شرح الخطبة الشقشقية

هوية الکتاب

شرح الخطبة الشقشقية

لمولانا أمير المؤمِنين على بن أبي طالب علیه السلام

الشيخ محَمَّد رضا الحَكيمي

مؤسّسَة الوَفاء

بيروت - لبنان

الطبعة الأولى

1402 ه - 1982 م

محرر رقمي: روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

شرح الخطبة الشقشقية

لمولانا أمير المؤمِنين على بن أبي طالب علیه السلام

الشيخ محَمَّد رضا الحَكيمي

مؤسّسَة الوَفاء

بيروت - لبنان

ص: 2

الطبعة الأولى

1402 ه - 1982 م

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين وصحبه الميامين .... وبعد ...

إنّ من لطف الله سبحانه وتعالى على البشر إرسال الانبياء والمرسلين هداة للناس، لأنارة طريقهم، وتبليغهم رسالات السماء ...

والغاية من الرسالة السماوية تعليم البشر الحلال والحرام، وتنظيم امورهم الحياتية والمعاشية، ونبذ العادات القديمة البالية، وتحلية النفوس بمكارم الاخلاق والفضائل السامية ...

ومن الطافه جل ثناؤه إرساله النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) على هذه الأمة برسالة خالدة ألا وهي الاسلام ... وبكتاب مجيد فيه كل ما يحتاجه الناس، فمن تمسك به سار على الصراط المستقيم، ومن ضلّ عنه فهو في اسفل درك وله عاقبة سيئة ...

ومن مقتضى الرسالة وتبليغ احكام الله سبحانه أن يكون القائم بها معصوماً عن ارتكاب الأثم أو فعل الخطأ ... وشاء الله للرسالة المحمدية استمرارية وجودها الى قيام الساعة ...

واستمرارية الرسالة تحتاج الى دعائم متينة منذ البداية، حتى كلما ازداد البناء وتطور الزمان تكون هي الدستور لكل المشاكل والأمور ... وهذا يقتضي أن يوجد شخص أو اشخاص بعد موت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يضمنون

ص: 5

إستمراريتها، ويكونوا هم حملة علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعندهم تأويل وتفسير آيات الله المباركة - وبعبارة أخرى: يسيرون على منهاج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بدون انحراف ولا إلتواء، وكما يريد الله سبحانه وتعالى.

لذا كان وجود الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام) امراً طبيعياً، كما إنّ عصمته (علیه السلام) مسألة ضرورية ... ليكون هو الفيصل بين الحق والباطل، والفاروق الذي مَن خالفه خرج عن الأسلام، ومَن تبعه كان مسلماً ومؤمناً بما أنزل الله سبحانه على نبيه المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم).

فهذا ما أراده سبحانه لهذه الأمة ليضمن لها الهداية والرشاد، ولينتشر الخير بينها، ولتتخلى بالاخلاق الحميدة والفضائل المجيدة، لتسود في هذه الدنيا، وتكون مثالاً أعلى للقيم والرفاء والسعادة ...

فبعد ان نشر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) رسالة الاسلام، ووضح معالمها، ورفع رايتها عالية، فاستقرت له الجزيرة العربية ... وحكم بحكم الله جل ثناؤه، ونفّذ ارادته ومشيئته ... ومن تلك الأرادة تنصيب علي بن أبي طالب (علیه السلام) اميراً للمؤمنين وخليفة له على المسلمين، فجمع الرسول الناس بعد حجة الوداع في غدير خم، وقال على مسمع ومرأىً من الجميع خطبة طويلة جاء فيها: «إني تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسكتما بهما لا تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي» ثم قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم عادِ مَن عاداه، وأنصر مَن نصره، واخذل مَن خذله» الخ ... فنزلت الآية الكريمة وهي آخر ما أنزل الله سبحانه على نبيه الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم): (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [ المائدة - 3] ... وقبض النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بعدئذٍ فأجتمعت عصبة من المسلمين وأغتصبت الخلافة غصباً من الامام (علیه السلام) وهو مشغول بتجهيز وتكفين وغسل ودفن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ... وتوالى الاغتصاب سنيناً حتى قتل عثمان، فأجمع المسلمون كل المسلمين على مبايعة الامام (علیه السلام) ...

ولكنّ بعض الناس تكره الحق، وتبغض المساواة بين افراد المجتمع

ص: 6

للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية، وبعضهم يرغب في إمارة وهو غير مستحقها ... وآخرون يريدون اموالاً واقطاعات طلباً للجاه ....

ويأبى الامام (علیه السلام) إلا أن تعلو صرخة الحق فوق الجميع ... وإلا ان توزع الأموال لمستحقيها بين المسلمين لا فرق بين شيخ قبيلة وبين مسلم مغمور ... وإلا أن يتولى إمارة المسلمين من كان أهلاً لها ...

فلذا نقض بيعته اشخاص طمعوا بالأمارة كطلحة والزبير، وخرج عليه مَن يبغضه كعائشة، وخرج عليه مَن يريد ان يتمتع بالحياة الدنيا ولا يرى لها بديلاً كمعاوية وعمرو بن العاص، وخرج عليه مَن عميت أبصارهم وانحرفوا عن الطريق القويم، ورأوا الاعوجاج عدلاً كالخوارج، ... فما كان من الامام (علیه السلام) إلا الوقوف بوجههم ليثبت الاسلام ويرفع رايته عالياً، ويفضح المنافقين حتى ينبذوا في المجتمع، ويبقى الاسلام سائراً على سيرته الأولى كما ارادها الله سبحانه ...

فهذا الكتاب هو إلقاء ضوء على خطبة للامام (علیه السلام) يبين فيها أحقيته بالخلافة، ويوضح فيها الاسلوب الدنيء الذي اتبع لغصب الخلافة منه (علیه السلام)، معرجاً على وصف مَن خرج عليه ظلماً وعدواناً ...

وأرتأينا من باب الأفادة والشمول للموضوع ان نذكر ترجمة للامام (علیه السلام)، ثم ترجمة للسيد الشريف الرضي جامع النهج ثم مصادر الخطبة لأنه كثر الجدال حولها ... ثم ذكرنا الخطبة كاملة وجزأناها بعدئذٍ الى خمسة فصول بيّنا في كل فصل شرحه والمرحلة التي عاشها الامام (علیه السلام)، وما كان موقفه من الخلفاء الثلاثة، وموقفه (علیه السلام) من الناكثين والمارقين والقاسطين.

والله من وراء القصد

ص: 7

ص: 8

ميلاده عليه السلام

وُلَد الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام) بمكة بيت الله الحرام: يوم الجمعة الثَّالث عشر من شهر الله الأصمّ رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وقد خصّه الله بهذه الفضيلة على ساير الأنام، ولم يولد في البيت أحد قبله ولا بعده، وفي ذلك يقول أبوه أبو طالب عليه السلام:

أنت الذي فرض الإلهُ ولاءَهُ *** ونطقت حقاً بالجوابِ الصائبِ

أنتَ الذي رَفعَ الإلهُ محلَّه *** وعلا عُلاكَ على الشّهابِ الثّاقِبِ

ووُلدتَ في البيتِ الحرامِ وخصَّك *** الباري بكلِّ مكارمٍ ومواهبِ

جاءَتْ نسآء المصطفين جَميعهم *** يستبشرونَ إِذْ جِئُتُهم بعجائبِ

روي في البحار من التّهذيب للشيخ أنّه عليه السلام وُلدَ بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة لثلاث عشر ليلة خلت من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقبض عليه السلام قتيلًا بالكوفة ليلة الجمعة لتسع ليالٍ بقينْ من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة وله يومئذٍ ثلاث وستّون سنة. ومن مصباح الزائر عن عتاب بن اسید، انه قال: ولد امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بمكة في بيت الله الحرام يوم الجمعة لثلاث عشر ليلة خلت من رجب، وللنّبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانٍ وعشرون سنة، قبل النّبوة بأثنتي عشرة سنة0

وفيه ايضاً من علل الشّرايع، ومعاني الاخبار، وأمالي الصّدوق، وروضة الواعظين، عن يزيد بن قعنب، قال: كنت جالساً مع العبّاس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت

ص: 9

أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت حاملة به لتسعة أشهر، وقد أخذها الطلق، فقالت:

رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنَةٌ بِكَ وَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ مِنْ رُسُلٍ وَ كُتُبٍ مُصَدَّقَةٍ بِكَلاَمِ جَدِّي إِبْرَاهِيمَ فَبِحَقِّ اَلَّذِي بَنَى هَذَا اَلْبَيْتَ وَ بِحَقِّ اَلْمَوْلُودِ اَلَّذِي فِي بَطْنِي لَمَّا يَسَّرْتَ عَلَيَّ وِلاَدَتِي.

قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب، فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزّ وجلّ، ثم خرجت بعد الرّابع وبيدها أمير المؤمنين عليه السلام، ثم قالت: إني فضّلت على من تقدّمني من النِّساء، لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله عزّ وجل سراً في موضع لا يحبّ أن يعبد الله إلّا اضطراراً، وأنّ مريم بنت عمران هزّت النخّلة اليابسة بيدها، حتّى أكلت منها رطباً جنّياً، وأنّي دخلت بيت الله الحرام، فأكلت من ثمار الجنّة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج، هتف هاتف سميّه عليّاً، فهو عليّ والله العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي ووقّفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الاصنام في بيتي، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي، ويُقدِّمني ويُمجدني، فطوبى لمن أحبّه، وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه.

