغلال طبقة معينة مستغلة معناه (غضب الله) كما عبر عن ذلك امير المؤمنين علیه السلام «ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمة الله ادحض حجته، وكان الله حرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامه على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطرين وهو للظالمين بالمرصاد» (1).

فالطبقة الشعبية كما نعبر عنها هي عماد المجتمع، والامام لا يدعو الى الالتفات الشامل الى هذا العموم من الناس حتى وان ادى ذلك الى غضب الخاصة التي غالباً ما تكون في موقع المتنفذ والانتهازية المستفيدة من حضوة الحاكم بل قد تكون وهو الاصح في التعبير الطبقة المتملقة التي تزين للوالي سوء عمله وتشجّعه حتى وان كان عمله ذا أثرٍ سلبي على مكانته وعلاقته بالمجتمع وتحاول دائماً أن تطري و تثنى عليه و تجعل من اعماله وكلامه كانه لا مثيل له بحيث لا تحمله رجلاه على الوقوف من شدة الفرح خصوصاً اذا كان ضعيف الشخصية والمكانة وبعيداً عن روح الايمان والتقوى، وهو لا يشعر بان هؤلاء يمررون عليه مصالحهم ويخدعونه ويلفونه بحبالهم الشطيانية، مع العلم ان هذه الفئة كما يعبر عنها الامام علیه السلام لا تقف وقت الشدة والحيرة والتي يكون فيها بامس الحاجة الى من يقف معه، وتحاول هذه الفئة دائماً الاستفادة من الاسيجة القصيرة او العوارض الواهنة فتنفذ اكثر فاكثر الى قلب الوالي وباساليب متنوعة منها التذلل والتظاهر بالطاعة العمياء والنميمة والكذب والدجل بشتى انواعه حتى اذا ما ركّزت مواضعها وحكّمتها في قصر الوالي او البلاط اندفعت بحالة شرهة دون ر.

ص: 184


1- نص عهد الامام علي علیه السلام للاشتر.

الالتفات الى أي شيء او الحذر من اي جهة الى جمع الارباح وحصدها. وهؤلاء غالبا ما يكونون طبقة منحرفة تمام الانحراف لا يهمها رضاء الله او الناس او بل حتى لم تُشعر نفسها في يوم من الايام ان تقوم بمداراة المجتمع ومراعاته بعض الشيء بل العكس تهدر حقوقه وتسحتقر وجوده وتعتبره طبقة دنيا في هذا العالم، وطبقة وضيعه واجبها خدمة الطبقة الخاصة العليا بالاستماتة والدفاع عنها. وكأن القتل قد كتب على هؤلاء الضعفاء فقط وهذه الحالة كانت عند اليونانيين القدماء سابقاً حيث يضعون العامة من الناس المواضع الدنيئة بل جعلوهم في منزلة الخدم عند الطبقة الارستقراطية ولا يسمح لهم بتجاوز الحدود التي رسموها لهم بل لا مجال لهم حتى في التعليم او الرأي او الزواج من تلك الطبقات اوحق الانتخاب. وكذلك كانت في اوربا في العصور الوسيطة حيث سيطرة الاقطاع و النبلاء والاشراف على مقدرات الامور في البلدان تلك بل والأكثر من ذلك التجاوز على كل شيء حتى على انسانية الانسان وشرفه ووجوده كمخلوق في هذه الارض. ولا زالت موجودة في عصرنا الحالي في بعض المجتمعات المتخلفة مثل طبقة المنبوذين في الهند، واضيف الى ذلك ان هذه النظرة لا زالت موجوده في بعض النفوس من ابناء مجتمعاتنا، الى هنا يضع الامام علیه السلام الوالي امام الواقع الصحيح ويدفعه الى التزام المعادلة الاجتماعية الايجابية. ويطالبه بانتهاج الطريق المناسب الذي ينفع ولا يضر ويحفظ الكيان الاجتماعي من التخلخل وعدم الانسجام والاهتمام بالطبقة العامة حتى وان كان ذلك مضراً بمصالح الطبقة الخاصة ويثير سخطهم الذي هو في حقيقة الامر هواء في شبك كما يقولون لا يؤثر على كيان الامة لانه يذوب وينتهي في بحر الجموع الكبيرة من عامة الناس. وتتحقق بذلك عدالة السماء التي ارادها الله واعطى: حدودها في شريعته وفي اخلاق نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و تطبيق علي علیه السلام لذلك الامر

ص: 185

بصورة تامة، الذي أدخل البهجة والامتنان على قلوب الجماهير المستضعفه التي تنظر الى الله دائماً فى شكواها والى راعيها للحكم بما انزل الباري عز وجل والتخلص من محاولة سيطرة الخاصة على مقاليد الامور او الصعود وجني الارباح على اكتاف المجتمع المجاهد و المضحي لدينه ووطنه؛ بالاضافة الى ذلك ان الطبقة الخاصة من الناس لها صفات عامة ذكرها الامام علیه السلام في نفس النص السابق من عهده لمالك وهي كما يأتي:

1 - هؤلاء الخاصة في حقيقتهم مؤونة ثقيلة على الوالي في وقت الرخاء وذلك لثقل ما يطلبون لاستحواذهم على كل الامور من خلال الحاكم.

2 - ان هذه الفئة من الناس هم جماعة لا تحمل صفات الشجاعة والبطولة والدفاع عن البلاد والوالي، وهي اسرع الناس الى الفرار وعدم المساعدة.

3 - كرهها للعدالة والانصاف لان ذلك يتناقض مع اهدافها الذاتية.

4 - اكثر الناس الحاحاً وشدة في السؤال في الطلب.

5 - اقل الناس شكراً عندما يحصلون على ما يريدون وكأن الاعطاء واجب مفروض لهم شرعاً.

ب - الطبقة السفلى:

هذه الفئة من المجتمع هي الطبقة المسحوقة تقريبا والتي تحتاج الى الرعاية والعناية من قبل الوالي واعوانه، حيث أوصى بهم رجل الفقراء والمحرومين الاول بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «ثم الله ... الله في الطبقة السفلى من الذين لاحيلة لهم» فالاسلام هو دين الحق والرسالة السماوية جاءت فاتحة ومبشرة بعهد جديد هو عهد المستضعفين ضد قوى الطاغوت والاستكبار. ولو لاحظنا الرعيل الاول الذي وقف الى جانب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سنراهم الطبقة الفقيرة من المجتمع بينهم الموالي والعبيد و من لا حيلة لهم ولا قوة ولا ناصر، ولا معين في ذلك

ص: 186

المجتمع المتجبر الظالم، لانها وجدت في مبادىء الاسلام السامية كل رحمة وعدل واحترام وانسانية فدافعت عن الدين الحنيف بقوة، ووقف الدين بمبادئه السمحاء الى جانبهم. وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يرى الفقراء من الناس ويواسيهم بشخصه الكريم ويتفقد احوالهم وكذلك علي علیه السلام حينما كان يبحث عن الارامل والايتام والفقراء والمحتاجين والمساكين ممن اعوزهم الدهر واقعدهم ضعف الحال. فصب امامنا امیر المؤمنين علیه السلام جل اهتمامه وخاتمة كلامه بوصاياه الخاصة بهؤلاء، فوصفهم على حقيقتهم ودافع عنهم بتعاليم الدين ووقف الى جانبهم فاعطانا درساً حاضراً ومستقبلاً بان هذه الطبقة يجب ان يكون الالتفات الى امورها من اهم القضايا المطروحة في صلاح المجتمع حيث قال علیه السلام: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى (1) والزمنى (2)، فان في هذه الطبقة قانعاً و مُغتَّراً (3). واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم» (4)، فقد جعل الامام علیه السلام من وصيته هذه بتلك الطبقة قانوناً عاماً تستلهم منه التشريعات الاجتماعية مبادئها، وسلوكيتها في رعاية طبقات المجتمع السفلى.

لانه بمراعاة هذا التفاوت الاجتماعي الطبقى والمساواة في الحقوق والواجبات تتم العدالة ويستتب الامن للجميع، وتضمن ادامة الحياة لمن هدّ قوّته الفقر واصغرت حجمه الفاقة فيعطيهم الاسلام الشيء الذي يعينهم ويدفع عنهم الغوائل والجحود وصدود المجتمع عنهم. ر.

ص: 187


1- البؤس: اشد الناس فقراً وقتراً.
2- الزَّمنى: اصحاب العاهات المزمنة.
3- مُعتراً: اي السائل والمتعرض للعطا بلا سؤال.
4- نص عهد الامام علي علیه السلام القائده الاشتر.

الضمان الاجتماعي

جعل الدين الضمان الاجتماعي للطبقة المسحوقة من المجتمع حفظاً لماء وجوهها و استمرار اقواتها وبلا مَنْ أو أذى.

وقد سعى العالم المتحضر الى سن قوانين الضمان الاجتماعي واخذ يتبجح بها في حين ان الاسلام قد وضع اسس ذلك قبل أربعة عشر قرناً تقريباً عند تأسيس اول دولة اسلامية على ارض طيبة الطاهرة «فالاساس الاول للضمان الاجتماعى؛ هو التكافل العام. والتكافل العام هو المبدأ الذي يفرض فيه الاسلام على المسلمين كفاية، كفالة بعضهم لبعض ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكاناته، يجب عليه أن يؤديها على أي حال كما يؤدي سائر فرائضه، والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل العام بين المسلمين، يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكفلون به شرعاً، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الاسلام على أنفسهم. فهى بوصفها الامينة على تطبيق أحكام الاسلام، والقادرة على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسؤولة عن أمانتها، ومخوّلة بحق اكراه كل فرد على اداء واجباته الشرعية وامتثال التكاليف التى كلفه الله بها فكما لها حق اكراه المسلمين على الخروج الى الجهاد لدى وجوبه عليهم، كذلك لها حق اكراههم على القيام بواجبهاتهم في كفالة العاجزين، اذا امتنعوا عن القيام بها، وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مد هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى» (1)، «ولكن الدولة لا تستمد مبررات الضمان الاجتماعي

ص: 188


1- الصدر - محمد باقر - اقتصادنا - الجزء الثانى - ص 698.

الذي تمارسه من مبدأ التكافل العام فحسب، بل قد يمكن أبراز اساس اخر للضمان الاجتماعي كما عرفنا سابقاً، وهو حق الجماعة في مصادر الثروة.

على اساس هذا الحق تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم ... أما عن المسؤولية المباشرة للضمان: فان حدود هذه المسؤولية تختلف عن حدود الضمان، الذي تمارسه الدوله على أساس مبدأ التكافل العام فان هذه المسؤولية لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب، بل تفرض عليها أن تضمن الدولة هنا ضمان إعالته. وإعالة الفرد هي القيام بمعيشته و امداده بكفايته. والكفاية من المفاهيم المرنة، التي يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الاسلامي يسراً ورخاءً. وعلى هذا الاساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الاساسية للفرد من غذاء ومسكن ولباس، وان يكون اشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية في مستوى الكفاية بالنسبة الى ظروف المجتمع الاسلامي، التي تدخل في مفهوم المجتمع الاسلامى عن الكفاية تبعاً لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه» (1).

وهذا ما ذكره الامام علي علیه السلام في نص العهد «واجْعَلْ لهم قسماً من بيت مالِكَ وقسماً من غَلَّاتِ صوافي الاسلام في كُلِّ بلدٍ، فإِنَّ للأقصى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للأَدنَى وَكُلٌّ قدِ استُرْعِيتَ حَقَّهُ».

فتخصيص جزء من بيت المال وجزء آخر من صوافي الاسلام يخفف العب الشديد الذي قد يتعرض له هؤلاء، وقد ذكر القرآن الكريم (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا .

ص: 189


1- نفس المصدر السابق - ص 701.

غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (1). اذن لهم ذلك من بيت المال ومن صوافي المسلمين (الاراضي الغنائم) من كل بلد «وهي الارضون التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب - وكانت صافية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلما قبض صارت لفقراء المسلمين، ولما يراه الامام من مصالح الاسلام». (2)

ومن هذا المال يعطى للبعيد كما يعطي للقريب في ذلك البلد فلا فرق بين هذا وذاك فالكل تكفلّهم الاسلام ورعى شؤونهم فى بيت المال الذي هو لجميع المسلمين بدون استثناء. وهناك مجالات اخرى لاعانة الفقراء من الناس والمساكين دعا اليها القرآن الحكيم وحث على دفعها للمعوزين والمحتاجين في اروع عملية تكافل اجتماعي يدخل فيها الاجر والثواب كما يدخل فيها عامل الایمان، والاعتقاد العام بان المسلم اخو المسلم فلا ينام وجاره جائع يتضور من الجوع وقد قال علي علیه السلام في ذلك «أو أبيتُ مِبْطَاناً وحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثى وأَكبَادٌ حَرَّى» (3) اذن العامل الاخلاقي والديني يمنع ذلك، ويدفع الانسان الى العمل الصالح وهو اعطاء الصدقات الى مستحقيها، والقرآن الكريم اكد على ذلك في ايات كثيرة منها: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿261﴾ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿262﴾﴾ (4) .

ص: 190


1- سورة الانفال - الاية 41.
2- شرح نهج البلاغه - مجلد 17 ص 86.
3- من رسالته علیه السلام لان حنيف - نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 416.
4- سورة البقرة: الاية 261 - 262.

كذلك حث الائمة الاطهار علیهم السلام المسلمين لمساعدة الفقراء والمعوزين ودفع الصدقات اليهم وأنها تدفع البلاء المبرم.

إن من واجبات المجتمع الاسلامي الخاصة تدارك الانهيار المادي لدى طبقات المجتمع واعانة من لا قدرة له على تلبية احتياجاته ودفع اموال مؤونته وكسوته وقد جعل الله له حقاً في تلك الاموال (والَّذين في أموالِهِم حق معلُومٌ للسَّائِلِ والَمحروُمِ) (1). ولن تجد في الدساتير العالمية والتشريعات القانونية من قمة في تشريعات الضمان الاجتماعي مثل هذه الصورة، فهي عملية بناء المجتمع من داخل المجتمع بالاضافة الى ما تقدمه الدولة من معونات مستمرة ورعاية خاصة بهذا الشأن.

ثم ينتقل الامام علیه السلام الى بقية فقراء الامة ويعددهم واحداً بعد الآخر ويبدأ ويقول: «وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ، مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِکَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ کُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ، فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ» (2)، إن ابتكار المؤسسات وسن القوانين التي ترعى مصالح الايتام في المجتمع أو دور العجزة والمسنين تعتبر من الانجازت المهمة التي تفتخر بها الحكومات في الوقت الحاضر كقوانين للضمان الاجتماعي، إلا أننا نقول صحيح أن هناك تخلفاً ونقصاً فى كثير من الجوانب الحياتية والاجتماعية للمسلمين في العالم إلا أن ذلك لا يعبّر عن حقيقة الدين وتشريعاته، إنما التطبيقات الناقصة والبعد عن المصدر الاصلي هي السبب في التخلف الموجود، وأنا اتحدث عن تطبيق كامل للشريعة الاسلامية في دولة تستوعب كل المفاهيم الاسلامية .

ص: 191


1- سورة المعارج: الآية 24 و 25.
2- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر.

وتعمل بها، ويمكن اعتبار فكر علي علیه السلام الرمز الاول للمقارنة مع بقية الاطروحات فى اشاراته الاجتماعية والنفسية والشرعية وبيان النقاط الاساسية عند امير المؤمنين علیه السلام التي اعطت للانسانية الصور الرائعة للحياة الاجتماعية.

ثم امر الامام علي علیه السلام بتعهد الايتام، والتعهد هنا كلمة واضحة المعنى لا تحتاج الى تفسير وبيان فمن يأخذ شيئاً على عهدته يتكلفه من كافة النواحى ويقيم له الامر ويبذل عليه حتى ينشأ وينمو، فالدولة اذن هي القائمة بكل اموره ومتعهدة بكل قضاياه وبصورة كاملة وكذلك يؤكد على المسؤولية أتجاه الايتام وعدم تضييع حقوقهم واهمالهم وتركهم حيث قال علیه السلام «الله الله في الايتام فلا تُغُّبوا أَفْوَاهَهُمْ ولا يضيعُوا بحضرتكُمْ» (1) فهو يوصي علیه السلام بعدم قطع الطعامهم يوماً ما أو ضياعهم وسط المجتمع الكبير. ثم «ذوي الرقة في السِّنِّ ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه» ايضاً كبار السن والعاجزين عن العمل من الذين ليس لديهم شيء سوى الاستراحة من تلك السنين التي حفرت أخاديد على وجهوهم من الجهد والتعب الذي بذلوه وطول العمر الذي قضّوه والذي اضعفهم وقلل طاقتهم فلا حول ولا قوة لهم ... شملهم التعهد الاول لانه عائد على ما قبله من تعهد الايتام «وذلك على الولاة ثقيلٌ والحقُّ كله ثقيلٌ» الا انه قد يكون خفيفاً على الاقوام بفضل الله للذين شخصت اعينهم الى العاقبة النهائية وهي ملاقاة الله يوم الحساب فصبّروا انفسهم أي اجهدوا انفسهم على تحصيل الصبر وتحمله لانهم على ايمان و تصديق ما وعدهم الله به من يوم يحتاج فيه الانسان الى ذرة عمل الخير لتثقل ميزانه.

(فَمَن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يَرَه) (2). 7.

ص: 192


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 421.
2- سورة الزلزلة: الآية 7.

(فأما من ثقلت موازينهُ * فهو في عيشةٍ راضيةٍ) (1).

بعد كل هذا لا نريد ان نتعرض للقوانين العالمية وما تضمنته من شرائع في هذا الامر، لان اغلب الناس عايشت مختلف القوانين والشرائع فلم تجد اصلح وانمى واكثر تطوراً من الشريعة المحمدية العظيمة، حيث صور التعاطف والرحمة والاخوة وبمستويات أخلاقية رفيعة كلها مجتمعة في النفوس المؤمنة الطيبة.

حقوق الامة والعدالة في التقسيم

ان الحقوق التي فرضها الله تعالى لفقراء الامة والمحتاجين منهم لم تكن هدية من الوالي يقسمها كيفما يشاء بحيث تتدخل فيها عوامل اخرى تحرف التطبيق الحقيقي ولا تسير على المنهج الصادق بل تنحرف باتجاه سوء الاستفادة والاستئثار والغارة على اموال المسلمين وتوزيعه على الاقارب والعشيرة والاصحاب. وقد حدث ان قام احد ولاة أمير المؤمنين علي علیه السلام بتقسيم فيء المسلمین بین اهله واصحابه، فغضب لذلك امير المؤمنين علیه السلام وشدد على واليه الذي فعل هذا الأمر وهذه الخيانة الخيانة وهو مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامله على اردشير خُرَّه حيث ارسل اليه كتاب يوبخه فيه: «بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ؛ أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُيُولُهُمْ وَ أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ فِيمَنِ اعْتَامَكَ (2)مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ. فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً، فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ وَ لَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ

ص: 193


1- سورة القارعة: الآية 6 و 7.
2- أي اختارك من بين الناس.

دِينِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا الْفَيْءِ سَوَاءٌ، يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَ يَصْدُرُونَ عَنْه» (1).

ان مصقله هذا قد عمل خلاف شريعة الله تعالى ومن يكن كذلك فقد باء بغضب الله وسخطه، ثم عصى امامه وخان امانته التي استؤمن عليها بتقسيمه مال المسلمين الذي اجتمع بفعل جهاد المسلمين الاوائل و تضحياتهم على اقوامه الذين اختاروه، ولم يكن تقسيماً عادلاً بين المسلمين الذي سالت دمائهم على تلك الاراضي المفتوحة.

عند ذلك رفض رجل العدالة والحق على علیه السلام هذا التلاعب فى مقدرات وحقوق الامة، واراد التثبّت في حقائق الامور لان كان حقاً ما وصل اليه وضع العقوبة القاسية لذلك.

ثم يلفت نظر مصقله الى عدم اصلاح امر الدنيا باإهلاك الدين ثم يصبح بعد ذلك من (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (2) «فتكون من الاخسرين أعمالاً» والمعنى أنه نهى مصقلة عن أن يقسم في المسلمين على أعراب قومه الذين اتخذوه سيّدا ورئيساً ويحرم المسلمين الذين حازوه بانفسهم وسلاحهم.

وهذا هو الأمر الذي كان ينكره على عثمان، وهو ايثارُ أهله وأقاربه بمال الفيء» (3). ان الدافع لهذا الانكار على مثل هذه الاعمال لان بيت مال المسلمين لم يكن ملك خاص للوالي حتى يتصرف به بهذا الشكل، ثم انه لا عصبيه فى تقسيم.

ص: 194


1- نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - ج 3 - ص 68.
2- سورة الكهف: الاية 104.
3- شرح نهج البلاغه - م 16 - ص 176.

اموال الله. والبلد المسلم لا تحكمه الانتماءات العشائرية والقومية الاقليمية والقبلية والعائلية والاهواء الشخصية بل تحكمه عدالة الدين واستقامة زعيم المسلمين، فالعدالة معناها ادامة الحياة، ومعناها السعادة الدائمة للمجتمع ولعموم المسلمين في ظل الاحكام الالهية، والعدالة تبدا بتطبيق الاحكام بصورة تامة ومراعاة ومساعدة ضعفاء وفقراء الناس الذين يستشعرون الرحمة من خلال ذلك، فمن حقنا أن نكتب ونعرض ونفتخر بتشريعاتنا الاسلامية التي تقدم وتطور المجتمع ويزدهر فيها الاعمار والبناء.

تواضع الحاكم واحترام الامة

«فلا يشغلنَّك عنهُمْ بطرٌ، فإنَّكَ لا تُعْذَرُ بتضييعك التافِه لإحكامِك الكثير المهمَّ، فلا تُشخِضْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وتَفْقَّدْ أُمُورَ من لا يَصِلُ إِليك منهم» اذن يجب ان يؤدي الوالي حقوق المسلمين اليهم وهي امانة في عنقه وهذه تتخذ عدة جوانب من ضمنها حقهم في المال العام، والبحث عن الطرق والسبل الصحيحة لحل مشاكلهم المادية والمعنوية، ومتابعة قضاياهم العامة ولا يشغله شيء عن متابعة احوالهم.

وانه ليس له أي عذر بتضييع القليل الحقير من الأمور حتى وان احكم واتقن الكثير المهم. فالامر يحتاج الى تأمل ومراجعه للذات حتى لا ينحرف الوالي عن منهج الحق، ثم مراجعة امور المجتمع ومحاسبة من يأخذ حقهم. ثم يأمر على علیه السلام الوالي بإن لا يتكبر عليهم أو يصعّر خده للناس كما قال الباري عزوجل: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (1). فيأخذه العجب والكبر بالابتعاد عن الامة. ثم

ص: 195


1- سورة لقمان: الآية 18.

متابعة من لا يستطيع ان يصل اليك منهم لاسباب او اخرى، ومنها احتقار المجتمع وازدراؤه للفرد الضعيف من المجتمع وقد عبر عن ذلك الامام علیه السلام ب «تَقتحمُهُ العيون وتحقرهُ الرّجَالُ».

وهناك بعض الطغاة الناس والعياذ بالله لا يعجبه ان ينظر الى فقراء المجتمع بل بعضهم يهرب من المجالس التي يحضرها البؤساء من الناس ويترفع عنهم تكبراً وطغياناً «فان هؤلاء من بين الرعيَّةِ أَحْوجُ إِلى الإِنصَافِ مِنْ غيرِهِمْ، وَكُلُّ فأَعذِرْ إِلَى الله في تأديةِ حَقٌّه إليه».

فکر علی علیه السلام والاخرون

اذا كان علم الاجتماع يسعى الى تنظيم حياة المجتمعات بمختلف امتداداتها وصورها، فالاصلح أن يكون ذلك من خلال مفاهیم صحيحة وحقيقية نابعة من عقيدة سماوية، وفكر ناضج منبثق من أصل العقيدة المذكورة، وهذا كله لم جمع إلا في العقيدة الاسلامية وفكر على علیه السلام والمفاهيم الاسلامية العامة، والتي تعتبر الاساس الصلب والمحكم في بناء الهياكل الاجتماعية في المجموعات البشرية.

ففي كلامٍ واحدٍ ورسالةٍ واحدةٍ من عدة كتبٍ وخطبٍ اطلقها الامام علیه السلام جعلت الّد اعدائه وخصومه وهو معاوية بن ابي سفيان والذي خبَر علی علیه السلام وعرفه يقف حائراً امامٍ عهد الامام علي علیه السلام لمالك الاشتر متعجباً العظمة والحكمة والبناء السليم للانسان والمجتمع بحيث جعلت بعض اصحاب معاوية ينقلبون عليه حينما سمعوه وتناقلو اعجابه وفى ذلك يقول الشرقاوي: «ولما قرأ معاوية هذا الكتاب وسمعه خاصته وتناقلوه ونقلوه الى غيرهم. أهتز يقين عدد منهم

ص: 196

بدعوى معاوية فمالوا الى علي ...!

وكان قد استثار بعض الناس على معاوية بعد ما سمعوا عما جرى لمحمد بن أبي بكر، فقد استبشع هؤلاء قتله على النحو الوحشي ...

[ويستمر الشرقاوي ويقول] فلما سمعوا أن ام المؤمنين عائشة رضى الله عنها تدعو على معاوية وعمرو في كل صلاة، نفروا من معاوية، ونفّرهم من معاوية ما وجدوه من بذخ هو السفه بعينه، وما شاهدوه في دمشق من صور الترف المستبد والى جواره غير بعيد صور من الفقر المدقع تثير الاسى والاشفاق والاحساس بالمهانة والعار! وشعر بعضهم أنهم قد تحولوا في دنيا معاوية الى اثرياء حقا ... ولكنهم فقدوا سمو الروح، ولم يعودوا الاكائنات تأكل وتشرب كالسوائم، وتتمرغ في الملذات كالبهائم» (1).

موقفنا من نهج علي علیه السلام

حينما نتحدث عن الامام على علیه السلام رجل المواقف المصيرية مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يجب علينا ان ندرس منهجه الصالح للانسانية وسيرته الالهية في المجتمع، وحياته التي كلها عبر ودروس والذي عرفنا الاسلام الحقيقي من خلال عمله الخالص لوجه الله.

ان التمسك بعلي يعني التمسك بالعدالة الحقة، وتحرر العقل من الاوهام والاكاذيب والدجل المظل، اذن این نحن الان کمسلمین في كل بقاع العالم من فكر علي علیه السلام اين موقعيتنا في ذلك لتراجع انفسنا ونبحث في منهجنا ونعود الى ذاتنا لنقارن بين واقعنا المعاش والحقيقة الناصعة لمنهج علي علیه السلام.

ص: 197


1- الشرقاوي - عبد الرحمن - علي امام المتقين - ص 284.

وكيف إنه يسعى الى حفظ كرامة الانسان حتى وان كان ضعيفاً محتقراً او يتيماً بائساً أو كبيراً أو مريضاً. فقد سعى علیه السلام واجهد نفسه وامر ولاته بالنظر الى كل الظروف الصعبة والطارئة التي تواجه المجتمع.

التقسيم النفسي (السايكولوجي)

في هذا الجانب يصنف الامام علي علیه السلام الناس حسب الرغبات النفسانية والاهواء والميول الذاتية، ونادراً ما نجد عالماً من العلماء قد قسم المجتمع وصنفه اشكال متعددة ومتنوعة. ومن ذلك: التقسيم النفسى كما عبرنا عنه من خلال قراءتنا لهذا الجانب من كلامه علیه السلام «وَ النَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَهَانَةُ نَفْسِهِ (1) وَ كَلَالَةُ حَدِّهِ (2) وَ نَضِيضُ (3) وَفْرِهِ. وَ مِنْهُمْ الْمُصْلِتُ [بِسَيْفِهِ] لِسَيْفِهِ وَ الْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ وَ الْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ، وَ لَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَ لَا يَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا، قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَ قَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَ زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَ اتَّخَذَ سِتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ

ص: 198


1- مهانة نفسه: وهو الاستهانة في ذاته وعدم وجود القدرة الدافعة لضعف نفسي شعوري من حالة الاستصغار الى حالة الهبوط المقلق.
2- كلالة حدة: يذكر صبحي الصالح في هذا المعنى «ضعف سلاحه عن القطع في اعدائه، يقال: كل السيف كلالة اذا لم يقطع والمراد اعوازه من السلاح».
3- نضيض وفره: معناه ضعف القدرة المالية حيث جاء في معنى الوفر: المال. الامام علیه السلام اعطى أربعة اصناف في النص الآنف الذكر وبقي صنف خامس ورد في نص آخر سنبينه انشاء الله.

ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ انْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لَا مَغْدًى» (1).

فالاول: الذي لا يمنعه من عمل الفساد الا لوجود ثلاثة نواقص لديه وهي:

ألف - عدم وجود القوة الذاتية التى تدفعه الى ارتكاب الجرائم نتيجة لوجود النقص الشعوري في نفسه واستصغارها في المواقف كافة.

ب - ضعف سلاحه عن الفتك بالآخرين.

ج - الضعف الاقتصادي وعدم وجود المال الوفير الذي يساعده على ارتكاب تلك الاعمال القبيحة.

أما الثاني: فهو الشاهر لسيفه.

«وَ مِنْهُمْ الْمُصْلِتُ لِسَيْفِهِ وَ الْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ وَ الْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ وَ لَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً».

هذا الصنف من الناس يختلف تماماً عن الذي سبق ذكره لانه قد شهر سيفه وأعلن الحرب وقاد الناس وجمع خيالتهم ورجالتهم وقد جهز نفسه ذاتياً ومادياً للقتال والعبث بمقدرات المجتمع ظلما وعدوانا تصوراً منه انه سوف يمكّنه ذلك من الحصول على الغنائم، ولكن من حطام الدنيا التي لا فائدة منها وكما يذكر الامام علیه السلام (مقنبٍ يقودُهُ أَو مِنبرٍ يفرعَهُ) والمقنب: هي طائفة من الخيول ما بين الثلاثين والاربعين والثاني الرغبة في نفسه لاعتلاء منبر ما أي للصعود والمباهاة .

ص: 199


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 74.

والبروز بغير حق.

والثالث: هذا الذي يطلب الدنيا بعمل الاخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا وهذا الصنف «قَدْ طامَنَ [خفَضَ] من شخصه، وقارَبَ مِنْ خطوهِ، وشمَّرَ من ثوبه، وزخرف من نفسِهِ للأمانةِ، وَاتَّخذَ سِتْرَ الله ذريعةً إلى المعصية». غايته تحقيق مآربه ورغباته حتى وان كان علی حساب ایمانه و دینه وتقواه. فان اصطدمت المصالح الذاتية في نفسه مع القانون الالهى والشرعة المقدسة وما خطه النبي صلی الله علیه و آله و سلم ضرب تلك الاسس المعنوية الربانية في قبال المطامح الشخصية الخبيثة للنفس الضعيفة التي اغراها بريق الدنيا الزائف. وهذا الصنف طالما نجده في المجتمع وهو الذي يدمر المسيرة الواقعية للمجتمع ويهدم البناء الانساني المتماسك في لحظة اشباع رغبة ما في نفسه، لانه سرعان ما يبيع كل القيم الاخلاقية والضوابط الشرعية التي وضعها الباري عز وجل بثمن بخس قليل الفائدة، عظيم التبعه، اثمانه في الآخرة غالية.

وأما الرابع: المتزين بلباس اهل الزهد.

«وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ انْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لَا مَغْدًى».

هذا الصنف من الناس له صفات عرّفها لنا الامام علیه السلام بالصورة التالية: حيث أن هذا النوع درس ذاته وعرف مدى توثبه وقدرته فيما وصلت حالته النفسية الى نقطة معينة اقنعها بالوقوف عندها غير متجاوز تلك النقطة لحقارة نفسه وتقطّع الاسباب عنده فوصل الى ما هو عليه من حال ونتيجة بحيث اقتصر على ذلك ولم يستطع التطور أو الاندفاع أو الوصول الى رتبة أعلى أو مكان متقدم فاعطى نفسه صورة القانع بما اعطاه الله، وكأنه قد زهد في هذه الدنيا غير

ص: 200

كادح لذاته فيها وقد سد منافذ رغبات النفس بهذه القناعة (الاجبارية) وهو ليس من ذلك فيما إذا راح في العشي أو ذهب في الصباح.

ان هذه الاصناف الاربعة هي في واقعها وحقيقتها الطرف السلبي في المعادلة الاجتماعية بل هي التي تعيق عملية البناء الاجتماعي لانه ليس هناك صفة ذميمة مؤثرة على خلق وسلوك الجماعة مثل هذه التي ذكرها امام المتقين، وهي اخطر مما يمكن ان نقول عنها انها الحالة الشاذة والمخربة في الكيان الاجتماعي.

لقد وصفهم الامام علي علیه السلام ذلك الوصف الدقيق في بيان واضح يدلل على معرفة شاملة وعميقة فيها نسميه في عصرنا هذا بعلم النفس الاجتماعي والذي من خلاله يمكن معرفة الكثير من الاثار العامة على السلوك الاجتماعي سواء تعلق ذلك الفرد والجماعة أو بالعلاقات العامة أوربما يخلق ظاهرة أجتماعية تلقي بظلالها على طبيعة مسيرة لمجتمع، والنتيجة المتوخاة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام هو بيان الاثر المدمر للسلوك المنحرف واثر ذلك على المجتمع سلبياً.

وهناك صنف خامس يختلف اختلافاً جذرياً عنهم ويبتعد فكريا وعملياً ألا وهو:

الرجال الذين في قلوبهم ذكر الله، أي اهل الايمان والتقوى والمعرفة والطاعة حيث يقول فيهم الامام علیه السلام:

«وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَكْلَانَ مُوجَعٍ، قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَ شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ، فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ، قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا» (1). 5.

ص: 201


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصا صبحي الصالح ص 75.

هذا الصنف من الناس نستطيع ان نسميه بالصنف الطاهر الا أن رجاله ينقسمون على خمسة اشكال متفاوتة في طبيعة وجودها في المجتمع الا انهم يشتركون فى صفات إيمانية اخلاقية واجتماعية واحدة. حالة واحدة يشتركون بها ايضاً هو الضغط السياسي والاجتماعي والحرب غير المعلنة بين اتباع الباطل واهل الظلم والجور وبينهم. وهذه الحالة لمثل هؤلاء الناس وجدت مع وجود الشر والطغيان على مر التاريخ الى عصرنا الحالي حيث لمسناها وعشنا حقيقتها فى الكثير من الاماكن والدول، وهم على خمسة اشكال:

أولهم: (شريدٍ نادٍ) الهارب المنفرد من هذه المجتمعات وطرق معائشها وسلوكيتها لما فيها من شوائب ذكرناها سابقاً.

ثانياً: (خائف مقمُوع) أي الخائف المقهور بالظلم.

ثالثاً: (وساكت مكعومٍ) وهذا ساكت لا يتكلم قد سد فاه لئلا يحدث ما لا يُحمد عقباه.

رابعاً: (وداع مُخلصٍ) الداعي الى الله باخلاص.

خامساً: (وثكلانَ مُوجَعٍ) وهذا الاخر الحزين المتألم للوضع السائد.

هؤلاء جميعاً من اهل الايمان والحق، وصاروا يتقون الظلم بحيث يعيشون بين الناس ولا نباهة لهم لاسقاط ذكرهم، وشملهم الذل في المجتمع وانهم يغوصون في بحر أجاج لا فائدة منه، وافواههم (ضامزة) أي ساكتة لا تتحدث للوضع الصعب الذي يعيشونه، واذا كانوا يعيشون في الوضع الصعب والضنك الشديد، بحياة نكدة تملؤها الالآلم والقهر فهم حتما سيعيشون بقلوب جريحة، وكما سار الانبياء علیهم السلام فى ارشاد اقوامهم حتى اتعبوهم فهم على الخطى ساروا مع مجتمعاتهم. وعظوا حتى مَلُّوا وسئموا الناس وتركهم الناس والمجتمع حيث لا أثر المواعظهم على النفوس التي مرضت وحال بينها وبين الحق الطمع الدنيوي

ص: 202

وحب الذات وماذا نتوقع من حال هؤلاء بين المجتمع الظالم الا ان يكونوا مقهورين غرباء في مجتمعهم حتى وصلوا الى مرحلة الزّل بالاضافة الى حالة القتل بالحكم عليهم بالموت حتى اصبحت اعدادهم قليلة في المجتمع. ليتمعن القارىء العزيز ويطبق ما يفهمه من هذا على حياته الاجتماعية والسياسية ويستخلص ماذا أراد امير المؤمنين علیه السلام في بيانه الواضح في عصره وما بعده وفي حياتنا الحاضرة ايضاً وكيف سيطر الشيطان على النفوس ودفعها نحو الشر والرذيلة والانحطاط الخلقي وبالتالي خراب الوضع النفسي عند المجتمع الذي يدمر كل مدنية وكل حضارة.

التقسم العلمي أو المعرفي

لقد بيّنا بعض التقسيمات التي صنّف بها الامام على علیه السلام المجتمع حسب بعض المفاهيم أو الصفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا جانب آخر من تلك التقسيمات هو التقسيم حسب المعرفة العلمية وهذا ايضاً له جوانبه المؤثرة على حياة المجتمع ومسيرته حيث يقول في جانب من کلامه لكميل بن زیاد النخعيّ. (1)

« ... النَّاسُ ثلاثةُ: فعالمُ رباني (2) ومتعلمُ على سبيل نجاة، وهمجٌ (3)

ص: 203


1- نقل صاحب كتاب مصادر النهج أن «كميل بن زياد النخعي التابعي المعروف، ادرك من الحياة النبوية ثماني عشرة سنة وروى عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم وروى عنه عبد الرحمن بن عابس وابو اسحق السبيعي والأعمش وغيرهم شهد صفين مع علي علیه السلام، وكان شريفاً مطاعاً ثقة.، وثقه ابن معين وجماعة وكان من رؤساء الشيعة قتله الحجاج سنة (82)».
2- العالم الرباني هو المتأله العارف بالله.
3- الرعاع: الأحداث الطغام الذين لا منزلة لهم بين الناس.

اتباعُ كُلِّ ناعِقٍ (1) يميلَونَ مَعَ كُلِّ ريحٍ لم يَستْضيئوُا بنُورِ العلْمِ، وَلَمْ يَلْجأُوا إلى رُكْنٍ وثيقٍ» (2).

المجتمع من الناحية العلمية عند الامام علیه السلام على هذه الانواع الثلاثة. الا أن اخطر هذه الانواع على المجتمع الصنف الثالث (جهلة الامة) الذين تسيّرهم الاهواء وتدور بهم الدولايب، ويجرهم القال والقيل، ويجمعهم العقل الجمعي بين الناس، وقد وصفهم الامام علیه السلام بالهمج - وهم الحمقى من الناس ثم أنهم يتبعون كل صيحة بدون علم ولا معرفة سواء كانت هدفها اعادة حق مغصوب، أو حركة باتجاه الباطل فهم مع الرياح اينما تميل يميلون معها، والسبب في كل ذلك انهم لا علم ولا معرفة لهم حتى يتبصروا الامور ويعرفوا حقائقها، فالعلم كما وصفه الامام علیه السلام نور يستضاء به في الظلمات ثم ليس لديهم أو في فكرهم أي استقرار أو هدوء في اعمالهم وحركاتهم وهم الادوات الذين يحركهم الناس كيفما شاءوا، لا استقرار لهم في رأي ولا مشورة لهم ابداً. تجلبهم الصيحة سواء كانت من هنا أو هناك كما يحرك مشاعرهم المال.

التقسيم الانساني

ينتقل الامام علي علیه السلام الى صورة أخرى في نقلة حضارية اخلاقية في منتهى الانسانية والشعور الفيّاض بالاحاسيس والمشاعر البشرية ويصنف المجتمع بشكل انساني آخر حيث يقسم الناس الى صنفين يشكلان عموم الامة، فالناس عند على علیه السلام صنفان «إمّا أخٌ لَكَ في الدِّين وَ إِمَّا نظيرٌ لَكَ في

ص: 204


1- الناعق: مجاز عن الداعي إلى باطل أو حق.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبده ج 4 ص 36.

الخلَقِ» (1).

وهذه نظرة انسانية عظيمة بل حضارية راقية لا يمكن أن يدرك مدى قيمتها الا مَنْ يمتلك عقلاً راجحاً وثقافة واسعة. تكلم بها امير المؤمنين علیه السلام واعطاها مبدأ عاماً للبشرية، وقانوناً انسانياً حضارياً أن طُبق بما جاء فيه سعدت البشرية وحلّ الامن والسلام. وما يطرحه أدعياء الحريات وحقوق الانسان من مبادىء عامة بهذا الشأن لا تعدو كونها محض نفاق وكذب والاشارات كثيرة فى هذا الجانب ولا مجال لذكرها. وهذا ما نراه فى عصرنا الحاضر وما سبقنا، حيث التبجح والتمسك الزائف بنصوص برّاقة ولامعة تحوي الخلق السليم على الورق والقتل والسبى والتشريد للشعوب المستضعفة على الارض. فالانسان عند علي علیه السلام اخو الانسان سواء كان في الدين وارتباطاته الوشيجة أو في الخِلقة، فالله خلقهم كلهم من آدم وحواء «يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكَرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم» (2).

أية نظرة عظيمة هذه بعيدة كل البعد عن العنصرية والتعسف والاستخفاف والاستهانة بالناس. اية صورة ناصعة هذه يعطيها على علیه السلام للحكام وللمجتمعات البشرية وللتعايش السلمي في الدولة الواحدة وبناء كيانها على اسس انسانية قل مثيلها. اين نحن الآن في عصرنا هذا من افكار علي علیه السلام وما نشاهده من تمييز عنصري وحقد ديني وصراع طائفي، وجرائم بشعة ترتكب بحق البشرية باسم الانسانية والدفاع عن حقوقها. ولننظر الى واضع اسس .

ص: 205


1- نص عهد الامام علي علیه السلام للاشتر.
2- سورة الحجرات: الآية 13.

الحرية والعدالة والانصاف علي علیه السلام تلميذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي قدم تلك الافكار المليئة بالروح والمعاني الانسانية ونطبق ما قدّم لنا وللمجتمعات الانسانية.