ورواه في كشف الغمة من بشائر المصطفى مرفوعاً الى يزيد بن قعنب مثله، وزاد في آخره قالت: فولّدتُ علّياً ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون سنة، وأحبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبّاً شديداً، وقال: لها اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان صلى الله عليه وآله يلي أكثر تربيته، وكان يُطَهِّر علّياً عليه السلام في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ورقبته ويقول: هذا أخي، و وليّ، وناصري، وصفيي، وذخري، وكهفي وصهري، ووصيّي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيّتي، وخليفتي، كان

ص: 10

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمله دائماً، ويطوف به جبال مكة وشعابها، وأوديتها وفجاجها، صلى الله على الحامل والمحمول قال الاسكافي:

نطقَتْ دلائلُهُ بفضلِ صفاتِهِ *** بين القبآئلِ وهو طفلٌ يرَضعُ

وقال محمّد بن منصور السّرخي:

ولدتْهُ مُنُجبةٌ وكان ولادُها *** في جوفِ كعبة أفضلِ الأكنانِ

وسقاهُ رِيقَتَهُ النبيُّ وَيا لها *** من شربةٍ تُغْني عن الألبانِ

حتّى ترَعرَع سيّداً سنداً رضى *** أسداً شديدَ القلبِ غيرَ جبانِ

عَبَدَ الإلهَ مع النّبيِّ وإنّه *** قد كان بعدُ يُعدُّ في الصّبيانِ

فلذاك زوّجَهُ الرّسول بتولَه *** وغدا وصيَ الأنسِ ثمّ الجانِ

شهدَتْ له آياتُ سورةِ هل أتى *** بمناقبَ جلّتْ عن التبيانِ

الاسماء التي سميّ بها

والمعروف أنّه عليّ، مشتق من اسم الله الأعلى قال أبو طالب:

سمّيته بعليٍّ كي يدومَ لهُ *** عزَّ العلوِّ وفخرُ العزِّ أَدومُهُ

وفي البحار من المناقب لابن شهر آشوب، عن أبي عليّ بن همّام، رفعه أنّه لما وُلِد عليٌ عليه السلام، اخذ ابو طالب عليه السلام بيد فاطمة وعليّ على صدره، وخرج إلى الأبطح ونادى:

يا ربُّ يا ذا الغسقِ الدّجيِّ *** والقمرِ المبتلجِ المضي

بيّنْ لنا من حكمك المضيّ *** ماذا ترىَ في اسم ذا الصبّي

ص: 11

قال: فجاء شيءٌ يدب على الأرض كالسّحاب، حتّى حصل في صدر أبي طالب، فضمّه مع عليّ إلى صدره، فلما أصبح إذا هو بلوح أخضر، فيه مكتوب:

خُصصْتُها بالولد الزّكيّ *** والطاهر المنتجب الرّضي

فاسمُهُ منشا من شامخٍ عليٍّ *** عليٌّ اشتقّ من العليّ

قال: فعلّقوا اللوح في الكعبة، وما زال هناك حتّى اخذه هشام بن عبد الملك، فأجمعٍ أهل البيت أنّه في الزّاوية اليمنى من ناحية البيت، قال: فالولد الطاهر من النّسل الطاهر، ولد في الموضع الطاهر، فأين توجد هذه الكرامة لغيره، فأشرف البقاع الحَرَم، وأشرفُ الحَرَم المسجد، وأشرف بقاع المسجد الكعبة، ولم يولد فيه مولود سواه، فالمولود فيه يكون في غاية الشّرف، وليس المولود في سيّد الأيّام يوم الجمعة، في الشهّر الحرام، في البيت الحرام، سوى أمير المؤمنين عليه السلام.

وقال الشّارح المعتزلي وكان اسمه الأوّل الذي سمّته به أمّه حيدرة، باسم ابيها أسد بن هاشم، والحيدرة: الأسد فغيّر أبوه اسمه، وسمّاه عليّاً وقيل حيدرة اسم كانت قريش تسمّيه به، والقول الأوَّل أصحّ، يدل عليه قوله عليه السلام:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةً

ويُستفاد من الرّواية الآتية، أنّ أسمه زيد، ولا منافاة لأن تعدد الاسماء، دليل على كمال المسمّى.

ص: 12

نسبه (علیه السلام):

قال أخطب خوارزم:

نسبُ المطهّرِ بين أنسابِ الورى *** كالشّمس بين كواكب الانساب

والشَّمسُ إنْ طلعتْ فما من كوكبٍ *** الا تغيّبَ في نقابِ حجابِ

فإنّ آباءه آباء رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمّهاته أمّهات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مسوط بلحمه ودمه، طينته طينته، وفطرته فطرته، ونوره نوره، كلاهما من شجرة واحدة، لها فروع طوال، وثمرة لا تنال، نبتت في حرم، وسبقت في كرم، خلقهما الله نوراً واحداً قبل أن يخلق عالماً وآدم، ثم نقل ذلك النّور في ظهور الأخيار من الرّجال، وأرحام الخيرات المطهرات المهذّبات من النّساء، من عصر إلى عصر إلى أنّ قسّمه في عبد المطلب بين ابنيه عبد الله وأبي طالب، فجعل من الأوّل سيّد النبييّن، ومن الآخر سيّد الوصيّين، هذا الأوّل، وهذا التّالي، وهذا المنذر، وهذا الهادي.

روي في غاية المرام عن الصدوق مسنداً عن الحسن البصري، قال: صعد امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام منبر البصرة فقال: أيّها النّاس أنسبوني، فمن عرفني فينسبني، وإلّا فأنا أنسب نفسي، أنا زيد بن عبد مناف بن عامر بن عمرو بن المغيرة بن زيد بن كلاب، فقام اليه ابن الكوّا فقال: يا هذا ما نعرف لك نسباً غير عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، فقال عليه السلام، يا لكع (1) إن أبي سمّاني زيداً باسم جدّه قصيّ، وإن أسم أبي عبد مناف، فغلبت الكنية على الاسم، وانّ أسم عبد المطلب عامر، فغلب اللقب على الاسم واسم عبد

ص: 13


1- لكع وزان صرد: الرزل الدني.

مناف المغيرة، فغلب اللقب على الاسم، وإن أسم قصيّ زيد فسمّته العرب مجمعاً، لجمعه إيَّاها منْ البلد الأقصى إلى مكة. فغلب اللقب على الاسم.

ذكر الخوارزمي في كتاب المناقب: إنّ أبا طالب أولد طالباً ولا عقب له، وعقيلاً وجعفراً وعليّاً، كلّ واحد أسن من الآخر بعشر سنين، وعليّ أصغرهم سنّاً، وأمّهم جميعاً مع اختهم أمّ هاني (1) فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، أوّل هاشميّة ولدت لهاشمي.

قال الشّارح المعتزلي: أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشر من المسلمين، فكانت الحادية عشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرمها، ويعظمها، ويدعوها أمّي، وأوصت اليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيّتها، وصلى عليها، ونزل في لحدها، واضطجع معها، بعد أن ألبسها قميصه، فقال له أصحابه: إنّا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة، واضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر هذا.

وأمّا إسلام أبي طالب فهو المتّفق عليه بين الشّيعة، وقد اختلف فيه العامّة العمياء، ولعلنا نشبع الكلام في ذلك إن شاء الله في مقام مناسب، ولنقتصر هنا على رواية الاحتجاج، عن الصّادق، عن آبائه عليهم السّلام، أن أمير المؤمنين عليه السلام كان ذات يوم جالساً في الرّحبة والنّاس حوله مجتمعون، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أنت بالمكان الذي أنزلك الله به، وأبوك معذّب بالنّار فقال عليه السلام له: مَهٍ فضّ الله فاك، والذي بعث محمداً بالحق نبياً، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله فيهم، أبي معذّب بالنّار وابنه قسيم الجنّة والنّار، ثم قال: والذي بعث محمّداً بالحقّ نبياً، إن نور ابي يوم القيامة يطفىء أنوار الخلائق، إلا خمسة أنوار: نور .

ص: 14


1- واسمها فاختة (منه).

محمؤد صلى الله عليه وآله وسلم، ونوري، ونور الحسن، والحسين. ونور تسعة من ولد الحسين، فإنّ نوره من نورنا الذي خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام.

الكنى التي اطلقت عليه (علیه السلام):

هو أبو الحسن، وأبو الحسين، وأبو الريحانتين، وأبو السّبطين، وأبو تراب.

روي في البحار من مناقب ابن شهر آشوب، من الخركوشي، في شرف النّبيّ صلى الله عليه وآله، وشيرويه في الفردوس، واللفظ له، بأسانيدهم أنّه ما كان الحسن والحسين عليهما السّلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله يدعوانه يا أبانا، ويقول الحسن لأبيه: يا أبا الحسين، والحسين يقول: يا أبا يا الحسن، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دعواه يا أبانا.

وفي كشف الغمّة عن الخوارزمي قال علي عليه السلام: كان الحسن يدعوني في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا حسين، والحسين يدعوني أبا حسن، ولا يريان أباً إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات دعواني أباهما.

وفيه أيضاً من كتاب مناقب أبن مردويه عن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب عليه السلام قبل موته بثلاث: سلام عليك أبا الرّيحانتين، اوصيك بريحانتي من الدّنيا، فعن قليل ينهدّر ركناك، والله خليفتي عليك، قال: فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال علي عليه السلام: هذا احد الركنين اللذين قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما، فلما ماتت فاطمة عليها السّلام قال: هذا الرّكن الثّاني الذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي غاية المرام عن الصدوق بسنده، عن عبابة بن ربعي قال:

ص: 15

قلت لعبد الله بن عبّاس: لِمَ كنّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً أبا تراب؟ قال: لأنّه صاحب الأرض، حجّة الله على أهلها بعده، وبه بقاؤها، وإليه سكونها، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة، ورأى الكافر ما أعدّ له الله تبارك وتعالى لشيعة علي عليه السلام من الثّواب والزلّفى والكرامة قال: يا ليتني كنت تراباً، أي من شيعة علي عليه السلام، وذلك قول الله عزّ وجل:

(ويَقُول الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (1)

ونعِمَ ما قال الشّاعر:

أنا وجميعُ مَنْ فوقَ التُراب *** فِدىً لترابِ نعلِ أبي ترابِ

إمامٌ مدحَهَ ذكري ودأبي *** وقلبي نحوه ما عشتُ صابِ

وفي البحار من مناقب ابن شهر آشوب قال: ورأيت في كتاب الرّد على اصحاب التّبديل: أنّ في مصحف امير المؤمنين عليه السلام يا ليتني كنت ترابيّاً، يعني من اصحاب علي عليه السلام، قال: وفي كتاب ما نزل في اعداء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:

(ويَوْمَ يَعضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) (2)

رجل من بني عديّ ويعذّبه علي عليه السلام، فيعضّ على يديه، ويقول العاضَّ، وهو رجل من بني تميم: يا ليتني كنت ترابياً، أي شيعياً. 7.

ص: 16


1- سورة النبأ - آية - 40.
2- الفرقان - 27.

ما نودي به من ألقاب:

هو أمير المؤمنين، ويعسوب الدّين، وسيّد المسلمين، ومبير الشّرك والمشركين، وقاتل النّاكثين، والقاسطين، والملاقين، ومولى المؤمنين، وذو القرنين، ونفس الرّسول، وأخوه، وزوج البتول، وسیف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، والصديق الأكبر، وقسيم الجنّة والنّار، والمرتضى وصاحب اللواء، وسيّد العرب، وكشاف الكرب؛ وخاصف النّعل، وشبيه هارون والهادي والدّاعي، والفاروق؛ وباب المدينة؛ وباب الحكمة؛ وبيضة البلد والشّاهد، وهذه الألقاب قد اثبتت له عليه السلام في الاخبار الصحيحة.

قال الشّارح المعتزلي: وتزعم الشّيعة أنّه خوطب في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بأمير المؤمنين؛ خاطبه بذلك جملة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في اخبار المحدثين.

أقول: وإنكاره له لاوجه له مع قيام الأخبار المتظافرة بل المتواترة معنىً عليه، وقد روي في غاية المرام في هذا المعنى: اثنتين وأربعين حديثاً، من طريق العامّة وثمانية وثلاثين حديث، من طريق الخاصّة، ولعلّنا نورد بعضها في تضاعيف الشّرح إن شاء الله؛ ويستفاد من بعض تلك الأحاديث أنّه من الألقاب المخصوصة به عليه السلام، ولا يجوز ان يلقّب به غيره.

وهو ما رو ه فيه، عن ابن شهر آشوب، قال: قال رجل للصّادق عليه السلام: يا أمير المؤمنين، فقال عليه السلام: مَه فإنّه لا يرضى بهذه التّسمية أحد إلّا ابتلى ببلاء أبي جهل. قلت: بلاء أبي جهل أنّه كان مخنّثاً، لأنّه يبغض النبي كما رواه الشّارح المعتزلي.

وفيه أيضاً من تفسير العيّاشي عن محمد بن اسماعيل الرّازي،

ص: 17

عن رجل سمّاه، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال دخل رجل على ابي عبد الله عليه السلام، فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، فقام عليه السلام على قدميه، فقال: مه هذا اسم لا يصلح إلّا لأمير المؤمنين عليه السلام سّماه (1) به، ولم يُسمَّ به أحدٌ غيره فرضي به إلّا كان منكوحاً، وإن لم يكن به ابتلى به، وهو قول الله عزّ وجل:

(إإِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) (2)

قلت: فماذا يدعى به قائمكم؟ قال: يقال له: السلام عليك يا ابن رسول الله.

أقول: وما أبعد ما بين الشّارح المعتزلي في إنكاره لهذا اللقب وبين ضياء الدّين أبي المؤيّد موفق بن أحمد الخوارزمي في إثباته الألقاب الشّامخة له عليه السلام.

قال في محكي كلامه في كشف الغمّة: وأنا أقول في القابه: هو أمير المؤمنين، ويعسوب (3) المسلمين، وغرّة المهاجرين، وصفوة الهاشميّين، وقاتل الكافرين والناكثين والقاسطين والمارقين، والكرّار غير الفرّار، نصّال فقار كل ذي ختر (4) بذي الفقاز، قسيم الجنّة والنّار، مقعّص (5) الجيش الجرّار (6) لاطم وجوه اللجْين (7) والنّضار (8)، بيد )

ص: 18


1- أي الله تعالى (منه)
2- النساء - 117.
3- اليعسوب ملك النحل ومنه قيل للسيد يعسوب قومه (كشف الغمة)
4- الختر الغدر (ك)
5- ضربه فأقعصه قتله مكانه (ك)
6- الجرار الجيش الثقيل السير لكثرته
7- واللجين الفضة (ك)
8- والنضار الذهب (ك)

الاحتقار، أبو تراب، مجدّل الاتراب معفرين ممرّقين في العفر (1) رجل الكتيبة والكتاب؛ والمحراب والحراب، والطعن والضّراب، والخير الحساب (2) بلا حسناب مطعم السّغاب بجفان كالجواب (3) رادّ المعضلات (4) بالجواب الصّواب،؛ مضيّف (5) النّسور والذّياب (6) بالتّبار الماضي الذّباب (7) هازم الأحزاب؛ وقاصم (8) الاصلاب، قاسم الاسلاب (9)، جزّاز (10) الرّقاب، باين القراب، مفتوح الباب إلى المحراب عند سدّ ساير أبواب الأصحاب، جديد الرّغبات في الطاعات، و بالي الجلباب، رثِ (11) الثياب؛ رقاض الصعّلوك معسول الخطاب (12) عديم الحِجاب والحجّاب، ثابت اللبّ في مدحض الالباب، شقيق الخير، ورفيق الطير، صاحب القرابة والقربة، وكاسر اصنام الكعبة، مناوش (13) الحتوف؛ قتال الالوف، محرّق الصفّوف ضرغام يوم الجمل، المردود له الشمس عند الطفل (14) ترّاك السلب (15)، )

ص: 19


1- العقر التراب يقال عفره تعفيرا امرقه (منه).
2- اي الكافي (منه)
3- الجواب: الحياض
4- وامر معضل مشكل لا يهتدي لوجهه (منه)
5- قوله مضيف النسور والذياب ورقيق الطيل مثل قول الشاعر: قد عود الطير عادات وثقن بها *** فهن يصحبنه في كل مرتحل (كشف)
6- الذياب جمع ذئب (منه)
7- وذباب السيف طرقه الذي يضرب به
8- القصم الكسر والقاصم الكاسر
9- والاسلاب جمع سلب محركة
10- الجز: القطع (منه)
11- الرث: الشيء البالي ورث الثوب رثائة خلق (مجمع)
12- أي حلو خطابه
13- التناوش التناول والحتف الموت (ك)
14- الطفل بالتحريك بعد العصر وتطفيل الشمس ميلها الى الغروب (منه)
15- قال الشاعر: ان الاسود اسود الغاب همتها *** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (ك)

ضرّاب القلل (1) حليف البيض والأسل، شجاع السهّل والجبل زوج فاطمة الزهراء سيّدة النّسآء، مذلل الاعداء، معزّ الأولياء، أخطب الخطبآءِ، مضمخ مردة الحروب بالدماء؛ صفر اليدين عن الصفرآء، والحمرآء والبيضآء، مشكل (2) أمّهات الكفرة؛ ومفلق هامات الفجرة، ومقوّي اعضاء البررة، وثمرة بيعة الشّجرة، وفاقىء (3) عيون السّهرة، وداحي أرض الدّماء، ومطلع شهب الأسّنّة في سماء القترة (4)، المسمّى نفسه يوم الغبرة بحيدرة (5)، خوّاص الغمرات (6)، حمّال الألوية والرّايات، مميت البدعة، محيي السّنة، وكاتب جوائز أهل الجّنة، ومصرّف الأعنّة، واللّاعب بالأسنّة، سادّ انفاق (7) النفاق، شاق جماجم ذوي الشّقاق، سيّد العرب، موضع العجب المخصوص بأشراف النّسب، الهاشمي الأُمّ والأب المفترع (8) أنواع أبكار الخطب، نفس رسول الله صلى الله عليه وآله يوم المباهلة، وساعده المساعد يوم المصاولة (9) وخطيبه المصقع (10) يوم المقاولة، وخليفته في مهاده، وموضع سرّه في أصداره وايراده، ومليّن عرائك (11) أضداده، وأبو أولاده، وواسطة قلادة الفتوّة، ونقطة دائرة المروّة، وعتقى شرفي الأبوّة والبنوّة، ووارث علم الرّسالة والنّبوة، ).

ص: 20


1- قلة كل شيء اعلاه ورأس الانسان قلته (م).
2- المرأة الثكلى معروفة. (منه).
3- فقأت عينه اخرجتها فصار اعمى (منه).
4- القترة الغبار (ك).
5- الحيدرة الاسد (ك).
6- الغمرات شدائد الموت جمع غمرة (م).
7- النفق سرب في الأرض له مخلص في مكان (ك).
8- افترع البكر افتضها (ك).
9- والمصاولة المواثبة (ك).
10- المصقع البليغ.
11- والعريكة الطبيعة يقال لانت عريكته اذا انكسرت نخوته (ك).