إن حالة التعايش الانساني الاخلاقي في المجتمعات تبعث الأمل في النفوس، ويعم النمو والانبعاث والتطور، وتبدعُ العقول فيها بعد أن اصبحت الحياة الاجتماعية واحة امان ومحبة وإيثار في ظل المبادىء السامية التي أعلنها علي علیه السلام (أمّا اخ لك في الدين)، فاذا كان كذلك فله حقوق تستوجب اداءها في الاسلام وقد شرح الدين ذلك ووضع افضل الصيغ للتعامل الاخوي والانساني. فاذا كان اخ في الدين يجب ان يتبادل الحقوق مع الاخرين. لان تلك المبادىء قوانين عامة وتامة لاتحتاج الى تمحيص، انما تحتاج الى تطبيق من خلال التربية الدينية والاخلاقية وترويض النفس حتى تُطوّع للعمل بتلك القيم

العظيمة.

و «ما يجري بين الناس بعضهم لبعض: من أداء الحقوق وتأدية الامانات والنصفة في المعاملات والمعاوضات و تعظيم الاكابر والرؤوساء واغاثة المظلومين والضعفاء. فهذا القسم من العدالة يقتضي أن يرضى بحقه، ولا يظلم أحداً، ويقيم كل واحد من ابناء نوعه على حقه بقدر الامكان، لئلا يجور بعضهم بعضا ويؤدي حقوق اخوانه المؤمنين بحسب استطاعته. وقد ورد الحديث النبوي: إن المؤمن على اخيه ثلاثين حقاً لا براءة براءة له منها إلا باداء أو العفو، يغفر زلته، ويرحم غربته، ويستر عورته، ويقبل عثرته، ويقبل معذرته، ويردُّ غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ویجیب دعوته، ويقبل هديته، ويكافىء صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته ويقضى حاجته، ويشفع مسألته، ويطيب كلامه، ويبر أنعامه، ويصدق اقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالما أو مظلوما، فأما نصرته ظالماً فيرده

ص: 206

عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على اخذ حقه، ولا يسأمه، ولا يخذله ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه». (1)

(وإمّا نظيرُ لك فى الخلق) وهذه ايضا لها مضامينها وضوابطها، فالدين الاسلامي مترجم بفكر على علیه السلام الذي طرح العدالة بمعانيها الحقة مطبقاً على نفسه أولاً ومراعياً كل الظروف التي تمر على المجتمعات من خير أو شر، يريد أن يبني مجتمعاً انسانياً بمعنى الكلمة فالانسان عنده الهدف في البناء، والبناء لا يكون الا باساس محكم والاساس المحكم هو العدالة المطلقة. فعلى كان لا يلتفت الى جانب انساني ويترك الاخر، انه ينظر نظرة شاملة للإمة، ويكون ذلك عبر الحكم بالحق كافة فلا ينسى مثلا (أهل الذمة وغيرهم) من اليهود والنصارى ومن الطوائف الاخرى فهو مثلاً يقول الى عمال بلاده:

«أمّا بعد، فإنّي قد سيّرتُ جُنوداً هي مارَّةٌ بكُم إن شاء الله، الله، وَقَد أوْصَيْتُهم بما يجبُ لله عليهم من كف الأذى، وصرفِ الشَّذى، وأنا أبرأُ إليكم وإلى ذِمَّتِكُم من معرّة الجيش».

يخبر الامام علیه السلام عماله وجباة الخراج بانه قد وجه جيش الى جهة معينة وهو يمر بهم، وانه قد اوصاهم بكف الأذى وابعاد شرهم عن الناس ثم يقول «وإلى ذِمَّتِكُمْ»، أي اليهود والنصارى الذين بينكم قال علیه السلام: (من آذى ذّميًا فكأنما آذاني) وقال: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، واموالهم كأموالنا، ويسمّى هؤلاء ذمة، أى اهل ذمّة، بحذف المضاف والمعرَة: المضَرّة، قال: الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين واهل الذمة إلّا من سدّ جَوْعة المضطر منهم خاصة، لان المضطر تباح له الميتة فضلاً عن غيرها». (2) .

ص: 207


1- النراقي - محمد مهدي - جامع السعادات ج 1 ص 81.
2- شرج نهج البلاغه - المجلد 17، ص 147.

أهل الذمة والاسلام

«إن حقوق الاقليات في الاسلام محكومة بموقف الاسلام الاساس من كرامة الانسان، ومن الاشارات القرآنية والنبوية المستمرة التي تنبه الى ان الناس خلق الله وعياله، وانهم من نفس آدم علیه السلام، وانهم نظراء لنا في الخلق على حد تعبير الامام علي علیه السلام، إذ نحسب ان علائق الناس درجات في التصور الاسلامي، فهناك العلاقة الانسانية التي يمكن أن تتم بانفصال تام عن مختلف فوارق اللون والعرق والدين. الانسان لمجرد كونه انسانا فيه قبس من روح الله». (1)

وهذا الصنف من الناس اي (اهل الذمة) كانوا يعيشون بامن وسلام في ظل المبادىء الاسلامية السمحاء وتؤخذ منهم الجزية وفقا لما فرضه كتاب الله وحددته الشريعة، ولذلك فان المسلمين كانوا مسؤولين عن امنهم والدفاع عنهم.

الدفاع عن المعاهدين

إن الامام علي علیه السلام يعتبر الدفاع عن المعاهدين من الضرورات الاساسية التي لا يجد فيها فرقاً بينهم وبين غيرهم من المسلمين. ففي وقائع الغزوات المتكررة لجيش معاوية بن أبي سفيان على قرى ومدن الدولة الاسلامية في

ص: 208


1- هويدي - الدكتور فهمي - مجموعة مقالات حقوق الانسان في الاسلام المؤتمر السادس للفكر الاسلامي. ص 382.

الانبار حيث قتلوا ونهبوا وسلبوا واحرقوا كل شيء للناس، فتأثر على علیه السلام تأثراً شديداً وحث اصحابه على الجهاد والقيام لمقارعة العدو بعد ان وجد فيهم التكاسل والتباطؤ والخذلان وقد قال في ذلك «وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَ الْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالاسْتِرْجَاعِ وَ الِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ. فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً». (1)

في هذا الخطاب ظهر حزن الامام علیه السلام لما جرى على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة أي من اهل الذمة الذي سلب جيش معاوية منها حجلها و (قُلْبها) السوار المُصْمَت وقلائدها و(رُعُتها) وهو ضرب من الخزر وهن لا يستطعن فعل شيء سوى ترديد كلمة (إنا لله وانا إليه راجعون) مع مناشدة هؤلاء القساة الرحمة، ثم بعد ذلك عادوا من حيث اتوا بدون أي شيء تامین العدد ولم يجرح منهم احد و (الكَلَّمُ) الجرح. ثم اسفه كان واحداً لتلك المسلمة والمعاهدة فهي تحت حمايته كما هي المسلمة.

لقد عبر علي علیه السلام عن عمق حزنه على أعمال هؤلاء الغدرة في قوله «فلو أن امراً مُسلماً مات من بعد هذا اسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عنه جديراً». فاهل الذمة عند على علیه السلام المصونون محفوظون في مالهم واعراضهم و كراماتهم. وهذه النظرة الانسانية التي لا نجد لها نظيراً في العصور السابقة حيث ان بلاد الاندلس عاش فيها المسلمون مئات السنين وبينهم اهل الذمة على عقائدهم لم يمسهم احد، وحينما دارت الدوائر على المسلمين، انزلوا السيف على .

ص: 209


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي حي الصالح ص 69.

رقاب المسلمين أو يحرقوا ان لم يرتدوا، وشُرّد الباقون منهم بحيث لا تشعر ان هذه البلاد ملكها المسلمون مئات السنين فلم يبق فيها الا نزر يسير اخفى دينه وايمانه. والاثار الاسلامية الباقية تدلل على الامتداد والعمق الاسلامى المتاصل في هذه الارض حتى عصرنا الحالي حيث التبعيض في المعاملة اتجاه المسملين وتقتيلهم وتشريدهم والعبث بكل مقدراتهم. وعلماء الاجتماع الانساني والمفكرون لم ينسبوا ببنة شفة حول ذلك، فليعملوا بما كان من معاملة أبناء الطوائف والاديان الاخرى كما كان يفعل على علیه السلام ويطبق بحقهم عامل العدالة والانصاف. ثم انهم لا يدخلون فى الجيش الاسلامى كجنود أنما كانت تحسن معاملتهم، وكانوا مع المسلمين على سواء أمام القانون في القضايا الحقوقية.

التقسيم الايماني

هناك تقسيم آخر عبّرنا عنه با (الايماني) وهو ضمن نطاق المجتمع بصورة عامة.

فقد قال الامام علیه السلام في قسم من خطبة له:

(شُغلَ مَنِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ ساع سَريعُ نَجَا وَطَالِبٌ بَطِيءُ رَجَا وَمُقصِّرٌ في النَّار هوى» (1).

هؤلاء ثلاثة أصناف بهيئات ايمانية مختلفة تنطبق في واقع الامر على حقائق ايمان الافراد واعمالهم للاخرة، وهذه الصفات ايضاً تترتب عليها امور كثيرة في حياة المجتمع وعلاقاته وطبيعة التعامل فيما بينهم.

فالامام علیه السلام تضمن معنى كلامه التأكيد على ان «من كانت امامه الجنة

ص: 210


1- نهج البلاغه - شرح الشيخ محمد عبده - ج 1 - ص 49.

والنار على ما وصف الله سبحانه فحري به أن تنفذ أوقاته جميعها في الاعداد للجنة والابتعاد عما عساه يؤدي الى النار». (1)

ثم قسم الناس «الى ثلاثة اقسام (الاول) الساعي الى ما عند الله السريع فى سعيه وهو الواقف عند حدود الشريعة لا يشغله فرضها عن نقلها ولا شاقها عن سهلها و (الثاني) الطالب البطي له قلب تعمره الخشية وله صلة الى الطاعة لكن ربما قعد به عن السابقين ميل الى الراحة فيكتفي من العمل بفرضه وربما انتظر به غیر وقته وينال من الرخص حظه وربما كانت له هفوات ولشهوته نزوات على أنه رجّاع إلى ربه كثير الندم على ذنبه فذلك الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهو يرجو أن يغفر له، والقسم (الثالث) المقصر وهو الذي حفظ الرسم ولبس الاسم وقال بلسانه انه مؤمن وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمال ظاهرة كصوم وصلاة وما شبابههما وظن أن ذلك كل ما يطلب منه ثم لا تورده شهوته منهلاً الا عبَّ منه ولا يميل به هواه الى أمر الا انتهى اليه فذلك عبد الهوى وجدير به أن يكون في النار هوى». (2)

التقسيم الاداري

الجند

وهو في تعبيرنا العسكري الحالي - القوات المسلحة - أي الجيش الذي يحافظ على الكيان السياسي والاجتماعي ويدافع عن الثغور من الاعداء ويقوم بالعمليات الجهادية من فتح للبلدان أو حفظ الامن العام، وهذا الصنف من

ص: 211


1- نفس المصدر السابق.
2- نفس المصدر السابق

المجتمع ذكر هم الامام علي علیه السلام في مواضع مختلفة نظراً لاهمية موقعيته في الدولة والمجتمع بصورة عامة، ثم حدد معالمهم وصفاتهم واهميتهم بالنسبة لقوام الكيان السياسي وصيانة امن البلاد والمحافظة على الانفس والارواح وهم هيبة الدولة والسلطان، واهتم بنوعية قيادتهم ثم عالج مسألة اسلوب تعبئة هذه القوات اي اعطى صورة التعبئة العسكرية التي يستخدمها هذا الجيش كما نقول في عرفنا المعاصر هناك تعبئة انكليزية أو امريكية واخرى المانية أو روسية وكل يختلف بعضها عن البعض الآخر ولهم نظريات معينة في كل واحدة من هذه الانواع، فالامام علي علیه السلام أيضاً له تعبئة خاصة يطلب تطبيقها على جنده في ايام الحرب وهذا جانب من تعبئته للجيش حيث يقول علیه السلام:

«فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ، وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَ الْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ، وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ، وَ رَايَتَكُمْ فَلَا تُمِيلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ». (1)

وفي كلام آخر له علیه السلام:

«وأَكمِلُوا اللّأمَةَ (2)، وقلقوا السُّيُوف (3) في اغمادها، قَبَلَ سَلِّهَا والحْظُوا الخَزْرَ (4)، واطعُنُوا الشَّزْرَ (5)، ونافحوا بالظُّبا (6)، وصلُوا السُّيُوفَ .

ص: 212


1- نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح ص 182.
2- اللامة: الدرع - وقد يراد به من اللامة آلات الحرب والدفاع واكمالها على استيفاءها الصالح.
3- قلقلُوا السيوف: حركوها في أعمادها والاغماد: جمع غمد: وهو بيت السيف (الصالح).
4- الخزر: محركه، وسكنها مراعاةٌ للسجعة الثانية: النظر من احد الشقين وهو علامة الغضب (الصالح).
5- الشزر: الطعن في الجوانب يميناً وشمالاً.
6- ونافخوا بالضبا: فافحوا، كافحوا وضاربوا، وهي طرف السيف وحده.

بالخُطا (1)، واعلمُوا أَنَّكُمْ بعين الله، ومع ابن عمِّ رسُولِ اللهِ، فعاودوا الكَرَّ، واستحَيُوُا من الفرِّ فإِنَّهُ عَارٌ في الأعقابِ ...» (2)

الدرع الحصين

يطلق على الجيش عادةً بالدرع الحصين لان الامة تتستر بالجيش في المواقع الخطيرة التي يتعرض فيها الوطن الى الغزو او الاعتداء أو السلب والنهب، فقال فيهم علي علیه السلام: «فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَْمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ. ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ» (3).

يعطى امير المؤمنين علیه السلام اهمية لوجود الجند فهم الدرع الواقي من الاعداء وبه تتحصن الامة خوفاً من الفتك أو سلب الممتلكات أو ازهاق الارواح والاعتداء على الاعراض وايجاد الخلل والارباك في حياة المجتمع، وهكذا يستمر بالكلام فيقول (وزين الولاة) أي أن الجيش للوالي أو الحاكم زين وما يزدان به بحيث يشعر الوالى بالمهابة والافتخار و علو الهامة، فالرؤوساء الآن يستعرضون قواتهم دائماً في الساحات العامة وامام الجماهير ويبرّزون ذلك اعلامياً ليفتخروا و تزداد قوتهم وصلابتهم من خلال الدفع المعنوي الذين يحصلون عليه.

ثم (وعز الدين) فقد قامت الدولة الاسلامية في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و قویت شوكتها بذلك النفر المجاهد من أهل بدر، ولولا تلك القوة البسيطة العدد القوية بالايمان لما استقام الامر، ثم تطورت الحالة الى تجييش الجيوش المقاومة

ص: 213


1- صلوا السيوف بالخطأ: صلوا من الوصل - أي اجعلوا سيوفكم متصلةً بخطأ أعدائكم، جمع خطوة.
2- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 584.
3- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر.

الكفار والمشركين وفتح البلدان حتى في وقت مرضه واالذي أعقبته وفاته صلی الله علیه و آله و سلم انفذ جيش اسامة لكي يرسله الى بلاد الشام وطلب من اكابر الصحابة بما فيهم الخليفة الاول والثانى ان يلتحقوا بهذا الجيش الذي عسكر بالقرب من المدينة ولعن من تخلف عنه.

ومع ذلك تخلّفوا عن ذلك الجيش، فالغرض من ذلك هو ان الرسول علیه السلام قد اهتم بأمر الجيش وامر الصحابة بالالتحاق به لانه عز الدين، وبه يكون الذود عن حمى المسلمين، والدفاع عن مبادىء الدین فاهتم بامره ذلك الاهتمام العظيم حتى ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد اعطى اجمل الصور المثالية للمجتمعات الانسانية عامة بتقديمه على اصحابه واتباعه ليصون ويحافظ على دين الله كما يذكر ذلك امير المؤمنين حيث يقول «وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اذا احمر البأس (اي اشتداد القتال واحجَمَ الناسُ، قَدَّمَ اهلَ بيتهِ فوقی بهم اصحابه حر السيوف والاسنةِ، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بَدْرٍ، وقتل حمزة يوم احد، وقتل جعفر يوم مؤتة، واراد من لو شئتُ ذكرت اسمه مثل الذي ارادوا من الشهادة ولكن آجالهم عُجِّلَت ومنيته أَجِّلت» (1).

وغالباً فان أي حاكم أو سلطان أو راعي رعية يريد الحصول على مجتمع متكاملٍ ومتكافيءٍ تحت أمرته ويقوده نحو الصلاح لابد وان يكون هو ذلك القائد امثولة لمن هو دونه في التضحية والفداء والسخاء والكرم والعفة والامانة، فالمجتمعات الانسانية تفتخر بمن هو قدوة وتعتز به لما أدركته فيه من خصال حميدة، واقدام شجاع، وتضحية جسيمة وخلق رفيع.

(وسبل الامن) الخاصية الثالثة هي القوة الصائنة التي يكون فيها حفظ 9.

ص: 214


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 369.

الامن والنظام في البلد، وتكون حياة الناس ومصائرهم محفوظة من الاخطار والاهوال والاستغلال، والمجتمع لا يقوم الا بهؤلاء المدافعين عن كيان الامة «وليس تقوم الرعية الا بهم».

الجيش والخراج

يؤكد الامام على الميزانية العامة للجيش، وتخصيص المبالغ الكافية لكي يكون هذا الجيش الذي يحمل تلك المزايا المهمة للبلد والمجتمع جاهزاً وكاملاً و مسلحاً تسليحاً قوياً وبدون المال لا يكون هناك جيش قوي ولا سلطة رصينة تحفظ المجتمع وتصونه وتجاهد عدوه و تصلح به ما فسد من أمر الامة، «ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذين يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم».

المثل العليا والقيادة العسكرية

اشارة

إن المجتمعات الرصينة تحمل صفات قادتها دائماً، فالقائد الشجاع يكون أمثولة صادقة لشعبه، والعسكري الباسل الذي يحمل الصفات الاخلاقية العالية والطاعة الكاملة والايمان العالى تكون صورته واعماله الحافز الاول والرئيسي لاقدام الجندي وبروز شجاعته وتضحيته في سوح الوغى، ولذا وضع معلم الانسانية الثاني بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الامام على علیه السلام تلك الخصال الطيبة في هذه الصور الرائعة «قولِ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك، وأنقاهم جيبا (1)، وافضلهم حلماً ممن يُبطىءُ عن الغضب، ويستريح إلى

ص: 215


1- أنفاهم جيباً: جيب القميص، طوقه، ويقال نقي الجيب أي طاهر الصدر والقلب. (عبده).

الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الاَْقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ. ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاَْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ. ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِکَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَکَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِکَ؛ وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّکَالاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِکَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ» (1).

قال ابن ابي الحديد «هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش، أمره أن يولِّى أمر الجيش من جنودهِ من كان أنصَحَهم لله فى ظنّه، وأطهرَهم جَيْبا، أى عفيفاً أمينا، ويُكنى عن العفة والامانة بطهارة الجيب لان الذي يسرق يجعل المسروق في جيبهن فإن قلت: وأي تعلّق لهذا بولاة الجيش؟ إنَّما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج! قلت لابد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم». (2)

من خلال كلام الامام علیه السلام نخرج بحصيلة من المعاني الاساسية والتي لها تأثير مباشر على سلامة المجتمع وما خص به الامام علیه السلام من كلامه وهو الجيش حيث يجب تولية قيادات الجيش الى مَنْ يحمل الايمان الثابت بالله والاعتقاد الراسخ برسوله والطاعة التامة للامام، ولا يكون عكس ذلك، بالاضافة الى تمتعه باخلاق عالية وعفة وطهارة وامانة واستقامة عامة تؤهله لهذا المنصب الحساس لان ما يتحمله هذا المنصب من مهمات وتنظيم وادارة واحساس 2.

ص: 216


1- نص العهد للاشتر
2- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 52.

وشعور بالمسؤولية تفرض أن يكون قائد الجيش حاملاً للخصال الحميدة من الشجاعة المتناهية والصلابة اتجاه الاعداء واللين والرأفة مع جنده في الاوقات التي تحتاج الى ذلك.

ثم «ممن يبطىء عن الغضب، ويستريحُ إلى العُذْرِ» أي يقبل أدنى عذر، ويستريحُ اليه، وتسكُن عنده الجند. ويرأفُ على الضعفاء أي يرفق بهم ويرحمهم، والرأفة: الرحمة، «وينبو عن الاقوياء»: يتجافى عنهم ويبعد، أي لا يمكنهم من الظلم والتعدّي على الضعفاء «وممن لا يثيره العنف»: لا يهيج غضبه عُنف وقسوة، ولا يقصد به الضعف أي ليس عاجزاً. (1)

«ثم الصق بذوي المروءات والاحساب واهل البيوتات الصالحة ...».

في هذا المقطع اعلاه يتوخى الامام من ولاته تنصيب قادة جنده على اسس اخلاقية وعلمية حتى يبعد كل شبهه تضعضع نظام الجيش وتخلخله فهو يختار الصفات المناسبة بدقة متناهية، نلاحظ من خلال ذلك مدى التفكير بالمستقبل فهو يبنى على اسس مدروسة تامة ذات اهداف بعيدة المدى تنبىء عن عقلية جبارة فائقة، فبعد أن يعطي المعالم الشخصية الاخلاقية للقائد يستمر في كلامه فيطلب ان يكون قادة الجند من المعروفين بانسابهم الطيبة واحسابهم المعروفة «وكان يقال: عليكم بذوي الاحساب، فإن هم لم يتكرموا استحيوا» (2)

ثم «وَأَهْلِ البيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوابقِ الحَسَنةِ» لان الشرف .

ص: 217


1- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 53.
2- المصدر السابق - م 17 - ص 53.

والكرامة والفضيلة هي من الاسس التي يقوم عليها كيان الجيش بدءاً من القائد الاول الى الادنى ونلاحظ ذلك الآن فى الاعلام الحربي وغيره لدى الكثير من الدول التي تؤكد على هذه الخصال وتلصق بجيوشها الخصال الرفيعة من الشرف والكرامة وتؤكد دائماً على ان الجيش هو الشرف الاعلى في المجتمع لما فيه من رفع المعنويات و «الجندية تعمل على بث روح الثقة الاجتماعية بين الافراد وحب الطاعة للنظام العام، والكراهة للتفرقة والانقسام، والحث على الاخوة والوئام والتعاون والتكاتف في سبيل مصلحة المجموع وتقديس الواجب وهذا الخلق الروحي هو جوهر ما ترمي اليه تعاليم الجندية ونظامها» (1) اذا كانت هذه الصفات تعطيها الجندية أو تربى روح المقاتلين عليها فما حال جيش العقيدة الاسلامية وجند على علیه السلام فمن المؤكد ان يكون على رأس هذا الجند من هم بتلك الصفات التي ذكرها الامام علي علیه السلام و تلک الخصال الحميدة الطيبة ثم عدد الامام بعضها وهى الاساس:

- من اهل النجدة.

- شجاع.

- سخي.

- من اهل السماحة

- امین.

كل هذه كما قال الامام علیه السلام «الجماعُ الكرام وشعبُ من العرف» أي ان هؤلاء القادة يحملون كل صفات الكرم وبالاحرى مجموعة من المكارم والمعاني الاخلاقية واقسام المعروف بكل انواعه. 5.

ص: 218


1- الراعي والرعية - ص 95.
علم النفس الاجتماعي في تعامل علي علیه السلام مع جنده

لقد وضح الامام علي علیه السلام اهمية الجند واثرهم الفعال في حياة الكيان العام السياسي والاجتماعي، ثم اعطى بعد ذلك وجهة نظره في اختيار القيادات العسكرية وصفاتهم وافعالهم السابقة، وعاد ليعالج مسألة حساسة وحيوية في مسيرة بناء الجيش والمحافظة على تنظيمه وتكامله والدفع المعنوي له حيث اخذ يعالج المسائل المتعلقة بالجند معالجة نفسية اجتماعية ثم يعطي رأيه السديد في هذا الامر حتى لا يبقى جانب من الجوانب المتعلقة بحياة وعمل هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع دون اهتمام أو بيان لها، فالقائد الشجاع والمميز بصفاته الاخلاقية الذي يهتم بامر جنده ويعينهم في وقت الشدة والحاجة هو الذي يجب ان يحضى بالمنزلة الرفيعة والاهتمام الكافي به «وليكن أثرُ رؤوس جندك عندك من واساهُم في معونته وافضل عليهم من جدته بما يسعُهُم ويسَعُ من وراءهُم من خلوف اهليهم حتى يكون هُمُّهم همّاً واحداً في جهاد العدو» (1).

فالامام علیه السلام في التفاتة رائعة الى الجانب الاجتماعي والنفسي للجند يقدم لنا صوراً للتعامل الاسلامي العظيم فيؤكد على ان يكون افضل قادة الجند لديك من و اسی جنده بما حمله من المال وصرفه عليهم وعلى اهليهم الذين خلفوهم في مساكنهم من اولاد ونساء والذين لا يوجد أحد لديهم يعيلهم أو يمدّهم بالمال والغذاء الا ذلك المجاهد في سبيل الله الملتحق بالجيش، وهذه مسألة في غاية الاهمية حيث لها اثار اجتماعية ونفسية عظيمة وضحها الامام علیه السلام بجلاء حيث قال: «حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدوِّ» فالجندي اذا ما ضمن المعيشة أو الاستقرار المادي والامني لاهله من بعده وعدم وقوعهم في حالة

ص: 219


1- نص العهد للاشتر

العوز والفاقة فإنه لا يلتفت الى وراءه وتكون جهته هي جبهته وهمه هو قتال عدوه وهو معتقد حتى وان اسُتشهد فانه مطمئن البال وينام قرير العين في مرقده النهائى، فلا يمكن ان يكون الجندي في ساحة المعركة فكره مشغول بامور عائلته، وقد يترافق مع تلك الاموال سوء معاملة القائد العسكري لجنده حيث يترك ذلك الاثار السلبية الذي ينتج عنه الفرار وانكسار الجيش وهزيمته امام العدو.

لقد اعطى الامام علیه السلام الجوانب الايجابية للمعاملة الحسنة والاثار السلبية للمواقف السيئة، وأكد ان عطف القائد ورعايته للجند يبعث الراحة والطمأنينة لديهم وبالتالي يعود ذلك عليه خيراً حيث يقدم الجند انفسهم وارواحهم على اكفهم حيث يقول علیه السلام: «فإن عطفك عليهم يعطف قلوبَهُم عليك» وبالتالي فان الجند سوف يبادولون القائد نفس الحب والحنان والمودة.

العلاقة الانسانية ومودة الامة

هناك ترابط قوي بين اهتمام الوالى بالعدل والاحسان وبين ظهور مودة الرعية للوالي ونصحهم في ذلك وقد قال علي علیه السلام:

«وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ؛ وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ الاُْمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْک اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ» (1).

وينفك عن هذا الارتباط الجندي الذي لا يمكنه التضحية في ساحة الوغى أو النصح لولاته إذا كان لا يرغب بهم ولا يميل الى ودّهم حيث يستثقل وجودهم

ص: 220


1- نص العهد للاشتر

مع دولهم ويتمنى زوالها لما عاناه منهم.

اما اذا كان الأمر عكس ذلك فانهم «لا يستبطوا انقطاع مدتهم، بل يعدون زمنهم قصيراً يطلبون طوله» (1).

حيث ربط الامام علیه السلام بين ما سبق وما لحق من تبادل النصح والمحبة بين الجند والوالي وبين ما يتبع ذلك من واجبات وحقوق، فالقائد الذي له صفات جيده له اثر كبير على المعنويات والمجتمع بصورة عامة.

حسن الثناء ورفع معنويات الجند

ان رفع المعنويات لا ينحصر بصورة المعاملة والرابطة التي ذكرت آنفاً بعد بل ذكر الامام على علیه السلام جوانب اخرى نفسية اجتماعية لها اثر فاعل في وضع الجند وقادتهم «وَ وَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ، إِنْ شَاءَ اللهُ. ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِئ إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّکَ شَرَفُ امْرِئ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا کَانَ صَغِيراً، وَلاَ ضَعَةُ امْرِئ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا کَانَ عَظِيماً (2).

فعد المفاخر والمآثر لمن هم ابلوا بلاء حسناً، وحُسن الثناء عليهم وابراز بطولاتهم بتعداد ذلك يهز الشجاع منهم ويزيده بسالةً وبطولة واقداماً وجرأةً، (و تحرض الناكل إن شاء الله) أي المتأخر القاعد من الناس.

ان ابراز الشخص البطل امام المجتمع بصورة الانسان الذي لا یرهب

ص: 221


1- نهج البلاغة - الشيخ محمد عبده - ج 3 ص 93.
2- نص العهد للاشتر.

الموت، وتخافه الاعداء وله سيف صارم سيكون له التأثير الايجابي الفعال على اندفاع الاخرين وستجعله مرفوع الهامة له الموقع المحترم في قلوب الناس جميعاً وعائلته واهل بيته يفتخرون به، ويعدون مناقبه وبطولاته كرجل قوي وشهم وشجاع، أن هذا الامر قريب جداً من حياتنا الاجتماعية حيث عايشنا هذه الحالات في مجتمعاتنا، وفي العالم اجمع فالشخص الجبان المتخلف عن الجيش الفار من ساحة القتال يعيّره الناس وينتقصون من شخصيته بحيث يصبح مهان الجانب، وهذه تقريباً كانت ولا زالت عرفاً اجتماعياً له حساسيته وفاعليته في النفوس وأكثر ما تكون اثارها السلبية في المجتمعات البدوية بصورة عامة «ثم امره أن يذكر فى المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم، فإن ذلك مما يُرهف عزم الشجاع ويحرّك الجبان، قوله «ولا تُضمَّنَّ بلاء امرىءٍ الى غيره» أي اذكر كلَّ من ابلى منهم مفرداً غير مضموم ذكرُ بلائه الى غيره، كي لا يكون مغموراً في جنب ذكر غيره، ثم قال له: لا تعظم بلاء ذوي الشرف لاجل شرفهم، ولا تحقر بلاء ذوي الضّعة لضعة انسابهم، بل اذكر الامور على حقائقها» (1)

القضاء

السلطة القضائية ودورها الاجتماعي

وردت معاني وتعاريف متعددة للسلطة القضائية الا أننا نجمل الامر في واحد من هذه التعاريف ثم بيان مهمات هذه القوة النافذة سلطتها على المجتمع بحكم التشريع بما ثُبت في الدين من احكام وقوانين الغرض منها اصلاح حركة المجتمع اليومية وتقويم معاملاته ودفع الظلم والحيف عن بعضه الآخر.

ص: 222


1- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 54.

«السلطة لغة معناها القهر وقيل التمكن من القهر ويقال سلطة الله عليه أي جعل له عليه قوة وقهر أو فى التنزيل العزيز: (ولو شاء الله لسلطهم عليكم ...) (1)، وقال الصاغاني «والتركيب يدل على القوة والقهر والغلبة» وقد عرف البعض السلطة القضائية بأنها «القوة والتمكن من تنفيذ احكام الله تعالى بين العباد على جهة الالتزام» (2).

وليس غريباً على القارىء اللبيب ما للسلطة القضائية من اهمية واضحة ومؤثرة في حفظ توازن المجتمع وصيانته من الانحراف المتنوع والغصب العمدي للحقوق والظلم على اختلاف نوعه وحجمه والذي يمارسه الاقوياء بحق الضعفاء أو العابثين بحق المسالمين، بل القضاء هو ميزان العدالة في وسط الناس وقد تنوعت المعايير بهذا الشأن واصبحت قضية العدالة الاجتماعية محور طرح النظريات السياسية والاجتماعية سواء كانت في عالمنا المعاصر هذا أو القرون الغايرة - فالانبياء علیهم السلام بعثوا من اجل ايجاد العدالة وتثبيتها في الارض للمحافظة على حياة ومكاسب الناس حتى يستشعر الناس بطعم السلامة والامن فى كافة نواحي الحياة وقد جاء نبينا محمد صلی الله علیه و آله و سلم برسالته السمحاء، خاتمة الرسالات السماوية التي أحيت القلوب بعد موتها وعمرت الارض بعد خرابها وطيبت النفوس بعد مرضها وجمعت الشتات بعد التفرق وزرعت الامن بعد الطغيان والعبث بالمقدرات، حيث وضع كل شيء في مكانه الطبيعي، وبنى المجتمع بناءً اخلاقياً وان كانت هناك بعض القلوب المريضة التي لم يدخل الايمان بعد فيها وهذا شيء طبيعي في مجتمع الجزيرة العربية الذي كان يعيش في وضع البداوة ولم 7.

ص: 223


1- النساء: 90.
2- النظام السياسي الاسلامي مُقارناً بالدولة القانونية ص 137.

يألف الاحكام الشرعية والقوانين الالهية الا ما توارث من اعراف وتقاليد جاهلية ما عدا بعض المفردات الطاهرة هنا وهناك وخصوصاً عند الموحدين أو بعض السنن القبلية التي يحملها الافراد وفي طياتها الصفات الاخلاقية الطيبة، وهذا القليل يضيع طيبه في البحر الاجاج من الافكار الناقصة والمتخلفة بطبيعة الحال، وهذا ما جعل البدوي حراً طليقاً لا يعرف معنىً للقيود الاجتماعية فهو يريد أن يطلق العنان لفرسه لكي يغزو اخاه وينهب ماله ودوابه ويستحل نساءه فلا حكم لديه الا السيف والغارة والثأر، وكم اخذت هذا الطباع الجاهلية من تلك الامة واثرت على مدينتها وارتباطها بالعالم المتحضر نسبة الى وضعها العام، ان الجاهلية حكمت بين الناس بان القوي يأكل الضعيف فاخذ يستند بعضهم الى بعض ويتعاهدون في السراء والضراء لانهم امام عدو مشترك لا يعرف الرحمة وهو الجهل والظلم حيث لا امان في أي مكان، والدفاع عن النفس حق شخصي وعرفي بعض الاحيان وليس للدولة أو القضاء وانه لا دولة هناك والقضاء ما تحكم به القبيلة وهو الحل والفصل، باستثناء بعض التحركات بتشكيل الاحلاف لمقاومة ومقارعة الظلم ومنها على سبيل المثال (حلف الفضول) و (حلف المطيبين) وغيرها.

وما حدث في التاريخ من وقائع لا مجال لسردها في هذا المكان الا اننا نقول في هذا الخضم جاءت نبوة محمد صلی الله علیه و آله و سلم بالنعمة والخير لهذه الامة واحدثت طفرة نوعية في حياة ذلك المجتمع الجاهل وحولته الى طاقة فعالة، وصنع منهم الرسول الاكرم صلی الله علیه و آله و سلم ما يعجز الوصف عنه وبنى تلك الدولة العظيمة بتلك التشريعات التي اصبحت مثلا أعلى يُقتدى بهم، وسار بهم باخلاقه، ومبادئه، وحكمه وفصله بين الناس التي استشعرت الرحمة والاستقرار الاجتماعي، وشرّع لذلك المجتمع القوانين وقسم السلطات ونظّم امر البلاد ومن جملة ذلك القضاء حيث

ص: 224

اهتم به ودَلَّ على احكامه، وما ارسال أمير المؤمنين علیه السلام الى اليمن للقضاء بين الناس الا دليلاً على اهتمامه بهذا الامر الحيوي، وقال صلی الله علیه و آله و سلم: (أقضاكم على). فالقضاء منصب حساس ومؤثر به يُنشر العدل والسلام ويُمحى الظلم والظلام من المجتمع، ولهذا اهتم علي علیه السلام بامر القضاء لانه العمود الذي يتكيء علیه کیان المجتمع ويحفظه من الجرائم المتنوعة والتجاوزات اللامشروعة، وفيه دحض الباطل واحقاق الحق، ثم سعى الى جعل رجال القضاء ممن تتوافر فيهم كل الجوانب الايجابية ففي مخاطبته لمالك الاشتر النخعي رحمه الله:

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِکَ فِي نَفْسِکَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِکَ قَلِيلٌ؛ ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْکَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِکَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِکَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَکَ. فَانْظُرْ فِي ذَلِکَ نَظَراً بَلِيغاً» (1)

من خلال طرح هذا النص المتقدم يظهر العمق الفكري القانوني والاجتماعي والفقهى للامام علیه السلام، وانا الآن لست بصدد البحث في صلاحيات القاضي والنواحي الفقهية المتعلقة به، أو اراء المذاهب الفقهية في القاضي وما الى ذلك فانه ليس من هدفي ذلك وغير متعلق ببحثي الذي اريد منه تبيان الدور المهم .

ص: 225


1- نص العهد للاشتر - الصالح ص 435.

للقضاء في تثبيت العدالة الاجتماعية، وسوف احصر حديثي بكلام امير المؤمنين علیه السلام و استخلص منه الحقائق الوافية والتي تفيدنا كباحثين في المجالات الاجتماعية. من

«أما كلمته علیه السلام [ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة] فهي لعمر الحق مما تجعل أفكار ارباب القانون ازاء هذا اللفظ الموجز والتعبير البليغ الحسن الذي هو أول شرط يجب مراعاته من جانب واضع القانون أما ما اشتملت عليه هذه الكلمة من دقة المعاني وفخامة اللفظ ورقته فندع تقديره لأهل الادب الراقي ولأصحاب الذوق السليم من طلابه، ومن جملة اسرار هذه الكلمة التشريعية انه اشترط - سلام الله عليه - أن لا يكون الحاكم مماحكاً لجوجاً في مرافعة الدعاوي ومناقشة الخصوم، أي يتحاشا استعمال الضغط والشدة والخشونة حينما يطلب من احد المتداعين تقديم مدافعاته اللازمة أو يجبره على عرض اعتراضاته ومستنداته اثناء المرافعة من دون أن يمهله المهل المطلوب قانوناً حتى يضطره على ترك تعقيب دعواه أو اهمال حقوقه». (1)

الصفات الواجب توفرها في القاضي
المنتخب عند الامام على علیه السلام:

1 - افضل الناس من الرعية يعرفه الوالى وقد خَبرَهُ بذلك.

2 - لا تعسر به الأمور.

3 - لا تجعله المخاصمة لجوجاً مصراً على رأيه، واذا شعر بخطأ حكمه رجع وعاد دون أن تأخذه العزة بالاثم بحيث لا يتثاقل حياءً من الرجوع الى الحق اذا عرفه.

ص: 226


1- الراعي والرعية ص 46، 1403 ه.

4 - ولا تشفق نفسه، وتخاف من فوت المنافع والمرافق (1)

5 - ان يكون قادراً على اصدار الحكم النهائى بعد التأمل والمراجعة والتدقيق أي لا يأخذ اول فهم عن المخاصمة فيصدر حكمه.

6 - الوقف على الشبهات، فقد تعترض الحكام الشبهات في القضايا الجزائية اكثر منها في القضايا الحقوقية، ولهذا وضع علماء الجزاء - في القرن الاخير - قاعدة ذات أهمية كبرى، حتى أصبحت مثلاً سائراً وهي «ان براءة الف مجرم خير من تجريم بريء واحد»، وقد أرادوا بهذه القاعدة تنبيه الحكام وايقاظهم على ان يحذروا الشبهات التي تدفعهم الى أنزال الحد والعقاب بحق الابرياء من جراء ما يحصل في التحقيق من تضليل أو ما يسببه شهود الاثبات أو الدفاع من تلفيق وتصنيع، الى ما هنالك من شبهات مريبة وأضاليل مضللة ورحمة بأمثال هولاء الابرياء، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ادرؤا الحدود بالشبهات) وقد سار علماء الجزاء كافة والمشرعون لقوانين العقوبات على هذا الاساس فوضعوا قاعدة عامة متبعة وهي:

«اذا حصل شك في مفهوم مواد القانون الجنائي فيجب تفسيرها وتأويلها الصالح المتهم». (2)

7 - لا يضجر أو يتململ اثناء الخصومة.

9 - بعد اتضاح الامور يجب ان يكون صارما في اصدار الحكم.

10 - لا يؤثر عليه أي اطراء أو مدح وثناء غايته التزلف والتقرب اليه وبعد ذلك يجعله بعيداً عن الحق.

11 - يقف على حكمه العادل ولا يؤثر عليه تحريض أو اغراء. 2.

ص: 227


1- شرح نهج البلاغة - م 17 - ص 60.
2- الراعي والرعية - ص 52.
مسؤولية الولاة اتجاه القضاة

على الوالي واجبات مهمة يجب أن يؤديها اتجاه القضاة هى (اكثر تعاهد قضائه) وهذه مسألة مهمة جداً، أي يجب عليه مراقبة قضاته ومتابعة احكامهم التي أصدروها «وقد رأى الامام علیه السلام أن مصلحة القضاء ورعاية العدل في المملكة تقضي على ولي الامر ان يكثر من مراقبة اعمال و تصرفات القضاة أو الحكام من حين لاخر وان كانوا متصفين بالاوصاف السابقة وانهم افضل الرعية علماً واخلاقاً لان محاسبة النفس وضبطها والشعور بالمسؤولية قد يكون ضئيل الاثر في نفوس بعض المسؤولين فأراد الامام علیه السلام ان يكون هذا الحق قوياً وعميقاً في نفوس الموظفين عامة والقضاة خاصة فعهد الى عامله أن يكثر تعاهد قضائه أى تطلعه على أحكامه واقضيته وضمير (قضائه) يعود لافضل الرعية وهو القاضى الموصوف بالاوصاف المتقدمة وقد أخذت حكومات العالم كافة في هذا العصر بهذه النظرية الحكيمة» (1).

وقد اسست لذلك في الوقت المعاصر أنظمة للتفتيش العدلي لمتابعة احكام القضاة.

القاضى والمنزلة الرفيعة

لقد أهتم الامام على علیه السلام بمكانة القاضى ومنزلته حيث قال علیه السلام مرة لشريح: «یا شریح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيٌ أو وصيّ نبي أو شقي (2).

وعلى اساس ذلك حذر الامام علیه السلام من سقوط القاضي في المفاسد المدمرة

ص: 228


1- نفس المصدر السابق ص 54.
2- الكليني - فروع الكافي - تحقيق العلامة الشيخ محمد جواد الفقيه - فهرسة وتصحيح الدكتور يُوسف البقاعي - م 7 - ص 403 - كتاب القضاء والاحكام - دار الاضواء للطباعة والنشر - بيروت - الطبعة الاولى.1413 - 1992.

والتي منها مثلا ارشاء القاضي وشراء ذمته وغير ذلك من الاحوال المشابهة وقد عُني امير المؤمنين علیه السلام بهذا الامر بأن وضع عطاءً خاصاً متميزاً للقضاة بالاضافة الى المكانة المميزة له في مجلس الوالي حتى لا يقع تحت المؤثرات الضارة ولذا قال علیه السلام: «وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْکَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِکَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِکَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ عِنْدَکَ».

إن اشارات على وارشاداته واضحة بشأن القاضي حيث أمر ولاته: « ... ان يفرض له عطاء واسعاً يملأ عينه ويتعفف به عن المرافق والرشوات وان يكون قريب المكان منه، كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به تقبيحهم ذكره عنده ... ثم قال: (أن هذا الدين قد كان اسير) هذه اشارة الى قضاة عثمان واحكامه، وأنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده، بل بالهوى لطلب الدنيا، واما اصحابنا فيقولون: رحم الله عثمان! فإنه كان ضعيفاً واستولى عليه اهله، قطعوا الامور دونه، فاثمهم عليهم وعثمان برىء منهم» (1).

إن المواصفات العامة والحقوق الخاصة للقاضي قد بينها امير المؤمنين علیه السلام بياناً واضحاً ولو قارنا هذه النقاط التي ذكرناها مع ما هو موجود في شأن القضاة وامورهم حالياً والتي يتبجح بها مشرعو القوانين في الغرب والشرق بتطورها وتقدمها على غيرها لعرفنا ان كل هذه التشريعات والمواصفات والمزايا قد وضعها علي علیه السلام.

ان القاضى هو سلطة منفردة مستقلة عن ن كافة التأثيرات الاخرى والاّ فشل القضاء وتضعضعت العدالة الاجتماعية وانهارت الاسس التي اعتمد عليها، .

ص: 229


1- شرح نهج البلاغة - م 17 - ص 60.

وللاشارة الى ما عاصرناه لم نجد مكانة صحيحة ومتوازنة للقضاء الا في الدين الاسلامي حيث ان الذين يدعون باستقلالية القضاء فانه لا وجود لذلك الا ما ندر وان اهل التشريعات القانونية ربما نسوا او تناسوا ان مفكر العدالة الانسانية وواضع ثوابتها واسسها على علیه السلام قد وضع الاسس الصحيحة للقضاء وقوانينه بدقة متناهية واعطى الصفات العامة للقضاة والتى حصلت على الريادة في تنظيم وحماية القضاء حيث تم صياغته في فكره الجبار، وانه مُهياً للتعامل والعمل به في أي مجتمع وفي أي ظرف كان، لان الاحكام الالهية تتعامل اولاً مع ذات الانسان وجوهره وحقيقته وليس مع المادة المتغيرة المحيطة به، فالقوانين شرّعت لتقويم السلوك الانساني وايقاف الانحراف لدى الافراد والمجتمع، اذ ليس العقوبة بذاتها هي الهدف، انما الهدف هو منع وقوع الجناية.

درع علي والنصراني

إن القضاء العادل يأخذ قوته من امكانية تطبيق الاحكام القانونية على الجميع بصورة عادلة حتى وان كان احد المتخاصمين اميراً للمؤمنين والاخر من افراد الامة وبالذات من أهل الذمة، وهذه اللوحة النادرة هى واقعة تاريخية حقيقية تركت الاثر الخالد للاقتداء بها، واعطت الصورة الناصعة لمعنى العدالة الانسانية، فقد جسدها علي علیه السلام حين وقف يتقاضى مع نصراني عند شريح كما «نقل الثعلبي - عن ابن الاثير: إن علياً وجد درعاً عند نصراني فاقبل الى شريح قاضيه وجلس الى جانبه يخاصم النصراني مخاصمة رجل من رعاياه، وقال: إنها درعي ولم أبع ولم أهب، قال شريح للنصرانى ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟

ص: 230

قال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين بكاذب؟

فالتفت شریح، الى عليّ يسأله: يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟ فضحك على وقال: أصاب شريح، مالي من بينه؟ فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى ... وأمير المؤمنين ينظر اليه ... إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام انبياء ... أمير المؤمنين يدينني الى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، الدرع والله درعك يا امير المؤمنين». (1)

هذه القضية لا تحتاج الى توضيح فصورتها تدلل على المعاني السامية في العدل والحق والانصاف بهذا المستوى الرفيع يتطلّع المجتمع نحو الافق الحضاري والاداب العالية واتخاذ المنهج الصادق والعادل في العلاقات العامة بين الجميع الى ذلك يتلاحم هذا السلوك مع القانون الالهي في عملية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حينئذٍ يتعاضد المجتمع في اروع عملية بناء اخلاقي ضمن الحدود الشرعية التي جاءت بها الرسالة المحمدية «الا أن الشريعة الاسلامية لم تأت بنظام قضائي مجرد يحتوي على اداب قضائية ونظام خاص بالعقوبات فحسب، بل جاءت بنظام متكامل للحياة الاجتماعية، فحاولت تربية الافراد على النظام الاخلاقي، فحماية الممتلكات و اجتناب العنف قضية ذاتية وحاجة يشبعها الايمان الفطري بمبدأ الرسالة الالهية، وما فكرة أن للافراد موعداً لمحاسبة اعمالهم إلّا ترسيخ لذلك الايمان الفطري عند الانسان فالنظام الاخلاقي الديني يعقل الفرد ويجعله متماسكاً مع نفسه، فلا يتعدى على حرمات الآخرين من قتل، أو سرقة أو غش وكل ذلك يتم لا بسبب العقوبات الشرعية الشديدة اتجاه م.

ص: 231


1- جعفر - الدكتور نوري - علي ومناوتوه ص 190 - دار النجاح - القاهرة - الطبعة الرابعة، 1976 م.

المنحرفين فقط، بل بسبب الوازع الاخلاقي الذاتي الذي زرعه الاسلام في نفوس الافراد، ولكن الاخلاقية الاجتماعية وحدها قد لا تكفى لردع الانحراف واشباع الحاجات الاساسية في الحماية وإجتناب العنف، وهنا يلعب القضاء ونظام العقوبات دوره الرئيسي في حفظ النظام الاجتماعي من عبث المنحرفين، فالتهديد بالعقوبة الجسدية أو المعنوية مع انه يؤدي الى التعايش السلمي بين الافراد، الا أن تنفيذ تلك العقوبات هو الذي يجعل الاخلاقية الاجتماعية قضية الزامية لا مفر منها، وفي ضوء ذلك نفهم مغزى تشريع نظام الاحكام والعقوبات من قبل الرسالة الدينية، فهى احكام وعقوبات تتناسب مع حجم الانحرافات المرتكبة من قبل الافراد». (1)

الاحكام القضائية والوضع الاجتماعي

أن الدين الحنيف بمبادئه السمحاء ورؤيته الشاملة لتفاصيل حياة الناس لم يضع القانون القضائى سيفاً مسلطاً على رقاب الامة بحيث يعاقب الافراد بدون رؤية خاصة الى ما خلّفه المجتمع من افرازات سلبية فالسارق في المجتمع هو عنصر منحرف وغير مرغوب فيه وهناك عقوبة خاصة له الا ان الحكم الاسلامي يلاحظ مدى حاجة هذا الفرد الى الطعام ومدى تبني المجتمع لسداد حاجاته واشباعه فقد لا يطبق عليه الحكم الشرعى مباشرة لان مستويات الفقر المتدنية هي السائدة في المجتمعات، فالاول اشباع هذه البطون المطوية وبعد

ص: 232


1- مباني النظرية الاجتماعية في الاسلام، ص 419.

ذلك نستطيع اقامة الحد عليه وهذه هي نظرة واقعية تحقق البناء الخلقي السليم للمجتمع، كذلك فان الشرع الاسلامي قد بيّن عقوبة الزاني للمحصن والمحصنة وغيرهما وذكر الكتاب المجيد احكام ذلك الا أن المسألة ليست بهذه السهولة فالامر يحتاج الى اربعة شهود ان اصبحوا ثلاثة يعاقبون هؤلاء الثلاثة ويجلدون وتصبح العملية قذفاً، بالاضافة الى ذلك فالاثبات يحتاج الى مشاهدة عينية وتأكد من ان العملية قد تمت في مجالاتها المحددة، أو اقرار الزناة انفسهم عدة مرات وفي ذلك احكام فقهية خاصة بها، فالهدف هو منع اشاعة الفساد والفاحشة بين الناس وما سُتر عن الناس لا يمكن كشفه فالستر هذا له اسباب اجتماعية وخلقية والكشف هنا له سلبياته الافتضاحية، وانتشار خبر الرذيلة بين الناس يحطم القيم المعنوية والروابط الاجتماعية في الحياة العامة ويخلق نوعاً من التفكك في الكيان الاسري والاجتماعي.

وصايا اساسية

لم يخلو كتاب من وصايا أو حِكم ودروس نافعة وهو دائماً يُذكرّ ولاته بصلاح الامور ويعلّمهم الاحكام بصورة واضحة حتى لا يخفى عليهم شيء، وهذا ظاهر في رسالته القضائية الى رفاعة بن شداد البجلي؛ قاضيه على الاهواز: «إقض بالظاهر، وفَوَّض إلى العالم الباطن، دَعْ عنكَ أَظُنُّ واحسبُ وأرى، لَيْسَ في الدِّيْنِ إشكال، لا تُمارِ سفيهاً ولا فقيهاً، أما الفقيهُ فيحرمُكَ خَيَرَهُ، وأَما السَّفِيهُ فيحزُنُك شَرُّهُ، لا تُجادلْ أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن: بالكتاب والسُّنّة، لا تُعوّذ نفَسكَ الضِّحكَ فإنَّهُ يذهَبُ بالبهاءِ، ويُجرِّيُ الخصومْ على الاعتداءِ، إياك وقبُولُ التُّحفِ من الخصوم ...» (1)

ص: 233


1- نهج السعادة - المجلد 4 و 5 ص 35.

إنَّ النص أعلاه يدلل على أن الامام كان يهتم باخلاق القاضى أيضاً وليس طريقة عمله فقط، ومعاملة اتباع الاديان الاخرى من اصحاب الكتب السماوية معاملة حسنة اثناء مجادلتهم، ثم عاد للتوجيه الاخلاقى وتبع ذلك تحذيره الشديد من الارتشاء تحت ظل الهدايا وحيث يتخذ الناس اساليب متعددة في دفع الرشوة تغطي اسمها وتحمل في داخلها معناها للتأثير على حكم القاضي وصَرِفه الى جانب احد الخصوم، أو يقول علیه السلام في جانب من الكتاب «أقم الحدود في القريب - يُجنبَّها البعيدُ، ولا تُطَلُّ الدِّماء ولا تُعطِّلُ الحدودْ». كذلك يعطي الامام علیه السلام و الصورة المثالية للقاضي المسلم من خلال الوصايا التي كان يوصى بها دائماً قضاته « ... ثم وأس بين المسملين بوجهك و منطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك و لا ييأس عدوَّك من عدلك، وردَّ اليمين على المدعي مع بيِّنة فإنَّ ذلك أجلى للعمى وأثبت في القضاء» (1) وكذلك يوّجه شريح القاضي ويأمره بقوله علیه السلام «لا تسارَّ أحداً في مجلسك وإن غضبت فقم فلا تقضين فأنت غضبان» (2).

وأيضاً قوله علیه السلام «العلم ثلاثةُ: اية محكمة، وسنَّةٌ متَّبعةٌ، وفريضةٌ عادلةٌ، وملاكُهُنَّ أمْرُنا ولا تقض وأنت غضبان ولا من النوم سكران».

اذن القضاء الذي يريده امير المؤمنين علیه السلام هو القضاء الاسلامي الذي فصّل كل اموره بحيث لا تغبن حقوق الناس وتضيع، واكد ان العلاج للداء اولاً وهي الامراض الاجتماعية ثم الاخذ بحق الله من مرتكب الحرام نفسه، أي قطع المكان الملوث في النفس الانسانية بالاقتصاص من الانسان، ثم إن هناك ناحية مهمة وهو أنَّ الاسلام لا يسمح باحداث الدمار والخراب فى اهل وبلد المجرم الذي 1.

ص: 234


1- فروع الكافي - م 7 - ص 409 - باب أدب الحكم.
2- المصدر السابق - ص - 41.

اقُتصَ منه فهذا غير وارد ومعنى ذلك تدمير المجتمع لا اصلاحه وهذا ما يحدث الآن فى بعض الدول الدكتاتورية التي تمارس ابشع الجرائم بحق الافراد المعارضين السياسيين واهليهم وأقاربهم ومن دار حولهم من الاصدقاء إن هذا العقاب الجماعي شمل الناس الابرياء، أما أهل السوابق والاجرام الذين يرتكبون الحرام وينشرو في الارض الفساد ويعملون بما حرّم الله عليهم فقد يكونوا في مأمن من القصاص واحكام القانون.

أما الذي لم يصدق عليه حكم الموت لتعلق الامر بمعارضة سياسية أو دينية أو رفض لكبت الحريات واشباه ذلك فان هؤلاء يسحقون ويعدمون ويسري ذلك على عوائلهم وأموالهم وممتلكاتهم ومن خلال ذلك تحطمت المجتمعات و تبعثر افرادها وتفكك الكيان العائلى بحيث اختل النظام وسارت الأمور نحو التخلف والانحدار والهاوية وبالتالي التشرذم وانعدام الترابط الاجتماعي بين الافراد. ونعود الى الشريعة العظيمة وما قاله علي علیه السلام في ذلك: «وقد علمتم أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجَمَ الزاني المُحصنَ، ثم صلّى عليه، ثُمَّ ورَّثَهُ،أهلهُ، وَقَتَلَ القاتِلَ ووَّرثَ ميراثهُ أهْلَهُ، وقطع السارق وجلد الزاني غير المُحصن، ثُمَّ قَسَمَ علَيهما من الفَيء، ونكَحا المُسلماتِ، َفأَخَذَهُمْ رسُول الله صلی الله علیه و آله و سلم بذُنوبهم، وأَقَامَ حقِ الله فيهم، ولم يمنعهم سَهْمَهُمْ من الاسلام، ولم يُخرج أَسْمَاءَهُم من بين اهلهِ» (1).

في هذا الكلام البليغ للمتشرع الاول بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و نقاط قانونية وعظات اجتماعية واخلاقية واسعة لا يمكن استيعاب مضامينها المؤثرة ايجابيا في حياة الناس ببساطة، أن وراء ذلك معرفة الهية بما تؤول اليه الامور. .

ص: 235


1- نهج البلاغة ص 184 تحقيق د. صبحي الصالح.

الجهاز الادارى للدولة

اشارة

هناك طائفة جديدة من تشكيلات الدولة والكيان الاجتماعي صنّفها على علیه السلام، وهم رؤوساء الهياكل الرئيسية لادارة البلد واطلق عليهم اسم العمال، وهم بمثابة المحافظين ورؤوساء الدوائر العامة في البلد والمشرفين على الاعمال الادارية والقريبين من الحاكم في ادارة البلاد بكافة تنوعاتهم حسب العرف والتسميات التي سادت في عصرنا الحالي فهم طبقة واسعة من المجتمع لهم نفوذ سياسي واداري و اجتماعي وقد قال فيهم على علیه السلام:

«ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِکَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الاِْسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلاَقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الاُْمُورِ نَظَراً». (1)

بدأ الامام علیه السلام قوله فى هذا الجانب بتوجيه اداري او ما نعبر بقرار اداري حول شروط تعيين روؤساء الوحدات الادارية وذلك بملاحظة وتشخيص من له الاهلية في تسنم هذه المناصب أو القائمين عليها، فاعطاه ئمين عليها، فاعطاه صور الاختيار الصحيح وخولّه العمل وفق ذلك، وبما ان بحثنا هو بحث اجتماعي بالدرجة الاولى فنحن لا نسعى الا في توضيح ومقارنة الاطروحات الواردة في هذا الشأن وعلاقة ذلك في المجتمع ومسيرته.

ص: 236


1- نص العهد للاشتر 237
طبيعة اختيار العمال

إن امر تعيين الموظفين يتطلب خصالا وصفات تتناسب وطبيعة الاعمال والوظائف الامام علیه السلام يضع هنا الضوابط الرئيسية لاختيار العمال منها:

1 - ان يكون من أهل التجربة والمقدرة الذين امتحنوا في الاعمال الاخرى.

2 - العناصر التي تتولى امر الامة ادارياً وسياسياً يجب أن تكونوا من اهل الحياء من الاصول العائلية المعروفة باخلاقها وسمعتها الطيبة لأن ذلك انفع واجدى.

3 - ان يكونوا من اهل السبق والقدم في الاسلام، ثم هناك نقاط اساسية اخرى تتعلق وترتبط بالنقاط اعلاه منها:

فحينما يعدل الوالي عن المستحق الى غير المستحق فانه جور على المستحق الذي ازيح عن مكانه واستلم غيره ممن هو دون المسؤولية في الامانة على الامة، وكذلك فانها تعتبر خيانة لمن ائتمنه وخوله الصلاحية لاختيار الانسان المؤمن الطاهر القادر على ادارة الشؤون العامة للمجتمع وجعل محله من لا اهلية له لتلك الاعمال المهمة، انها خيانة عظمى للمبادىء التي يؤمن الوالي وخيانة عظمى لولي الامر الذي وضع الامر بين يديه، فلا يجوز تسليط على حياة الناس من لا تخشى غائلته ولا يُحسَن اداء عمله ولا يؤتمن على مال ولا نفس، والشواهد التاريخية كثيرة على ما جرت التولية غير الصحيحة من دواهي و آفات غزت المجتمع ونخرت في عظمه فاصبح خاوياً لا يستطيع الوقوف على قدميه اذا لم يهلك أو تهتك حرمته ثم ما تبع تولية المحاباة والقربي من تحريف للحقائق وبناء مجتمعات ضالة جاهلة جرّت الويلات والمصائب على أمه الاسلام العظيمة كما عمل معاوية في بلاد الشام وكذلك عمرو بن العاص وال

ص: 237

مروان و ابن أبي معيط واشباههم.

وعلى اساس ذلك فان الامام علیه السلام يعبر عن ذلك ب «جُماع من شعب الجور والخيانة».

أن من الوسائل المهمة لجلب السعادة للفرد والمجتمع ودفع الشقاء عنهما بحيث يسود الاستقرار والراحة والطمأنينة في البلاد هو القانون العادل واعتدال الموظف الادراي المستقيم الذي يتولى تطبيقه في الناس ونقصد بالاعتدال هو نزعة حب العدالة والامانة والصدق والاخلاص والنزاهة والعفة التي يجب أن تكون شعار الموظف الاداري و دثاره قبل غيره. (1)

وعلى ضوء كل الشواهد والحوادث التاريخية يقول الامام علیه السلام:

«توخ منهم اهل التجربة والحياء من أهلِ البُيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة».

هذه هي معاني الاخلاق ذاتها وهي المصادر الحقيقية للافراد الذين يقدمون خدمة ومنفعة، ونلاحظ في عالمنا المعاصر ان الدول او الحكومات تضع شروطاً في تعيين الموظف المستخدم منها الخبرة واللياقة والدرجة العلمية وحَسِنْ السلوك والسيرة وغيرها أملاً فى الخدمة الحقيقية للمجتمع.

أما لماذا يضع أمير المؤمنين علیه السلام ذلك الشرط المتقدم اثناء الاختيار، يجيب علیه السلام على ذلك لانهم:

1 - اكرم اخلاقاً.

2 - اصح اعراضا.

3 - اقل في المطامع اشراقاً. .

ص: 238


1- الراعي والرعية ص 74.

4 - ابلغ في عواقب الامور نظراً.

في هذه الخصال الاربعة تتحق العدالة للمجتمع والراحة والطمأنينة وهذه الصفات لم تأت بصورة اعتباطية للافراد ولم تكن معاني ملصقة على الوجوه حتى يتطبعون عليها ويسيرون على هداها، انما لها اصول وجذور عميقة انتجت تلك المزايا الاخلاقية فمن لا أصل له لا فرع له، اذن نلاحظ ارتباط المعاني كما ذكرنا، فالصفات الخلقية الاربعة الاخيرة مرتبطة كامل الارتباط بنوعية الناس الذين يجب ان تكون ازمة الامور بيدهم.

فالاخلاق الحميدة تأتى من الاصول الكريمة ومن الذين غرس الاسلام في قلوبهم الرحمة والمحبة والتآخي والتعاطف والمؤاثرة والتضحية والتي تعطى لجماعة الناس الصفاء والمحبة والترابط فتكون الصفات الخلقية عامل استقرار وسعادة للمجتمع ومن يسعد ويستقر به المقام وتطيب نفسه لا تهمه المطامع الدنيوية ولا تزل به قدمه نحو الانحراف، فالاستقرار النفسي والاطمئنان والثقة لدى الافراد هي عوامل دفع في ثبات التعامل الايجابي الاخلاقي لدى المجتمعات، فالاختيار الاصلح يجب أن يكون من خلال الصفات التي طرحت التي تبعد كل التوجسات والخيفة والحذر من حدوث الخلل في الجهاز الاداري وكذلك تمنع التكالب على الفوز بمطمع دنيوي حتى وان كان صغيراً، واجمل ما ذكر الامام علیه السلام - وكل كلامه جميل – هو كرم الاخلاق الذي يعطي شيئاً لينتج افضل شيء وهذا يأتي ايضا من النسب الطاهر وصحة الاعراض من حيث وجودها في البيوتات الصالحة والشجرة الطيبة تؤتي اكُلها كل حين فالاساس المتين يعطي بناءً قوياً والتربية السليمة الصحيحة تعطى اخلاقاً فاضلة لدى الافراد في الكبر والامراض الاجتماعية ان كافحتها في الصغر تعطيك مجتمعا صحيحاً قوياً في المستقبل اذن يدخل هنا عنصر مهم وهو البناء التربوي

ص: 239

للافراد، لان الامراض الروحية هي اشد وادهى من غيرها على المجتمع فيجب الالتفات الى علاجها بالتربية الاخلاقية والبناء الاسلامى الحقيقي في الصغر داخل نطاق الاسرة والمجتمع بصورة اعم وان ذلك سوف يعطينا افراداً صالحين في المجتمع يزيدونه صلاحأً و تآلفا وتعاوناً ومحبة ويجنب المجتمعات الانحرافات والجرائم.

الامانة واداء حقها

الصفات المحمودة لم تمنع علي علیه السلام ان يلفت ولاته الى بعض الاجراءات الادارية التي تحدد العمال عند تحركهم السلبى أو الاتجاه المنحرف واتخاذ الاجراءات الشرعية بحق المنحرف منهم، فالغاية الاساسية ليست رضاء العمال لدى على علیه السلام انما رضاء الباري عز وجل الذي سوف يحاسب المسيئين بحق خلق الله لان الناس هم عيال الله، إن الباري عز وجل يراقب عمل عباده ثم ان المجتمع عامة امانة لدى الحاكم أو الوالى أو خليفة المسلمين «ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا؛ إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ وَ الْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَ الْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ، فَلَا أَطْوَلَ وَ لَا أَعْرَضَ وَ لَا أَعْلَى وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا، وَ لَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ، وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وَ هُوَ الْإِنْسَانُ، (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا)». (1)

المشروع وغير المشروع

إن مسألة قيادة الولايات وتعيين العمال عند علي علیه السلام كانت لا تتبع الى المزايدة والمناقصة وترطيب الاجواء وتهدئة الخواطر واستمالة العواطف،

ص: 240


1- نهج البلاغة ص 317 تحقيق د. صبحي الصالح.

وتسكين الاوضاع حتى تستقر الامور مؤقتاً حينئذٍ ينقض على فريسته، اليس اصحاب النظرة الاستبدادية واتباع الميكافيلية يحملون على علي علیه السلام بانه ليس سياسياً محنكاً والا لخدَعَ ومارسَ مبدأ الغاية تبرر الوسيلة بحق معاوية وغيره حتى تستقر أمور البلاد!

كلا لم يفكر بذلك مطلقاً ولا يكون كذلك لانه ليس ميكافيلي المذهب ولا ارستقراطي الطبقة بحيث ينظر الى مجتمعه كعبيد، ولا يتعامل بقلبين ولسانين وليس له فى الدنيا طمع أو استئثار الم يكن هو القائل: «إن هذا النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه إن لم أقم حقا وازهق باطلاً» انه علي بن ابي طالب ابن الاسلام وحاميه وعبقريته الفذة أنه جاء من أجل العدالة في المجتمع فكيف يرمي حبلها على غاربها انها الامانة الالهية فى عنقه فكيف يعرضُ عليه شراء ذمم رؤوس القوم وقادتهم واقتطاع الرواتب الكبيرة لهم أو تقسيم البلاد بينهم طعمةً وعدم محاسبتهم! فأبى ذلك ورفضه اشد الرفض لانه اساس الجور كما صرح والخيانة الاعظم لله ورسوله، ورضوان الله تعالى معناه نشر الحق والعدالة بين الرعية ومساواتهم وعدم هدر الاموال العامة باعطائها هبة للخاصة من الناس «فمثلاً: ذاك الشخص الذي جاء اليه بعقلية هذه المساومات واقترح عليه ان يبقى معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام برهة من الزمن قائلاً إن بامكانك ابقاء معاوية والياً على الشام برهة من الزمن وهو في هذه الحالة سوف يخضع ويبايع وبعد هذا يكون بامكانك استبداله أو تغييره بأي شخص آخر بعد أن تكون قد استقطبت كل اطراف الدولة وقد تمت لك البيعة والطاعة في كل ارجاء العالم الاسلامى بابقاء هذا الوالى أو ذلك الوالي، هذا الحاكم أو ذلك الحاكم، بابقاء هذه الثروات المحرمة في جيب هذا السارق أو في جيب ذلك السارق برهة من الزمن ثم بعد هذا يمكنك ان تصفي كل هؤلاء الولاة الفجرة وترجع كل هذه

ص: 241

الثروات المحرمة لبيت المال.

فالامام عل علیه السلام في جواب هذا الشخص، رفض هذا المنطق واستمر في خطه السياسى يرفض كل مساومة ومعاملة من هذا القبيل، ومن هنا قال معاصروه وقال غير معاصريه أن يحقق توفيقاً من الناحية السياسية اكثر، لو انه قبل انصاف الحلول، ولو انه مارس هذا النوع من المساومات ولو بشكل مؤقت» (1)

إن مبدأ على علیه السلام هو رعاية حرمات الله فكيف له ان يأمر بابقاء شخص انتهب كل شيء أو سلب كل ارادة من اهلها وقمع كل كلمة حق، وعاث في الارض فساداً، وما هو المسوّغ الشرعي لان يؤمره على ارواح وممتلكات الناس، وحفظ الرسالة المحمدية وصيانتها من الانحراف يكون بتطبيق مبادئها السامية على الخواص والعوام فلا فرق لديه بين هذا وذاك الا بالحق، فالجماهير التي بايعته ووالته وسارت خلفه احق بالحماية والعدالة من غيرها، فهو يريد أن يكون هناك مجتمع سامٍ ذو مستوى اخلاقي وحضاري عظيم، اذن لابد وان يُعرف ان هناك فاصلة في المبادىء التي يحكمها حب الذات والسعى وراء السلطة لغرض تحقيق المطامع والمطامح والهيمنة وبين المبادىء التي تنبع من القرآن والسنة النبوية الطاهرة التي محورها اقامة العدل والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فشتان بين الاثنين فلا يجتمع اصحابها الا يوم تشرئب فيه الاعناق الى الله لتأخذ الحساب بما عملته في الدنيا من خير أو شر، فلا مساومة على الحق واقامته، وهذا قوله حين رد قطائع عثمان بن عفان وهي الاراضي الزراعية التي ت.

ص: 242


1- الصدر - محمد باقر - أهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف - ص 6 - دار التعارف للمطبوعات - بیروت.

كانت تصرف على الفقراء من الناس سابقاً وقد اقطعها لمعاوية ومروان.

«واللهِ لَوْ وَجْدْتُهُ قد تُزُوِّجَ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ، لردَدَتُهُ فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ». (1)

فهو لم يتخذ غير العدل منهجاً والمساواة بين الناس سلوكاً ولم تنهره عن ذلك طول الحرب وجعجعة السلاح والرجال ولا اصوات حوافر الخيول وتآلب بعض الرفقاء عليه بل مضى في طريقه القويم ليبني الانسان والمجتمع معاً.

صلة الحاجة بالمفاسد الاجتماعية

ان الالتفات الى الجانب المعيشي لعمال الولايات من الضرورات التي لابد منها لاشباع حاجات العمال المعاشية والمادية حتى لا تغريهم الدنيا أو تبعث في نفوسهم السير والاندفاع باتجاه الشهوات لسد الرغبات الجامحة، وفي الحقيقة لا يكون ذلك الا على حساب الضعفاء من المجتمع فهي امتصاص لدمائهم وهدر لحقوقهم وقد قال علیه السلام: «ثمَّ أسبغَ عليهمُ الارزاقَ فإنَّ ذلِك قوَّةٌ لهُمْ على استصلاح انفسُهم وغنى لهمْ عن تناول ما تحت أيديهم، وحجَّةً عليهم إن خالفَوا أمْركَ أو ثلمُوا أمانتكَ» (2)

وحتى يبتعد العمال عن الرشوة والمفاسد الاخرى التي هي اساس الانحلال الادراي وخراب المجتمع « ... امره باسباغ الارزاق عليهم، فان الجائع لا امانة له، ولان الحجّة تكون لازمة لهم إن خانوا، لانهم قد كُفوا مؤنة أنفسهم واهليهم بما فرض لهم من الارزاق». (3)

«ثثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ،

ص: 243


1- نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح ص 57.
2- شرح نهج البلاغة - م 17 - ص 70.
3- نص العهد للاشتر.

فَإِنَّ تَعَاهُدَکَ فِي السِّرِّ لاُِمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاَْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَْعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَکَ أَخْبَارُ عُيُونِکَ، اکْتَفَيْتَ بِذَلِکَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ». (1)

يوصي علیه السلام بتفقد أعمالهم ومراقبتها بدقة ببعث العيون أي المراقبين والمفتشين الذين يتحرون الاعمال بحذق وصرامة ويبحثون عن الخبايا المختزنة والاعمال المخفية والتي سببها الطمع المادي الدنيوي الذي يسلب ارادة الانسان ويشل لب تفكيره ويبعده كامل البعد عن القرب الى الله، ويجعل من نفسه ظالما لها ولغيره وان ضياع وهدر أموال الناس يأتى نتيجة الغفلة قُصر النظر لدى الوالي أو عدم مراقبة من هم دونه، وعدم وجود من يقوم بعملية المراقبة والتفتيش ونقل التقارير السرية والاخبار العامة عن حركة العمال واعمالهم ومدى رضاء الرعية عنهم ولا يقوم بهذا الامر عادةً إلاّ الموظفون الصادقون الذي عبر عنهم الامام علیه السلام (من اهل الصدق والوفاء لهم) اذ لا يمكن الاصلاح بالتزييف وحرف الحقائق خدمة للاغراض الشخصية، فما الفائدة اذن من المراقبة والتفتيش اذا كان الافراد الذين يستخدمهم الوالى اناساً من اهل الباطل والكذب يزيدون المرض امراضاً، فالمفتشون والعيون المبثوثة اذا كانوا غير صادقين ولا يخافون الله اصلاً فهذا الخراب بعينه، والمرض الجديد في حقيقة الامر اخطر من انحراف عامل الوالى نفسه، وهذا دماره ضعفان، فاذن لا يكون لهذا المنصب الحساس الا اذا كان من اصحاب المروءات واهل المعرفة والصراحة ر

ص: 244


1- نص العهد للاشتر

والصدق وله اطلاع كامل في طبيعة حياة الناس في تنقلاتهم وعلاقتهم وبيعهم وشرائهم وطرق معاملاتهم حتى يؤدي ماكلف به، ونلاحظ الدقة والارتباط المتناهى كما قلت في هذه الاشارات الادارية الصحيحة التي وضعها امامنا علیه السلام في عهده ولم يوص فقط بل قام في كثير من الاحيان بمحاسبة عماله ووبخ بعضهم وعزل البعض الآخر وقد ارسل « ... رجلاً يدعى (سعد) إلى زياد بن أبيه يأمره بأن يحمل إلى بيت المال ما عنده منه. وكان قد بلغهُ أن زياداً يتقلب في النعيم، يستأثر به على الضعيف والفقير والارملة واليتيم، وأنه يتظاهر بالفضيلة وهو عنها بعيد، فلما كان الرسول عند زياد ألح عليه، فتجبر زیاد و تكبر ونهره، فكتب اليه على علیه السلام:

(إن سعداً ذكر لي أنك شتمته ظالماً وجبْهتَهُ تجبراً وتكبراً وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (الكبر والعظمة الله) فمن تكبر سخط الله عليه، وأخبرني أنك مستكثر من الالوان في الطعام، وأنك تدهن كل يوم فماذا عليك لو صُمت لله أياماً و تصدقت ببعض ما عندك محتسباً، وأكلت طعامك في مرةٍ مراراً و أطعمته فقيراً. اتطمع، وأنت متقلب في النعيم تستأثر فيه على الجار المسكين والضعيف الفقير والارملة واليتيم، أن يجب لك أجر وتعمل عمل الخاطئين، وإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت وعملك احبطت ...» (1).

اذن تتبع هؤلاء العمال بالمراقبين السريين وتصحيح مسار الخاطئين أو الاشارة اليهم واحساس هؤلاء العمال بتلك المراقبة السرية هو باعث لهم ودافع للاستقامة واداء الامانة على احسن حال بحيث يشعر ان هناك مسؤولاً بعد الله في هذا العالم الدنيوي هو ولي الامر الذي يراقبه ولا يسمح له بارتكاب المحارم .

ص: 245


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية المجلد 1 ص 189.

بشتى انواعها وبذلك ينتقل توجهه الى الرفق برعيته ومحاباتهم وحسن المعاملة لهم، وعدم الاخلال بالنظام العام واستغلاله أو سوء الاستفادة من المنصب المعطى اليه ونلاحظ هنا أن الهدف الواضح والمحصلة النهائية التي أراد الامام علیه السلام ان يوضحها من هذا المقطع الذي اشار اليه سابقاً «ثم انظر امور عمالك، فاستعملهم اختباراً و حتى نهاية جملة (فان تعاهدك في السر لامورهم حدوةٌ لهم على استعمال الامانة» والنقاط ذكرت سابقاً والترابط الموجود فيما بينها وهي صفات العمال المستخدمين للاعمال الادارية واسباب اختيار تلك العناصر التي اعطى الامام علیه السلام و صفاتها كلها تصب في هدف اخير مرجوّ وهو موضوع بحثنا الا وهو المجتمع الذي في ايدي تلك السلطة الموجودة أي تحت رحمتها الى عبارة حدوةٌ لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية، فهذان الهدفان هما اساس صلاح المجتمع والمحافظة على كيانه ومسيرته الصحيحة فالامانة هي الهدف الاول وقد اشرنا اليها سابقاً والهدف الثانى الرعية، فالعامل المشار اليه يحنو على رعيته ويرأف ويرفق بهم ويرحمهم ويرعاهم ويعاقب مسيئهم ويكافىء مخلصهم، اذن المراقبة الجادة والحقيقية هى الباعث لهم والدافع المستمر لاداء الامانة والرفق بالرعية التي هي المطلب الاول والاخير والذي يحفظ العامل ورعيته من الزلل المحتمل، وبالمحافظة هذه تضمن عدم فقدان عنصر اداري مهم، لانه ليس من السهولة خلق کادر اداري مجرّب بسرعة سواء كان في ذلك الزمان أو هذا الوقت.

إن المحافظة على اعوان الوالي المخلصين وإبعادهم عن الانحراف في السلوك

هدفٌ سامٍ ومهم سام ومهم حيث يقول الامام علیه السلام: «وتحفظ من الاعوان فان احد منهم يبسط يده الى خيانة، اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه، واخذته بما اصاب من عمله، ثم

ص: 246

نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة».

إن الشي المهم فيه والذي يسترعي النظر ويبهر العقل هو اننا نجد اثر هذه التعليمات العالية والسديدة رغم مرور أربعة عشر قرناً عليها ملموساً وواضحاً، في غاية الوضوح في قوانين الدول وقوانين الخدمة المدنية ... وزبدة للعقول ان ذات الاهداف القانونية التي تضمنتها التشريعات الحديثة والتي استهدفت في مشروعها اصلاح نفسية الموظف وتهذيب سلوكه ليؤدي واجب (الامانة) الملقى على عاتقه فقد لاحظ الامام علیه السلام ذلك في عهده الأصلاح المملكة الاسلامية وتطهير المجتمع من آثام الخائنين والاشرار اعداء الامة والبلاد. (1)

فعلى رجال العمل والمعرفة والقانون ان يستخلصوا قوانينهم واطروحاتهم ونظرياتهم العلمية والاجتماعية والادارية من فكر على علیه السلام، فهى نقية تامة حائزة لجميع الشرائط، ولا داعي للدوران والبحث حول الافكار الاخرى أو التفاخر بالفكر الغربي والعقلية الاوربية والادعاء بانها انتجت للعالم النظريات السياسية والاجتماعية والنفسية والادارية، فالمسألة ليست مسألة ومُصيبة الغربيين انما اذنابهم من ابناء شعوبنا الاسلامية ممن آمن بذلك.

كتّاب الدولة

اشارة

قال علي علیه السلام: «ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ کُتَّابِکَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِکَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَکَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَکَايِدَکَ وَأَسْرَارَکَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَْخْلاَقِ، مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْکَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْکَ فِي خِلاَف لَکَ بِحَضْرَةِ مَلاَ، وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُکَاتَبَاتِ عُمِّالِکَ عَلَيْکَ، وَإِصْدَارِ

ص: 247


1- الراعي والرعية ص 149.

جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْکَ، فِيمَا يَأْخُذُ لَکَ وَيُعْطِي مِنْکَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَکَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْکَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُْمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَکُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ» (1).

تعرضت للكتابة عن هذه الفئة من الكيان السياسي والاجتماعي العام لاعتقادي بانه الجهاز الرئيسى الذي يدير الوالى به حكمُه وسلطته، ومن خلاله يمكن ان يطلع على كثير من الخفايا والاسرار الخاصة بالوالي وامور الدولة والمجتمع، وكذلك النظر في اعمال الناس و مشاغلهم وحركة المجتمع بصورة عامة.

دور الكتّاب في إدارة الدولة

لقد جاء عند الحكماء وبعض أهل الادب والتاريخ أن كتّاب الدولة لهم أدوار مؤثرة تترك بصماتها على مسيرة المجتمع واستقرار البلاد ومن المعلوم « ... أن الكاتب الذى يشير أمير المؤمنين علیه السلام هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العُرفي وزيراً، لانه صاحب تدبير حضرة الامير، والنائب عنه في اموره العامة، واليه تصل يكتبه العمّال، والمهيمن عليهم، وهو في الحقيقة كاتُبُ الكتّاب، ولهذا يسمّونه: الكاتب المطلق، وكان يقال للكاتب على الملك ثلاث: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، وإفشاء السرّ اليه.

وكان يقال: صاحبُ السلطان نصفه، وكاتبه كله، وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس ويديم العبُوس، ويستخف بالشفاعات وكان يقال: إذا كان الملك ضعيفاً، والوزير شرهاً، والقاضى جائراً، فرّقوا الملك شعاعاً، وكان يقال: لا تخف صولة الامير مع رضا الكاتب، ولا تتقن برضا الامير مع سُخط الكاتب وأخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال:

ص: 248


1- نص العهد للاشتر

وزعمت أنّك لست تُفكر بعدما *** عَلِقْتْ يداك بذمّة الامراءِ

هيهات قد كذَبتْك فكرتُك التي *** قد أوهمت غنىً عن الوزراءِ

لم تغن عن أحد سماءٌ لم تجد *** أرضاً ولا أرضٌ بغير سماء

وكان يقال: اذا لم يُشرف المِلك على اموره، صار أغش الناس اليه وزيره وكان يقال: ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح المُلك من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها اهل النذالة، ويزهد فيها أولوا الفضل» (1).

ولا زالت بعض دول المغرب العربي تسمي رئيس الوزراء بالكاتب الاول، ويضيف الشرقاوي ان الكتاب « ... في عصر الامام هم أفراد الجهاز الاداري للدولة وكان أمير المؤمنين يريد أن ينشىء جهازاً ادارياً جديداً في مصر، بدل الجهاز الذي انشأه عمر حين دون له الدواوين عقيل بن أبي طالب، اذ كان الخليفة عمر قد اضطر الى قبول النظم الادراية القائمة في البلاد المفتوحة، وهي نظم انشأها الرومان والفرس والمصريون القدماء، وكانت لغات البلاد المفتوحة لا اللغة العربية هي اللغات الرسمية في الدواوين! وقد تحرى الامام الا تجتمع سلطات ادارية واسعة في يد واحدة، بل وزع السلطات بين المسؤولين كل وما يتقنه». (2)

على كل حال فان الكتّاب كما هو واضح هم اركان الجهاز الاداري العلوي الذين منهم تتوزع بقية السلطات، ويعتبرون رأس العنقود بالنسبة للادارة، وقد يطلق عليهم لقب الوزير أو رئيس الديوان سواء المظالم أو الرسائل أو بيت المال وغيرها فهم الايدي المتحركة للحاكم في ادارة البلد ولا تهم التسمية بقدر ما .

ص: 249


1- شرح نهج البلاغة، المجلد 17 ص 79.
2- علي امام المتقين، المجلد 1 - 2 - ص 284.

لديه من سلطات ونفوذ.