وسيف الله المسلول، وجواد الخلق المأمولُ، ليث الغابة، وأقضى الصّحابة، والحصن الحصين، والخليفة الأمين، أعلم من فوق رقعة الغبرآء وتحت أديم السّمآء، المستأنس بالمناجاة في ظلمة اللّيلة اللّيلاء راقع مدرعته والدّنيا بأسرها قائمة بين يديه حتّى استحى من راقعها منزّه نفسه النّفيسة عن الدّنيا الدَّنية ومصارعها، ومثبّتها بلجام تقواه عن مطامعها، وفاطمها بتهجدها (1) عن وثير وثير (2) مضاجعها، أخو رسول الله وابن عمّه، وكشّاف كربه وغمّه، ومساهمه في طمّه (3) ورمّه، بعضه بعض البتول، وولده وُلد الرسول، هو من رسول الله صلى الله عليه وآله، دمه دمه ولحمه لحمه، وعظمه عظمه، وعظمه عظمه، وعلمه علمه وسلمه سلمه، وحربه حربه، وحزبه حزبه، وفرعه فرعه، ونبعه نبعه، ونجره نجره (4)، وفخره فخره، وجدّه جدّه، وحدّه حدّه، أنهار الفضائل في الدّنيا من بحور فضائله، ورياض التّوحيد والعدل من بساطين خطبه ورسائله، وكبش أهل العراق والشّام والحجاز، وشجى (5) حلوق الأبطال عند البراز وابن عمّ المصطفى، وشقيق النّبي المجتبى، ليث الثّرى، غيث الورى، حتف العدى، مفتاح النّدى قطب رحى الهدى، مصباح الدّجى، جوهر النهى (6) بحر اللهی (7) مسعر (8) الوغا، قطاع الطلى، شمس الضّحى أبو القرى في أمّ القرى، المبشّر بأعظم البشرى، مطلق الدنيا، مؤثر الأخرى على .

ص: 21


1- التهجد صلاة الليل
2- والوثير الوطىء (ك)
3- في طمه ورمه أي في اموره كلها واحواله جميعاً (ك).
4- والنجر الأصل والحسب.
5- الشجي ما ينشب في الحلق من عظم وغيره
6- النهى بالضم جمع النهاة وهي العقول لأنها تنهي عن القبيح (كشف)
7- اللهى جمع لهاة كحصاة سقف الفم ويجمع أيضاً على الهوات ومنه تحرك لسانه في لهواته (منه).
8- المسعر والمسعار الخشب الذي تسعر به النار ومنه قيل انه المسعر حرب أي تسعر به وتحمى والوغى الحرب لما فيه من الصوت والجلبة (منه).

الأولى، ربّ الحجى، بعيد المدى، ممتطي صهوة (1) العلى مستند الفتوى، مثوى التقى، نديد (2) هارون من موسى، مولى كلّ من له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مولى كثير الجدوى، شديد القوى، سالك الطريقة المثلى (3) المعتصم بالعروة الوثقى، الفتى أخو الفتى الذي انزل فيه هل أتى، اكرم من ارتدى وأشرف من احتذى، افضل من راح واغتدى، اشجع من ركب ومشى أهدى من صام وصلّى، مراقب حقّ الله إنْ أمر أو نهى، الذي ما صبا (4) في الصبى، وسيفه عن قرنه ما نبا ونور هداه ما خبا، ومهر أقدامه ما كبا، دعاه رسول الله إلى التّوحيد فلبّى، وجلا ظلم الشرّك وجلا وسلك المحجّة البيضاء، وأقام الحجّة الزّهراء جنيت ثمار النّصر من علمه؛ والتقطت جواهر العلم من قلمه، ونشأت ضراغم (5) المعارك في اجمه وباس كيون (6) اقدام هممه، واخضرّت ربی (7) الأماني من ديم (8) كرمه، نعم هو أبو الحسن، القليل الوسن (9)؛ الذي لم يسجد للوثن، هو عصرة (10) المنجود، هو من الذين احيوا أموات الآمال بحبا (11) الجود وهو من الذين سيماهم في وجوههم من اثر السجّود، وهو محارب الكفرة والفجرة بالتّأويل والتّنزيل، هو الذي مثله مذكور في التّوراة ).

ص: 22


1- الصهوة موضع اللبد من ظهر الفرس واعلى كل جبل صهوته (ك).
2- النديد النظير (منه).
3- المثلى تأنيث الأمثل وهو القريب من الخير وأماثل القوم خيارهم وافضلهم (كشف).
4- صبا فلان اذا خرج من دينه الى دين آخر ومنه الصابئون (منه).
5- الضرغام الاسد (منه).
6- جمع كين وهي الغدة في باطن القدم (منه).
7- الربا جمع الربوة المرتفع من الأرض (منه).
8- جمع ديمة وهو المطر الدائم الجريان وأقله ثلث النهار (م).
9- الوسن ثقلة النوم.
10- العصرة الملجأ والمنجود المكروب.
11- والحبّا المطر (منه).

والانجيل، هو الذي كان للمؤمنين وليّاً حفياً، وللرسول صلى الله عليه وآله وسلمٍ بعده وصيّاً، وهو الذي كان لجنود الحقّ سنداً، ولأنصار الدّين يداً وعضداً ومدداً، ولضعفآء المسلمين مجيراً، ولصناديد (1) الكافرين مبيراً، ولكؤوس العطاء على الفقراء مديراً، حتّى أنزل فيه وفي أهل بيته الذين طهرهم الله تطهيراً:

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (2)

وهو عليّ العليّ والوصيّ الولّي الهاشميّ، المكيّ المدنيّ، الأبطحيّ الطالبي، الرّضي، المرضي، المُنافي القويّ، الجريّ، اللّوذعيّ، الأريحيّ، المولوي، الصّفي الوفي؛ الذي بصّره الله حقائق اليقين ورتق به فتوق الدّين، الذي صدّق رسول الله صلى الله عليه وآله وصدق، وبخاتمه في الركوع تصدّق، واعتصب بالسّماحة والحماسة وتطوق، ودّقق في علومه ومعارفه وحقّق، وذكّرنا بقتل الوليد بدراً وبقتل عمر و الخندق، ومزّق من أبناء الحروب ما مزّق، وغرّق في لجة سيفه من اسود الهياج من غرق، وحرّق بشهاب صارمه من شياطين العراك من حرق حتى استوسق (3) الاسلام واِتّسق، هو أطول بني هاشم باعاً، امضاهم زماعاً وأرحبهم ذراعاً، وأكثرهم أشياعاً، وأخلصهم أتباعاً، وأشهرهم قراعاً، وأحدّهم سناناً، وأعربهم لساناً، وأقواهم جناناً، هو حيدر وما أدريك ما حيدر، هو الكوكب الأزهر والصّارم المذكر، صاحب براءة وغدير خم وراية خيبر، وكميّ احد وحنين والخندق وبدر الأكبر، هو ساقي ورّاد الكوثر يوم المحشر، أبو )

ص: 23


1- الصناديد جميع الصنديد وزان قنديل السيد الشجاع (منه)
2- الانسان - 8.
3- استوسق واتسق اجتمع وانتظم (ك)

السبطين ومصلّي القبلتين، وأنسب من في الأخشبين (1) وأعلم من في الحرمين. وأنشد الخوارزمي:

هذا المكارمُ لا قعبان من لبنٍ *** شيباً بماء فعادا بعد ابوالا

وأنشد كاشف الغمّة:

أسامياً لم تزدْهُ معرفةٌ *** وإنّما لذّهُ ذَكرناها

وأنا أنشد:

مكارمُ لجَّتْ في علوٍّ كأنّما *** تحاول ثأراً عندَ بعضِ الكواكبِ

محاسنُ من مجدٍ متى يقرنوا بَها *** محاسنُ أقوامٍ تُعد كالمعايبِ

وأقول: لعمري إنّ هذه الإلقاب لحريّ أن تكتب بالنور على صفحات خدود الحور، بالتبر المذاب، على أطباق السماء والكرسي والعرش والحجاب، وأن تثبت في اللوح وأمّ الكتاب: لا أن تكتب بالحبر والقلم، على القرطاس والرّق والكتاب؛ ومع ذلك أقول:

إذا ما الكراماتُ أعتلى قدرُ ربِّها *** وحلَّ بها أعلى ذرى عَرفاتِهِ

فإنّ عليّاً ذا المناقبِ والنُّهى *** كراماتُهُ العُليا أقلُّ صفاتِهِ

أوصافه:

في كشف الغمّة؛ عن الخوارزمي عن أبي أسحاق؛ لقد رأيت عليّاً عليه السلام أبيض الرّأس، واللّحية؛ ضخم البطن ربعة (2) من )

ص: 24


1- الأخشبان جبلا مكة (ك)
2- الربعة والربعة بالتحريك والمربوع الرجل بين الطول والقصر (م)

الرّجال. وعن ابن مندة أنّه عليه السلام كان شديد الأدمة (1)، ثقيل العينين عظيمهما؛ وأبطن وهو إلى القصر أقرب.

وعن محمد بن حبيب البغدادي: آدم (2) اللون حسن الوجه ضخم الكراديس (3).

وعن بعض المحدّثين: كان ربعة من الرّجال، ادعج (4) العينين حسن الوجه، كأنّه القمر ليلة البدر حسناً، ضخم البطن؛ عريض المنكبين، ششن (5) الكفين، أغيد (6) كان عنقه ابريق فضّة، أصلع كثّ اللحية منكبيه مشاش (7) كمشاش السّبع الضّاري، لايبين عضده من ساعده وقد أدمجت ادماجاً (8)، إن امسك بذراع رجل أمسك بنفسه، فلم يستطع أن يتنفّس، شديد السّاعد واليد، وإذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قويّ شجاع، منصور على من لاقاه.

قال كاشف الغمّة: واشتهر عليه السلام بالأنزع البطين، أمّا في الصّورة فيقال: رجل أنزع بيّن النّزع، وهو الذي انحسر الشعّر عن جانبي جبهته، وموضعه النّزعة، وهما النّزعتان والبطين: الكبير البطن، وأمّا في المعنى فإن نفسه نزعت يقال: نزع إلى أهله ينزع نزاعاً: اشتاق، و نزع عن الأمور نزوعاً انتهى عنها، أي نزع نفسه عن ارتكاب الشّهوات فأجتنبها، ونزعت إلى اجتناب السّيئات فسدّ عليه مذهبها، ونزعت إلى اكتساب الطاعات فأدركها حين طلبها، ونزعت .

ص: 25


1- الادمة بالضم كالسمرة لفظاً ومعنى وهي منزلة بين السواد والبياض (ق)
2- ادم تعلم وكرم فهو ادم.
3- الكردوسة كل عظمين التقيا في مفصل كالذراعين والركبتين ونحوهما (منه).
4- ادعج العين اسودها مع سعة (م).
5- شئنت كفه كفرح وكرم شثنا وشئونة خشنت وغلظت فهو شثن الاصابع بالفتح (ق).
6- غيد كفرح مالت عنقه ولانت اعطافه (ق).
7- المشاشة رأس العظم والجمع مشاش والأرض الصلبة وامش (ق).
8- دمج دموجاً دخل في الشيء واستحكم فيه (ق).

إلى استصحاب الحَسنات فأرتدى بها وتجلببها (1)، وامتلأ علماً فلقب بالبطين، فأظهر بعضاً وأبطن بعضاً حسبما اقتضاه علمه الذي عرف به الحقّ اليقين.

فأمّا ما ظهر من علومه فأشهر من الصّباح، وأسير في الآفاق من سرى الرّياح، وأمّا ما بطن فقد قال: بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به، لأضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة. وقد نظم بعض الشّعراء هذا المعنى:

مَن كان قد عرفته مديةُ دهرهِ *** ومرتْ له أخلافُ سمٍّ منقعِ

فليعتَصَمْ بعرى الدّعآءِ ويبتهلُ *** بإمامهِ الهادي البطينِ الأنزعِ

نَزَعَتْ عن الآثامِ طُراً نفسُهُ *** ورعاً فمَنْ كالأنزعُ المُتورِّعِ

وحوى العلومَ عن النّبيِ وراثةً *** فهو البطينُ بكلِّ علمٍ مُوَدَعِ وهو الوسيلةُ في النّجاةِ إذا الورى *** رجفَتْ قلوبُهُم لهولِ المَجمَعِ

وهذا ليس بغريب اذا عرفنا من هم آباء أمير المؤمنين (علیه السلام):

فآباء أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كانوا أهل بيت شرف في قومهم، وكان كلُّ واحد منهم أشرف وأفضل وأعلى من آباء بقية قومه بمراحل، أمّا أبو طالب عليه السلام فإنّه كان زعيماً حازماً نبيهاً سياساً وله في دفع كيد الأعداء عن النبيِّ والذَّبِّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام والمسلمين حقٌّ عظيم. وجلالة شأنه وحسن إسلامه أشرق من الشارق وأبلج من الصبّح.

وقال اليعقوبي في التاريخ: وكفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة عبد المطّلب أبو طالب عمّه فكان خير كافل، وكان أبو طالب سيّداً شريفاً مطاعاً مهيباً مع إملاقه، قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أبي ساد فقيراً، وما ساد فقير قبله.)

ص: 26


1- من الجلباب (م)

وأمّا عبد المطّلب: «فإنّه ولي السّقاية والرفادة (1) بعد عمّه المطّلب فأقامها للنّاس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من امرهم، وشرُف في قومه شرفاً لم يبلغه أحدٌ من آبائه وأحبّه قومه وعظم خطره فيهم» (2) ثمَّ ذكر الرّؤيا الّتي رأها عبد المطّلب في حفر زمزم، ونذره ذبح ولده وما جرى فيهما، إن قال:

ثمّ لم يلبث عبد الله بن عبد المطّلب أبو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هلك وأُمُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حامل به، فلمّا وضعته أُمّه آمنة بنت وهب أرسلت إلى جدّه عبد المطّلب: أنَّه قد ولد لك غلام فأته فأنظر إليه فأتاه فنظر إليه وحدَّثته بما رأت حين حمله به وما قيل لها فيه وما أمرت ان تسمّيه

فيزعمون أنَّ عبد المطّلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثمَّ خرج به إلى أُمّه فدفعه إليها والتمس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرُّضعاء فأسترضع له امرأةً من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة ابنة أبي ذؤيب.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أمّه آمنة وجدّه عبد المطّلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتاً حسناً، لما يريد به من كرامته فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستَّ سنين توفّيت أُمّه آمنة بالأبواء بين مكّة والمدينة فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جدِّه عبد المطلب بن هاشم.

وكان يوضع لعبد المطَلب فراش في ظلِّ الكعبة فكان بنوه يجلسون حولَ فراشه ذلك حتّى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بنيه إجلالاً )

ص: 27


1- بیان: السقاية إسقاء الحجيج الماء العذب، والرِّفادة خرج كانت قريش تخرجه في كلّ موسم من اموالها فتدفعه إليه فيصنع به طعاماً للحاج يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد.
2- السيرة النبويّة لابن هشام (ص 142 ج 1)

له فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي وهو غلامٌ جفر حتّى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه فيقول عبد المطّلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إنَّ له لشأناً ثمَّ يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده ويسّره ما يراه يصنع فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثماني سنين هلك عبد المطّلب ابن هاشم فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد عبد المطّلب مع عمِّه ابي طالب وكان عبد المطّلب - فيما يزعمون - يوصى به عمّه أبا طالب وذلك لأنَّ عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا طالب أخوان لأبٍ وأمّ. أمّهما: فاطمة بنت عمرو بن عائذ، وكان أبو طالب هو الّذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد جدِّه، فكان إليه ومعه.

وقال اليعقوبي في التاريخ (1): وتوفّيت أّمّه صلى الله عليه وآله وسلم بنت وهب بالأبواء وكان عبد المطَّلب يومئذٍ سيِّد قريش غير مدافع قد أعطاه الله من الشَّرف ما لم يعطِ أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم (2) وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحلِّ حتّى أطعم الطيّر والوحوش في الجبال قال أبو طالب:

ونُطعمُ حتّى تأكلَ الطيرُ فضلَنا *** إذا جُعِلتْ أيدي المفيضين ترعدُ

ورفض عبادة الأصنام، ووحّد الله عزَّ وجلَّ، ووفى بالنذّر، وسنَّ سنناً نزل القرآن بأكثرها وجاءت السنّة من رسول الله بها، وهي: الوفاء بالنذور، ومائة إبل في الدِّية، وألّا تنكحٍ ذات محرم، ولا تؤتي البيوت من ظهورها، وقطع يد السّارق، والنهي عن قتل المؤودة والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزّنا والحدُّ عليه، والقرعة، وألّا .

ص: 28


1- ص 7 ج 2.
2- ذو الهرم اسم بئر حفرها عبد المطلب بالطائف بعد ما حفر زمزم بمكة؛ كما في تاريخ العيقوبي أيضاً ص - 204 ج 1 - منه.

يطوف أحد بالبيت عريان، وإضافة الضيّف، وألّا ينفقوا إذا حجّوا إلّا من طيب اموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذوات الرّايات فكانت قريش تقول: عبد المطّلب إبراهيم الثاني.

وذكر قريباً ممّا نقلناه عن اليعقوبي الحلبيّ في السيرة ناقلًا عن ابن الجوزي وزيني دحلان بهامشه (1) أيضاً، وقال دحلان: كان عبد المطّلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثّهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن نّيات الأمور وكان يقول: لن يخرج من الدُّنيا ظلوم حتّى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة، إلى ان هلك رجل ظلوم من أرض الشام ولم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطّلب في ذلك ففكر وقال: والله ان وراء هذه الدّار داراً يجزي فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء باساءته.

وأوصى عبد المطّلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى ابي طالب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسقاية زمزم، وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطاُون به رقاب النّاس وقال لأبي طالب - وكان اسمه عبد مناف أي أنّه كان سميَّ جدِّه الأعلى عبد مناف - :

أوصيك يا عبدَ منافٍ بعدي *** بمفردٍ بيدِ أبيه فردِ

فارقَهُ وهو ضجيعُ المهدِ(2) *** فكنتُ كالأُمِّ لهُ في الوَجدِ )

ص: 29


1- ص 21
2- اقول: قوله رضوان الله عليه: «فارقه وهو ضجيع المهد» ينافي ما نقلناه آنفاً عن أبن هشام من أنَّ عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وقد كانت أم رسول الله حاملاً به، فقد تنوزع في ذلك فمنهم من قال: أنّه مات قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من قال: إنّه مات بعد مولده بشهر وقيل: بشهرين، ومنهم من قال: أنّه مات بعد مولده بسنة، وقيل: إنّه مات في السّنة الثانية، من مولده، وقيل: بل مات عبد الله ورسول الله ابن ثمانٍ وعشرين شهراً. وقال الطبرسيُّ في تفسير سورة والضُّحى من المجمع: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مات أبوه وهو ابن سنتين، وقال الكلينيُّ في باب تاريخ مولد النبيّ ووفاته صلى الله عليه وآله وسلم وتوفّي أبوه عبد الله بن عبد المطلّب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وظاهر الحديث الّذي رواه الصدوق في المجلس الخامس والأربعين من أماليه (ص 159) عن ابن عبّاس انّه مات قبل مولده حيث قال: فلما ماتَ عبد الله وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أكثر العلماء من الفريقين على أنّ عبد الله مات بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال اليعقوبيُّ في التاريخ: توفيّ عبد الله بن عبد المطلّب أبو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - على ما روي جعفر بن محمّد - بعد شهرين من مولده، قال: وقال بعضهم: إنّه توفيّ قبل أن يولد وهذا غير صحيح لأنَّ الإجماع على أنّه توفيّ بعد مولده، انتهى. فقول الكلينيُّ ومن سلك مسلكه متّخذ من الحديث المروي عن الإمام الصّادق عليه السلام. ثمَّ إنَّ ما نقل اليعقوبيُّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في جدِّه عبد المطلّب توافقه عدَّة روايات في الكافي وأتى بها الفيض - رحمه الله - في باب ما جاء في عبد المطلب وأبي طالب - رضي الله عنهما - من الوافي (ص 158 ج 2) ففي الكافي بإسناده إلى زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يحشر عبد المطلّب يوم القيامة أمّة وحده عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك. وما نقل ابن هشام في السيرة من أنّه يوضع لعبد المطلّب فراش في ظلّ الكعبة - الخ، توافقه رواية في الكافي بهذا المضمون نقلها الفيض في ذلك الباب من الوافي أيضاً: روى الكلينيّ بإسناده إلى رفاعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عبدّ المطلّب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره وكان له وُلدَ يقومون على رأسه فيمنعون من دنى منه فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو طفل يدرج حتّى جلس على فخذيه فأهوى بعضهم إليه لينحّيه عنه فقال له عبد المطَلّب: دع ابني فإنّ الملك قد أتاه (الوافي ص 159، ج 2)

تدنيه من أحشائها والكبدِ *** فأنتَ من أرجى بنيَّ عندي

لدفع ضَيمٍ أو لشدِّ عَقْدِ (1) ه.