فالوزير أو الكاتب أو الحاجب أو رئيس الديوان يمثلون أعمدة السلطة والحاشية الاولى وهي الموقعية الأخطر في حياة المجتمع والوالي فقد تأخذه هذه الحاشية الى طريق الخراب والبعد عن المجتمع الذي يمثّل اساس الملك وحركته، واذا كانت هذه الفئة نزيهة وامينة على مقدرّات المُلك ولها ارتباطات ممتدة مع طبقات الناس المختلفة تُسدي النصح في رأيها، طيّبة في كلامها، مخلصة في اعمالها، تخاف الله في السر والعلن، عندئذٍ تدفع البلد وراعيه الى جادة الامن والسلام والاستقرار، لذا فإن الامام يحذر من اتخاذ الكتّاب الذين لا يحفظون الاسرار ويتجرأون على الوالي فينزلوا منزلته امام الناس، ولا فكر صائب لديهم ولا نباهة ولا حذاقة في معرفة الامور عديمي الاطلاع قليلي الخبرة والتجربة في عقد الصفقات والمعاملات، ثم يطلب علیه السلام أن يكون الاختيار على الكتّاب تابع لرغبة خاصة لدى الوالي أي غير تابع للمواصفات العالية التي طرحها الامام علیه السلام لان ادارة البلد وممتلكاته وصيانته من الاخطار بيد هذه الطبقة.

دقة الاختيار

في مسألة اختيار الكتّاب تتداخل عدة امور مهمة نظراً لحساسية الموقع واثره، لذا فان الامام يحذر من الجوانب السلبية في الاختيار فيقول «ثُمَّ لا يكُن اخيتارُكَ إيَّاهُمْ عَلَى فراسَتكَ واستنامتكَ وحسن الظنِّ منك، فإنَّ الرجالَ يتعرَّفُونَ لفراسَاتِ الولاةِ بتصنّعهم وَحُسْنِ خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحةِ والأَمانةِ شيءٌ».

ذكر السيد الخطيب في مصادر النهج ان الامام علیه السلام «نهاه ان يكون مستند اختياره للكتاب بالتفرس والاستنامة: أي الثقة والسكون، بل ينبغي أن يكون

ص: 250

ذلك بتجربة وخبرة، فان كثيراً من الرجال يتقربون الى الامراء بالتصنع بحسن الخدمة، والتظاهر بغير ما هم عليه، الفراسات جمع فراسة - بكسر الفاء - وهي قوة النظر فى الامر» (1).

وهذه مسألة نشعر بها في حياتنا المعاصرة وذلك لكثرة المتملقين والمتزلفين للسلطان لغرض التقرب والحصول على المآثر والمكانة عنده وجلب نظره من اجل استلام جانب من ادارة البلد وهؤلاء أشبه ما يكونون بالعناصر الانتفاعية ذات الاهداف المحددة التي تسعى اليها حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة، وهم اقرب الى النفاق من أي شيء آخر، فمواضعهم خطرة ومؤثرة على كيان الامة، وهم لا يمثلون الدين ولا اهله.

ولهذا حينما اتسعت البقاع الاسلامية وامتدت اطرافها فيما بعد وحدث ما حدث من ظلم الولاة واتباعهم للرعية، وكثرت الشكاوي وازدادت الانتفاضات والثورات لعدم وجود العدل اسس هناك ديوان اسمه ديوان المظالم لمتابعة مظالم الناس المقدمة، ولكن اذاكان حاكم المسلمين هو الظالم الاول في البلاد فما حال اذنابه اذن من ولاته وعماله، وما الفائدة من التظلّم لدى الديوان اذا كان الامر هكذا، فالحجاج بن يوسف الثقفي من اظلم خلق الله في زمانه على رعيته وهذا التاريخ يحدثنا عما ارتكبه هذا الطاغية من مآسي واهوال ودمار وبعلم من نصبّه وهو عبد الملك بن مروان الاموي، واقرأ ما كتب المؤرخون عنه وعن خليفته وقس على ذلك غيره ممن تعاقب على حكم المسلمين من بعده، فالمسألة اذن خطيرة جداً على حياة الناس ومستقبلهم، ودعائم البيت اذا لم تكن رصينة وقوية في البناء فيسرعان ما ينهار كل البناء ولو بعد حين، وكذلك أعمدة 9.

ص: 251


1- مصادر نهج البلاغة واسانيده ص 399.

السلطة فهم اركان الحكم الذين يسيّرون امر البلاد ويديرون شؤون الامة وهم اذان الوالي وعينه واياديه التي تمتد الى العموم، وفكره الذي ينتفع من فيضه الناس ان صلح أمرهم.

المقياس الحقيقي

إن الاثر الحسن الخالد في اذهان الامة لا يأتي إلا من خلال التعامل الصادق والصريح معهم ولذا يقول الامام على علیه السلام: «ولكن اختبرهم بما دلُوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان فى العامة اثراً، وأعرفهم بالأَمانةِ وَجْهاً، فإِنَّ ذلِكَ دليلٌ على نصيحتك الله، ولمن وُلِّيتَ أمرَهُ» (1) أي انتبه ايها الولي فاعمد الى اختيار اهل التجربة والمعرفة بما تولوا قبل ذلك من اعمال وكانت جهودهم مشكورة واعمالهم حسنة وسيرتهم جيدة ومع كل هذا فالامام يقول «فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثراً»، اذن جميع الصفات المطلوبة في ادارة الاعمال مهمة والاهم منها اختيار من هو أحسنهم وافضلهم وأقربهم الى قلوب العامة من الناس، فمن ترك اثراً طيباً وذكراً محموداً وحَملَ قلباً ينبض بحلِّ مشاكل المجتمع، وعَمِلَ بالعدل والحق، وحَسُنَ تعامله الانساني في الرعية فادفع اليه الامر فهو اهل لذلك.

تقسيم الاعمال والتنسيق الاداري

قال علیه السلام: «واجعل لرأس كُلِّ أَمْرٍ من أُمُورك رأساً منهُمْ لا يَظْهرُهُ كبيرُها ولا يَشَتَّت عليه كثرُها، ومَهْمَا كَانَ في كتابك من عَيْبٍ فتَغابَيْتَ عنهُ الزِمْتَهُ».

هذه نقطة فيها روح ادارية ذات علاقة بتطور العمل الاداري الاجتماعي،

ص: 252


1- نص العهد للاشتر

حيث يدعو الامام علیه السلام الى تقسيم العمل حسب القدرة والطاقة لمن يقوم بهذه الاعمال ويطلب ان يجعل لكل ادارة معينة مختصة في جانب من جوانب الدولة رجلاً يشرف عليها يكون فيها رأساً ليس فوقه احد يقهره ويتأثر به أثناء عمله غير الوالي نفسه أي اشبه ما يكون بالوزارات الحالية ولا يكون وزيراً مسؤولا عن وزير آخر عدا رئيس الدولة أو الوزارة، فيستطيع ان يتحرك بحرية ويقدم كل طاقته ويبدع بها، ويشعر بالمسؤولية اتجاهها ثم إنَّ من العقل السياسي والاداري ان لا يكون هناك عدة مسؤوليات في يدٍ واحدةٍ، اذ لا يمكن ضبطها أو الاشراف عليها بدقة مع تشتت الفكر الذي لا يستطيع ان يفكر ويطوّر أو يبدع ويحسن طرق عمله «ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة وضروبها بينهم نحو ان يكون أحدهم للرسائل إلى الاطراف والاعداء؟ والاخر لأجوبة عمّال السواد والاخر بحضرة الأمير في خاصّته و داره وحاشيته وثقاته، ثم ذكر أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه، ويتغافل من عيوب كتّابه، فان الدين لا يبيح الإغضاء والغفلة عن الاعوان والخوّل، ويوجب التطلّع عليهم». (1)

التقسيم المهني

التجار وذوي الصناعات الحرفية

نأتي الى طبقة عريضة أخرى تشكل ثقل المجتمع الاقتصادي المادي والتجارى، وهذه الطبقة هي المهيمنة على تبادل السلع وصناعاتها وايجاد الاسواق البديلة وتغيير اماكن البيع تبعاً للعرض والطلب، وقد اعطى الامام علیه السلام صفات اعمالهم واشكالها ثم كيفية التعامل مع هؤلاء ومتابعة اعمالهم بصورة لا

ص: 253


1- شرح نهج البلاغة المجلد 17 - ص 79.

تؤثر على حركتهم التجارية والصناعية، وقد قال فيهم الامام علیه السلام: «ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً، الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَجُلّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّکَ وَبَحْرِکَ وَسَهْلِکَ وَجَبَلِکَ، وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلاَ يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ. وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِکَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِکَ. وَاعْلَمْ - مَعَ ذَلِکَ - أَنَّ فِي کَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً وَاحْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ وَتَحَکُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ».

فقد استوصى مالك وامره أن يوصى عماله كذلك وقد قسم هذه الفئة من الناس الى تاجر مقيم مستقر وتاجر اخر مضطرب، أي يدور في البلدان بماله وتجارته وبين الاسواق الاخرى تبعاً لحجم البيع والشراء، والشريحة الاخرى هم ارباب الصناعات والذي جاء قوله فيهم (المترفق ببدنه) أي المتكسب ببدنه الذي يبذل الجهد العضلي.

واعمال هذه الطبقة مهمة في حركة السوق وتبادل البضائع وجلب السلع من الاماكن البعيدة ونقلها وبالعكس، والتجارة بصورة عامة هي تنمية المال واستزادته عن طريق شراء السلع بثمن رخيص وبيعها بثمن غال أو حكرها وخزنها أملاً في فقدانها من السوق فيزداد الطلب عليها فيبيعها باثمان غالية وهذا ما حذر منه الامام علیه السلام لان فيه مضرة للناس والدولة، فالعمل التجاري حر في الاسلام ليس عليه قيود مانعه ولا قوانين مجحفة ولا ضرائب باهضة الا بما فرضه الله تعالى أو ما يعطيه من نفسه لضعفاء المجتمع كعملية تكافل اجتماعي وهي انفاق الاغنياء على حاجة الفقراء حتى يستديم المجتمع في حركته وعمرانه، و قد ورد عن أهل البيت علیهم السلام الكثير من الاحاديث التي تؤكد على اهمية

ص: 254

التجارة منها ما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام قوله «ان التجارة تزيد العقل (1) وقد سأل مرة عن رجل فقال: «ما حبسه عن الحج؟ فقيل ترك وقل شيئه، قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً ثم قال لهم: لا تدعوا التجارة فتهونوا، أتجروا بارك الله معكم» (2).

وقد ذكر ابن خلدون ان «التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلّا ما تعمُ الحاجةُ اليه من الغني والفقير والسلطان والسُّوقة إذ في ذلك نَفَاقُ سلعتهِ وأَمَّا إذا اختصَّ نقلَهُ بما يحتاجُ إليه البعض فقط فقد يتعذَّرُ نَفَاقُ سلعته حنيئذٍ باعواز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسُدُ سُوقُهُ وتفسدُ أرباحُهُ وكذلك إذا نقل السلعة المُحتاج اليها فإنَّما ينقلُ الوسَطَ من صنفها فإنَّ العالي من كل صنف من السلع إنَّما يُختصُّ بهِ أَهل الثروةِ، وحاشيةُ الدولةِ وَهُمُ الأَقلُّ وإنَّما يكونُ الناسُ اسوةً في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحرَّ ذلك جُهدُه ففيه نَفَاقُ سلعةٍ أو كسادها وكذلك نقلُ السلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات يكون اكثر فائدةً للتجار وأعظم أرباحاً». (3)

ثم في اغلب المجتمعات يكون التجار أناساً مسالمين لا يهمهم سوى سلامة امرهم، اما ما نسمعه عن وجود رأسماليين كبار جداً يمولون الدول في ميزانيتها فهؤلاء يتدخلون عادة في انتخاب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء ويبذلون من أجل ذلك المال الكثير طمعاً بالحصول على الاستثمارات الضخمة في حالة وصول مرشحهم الى السلطة وهذه الحقيقة يجب ان لا تمر على افكارنا مر الكرام لان العالم الرأسمالي والكارتلات الدولية والمستثمرين الكبار والعابثين في .

ص: 255


1- فروع الكافي - م 5 ص 150 - باب فضل التجارة والمواظبة عليها.
2- المصدر السابق - ص 150.
3- مقدمة ابن خلدون - ص 396.

السلطات في الدولة الغربية والدول السائرة في ركابها هم حفنة الصهاينة الذين يسيطرون على تجارة العالم تقريبا وبيدهم رؤوس الاموال والانتاج النوعي للسلع المهمة وهم الذين يسيرون حكّام تلك البلدان تكاد تسري وهذه الحالة الخاصة على بقية البلدان الاخرى. نتيجة للتطورات السياسية والاتصالات السريعة والعلاقات المفتوحة والاعلام المنقول بسرعة الى كل انحاء العالم كل ذلك، وحالة التمثل بكبار التجار والرأسماليين وطعماً في الاستيلاء الخفى على السلطة كما يفعل الصهاينة في العالم، الا أن حقيقة التجار الذين يذكرهم الامام علیه السلام هم من الذين لا يُخاف من دواهيهم على الحاكم أو الوالي، فالعلاقة معهم غیر محذورة المخاطر، انها علاقة سلمية، ثم أمره بتفقد احوالهم وفي كل مكان لانهم جزء من الرعية اولاً وانهم من الذين يديرون حركة المجتمع ثانياً، وبحركته تزداد الاموال والارباح وبازدياد الاموال والارباح يزداد العمران، و بازدياد العمران تعطى اضافات مالية الى خزينة البلاد، أي بيت مال المسلمين الذي سيعود على الناس حتما بالخير والرفاهية ان أحسَنَ الوالي استغلال ذلك في بناء مصالح رعيته ونشر الامن في بلاده وبهذا يتطور البلد وينمو ويصبح قوة مهابة في الداخل والخارج وهؤلاء التجار وارباب الصناعات «ليسوا كعمال الخراج وأمراء الاجناد، فجانبهم ينبغي أن يراعى، وحالهم يجب أن يُحاط ويُحمى، إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه، ولا في دولة يُفسدونها» (1).

الاحتكار والاضرار العامة

تطرق الامام علیه السلام للاحتكار واضراره ونتائجه بقوله «قد يكون في كثير

ص: 256


1- شرح نهج البلاغة م 17 - ص 84.

منهم نوعٌ من الشح والبُخل فيدعوهم ذلك الى الاحتكار في الاقوات والحيف في الباعات» (1) والاحتكار هو أن يقوم بعض التجار الى احتكار السلع وخزنها واخفائها عن الناس الى ايام محسوبة تنقص فيها الاشياء وتقل ويزداد الطلب على البضائع فيضطر المحتاج اليها لدفع اثمان عالية من اجل الحصول عليها، والاحتكار هو عمل غير اخلاقي في المجتمعات لا بل ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد نهى عنه لانه يضر بالمجتمع ويخلق نوعاً من البلبلة في صفوف الناس ويؤدي ذلك حتما الى فساد العامة في تعاملهم «وممَّا اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الامصار أَن احتكار الزرع لتحيُّن أوقات الغلاء مشؤومٌ وأَنَّهُ يعودُ على فائدتِهِ بالتَّلَف والخسران وسببُهُ والله اعلمُ أنَّ الناس لحاجاتهم إلى الاقوات مُضطرُّون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً فتبقى النفوسُ متلعقةً به في تعلُّق النفوس بمالها سرٌ كبيرٌ في وباله على من يأخذُهُ مجاناً لعّلهُ الذي اعتبره الشارع في اخذ اموال الناس بالباطل وهذا وإن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سعةٍ فى العُذر فهو كالمكره وما عدا الاقوات والمأكولات ...» (2).

ان رعاية الطبقات الضعيفة من المجتمع وعدم الاضرار بها هي من اسس ومبادىء الاسلام وعناوينه البارزة حيث قال الامام علي علیه السلام «وذلك بابُ مضرَّةٍ للعامَّةِ، وعَيْبٌ على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم منع منه، وليكن البيع بيعاً سَمحاً بموازين عدْلٍ، واسعار لا تجحفُ بالفريقين من البائع والمُبتاعِ، فمن قارف حُكرةً بعد نهيك ايَّاهُ فنكّل به، .

ص: 257


1- شرح النهج - م 17 - ص 84.
2- مقدمة ابن خلدون، ص 397.

وعاقِبْهُ من غير اسرافَ» (1).

الامر واضح والكلمات لا تحتاج الى كثير من التفسير فالامام يطلب منع الاحتكار والوقوف بوجه المحتكرين، لان رسول الله قد منع ذلك ونهى عنه، ثم هناك اشارة أود ان اطرحها امام القارىء، هي ان الاسلام حينما يمنع لا يعني ان مذهبه اشتراكى وهدفه القضاء على اصحاب البيع والانتاج وجعل السوق المحلية حكراً على الدولة، فالدولة هي مركز الانتاج والاستيراد والتصدير ومركز توزيع على الوسطاء الذين ليس لهم أمر سوى البيع بالسعر المقرر وتحديدهم في مكانهم فلا نمو ولا تقدم ولا استثمار، فهذه الحالة تجعل من المجتمع مجتمعاً خاملاً اقتصادياً قليل النمو بعيداً عن التنافس الحر الذي يعطي للسلعة جودة خاصة من خلال هذا التنافس كما أن له تأثيراً مناسباً على الاسعار، لان كلا المطلبين الجودة والاسعار لها اثر مباشر على السوق وحركة المجتمع، وحركة المجتمع وتطوره يأتي من خلال رعاية حركة الابداع وتطويرها أو حرية السوق في التعامل والانتاج وتشجيعهم، وجعل التجارة حرة مع وجود جهاز سيطرة على الاسواق تحرزاً من التلاعب بالاسعار وسوء الاستفادة والجشع الذي يتميز به البعض، فلا يترك السوق بدون مراقبة عامة ومركزية مع اتخاذ الاجراءات القانونية المحددة بحق المخالفين والمحتكرين والطامعين و المتجاوزين على حقوق الناس دون التدخل فى حركة السوق بصورة مباشرة وعلى ضوء ذلك «فان حرية الفرد فى التجارة والصناعة تكون مشروعة ومحمية ومحترمة شرعاً ما دامت تحقق مصلحته المشروعة ولا تضر بالآخرين ولكن هذه المشروعية تقف عند النقطة التي يبدأ منها الضرر في مصلحة الجماعة وذلك تحقيقا لقواعد ثابتة ر

ص: 258


1- نص العهد للاشتر

وأصيلة في النظام الاسلامي كقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع) أو قاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) أو ما يجيز للدولة - على ما نرى - أن تتدخل لتنظيم التجارة والصناعة والزراعة بما يحقق مصلحة الفرد وحريته التجارية من جهة ويدرأ المفسدة أو الضرر عن الجماعة من جهة ثانية، وبذلك يحقق مصلحتها أيضاً، فصفوة القول أن حرية التجارة والصناعة في النظام الاسلامي ينتظمها أصل وقيدان، فالاصل حرية التجارة والصناعة، والقيدان هما: (الحل الشرعي، وعدم الاضرار بالجماعة) (1).

ثم يطلب الامام علیه السلام ان يكون البيع سمحاً تابعاً لموازين عادلة لا تضر واسعاراً مناسبة غير مجحفة بالطرفين البائع والشاري، ثم أن من لم يلتزم بذلك الامر واستمر في احتكاره أو سعى الى الاحتكار وخالطه من بعد نهيه عن عمله هذا و امرته بالاستقامة، فعاقبه، فمن الملاحظة أن المبادىء العامة للدين الحنيف الارشاد ابتداءً وتقديم النصح وافهام المخل بشرائط عمله وتوجيهه الى الطريق الصحيح، هذه أسس ومبادىء الانسانية المتقدمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقبول العذر ان اعتذر والا فالعقوبة حسب حجم الجريمة المرتكبة، بالاضافة الى ما وضحته لنا الرسالات العملية للعلماء والمراجع العظام والكتب الفقهية حول مراحل ومراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث تجد هذه المراحل والمراتب يضعها علماء النفس والاجتماع في نظريات خاصة بذلك بمضمون واحد ولغة مختلفة وتطرح للعالم للاخذ بها من اجل تقدم المجتمع وتطوره ومن يستوضح اكثر فليراجع الكتب الفقهية المعتمدة لدى مذهب أهل البيت علیهم السلام يجد ما يطمح اليه ويرجوه من علوم اجتماعية ومعارف نفسية، ثم يؤكد .

ص: 259


1- النظام السياسي الاسلامي مُقارناً بالدولة القانونية ص 137.

الامام بان لا تكون العقوبة قاسية حيث يقول ابن أبي الحديد: «وأمره ان يؤدب فاعل ذلك - المحتكر الذي لم ينته من عمله - من غير اسراف وذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود فغاية أمره من التعزير الاهانة والمنع». (1)

الصناعة

اشارة

يكاد يكون الترابط وثيقاً بين الصنّاع والتجار، لان الاثنين يسيّران حركة السوق بالاضافة الى الانتاج الزراعي، فالتجار باموالهم والصنّاع بايديهم والفلاحون بانتاجهم يكوّنون جميعاً حركة السوق التجارية.

وهناك بيع وشراء فيما بينهم وما يؤول على التجار يسرى على اهل الصناعة، والصناعة كما هو معلوم في ذلك الزمان هي يدوية الصنع بدائية التركيب تطورت نتيجة لتطور ورقي الحضارة في المدن فاتسعت دائرة الطلبات على المواد المصنوعة والمنسوجة فانتشرت دكاكين الصنّاع واصبحت حاجة المجتمع في بداية الأمر ضرورية لتلبية الطلبات ثم هرولة الناس وراء المواد الكمالية نتيجة لحالة الترف والراحة والدعة والاستقرار فى الامصار ووجود الاموال بكثرة في ايدي الطبقات المترفة واصحاب السلطة والبطانة التي اتسع حجمها فيما بعد.

فاذن هم صنف من المجتمع متحرك ومحرّك ويحتاج الى موضوع منفرد لعلاقته بدراستنا الاجتماعية وخاصة اذا ما علمنا انه يتعلق بحياة المجتمع المدني بالدرجة الاولى، ومعرفة ماهية هؤلاء الصناع وأصلهم يحتاج الى تتبع الحركة الصناعية وبناء المدن في الحضارات السالفة لان الصناعة لم يكن تعلّمها سهلاً

ص: 260


1- شرح نهج البلاغة - م 17 - ص 85.

انذاك اذا ما علمنا انها يدوية وتحتاج الى خبرة وتجربة عدة سنوات وان لم يكن تعلّمها من الصغر تتوارثها العوائل من الأب الى اولاده واحفاده، ثم هناك بعض الصناعات يُحتقر الانسان العامل بها و ليس له منزلة بين المجتمع بحيث استمرت هذه النظرة وانتقلت الى مجتمعاتنا واصبحت اعرافاً اجتماعية لم تنقرض الاقبل اربعة عقود تقريباً في بعض المناطق من الدول الاسلامية ان لم يكن بعضها لا زال متداولاً فى بعض المناطق المتخلفة والقبلية.

وقد ادركنا بعض هذه المفاهيم الخاطئة لدى المجتمع، فالاحتقار الاجتماعي هو صفة ذميمة وبعيدة كل البعد عن اصل المبادىء الاسلامية والانسانية والخلقية، وهذه متأتية اما من عادات واعراف قديمة أو رَوّجَ اليها من رفضوا المساواة بين البشر، والحقيقة أنه لا فرق بين هذا وذاك الا بالتقوى والعمل الصالح.

النظرة العامة للصنّاع عند اليونانين القدماء

فى الحضارة اليونانية القديمة في اثينا كانوا يعتبرون انواع المهن (دنيئة) «وها هوذا زنوفون يتحدث في زهو وفي غير مجاملة بوصفه واحداً من طبقة الفرسان، فيقول إن الجماعات المتمدنة ترى أن ما يسمونه بالفنون الآلية الحقيرة تزري بصاحبها ... وهى محقة في نظرتها هذه، ذلك بأن العمل فيها يهلك اجسام القائمين به، سواء فيهم العمال ومن يشرفون عليهم، فهي تضطرهم الى أن يقضوا وقتهم جالسين فى نور ضئيل أو جائمين أياما طوالا أمام الافران وهذا الضعف الجسمى يصحبه على الدوام ضعف نفسانى، وفوق هذا وذاك فإن ما تتطلبه هذه الفنون الآلية الحقيرة من الوقت لا يترك للمشتغلين بها فراغاً ينفقونه في مطالب الصداقة أو الدولة وكان يُنظر إلى التجارة هذه النظرة نفسها، فكان اليوناني الارستقراطى النزعة أو الفيلسوف لا يعدها إلا وسيلة لجمع المال مع إلحاق

ص: 261

الاذى بمن يجمع منهم، وهو في رأي هذا وذاك لا تبغى خلق السلع بل كل ما تبغيه هو شراءها رخيصة وبيعها غالية ولهذا فما من مواطن خليق بالاحترام يرضى أن يعمل فيها» (1).

العرب في الجاهلية والحرف الصناعية

إن من يقرأ التاريخ القديم يجد إن العرب قبل الاسلام احتقروا الصنّاع أيضاً ونظروا اليهم نظرة استخفاف واستهجان «والحرف أي العمل باليد من الامور المستهجنة عند الاعراب وعند أكثر العرب أيضاً، فلا يليق بالعربي الشريف الحر، أن يكون صانعاً، لأن الصنعة من حرف العبيد والخدم والاعاجم، والمستضعفين من الناس» (2).

تطابق واختلاف

هناك حالتان تصور وضع المجتمع الطبقى واحدة في اثينا القديمة والثانية عند العرب قبل الاسلام والرابط بين الاثنين هو ازدراء الصنّاع لكن ما الذي جمع بين النظريتين في الدولة الاثينية القديمة والجاهلية الاولى، الحقيقة لا اعتقد ان هناك توافقاً سابقاً بهذا الشأن وان محور الربط بين النظرة الواحدة اتجاه الصنّاع الصراع الطبقي الموجود في كل مجتمع من هذه المجتمعات ثم الفراغ العقائدي السماوي الذي يساوي بين الناس بل إنَّ الاديان دأبت على تشجيع العمل بين الافراد والا لو كان هناك مصدر فكري واحد لهذا التمييز الطبقي لظهر في جميع الجوانب الاجتماعية الاخرى اذ ان اليونانيين القدماء احتقروا الصنّاع والتجار

ص: 262


1- دیوارنت - ول وأيريل - قصة الحضارة ص 62 المجلد الرابع، ترجمة محمد بدران 1408 - 1988، بیروت.
2- علي - الدكتور جواد - المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ج 7 ص 26 الطبعة الثانية 1413 - 1993.

واصحاب المصارف في آن واحد ولم يسمح لهم بالانتخاب في حين ان العرب قبل الاسلام كانت تزدري الصنّاع واصحاب الحرف في حين كانت تنظر الى التجار نظرة سمو وعلو وتقدير بل مارس اغلبهم العمل فيها.

اذن المهنة الرئيسية كانت التجارة ولهم اسواق خاصة بذلك، «لقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطين في عالم التجارة. والتجارة. تكاد تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي اليها والى المشتغل بها نظرة استهجان وانتقاص، بل اعتبرت عندهم من اشرف الحرف قدراً ومنزلة، ونُظر الى التاجر نظرة تقدير واجلال، مع انها حرفة مثل سائر الحرف، فيها من الحيل والخداع واللعب على الناس ما في أية حرفة اخرى وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد فى الزراعة أو الصناعة، ولكنها نظرة واجتهاد الى الحياة، وظروفٌ طبيعيةٌ جعلت العرب تجاراً في الغالب، فشرفوا التجارة على غيرها من الحرف، وقدموها في المنازل والدرجات وقد بقيت على هذه المنزلة والدرجة في الاسلام كذلك، وأُشير إلى شرفها وسمو منزلتها في كتب الحديث، مما يدل على ما كان للتجارة من منزلة في نفوس الناس» (1).

على ان هذا لم يعطنا العلة من احتقار الصناعة واتخاذ التجارة فالذي اعتقده ان مكة المكرمة لعبت دوراً بارزاً في تنمية التجارة والتشجيع عليها من خلال وجود المواسم الدينية الكبرى حيث تهرع القبائل العربية من كل حدب وصوب لاداء المراسيم الدينية في الاشهر المعينة من السنة، وهذا يتطلب بضائع جاهزة للبيع والشراء حتى لا يتأخر البدوي في عودته الى محله، فيأتون له بالبضائع من بلاد الروم وفارس حيث الصناعة المتطورة هناك، ثم بعد ذلك لم .

ص: 263


1- المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام م 7 ص 227.

يألف العرب الحرف الصناعية بمعناها الكامل فمثلاً فى مجتمعاتنا قبل عدة عقود من الزمن وليس ببعيد ذلك كان بعض الصنّاع تحتقر اعمالهم مثل الحائك الذي لا ينظر اليه بمنزلة اجتماعية أن لم يكن يزدرى فى بعض الاحيان وكذلك بعض الصناعات الاخرى وفي حقل الزراعة أيضاً الذي سنتكلم عنه في فصل قادم انشاء الله.

وقد بحثت عن اصل ذلك في الكتب التاريخية وما ورد عن الحضارات السابقة لتربط ذلك مع موضوعنا الذي اكد عليه امامنا علیه السلام والمقارنة بين القيم الاجتماعية التي طرحها الامام علیه السلام والاعراف والعادات والتقاليد الموروثة في المجتمعات ومن ضمنها المجتمع العربي.

لقد كان انسان الجزيرة العربية في غنىَّ عن الامور والاعمال التي تحتاج الى فن وممارسة وخبره فهو حينما يذهب الى الحواضر يجد ما يحتاج اليه جاهزا فكان لا يرغب بتعلمها حيث ان المهن تقيد حركته وتنقّله في البوادي بالاضافة الى النظرة السلبية العامة فلم يسع الى العمل فيها ولم يكلف نفسه في التحري عن كيفية تصنيع المواد الاولية وبالتالي ضعفت حيلته فقهرته فابتعد عنها فتركها لغيره، ثم انه قبل الاسلام حينما دعت الحاجة الى المواد المصنعة هاجر اهل المهن الصناعية الى الجزيرة العربية من العراق وايران وبلاد الروم الذين وجدوا في الفراغ الصناعي عند اهل الجزيرة وما جاورها خير مكسب يرتزقون به لعدم معرفة اهل المنطقة بفن الصناعة وعدم قبولهم تطويع أنفسهم لتعلم هذه الحرف الأمر الذي جعل هؤلاء الصنّاع يكسبون الارباح والمغانم لانفرادهم بهذه المهنة وعدم وجود منافس لهم وللخبرة العريقة التي كانت لديهم بالاضافة الى ان اصحاب هذه المهن اخذوا يستخدمون العبيد والضعفاء والهاربين من بلادهم وهؤلاء غالباً ما يكونون مقطوعي الاثر عن اهلهم وبلدانهم مقابل عرب

ص: 264

الجاهلية الذين كانوا يعتزون بقبيلتهم واصلهم ونسبهم الذي يمتد الى عدة اظهر من الاجداد، وانسابهم هذه جعلتهم يستهزئون بل يسخرون ويحتقرون من لا اصل له ولا قبيلة تحميه حيث كانت عندهم العصبية القبلية في اوجها، وبما أن هؤلاء الصنّاع كانوا من الاجانب المقطوعين الاصل سرى عليهم الاستهجان والاحتقار فاصبح اشبه ما يكون بالعرف الاجتماعي السائد بين المجتمع، فلا يقوم بهذه الاعمال الا من هو وضيع وخسيس النسب فالصناعات إذن خاصة بهؤلاء ولا تليق بغيرهم، بحيث اصبح العرب في الجاهلية ينظرون تلك النظرة الى اصحاب هذه المهن وربما يكون ما اوردناه هنا هو الرأي الاصح.

الاسلام والحرف

اشارة

لقد جاء الاسلام بمفاهيم انسانية ألهية جعلت من الافكار المتخلفة الجاهلية موضع السخرية والرفض، واعطت المفاهيم الجديدة لصور الحياة الاجتماعية والتي رفعت من شأن العامل والصانع وغيره بنظرته الانسانية العالمية والغائه العصبية القبلية وجعلت من ذلك الاعرابي الذي كان يفضل قبليته على كل شيء، انساناً يعتز بإسلامه ويفخر بأنه ينتسب اليه لا الى غيره، وذكر أن على بن أبى طالب علیه السلام، قال: «إنى لارى الرجل، فيعجبني، فأقول هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا سقط من عيني» (1).

في كلامه هذا علیه السلام قلب كل الموازين الطبقية واعطى دفعاً معنوياً للصنّاع واهل الحرف وكذلك فقد اعطى ائمة اهل البيت علیهم السلام دفعاً معنوياً كبيراً للرجل الذي له عمل معين فقد ورد عن ابي عبدالله علیه السلام قوله إن «الكادُّ على عياله

ص: 265


1- المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام - م 7 - ص 505.

كالمجاهد في سبيل الله» (1)، ورغم كل ما ذكرناه فهناك نقص في المعلومات الكاملة عن هذه المجتمعات والطبقات الموجودة فيه، وقد أطلعنا على بعض الحقائق التاريخية التي تدلل على أن بعض المجتمعات لا تزوج الصناع النساء ولا يتزوجون منهم لاحتقار حرفهم وتكاد هذه الحالة أن انقرضت في اغلب مدننا الاسلامية، في حين أن الامام علیه السلام طلب رعايتهم والاهتمام بهم لعلاقتهم بحركة المجتمع وكيان الامة ثم انهم صنف متقدم يساعد على عمران البلاد وكما هو معلوم ان كتبنا التاريخية أى المصادر الرئيسية وامهات الكتب ماعدا الدراسات المعاصرة لم تكتب سوى تاريخ النخبة وترفهم ولهوههم وكم جارية لديهم وكم قصر عندهم وما يأكله السلطان ثم التحدث عن عدل الخليفة الوهمي أو الصور المزيفة عن عدالة خلفاء بني امية وبني العباس، لان اغلب تلك الكتب دونت في حياة هؤلاء السلاطين وتحت رعايتهم المادية ودعمهم المعنوي للمؤرخين واهملو اكتابة التاريخ الاجتماعى للناس وحياتهم وصنوف وطبقات المجتمع وما يعملون وما ينتجون والحالة الاقتصادية والمدنية السائدة انذاك سوى ما كتبه ابن خلدون في مقدمته وما تبعه فى القرون الاخيرة من المؤرخين والكتاب والمستشرقين امثال ادم متز في كتابه تاريخ الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري وغيره، اذن هناك نقص في المعلومات الاجتماعية وماهية التطورات الاجتماعية، فخلاصة الامر ان الوضع الاجتماعي لم يتبدل بسرعة بعد قيام الاسلام حيث انشغال المسلمين الاوائل بالفتوحات الاسلامية الكبرى وعدم توجههم الى امور قد استغنوا فيها عن التكلف في البحث عنها او تصنيعها حيث دخلوا البلدان العامرة بالصناعات وفنونها وإن الكثير من اهل البلاد المفتوحة ه.

ص: 266


1- فروع الكافي - م 5 - ص 90 - باب من كدَّ على عياله.

اصبحوا مسلمين وقسم آخر بقى على دينه سواء كان من اهل الذمة أو غيرهم من القوميات والشعوب المفتوحة وهؤلاء كما قلنا قد تفننوا في الصناعة والعمران وهم متخصصون في ذلك، وعلى رغم مما جاء في الدين من مبادىء سامية الا انه بقي هناك من يأنف العمل في الصناعات بل يستحقرها ولهذا اتسع نطاق الصنّاع من القوميات الاخرى والمناطق المفتوحة في الحواضر الاسلامية وابدعوا بذلك وتفننوا في بناء القصور والفسيفساء والاواني والنجارة والحدادة والاصباغ والانسجة حيث الاموال الغزيرة التي تتدفق كل يوم على مراكز الدولة سواء كانت في دمشق أو بغداد في الفترات المتأخرة عن الخلافة الراشدية.

على علیه السلام والعمل بصورة عامة

يقول الامام علي علیه السلام «فانهم سلم لا تخاف باثقته وصلحُ لا تخشى غائلته وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك» فامير المؤمنين علیه السلام يعطى ارشاداته التطبيقية على ضوء المعرفة الكاملة بحياة المجتمعات فيقول «سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى عائلته» لان هؤلاء كانوا يعيشون تحت رعاية الدين الاسلامي والبعض كانوا حديثي العهد بالاسلام وجل اهتمامهم في عملهم ولم يستميلهم الخوض في الصراعات السياسية وكانوا أشبه ما يكون بالطبقات التي ابتعدت كلياً عن الصراعات والنزاعات، وما نقرأه من تدخل بعض العناصر في الصراعات سواء من الذين دخلوا الاسلام حديثا أو الموالي أو المعاهدين في فترات متأخرة لم يكونوا من تلك الفئات التي ذكرها الامام وهم التجار والصنّاع، انما هؤلاء فئة جديدة استحدثتها الاوضاع السياسية في البلاد الاسلامية ووصول عناصر بعضها تربى في أحضان السلطة وتقدم والبعض الاخر كانت له صولات عسكرية وقيادية في الجيوش الاسلامية، ويمتلك

ص: 267

بعضهم خبرات ادارية أو ثقافية أو صلته الى قصر الخليفة واصبح بعضهم يحيك المؤامرات أو يشارك فيها لسببٍ أو آخر، فهؤلاء لم يكونوا من الذين خصهم الامام علیه السلام بالذكر من الذين تطوّروا في مهنهم واصبح لهم وجود خاص و اهتمام لم يكن مألوفاً سابقاً للحاجة الماسة اليهم، فانحاز هؤلاء الى اعمالهم خوفاً وتحرزاً من البطش بهم وسلب اموالهم وهتك حرماتهم بل تحول قسم من ابنائهم الى دراسة العلوم العقلية والنقلية واللغوية وساهموا مساهمة جادة في تطوير هذه العلوم واحسنوا العمل بها فحازوا على الحضوة والجاه لدى السلطان أو الولاة، اذن بقيت الصناعات وتفرعاتها بيدهم وذكر الشيخ المطهري حول ذلك انه «لم يكن للعرب على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فنون وصناعات وان كان فهو لم يكن، وانما اقتبسوا فنون ما بين النهرين ومصر وسورية وايران، ونجد في صحف الصين، أن الخلفاء الأمويين كانوا يطلبون اساتذة الفن من جميع الولايات المفتوحة ويستفيدون منهم في بناء المدن والقصور والمساجد فكانوا يطلبون الاساتذة البيزنطيين في صناعة القاشانى والفسيفساء المعرّق لتجميل مساجد دمشق، وكانوا يجعلون عليهم اساتذة ايرانيين، وكانوا يستخدمون لابنية مكة صنّاعاً من مصر والقدس ودمشق، وكان هذا مستمراً حتى عهد العباسيين أيضاً» (1).

فالتجارة والصناعة اذن صنوان لا يفترقان في تقدم العمران والمدنية وادارة البلاد اقتصادياً وهما بطبيعة الحال تساهمان سويةً في مجالات تقدم البلدان وتطورها. .

ص: 268


1- مطهري - الشيخ مرتضى - الاسلام و ایران، ج 3 ص 1405017 - 1985 ترجمة هادي الغروي.

الزراعة والارض والزرّاع

اشارة

لقد ذكرنا في باب الخراج وعمارة الارض عن الزراعة والاراضي الزراعية الشيء اليسير الا أننا نقول في هذا الفصل أن الاسلام قد اولى اهتمامه الى هذه المهنة، والارض الزراعية، وقسّم الاراضى الى عدة انواع، ووضع لكل قسم حكمه الشرعي حيث الاراضي الواسعة التي دخلت الاسلام عنوة وفتحاً او صلحا وسلماً ومنها الصالحة والعامرة والموات واعتبرت المورد المالي الرئيسي للدولة الاسلامية انذاك.

ان عرب الجاهلية كانوا لا يهتمون بهذه المهنة وانتاجها وتنوعه بل تكاد تبدو غريبة على البعض الا ما غُرس من نخيل واشجار مثمرة حول الواحات والينابيع التي كان بعضها ينمو تلقائياً، وان ما وجد من مزارع في الحواضر والمدن سواء كانت في المدينة المنورة أو الطائف أو غيرها من المناطق فان اغلبها ملك لليهود والنصارى المقيمين هناك، واذا ما كانت بعض المزارع بيد العرب فان اغلبهم يستخدم الموالي والعبيد والاحباش وغيرهم ممن كانت لهم خبرة في ذلك أو للاستخدامات الاخرى المتعلقة بالحرث ونقل الماء وغيره الا ان ذلك لا يعني ان عموم الجزيرة العربية واطرافها لا تعرف الزراعة كلها انما كانت اليمن تسمى باليمن السعيد لكثرة زراعتها وتنوعها والاطراف الساحلية الاخرى من عمان ثم بلد السواد العراق ثم بلاد الشام في هوائها العذب وزرعها المتعدد الالوان ناهيك عن بلاد النيل وزراعتها، أذن ما نتكلم عنه هو منطقة الجزيرة العربية بالذات الذي تحدث عنها المؤرخون وقالوا فى اهلها حول الزراعة «أما الاعراب، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المزارع (الخضّار).» (1)

ص: 269


1- المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام - م 7 - ص 26.

ونجد هذه النظرة الازدرائية الى المزارع عند اهل الحضر أيضاً. حتى أن بعض الصحابة كرهوا تعاطى العمل في الارض. حتى بعد الفتح، تاركين ذلك الى أهل الذمة، والتعليل لذلك كما يقول الدكتور جواد على «وكراهة الزرع، كراهة نشأت من عدم توفر الماء والارض لاكثر الناس» (1).