ص: 30


1- واسند الى عبد المطلب هذان البيتان أيضاً: وصيت من كنيته بطالب *** عبد مناف وهو ذو تجارب بابن الحبيب الاكرم الاقارب *** بابن الذي قد غاب غیر آئب فهذه الوصية والتي في المتن تدلان على أن أبا طالب كان سمي جده عبد مناف وأن أبا طالب كان كنية له، وفي السادس من البحار: أبو طالب اسمه عبد مناف وقيل اسمه عمران ويؤيد الأول وصية عبد المطلب بقوله: اوصيك يا عبد مناف بعدي، والثاني ما عن بعض النسخ في زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعيد السلام على عمك عمران أبي طالب منه.

وتوفّي عبد المطّلب ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثماني سنين ولعبد المطّلب مائة وعشرون سنة وقيل: مائة وأربعون سنة، وأعظمت قريش موته، وغسّل بالماء والسّدر وكانت قريش أوَّل من غسل الموتى بالسّدر، ولفَّ في حلّتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب وطرح عليه المسك حتّى ستره، وحمل على أيدي الرِّجال عدَّة أيّام إعظاماً، وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إِنَّ الله يبعث جدِّي عبد المطلب أُمّة واحدة في هيئة الأنبياء وزيِّ الملوك.

وأمّا هاشم (1): وَلِي الرِّفادة والمقاية - يعني بعد أن توفيّ أبوه عبد مناف - وذلك أنَّ عبد شَمس كان رجلاً سفاراً، قلّما يقيم بمكّة وكان مُقلاً ذا ولدٍ (كان لعبد مناف بنون خمسة وهم: عبد شمس، وهاشم والمطّلب، ونوفل، وأبو عمر وعبيد) وكان هاشم موسراً، فكان - فيما يزعمون - إذا حضر الحاج قام في قريش فقال: «يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل بيته؛ وإنّه يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله وحجّاج بيته وهم ضيف الله وأحقّ الضيَّف بالكرامة ضيفه؛ فأجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاماً أيّامهم هذه التي لا بدَّ لهم من الإقامة بها فإنّه والله لو كان مالي يسع لذلك ما كلّفتكموه» فيخرجون لذلك خرجاً من أموالهم، كلُّ امرىءٍ بقدر ما عنده، فيصنع به للحجاّج طعاماً حتى يصدروا منها.

قال: وكان هاشم فيما يزعمون أوّل من سنَّ الرّحلتين لقريش رحلتي الشتاء والصيف، وأوَّل من أطعم الثريد بمكّة، وإنّما كان اسمه عمراً، فما سُمّي هاشماً إلّا بهشمه الخبز بمكّة لقومه، فقال شّاعر (2) ب

ص: 31


1- ص 135 ج 1
2- قيل هو عبد الله بن الزُبعري، وقيل هو مطرود بن كعب

عمرو الّذِي هَشَمَ الثريدَ لقومِهِ *** قومٌ بمكّةَ مسنتين عِجافِ(1)

سنَتُ إليه الرَّحلتان كِلاهُما *** سفرُ الشتاءِ ورحلةُ الأصيافِ

ثمَّ توفي هاشم بغزَّة من أرض الشام تاجراً فولي السقاية والرِّفادة من بعده المطّلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم وكان ذا شرف في قومه وفضل وكانت قريش إنّما تسميّه الفيض لسماحته وفضله.

وذكر أكثر ممّا نقلناه عن ابن هشام اليعقوبي في التاريخ (2)، قال: ويقال: إنَّ هاشماً وعبد شمس كانا توأمين فخرج هاشم وتلاه عبد شمس وعقبه ملتصق بعقبه فقطع بينهما بموسى فقيل: ليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد ...

وبنو هاشم هم الَّذين كان النبيُّ من بيتهم وهو صلى الله عليه وآله وسلم ربّي في حجرهم وما بعث الله نبيّاً إلّا في منعة من قومه ففي المقدِّمة السادسة من مقدِّمة ابن خلدون (3)).: إنّ الله سبحانه اصطفى البشر أشخاصاً فضّلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينهم وبين عباده يعرِّفونهم بمصالحهم ويحرِّضونهم على هدايتهم - ثمَّ أخذ في بيان علامات هذا الصنّف من البشر فقال: ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم. وفي الصحيح ما بعث الله نبيّاً إلّا في مَنْعَةٍ من قومه، وفي رواية أُخرى في ثروة من قومه، استدركه الحاكم على الصحيحين، وفي مسألة هِرقَلْ لأبي سفيان كما هو في الصحيح: قال: كيف هو فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو حسب؛ فقال ر.

ص: 32


1- المسنتون: الّذين أصابتهم السّنة، وهي الجوع والقحط والجدب، والعجاف جمع عَجِف من العجف بمعنى الضعف والهزال.
2- ص 202 ج 1.
3- ص 91 طبع مصر.

هرقل: والرُّسل تبعث في أحساب قومها. ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفّار حتّى يبلغ رسالة ربّه ويُتمَّ مراد الله مراد الله من إكمال دينه وملّته.

وكلام ابن خلدون هذا قد عنون في الكتب الكلاميّة أيضاً، ثمَّ إنَّ المهديَّ الموعود ظهوره وقيامه من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فهو من بني هاشم كما أنَّ آباءه الكرام البررة عليهم السلام من ذلك البيت.

ص: 33

فصل في علمه واخباره الغيب وذكر بعض مناقبه عليه السلام

أقول: إن أمره للمخاطبين بالمسألة في كلّ موقف ومكان وكلّ وقت وزمان مع عدم تقييد المسؤول عنه بشيء مخصوص يدل على غزارة علمه وأنه البحر الذي لا يساحل، والحبر الذي لا يطاول، وأنّه عالم بجميع العلوم وفارس ميدانها وسابق حلباتها وحائز قصبات رهانها ومبيّن غوامضها وصاحب بيانها، والفارس المتقدّم عند احجام فرسانها وتأخر أقرانها وأنّه فيها كلها قد بلغ الغاية القصوى وفضل فيها جميع الورى، فأسمع به وأبصر، فلا نسمع بمثله غيره ولا نرى، واهتدِ الى اعتقاد ذلك بناره فما كلّ نار اضرمت نار قرى ولنعم ما قيل:

قالَ أسألوني قبلَ فَقْدي ذوا *** إبانةٍ عن علمِهِ الباهرِ

لو شئتُ أخبرتُ عَمّا قَدْ مضى *** وما بَقي في الزمنِ الغابرِ

ويكفي في ايضاح ذلك قوله: علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العلم ألف باب فأنفتح لي من كل باب ألف باب، فاذا كان المعلم المؤدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أكمل العالمين وأعلاهم في درجات العرفان واليقين والتلميذ المتعلم أمير المؤمنين عليه السلام وهو في الفطنة والذكاء أفضل البارعين، فيحق له ان يبلغ أقصى غايات الكمال، وينال نهايات معارج العلم والمعرفة ويتمكن من قول سلوني قبل أن تفقدوني.

وقوله: (فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض) وقد ضمن بعض الشعراء ذلك وقال:

ومَنْ ذا يساميهِ بمجدٍ ولم يزَلْ *** يقولُ سلوني ما يَحلُّ ويَحْرمُ

سَلوني ففي جَنْبي علمٌ وَرِثْتُهُ *** عن المصطفى ما فات مني به الفَمُ

سلوني عن طرق السماواتِ إنني *** بها عن سلوكِ الطرق في الأرض أعلمُ

ولو كشفَ الله الغطاء لم أزدْ به *** يقيناً على ما كنتُ أدري وأفهمُ

ص: 34

قال الشارح المعتزلي: المراد بقوله ذلك ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيّما في الملاحم والدّول، وقال: وقد تأوّله بعضهم على وجه آخر قالوا: أراد أنا بالأحكام الشرعية والفتاوي الفقهيّة أعلمُ مني بالأمور الدّنيوية، فعبرّ عن تلك بطرق السماء لأنها احكامٌ إلهية، وعبّر عن هذه بطرق الأرض لأنها الأمور الأرضيَّة، قال: والأوّل أظهر، لأن فحوى الكلام وادلته يدل على أنّه المراد.

وقال الشارح البحراني: أراد بطرق السماء وجوه الهداية الى معرفة سكّان السماوات من الملأ الأعلى ومراتبهم من حضرة الربوبيّة ومقامات انبياء الله وخلفائه من حظائر القدس وانتقاش نفسه القدسيّة عنهم بأحوال الفلك ومدبراتها والأمور الغيبية مما يتعلق بالفتن والوقائع المستقبلية إذا كان له الاتصال التام بتلك المبادىء، فبالحريّ ان يكون علمه بما هناك أتمُ وأكملُ من علمه بطرق الأرض أي إلى منازلها.

ثمّ نقل عن الوبري أنّه قال: أراد أن علمه بالدّين أوفر من علمه بالدّنيا.

أقول لا يخفى على المتوقد الذكّي العارف بنكات العبارة وأساليب الكلام من أهل الجودة والذكاءِ والفطنة أن الشراح قصرت أفهامهم عن معرفة مراد الامام وعزب أذهانهم عن فهم مغزى الكلام، لأنه عليه السلام أمرهم بالسؤال قبل فقدانه، وقبل ظهور فتنة كما هو مفاد قوله الآتي قبل أن تشغر برجلها فتنة، وعلل ذلك بأنه أعلم بطرق السماء منه بطرق الأرض، وهذا ملخص معنى كلامه عليه السلام.

فعلى هذا فليس للمعنى الذي حكاه الشارح المعتزلي عن بعضهم، وكذا المعنى الذّي نقله البحراني عن الوبري ربط بالمقام أصلاً ولا شيء منهما مراداً من الكلام قطعاً.

وأمّا المعنى الّذي قاله الشارح المعتزلي فليس بذلك البعد ولكنّه لم يتبيّن منه جهة التعبير عن العلم بمستقبل الأمور بالعلم بطرق السماء كما لم يتبيّن وجه أعلميّته بها أي جهة التفضيل وكونه عليه السلام أعلم بها من علمه بطرق الأرض.

وأمّا ما قاله الشارح البحراني من انه اراد بطرق السماء وجوه الهداية «آه»، ففيه ان وجوه الهداية الى معرفة منازل سكان السماوات ومقامات الأنبياء، وأحوال

ص: 35

الفلك ومدبّراتها لا ربط لها بالمقام، فكيف يصح جعلها علة لقوله: سلوني آه».

واما وجه الهداية الى الأمور الغيبيّة فهو مناسب للمقام إلّا أنّه قاصر عن تأدية المعنى المراد.

فإن قلت: إذا زيفتَ جميع ما ذكروه فماذا عندك في هذا المقام وما الّذي اراده بهذا الكلام وما المعنى المناسب السليم من النقض والابرام؟

قلت: الذي اهتديت اليه بنور التوفيق وأدّى اليه النظر الدقيق.

انّه لما كان عالماً بما يظهر بعده من الفتن والملاحم أراد من باب اللطف أن يرشد المخاطبين إلى ما هو أصلح لهم عند ظهورها، وأوفق بانتظام امورهم عاجلاً وآجلاً فأمرهم بأن يسألوه قبل أن يفقدوه وقبل ان تظهر تلك الفتن حتّى يهتدوا بسؤ اله عليه السلام الى وجوه مصالحهم فيها، وعلّل ذلك بكونه اكمل علماً بطرق السماء من طرق الأرض.

وفهم معنى هذه العلّة وجهة ارتباطها بالمعلول يحتاج إلى تمهيد مقدمة وهي:

ان جميع ما يجري في عالم الملك والشهادة من المقضيات والمقدرات فهو مثبت في عالم الأمر والملكوت، مكتوب في أمّ الكتاب بالقلم الربّاني كما قال جلّ وعزّ: (ولا رطب ولا يابس إلّا في كتاب مبين) (1) وقال: (وما من غائبة في السماء والأرض إلّا في كتاب مبين) (2) وظهورها في هذا العالم مسبوق بثبوتها في ذلك العالم، واليه الاشارة في قوله سبحانه: (وما من شيء إلّا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدرٍ معلوم) (3) فالخزائن عبارة عما كتبه القلم الا على أولاً على الوجه الكلي في لوح القضاء المحفوظ عن التبديل الّذي يجري منه، ثانياً على الوجه الجزئي في لوح القدر الّذي فيه المحووالاثبات مدرجاً على التنزيل، فإلى الأوّل أشار سبحانه بقوله: (وإن من .

ص: 36


1- الأنعام - 59.
2- النمل - 75.
3- الحجر - 21.

شيء إلا عندنا خزائنه) وبقوله: (وعنده أمّ الكتاب) وإلى الثاني بقوله: (وما ننزّله إلا بقدر معلوم) ومنه تنزل وتظهر في عالم الشهادة.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنه عليه السلام أراد بطرق السماء مجاري الامور المقدرة ومسالكها نازلة من عالم الأمر بتوسط المدبرات من الملائكة المختلفين بقضائه وأمره إلى عالم الشهادة وبطرق الأرض مجاري تلك الأمور في ذلك العالم ومحال بروزها منها، وإلى نزولها أشار سبحانه بقوله: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر) (1) فإن كُلّ امر لفظ عام لم يبقَ بعده شيء كما في رواية أبي جعفر الثاني عليه السلام، والمنزل اليه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام بعده والأئمة القائمون مقامه.

كما روي في البحار من تفسير العياشي عن محمّد بن عذافر الصير في عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ الله تعالى خلق روح القدس ولم يخلق خَلْقاً أقرب اليه منها، وليست (2) بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمراً ألقاه اليها فألقاه إلى النجوم فجرت به.

قال العلامة المجلسي (رحمه الله): والظاهر أن المراد بالنجوم الأئمة عليهم السلام، وجريانها به كناية عن علمهم بما يلقى اليهم ونشر ذلك بين الخلق.

وفي تفسير الصافي عن تفسير القميّ قال: تنزّل الملائکة والروح القدس على إمام الزمان ويدفعون اليه ما قد كتبوه.

وعن الصادق عليه السلام إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروّح والكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تلك السّنة، فإذا أراد الله ان يقدّم شيئاً أويؤ خّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الذي أراد. »

ص: 37


1- القدر - 4.
2- أي هي أقرب خلق الله من جهة الوحى، وليست باكرم خلق الله اذ النبي والائمة عليهم السلام الذين خلق الروح لهم هم أكرم على الله منها «بحار»

وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال الله عز وجل في ليلة القدر: (فيها يفرق كلّ امر حكيم) يقول ينزّل فيها كلّ امر حكيم «الى ان قال» انه ينزل في ليلة القدر إلى أُولي الأمر تفسير الأمور سنة سنة يؤمر فيها في امر نفسه بكذا وكذا وفي أمر النّاس بكذا وكذا، وإنّه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم الله عزّ وجل الخاص والمكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر ثمّ قرأ: (و لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله ان الله عزيز حكيم) (1).

ثمّ أقول: قد ظهر بدلالة هذه الرّوايات أن ما ينزل من عالم الأمر فإنّما ينزل أولاً الى وليّ الأمر، ثمّ يجري بعده في المواد المقدرة، ولازمه كون ولي الأمر عالماً بها وبكيفيّة نزولها في مسالكها ومجاريها والعلوية والسفليّة.

وأوضح دلالة منها ما رواه في البحار من بصائر الدّرجات عن سماعة إبن سعد الخثعمي أنه كان مع المفضل عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له المفضّل: جعلت فداك يفرض الله طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء؟ قال: الله أكرم وأرأف بعباده من أن يفرض (2) عليه طاعة عبد يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساء.

وفيه من البصائر عن الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لا والله لا يكون عالم جاهلاً أبداً عالم (3) بشيء جاهل بشيء ثمّ قال: الله اجلّ وأعزّ وأعظم وأكرم من ان يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه، ثمّ قال: لا يحجب ذلك عنه.

بل قد يظهر من أخبار آخر علمهم عليهم السلام بجميع ما في السماء مثل علمهم بما في الأرض وقد مرّ كثير من هذه الأخبار في تضاعيف الشرح ونورد هنا ).

ص: 38


1- لقمان - 27.
2- هكذا في نسخة البحار والظاهر انه من سهو النساخ والصحيح عليهم بدل عليه (منه).
3- وفي الكافي عالماً بشيء جاهلاً بشيء بدل قوله عالم بشيء جاهل بشيء تفصيل لقوله جاهلاً وهو الاظهر (بحار).

بعضها.

وهو ما في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن مرار عن يونس عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) (1) قال كشط (2) له عن الأرض ومن عليها وعن السماء وما فيها والملك الّذي يحملها والعرش ومن عليه، وفعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين صلوات الله عليه.

ومن بصائر الدرجات عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه، قال: كشط لابراهيم السماوات السبع حتّى نظر الى ما فوق العرش وكشط له الأرض حتّى رأى ما في الهواء وفعل بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك، واني لأرى صاحبكم والائمة من بعده قد فعل بهم مثل ذلك.

وفيه من البصائر عن بريدة الأسلمي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ان الله اشهدك معي سبع مواطن حتى ذكر الموطن الثاني: أتاني جبرائيل فأسرى بي الى السماء فقال أين أخوك؟ فقلت: ودعته خلفي، قال: فقال: فادعُ الله يأتيك به، قال: فدعوت فإذا انت معي، فكشط لي عن السماوات السبع والأرضين السبع حتّى رأيت سكانها وعمّارها وموضع كلّ ملك منها فلم أر من ذلك شيئاً إلا وقد رأيته كما رأيته.

وفيه من البصائر عن عبد الأعلى وعبيدة بن بشير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ابتداء منه: والله إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وما في الجنّة وما في النّار وما كان وما يكون الى ان تقوم الساعة، ثمّ قال: اعلمه من كتاب الله انظر اليه هكذا، ثمّ بسط كفيّه ثمّ قال: إنّ الله يقول:

(ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) (3) .

ص: 39


1- الانعام - 75.
2- الكشط رفعك الشيء بعد الشيء قد غشاه، وكشط الجل عن الفرس كشفه (بحار)
3- النحل - 89.

والأخبار في هذا المعنى اكثر من أن تحصى ولا حاجة الى الاكثار من روايتها وكلّها متفق معنىً في الدّلالة على علم امير المؤمنين عليه السلام والأئمة الطاهرين من ذرّيته - سلام الله عليهم - بالسماوات وما فيها وبطرقها وأبوابها واخبارها غير محجوب عنهم عليهم السلام شيء من ذلك.

فإن قلت: غاية ما ظهر من هذه الأخبار كون الامام عالماً بالسماء وما فيها كعلمه بالأرض وما عليها، ولم يظهر منها وجه التفضيل المستفاد من قوله: «فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» فاللازم عليك بيان جهة التفضيل ومعناه.

قلت: قوله عليه السلام فلأنا بطرق السماء أعلم، يحتمل معنيين.