الا اننا لا نتوافق مع الاستاذ الكبير الدكتور جواد علي في هذا الرأي والسبب هو ان المسألة عند اهل الجزيرة هي نفسية واجتماعية اتجاه الزراعة وإن القبائل كانت لا تهتم الى هذا الامر لعدم وجود الحاجة الماسة اليه، فما يحتاجه من الحنطة والشعير يكتاله الاعرابي أيام المواسم من الحواضر التي تجلبه من المناطق الاخرى، ثم ان التمر موجود بكثرة بالاضافة الى اعتمادهم على اكل اللحوم ومنتجات الحيوان اللبنية، فالثريد هو غذائهم الرئيسي والتمر والكروم هو فاكهتهم المفضلة أما البقية فالاعشاب البرية تسده، فالذي اعتقده أن تلك لم تجلب اهتمامه وتدفعه الحاجة اليها، ثم أن العمل فيها كما في الصناعة يقوم به العبيد والموالى وامثالهم فهو لا يعتقد بشرف تلك المهنة بوجود هؤلاء فيها، بعد ذلك ان القبلي انذاك كان همه الغزو والقتال والغارة والغنيمة واخذ الثأر فلم يلتفت الى هذه الناحية التي يعتبرها وضيعةً ويقوم بها غيره ممن جلبوا للعمل فيها من المناطق الاخرى، ثم عدم ثبات السكن بالنسبة اليهم حيث ان الأغلبهم مواسم معينة ومناطق خاصة يتنقلون فيها طلبا للماء والكلاً، وانما يكون الاستقرار في المدن وقرب الواحات الكبيرة والعيون الغزيرة، فكان ينظر الى اهلها نظرة سخرية واستهزاء لانها تقف حائلا بوجه الاصالة والشجاعة والبطولة التى لا تكون الا من خلال الغزو المستمر حسب اعتقاده، ثم بعد ذلك انها كبقية المهن 26

ص: 270


1- المصدر السابق ص 26

تحتاج الى خبرة وتمرس بمعرفة التربة والبذور والمواسم الزراعية وتنشئهُ الزرع، ومراقبته، وتربيته التي لا يعرفها اغلبهم فهو يعرف النخلة تشتل وتلقح احياناً أو الاشجار التي تغرس وتنشأ ذاتياً وهي تتحمل العطش الصحراوي، ومن خلال وجود هذه الحالات ولعدم معرفته بخصائص العمل الزراعي تجعله يزدري العمل به وهذه حالة نفسية لدى الكثير من الناس حينما يحتاج الى امر ما وهو لا يستطيع الوصول اليه أو الحصول عليه فيحاول أن يقنع نفسه بأن هذا الشيء غير مفيد أو غير صالح لا بل يبدأ يحتقره ويستهزء بامره ليس كرهاً له انما لانه لا يستطيع ادراكه فيبقى ينظر اليه نظرة استخفاف ذاتي ويحاول ان يقنع نفسه بالعزوف والترفع عنه وكراهيته ان امكن وانه لو اراد لاستطاع ولكن في حقیقة الامر لا يستطيع فعل شيء، ويقنع الآخرين بصواب رأيه الى ان تتسع هذه الحالة النفسية البسيطة الى حالة اجتماعية وعرف سائد، وقد اعطانا امير المؤمنين علیه السلام صورة لمثل هذا النوع من الناس «وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ انْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لَا مَغْدًى». (1)

أبو جهل بعقليته الجاهلية

إن عملية الاحتقار لبعض المهن عند بعض الناس اتخذت اشكالاً متعددة واتسعت دائرتها واعتبر البعض ان هذا الاستخاف والسخرية بتلك المهن صفة من صفات الاصالة والسمو «وقد استغل أهل الحواضر - وهم قلة - ما أنف منه اهل البادية - وهم الاكثرية - في الجزيرة العربية فكان منهم الزراع كأهل المدينة

ص: 271


1- نهج البلاغة - ص 75، تحقيق د. صبحي الصالح.

والتجار - كأهل مكة، غير أنه بمعنى أشمل ظلت كثير من المهن والحرف مزدراة يعيّر بها أصحابها فالتميميون - بني تميم - كانوا يعيّرون الأزديين بأنهم بحارة لأن ابناء عمومتهم في عمان كانوا يشتغلون بالملاحة، والقرشيون كانوا يحتقرن اهل المدينة لأنهم زراع وحين لقي ابو جهل مصرعه في غزوة بدر، لم يأسف على مقتله بقدر ما أسف على انتهاء حياته بيد المسلم الأكار (الفلاح) إذ يقول وهو يلفظ انفاسه الاخيرة (فلو غير أكار قتلنى) أراد به احتقاره و انتقاصه أي: كيف مثل الأكار يقتل مثل أبي جهل.

كذلك قال ابو جهل عندما ارتقى ابن المسعود - الصحابي الجليل - عنقه «لقد ارتقيت مرتقى صعبا یا رويعي الغنم» وهو قول يعكس احتقار أبى جهل العربي القرشي للاجارة على رعي الغنم وما اشبه من الاجارات، مثله في ذلك كمثل ما يسمون ب (أشراف العرب) أي الذين يترفعون عن كل حرفة أو لم يعلم أبو جهل لعنه الله وأشراف العرب بأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يرعى غنم أهل مكة مقابل بضع قراريط بجانب احتقارهم للعمل والمهن والحرف كانت العرب تبجل الشعراء الذين يمدحون الناس مقابل الدراهم». (1)

زراعة الخضروات والنظرة الاجتماعية

أن الاحتقار والازدراء لا ينحصر في جانب واحد بل تعدى الى زارع الخضروات أيضاً ولا تعجّب من ذلك واكثر من هذا إنَّ من يزرع الطماطم (البندورة) وبقية الخضر كان يُنظر اليه نظرة استخفاف وسخرية نتيجة للجهل والتخلف بين اغلب اهل الريف انذاك حيث كانوا يزرعون الحنطة والشعير والرز وبقية الحبوب ولا يزرعون الطماطم بل ان بعضهم لا يأكلها حيث يعتمدون على

ص: 272


1- النفيسي - الدكتور عبد الله - في السياسة الشرعية ص 49، الكويت 1405 ه - 1984 م.

السمن الحيواني والرز والثريد ويستهزؤون بابن المدينة الذي يأكل الطماطم بانه لا اهلية له ولا شجاعة ولا يفهم من الامور الاجتماعية شيئاً بسب اكله هذه المادة وان من يزرعها ليست له منزلة اجتماعية بين العشائر وهذا ما ادركناه في ايامه الاخيرة في العراق الا أنه انقرض واصبح كانه شيء لم يكن الا عند بعض العقول المتخلفة جداً والمتمسكة باعرافها القديمة والا ان اغلب مناطق العراق الان تزرع الطماطم والخضروات، فبعد ما زالت الاسباب التي تسيطر على افكار الناس انتهت هذه الحالة العرفية المستهجنة فعلاً، وعقل الناس الكثير من الامور وادركوا سخافة الاراء التي كانوا يتلبسون بها، وتوجهوا بصورة طوعية الى الاخذ بالاراء الصحيحة وشعروا بالنقص الشديد نظراً للحاجة الواسعة ثم احسوا باعتقاداتهم الخاطئة بعد زوال المؤثر النفسي والاجتماعي وقبول المجتمع ككل هذا التحول في الاعراف الاجتماعية.

الرسول الاعظم صلی الله علیه و آله و سلم والعمل الزراعي

اشارة

أن المبادىء الاسلامية بشخص الرسول العظيم محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد اعطت أهمية قصوى للزراعة والمزارعين ودعا الى الاهتمام بالارض لانها مصدر الخير والبركة وقوله صلی الله علیه و آله و سلم خير دليل على ذلك: «من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤجره إياها» (1).

«وظهر من روى عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم انه قال الزراعة أفضل المكاسب وذلك لما فيها من عموم الانتفاع، حتى منهم من فضلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولما للقوت الذي يأتي منها من صله بحياة الناس، ومع ذلك بقي

ص: 273


1- الصالح - الدكتور صبحي - النظم الاسلامية نشأتها تطورها ص 379 الطبعة السادسة.

العرف الجاهلى مسيطراً على عقلية السادة الكبار، من افتخارهم بحيازة الارض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد للعمل بالارض، اما هم فقد خلقوا ليكونوا سادة، عملهم امتلاك الارض، وقد ظهر من هؤلاء جيل امتلك أراضٍ واسعة في البلاد المفتوحة شغل فيها اهل الذمة، والنبط سكان الارض المفتوحة، ومئات وآلاف من الرقيق والعبيد» (1)، وقد كان الأئمة الاطهار علیه السلام يؤكدون على اهمية الزراعة حتى روى عنهم علیه السلام قولهم «الكيمياء الاكبر الزراعة» (2)، بل اعطوا المقامات السامية للمزارعين فقد ذكر يزيد بن هارون قال سمعت أبا عبدالله علیه السلام يقول: «الزراعون كنوز الانام يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً وأقربهم منزلة يدعون المباركين» (3).

عمارة الأرض الزراعية

لقد وجه الامام علیه السلام انظار ولاته وعماله الى مسألة اعمار الارض والاهتمام بالفلاحين كفئة اجتماعية لها دور مباشر في حياة الدولة والمجتمع بما يقدمونه من اموال خراجية وغيرها وتأمين الغذاء للبلاد وكانوا هؤلاء من المسلمين ومن اهل الذمة وغيرهم، واعتبر ان عمران البلاد وتقدمها ومصدر قوتها فيما تحصل عليه من خراج هذه الاراضي، فلابد إذن من بذل المال ومساعدة اهلها في الحالات الاستثنائية والحوادث غير المتوقعة التي ربما تحدث وقد تحدثنا عن بعضها في فصل الخراج «وليكُن نظرُك في عمارة الارضِ أَبلَغ من نظرك في استجلاب الخراج لأَنَّ ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومَنْ طلبَ الخراجَ بغير

ص: 274


1- المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام - ج 7 ص 27.
2- فروع الكافي - م 5 ص 261 - باب فضل الزراعة.
3- المصدر السابق - 262

عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم امره الا قليلاً فإن شكوا ثقلاً أو علّة انقطاع شربِ أو بالَّة أو احالة أرض اغتمرها غرقٌ أو احجف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أنْ يصلُحَ بهِ أَمرُهُمْ».

اذن الاهتمام بالارض ومعالجة مشاكل المزارعين هي الحل الانجع لاعمار الارض والبلاد بما تعطيه الارض من خيرات كثيرة، وقد عالج الامام علیه السلام کل المشاكل التي قد تحدث متعرضاً لها واحدة بعد اخرى لما في هذه الحرفة واهلها من اثار اقتصادية كبيرة على البلاد والمجتمع، وفي رسالة منه علیه السلام الى قرظة بن كعب الانصاري (رحمه الله): «أما بعدُ فإنَّ رجالاً منِ أهلِ الذَّمَّةِ من عَمِلَك ذكروا (أنَّ) نهراً في أرضهمْ قَدْ عفا وأُدفن وفيه لهم عمارةٌ على المسلمين، فانظُرْ أَنتَ وهُمْ، ثمَّ اعمُرْ وأصلح النَّهر، فلعمري لَئِنْ يَعْمُروا أَحَبُّ إلينا من أَنْ يخرُجوا وأن يَعْجزُوا أو (لان) يقصروا في واجب من صلاح البلاد والسلام» (1).

ان قضية مهمة كقضية احياء ارض أو كري نهر قد دفن ومحي اثره بفعل طمى أو غرين تجمع فيه او ارتفاعه عن مستوى النهر الاصل فلا يصعد اليه الماء، فلابد اذن من تنظيمه وتنظيفه في آن واحد رغم ان هؤلاء من المعاهدين الا أن احياء أرضهم هو فيه عمارة للبلاد وخير ذلك يعود على المسلمين، فيحثّ واليه بالتعاون معهم في اعمار واصلاح هذا النهر وعدم تركه ما دام لديهم همةٌ في ذلك ورغبةٌ شديدة في اعماره التي هي احب الينا من ان يتركوا عجزاً ولا مبالاة في الامر وبالتالي يقصروا عن عمل احياء الارض التي هي اهم الواجبات لصلاح وعمران البلاد. .

ص: 275


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة - المجلد 504 ص 29.

ص: 276

البابُ الرّابِعُ

اشارة

الموارد المالية والآثار العامة

ص: 277

ص: 278

الفَصلُ الاَوَّلُ

اشارة

المال والاعمار

ص: 279

ص: 280

كان المال ولا يزال وسيبقى كذلك العصب الحياتي لكيان الدول بل العمود الفقرى للبناء والاعمار والتنمية الاقتصادية.

إن تقدم البلدان وازدهارها منوط بقدرتها الاقتصادية، وقوة احتياطياتها من الذهب والعملات الصعبة المودعة في البنوك العالمية والوطنية حيث تكتسب العملة الوطنية من خلال ذلك قوة شرائية اضافية كبيرة بفعل ذلك الغطاء المالي الكبير، واهمية ذلك تعود على رفاهية المجتمع وسعادته من خلال الدعم المادي الواسع لعمليات التنمية في البنى التحتية للبلد في عصرنا الحالي، ثم الصرف على المواضع الاخرى سواء كانت تربوية أو عسكرية أو صناعية وغيرها،

اما في عهد الامام العالي علیه السلام والفترات التي سبقته فتعتبر الزراعة من اهم الموارد التي تشبع بيت مال المسلمين بالمال اللازم للعمران وياتي ذلك عن طريق الخراج بالدرجة الاولى، وينعكس ذلك ايجابياً على التطور الحضاري والمدني.

ولهذا اهتم امامنا علیه السلام بالخراج ثم ربطه بالاعمار وقد عبر عن ذلك حينما خاطب الوالي بقوله: «وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَِنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ. وَلْيَکُنْ نَظَرُکَ فِي عِمَارَةِ الاَْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِکَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَِنَّ ذَلِکَ لاَ يُدْرَکُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَکَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ

ص: 281

قَلِيلاً» (1).

في هذا المقطع الهام عناوين رئيسية ومعان حقيقية لعلم الاجتماع والاقتصاد بادق التعاريف وافضل التفاصيل، وهذا المقطع من المحاور الرئيسية لحديثنا عن علم الاجتماع عند علمي علیه السلام، فقد اهتم الامام علیه السلام بالحالة الاقتصادية وكأنه يناقش علم الاجتماع الاقتصادي ويعطي الافكار المناسبة للعمل الصحيح، وقبل الدخول في التفاصيل اضع القارىء الكريم امام مقارنة علمية وليحكم ما ذُكر من ان ابن خلدون هو واضع الأسس في علم الاجتماع وقال فيه قبل غيره من خلال ما عبر عنه المتأخرون في كتاباتهم وفي عدة مواطن. حيث قال كاتب موضوع (علم الاجتماع عند ابن خلدون) «رأينا أن ابن خلدون يربط بين الاقتصاد والمجتمع حين ربط اختلاف احوال الناس واختلاف نحلهم من المعاش ولكنه ذهب أبعد من ذلك حينما ربط بين العمران من جهة، والعمل والاسعار من جهة أخرى، والحقيقة أن العمل اساس الرزق (الدخل) بما يأتى والعمل والاسعار وهو خاضع في ذلك لطبيعة العمران (الحياة الاجتماعية) (2).

بعد قراءتنا لهذا المقطع نعود الى عهد الامام على علیه السلام لمالك الاشتر، نجدان ابن خلدون قد اهتم بجانب المعاش الارتزاقي اليومي والعمران والارباح والاسعار ولكنه لم يربط بين القدرة المالية في البلد وبين العمران الذي يعتبر الاساس في البناء والعمران وله التأثير الايجابي على حركة السوق والاسعار وزيادة الارباح وطلب الناس على الحاجات. واذا قلّت موارد الادارة المالية للبلد وشحت خزينتها سينتقل الاثر السلبي بالضرورة الى العامة والسوق .

ص: 282


1- نص العهد للاشتر.
2- علم الاجتماع عند ابن خلدون - ص 158. الجامعة الاسلامية العدد الثالث - مذكور سابقاً.

ويصيب التجارة الركود وعند ذاك تدور الدورة السلبية على البلاد كلها فتنحى الدولة منحى آخر في استجلاب الاموال عن طريق التفنن في الضرائب وسلب الاموال من الناس بغير حق وذلك هو الظلم الذي يتبعه الخراب والتدهور الاقتصادي والمعيشي، والامام علیه السلام يؤكد على الخراج وصلاح اهله، ثم إن صلاحه وصلاح الناس يعود على من سواهم اي الوالي والولاية وبقية الرعية بالخير، ومن هذه الصورة الموجزة نتساءل لماذا التجاهل في ذكر امير المؤمنين علیه السلام؟ أو عدم لفت النظر الى نهج البلاغة وما حوى من الفكر الخلاب والمحيّر للالباب!

ما هو الخراج

ان الخراج «عبارة عن الاجرة التي تستلمها الدولة، عن الارض التي تدخل في حساب المسلمين، نتيجة جهاد اسلامي مشروع، ولما كان الانتفاع بسبب تلك الامور، سموها أي المنفعة - خراجاً.

ولذا سمي بلسان اللغاة بما يحصل من غلة الارض كما أطلقوا على الخراج اسم الجزية أيضاً، ولما كانت الأرض هي المصدر الرئيسي للدولة - في حينه - كان صلاحها وصلاح القائمين عليها، صلاحاً لمن سواهم من الرعية». (1)

الا ان الماوردي في الاحكام السلطانية قد اعطى تفصيلاً أوضح من ذلك حيث قال «وأما الخراج، فهو ما وضع على رقاب الارض من حقوق تؤدى عنها وفيها نص الكتاب بينه خالفت نص الجزية فلذلك كان موقوفاً على اجتهاد

ص: 283


1- فضل الله - السيد عبد المحسن - نظرية الحكم والادارة - ص 109 - دار التعارف - بيروت.

الائمة قال الله تعالى: (أمْ تَسألُهمْ خَرْجاً فخراجُ رَبكِ خيرُ) (1)

وفي قوله أم تسألهم خرجاً وجهان: أحدهما أجراً والثاني نفعاً وفي قوله فخراج ربك خير وجهان: أحدهما فرزق ربك في الدنيا خير منه، وهذا قول الحسن، قال ابو عمرو بن العلا: والفرق بين الخرج والخراج ان الخرج من الرقاب والخراج من الارض.

و في لغة العرب اسم للكراء والغلة ومنه قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم (الخراجُ بالضَّمَان) وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم والارضون كلها تنقسم أربعة أقسام: أحدهما من استأنف المسلمون إحياءه فهو ارض العشر لا يجوز ان يوضع عليها خراج، والكلام فيها يذكر في احياء الموات من كتابنا هذا والقسم الثانى ما أسلم عليه أربابه فهم أحق به، فتكون على مذهب الشافعي [رحمة الله ] أرض عشر ولا يجوز ان يوضع عليها خراج ... والقسم الثالث ما ملك من المشركين عنوة وقهراً فيكون على مذهب الشافعي (رحمه الله) غنيمة تقسم بين الغانمين وتكون ارض عشر ولا يجوز ان يوضع عليها خراج وجعلها (مالك) وقفاً على المسلمين بخراج يوضع عليها والقسم الرابع ما صولح عليه المشركون من ارضهم فهي الارض المختصة بوضع الخراج عليها وهي على ضربين احدهما ما خلا عنه أهله حصلت للمسلمين بغیر قتال فتصير وقفا على مصالح المسلمين ويضرب عليها الخراج.

والضرب الثاني ما أقام فيه أهله وصولحوا على اقراره في أيديهم بخراج يضرب عليهم فهذا على ضربين:

أحدهما: ان ينزلوا عن ملكها لنا عند صلحنا فتعتبر هذه الارض وقفاً .

ص: 284


1- سورة المؤمنون: الآية 72.

على المسلمين كالذي انجلى عنه اهله، ويكون الخراج المضروب عليها اجرة لا تسقط باسلامهم ولا يجوز لهم بيع رقابها والضرب الثاني ان يستبقوها على املاكهم ولا ينزلوا عن رقابها ويصالحوا عنها بخراج يوضع عليها.» (1)

اما السيد الشهيد الصدر قدس سره فيذكر «وفي خبر حماد ان الامام موسى بن جعفر علیه السلام قال: (وليس لمن قاتل شيء من الارضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر ... والارض التي اخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها أو يحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالى على قدر طاقتهم من الحق النصف والثلث والثلثين على قدر ما يكون لهم صالحاً ولا يضرهم)، ويعني بذلك أن ولي الامر يدع الأراضي المفتوحة عنوة إلى القادرين على استثمارها من أفراد المجتمع الاسلامي، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض لأنها ملك مجموع الامة، فحينما ينتفع الزارعون باستثمارها يجب عليهم تقديم ثمن انتفاعهم إلى الامة، وهذا الثمن أو الاجرة هو الذي أطلق عليه في الخبر اسم: الخراج، وجاء في الحديث: أن ابا برده سأل الامام جعفر عن شراء الارض من أرض الخراج، فقال: «ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين» وأرض الخراج تعبير فقهي عن الارض التي نتحدث عنها، لأن الارض التي تفتح وهي عامرة يفرض عليها خراج، وتسمى لأجل ذلك أرضاً خراجية، وفي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الامام علي بن موسى الرضا علیه السلام عليه وهو يشرح أقسام الارض وأحكامها «وما أخذ بالسيف فذلك الى الامام، يقبله بالذي يرى» وعلى أي حال، فإن أكثر النصوص التي قدمناها تقرر: أن رقبة الارض - أي نفس الارض - ملك لمجموع الامة، ويتولى الامام رعايتها بوصفه .

ص: 285


1- الماوردي - الاحكام السلطانية - ص 231 - بغداد 1989 - 1409 ه.

ولي الامر ويتقاضى من المنتفعين بها خراجاً خاصاً، يقدمه المزارعون أجرة على انتفاعهم بالارض. والامة هي التي تملك الخراج لأنها ما دامت تملك رقبة الأرض، فمن الطبيعي أن تملك منافعها وخراجها أيضاً. والنتيجة التي نخرج بها من كل ذلك هي: أن الارض المفتوحة مملوكة بالملكية العامة للمسلمين، إذا كانت عامرة حال الفتح، وهي باعتبارها ملكاً عاماً للامة ووقفاً على مصالحها العامة ولا تخضع لاحكام الإرث ولا ينتقل ما يملكه الفرد المسلم منها - بوصفه فرداً من الامة - إلى ورثته بل لكل مسلم الحق فيها بوصفه مسلماً فحسب، وكما لا تورث الارض الخراجية ولاتباع أيضاً، لأن الوقف لا يجوز بيعه فقد قال الشيخ الطوسي في المبسوط: أنه «لا يصح التصرف ببيع فيها وشراء، ولا هبة، ولا معارضة، ولا تمليك، ولا اجارة ولا إرث».

وقال مالك: لا تقسم الأرض، وتكون وقفاً يصرف خراجها في مصالح المسلمين: من ارزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير». (1)

لقد ارتيأنا توضيح الاراء الفقهية حول الارض الخراجية رغم تعددها وتنوعها والاراء والروايات الواردة فيها للتعريف بالخراج ومصادره الا أن هناك تطابقاً واختلافاً في بعض الاحكام بشأنها، والواضح أن الخراج هو مركز الموارد المالية للبلاد التي تصرف على امورهم واحوالهم العامة.

الاموال العامة والاستغلال الخاطيء

إن لكل مورد من الموارد المالية تشريع خاص بها للصرف لا يمكن

ص: 286


1- اقتصادنا ج 2 ص 444.

التلاعب به فقد نص عليه القرآن الكريم وعمل به الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والائمة الاطهار علیهم السلام من بعده، فاذا اختل التوازن فى التطبيق دخل مدخلاً محرماً شرعاً يؤثم به صاحبه اذ لا مجال للعبث بالمقدرات العامة، وكان امير المؤمنين علیه السلام يحاسب ولاته شخصياً حينما يصل اليه تلاعب احدهم بمال المسلمين وهو اشد شيء عليه مثلما يتأثر لسوء معاملة رعيته أو ظلمهم في بعض الاحيان، فهو يقول لزياد بن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة.

«وإني اقسمُ باللهِ قسماً صادقاً، لَئِنْ بلغني أنكَ خُنْتَ مِنْ فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لَأَشُدَّنَّ عَليْك شدّةً تَدَعْكَ قليل الوَفْرِ، ثقيلَ الظَّهْرِ، ضئيل الأمَرِ، والسلام» (1).

فعلى علیه السلام يقسم بالله هنا، اذا بلغه خيانته أي زياداً من خلال التلاعب بمال المسلمين من غنمية أو خراج واخذه له، ويقول له لئن كان هذا المال صغيراً أو وكبيراً فهو واحد لديه، فيهدده بالعقوبة الشديدة التي لا تفل أو تقل حتى تدعه قليل المال، لا يستطيع على مؤونة عياله ويصبح بعد ذلك حقيراً. اذن من خلال النص اعلاه نجد ان الامام علیه السلام كم كان يؤكد على مسألة الامانة الشرعية، ووضع الموارد المالية التي تعود للمسلمين جميعاً في محلها المنصوص عليه، ويلتفت امير المؤمنين علیه السلام كذلك الى ناحية اخرى وهو أنه لا يكون الاهتمام بامر الخراج والتأكيد عليه يدفع الجباة والعمال للضغط على الناس ويرهق كاهلهم ويسلبهم تحت عباءة الضرائب الخراجية أموالهم، فإذا كان الامر هكذا فسد الغرض من الاصل، الهدف ليس تحميل الناس ما لا طاقة لهم انما المعنى هو صلاح الناس، وليس الانقضاض على معائشهم وخراب ديارهم، والاعمال التي نتحدث عنها .

ص: 287


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 377.

ونفصلها هدفها هو استقرار المجتمع وتقدمه لا تحطيم المصالح العامة ودمارها والا انتفت الاسباب من جمع اموال الخراج، فان عمارة الارض كانت الاصل المهم للاستفادة من خيراتها للانفاق على مصالح الامة الاسلامية، والقرآن الكريم يحذر دائماً من الاستعمال والاستثمار الخاطىء لموراد الطبيعة واستغلال طاقة الانسان استغلالاً سيئاً بما لم يأت به نص ولا جاء به رسول. لان ذلك معناه تدمير الحالة المعنوية للانسان الذي تربى على هدى القرآن والسنة المحمدية والفساد لا يأتى من الاسفل بل من الاعلى الى ما هو دون، واول ما يدخل يكون على العقل الذي تسيطر عليه قوى الضلالة بحيث لا يميز الخبيث من الطيب. والعقل أما ان يكون عقل لانسان أو العقل الذي يدير المجتمع وهو القائد أو الوالي، فاذا شعر الانسان البسيط بذلك الانحراف الصادر من الرمز الاول في المجتمع والمخالف لارادة الباري عز وجل، دفعه الى الانحراف رويداً رويداً، وإن انحرف اختلت الموازين العامة فى المجتمع، فالابتعاد عن اصل الاعتقادات والايمان بتلك المبادىء السامية للدين يوّلد انحرافاً خطيراً وعاماً ومستمراً وتصبح العفونة عامة وسائدة ان لم تعالج قبل الوصول الى حالة الاحتضار ثم الموت، أي موت المجتمع والحضارة معاً. ولهذا يؤكد الامام علیه السلام على تفقد امر الخراج لصلاح اهله ويتبع ذلك المردود الايجابي الصالح على الجميع أي للصالح العام، فالاحساس بالانصاف في التعامل هو دفع معنوي للالتزام الخلقي بما فرضته الشريعة، والاخلال العام الذي يحدث من خلال عملية الجباية، والتحايل السلطاني والتلاعب الدهقاني كل ذلك سوف يدفع الناس الى التهرب من المفروض الشرعى الى العمل الشيطاني، وبالتالي فالتمرس على هذه المفاهيم الخاطئة والتي سببها الولاة في احيانٍ كثرة يؤدي الى فساد الامة والاقلال مما تجمعه خزينة بيت المال ان لم يؤد الى عدم دفع ما يتوجب دفعة وما يؤدي ذلك

ص: 288

الى اضطرابات ومشاكل وتحدٍ للسلطة القائمة والتى اما ان تتراجع وتسقط هيبتها، واما ان تستمر في الجور والظلم ومعناه الثورة والاضطرابات وضياع كل شيء، واما ان يعزل الوالي ويأتي من هو اكثر سياسة وعدلاً منه ومعناه فقدانه مكانته والنتيجة كلها خسارة بنسب متفاوتة، وهي في نفس الوقت خسارة للمجتمع بصورة اعم لان الاعتماد الرئيسى فى تقدم الحياة العامة ودوام مسيرتها على الخراج أي ما يدور من مال في كيان الدولة، وقد ذكر ذلك الامام علیه السلام في فصل الجند وارتباط اعمالهم وجهادهم «ثم لا قوام للجنود إلّا بما يُخرجُ الله لهُم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون وراء حاجتهم» (1) وبما أن الدولة الاسلامية تسدُ اكثر حاجاتها من الخراج لسعة الاراضى الزراعية وخصوبتها ووجود العاملين عليها فقد اهتم الامام علیه السلام بهذا الامر وتابع ولاته شخصياً، ثم يدفع الوالي الى العدالة في الجباية بحيث يستشعر الناس بالرحمة والمراعاة، وقد بيّن الامام علیه السلام الصورة التعامل وكيفية المسير الى جباية الخراج والمهام الملقاة على عاتق جباة الخراج في مراعاتهم الناس والاحسان اليهم في معاملتهم أثناء جمع الخراج وقد قال علیه السلام في ذلك: من عبد الله علىُّ أمير المؤمنين الى اصحاب الخراج:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ [سَائِرٌ] صَائِرٌ إِلَيْهِ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا؛ وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ وَ أَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ؛ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَ الْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ، لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ. فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ اصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ، فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ وَ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ وَ سُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ، وَ لَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ ر

ص: 289


1- نص العهد للاشتر

وَ لَا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ، وَ لَا تَبِيعُنَّ [النَّاسَ] لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَ لَا صَيْفٍ وَ لَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَ لَا عَبْداً، وَ لَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَ لَا مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ، وَ لَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَ لَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ وَ لَا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً وَ لَا دِينَ اللَّهِ قُوَّةً، وَ [أَبْلُوهُ فِي سَبِيلِ] أَبْلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا وَ عِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا، وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ». (1)

اذا قيل ان عهد الامام علیه السلام للاشتر يجب ان يكتب بماء الذهب، فالاحرى ان يكون كل كلامه كذلك، ففى كل كتاب وخطبة وفصل وكلام حكمهٌ وعلمٌ ومعرفةٌ وهدايةٌ، فكله متناسق مترابط يسند بعضه بعضاً، ويشرح كلامه بكلامه ويعبر عن القرآن والسنة الطاهرة بالتفصيل والتعريف والتعليل، فما تنتقل من خطبة الى اخرى أو كتاب الى آخر الا وتكتشف حقائق مجهولة اخرى تغنيك عن كثير من المعارف والعلوم.

وصایا انسانية لعمال الخراج

إن الكتاب الذي ارسله سيد الموحدين علیه السلام الى عماله على الخراج حوى مفاهیم اسلامية اساسية من التقوى والايمان والعمل الصالح والرحمة والانسانية، ابتداءً من العلوم اللغوية الى العلوم الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، ونلاحظ

ص: 290


1- نهج البلاغة ص 425، تحقيق د. صبحي المصالح.

فيه أيضاً الاهتمام بالامن الوقائى والعسكري وامن الدولة بصورة واضحة، فبعد أن يبيّن اهمية مسير عمال الخراج، ويؤكد عليه - أن العامل على الخراج - أن يفهم الى اين هو سائر ومع من يتعامل وكيف يتعامل، يحذر من العواقب والمخاطر التي يواجهها العامل، فالعامل هنا هو في مهمة صعبة يجب ان يراعي فيها جوانب متعددة وان يلتفت الى كثير من القضايا التي وضحها اليه الامام علیه السلام فيذكر ابن أبي الحديد في شرحه «يقول: لو قدّرنا أنّ القبائح العقلية كالظلم والبغي لا عقابَ على فعلها بل في تركها ثواب فقط، لم يكن الإنسان معذوراً إذا فرّط في ذلك الترك، لأنه يكون قد حرَم نفسَه نفعاً هو قادر على إيصاله إليه». (1)

اذن الطريق الذي يسلكه صاحب الخراج فيه مخاطر معنوية مرتبطة بين ذات الانسان وربه وما أمره وما نهاه، ففيه الموازنة الخاصة في التعامل مع الرعية، وعدالة تطبيقية تحتاج الى ايمان الهي عالٍ، ومراقبة النفس وصيانتها من الانحراف، ثم يقول الامام علیه السلام «فانصفوا الناس من انفسكم» اي أن الانصاف يكون لهؤلاء الناس من العمال، فإن من يتوق إلى بناء مجتمع سليم متكامل يجب أن ينتبه الى حالة الانسانية والسلوك الاخلاقي للمجتمع، ثم تكريم الانسان لكونه مخلوقاً عُزز بالكرامة والحرمة وكذلك عدم انتهاكهما.

وقد قال الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). (2)

وقد ذكر الطبري حول الامام علي قائلاً: «حدثني محمد بن عمارة .

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة المجلد 17 ص 20.
2- سورة الاسراء: الآية 70.

الاسدي قال حدثني عثمان بن عبد الرحمن الاصبهاني، قال حدثنا المسعودي، عن ناجيه، عن أبيه، قال: كنا قياماً على باب القصر، إذ خرج عليٌّ علينا، فلما رأيناه تنحينا عن وجهه هيبةً له، فلما جاز صرنا خلفه، فبينا هو كذلك إذ نادى رجل ياغوثاه بالله! فاذا رجلان يقتتلان، فلكز صدر هذا وصدر هذا، ثم قال لهما: تنحيا، فقال أحدهما: يا أمير المؤمنين، إن هذا اشترى مني شاةً، وقد شرطت عليه ألا يعطيني مغموزاً ولا محذقاً، فاعطاني درهماً مغموزاً فرددته عليه فلطمني، فقال للاخر: ما تقول؟ قال: صدق يا أمير المؤمنين، قال: فاعطه شرطه، ثم قال لِلأَطم اجلس، وقال للملطوم اقتص، قال: أو أعفو يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك اليك، قال: فلما جاز الرجل قال على يا معشر المسلمين، خذوه، قال فاخذوه، فحمل على ظهر رجل كما يُحمل صبيان الكتاب ثم ضربه خمس عشرة درّة ثم قال: هذا نكالُ لما انتهَكتَ من حرمته» (1).

اذن احترام حقوق الانسان وحرمته والمحافظة على ذلك هو اساس العدل الاجتماعي. وهذه كلها عوامل اساسية لبناء ذات الانسان و تقدير اهمية وجوده وصون كرامته.

وكلاء الامة وسفراء الائمة

في كلام بليغ لامير المؤمنين علیه السلام ينطبق بمفاهيمه على المعاني الاخلاقية والسياسية والاجتماعية بحقيقتها السامية التي تعطي الامة الروح المعنوية العالية والاستقرار النفسي والطمأنينة الكاملة، فعلي علیه السلام قبل الشروع بتعريف الموقع،

ص: 292


1- الطبري، محمد بن جرير - تاريخ الامم والملوك - الجزء الخامس - ص 157 - تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، بيروت، لبنان.

الخطير لعمال الخراج يأمر اولاً بالصبر على حوائج الناس «واصبر لحوائجهم، فانكم خزّان الرعية، ووكلاء الامة، وسفراء الائمة»، فالصبر هنا مطلوب لانهم خزّان الرعية أي المحافظون على اموالهم في بيت المال حتى توزع في مواردها المحددة، والذين لديهم هذه المهمة هم من أهل الامانة والصدق حتما، كذلك هم وكلاء الامة وسفراء الائمة - كما يخاطبهم الامام علیه السلام - لانهم يتوكلون جمع المال نيابة عن الامة الذين هم خزّانها، وسفراء ائمتكم الذين اعطوكم التخويل الشرعي لجمع هذه الاموال، والسفير يجب ان يتحلى بنفس صفات ولي امره الذي عينه في هذا المنصب وان لا يسيء استخدام تلك المهمة الشرعية، ثم «لا تحشموا أحداً» أي لا تغضبوا طالب حاجة فتقطعوه عن طلبه، أي افسحوا المجال لتقديم طلبه واستعراض حاجته وحل مشكلته ان استطعتم، «ولا تبيعُنَّ الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابةً يعتملون عليها، ولا عبداً، و لا تضربُّنّ أحداً سوطاً لمكان درهم».

فالرحمة والرأفة ورعاية حقوق الناس هي العامل المهم في التطور والتقدم، لان استقرار الذهن وصفاءه وعدم وجود القلق المستمر من نزول الظلم، يعطينا عقلية انسانية مبدعة، واذا حدث العكس فحينئذٍ تقع الطامة الكبرى على مستقبل تلك الامة وكيانها العام، ولهذا فقد نهاهم الامام علیه السلام من ان يجبروا الناس على بيع ممتلكاتهم الضرورية التي يقومون بها على مصاعب الاعمال ويستجلبون الرزق، ويحافظون على انفسهم فيها كثياب ابدانهم التي لا يمكن الاستغناء عنها الشتوية والصيفية منها، ولا دوابهم التي يستخدمونها في أعمالهم الخاصة من حرث الأرض أو دوس سنابل الحبوب بعد حصاده او نقل الماء عليها، وكذلك حمل اثقالهم وكذلك العبد الذي يستخدمونه في قضاء اعمالهم ويقدم لهم الخدمة ويقلل عليهم التعب والانهاك. ثم «ولا تضربُنَّ أحداً سوطاً

ص: 293

لمكان درهم» ثم الرأفة والعفو عند مواضعها، فلا تعذيب ولا سوط جلّاد ولا قوة قهرية على الناس لاستحلابهم واخذ اموالهم بل لم يعط الحق لعامل الخراج بضرب الانسان لأجل درهم! ثم (لا تمس مال احد من الناس مُصّل ولا معاهد) كذلك ليس من حقه ان يسلب مال احد من المسلمين والمعاهدين ظلما وعدواناً فهو ليس جباراً عنيداً مسطاً على رقاب الناس واموالهم بل عليه ان يسير في عمله بما أوصاه وليه، من احترام اعراض واموال الناس.

العدالة والمخاطر الاخرى

الحد الفاصل بين المسموح واللامسموح هو سلامة البلد الاسلامي من مخاطر التعدي والغدر، فاهل الذمة كفئة من المجتمع يجب أن تتمتع بالعدالة الحقوقية والعيش بسلام وأمن، والدفاع عنها في الوقت العصيب إلا أن يهددوا المجتمع الاسلامي في أمنه فعند ذاك أمر آخر. فأمير المؤمنين علیه السلام اوصى بحسن معاملة اهل الذمة في جباية الخراج كما هو الحال مع المسلم الذي سماه ب (مُصّل) حيث لم يفصلهم الامام علیه السلام و عاملهم بمنتهى العدالة الانسانية (لا تمس مال احد من الناس مصّل ولا معاهد) على حد سواء «إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على اهل الاسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام، فيكون شوكةً عليه» يصل الامام علیه السلام الى هذا المطلب الحساس فيطرح بعضاً من المفاهيم العسكرية والنظر الاستراتيجي لدفع الاخطار عن الاسلام والامة من جراء انتهاز العدو الفرصة بتسليح نفسه للغيلة بالمسلمين ومحاولة المعاهد جمع المال والسلاح والخيل وهي عدة القتال والحرب انذاك، أو تظنوا منهم وثبةً على بلد من بلدان المسلمين، فأنه حينئذٍ لا يمكن غض الطرف

ص: 294

عن اعمالهم أو التغافل عنهم فيجب ردعهم بالطرق المشروعة التي حددها الامام علیه السلام، وحذر من مخاطر بقاء السلاح في ايدي اعداء الدين، بعد ذلك يوصيهم أنْ ابذلوا النصيحة واسدوها لغيركم ولا تمنعوا انفسكم شيئاً منها وكذلك المعاملة الحسنة مع الجند ومساعدة الناس فيما استطعتم، قال ابن أبي الحديد «قوله: وأبلوا في سبيل الله أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب عليكم، يقال: هو يبلوه معروفاً، أي يصنعه إليه» (1).

واحسن الله الينا لنشكره وننصره بكامل قوانا فنصرة دين الله واعلاء رايته فوق كل الآمال والمنى، وبعد ذلك وينهي كتابه هذا بانه «لا قُوَّةَ إِلَّا ِباللهِ العليِّ العظيم» هذا التفصيل العميق في المعنى الذي اوضحه امير المؤمنين علیه السلام بما حواه الكتاب من مضامين دينية واجتماعية ونفسية يدلل لنا اهمية السير على هدى الائمة الاطهار ائمة الهدى من اهل البيت علیه السلام ابتداءً من علي علیه السلام حتى صاحب الامر المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فانهم نِعَمُ الله الينا والهداة المهديين عروة الله الوثقى التي لا تنفصم، انهم اساس العدل الاجتماعي والمعاني الخلقية الرفيعة والانوار البهية في ظلم الليل الداجي بهم يهتدى الى دين الله.

عمارة الأرض والخراج

وصف بعض الكتّاب علم الاجتماع بالعمران، والعمران يتبعه التطور الحضاري والمدني ويرافق ذلك الكثير من الاثار الايجابية والسلبية على حياة المجتمع ومعايشه وخلقه، وقد نظر علي علیه السلام الى أمر العمارة والخراج فربط بين الاثنين كأساس لبناء البلد واستمرارية الحياة المدنية المتطورة فقد قال علیه السلام في

ص: 295


1- شرح نهج البلاغة المجد - 17 ص 21.

العهد: «وَلْيَکُنْ نَظَرُکَ فِي عِمَارَةِ الاَْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِکَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَِنَّ ذَلِکَ لاَ يُدْرَکُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَکَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً» (1).

فهذه التفاتة رائعة فيها دقة متناهية فى النظرة العامة لمستقبل البلاد، فعمارة الارض هي شاملة هنا للارض الزراعية وتطوير الحياة المدنية في البلاد فالوالي المشرف على قيادة امر ولايته يجب ان يهتم وينظر الى عمران البلد والمحافظة على اهله، فلا يكن الهم الاول للوالي هو جباية الضرائب وترك العمارة جانباً، فاذا ما اهملت عمارة الارض فانها لا تنتج ولا تدر واذا ما تراجعت في انتاجها وفيضها فان ذلك سيقطع المال المطلوب للحياة العامة للبلد، فمسيرة الحياة في البلد تعتمد كامل الاعتماد على القوة الاقتصادية، فيجب ان يكون هناك توازن بين ما يأخذه من الخراج وما ينفقه على اعمال تطوير البلد وبنائه اي ما یعبر عنه في مصطلحاتنا الحالية (ميزانية عامة) هذه الميزانية تضعها الدولة لموازنة وضعها المالي مع البناء والتطوير والخدمات العامة ودعم الاقتصاد لتسيير الاعمال اليومية للمجتمع، ان النظر الى عمارة الارض ابلغ من النظر الى جباية الخراج، لان العمارة والتطوير هي التي تزيد الانتاج وتضاعفه اضعافاً، وكذلك فدعم الفلاح أو العامل على الارض واسناده وتشجيعه سیدفعه حتما الى بذل اقصى الجهد لتحسين الارض وطرق الانتاج وزيادته، اذن الحالة الفائضة للانتاج الوفير ستعود باثارها الحسنة على البلد والحكومة، نفسها فاذا ما زاد الانتاج زاد خراجه وزكواته، واذا ما زاد ذلك تطورت البلاد واستقرت العباد وتحسنت التجارة وقوى عضد الجيش وانتشر الامن، وبنى المصر، وتحسنت .

ص: 296


1- نص العهد للاشتر.

الاحوال، وابدعت العقول، وزادت الصناعات، وهكذا نحن في دوره مترابطة كاملة، فالبناء والتقدم يأتي من الارض وتطويرها ومساعدة العامل عليها، وبغير ذلك يحدث العكس تماماً؛ «والحضارة الاسلامية هي عمارة الارض وترقية الحياة على ظهرها: إنسانياً، وخلقياً، وعلمياً، وأدبياً، وفنياً، واجتماعياً، وفق منهج وشريعته، وبناءً على هذا المفهوم، فان المجتمع الاسلامي هو المجتمع الذي يطبق شريعة الله فى كل جوانب الحياة، وهو وحده المجتمع المتحضر، والمجتمع المتحضر هو الذي تكون القيم الانسانية والاخلاق الانسانية السائدة فيه، وهذه القيم هي التي تنمي خصائص انسانية الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من المخلوقات» (1).

ان طلب الخراج وجبايته ثم دثر الاموال واخفائها في الصناديق المقفلة وعدم صرفها في مواضعها هو خراب البلاد بعينه، وهلاك العباد، ان ذلك يعتبر مستوىً منحطاً من التفكير وسذاجة في الرأي وعدم مبالاة بامر الدين والمجتمع.

الكوارث الطبيعية ومسؤولية الدولة

إن البلدان تتعرض في بعض الاحيان الى كوارث طبيعية تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعى وتنشر الخراب وخصوصاً الارض الزراعية، فالى هنا يحدد الامام علیه السلام «فإن شكوا ثقلاً أو علةً، أو انقطاعَ شربٍ أوْ بالَّة أَوْ إحالَةَ أرضٍ اغتمَرَها غَرَقٌ أو اجحَفَ بها عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنهُمْ بِمَا تَرجُو أَنْ يصلح

ص: 297


1- السايح، الدكتور. الدكتور احمد عبد الرحيم - الحوار الحضاري ضرورة انسانية ص 21 مجلة الجامعة الاسلامية، العدد 6 السنة الثانية 1995.

به آمرهُمْ» (1)

ان الارض معرضة اكثر الاحيان الى جفاف قد يحدث أو اعصار مُدمر، أو صقيع قاتل للزرع، أو امطار في غير موعدها أو زلازل ارضية وما شابه ذلك، فالامام علیه السلام يؤكد هنا ان شكوا علة من هذه العلل واحسوا بثقل الوطأة عليهم، أو عدم وجود مياه الشربهم أو سقى مزروعاتهم، سواء كانت (بالَّةَ) مقطوعة أي عدم وجود المطر والندي ما يبل به الارض والزرع، أو تعفن البذور بسبب الفيضان وعدم الاستفادة منها، أو اتلفت الارض بسبب عطشها، ففى مثل هذه الحالات التي قد تحدث تكون مهام الدولة رعاية الناس اصحاب هذه المهنة ومساعدتهم في تخفيف العبء الثقيل الواقع عليهم حتى يصلح أمرهم ويقوون على تجاوز المحن والكوارث التي حلت بهم، لان الفرد اذا احس بالرعاية الابوية للدولة والاهتمام به كانسان عضو في المجتمع وكمزارع يحرث الارض الى جانب مساعدته المادية والمعنوية فان ذلك يعطيه زخماً قوياً للعمل الجاد على اعادة الاعمار والبناء وتعويض ما خسر بالجهد الاضافى المبذول وبزيادته الانتاجية سوف يستخرج ما وقع عليه من خراج طواعية وبارادة ذاتية يدفعه الى ذلك حبه للدولة والوالي لمساعدته اياه في وقت الشدة، فلا خسارة ابداً فيما انفقت الدولة من بيت المال على مساعدة المتضررين، وأن حصل نقص فيه، فان العائد والربح في المستقبل هو اكثر وسيعوض ما خسرته الدولة سابقاً.

الادخار النافع

«وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْکَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ

ص: 298


1- نص العهد للاشتر

بِهِ عَلَيْکَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِکَ وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِکَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِکَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِکَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِکَ لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِکَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِکَ بِهِمْ». (1)

اية صورة رائعة هذه فلو أنَّ الباحثين والدارسين جهدوا انفسهم لاستنتاج دراسة اجتماعية كاملة لا يمكن ان يصلوا الى قسم من عمق فكر هذا الامام علیه السلام.

إن المعانى فى هذه النصوص تناغم العقل وتحرك سواكنه وتدفع كوامنه باتجاه التفكير بالحل العلمي الصحيح لجميع مشاكل المجتمع.

حيث قدّم الامام علیه السلام الطريق الأنسب الذي ينتفع به الوالي مستقبلاً، فمع حالة الاعمار يقدم المساعدات لابناء شعبه، فان هذا التقديم وان كان من النزر اليسير فانه سوف يجلب حسن الثناء والاطراء للوالي، وإنه سوف يتبجح بعمله هذا مستقبلاً، وبصنعه العدل معهم سيفتخر ويسر لذلك أمام رعيته ذاخراً قوتهم ووجودهم عند الحاجة.

إن استقرار المجتمع وطمأنينة وقت الشدة والعسر من خلال مواقف الوالي السليم والمساعدات التي قدّمها لهم، ستجعله يحصل على قوة احتياطية جاهزة من أبناء الشعب وقت تعرض البلاد الى المخاطر لايمانهم بعدالة الحاكم وحكمه السويّ.

ان ذلك يجلب الناس ويخلق فيهم محبة خاصة لصاحب السلطة تساهم فيها وبقوة بالمحافظة على كيان الولاية ويخلصون لها ايما اخلاص لايمانهم بان العدالة ما دامت سائدة في البلاد فانهم بخير وارتياح دائم. ر

ص: 299


1- نص العهد للاشتر

الفقر والحاجة وتراجع العمران

هناك ارتباط واضح في الحالة الاجتماعية بين العوز والعمران.

وهذا الترابط يتناسب على شكلين، فإذا كان هناك اهمال وتباطىء في دعم الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلد والذي يؤدي احياناً كثيرة الى الفقر والحاجة فان ذلك يتناسب عكسياً مع العمران بحيث يؤدي هذا الامر الى خراب البلاد، واذا ما حدث العكس فان التناسب بين العمران والوضع الاجتماعي والاقتصادي يكون طردياً وبذلك يحل الاعمار بدل الدمار والخراب، وقد وضح ذلك امير المؤمنين علیه السلام «فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاُْمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ؛ وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاَْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ». (1)

فقد ورد عن الشيخ محمد عبده في هذا النص من أن «العمران ما دام قائماً ونامياً فكل ما حملت أهله سهل عليهم أن يحتملوا».

هذا اذا كان الوالي في الحالة الايجابية اما اذا كان في الوسط السلبي من التفكير فانه يسعى ويبذل الجهد لجمع الاموال وخزنها لنفسه خوفاً من المستقبل القاتم الذي ملأ ذهنه نتيجة لضعف الايمان وسوء الظن والوضع المتزعزع الذي يعيشه فيضغط وبصورة ظالمة غير آبه بما يؤول اليه الوضع العام وما ينتج عن ذلك من فاقة وعوز لدى الناس، وترك العمران الذى يعتبر اساس التنمية والتطور، وما أكثر العبر في التاريخ وما اقل الاعتبار، فكم من جامع للمال لم

ص: 300


1- نص العهد للاشتر

يحصل من ماله هذا الا على حفنة تراب في فمه ليواجه ربه بما اقترفه من ظلم برعيته، وكم من قائد مصلح في المجتمع يذوب في اهل بلده فیرعى مصالحهم ويديم عمرانهم ويسير في أسواقهم ويتفقد أحوالهم، ويعيش معيشتهم وهو مخلد على طول الدهر تردد اسمه الاجيال تعاقباً جيلاً بعد جيل وهذا هو المثل الصالح الذي يحب الناس ويذود عنهم فاحبه المجتمع عموما، بما اعطاه لهم من نفسه فعوضوه له اضعافاً كثيرة.

النظريات الاقتصادية الحديثة والعلاج الاسلامي

نتيجة للتفاوت الاقتصادي والثقافي بين المجتمعات تبرز بين الفينة والاخرى نظريات اقتصادية واجتماعية ترمى الى بناء اقتصاديات الدول والمجتمعات الا انها لم تعالج بصورة جادة وحقيقية مشاكل تقدم المجتمع ورفاهيته فقد تأتي نظرية تعطي الاهمية للجهد المبذول على حساب المنتج وصاحب العمل، أو تدفع الثانية قوتها باتجاه حجم الانتاج وحاجة السوق وحجم الضرائب المفروضة بل تأتي ثالثة لتؤكد على أهمية الضرائب العامة للدولة في حين يرفضها معارضوهم، وهناك تنوعات فى هذا الامر لا اريد الخوض فيها فهناك نظريات في هذا المجال للفيلسوف الاسكتلندي ادم سمت و ديفيد ريكاردو وكارل ماركس وغيرهم ومن تبعهم وسار على نهجهم، الا أننا نتمحور الان حول نهج البلاغة وما طرحه الامام علیه السلام من افكار هي من صلب الشريعة الاسلامية المباركة وكيفية معالجة تكدس الثروة ومجالات صرفها ضمن الحدود المشروعة في الاسلام لتحقيق المبدأ الاساس الذي اعتمده الدين الاسلامي الحنيف وهو تحقيق العدالة في المجتمع «والركن الثالث في الاقتصاد الاسلامي هو

ص: 301

مبدأ العدالة الاجتماعية التي جسدها الاسلام، فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الاسلامي من عناصر وضمانات، تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الاسلامية وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها فان الاسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادىء الاساسية، التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي لم يتين العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أو كله إلى المجتمعات الانسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية، باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة وإنما حدد الاسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين واستطاع - بعد ذلك - أن يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الاسلامي للعدالة.

فلا يكفي أن نعرف من الاسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية وانما يجب أن نعرف أيضاً تصوراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الاسلامي الخاص.

والصورة الاسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدئين عاميّن لكل منهما خطوطه وتفصيلاته:

أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي، وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الاسلامى تحقق القيم الاجتماعية العادلة، ويوجد المثل الاسلامي للعدالة الاجتماعية ... وخطوات الاسلام التي خطاها في سبيل ايجاد المجتمع الانساني الافضل عبر تجربته التاريخية المشعة، كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن الرئيسي من اقتصادنا» (1).

فالتوزيع العادل في الاسلام هو الضمانة الواقعية لتحقيق العدالة الاجتماعية 3.

ص: 302


1- نفس المصدر السابق ص 303.

مع الاهتمام بالموارد الاقتصادية للبلد وتقسيمها بصورة عادلة وتغطية كافة الاحتياجات مع الاخذ بالاعتبار نسبة الضرورات المهمة التي يتقدم بعضها على البعض الآخر، والهدف الرئيس في تنظيم الموارد الاقتصادية هو بناء المجتمع بهيا كله العامة.

عليّ القدوة الحسنة في القيادة والجهاد والعدل

إن علياً علیه السلام خيرُ مثال للقائد القدوة والخليفة الاسوة والممثل الشرعي لمبادىء السماء في الارض بعد خاتم الانبياء صلی الله علیه و آله و سلم «واهميّة علي في التاريخ الاسلامي ... وحضوره المستمر في وجدان الامة وذاكرة الاجيال المتعاقبة، لا تنبعان من قرابته للرسول صلی الله علیه و آله و سلم كما يحلو لبعض أن يتعامل مع هذه الشخصية المتكاملة ... على أهمية وحساسية هذا الاعتبار ... بل إن هذه الاهمية تنبع في الدرجة الاولى من حضوره، وإلى جانب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لحظة بلحظة، في مسيرة الاسلام الصعبة، وهو يتصدى لتغيير مجتمع وثني قبلي عصبي مشرذم ... وما ترك من تراث هائل، يدل على سعةِ أفقٍ، وايغال في ثقافات الأمم السابقةِ، وانخراط عريق في مغامرة الاسلام الكبرى ... ولقد اجتمعت في شخصه بصورة مستمرة، صفات المجاهد، والداعية، والحكيم، والرجل الورع والخليفة العادل الذي يهجس ويعمل لإقامة مملكة العدل والحق، استناداً الى مبادىء الاسلام التي اعتبرها في كل مراحل نضاله وسلطته، المرجع والمصدر والهادي في رؤيته وممارسته، ولم يقبل إطلاقاً أن يتساهل في تطبيقها حتى في دائرته الخاصة» (1).

ص: 303


1- عبد الحميد - يوسف - تكامل الحكمة وشموليتها في فكر الامام علي علیه السلام 133، الجامعة الاسلامية - العدد الثاني السنة الثانية.

فهو لم يسمح لبؤر الفساد والخراب بان تتكاثر وتنمو على حساب الحلقات الطاهرة في المجتمع أو على حساب مصلحة العامة من الناس وكان مثل هؤلاء الولاة يلاحقهم علي علیه السلام ويشدد عليهم ويعاقبهم في بعض الاحيان، ففي كتاب لبعض عماله فى هذا الشأن:

«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ وَ أَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ؛ بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ، فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَ أَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ. فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ، وَ اعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ؛ وَ السَّلَام.» (1)

يذكر الى عامله بانه قد وصلت اليه اخبار عنه فان صحت فقد اغضب الله سبحانه وتعالى لانحرافه عن الدين، ثم عصى ولي الأمر الذي نصبه في هذا المكان لعدم تطبيقه التعاليم الذي اعطاها إياه، ثم خيانته الامانة وعدم تطبيقه الشريعه، والتصرف بالاموال وفق الهوى وبالتالي خراب الضياع، ثم يطلب منه رفع تصفية حسابه ويعلّمه ان حساب الله سبحانه وتعالى هو اشد من حساب الناس. .

ص: 304


1- نهج البلاغة ص 41 تحقق د. صبحي الصالح.

ص: 305

الفَصْلُ الثّاني

اشارة

بطانة السوء والتكالب على استحصال المنافع

ص: 306

أن السلطة اذا استقرت في بلد ما وسارت الامور بدورةٍ طبيعية، وثبت امر الحاكم، وازدادت الاموال، وكثرت الطلبات على الحاجات، وتفنن الصنّاع في صنعتهم، وملئت الاسواق بالبضائع، ودرّت الارض خيرها، وانتشر العمران وتطورت الحياة لدى الناس حضارياً ومدنياً، واستقدم التجار البضائع من البلدان بالاسفار والتنقل، عند ذاك يصبح المجتمع في حالة جديدة من العيش والاستقرار فتزيد متطلباته، وتَشْخَصُ العيون الزائغة عن الحق، والانفس المليئة بالشر والظلم الى الحّوم حول السلطان والدخول الى قلبه بالفِ طريق وطريق حتى تنتهى الى كسب ودّه والحصول على مقعد بالقرب منه في مجلسه الخاص لتستحصل النتائج في نهاية المطاف بالاغارة على الاموال والاستئثار بالمنافع، وغاية هؤلاء كسب الترف والراحة لهم ولذويهم في الحياة، فمادام هؤلاء في خدمة السلطان فلهم الحق في التمتع بكل الالوان على حساب المجتمع. وهذا ما نراه سائداً فى اغلب البلدان ومختلف العصور الا أن سيد الموحّدين علياً علیه السلام يحذر من هؤلاء الخاصة والبطانة الذين سيلتفون حول الوالي ويخوضون في الامور خوضا من اجل الربح غير المشروع وقد تحدثنا في الخاصة والعامة من الناس الا أن الامام اميرالمؤمنين علیه السلام يؤكد مرة اخرى على البطانة بصوره خاصة «ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة؛ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِکَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْکَ الاَْحْوَالِ. وَلاَ

ص: 307

تُقْطِعَنَّ لاَِحَد مِنْ حَاشِيَتِکَ وَحَامَّتِکَ قَطِيعَةً، وَلاَ يَطْمَعَنَّ مِنْکَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ، فِي شِرْب أَوْ عَمَل مُشْتَرَک، يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَکُونَ مَهْنَأُ ذَلِکَ لَهُمْ دُونَکَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْکَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ». (1)

والبطانة التي يقصدها الامام علیه السلام هنا هي حاشية السوء والفتن والتي لا تشبع حتى تأكل راعيها وبلاده باساليبها الملتوية والخادعة والمحرّفة للحقائق وللكلم. والتى لا يسعدها ابداً أن تصل حقيقة واحدة الى الوالى أو يتصل الوالى بالناس، فهى تشكّل سياجاً بشرياً حوله، وتَصُمُ اذانه بالضوضاء المفتعل والكذب، والتصوير المعكوس، والتهويل احياناً والتسكين احيانا اخرى، وبما تقتضيه المصلحة الخاصة لهم. واذا كانت هناك خدمة للناس يأمر بها الوالى يتباطؤا في سيرهم ثم يعكفون بعد ان يبعد نظر الوالي عنهم، واذا كانت منحة لهم من الوالي يحثون الخطى ويسرعون اليها وربما يسقطون على الارض والسنتهم ممدودة من اللهاث امامهم وينهضون لان فيها تعبئة اكياس الذهب والفضة والدنانير لصالحهم، ليبنوا قصورهم وبساتينهم الغنّاء، وكأن القدر أوجب لهم ذلك بان يتملكوا كل ما حوت البلاد لاجل راحتهم وسعادتهم ومن يلوذ بهم. فالخاصة والبطانة التي ذكرها امامنا علیه السلام ووضح ان مصالحها سوف تصطدم بوجود العامة وحركتهم وطرق كسبهم وتطور امورهم الحياتية، ثم ينقلب الامر الى حركة ثابتة للاستئثار والتطاول على املاك المجتمع ومنافعهم التي يسترزقون عليها، لان البطانة يأخذها الشعور بالقوة والهيمنة لقربها من الوالي أو السلطان فتحاول نتيجة معتقدها هذا جمع المنافع لانها أرفع درجة واعلى مرتبة من الاخرين. .

ص: 308


1- نص عهد الامام علیه السلام للاشتر.

بطانة السوء في التاريخ

أن هؤلاء وجدناهم في التاريخ في العهد الراشدي خلال خلافة عثمان بن عفان، حيث استئثار بني امية بالاراضي الزراعية وتقسيم البلاد الاسلامية اقطاعات و ولايات بينهم ونهب بيت مال المسلمين بواسطة الاعطيات الكبيرة التي فرزها الخليفة من بيت المال الى تلك البطانة. ولهذا يقول الامام علیه السلام: «فلا تكُونَنَّ لمَرْوَانَ سَيِّقةً يَسوُقَكَ حيث شاء بَعْدَ جَلالِ السِّنِّ وتَقضِّي العُمُرِ» (1).

وكذلك قرأنا ذلك عن في العهود الاموية والعباسية وعصرنا الحاضر، وهذه البطانة تتعاون فيما بينها على اخفاء الحقائق عن الوالى أو السلطان دفعاً منها للضرر الذي قد يحدث لها في حالة علم الوالي، واحيانا بعلمه ورضاه اذا كان لا تقوى له ولا ايمان يمنعه من المحارم فانه يطلق العنان ودون اغماض عين بل بتشجيع ودعم مباشر منه على الاستحواذ في الممتلكات والضياع والسيطرة على الاسواق فيكون هناك ظلم فاحش وعدم انصاف في كل شيء، أنَّ لذلك آثارة السلبية الكبيرة على المجتمع، فاغتصاب الحقوق والاستحواذ على المناصب الحساسة في الدولة بدون حق أو قدرة تؤهل الى ذلك يولد الاضرار الكبرى للمجتمع والظلم الفاحش لمن له الاهلية الكاملة في تلك المناصب والقادر على إدارة المواقع الحساسة في البلد.

وبعلمنا ان علماء الاجتماع والسياسة والنفس يدخلون في كافة تفاصيل الحياة العامة ليخرجوا بالدرس الامثل والاحسن لنجاة الشعوب من الضرر

ص: 309


1- نهج البلاغة البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح ص 235.

والدمار والمحافظة على العمران من خلال إقامة المؤسسات ومراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو نفسية أو عسكرية والهدف من ذلك هو الحصول على الطريق الامثل والاكثر صيانةً ومحافظةً على البلاد والعباد ووضع الخطط المستقبلية لذلك. وهذا امامنا على علیه السلام قد اعطى كل شيء ووضع الامور في نصابها الكامل وقدم النتائج العظيمة للسير على هداها وما نحتاجه هو الدراسة والتحليل الصحيح لتلك الدروس الوافية والتي تغني عن غيرها.

دفع الاضرار وقطع الاسباب

يطلب الامامي علیه السلام من الوالي محاربة تلك الفئة ودفع اضرارها عن الامة بقوله «فاحسِم مادَّةَ أولئِكَ بقطعِ أَسبَابِ تلِكَ الأَحوَالِ» اي عمل هؤلاء، فيوصي علیه السلام بابعاد شرهم واعمالهم الخبيثة عن الناس والوقوف بوجههم ومنعهم من التعدي على حقوق المجتمع وممتلكاته، فلا عصبية ولا استحواذ على منافع الناس بالقهر فهم تحت رعاية خليفة المسلمين الشرعي وواليه، ولا يمكن السماح بالتصرف في امور العامة من الناس بالارادات الشخصية، وامور الناس هي امانة فى عنق الوالى ومطالب بايصالها سالمة في نهاية الامر لان الله امره بذلك وقد ذكر ابن ابي الحديد انه «نهاه عليه السلام عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصَّه على رقاب الناس، وأن يمكّنهم من الاستئثار عليهم والتطاول والاذلال، ونهاه من أن يقطع أحداً مهم قطيعة، أو يملّك ضيعه بمن يجاورها من السادة الدهاقين في شرب يتغلبون على الماء منه، أو ضياع يضيفونها الى ما ملكهم ايّاه، وإعفاء لهم، فيكون مؤونة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم

ص: 310

وحِمْل ثقلها على غيرهم» (1)، «فيكون مَهْنَأُ ذلِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَليكَ في الدُّنْيَا والآخرةِ» أي انهم يأكلون ذلك هنيئاً وهم مرتاحون لان ذلك يدخل ضمن الحصول على المنافع والمكاسب التي تزيد الثري منهم ثراء والمالك الصغير املاكاً أكبر ويستلذون بطعم تلك الغنيمة المحملة بالآثام والحرام هذا من ناحيتهم. اما من ناحية الوالي - ولا زال الامام علیه السلام يوصي - فان عيب ذلك يعود عليك كوالي للمسلمين وحارس امین وسائس حکیم فينفر منك الناس وتهبط ثقتهم بعد التك وتزداد الفاصلة بينك وبينهم وتصبح على ألسنة العامة من الناس لقمةً يلوكونها في فمهم ثم يؤدي ذلك الى قضمها واكلها اذا ما طفح الكيل وتفاقمت الامور ولم تعالج وازدادت سوءاً. فلا خير ينُتظر ولا استقرار يُرجى بعد ما زاد التطاول والاستحواذ بغير حق فيكون مرجع ذلك الخزي والعار على الوالي بين الناس ثم العقاب الالهى وحمل وزر غيره اضافة الى وزره يوم الدين، فلادنیا فاز بها بحسن سمعة عند الامة ولا رضاء الله حصل عليه وبالتالي محاسبته في اليوم الاخر، فانها خسارة في الدنيا والاخرة.

اما لماذا يؤكد الامام علیه السلام على هذا الامر بهذه الصورة ويحذر وينهى عنه؟! نعود ونقول انما يؤكد ذلك لغرض تثبيت العدالة في الحكم والارتفاع بايمان الوالى وتقواه لان تلك الانحرافات سوف تؤدى الى خراب البلدان ودمار اهلها وبالتالي ان الامر كله هو رعاية مصالح المجتمع وعدم التجاوز على حرماته، فالاسلام يريد بناء المجتمعات الانسانية على تلك الاسس الحية التي تعطي لمسيرة المجتمع تجديداً وشباباً وبالتالي العدل والحضارة والعمران للبلدان، واذا حدث العكس من ذلك فمعناه الهرم المبكر للدولة وتلاشيها من الوجود بفعل 7.

ص: 311


1- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 97.

غز و خارجي أو فساد اجتماعي أو خلل في الحياة العامة. ثم لا حكم بدون رعية و لا رعية بدون حاكم، فالاثنان يكونان طرفي الموازنة في المعادلة الاجتماعية وبتساوي النظرة العادلة بين الطرفين وتقاربهما باتجاه حفظ كيان المجتمع وعدم تبديد طاقاته يجب القيام بالقبض على الايادي الممتدة للنهب والسرقة وقطعها حتى يستديم الامر. وينعم الجميع بالسعادة والرخاء. ثم قال علیه السلام: «وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَکُنْ فِي ذَلِکَ صَابِرا مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذَلِکَ مِنْ قَرَابَتِکَ وَخَاصَّتِکَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْکَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِکَ مَحْمُودَةٌ» (1)

«والزام الحق لمن لزمَهم وإن ثقل على الوالي وعليهم فهو محمود العاقبة بحفظ الدولة في الدنيا ونيل السعادة في الآخرة» (2)

وقد عبر عن ذلك امير المؤمنين بوصف ذلك الانسان المتقى الذي يلزم نفسه الحق والعدل: «فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ، قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ، لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ» (3).

وكذلك في كتابه الى الاسود بن قطبة صاحب جند حلوان، فانه يحذر من أن الوالي اذا تبع مآربه الشخصية واطاع نفسه الشهوانية وغريزته الشيطانية فان ذلك سيمنعه من اقامة العدل «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ 9.

ص: 312


1- نص العهد للاشتر
2- محمد عبده - ج 3 - ص 105.
3- نهج البلاغة - تحقيق د. الصالح ص 119.

كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ، فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ، وَ ابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَ مُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ.» (1) .

ص: 313


1- المصدر السابق ص 449.

ص: 314

البابُ الخامِسْ

اشارة

السلطة والعلاقات العامة مع الامة

ص: 315

ص: 316

الفَصْلُ الاَوَّلُ

اشارة

الوالي والروح الانسانية

ص: 317

ص: 318

ان البلاد الاسلامية التي امتدت اطرافها الى بلاد فارس والروم وما بعدها كانت تضم في مملكتها قوميات متعددة واجناس مختلفة. وادارة شؤون هؤلاء الخلق ليس بالامر الهيّن الذي يمكن ان نجعل صورته كما نرسمها في اوراقنا وكتبنا. بل من السذاجة العقلية تصور بساطة قيادة هذه الامة. اذ أن هناك الاختلافات السيوسولوجية (الاجتماعية) والنفسية والعادات والتقاليد والاعراف والمراسم وغيرها، وكل تلك جمعها الدين في بوتقة واحدة هو الاسلام. واعطى الاسلام الحرية الكافية لتلك الامم والشعوب بما لا يخالف المبدأ الاصلي في الشريعة. وكذلك استوعبت هذه الشعوب الحركة الجديدة والمباديء الانسانية للاسلام، للروح الحية التي تحملها هذه الشريعة التي اهملت الكثير من العادات والتقاليد التي تتنافى والدين وحلّت محلها روح الاسلام وعظمته، وخلقت منهم روحاً جهاديةً ثائرةً فتحت البلدان الاخرى، وبرز منهم العلماء والمفكرون مما لا يعد ولا يحصى. بل حتى ان اهل الاديان الاخرى كانوا يعيشون بسلام وامان وهم (اهل الذمة). فالامام علیه السلام كان ينشر رحمة الاسلام على الامة جمعاء ويدعو الى اللطف والمحبة في العلاقات والتعامل «وأَشعِر قلبَكَ الرَّحْمةَ للرعية، والمحَبَةٌ لَهمْ، واللُّطفَ بِهِمْ» (1)

ص: 319


1- نص العهد للاشتر

العطف على الرعية والمحصلة النهائية

التعاطف شعور انساني يؤثر في اعماق النفس وينتج الود والمحبة والاخلاص، ثم إنه عمل عقلائي واخلاقي وانساني و علي علیه السلام يقول:

«ورفقا برعيتك» اي ارفق بهم واعطف عليهم وطالما كرر الامام علیه السلام كلمة الرعية وصب لذلك جل اهتمامه لان الناس ليسو اغناماً سائبة تعلف في البوادي وتشرب الماء الآسن في الوديان جمعها الوالي أو السلطان في كهفه يحَزُّرقا بها متى شاء ويأكل من لحمها متى اشتهى ويبیع جلدها وصوفها متى ما دکّه العوز والفاقة، وان ماتت لا يهمه أمرها وان عاشت لا يسعد ببقائها سيان عنده امرها ما دام هو على قيد الحياة وينتفع بكل مكوناتها. فالامر ليس الامر هكذا انما الرعية بشر مثله لهم ما له عند الله وعليهم ما عليه والسلطة في الاسلام ليست تكريماً وتشريفاً انما هي تكليف شرعي لقيادة الامة وفق ما اراده الله ورسوله والائمة من بعده. وهي ليست حكراً له ولاولاده من بعده إنما أمرها واضح، والبلاد ليست املاكاً مقطوعةً له يتصرّف بها كيفما يشاء خلافاً لما حددته الشريعة في احكامها والصلاحيات التي خولته بها. ورعاية المجتمع في الاسلام تعني تطبيق الشريعة اولاً، واحقاق الحق واقامة العدل وانصاف المظلوم ونظم الامر حتى لا يختل التوازن الاجتماعي وتضيع الامور ويفلت الزمام. ولهذا يؤكد الامام علیه السلام على ذلك ويقول: «فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، واعذاراً تبلُغُ به حاجتك من تقويمهم على الحقِّ». الرياضة: تعني تمرين النفس على الشيء، وما تقدمه من اعذار أو تبديه فانك تدفعهم الى العدل وطريق الحق الذي هو غايتك، الم تكن الغاية اصلاح امر الناس وتعويدهم على

ص: 320

السلوك الواضح والسليم. فما تقدمه لهم من عطف و محبة ورعاية سوف تبلغ به مبلغك من الهداية لهؤلاء الناس والاستقامة في أمورهم وبالتالي البناء السليم للمجتمع والعيش الهانى في ظل رعايتك لهم وقدرتك على نفسك في تطبيق الحق والنظر في امورهم.

ان نشر المحبة والالفة، والاستشعار بان الوالي يسعى الى ان يكون قدوة الاخلاص والوفاء والتعاطف فى مجتمعه ويتخلّق على الاثر الطيب والمقابلة الحسنة عند الناس.

الرعية ورحمة الوالي

كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خير من مثل الاخلاق بكل معانيها في تعامله وسيرته مع الناس وقد قال القرآن في حقه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (1).

ثم في آية أخرى (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (2) أو آية اخرى (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (3).

يؤكد القرآن على الجانب الانسانى والعلاقة الايمانية، ففى الجانب الانساني يؤكد على الاخلاق والسيرة الصالحة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مع الناس كافة، إن القيم التي سار بها صلی الله علیه و آله و سلم والروح الانسانية الصادقة التي عاش معهم بها هي التي اراحت الانفس وسكنت القلوب وملكت الارواح. وفي هذا الجانب يؤكد

ص: 321


1- سورة آل عمران: الآية 159.
2- سورة الحجر: الآية 88.
3- سورة الشعراء: الآية 215.

القرآن على العلاقة الايمانية وما تستوجبه من تعامل يحتاج الى خفض الجناح للمؤمنين وهذا هو منتهى الرعاية والعطف والرحمة. وان اصل الرسالة وارسال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وهو رحمة للبشرية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (1).

فالرحمة الالهية المهداة من الخالق الى المخلوق لها تفاسير متعددة ذكرها المفسرون في كتبهم، ولها صور في عدة جوانب يراها القارىء المتمعن والباحث البصير والمفسر الخبير. فالرحمة عامة وشاملة، ومن هذه المفاهيم القرآنية يأخذ علي علیه السلام قيمِهِ ومبادئه ويستمدها من هذا الفيض الالهي العظيم وينشرها على رعيته، ويعمل بها ليتعظ ولاته واصحابه ومن تبعه الى يوم الدين. فهو يرأف برعيته وقلبه كله رحمة عليهم، ويدفع ولاته الى اشعار الرعية بالرحمة من خلال الجنبة الاخلاقية في التعامل معهم بالمحبة واللطف والحنان والمودة، وفي ذلك يقول: «وأشعر قلبَكَ الرَّحْمةَ للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم» (2).

ولذلك نجد الامام علیه السلام يحذر من العدوان والشدة على الناس الابرياء وينبه لذلك بل ويعاقب في احيان اخرى من خالف امره فى هذا المجال. ويتضمن كلام وصي رسول الله علیه السلام بأن الوالي ليس سيفاً مسلطاً على رقاب الخلق يتحين الفرص ويستغل الاوقات المناسبة ليأكل الناس ويقضمهم كما يقضم السبع فريسته.

الرعية والتعامل الحكيم

لقد ابتدأ الامام علیه السلام ببيان الروابط الموجودة بين الناس جميعاً، حتى يهيىء

ص: 322


1- سورة الانبياء: الآية 107.
2- نص العهد للاشتر.

ذهن الوالي بعد ان قدم له بكلام في اهمية الرحمة بالامة، واسداء المحبة لهم واللطف بالمعاملة معهم، ثم يوجه انتباهه الى ان هؤلاء الناس الذين تربطك معهم رابطة دين فاوصيتك بهم وربما منهم تصدر بعض الاخطاء فاعطف عليهم لتلك الوصية ولوجود الرابطة. انها اروع الصور للمعالجة الاجتماعية والمراعاة النفسية في كيفية تهيأت الحالة النفسية للوالى لقبول الطرح التالي وهو الصفح عن الخطأ والعفو عن الزلل في قبال ذلك الطلب وتلك الرابطة. ثم يمد الامام علیه السلام ذلك المحور كله ليربطه بالعلي القدير حتى يتذكر ذلك الوالي قدرة الله عليه، أي ينتقل الى مسألة رضاء الله الذي لا يتم الا برضاء رعيته ومراعته لهم. كما بيّن في هذا النص: «يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ.».

السيرة الصالحة

ان القائد لابد وان تكون لديه مؤهلات خاصة ولنَقُل ثقافة عامة واطلاع خاص بالعلوم السياسية الاجتماعية والنفسية مع دراسة ومعرفة لطبيعة وتاريخ الشعب الذي يحكمه حتى يطلع على طرق وأساليب حياة ذلك المجتمع، وهذه الامور في غاية الاهمية، لان اوضاع وطبيعة معيشة الناس في مكان ما واسلوب حياتهم له خصوصية ذاتية يتميز بها عن غيره، ولا يمكن قياس المجتمعات على نمط واحد من اسلوب الحياة فما دام الراعي هو الاقرب الى ذلك المجتمع، وعلى خط الاصلاح، وبناء المجتمع الصالح، فهو يحتاج الى التربية العامة للمجتمع.

ص: 323

ويجب ان تكون طرقها ومناهجها مدروسة دراسة تامة وذلك بوضع منهجاً عاماً للتربية الاجتماعية باتباع الطرق المناسبة للاصلاح وبالتدريج كما اوضحته الرسائل العملية الفقهية في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في كيفية البناء التربوي للانسان وتصحيح مسيرته وفق مراحل متعددة وباسلوب علمي دقيق تراعى فيه مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية مادام الهدف هو الاصلاح والتقويم وبعكسه لا تستقيم النفوس بل قد تحدث معصية اكبر وطغيان اعظم وعناد أشد باتجاه السلب وعند ذاك ينتهى كل شيء، وفي عصرنا الحالي تكون طبيعة عمل عالم الاجتماع اذا طُلب منه وضع خطة مستقبلية للتربية الاجتماعية لبلد ما، الدراسة والاستنتاج والاستقراء، فيبدأ بدراسة علاقة الحاكم والمحكوم، ومعرفة أهمية ذلك على صورة المسيرة التضامنية ومدى التعاون بينهما ثم حركة المجتمع واتجاهاته وما الى ذلك. وقد اعطى الامام علي علیه السلام الخطوط العامة الدقيقة والنتائج الكاملة في بناء المجتمع بناءاً محكماً سليماً ويمكن ان تطرح هذه الحصيلة كأنموذج حضاري للعمل به في المجتمعات والشعوب المختلفة. في حين ان هناك امماً كثيرة لم تذق طعم الحياة الحقيقي، أولم تشعر هذه الامم في يومٍ من الايام بانسانيتها وحقوقها، والمنهج الذي طرحه الامام على علیه السلام هو افضل السبل للحصول على النتائج الايجابية في مسيرة المجتمعات، فالزلل والخطأ سواءً كان عمداً أو بغير عمد يحدث من أى أنسان والانسان غير معصوم من الخطأ، فالغرض الذي يبتغيه الامام علیه السلام هو البناء التربوي للمجتمع، وتشمل التربية الجميع ابتداءً من صاحب الامر ونزولاً الى المعلم المربي والافراد بصورة عامة، والعامل على الشؤون العامة والخاصة والاسرة شمولية المجتمع، فقمة الهرم في المجتمعات هو صاحب السلطة الذي يمثّل اساس بناء سلوك المجتمع، وحافظ المسيرة من الانحرافات المتنوعة وله اثر

ص: 324

فاعل في التغيير نحو الاحسن والاجدى. فعلى علیه السلام يعطي هنا الطرق الانسب لحفظ كيان المجتمع من خلال الشروع بالوالي أولاً لانه المثل الاول والمعلم والقائد الذي يصون الامة ويحفظ كرامتها ولهذا يؤكد في جانب آخر من هذا النص على أختيار العمال وفق خواص مجتمعه طرحها في النص وبدون (محاباة وإثرة) (كما ورد عنه علیه السلام.

آلة الرئاسة سعة الصدر

هذا العنوان هو كلام علي علیه السلام ويرتبط ارتباط مباشراً مع هذا النص الذي يقول فيه: «فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحة» يريد منه أن يعطي من حلمه وسعة صدره الشيء الذي ينفع فالرئيس محتاج الى الاخلاق الحميدة والصفات الكريمة ومنها سعة الصدر لادارة شؤون البلد فبدونها لا تتم الادارة. فان الصفح عن خطايا الناس هو من الحلم ويعطي القدرة على تحمل الاشياء التي لا تتوافق احياناً وهوى النفس. وهو لا يريد للحاكم ان يكون حجراً اصماً لا يسمع ولا يعى ولا يتفاعل ورجلاً انتزعت الرحمة من قلبه واصبح ديكتاتوراً، وينسى نفسه وحاله فى نهاية امره من انه سيواجه الجبار المتعال في ذلك اليوم المحسوم، وتؤكد الدراسات الاجتماعية والنفسية في الوقت الحاضر على ان يكون التقويم للمجتمع وفق متبنيات عقائدية تحمل سمات اخلاقية واجتماعية كمبادىء الاسلام، والتي تكون انفع دواءً لبناء المجتمع ومن العقاب المباشر قبل التوجيه ومراعاة الظروف، والتجاوز عن السلبيات مع إسداء النصح والارشاد في نفس الوقت. وكما ان الاصلاح يجب ان يترافق مع البناء التربوي والتلويح بحكم القانون ان

ص: 325

حالة حدوث تمادي أو سوء استفادة من لدن البعض لغرض استغلال المجتمع وهتك حرمته وامنه. ونلاحظ الآن علماء الاجتماع والنفس يؤكدون على اهمية اصلاح الذات الانسانية وتربيتها واستمرار العمل معها بمسايرتها وعدم اطلاق العنان للشر لكى يتخذ مكاناً له فى نفس الانسان. وهذه التأكيدات جاءت بعد دراسات تطبيقية واستقراءات نفسية واجتماعية اخذت من بعض المجتمعات وفق طريقة دراسة العينات، وتوصل فيها الجميع الى نتائج جيدة ووضعوا لها نظرياتهم الخاصة للعمل بها.

طغيان السلطة وجبروت الوالي

الحقيقة ان هذا الامر له سلبياته واضراره ومخاطره الجسيمة على الامة والبلاد، لان الوالي اذا طغى استهان بكل أمر حيوي، ولم يهمه ظلامة امة بكاملها من اجل اشباع رغباته وكبريائه لان هذا الانسان تتنازعه سلطات متنوعة منها ذاتية داخلية ومنها مؤثرات خارجية واحداهما، تؤثر على الاخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وقد تطغي عناصر الشر في نفسه فيتكبر ويطغى «واعظم ما يحمل الانسان على الطغيان ما يصير عنده من مال كثير أو ما يكون له من سلطان نافذ، فالاول هو طغيان المال، أي الطغيان الذي سببه المال. والثانى هو طغيان السلطان أي الطغيان الذي سببه السلطة التي تكون للانسان وكلا النوعين من الطغيان مدمر ومهلك وفقاً لسنة الله تعالى التي لا تتبدل ... والمقصود بطغيان السلطة تجاوز حدّه وقدره بسبب ما أوتيه من سلطة الامر والنهي ونفاذهما على الغير ولو جبراً وقهراً عند الاقتضاء وأكثر ما يكون هذا الطغيان عند الحكام وولاة الأمر لان سلطتهم وطغيانهم تتعلقان

ص: 326

بعموم الناس وهم الذين يبتلون بشرور طغيانهم والنموذج لطغيان السلطة طغيان فرعون، والذي كان من مظاهر تجاوزه حدّه وقدره تكبره على الخالق حتى ادعى لنفسه الربوبية، وتكبره على خلق الله حتى استعبدهم وظلمهم وغمطهم حقوقهم. وقد كرر الله تعالى قصة فرعون في آيات كثيرة للاعتبار والاتعاظ لحاجة الناس الى الاعتبار بقصة هذا الطاغية وما حلَّ به عقاباً لطغيانه، وذلك لكثرة ما يبتلي البشر بطغيان السلطة، ومن جملة ما ورد في القرآن الكريم بخصوص فرعون وطغيانه قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ﴿15﴾ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿16﴾ اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿17﴾). (1)

قال الامام الرازي في قوله تعالى (إنه طغى) قال بعض المفسرين معناه أنه تكبر على الله وكفر به، وقال آخرون إنه طغى على بني اسرائيل، والاولى عندي الجمع بين الامرين، فالمعنى انه طغى على الخالق بأن كفر به وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم ... ومن طغيان السلطة على الناس (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴿6﴾ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴿7﴾ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴿8﴾ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴿9﴾ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ﴿10﴾ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴿11﴾ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴿12﴾ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴿13﴾) (2).

قال ابن كثير في قوله تعالى (الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد) أي تمردوا وعاثوا فى الارض بالافساد والاذى بالناس.

وقال الالوسي في قوله تعالى (وفرعون ذي الاوتاد) وصف بذلك لكثرة .

ص: 327


1- سورة النازعات: الآيات 15 - 17.
2- سورة الفجر: الآيات 6 - 14.

جنوده أو لانه كان يدق للمُعذَّب أربعة أوتاد ويشده بها مطروحاً على الارض فيعذبه بما يريد من ضرب أو إحراق أو غيره ... في الآيات التي ذكرناها من

سورة الفجر، جاء فيها بعد ذكر طغيان فرعون ومن قبله (الذّين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد) وقد جاء في تفسيرها «أي انزل عليهم رجزاً من السماء وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين وفي تفسير الالوسي في قوله تعالى (إن ربك لبالمرصاد) تعليل ما اصاب أضرابهم المذكورين من العذاب.

والآية وعيد للعصاة مطلقاً، وقيل للكفرة، وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن، وفي تفسير القرطبي في قوله تعالى (إن ربك لبالمرصاد) أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به (1).

فيبدأ اذن طغيان الانسان بتحدي الله تعالى لكن (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (2) حتى اذا ما طفح الكيل يأخذه الله بامره اخذ عزيز مقتدر الى حيث الهوة السحيقة حينئذٍ يطلق صيحات الرحمة طالبا اياها من ربه، وهناك يُخبَرْ بان حكم الله قد مضى بعد ما جاءه من الرسل لتصحيح مسيرته والعودة عن غيه فابى واستكبر ونسي أن الدهر لا يمتد به كثيراً. وكم من ظالم ومتكبر قهر الناس بظلمه ويحسب الخلد الدائم ولا يعلم انه يوما ما سيعود الى بارئه، وانه كائن ضعيف اتجاه خالقه العظيم، وهنا يحدث الانهيار في ذلك المجتمع، ولا نذهب بعيداً في التفسير في أن الانهيار يعني موت الشعب والحاكم في ليلة واحدة، انما الانهيار الذي اقصده هو سقوط الحالة العامة السائدة في المنهج 5.

ص: 328


1- زیدان - الدكتور عبد الكريم - السنن الالهية في الامم والجماعات والافراد ص 190 الطبعة الاولى 1993 م - 1413 ه.
2- سورة البقرة: الآية 15.

التعاملي الاخلاقي بين المجتمع وضياع الالفة والمعاني والقيم الاخلاقية التي تحفظ المجتمع من الانهيار العام في العلاقات، وبذلك تفقد الثقة والاطمئنان والاستقرار وينتهي دور التقدم والتطور والنمو ويبقى في مكانه ليتراجع بعد ذلك الى الخلف وتحت اقدامه ارض محروقة وآبار جافة وانهار يبست و عمران قد خرّب وصراع الموت بين المجتمع وبالتالي النهاية المحتومة للجميع، الى ذلك ينبه امامنا علیه السلام ويذكر بارادات الله جل شأنه ووجوده، وعدم الوقوع في الانحراف.

ص: 329

ص: 330

الفَصْلُ الثَّاني

اشارة

الدعوة للقاء الامة وعلم الاجتماع السياسي

ص: 331

ص: 332

للعلاقة الصميمة بين فئات المجتمع والراعي اثار ايجابية مهمة تنعكس علائمه المستقبلية في تطور المسيرة الاجتماعية وتقدمها، وقد شمل عهد الامام علیه السلام للاشتر جانبا من مسألة لقاء الامة ومعالجة السلبيات من خلال اطلاع الراعي عن قرب على حقائق امور المجتمع والتأكيد على هذا الامر المهم.

وفي المقطع الآتي مفاهيم ودروس في علم الاجتماع السياسي «وَأَمَّا بَعْدُ، فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَکَ عَنْ رَعِيَّتِکَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاُْمُورِ؛ وَالاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ؛ وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الاُْمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْکَذِبِ؛ وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُکَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُکَ مِنْ وَاجِبِ حَقّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل کَرِيم تُسْدِيهِ! أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ، فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِکَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِکَ! مَعَ أَنَّ أَکْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْکَ مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْکَ، مِنْ شَکَاةِ مَظْلِمَة، أَوْ طَلَبِ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة». (1) ر

ص: 333


1- نص العهد للاشتر

يقوم قادة الدول في الوقت الحاضر بمناورات سياسية واجتماعية وتحركات عامة لجلب الانظار والتوجه الى الامة بالزيارات الشعبية لغرض كسب ود الجماهير والتحدث إليهم والاطلاع على امورهم التي تهم حياتهم عن قرب ومعرفة ما يدور في نفوسهم وما وقع عليهم من حيف أو خلل في المسيرة العامة واحيانا يبشرهم بالمستقبل الزاهر السعيد ويوعدهم خيرا، فإن ذلك يدخل على قلوبهم السرور والفرحة والبهجة والامل الكبير ويرفع درجة الثقة بين القائد وشعبه لابل وتتوثق العلاقات الاجتماعية بين الناس وتتماسك وتزيد من قوة اتحاد الشعب ومحبته والتفافه حول تلك القيادة، وهذا اسلوب مُتبع الآن في الثورات الشعبية أو القيادات الجماهيرية التي تقود بعض البلدان والتي تؤدي الى تقدم البلد وتطوره نحو الاحسن على العكس من القيادات المحاطة بالاسلحة المدججة والقابعة في القصور الذهبية الفارهة والحاكمة من وراء الستار الحديدي بحيث لا يهمها ان ظلم الشعب أو هتكت حرماته بل لا يعلم بما تدور عليه الاحوال الا بعد ان يحاصره الشعب داكاً حصونه محطماً عروشه، حينئذٍ يسأل ما الامر فتأتيه الاخبار بان الشعب قد ثار وانتفض.

الاثار السلبية للاحتجاب

ان الحوادث والوقائع التاريخية دللت على النتائج السلبية للقادة القابعين في أوكارهم المحصنّة وبروجهم العاجية يحكمون الناس بالواسطة ولا يعلمون عن مجتمعهم شيئاً، وامير المؤمنين علیه السلام لم يكن في هذا العصر حتى يشاهد ما يحدث من اثار الاحتجاب، الذي نهى ولاته عنه في تلك الايام التي ربما لم يكن الوالي بعيداً عن الامة بل ان القائد يتابع الناس في الاسواق ويخالطهم في مجالسهم ويسأل عن

ص: 334

احوالهم بلا واسطة، وليس كما حدث في العهود التي تلت خلافته حيث كان الحاكم لا يدخل عليه احد الا بعد ان يمر بالحاجب الاول والثاني والثالث كما كان في العصر الاموي والعباسي.

ان الولاة لا زالوا تحت رعاية الخليفة الراشدي علي علیه السلام وهو مع ذلك يوصي «فلا تطوّلن احتجابك عن رعيتك»! يقول ابن أبي الحديد «نهاه عن الاحتجاب، فانه مظنة انطواء الامور عنه، واذا رفُع الحجاب دخل عليه كل احد فعرف الاخبار، ولم يخف عليه شيء من احوال الامة» (1).

والاحتجاب عن المجتمع له اثار سلبية وهدّامة وانه من ضيق الفكر والادراك والتي تؤدي الى:

1 - قلة علم الوالى باحوال الرعية وعدم معرفة مفاصل الحياة العامة في المجتمع وعدم الاطلاع على ما ينفعهم ويضرهم أو التعرّف على ما فيما إذا كانت هناك اساءة أو خطأ في السلوك التعاملي من قبل الكادر الاداري أو أوامر صادرة من الوالي هي في واقعها مضرة بالمجتمع، فباحتجاب الوالي تضيع عنه حقائق الامور وتأخذ مجرىً آخر سعته التدميرية اكبر واثره اعمق في نفوس الناس من خلال التذمر وعدم الرضى.

2 - «يصغر عندهم جليل القدر كبير الشأن ممن لهم خدمات جليلة او لهم اثر حميد في المصالح العامة وهذا التصغير والاحتقار يُنفّر هؤلاء عن صوالح الاعمال أو تقديم التضحيات في سبيل منفعة المجتمع بل العكس يحسسه بالكراهة لاولي الامر». (2) .

ص: 335


1- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 91.
2- الراعي والرعية - ص 275.

3 - «الاحتجاب يعظم الصغير وهذا ينتج نتائج سيئة ويؤدي بعظماء النفوس واهل النبوغ الى الركود والجمود، بدل الرقي والتقدم والتطلّع الى المستقبل» (1).

4 - يشاب الحق بالباطل وهذه مضيعة عظيمة للعدالة الاجتماعية «وهذا السبب وحده يكفي لهدم كيان المجتمع وانهياره لان (العدل اساس الملك) واذا انتشر الباطل وغمط حق الناس اختل ميزان العدالة وفي ذلك بلاء لا يشبهه بلاء والعياذ بالله واذا كان ذلك فان الناس يسيؤون ظنونهم بحكومتهم وتفسد نياتهم باخلاصها ومقدرتها على توزيع العدل والحق بينهم وبذلك تموت الثقة الاجتماعية بينهم وبين السلطة العامة». (2)

هذه العوامل او نتائج الاحتجاب ومردوداته السلبية هى فى الحقيقة لم يضعها الامام علیه السلام في كتابه اعتباطاً أو دون دراية كاملة بحياة الناس وطرق تفكيرهم وتحليلهم للامور.

إن الاطلاع العام والمعرفة الدقيقة باحوال المجتمع لا يأتي إلا من خلال الاتصال المباشر بالامة وذلك يكون بقطع الاحتجاب والظهور للمجتمع من خلال اللقاء والمقابلة لان المجتمع يضم عادةً فئات تتنوع في تفكيرها وتختلف في أيها، وهذا التباين في الواقع العملى والفكري للافراد يفرز سلوكيات مختلفة تجسّم في النهاية الواقع الحيّ لحركة المجتمع اليومية التي يجب أن يكون الوالي على علم تام باحوالها وصورها، وما يواجهه المجتمع من سلبيات متداخلة، كى يصلح ما فسد من الأمور وتتسع عنده دائرة النظرة الشمولية العامة، وبالتالى .

ص: 336


1- نفس المصدر السابق ص 275.
2- نفس المصدر السابق ص 276.

يجب أن يرفع عوائق التطور والعمران ويثيب المتفانى المثابر، ويحاسب من خلط الاوراق ليكسب ربحاً غير مشروع.

إن الذي ينظر ويراقب ويتابع وضع المجتمع عن كثب يسهل عليه حل عُقد الامور بالحق والعدالة ويمنع التشتت والتفرق الذي يولده اختفاء النوايا الطاهرة وتراكم السلبيات والاجحاف الذي ولّده الاحتجاب فينتج من جراء ذلك الصراع والتناحر الداخلي بفعل ابتعاد العامل عن حقيقة وواقع الامور ووجود المتضادات والنتاقضات و تصادم المصالح الذاتية التي تظهر للعيان شاخصةً بذاتها لتلقى بظلالها المدمرة على حياة الناس وتؤدي دور المخرب للدولة والمجتمع، ولا يبدد ذلك الا الاطلالة البهية للقائد الشجاع المؤمن بالله سبحانه وتعالى الذي يدخل السرور على قلوب الناس الحائرة قبل ان «يَقُبحُ الحسَنُ ويَحسُنُ القَبيحُ، ويُشابُ الحقُّ بالباطِلِ» (1)، واحتجاب الوالى أو صاحب السلطة ينّمي هذه الامور ويكثّرها من حيث لا يعلم، والنفوس تحتاج احياناً الى دراية وعلم وفراسة حتى تقتحهما وتجد ما فيها من حقائق فكيف اذا ما كان الوالي بعيداً حتى عن رؤية الناس والاطلاع على احوالهم «وليست على الحق سماتٌ، تُعْرفُ بها ضُروبُ الصِّدْقِ من الكِذبِ» أي ليست هناك علامات دالة للتمييز بين الصدق والكذب حتى يعرف الوالي صدق الامور وحقيقتها من الكذب «وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُکَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُکَ مِنْ وَاجِبِ حَقّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل کَرِيم تُسْدِيهِ! أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ، فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِکَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِکَ» (2). .

ص: 337


1- نص العهد للاشتر.
2- المصدر نفسه.

إذن «فلأى سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم أو في عمل تمنحه إياهم، فان قنط الناس من قضاء مطالبهم منك اسرعوا الى البعد عنك فلا حاجة للاحتجاب». (1)

وقال ابن أبي الحديد في تفسير هذا المقطع: «مع أن اكثر حاجات الناس اليك مما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة أو طلب انصاف في معاملة»

«لم تحتجب فان اكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرِّفد! وانت فإن كنتَ جواداً سمحا لم يمكن لك الى الحجاب داع، وإن كنتُ ممُسكاً فسيعلم الناس ذلك منك، فلا يسألك احد شيئاً ثم قال له: على ان اكثر ما يسأل منك ما لا مؤونة عليه في ما مؤونة عليه فى ماله، كردّ ظلامة أو انصاف من خصم» (2).

إن أنصاف الناس ورد الظلامة ترسم عدالتك في اذهان الرعية، وان ذلك اجدى وانفع واقوى اثراً واكثر ثوابا واجزل عطاءٍ عند الله.

مكاشفة الامة

ثم يعود الامام علیه السلام الى أمر هام جداً ومبدأ حساس يتداوله بعض الساسة المعاصرون الآن كمبداً جوهري في مستقبل الدولة وتطورها الا وهو (مكاشفة الجماهير) وهذه المكاشفة متنوعة في عصرنا الحاضر اما تكون امام ممثلى الشعب في البرلمان أو من خلال اللقاءات الصحفية والتلفزيونية والاذاعية أو مباشرةً مع جماهير الامة وذلك لتوضيح ما خفي عن الناس وَرَد التهم الواردة

ص: 338


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة ج 3 - ص 10.
2- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 91.

على الحاكم ان وجدت «وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِکَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِکَ، وَاعْدِلْ عَنْکَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِکَ، فَإِنَّ فِي ذَلِکَ رِيَاضَةً مِنْکَ لِنَفْسِکَ، وَ رِفْقاً بِرَعِيَّتِکَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَکَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ» (1).

وان ظنت الرعية بك ظن سوءٍ من خلال ما وقع عليها من ظلم أو جور أو عمل باطل، وهذا جائز وموجود وسائد بين العامة من ان المجتمعات التي فيها فاصلة القائد والشعب تزداد الظنون لدى الناس وتبلغ مبلغها واثرها السلبي على حركة وسلوكية المجتمع في التعامل الصادق مع الدولة وكيانها. فبدون التعاون والتعامل الحقيقي لا يستقيم الامر ولا تسلم الدولة من الانتكاسات غير المتوقعة. اذن فاصحار الوالى اي خروجه الى المجتمع وتوضيح الحقائق لهم وبيان الاعذار الشرعية للفعل المظنون به يبدد الغيوم السوداء المضللة على الناس ويدفع بالظنون بعيداً عن افكار المجتمع وتحليلاته. ان المجتمعات اغلبها من عامة الناس ولا تريد الا العدل اليسير والحق ومراعاة الامور العامة وقد لا تطمح فيما يكون ذلك، ومن صفاتهم ايضا القناعة والاستجابة السريعة وذلك أنهم بلقائهم الوالي واستيعاب الامور على حقيقتها يقتنعون بسرعة لاعتماد الثقة منهم بالوالي اذا فعل مثل هذا الطرح والتوضيح. وفى محاورة لابى حيان التوحيدي مع الوزير ابن سعدان وزير صمصمام الدولة البويهي سنة 373 ه حيث قال الوزير لابي حيان التوحيدي «ولو قالت الرّعيّة لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث ممن غيب امرك، ولم لا نسال عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك؟ ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك ومصالحنا متعلقةً بك، وخيراتنا متوقَّعةٌ من جهتك، ومسرَّتُنا ملحوظةٌ بتدبيرك، ومساء تنا مصروفة باهتمامك، ر

ص: 339


1- نص العهد للاشتر

وتظلَّمنا مرفوعٌ بعزَّك، ورفاهيتنا حاصلةٌ بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحَمتك، وبليغ اجتهادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟ اما كان عليه ان يعلم ان الرعية مصيبةٌ في دعواها الَّتى بها استطالت، بلی والله، الحق معترف به وإن شغب الشاغب وأعنت المعُنت (1).

قطعة جميلة متعلقة ببحثنا هذا ولها ارتباط بعلم الاجتماع السياسي في أن الرعية تخاطب السلطان «لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث في غيب امرك ...». هذا الحديث وهذا الخوض وهذه الظنون كلها متأتية من عدم ظهور السلطان الى الناس والاطلاع على امورهم ومعرفة ما يدور في خلدهم. فما يتكلمون به حول السلطان من حقهم لانهم كما يقول أودعوا حالهم ومالهم وكل حياتهم له لانهم يتوقعون كل خير وكل عمل صالح وكل اهتمام ورفع كل مظلمة وكل رفاهية ورحمة ورأفة من جانبه.

فباستقامة الولاة والحكام والتفاتهم الواقعي الى شعبهم تحل كل العقد والمشاكل الاجتماعية وتزول المؤثرات الخارجية التي تغطي على الحق وتمحق العدالة وتعطل الحدود، واحياناً يستسلم الوالى الى صراعات النفس ومنازعات الفكر بين ان يصحر أولا، أي يخاطب الناس بالحقيقة أو يبتعد عنهم رابطاً نفسه بحبال الكبرياء والجبروت والتعالى ولا يدير عينه الى مظلمة يرتكبها احد اعوانه فينصف المظلوم ويرد الاعتبار الى من أهينت كرامته. إن هذه ليس من صفات الوالي المؤمن بالله ورسوله، فقد كان محمد صلی الله علیه و آله و سلم بين اصحابه يلوذ به الفقير فيحميه ويستغيث به المظلوم فينجيه يعيش عيشهم ويمشي في اسواقهم، حتى قال فيه المنافقون بقصد التشويش على افكار الناس .

ص: 340


1- التوحيدي، ابو حيان، الامتاع والمؤانسة ج 3 ص 87 - منشورات الشريف الرضي.

وقلب الحقائق «وقالوا ما لهذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ويمشِي في الاسَواقِ ...» (1).

بالاضافة الى ذلك كان يحضر مراسمهم ويؤمهم في صلاتهم، وكذلك عمل الامام على علیه السلام من بعده على سيرته ونهجه. فمن لم يكن هكذا فانه خارج نطاق الشريعة المحمدية. ثم يدعو الامام علیه السلام الى تعويد النفس على الاصحار، ولا يسمح لحب الذات والتفرد بالرأي بان يسيطر. .

ص: 341


1- سورة الفرقان، الآية 7.

ص: 342

الفَصْلُ الثّالِثُ

اشارة

المظالم في وصايا علي علیه السلام

ص: 343

ص: 344

ان الخطأ بحق افراد من المجتمع لا يأتي من العاديين من الناس فقط، انما هنالك حيف وظلم وغين قد يصدر من حاكم جائر أو سلطة غاشمة أو قوة قضائية متنكرة للحق، أو من قبل اصحاب النفوذ والجاه من الطبقات الارستقراطية في المجتمع، أو احياناً من جرّاء اهمال قضية اجتماعية مهمة لها مردودات على اقتصاديات الناس وحياتهم العامة حينئذٍ لا يستطيع هذا الشخص أو الجماعة الذين ارتُكب بحقهم الظلم أو التغاضي عن حقهم وعدم الانتصاف لهم الا ان ينظروا الى الله تعالى ليتظلموا عنده وقد قال على علیه السلام: «إحذرْ من دمعَةِ المُؤمِن فَإِنَّها تَقصْفُ مَنْ دَمَّعَها (أو) (أدمعها) وتُطفِىءُ بُحورَ النَّيران عن صاحِبِها». (1)

أو في جانب آخر من كتاب له الى حذيفة بن اليمان:

و«آمرْكَ بالرّفقِ في أمورك والدِّينِ، والعدل في رعيتك فإنك مُساءَلٌ عن ذلك وإنصاف المظلوم». (2)

وقال الماوردي في الاحكام السلطانية: «ونظر المظالم هو قود المتظالمين .

ص: 345


1- نهج السعاده. المصدر السابق ص 35.
2- نفس المصدر السابق ص 20.

الى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة فكان من شروط الناظر فيها ان يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة قليل الطمع، كثير الورع لانه يحتاج الى سطوة الحماة وثبت القضاة فيحتاج الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الامر فى الجهتين [كالخلفاء أو من فرض اليه الخلفاء نظراً فى الامور العامة ... فقد نظر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الانصار فحضره بنفسه فقال للزبير: «إسق انت يا زبير ثم الانصاري، فقال الانصاري إنه لابن عمتك يا رسول الله؟ فغضب من قوله وقال: يا زُبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء الى الكعبين». وانما قال أجره على بطنه أدبا له لجرأته عليه. واختلف لِمَ أمره بإجراء الماء الى الكعبين هل كان حقا بيّنه لهما حكما أو كان مباحاً فامر به زجراً على الجوابين». (1)

«وكان لامير المؤمنين علیه السلام بيتٌ سمّاه بيت القصص، يلقي الناسُ فيه رقاعَهُم» (2).

الوالي والنظر في المظالم والاثر الايجابي

يحدث الظلم احياناً نتيجة الطمع وحب الغلبة بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إن الانسان يحتاج الى من يتظلم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالته والده وقوته وسطوته التي تعيد ما أُخذ منه اليه بالاضافة الى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبى بينه

ص: 346


1- الماوردي - الاحكام السلطانية - تحقيق الدكتور احمد البغدادي ص 102، الكويت 1989 م.
2- شرح نهج البلاغه - المجلد 17 - ص 87.

وبين ابيه حينئذٍ يشكو اليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من اخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل واحساسه واطمئنانه النفسي بان والده سوف يأخذ حقه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلق بالاثر النفسي في ذات الانسان نعایشها يوميا في مجتمعنا، هذا في الحلقة الاولى المكونة للمجتمع وهكذا يسري الامر الى المجتمع كله بكافة طبقاته، فاذا ما احس الانسان بعدالة ولي امره واهتمامه باستماع مظالم الناس والاجابة عليها فوراً قولاً وفعلاً، فان ذلك سوف يدفع الناس الى الالتفاف حول الاب الاكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمات والشدائد من الايام. وقد اهتم امامنا في ذلك الاهتمام الواسع فاخذ يفصل جوانب هذا العمل ويسعى الى تربية الولاة للاخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدد لهم معالم النظر فى المظالم، وصوره، وكيفيته، وملاكاته، ومراعاة حالات الشاكى (المتظلم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه واعادة الحق الى نصابه بالصورة الصحيحة، وعلي علیه السلام قال لبعض عماله في كتاب بعثه اليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش «وأنا بين اظهر الجيش فارفعوا إليَّ مظالمكم، وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دَفعَهُ إلا بالله وبي، أغيره بمعونة الله، انشاء الله» (1) فاذن قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لانها تثبت العدالة وتجري الاحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وان سلامة المجتمع وصحته تأتي من رفع المظلومية وانصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الامر يحتاج الى قوة ايمانية وعدالة سلطانية تعطى الانسان سلامة أمره واستقراره وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الاحكام الشرعية وامتزاج ذلك .

ص: 347


1- نفس المصدر السابق ص 147.

بالقيم الاخلاقية الاسلامية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا علي علیه السلام يوصي في انفاسه الاخيرة ولديه الحسن والحسين علیهما السلام بقوله: «اوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وان بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ولا تأخذكما في الله لومة لائم». (1)

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المرادي، يوصي علي علیه السلام بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت ثم قول الحق، فالحق عند علي علیه السلام معناه ارادة الله وكلمته فقيها نجاة الامة وخلاصها واستقامتها. ثم أكد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثم اعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في على علیه السلام طعامه ولباسه وكرامته وعزه، بتلك الرأفة وذلك الحب اطعم الايتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز اذ عجن بالذلة والمنة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الامامين سيدي شباب اهل الجنة الحسن والحسين علیهما السلام و حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ويؤكد عليهم وهو الذي قد خبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب علي وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وانهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممن قرب أو بعد، ممن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل انه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية! ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدق اسماع وعقول الناس في کل زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثم انتقل الى الشيء الاعظم والاهم الا وهو «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا، ولا تأخذكما .

ص: 348


1- مروج الذهب - م 2 - ص 41.

في الله لومة لائم».

حتى في آخر اللحظات يدعو الى انصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين فان ذلك اساس العدل والحكم الذي اراده الله، ومهما يكن هذا الظالم كونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقيم «ولا تأخذكما في الله لومة لائم» ونستنتج من قوله علیه السلام هذا ثلاث قضايا مهمة كأنهن الاعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع:

1 - الرحمة.

2 - اعانة الضعفاء، أي فقراء الامة ومن لا حيلة ولا قوة له.

3 - العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف الى جنب المظلوم واخذ حقه ظلمه.

لله درك يا ابا الحسن من اب رؤوف وحاكم عادل و مرب اخلاقي عظيم، واجتماعي فريد جمعت كل الخصال واعطيت كل روحك لهؤلاء الناس الايتام والضعفاء المظلومين فاعطوك كل شيء.

شرائط النظر في المظالم

لم يجعل الامام علیه السلام مسألة النظر في المظالم في المستوى الارشادي فقط، إنما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الامر، فوضع لهذا الامر المهم مقومات اساسية لا يمكن ان يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها ولا يمكن ان تكون عدالة فى هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها امير المؤمنين في هذا النص: «وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْکَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَکَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَکَ، وَتُقْعِدُ

ص: 349

عَنْهُمْ جُنْدَکَ وَأَعْوَانَکَ مِنْ أَحْرَاسِکَ وَشُرَطِکَ، حَتَّى يُکَلِّمَکَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلم يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِع». ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ الْعِيَّ، وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالاَْنَفَ يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْکَ بِذَلِکَ أَکْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَکَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ. وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار» (1).

إن النظر في المظالم يتطلب أولا وقبل كل شيء إن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلوماً لذلك، ثم العمل بالبنود المهمة التي وضعها علي علیه السلام التي تدلل على صحة عملية النظر في المظالم وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الاخر لانها متلازمة فى أمرها.

و «تتُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَکَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَکَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَکَ وَأَعْوَانَکَ مِنْ أَحْرَاسِکَ وَشُرَطِکَ» (2).

إن الانسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والاثار النفسية المتبقية في ذهنه من ارهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الابهة العالية تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته وربما يَفِرُ ولا يعرض قضيته وهو معتقداً ان سلامة نفسه هي افضل من الحصول على ظلامَتِهِ. ولهذا يضع امير المؤمنين علیه السلام الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الاعمال فهو اولاً يطلب ان يجلس الوالي بنفسه وان لا يوكل غيره لذلك لكي يعالج المشاكل ويحل العقد ويباشر الامور ويطلّع عليها ر.

ص: 350


1- نص العهد للاشتر.
2- نص العهد للاشتر.

شخصياً. ثم ينصب ميزان العدل لإنصاف المظلوم والاخذ بالظالم واعادة الحق الى نصابه ونشر راية الرحمة على رؤوس الابناء أي المجتمع لان الراعي يعتبر الاب للقوم، فاذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا يدينهم ولا يتظلمون عنده بالحق فلا نفع من ذلك اذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة. فلا تبطر كما قال الامام علیه السلام وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكله شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامة بأوضاع المجتمع واعتباراته ومستقرىء للاوضاع والاحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطى النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عماله لكي تكون اشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع. إذ يضع النقاط على الحروف لكل مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة واخرى فكلها نابعة من اساس واحد ومصدر اصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي اصل لبناء كل امر، فمرة يأمر ولاته بتفقد امور الرعية بارسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبرون على الناس حتى يدونوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة والتامة الى الولاة دون اضافات أو نواقص معتمدة من الذين لا يستطيعون المجيء اليه. وكذلك يأمرهم بالامر التالى فانشر العدل بنشر اصحابك الثقاة، ومرة اخرى يكون هناك انسان مظلوم نهب حقه و هدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحق والرحمة بواسطة انسان ظالم سواء كان عاملاً من عمال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شرطة، أو أي انسان آخر، ولا يجد من يتظلم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه الا الله والذي بيده ولاية الامر وهي بطبيعة الحال امانة في عنقه من الله الرعاية أمر عباده.

وهذا الامرقمة في العدالة الانسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات

ص: 351

التي تجد فيها هذه المبادىء الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للاخلاص والتفاني والتضحية سواء كان لدينها أو وطنها. ثم يطلب الامام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عاما ويريد من كلامه أيضاً أن لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب ان يكون وقوراً متواضعاً لان الله ينظر الى حكمه وعدله «فتواضع لله الذي خلقك»، ثم لا يتعرض الحاشية والحراس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الاعوان الممحلقين اعينهم بشدة، وفي وجوههم القسوة والشدة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام (حتى يكلمك مُتَكَلِّمُهُم غَيْرَ مُتَتَعتعٍ (1)» أي لا يترددون في العرض عندك، ثم يقول «اني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول في غير موطن «لن تُقدّس أُمَّةٌ لا يُؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير مُتعتع».

فامير المؤمنين علیه السلام استشهد بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي يؤكد وبوضوح عدم طهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، اذ لا يستديم الحكم الا بالعدل وانصاف المظلومين.

واذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فان التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لان الناس لا يمكن ان تستكين للضيم والقهر مدة طويلة.

وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلل على ذلك.

ثم يجب ان يتوقع الوالي كل شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذين اعياهم الفقر، واتعبهم الظلم، والدواهي التي اصابتهم من العمال والاعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثم لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من اعدائهم. .

ص: 352


1- التعتمه: التردد، من العجز أي غير خائفين من عرض الكلام.

هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربما يجرح، أو عنف في كلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في للنفوس المؤججات للاحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى «ونَحٌ عَنْهُم الضَّيق والأنفَ يَبْسُطِ اللهُ عليكَ بذلِكَ أَكنافَ رحمتِهِ وَيُوجبْ لك ثواب طاعته وأعطِ ما أَعطْيتَ هنيئاً، وامنَعْ في إجمالٍ واعذار».

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الانسانية القيّمة التي يضع مضامينها على علیه السلام ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لامته من الضياع والهتك والتسلط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للانسان ان يعيش ضمن مبدأ الاسلام العظيم الذي يعطي للانسان حريته وكرامته، وكذلك يقول للوالي بان لا یضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدث اليهم. إن الله يعوض عن ذلك للانسان الذي يحمل الحب والحنان والعطف والرفق بل كل معاني الكلمات التي تبعث في القلب والنفس الروح الانسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الانسان، إن الوالى بهذا العمل ادى فرائضه وادى حق عبادته، ومعنى ذلك انه اطاع الله من خلال التعاليم الالهية التي أوجبها على عباده فالاجر والثواب على تلك الاعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الاحسان ورضى النفس وبدون مَنْ او اذى أو استكثار، وان اردت ان تمنع فامنع بلطف واعتذار فان ذلك اسمي وارفع وابلغ اثراً في النفوس واكثر تقبلاً وقناعة لدى الناس بحيث تدفعهم الى محالّهم وهم راضين عنك شاكرين عملك.

ص: 353

التحصين الاجتماعي

إن التحصين عند اعلى علیه السلام من المسائل المهمة وهذا يأتى من خلال بناء هيكلية المجتمع وتربيته على الاسس القرآنية الاخلاقية التي تمنع الظلم والتجاوز وتعطى للحق والامر بالمعروف والنهي عن المنكر الساحة الاجتماعية كلها لكي تسري مبادئها بين الناس، فالغاية اذن هو البناء الاجتماعي السليم والمتماسك والمتمحور حول المبادىء الحقيقة للاسلام التي ارادها الله وجاهد من أجل تثبيتها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وضحى من اجلها على علیه السلام بالاضافة الى كل ذلك التكافل الاجتماعي، كل هذه المفاهيم تؤدي الى الصورة المثالية التي هيأها على للانسانية كمنهج عام تسير عليه، وحينما أقول الصور المثالية لا اعني بذلك «جمهورية افلاطون» أو «المدينة الفاضلة عند الفارابي» أو غيرها انما الانسانية بحاجة الى مبادىء عامة انسانية عادلة تصون كرامتها وتحفظ شرفها وتبعد المخاطر عنها وهذا هو الدين وهدف علي علیه السلام.

إذن فالانسان هو رأس المال الاساسي عنده، فاذا ضاع أو تلف رأس المال خسرنا كل شيء وإذا ما استثمر في مجالاته الصحيحة زاد و نما و عمت بركته على الجوانب الاخرى، وهذا يبدأ بتطبيق العدل اولاً، لانه المربى هو الاساس والمؤثر على طبيعة اخلاق المجتمع، فاذا ما شعر المجتمع بان الحاکم انسان زاهد عابد في العلن وظالم سارق في السر فان آثاره السلبية على المجتمع اعمق مما يتصور. بحيث يضيع الضعيف تحت اقدام القوي وتسلب ارادته وحقه وحريته فيأكل القوي الضعيف واصبحت الشريعة شريعة غاب وليست شريعة محمد صلی الله علیه و آله و سلم بحيث يتقادم المجتمع ويهرم قبل أوانه وينهار الكيان الاجتماعي

ص: 354

والسياسي قبل موعده وتموت الحضارة والعمران في وقت واحد قبل بلوغ سلم الامن والاستقرار.

لكُلِّ يومٍ عملهُ

ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِکَ لاَ بُدَّ لَکَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِکَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ کُتَّابُکَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْکَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِکَ. وَأَمْضِ لِکُلِّ يَوْم عَمَلَهُ، فَإِنَّ لِکُلِّ يَوْم مَا فِيهِ».

ثم بيّن علیه السلام أنه لا بدَّ له من هذا المجلس لامرٍ آخر غير ما قدَّمه علیه السلام وذلك لأنَّه لابدَّ من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه، والنَّوّاب عنه، فيتعيَّن عليه أن يباشرها بنفسه، ولابدَّ من أن يكون في كتب عمّاله الواردة عليه ما يعيا كتَّابه عن جوابه، فيجيب عنه بعلمه ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حُكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلع الكتاب عليه، فيجيب أيضاً عن ذلك بعلمه ثم قال له لا تُدخلْ عمِلَ يومٍ لآخر فيُتعبك ويُكدِّرك، فإن لكل يوم ما فيه من العمل» (1).

«وَاجْعَلْ لِنَفْسِکَ فِيمَا بَيْنَکَ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلَ تِلْکَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْکَ الاَْقْسَامِ، وَإِنْ کَانَتْ کُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلْيَکُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَکَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِکَ فِي لَيْلِکَ وَنَهَارِکَ، وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللهِ مِنْ ذَلِکَ کَامِلاً غَيْرَ مَثْلُوم وَلاَ مَنْقُوص، بَالِغاً مِنْ بَدَنِکَ مَا بَلَغَ. وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِکَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَکُونَنَّ مُنَفِّراً وَلاَ مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ

ص: 355


1- شرح نهج البلاغه - م 17 - ص 88.

الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ.؛ وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ کَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ کَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ وَ کُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً». (1)

«هذا ولما فرغ علیه السلام من وصيته بأمور رعيته شرع في وصيته باداء الفرائض التي افترضها الله عليه من عبادته ولقد ابهر البلغاء في قوله علیه السلام (وان كانت كلها لله) أي النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات والفرائض ايضاً، ثم قال له كاملا غير معلوم أي لا يحملنك شغل السلطان أن تختصر الصلاة اختصاراً بل صلها بفرائضها وسننها وشعائرها في نهارك وليلك وان اتعبك ذلك ونال من بدنك وقوتك.

ثم امره اذا صلى بالناس جماعة ان لا يطيل فينفرهم عنها وان لا يخرج الصلاة وينقصها فيضيعها» (2)..

ص: 356


1- نص العهد للاشتر
2- الراعي والرعية - ص 274.

ص: 357

الفَصْل الرّابِعُ

اشارة

العدل والظلم

ص: 358

كان فكر علي علیه السلام كله ارساء للعدالة والحق في المجتمع الاسلامي والعمل بهما كما عمل من قبل ابن عمه النبي الاكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

وقد اعطى ذلك المفهوم جلّ اهتمامه لارتباطه المباشر اساساً بالشريعة الاسلامية والامانة الالهية لتثبيت الهدف الاسمى وهو انقاذ المجتمع من الظلم والاستغلال.

فالحروب التي واجهها لم تكن إلا حروباً على عدله الذي لا يحيف ولا يركن المداهنة أولئك الذين يخشون أن يضعهم ميزان العدل مع الناس سواء ...، وما الحقد الذي تلى ذلك على اهل بيته علیه السلام إلا لعدله والمساواة التي كسر من خلالها شوكة الظالمين والباغين والطامعين.

فاهتمام الامام علیه السلام جاء لحفظ مكانة الدين وفق النهج السماوي العادل حيث كان هدفه السير بالعدل و «العدل الواسع الذي يسع الناس جميعاً لينتظموا في ميزان واحد، هو الامل الذي كان يحدو علياً ويقطع عليه طريق زهده في الحكومة ... العدل والمساواة اللذان أقسم على إجرائهما على الجميع سواء، ابتداءً بنفسه وبنيه، لم يكونا فقط مفتاح الخير والرحمة وعودة الحقوق المهدورة، بل كانا أيضاً مفتاح الاختيار الصعب، ومحك الايمان وغربال الرجال:

ص: 359

«والذي بعثه بالحق لتبليلُنَّ بلبلةً، ولتغربَلُنَّ غربلةً، ولتساطُنَّ سوط القدر، حتى يعودَ اسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم» (1).

الانبياءِ ومحاربة الظلم

لقد سار الانبياء والرسل بالبشرية بالنص الصريح في محاربة الظلم والظالمين وقطع دابر المفسدين رغم المعاناة القاسية التي قوبلوا بها من الطغاة واعوانهم. ولم يكن الانبياء والرسل وحدهم في هذه الساحة وهذه المنازلة على مر التاريخ فقد سار على نهجهم اتباعهم وانصارهم واصبح الاتجاه والميل الى مفهوم العدالة اتجاهاً انسانياً عاماً حتى اهتم به الفلاسفة والعلماء والمفكرون واصبح ذلك محور نظرياتهم المتعلقة بالانسان والاجتماع العام.

و «قد ذهب بعض الحكماء إلى اعتبار العدل فضيلة قاعدة لجميع الفضائل، وأنه أساس الجمعية التأنسية - أي المجتمع البشري والعمران والتمدن، فهو أصل عمدة الممالك المجتمعات - التي لا يتم حسن تدبيرها إلا به» (2).

ان مسألة حرية الانسان وكرامته والعدالة الاجتماعية ومنع اقامة أي صرح للظلم والظالمين اصبح المنطوق الاول لتلك النظريات والاطروحات الاجتماعية.

ص: 360


1- عبد الحميد - صائب - تاريخ الاسلام الثقافي ص 418 - الغدير - بيروت، الطبعة الاولى - 1417 - 1997.
2- التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوره ص 295.

علي مع الحق والحق مع علي

لقد كان الحق الفيصل الأول فى المواقف المهمة خلال حكمه فقد اعطى نفسه للحق ولم يجره الاخرون لانفسهم طمعاً باستئثار لا يهمهم اثاره الضارة أو الحاله الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب ميزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا الى جلب المنافع المادية لانفسهم حتى وان كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إن علي علیه السلام في اشارة دقيقة ومهمة يحدد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول علیه السلام: «لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ.

أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَ لَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً.» (1)

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الانسانية والمدافعين عن حقوقها ولاصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كي يرفعوا به عمود خيمة الانسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كل مظلوم ومستضعف ومن تقتحمه العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً إنه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الارواح الهاربة من حرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الانسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف الوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الالهية.

ص: 361


1- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 194 خطبة 136.

ولولا الظلم والجشع والطمع بانواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقى علينا ان نعرف ان الامر المهم الآن كيف نعالج الواقع المر الذي افرزته الظروف القاسية ظروف الحيف والجور، حيث تنكفىء موازين العدالة والحق.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا انساناً لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على حقوقهم ينظر الى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنَّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسميه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم «العادل».

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوة والقدرة فإنه يرجح افراداً على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الاقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إن شخصاً كهذا نعتبره متَّصفاً بنوع من (الظلم) ونسميه «الظالم». (1)

وقد قال الشاعر الايراني مولوي في ذلك:

«ما هو العدل؟ هو وضع الشيء في موضعه.

ما هو الظلم؟ هو وضع الشيء في غير موضعه.

ما هو العدل؟ هو اعطاؤك الاشجار ماء.

ما هو الظلم؟ إنه إعطاؤك الاشواك ماء». (2)

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم هذا نموذج من بعضها: (وَأُمِرتُ لأَعدِلَ بينكُمْ) (3). 5.

ص: 362


1- مطهري، مرتضى، العدل الالهي، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني بتصرف ص 55.
2- المصدر السابق ص 72.
3- سورة الشورى: الآية 15.

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1).

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (2)

﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ).

اذن يجب اتخاذ الايات القرآنية والاحاديث النبوية وخطب الامام علي علیه السلام مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة من خلال معرفة واخذ العبر والدروس من اجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

النظرة العلوية الى الظلم

إن منهج الامام علي علیه السلام الاجتماعي المتعلق بهذا الموضوع يجسده كلامه وخطبه الله التي ترسم في الاذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له علیه السلام يتبرأ فيه من الظلم ويقول فيه:

«وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ (3) مُسَهَّداً (4) أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَ غَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ؛ وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا». (5)

ص: 363


1- سورة النحل: الآية 90.
2- سورة الانعام: الآية 82.
3- الحسك: الشوك، والسعدان: نبته برية كحلمه الثدي يملأها الشوك.
4- المسهّد: المسهّر.
5- نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - ج 2 ص 216.

ان الامام علیه السلام يقسم بالله، وأي شيء مهم وعظيم هذا لدى الامام الذي يؤدي به الى القسم بالله وهو علي امام المتقين وسيد الموحدين، ان بذلك ينتهي كل نقاش وينتهى كل تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا ويقول علیه السلام لان بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البرية المدينة برؤوس الابر الشوكية طيلة ليله مُسهّراً أو جُرّ على ذلك وهو مقيد بالاغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية فإن ذلك كلّه أحب اليه من ان يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده، فالامام علیه السلام يريد بهذه الصورة التهويلية ان يبين مدى اثر الظلم ومسؤولية الانسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثم يوضح لنا ولغيرنا ان الظلم لاجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك اثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الانسان الى يوم الحشر العظيم ... «وكيف اظلم احداً لِنَفْسٍ يسرعُ الى البلى قُفولها، ويطول في الثرى حلُولُها» فالنفس نهايتها الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ثم ان الامام علیه السلام ذكر في بعض مواعظه على ان الظلم انواع وعدد تلك الانواع وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض وحذر من شدته يوم القيامة حيث قال علیه السلام: «أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَ التَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَ لَا مِمَّنْ بَقِيَ.» (1) 5.

ص: 364


1- المصدر السابق ص 255.

ان الامام علیه السلام يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله واكد أن قصاصها يوم الحساب شديد وعسير على الانسان وهو ليس بصورة جُرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال ان امره هيّن، ان عقاب ذلك عند الله اشد ما يمكن ان يكون وخاصة اذا كان هذا المظلوم مؤمناً فالامام علیه السلام في قوله الى البجلي قاضيه على الاهواز يبيّن ذلك: «دار المؤمنَ ما استطعْتَ، فإِنَّ ظَهْرَهُ حِمى اللهِ، وَنَفَسهُ كريمةٌ على اللهِ، وله يكون ثواب الله، وظالمُهُ خَصْمُ اللهِ، فلا تكُنْ خَصْمَهُ» (1).

اذن من الذي يخاصمه اذا ظلم احد من المؤمنين انه الباري عز وجل وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر امام الجبار المتعال.

ثم يؤكد الامام علیه السلام على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود ايدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حق صعب تطبيقه ومكروه عندكم خيرٌ من تفرق وشقاق ونفاق مع باطل محبب ومرغوب في النفوس.

فاذا ما طهرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحملت تطبيق الحق والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس هو اصلح واجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والامام علیه السلام يقول في ذلك «أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَ لَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً». (2)

ولا زالت كلمته علیه السلام التي قالها في وصيته لولده الامام الحسن علیه السلام تدق اسماع 2.

ص: 365


1- نهج السعاده، المصدر السابق ص 30.
2- نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 192.

العالم لتعطى للانسانية معنى العدل واحقاق الحقوق «وظلم الضعيف افحش الظلم».

ولهذا كان على علیه السلام لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهم امر المجتمع الا وعالجها بحكمته ومواعظه وارشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وادارة امور البلاد في کل امر فكان يتابع القضاء كما يتابع الاسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدد على قضائه ويقول لاحدهم: «إنه عنِ الحكرةِ، فمنْ ركِبَ النَّهى فأوجعْهُ ثُمَّ عاقبهُ بإظهار ما احتكر، اقم الحدودَ في القريب يُجنبَّها البعيدُ، ولا تُطَلُّ الدِّماءُ (1) ولا تعطلُ الحدودْ». (2)

وكذلك حينما كتب يطلب فيه تأديب (على) ابن هرمة وكان على سوق الاهواز فخان وظلم «إذا قرأت كتابي فنحِّ ابن هَرَمَة عن السُّوقِ وأوقفه للناسِ واسجُنْهُ وناد عَليهِ، واكتبْ إلى أهل عملك تعلِمُهُمْ رأيي فيه، ولا تأخُذَكَ فيه غَفْلَةٌ ولا تفريط فتَهلِك عِندَ اللهِ، واعزلُكَ أَخبثَ عزلةٍ - وأُعيذك بالله منه - فإذا كان يوم الجمعة فأَخرجه من السِّجن، و اضربهُ خمسة وثلاثون سوطاً وَطُفْ به إلى الاسواق فمنْ أتى عليه بشاهدِ فحلّفُهُ مع شاهد، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه ومُر به إلى السجن مُهاناً مقبوحاً منبوحاً - أي مشتوماً ... واكتب الي من اخترت بعدَ الخائن، واقطع عن الخائن رزقَهُ» (3).

أو كما جاء في كتابه علیه السلام الى حذيفة بن اليمان: « ... وأتقدم إليك بالاحسان إلى المحُسن والشدَّة على المعانِد، وأمرُكَ بالرّفقِ في أُمورك .

ص: 366


1- طل الدماء: ابطله واهدره.
2- نهج السعاده - المصدر السابق - ص 30.
3- المصدر السابق ص 34.

والدِّين، والعدل في رعيَّتكَ، فإنك مُساءَلُ عن ذلِكَ، وإنصافِ المظلوم، والعفو عن الناس، وحُسن السيرة ما استطعت، فإن الله يجزي المحسنين ... وأقِم فيهمْ بالقسط، ولا تتبع الهوى، ولا تَخَفْ في الله لومة لائم، فإن الله مع الذين اتّقوا والَّذينَ هم مُحْسِنُونَ» (1).

فعلي أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في ادارة الشؤون الادارية والاجتماعية المهمة في البلاد، حيث أكد على مسألة العدل في الرعيّة واعطاها الاهمية القصوى، وكان كل امره ان لا يقع حيف أو اجحاف وان ينتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم امر الامة «واقم فيهم بالقسط ولا تتبع الهوى، ولا تخفْ في الله لومة لائم».

وكما قلنا سابقاً ان لا شيء يمنع عن اقامة العدل سوى اتباع هوى النفس وما أكثر ما اكد الامام علیه السلام على ذلك واشار اليه بالابتعاد عنها واقامة العدل في الامة باحقاق الحق، وان لا يخاف ولا يحاذر من انه يريد العمل به اذا كان عائداً إلى الله لا على طريق الحق وهو طريق الله تعالى وان الله مع المتقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده اذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره ان مدينته احتاجت الى مرمة (أي اصلاح) فقلت له: أن بعض عمال (امير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام كتب اليه بمثل هذا، فكتب علیه السلام اليه:

«أما بَعْدُ فحصّنْها بالعدلِ، ونقِّ طُرقَها من الجورِ فإنَّهُ مَرَمَّتُها والسلام» (2) .

ص: 367


1- نهج السعاده - المصدر السابق - ص 20.
2- المصدر السابق ص 145.

اذن الهدف الاعلى والسامي عند الامام علیه السلام هو تثبيت اركان العدل في البلاد لإنَّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك «ومن هنا، وعلى هذا الاساس أتجّه الامام عليّ علیه السلام الى المجتمع يحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثم يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أوَ ليس هو القائل لمهنئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فاذا هو يرفأ نعله بيديه «ان هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه إن لم أُقم حقا وازهق باطلاً» اما العاملون للاخرة فان الامام يريد منهم أن يتوسلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل لذلك جعل الامام علیه السلام خير الآخرة لمن يريد، منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامة، ومحاربة الظالمين واغاثة المظلومين، ثم اعلان حقوق الانسان والدفاع عنها «ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم ياكميل، ليس الشأن أن تصلى وتتصدق، وانما الشأن أن تكون الصلاة، بقلب نقى وعمل عند الله مرضى، وانظر فيما تصلّي، وعلام تصلّي فإن لم تكن من وجهة وحلّه فلا قبول!».

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الارض، قبل الاخرة، وبخبرهم اليومي انه كان يغتدى فجر كل نهار ويطوف في أسواق الكوفة وهو خليفة ويقف على اهل كل سوق وينادي قائلاً:

«يا معشر التجار، اتقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعيثوا

ص: 368

أو (تعيشوا) في الارض مفسدين». (1)

حتى وان ادى امر العدل واعادة الحق الى نصابه ومنع الظلم الى الحرب والموت فان ذلك لم يمنعه من اقامة الحق ودحض الباطل وانصاف المظلوم وصد الظالم، فاساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الامور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع انصار الظلم ومهما كلفت لابد منها، لما فرضه الله تعالى على الامام العادل من اقامة الحدود ورد الاثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم ما يلي: «قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب علي إلى عماله فكتب الى مخنف بن سليم:

«السلام عليكم، فإني أحمد الله اليك الذي لا اله إلا هو اما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبةً عنه، وهبَّ في نُعاس العمى والضلال اختياراً له فريضةٌ على العارفين، إن الله يرضى عمّن ارضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير الى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحق، واظهروا في الارض الفساد، واتخذوا الفاسقين وليجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظمَ أحداثهم ابغضوه واقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبُّوه وأدنوه وبرُّوه فقد أصرُّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف.

وقديماً ما صدُّوا عن الحق، وتعاونوا على الاثم وكانوا ظالمين ...». (2)

أن كتاب الامام علیه السلام قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي .

ص: 369


1- علي صوت العدالة الانسانية - المجلد الأول - ص 136.
2- ابن مزاحم - نصر - وقعة صفين ص 106.

وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنتها نفوس خلق كثير من المجتمع و خالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مراً سحقت فيه كل القيم الاخلاقية وابتعدت فيه عن كل معاني العدالة الاجتماعية فازداد المرض و تفاقم امر المجتمع سوءاً من اثر المرض الذي اصبح عضالاً وربما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الامراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1)

والسلام.

عقيل المملق في كنف علي الخليفة

العدالة عند على علیه السلام تطبّق على القاصي والداني البعيد والقريب، وقد جسّد موقفه ذلك في كلامه الذي يقول فيه:

«وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ، حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً؛ وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ؛ وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي. فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا؛ فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ، أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ، أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ

ص: 370


1- سورة الانفال: الآية 53.

لَظَى» (1).

هذا عقيل اخو الامام علیه السلام وقصته معروفة لكن المسألة المهمة هي القوة الايمانية أو اليقين التام لدى علي علیه السلام «والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» فلا دنيا بحملها تقف امامه، ولا بهرجها وزخرفها يخطف بصره رحم تجعله يعبث بمقدرات و اموال المسلمين، فللرحم حقّ، ولكنه إنما يوصل بالحق، فللمسلمين أيضاً حقوقهم، وليس من العدل أن ترعى تلك على حساب هذه، فتسعد نفس بما تشقى بها اخرى! إن في هذا المثل الرفيع أبلغ رسائل اللوم بسياسة الأمس التي أغدقت على أهل بيت الخليفة بذريعة صلة الرحم، دون الالتفات إلى هذا الذي يغدق على (الرحم) من أين هو؟ ولمن هو؟ ودون الالتفات الى طبقات واسعة من ابناء الامة تُحرم من حقّها وهى به حقيقة لا لذنب، إلا أنّها لم تكن من ذوي الرحم، وكأن حق الحياة مقرون بالرحم وحده.

العدالة والمجتمع

ما دمنا في موضوع العدل والظلم فقد دونت الكثير من كلام الامام علیه السلام في هذا الشأن، ورأيت ان اطرح رسالته الى عثمان بن حنيف عامله على البصرة وقد بلغ سمع الامام علیه السلام انه دعي الى وليمة لجماعة من القوم هناك، فمضى اليها، وقد تبدو مسألةً عاديةً للسامع، لكن المسألة العظيمة ان ابن حنيف على سدة الحكم والولاية عند علي بن أبي طالب علیه السلام، فما أعظمها عند علي ما واشدها على سمعه الذي ائتمنه على رعيته.

ص: 371


1- نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - ج 2 ص 217.

إنها دروس العدالة والاخلاق والحق وكل ما علا من المفاهيم الانساينة والكلمات ذات العمق والمعنى الحضاري ودرس وعبره لا مثيل له في التاريخ ابداً وهو القائل علیه السلام في ذلك «ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تغيير الاطعمه - ولعل بالحجاز أو اليمامه من لاطمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى واكباد حرى واكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنةٍ *** وحولك اكباد تحنُّ الى القدِّ» (1)

فما أعظمه من كلام، وما أعظمها من موعظة تتلألأ فى ظلام حياتنا وتجذب اليها القلوب ولا تزيغ عنها الابصار، ما احكمها من لغة واروعها من بلاغة، وأفضلها من صور حية للواقع الذي نعيش فى ظلامه، انها قطعه صغيرة من ذلك العقد الكبير الذي يهز الالباب وتتعلق به القلوب ويتناغم مع الانفس.

فوصية أمير المؤمنين وسيد الموحدين علیه السلام المنهج عظيم في علم الاجتماع وعظه للجميع وغير محددة في زمان او مكان لكنها كتبت باسم عثمان بن حنیف وقد ابتدأ كلامه علیه السلام ب: «أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ؛ وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ..

أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَ إِنَّ .

ص: 372


1- نهج البلاغة - شرح محمد عبده - ج 3 - ص 70.

إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ» (1).

إنه عتاب على علیه السلام لواليه على تلك الاستجابة السريعة دون التبصر بحقائق الامور، إنها العدالة التي قاتل خصومه بأسسها وقوائمها، العدالة التي جعلت من على علیه السلام نبراساً للامم، و من مبادئه قطب الرحى التي تدور حوله افئدة طلاب الحق والعدال الانساني. ثم يسأل الامام علیه السلام ابن حنيف هل تحريت عن اساس الموارد لهذه الموائد في مجتمع الفقير فيهم مردود والغني مدعو يفترش البساط الفاخر.

ثم يحذره من اكل الحرام من هذا الطعام الذي لا يُعلم طرق كسبه هل هو حلال أم حرام، هل سُرق من حق الناس الذين لا حول لهم ولا قوة أم من الطرق المشروعة للكسب الحلال. ثم يذكره بولى امره كيف يحيا حياته وابن حنيف عارفٌ جيداً، الم تكن حياة المجتمع وعلي سواء ان لم يكن اقل منها، الم يكن قد اكتفى بذلك الثوب البالي، الم يكن قد قنع باقراص خبز الشعير و الماء والملح؟

وقد ذكّر ابن حنيف بهذا الوضع وهذه الصورة التي يعيشها امامه، اليس هذا هو على وهذه هي سيرته وحياته الى ان يقول: «أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ. فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً. بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ. وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا .

ص: 373


1- نهج البلاغة - شرح محمد عبده ج 3 ص 70.

وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ إِنَّهَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ» (1).

ان الذي يروم بل يهدف الى بناء مجتمع انساني متكامل تسوده العدالة والمحبة والتفاني لابد له ان يستعرض هذه الكلمات العظيمة للامام ويأخذ ما تستطيع قدرته على نفسه بتطبيقها، «ثم أن ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على اصلاح شؤون الرعية» (2). ويوصي طالباً معونة ولاته له في تسديد الامور على اقل التقدير ويذكّر بالموت والقبر وتلك الظلمة الموحشة في اروع تصوير حي لواقع تلك المرحلة ما بعد الموت بعد ان وضح لهم وكما يعلمون انه لم يخزن ذهبا ولافضة ولا مالاً من غنائمها و «ماكان يهىء لنفسه طمراً آخر بدل الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثم يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فان مجموع الرداء والازار يعد ثوباً واحداً فيها يكسو البدن لا بأحدهما» (3).

مفسدة الهديه

إذا كان التهادي بين الناس محبّذ، فهو لا ولى الأمر رشوة لا غير ...

فقد استعمل النبي صلی الله علیه و آله و سلم رجلاً من الازد، يقال له ابنُ اللُّبِّيَّة، على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي. قال: «فَهَلاَّ جَلس في بيت أبيه أو بيت

ص: 374


1- نفس المصدر السابق ص 70.
2- نفس المصدر السابق ص 70.
3- نفس المصدر السابق ص 71.

أُمَّهِ، فينظُر يُهدى لهُ أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذُ أحدٌ منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته (ان كان بعيراً له رغا أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعَرُ) ثم رفع بيده رأينا عُفرة إبطيه «اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ثلاثاً». (1)

وفي مسيرة امير المؤمنين علیه السلام نلتمس مصاديق هذه الرسالة العظمى لقد جاءه الاشعث بن قيس - وهو كبير قومه بملفوفة (وهي نوع من الحلوى) فتعجب الامام علیه السلام من امرها فقال له بمنتهى الصراحة والوعظ «أعن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت، أم ذو جنة أم تهجر»؟. ذاك اخوه عقيل وهذا الاخر من رعاياه، الاول طلب مالاً ليعينه به على عياله واسرته المملقة، والثاني شخصية اجتماعية ورئيس قوم متمكن مادياً وله صوت مسموع بين اهله جاء ليرشيه، ذكّر الاول بنار الله التي سجرها للظلمة والمنحرفين، ورد الآخر على اعقابه باقسى الكلام واعظم المواعظ ليبقى يتذكرها طيلة حياته حيث رجع خائباً وباعتقاد تام من انه لا يستطيع ان يأخذ من إيمان علي علیه السلام اقل شيء ليس بحلوى مصنوعة بل بدنيا عامرة اهلها.

وهنا لابد من التذكير بأن الأشعث بن قيس هذا هو الذي قاد الفتنة بأولئك النفر الذي فتنوا بخديعة معاوية يوم صفين برفع المصاحف وجاء بهم فأحاطوا بأمير المؤمنين علیه السلام متوعداً إن لم تكف الحرب وترضى بتحكيم المصاحف لنسلمنّك الى معاوية!

تلك الهدية التي أعجبت صانعها غاية الاعجاب حتى التمس بها تقرباً الى اميره قد صيّرتها طبيعتها - كرشوة - في عين علي «معجونة شنئتها كأنما عجنت 6.

ص: 375


1- صحيح البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا - ج 2 ص 917 حديث 2457 - كتاب الهبة - باب 16.

بريق حية أو قيئها».

اذن قضية العدالة وارتباط مصير المجتمعات بها تعطي الدافع الكبير لتربية الافراد من خلال نهج علي علیه السلام الواضح الجلّي الذي هو نهج الاسلام بعينه والذي اعطى للانسانية الصورة المثلى للعمل الصالح بل كيف يربي الرجل اسرته واهل بيته واذا كان قائداً أو اماماً أو حاكماً كيف يربي امته ويوجهها نحو الاصلاح فقد روی احد اصحاب الامام على علیه السلام انه «كان على يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالتجار فيفتح القرآن ويقرأ: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الارض ولا فساداً)، ثم يقول نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس (1).

كان علي علیه السلام هكذا في حياته ونهجه، فهو الصورة الناصعة لرجل الاسلام الاول، فقد كان القائد والخليفة الذي آثر الناس على نفسه، ولم تزلزل اقدامه اکداس التبر ورونق السلطان، طبق الحق والعدالة على نفسه أولاً ثم سار إلى مجتمعه واعظاً وناصحاً ومُدلاً على طريق الحق لکسب رضا الله الذي هو فوق كل شيء.

فلا خلاف اذن في ان التربية تبدأ بالنفس الاولى وهو القائد المعني لما تعكسه تلك الصورة من اثار ايجابية عظيمة على نفوس المجتمع اجمع، وبناء الاخلاق لدى الافراد تنمى قيم العدالة لديهم ليكون سريان ذلك جارٍ على الاسرة ثم المجتمع الأوسع وبالتالي تصبح الطهارة عامة فلا نجس ولا خبث، فالمجتمع السليم تُصان مفاهيمه بفعل حجم وسعة القيم الاخلاقية المطبقة على .

ص: 376


1- علي أمام المتقين. ج 2 ص 238.

سلوك الناس ومفاهيمهم، وما يبرز من خُلقٍ سيء أو ظلم فاحش سير فضه المجتمع ويدحضه بل سيقف بكل وعي وصلابة بوجه كل انحراف، وبالتالي لا مجال للدس والعبث وصانعي الخلل الاجتماعي، لان الحق وسيرة الناس العادلة لا تسمح بذلك الانحراف.

«ولو قسمنا العدالة الى قسمين العدالة الخلقية والعدالة الاجتماعية فلا ريب أن العدالة الخلقية أساس العدالة الاجتماعية، اذ لو لم يتصف الأفراد فكيف يمكن للمجتمع أن يتصف بها؟ أليس المجتمع مجموعة من الافراد؟ وعليه فانتظار العدالة الاجتماعية مع عدم تنمية الايمان والاخلاق والتقوى وخشية الله في الافراد، وهم من الاوهام، ومن هنا تنشأ مشاكل المجتمعات البشرية المتمثلة في تسليط الجبارين، والتمييز وانعدام العدالة، فلابد أولاً من بناء الانسان وتربية أفراد عدول ثم تسليمهم زمام أمور المجتمع بأيديهم، وبذلك يمكن أن نأمل تحكيم العدل واستقرار العدالة الاجتماعية، وهو بالضبط ما عكسه كلام الامام علي علیه السلام فقد قال بشأن الظلم وانعدام العدالة الذي هو من اعظم الكوارث الاجتماعية «بِئْسَ الزَّاد الى المعاد، والعدْوَانُ على العبادِ» (1).

فالامام علیه السلام يحذر كل التحذير هنا من تلك الميول الشيطانية لان هدفه علیه السلام حفظ المجتمع في هذه الدنيا من الظلم والجور، وبعد فالامام علیه السلام بحكم المسؤولية الالهية وامامة الامة تحتم عليه مسؤولیته امام الله ابراز واظهار الطرق السليمة والمستقيمة للمسلمين لئلا يسقطوا في حبائل الشيطان وبالتالي خسرانهم في

الدنيا والاخرة. 6.

ص: 377


1- رهبر - محمد تقي - دروس اساسية من نهج البلاغة - ص 186.

ص: 378

خاتمة الكلام

لقد حاولت في هذا البحث أن أُظْهِر فكر الامام علي علیه السلام الاجتماعي من خلال كل ما جاء عنه علیه السلام وابراز ذلك اسناده بالحقائق التاريخية، والصور الاجتماعية الواقعية التي نعايشها الآن، ثم الاعتماد على الركائز الاساسية في بياناته علیه السلام التي فصلّها في اماكن متعددة كحقائق بارزة ومهمة والتي تعتبر أُسس البناء الفكري للمجتمع الاسلامي وهي الاخلاق الاسلامية والعدالة الاجتماعية، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي او لا يقوم الا من خلال العقيدة التي تقوم ببناء الذات الانسانية وتقويمها بالفكر الاسلامي الحقيقي، واسندنا ذلك بالآيات القرآنية الشريفة بالاضافة الى السيرة النبوية الطاهرة، وربطنا كل ذلك بحديثنا عن فكر الامام علي علیه السلام الاجتماعي.

فاذن لا مناص من ان نتخذ هذا الفكر الناضج والواضح كاساس لبناء النظرية الاجتماعية الاسلامية، لانه جمعَ القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتفكيرهُ الحي، والتجربة المريرة التي مر بها في منهج واحد متكامل الجوانب.

ان الذي يريد ان يبني نظرية اجتماعية اسلامية متكاملة لابد له من مراعاة هذا الجانب الحيوي.

والحقيقة التي لا تجافى أن مجتمعاتنا الاسلامية تعاني من الفراغ الواسع في المعرفة التامة بالفكر الاجتماعي الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بعقيدتنا الاسلامية،

ص: 379

وحتى لم يكن لدينا لحد الآن صورة واحدة واضحة الجوانب عن اهمية علم الاجتماع ونظرياته وماهيته والجوانب التي يهتم بها، بل لازلنا بحاجة الى تبني فلسفة تاريخية لتفسير التاريخ وفق المنظور الاسلامي بصورة ناضجة وكاملة لارتباط ذلك بالمسيرة الاجتماعية ارتباطً كاملاً، ومن خلال مناهج تاريخية للتربية وبناء الافكار لدى الطليعة الشبابية وفي جميع المراحل الدراسية طبقاً للتفسير الاسلامي، وبناء الامة على ذلك وهذا ليس بالشيء المستحيل امام مفكرينا العظام الذين اغنوا كل المجالات الحياتية لمجتمعاتنا بتلك الافكار والاستقراءات والاستنتاجات التي نستطيع ان تقول بشأنها وبكل فخر أنها الصالحة لبناء المجتمعات الانسانية، ما عدا الجوانب التي أهملت ومع كل الاسف حيث لم تُعط الاهتمام اللازم في الحوزات الدينية أو طلابها واعتمدوا على بعض المساهمات الناقصة في بعض الاحيان في حين أن التخطيط للانسانية أو المجتمعات البشرية يأتي من خلال علم الاجتماع حيث اهتمت الدول المتقدمة بالمجالات التطبيقية والعملية للحصول على النتائج الايجابية لوضح الخطة المستقبلية التي يستهدي بها قوّام الكيانات السياسية في قيادة مجتمعاتهم وبنائها البناء السليم، ولا بناء سليم الابفكر ناضج و تام وواضح المعالم يستند الى عقيدة الهية كاملة، وهذا ما لا نجده الا في الاسلام العظيم الذي يقوم على القرآن الكريم الذى حفظه الله من كل تحريف أو تزوير والتراث الفكري الخالد الذي هو قانون يصلح لكل زمان ومكان، وفسحه اجتهادية تعالج كل المشاكل المستجدة التي يواجهها العالم المعاصر التي لم يأت بها نص قرآني أو سنة نبوية، كل ذلك يحفزنا الى عرض المنهج الاسلامي لمعالجة مشاكل المجتمعات الانسانية واتخاذه السبيل الذي يحفظ الانسانية وحقوقها دون ان تصل اليها ايادي الشر والبغي للعبث بها.

ص: 380

وانا في الحقيقة اعتبر ما طرحته الآن هو خطوة اضيفها إلى الخطوات التي سبقني فيها الاخرون وارجو الله تعالى أن تستمر هذه الخطوات حتى تصل الانسانية ومجتمعاتنا بالذات الى بر الامان وساحل النجاة بعد تلك الامواج العاتية والمتلاطمة التي تعيشها المجتمعات بصورة عامة، وفكر الامام علي علیه السلام الاجتماعي هو الحلقة الرئيسية في بناء النظرية الاجتماعية الاسلامية والتي نحن في احوج ما نكون اليها الآن من أي وقت مضى.

والله من وراء القصد والسلام عليكم

ص: 381

المصادر

1 - القرآن الكريم.

2 - ابن الازرق - بدائع السلك في طبائع الملك - الجزء الاول - تحقيق علي سامي النشار - بغداد.

3 - ابن هشام - السيرة النبوية - المجلد الاول والثاني - دار المعرفة - بيروت.

4 - اشفيتسر - البرت - فلسفة الحضارة - ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي - مطبعة مصر - القاهرة.

5 - الاعرجي - الدكتور زهير - مباني النظرية الاجتماعية في الاسلام - المطبعة العلمية قم - الطبعة الاولى 1417 ه.

6 - البري التلمساني - محمد بن ابي بكر الانصاري - القرن التاسع الهجري - تحقيق الدكتور التنوخي.

7 - البياتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الاسلامي مقارناً بالدولة القومية القانونية - الطبعة الثانية.

8 - التوحيدي - ابوحيان - الامتاع و المؤانسة - دار الشريف الرضي.

9 - جرداق - جورج - الامام علي صوت العدالة الانسانية المجلد الاول والخامس - دار - مكتبة الحياة - بيروت.

10 - جعفر - الدكتور نوري - علي ومناوؤه - دار النجاح - القاهرة - الطبعة -

ص: 382

الرابعة 1976 م - 1396 ه.

11 - الخطيب - السيد عبد الزهراء الحسيني - مصادر نهج البلاغه واسانيده - الطبعة الرابعة - بيروت.

12 - دیوارنت - ول و ايريل - قصة الحضارة - المجلد الرابع - ترجمة محمد بدران 1408ه - 1988 م - بيروت.

13 - رهبر - محمد تقی - دروس اساسية من نهج البلاغة - منظمة الاعلام الاسلامی - ایران.

14 - زيدان - الدكتور عبد الكريم - السنن الالهية في الامام والجماعات و الافراد - الطبعة الرابعة 1413 ه - 1993م.

15 - الشرقاوي - عبدالرحمن - علي امام المتقي - المجلد الأول والثاني - بيروت 1985 م.

16 - الشرقاوي - محمود - التفسير الديني للتاريخ - الجزء الاول - دار الشعب.

17 - الصالح - الدكتور صبحي - النظم الاسلامية - نشأتها وتطورها - الطبعة السادسة - بيروت.

18 - صحيح البخاري - تحقيق الدكتور مصطفى البغا - الجزء الثاني.

19 - صحيح البخاري - ضبط و تعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلد الخامس - مطبعة الهندي.

20 - الصدر - محمد باقر - اقتصادنا - الجزء الثاني - الطبعة الثانية 1408 - المجمع العلمي للشهيد الصدر.

21 - الصدر - محمد باقر - المدرسة القرآنية.

22 - الصدر - محمد باقر - اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف - دار التعارف للمطبوعات - بيروت.

ص: 383

23 - الصدر - محمد باقر - فدك في التاريخ - تحقيق الدكتور عبدالجبار شراره - مركز الغدير.

24 - الطباطبائي - السيد محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن - المجلد الثاني - مؤسسة الاعلمي - بيروت.

25 - الطبري - محمد بن جرير - تاريخ الرسل والملوك الجزء الخامس _تحقيق الخامس_تحقيق محمد ابوالفضل ابراهيم - بیروت لبنان.

26 - طي - الدكتور محمد - الامام علي ومشكلة نظام الحكم - الطبعة الثانية - 1417 ه - 1997 م - مركز الغدير للدراسات الاسلامية.

27 - عبدالباقي - الدكتور زيدان - التفكير الاجتماعي (نشأته وتطوره) الطبعة الثالثة (1401 ه - 1981 م.

28 - عبد الحميد - صائب - تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي. الغدير - بيروت - الطبعة الاولى 1417 ه - 1977 م.

29 - العلوي - هادي - فصول من تاريخ الاسلام السياسي 1995 م - قبرص - شركة F. K. H المحدودة للنشر.

30 - على - الدكتور جواد - المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام الجزء السابع - الطبعة الثانية 1413 ه - 1993 م.

31 - غيث - الدكتور محمد عاطف - دراسات في علم الاجتماع التطبيقي - دار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت.

32 - فضل الله - السيد عبد المحسن - نظرية الحكم والادارة - دار التعارف - بیروت.

33 - الفكيكي - توفيق - الراعي والرعية - الطبعة الثانية 1403 ه مؤسسة نهج البلاغة - شركة افست - ایران.

ص: 384

34 - قطب - محمد - مذاهب فكرية معاصرة - نظرية الحكم والادارة - دار الكتاب الاسلامی - قم - بيروت.

35 - الكليني - فروع الكافي - تحقيق العلامة الشيخ محمد جواد مغنية الطبعة الاولى 1413 ه - 1992 م - دار الاضواء للطباعة والنشر - بيروت.

36 - الماوردي - الاحكام السلطانية - تحقيق الدكتور احمد البغدادي - الكويت 1989 م.

37 - متز - آدم - الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده - المجلد الاول - 1377 - 1957 م.

38 - المحمودي - الشيخ محمد باقر نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغه المجلد الرابع والخامس.

39 - المسعودي - مروج الذهب - دار الهجرة - قم.

40 - مطهري - الشيخ مرتضى - الاسلام وايران - الجزء الثالث 1405 ه - 1985م - ترجمة هادي الغروي.

41 - مطهري - الشيخ مرتضى - العدل الالهي - ترجمة محمد عبد المنعم الخاقانی.

42 - مطهري - الشيخ مرتضى - في رحاب نهج البلاغة - ترجمة هادي يوسف الغروي - دار التعارف - 1400 ه - 1980.

43 - مقدمة ابن خلدون - مؤسسة الاعلمي - بيروت.

44 - المنقري - نصر بن مزاحم - واقعة صفين - تحقيق عبد السلام محمد هارون - الطبعة الثانية - منشورات مكتبة اية الله العظمى المرعشي النجفي - قم 1404 ه.

45 - النراقي - محمد مهدي - جامع السعادات - الجزء الاول.

46 - النفيسي - الدكتور عبدالله - في السياسة الشرعية - الكويت 1405 ه -

ص: 385

1984 م.

47 - نهج البلاغة - الدكتور صبحي الصالح - دار الهجرة - 1395 ه.

48 - نهج البلاغة - تصنيف لبيب بيضون - مكتب الاعلام الاسلامي - الطبعة الثالثة 1417ه.

49 - نهج البلاغة - شرح ابن ابي الحديد - تحقيق محمد ابوالفضل ابراهيم - دار الاحياء الكتب العربية - الحلبي وشركاؤه - الطبعة الثانية 1967 م - 1387 ه.

50 - نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - مؤسسة الاعلمى للمطبوعات بیروت.

51 - الوردي - الدكتور علي - دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - منشورات الرضي - قم.

52 - ويد جيري - الپان ج - المذاهب الكبرى في التاريخ - من كونفوشيوس الى تويبني - ترجمة ذوكان قرقوط - دار القلم - بيروت - الطبعة الثانية 1979م.

53 - هاريت - ليدل - التاريخ فكراً استراتيجياً - ترجمة حازم طالب مشتاق - الطبعة الاولى - بغداد - 1985 م.

54 - هويدي - الدكتور فهمي - مجموعة مقالات في حقوق الانسان في الاسلام - المؤتمر السادس للفكر الاسلامي - بيروت.

55 - اليزدي محمد تقي مصباح - المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن الكريم - ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني - دار امير الكبير للنشر 1415 ه.

ص: 386

المجلات والنشريات

1 - الفكر الاسلامي - الجزء الثاني - مؤسسة البلاغ.

2 - الفكر الجديد - العدد العاشر - السنة الثالثة - 1995 م - دراسة في ضوء علم الاجتماع الحضري - ابراهيم الموسوي.

3 - لماذا السقوط الحضاري - مؤسسة البلاغ.

4 - مجلة الجامعة الاسلامية - العدد الثالث - السنة الثانية - علم الاجتماع عند ابن خلدون - شيخ الارض تيسير.

5 - مجلة الجامعة الاسلامية - العدد الثاني - السنة الثانية - تكامل الحكمة وشموليتها في فكر الامام علي علیه السلام - يوسف عبد الحميد.

6 - مجلة الجامعة الاسلامية - العدد السادس - السنة الثانية 1995م. الحوار الحضاري ضرورة انسانية - الدكتور احمد عبد الرحيم السايح.

7 - مجلة المنهاج - مركز الغدير - بيروت - العدد الثالث - السنة الاولى 1417 ه - 1996م.

8 - مجلة كلية الآداب - العدد السادس - نيسان 1963 م - جامعة بغداد - التظلم من الحكام - عبدالغني باقر.

9 - مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد - العدد 17 - سنة 1974م - بعض نظريات علم الاجتماع في القرن العشرين - احسان الحسن.

ص: 387

المحتویات

المقدمة ... 5 - 10

الباب الاول

مدخل عام [ 11 - 86 ]

الفصل الأول: علم الاجتماع ... 13 - 48

تعاريف علم الاجتماع وماهيته ... 15

أقسام علم الاجتماع ... 21

الظواهر الاجتماعية ... 24

الظواهر الاجتماعية واثرها في بناء النظرية الاجتماعية ... 28

الاستعارة السلبية ... 30

نظرة عامة الى آراء بعض علماء الاجتماع ... 32

نظرية كونت في الاسرة ... 41

البناء المستقبلي وعلم الاجتماع ... 43

الفصل الثاني: الترابط الوثيق ... 49 - 76

تراث الامة وبناء المجتمع ... 51

علم الاجتماع والتاريخ ... 59

السنن التاريخية ودورها الايجابي ... 66

الفصل الثالث: السير على نهج على علیه السلام ... 77 - 86

ص: 388

الامام علي علیه السلام والفكر الاجتماعي الاسلامي ... 79

الاسلام والاتجاه الحقيقي للعلوم ... 81

الباب الثاني

السلطة والمجتمع [ 87 - 132 ]

الفصل الأول: الحقوق وأثرها في التماسك الاجتماعي ... 89 - 110

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي ... 93

أولاً: حقوق الرعية على الوالي ... 100

ثانياً: حق الوالى على الرعية ... 105

الفصل الثاني: الحرب والسلم والمجتمعات الانسانية ... 111 - 134

التعصب ونشوء الحرب ... 115

الصراعات والتطور ... 116

ومع عليّ علیه السلام ... 122

الصلح والسلم ... 127

العقود والعهود ... 127

أنموذج من معاهداته علیه السلام ... 132

القتل وسفك الدما ... 133

الباب الثالث

المجتمع بصورة عامة [ 135 - 276 ]

الفصل الأول: بناء الذات الانسانية وفق المعايير الاسلامية ... 137 - 152

القرآن أولا ... 142

الحالة الاخطر ... 143

الخطر الكبير الجاد لزمر النفاق ... 145

ص: 389

قانون اجتماعي خطير ... 147

الشورى وقبول الرأي وموضع ذلك لدى الحاكم ... 149

الفصل الثاني: الطريق الامثل ... 153 - 178

حقائق ثابتة ... 155

العمل الصالح والاخرة ... 156

المواساة المثالية ... 158

النظام الاجتماعي الاخلاقي والحضارة ... 166

حرية الانسان في المجتمع ... 168

الحزم واللين ... 169

الرعاية للجميع ... 171

ثقل الموازنة ... 173

علم النفس الاجتماعي والعلاقات العامة مع المجتمع ... 175

الفصل الثالث: تقسيمات المجتمع ... 179 - 276

التقسيم الطبقي ... 182

أ - الخاصة والعامة ... 182

ب - الطبقة السفلى ... 186

الضمان الاجتماعي ... 188

حقوق الامة والعدالة في التقسيم ... 193

تواضع الحاكم واحترام الامة ... 195

فكر علي علیه السلام والاخرون ... 196

موقفنا من نهج علي علیه السلام ... 197

التقسيم النفسي (السايكولوجي) ... 198

التقسم العلمي أو المعرفي ... 203

ص: 390

التقسيم الانساني ... 204

أهل الذمة والاسلام ... 208

الدفاع عن المعاهدين ... 208

التقسيم الايماني ... 210

التقسيم الاداري ... 211

الجند ... 211

الدرع الحصين ... 213

الجيش والخراج ... 215

المثل العليا والقيادة العسكرية ... 215

علم النفس الاجتماعي في تعامل علي مع جنده ... 219

العلاقة الانسانية ومودة الامة ... 220

حسن الثناء ورفع معنويات الجند ... 221

القضاء ... 222

السلطة القضائية ودورها الاجتماعي ... 222

الصفات الواجب توفرها في القاضي ... 226

المنتخب عند الامام علي علیه السلام ... 226

مسؤولية الولاة إتجاه القضاة ... 228

القاضي والمنزلة الرفيعة ... 228

درع علي والنصراني ... 230

الاحكام القضائية والوضع الاجتماعي ... 232

وصايا اساسية ... 233

الجهاز الاداري للدولة ... 236

طبيعة اختيار العمال ... 237

ص: 391

الامانة واداء حقها ... 240

المشروع وغير المشروع ... 240

صلة الحاجة بالمفاسد الاجتماعية ... 243

كتاب الدولة ... 247

دور الكتّاب في إدارة الدولة ... 248

دقة الاختيار ... 250

المقياس الحقيقي ... 252

تقسيم الاعمال والتنسيق الاداري ... 252

التقسيم المهني ... 253

التجار وذوي الصناعات الحرفية ... 253

الاحتكار والاضرار العامة ... 256

الصناعة ... 260

النظرة العامة للصنّاع عند اليونانين القدماء ... 261

العرب في الجاهلية والحرف الصناعية ... 262

تطابق واختلاف ... 262

الاسلام والحرف ... 265

علي علیه السلام والعمل بصورة عامة ... 267

الزراعة والارض والزرّاع ... 269

أبو جهل بعقليته الجاهلية ... 271

زراعة الخضروات والنظرة الاجتماعية ... 272

الرسول الاعظم صلی الله علیه و آله و سلم والعمل الزراعى ... 273

عمارة الأرض الزراعية ... 274

الباب الرابع

ص: 392

الموارد المالية والآثار العامة [ 277 - 314 ]

الفصل الأول: المال والاعمار ... 279 - 304

ما هو الخراج ... 283

الاموال العامة والاستغلال الخاطىء ... 290

وصايا انسانية لعمال الخراج ... 290

وكلاء الامة وسفراء الائمة ... 292

العدالة والمخاطر الاخرى ... 294

عمارة الارض والخراج ... 295

الكوارث الطبيعية ومسؤولية الدولة ... 297

الادخار النافع ... 298

الفقر والحاجة وتراجع العمران ... 300

النظريات الاقتصادية الحديثة والعلاج الاسلامي ... 301

علىّ القدوة الحسنة في القيادة والجهاد والعدل ... 303

الفصل الثاني: بطانة السوء والتكالب على استحصال المنافع ... 305 - 314

بطانة السوء في التاريخ ... 309

دفع الاضرار وقطع الاسباب ... 310

الباب الخامس

السلطة والعلاقات العامة مع الامة [ 315 - 387 ]

الفصل الأول: الوالي والروح الانسانية ... 317 - 330

العطف على الرعية والمحصلة النهائية ... 320

الرعية ورحمة الوالي ... 321

الرعية والتعامل الحكيم ... 322

السيرة الصالحة ... 323

ص: 393

آلة الرئاسة سعة الصدر ... 325

طغيان السلطة وجبروت الوالي ... 326

الفصل الثاني: الدعوة للقاء الامة وعلم الاجتماع السياسي ... 331 - 342

الاثار السلبية للاحتجاب ... 334

مكاشفة الامة ... 338

الفصل الثالث: المظالم في وصايا علي ... 343 - 356

الوالي والنظر في المظالم والاثر الايجابي ... 346

شرائط النظر في المظالم ... 349

التحصين الاجتماعي ... 354

لكُل يومٍ عملهُ ... 355

الفصل الرابع: العدل والظلم ... 357 - 378

الانبياء ومحاربة الظلم ... 360

علي مع الحق، والحق مع على ... 361

النظرة العلوية الى الظلم ... 363

عقيل المملق في كنف علي الخليفة ... 370

العدالة والمجتمع ... 371

مفسدة الهديه ... 374

خاتمة الكلام ... 379

المصادر ... 386

المجلات والنشريات ... 388

المحتويات ... 389

ص: 394

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.