احدهما: أنه عليه السلام أسبق علماً بها، وذلك لما علمت ان الأمور المقدرة في عالم الشهادة بدايتها في السماء ومنتهاها في الأرض، والمبدأ مقدّم على المنتهى وسابق عليه، فيكون العلم به أسبق من العلم بالمنتهى كما يؤدّي اليه النظر الدقيق.

وثانيهما: أنّه عليه السلام اكمل وأتّم علماً بها، وذلك لأنه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من ذريتهما قد كانوا أنواراً مخلوقة قبل خلقه آدم وعالم بألفي عام أو أربعة عشر ألف عام أو خمسة عشر ألف عام أو أربعين ألف عام أو أربعمائة ألف سنة أو أربعة وعشرين الف سنة أو ألف ألف دهر على اختلاف الروايات الواردة في خلقتهم (1).

وقد كان منزلهم ومأواهم في تلك المدّة المتطاولة في سرادق العزة وحجابات العظمة وظل العرش والسماوات العالية، ثمّ أهبطوا باقتضاء مصالح التكليف وارشاد العباد الى عالم الشهادة واكتسوا جلباب البشريّة ولبثوا في الأرض مدّة قليلة ثمّ رجعوا إلى أوطانهم .

ص: 40


1- قال العلامة المجلسي (رحمه الله) والاختلاف الوارد في ازمنة سبق الانوار يمكن حملها على اختلاف معاني الخلق ومراتب ظهوراتهم في العوالم المختلفة فإن الخلق يكون بمعنى التقدير وقد ينسب الى الأرواح والى الاجساد المثالية والى الطينات ولكل منها مراتب شتى مع أنه قد يطلق العدد ويراد به الكثرة لا خصوص العدد وقد يراعى في ذلك مراتب اختلاف عقولات المخاطبين وافهامهم وقد يكون بعضها لعدم ضبط الرواة (منه رحمه الله).

الأصلية ومساكنهم النورانيّة، وقد دلّت على ذلك كلّه الاخبار الصحيحة.

فبطول مدّة الأقامة والمكث فيها وتمادي توطنهم وبقائهم في الملأ الأعلى يكون علمهم بعالم الملكوت البتّة أكمل وأتمّ من علمهم بعالم الناسوت كما لا يخفى.

وبقي الكلام بعد ذلك كلّه في جهة ارتباط العلّة بالمعلول اعني ارتباط قوله: «فلأنا بطرق السّماء أعلم» بقوله: «سلوني قبل أن تفقدوني قبل أن تشغر فتنة» آه ...

وجهة الأرتباط أنه لما أرشدهم إلى السؤال عن الفتن والملاحم المستقبلة علّله بذلك، لأن الفتن الحادثة مثل سائر الأمور المقدورة مكتوبة في الألواح السمّاوية قبل حدوثها وظهورها، وينزل علمها إلى الامام في ليلة القدر وغيرها كما قال عزّ من قائل: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلّا في كتاب من قبل أن نبرأها ان ذلك على الله يسير) أي ما يحدث من مصيبة وقضيّة في الأرض وفي أنفسكم إلّا وقد كتبناها والحكم المتعلّق بها في كتاب من قبل أن نخلق المصيبة أو الأنفس.

روى القمّي (رحمه الله) عن الصّادق عليه السلام في هذه الآية قال: صدق الله وبلغت رسله كتابه في السّماء علمه بها، وكتابه في الأرض علومنا في ليلة القدر وغيرها.

فعلم امير المؤمنين عليه السلام بالفتن وما يتعلّق بها لما كان حاصلاً من المبادىء العالية والطرق السّماوية حَسُن تعليل الأمر بالسؤال عن الفتن بعلمه بطرق السّماء.

وأيضاً قد أخبر الله سبحانه الفتن الحادثة في كتابه الكريم وهو حبل ممدود من السماء الى الأرض لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بعضها في ظواهر آياته وبعضها في بواطنها وأعلمها النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام.

فمما أخبر بها في الظاهر قوله سبحانه: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ

ص: 41

يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (1).

روي في المجمع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لما نزلت هذه الآية قال: لا بد من فتنة تبتلي به الأمّة بعد نبيّها ليتعينّ الصادق من الكاذب، لأن الوحي قد انقطع وبقي السّيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

ومنه ايضاً قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس) (2) الآية فإنّه إخبار عن فتن بني أميّة وملكهم كما ورد في غير واحد من الأخبار.

وممّا يدلّ على ان الفتن الحادثة وغيرها من سائر الأمور مدرجة في مفاهيم الآيات قوله تعالى: (وما من غائبة في السّماء والأرض إلّا في كتاب مبين) (3) أي من خصلة غائبة يعني جميع ما أخفاه عن خلقه وغيبه عنهم مبين في الكتاب.

روي في البحار من بصائر الدرجات عن محمّد بن الحسن عن حماد عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبيه عن أبي الحسن الأول عليه السلام في حديث وان كان في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاها الله الماضين النّبيّين والمرسلين، وقد جعله الله ذلك كله لنا في أمّ الكتاب، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: (وما من غائبة في السّماء والأرض إلّا في كتاب مبين) ثمّ قال عزّ وجلّ (4): (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا) (4) فنحن الذين اصطفانا الله، فقدور ثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيء

هذا ما اهتديت إليه في شرح هذا المقام بالتمسك بولاية أمير المؤمنين وآله الطاهرين عليهم السلام، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.2.

ص: 42


1- العنكبوت 1 - 2.
2- الاسراء - 60.
3- النمل - 75.
4- فاطر - 32.

فصل في مناقبه وفضائله (علیه السلام) ...

ومن ذلك أخترنا بعض كلماته عليه السلام للدلالة على ما نريد إثباته ...

قال عليه السلام في خطبة خطبها بعد انقضاء أمر النهروان:

أَمَّا بَعْدَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا؛ فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً، وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَ حَوَازِبُ الْخُطُوبِ، لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ، وَ ذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَ ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ، إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً.

الشرح

(فقأت) فقأ من باب منع، ومعناها قلع وشقّق، ومراده (علیه السلام) من (فقأت عين الفتنة) أي شققتها وقلعتها بشحمها، أو أدخلت الأصبع فيها، وهو استعارة لكسر ثورانها وإسكان هيجانها، والمراد به

ص: 43

(الفتنة) إما خصوص فتنة أهل البصرة والنهروان، أو عموم فتن المنافقين والكافرين، وذلك لأن المصدر المحلى باللام، وإن لم يكن مفيداً للعموم بحسب الوضع اللغوي، إلا إنه لا ينافي إفادته له بقرينة الحال ...

(ولم يكن ليجترىء عليها أحد غيري) اي: لم يستطع أحد من الإقدام ليطفىء نار الفتنة غيره (علیه السلام) لما له من البسالة والشجاعة وبما إنه يعرف الناس والاشخاص على حقيقتهم فلا يخفى عليه احد ...

(بعد أن ماج غيهبها) الغيهب: الظلمة ... وكنى بتموج ظلمتها عن شمول ظل لها لأن الظلمة إذا تموجت شملت أماكن كثيرة غير الاماكن التي تشملها لو كانت ساكنة، فأشار الى شدة تلك الفتن وظلمتها. وأشار الى غلبة شرها واذاها بقوله: (واشتد كلبها) يقال: كلب الكلب كلباً فهو كلب، من باب تعب، وهو داء يشبه الجنون، فيأخذه فيعقر الناس ... وفي القاموس الكلب بالتحريك: صياح، من عضة الكلب وجنون الرياح الكلاب المعتري من أكل لحوم الانسان، و شبه جنونها المعتري من عضها ... وكنى عليه السلام بقوله هذا الى ان الفتنة شر كلها، ومليئة بالأذى والضرر للناس ...

فقد ظهر واتضح لنا ظهور الشمس في رابعة النهار أنه عليه السلام ردّ نخوة الكفار واعتلائهم يوم بدر، وشموخ انفهم وسمّو غلوائهم يوم أُحد، وكسر صولتهم يوم خيبر وفقاً اعينهم بقتل عمرو بن الود العامري يوم الأحزاب، وهكذا سائر الحروب والخطوب فقد عُلمنا علماً يقيناً أنه لولا سيفه عليه السلام لما قام للاسلام عمود، ولا اخضر للايمان عود.

ولذلك قدم المسند إليه على المسند ليفيد التخصيص، وجعل المسند جملة للتقوية، كما قرر في علم المعاني ر في علم المعاني، وأكده بقوله (ولم يكن ليجترىء عليها أحد غيري) وتصديق ذلك أمّا في وقعة الجمل والنهروان فلأنّ الناس كانوا لا يتجاسرون على قتال أهل القبلة ويخافون من ذلك

ص: 44

الأثم والعصيان، وقد احسنوا الظن بطلحة والزبير مع كون زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم.

وأهل النّهروان كانوا أهل قرآن وصلاة واجتهاد وعبادة، وكان النّاس يهابون قتالهم ويقولون كيف نقاتل من يصلي كصلاتنا ويؤذن كآذاننا ويصوم كصومنا.

وكذا التبس الأمر في وقعة صفين ولذلك أمسك مثل خزيمة بن ثابت الانصاري عن القتال حتّى قتل عمار فتيقن ضلالة القاسطين وقاتل حتّى قتل.

وأمّا سائر الوقائع والحروب التي كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وآله: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) (1) وظَنّوا بالله الظّنونا واضطرب المؤمنون: ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (2) ودارت أعين المنافقين (كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (3) وقالوا: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (4) ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (5) بوجوده عليه السلام: ﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (6) وانزل في حقه عليه السلام وفي عمّه حمزة وأخيه جعفر: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (7).

(فاسألوني قبل أن تفقدوني) وفعل الأمر هنا «إسألوني» للتحدي، أي: انه تحدى كل مَن سمعه على سمعه على أن يسأله أي سؤال يخطر على باله وهو (علیه السلام) عنده الجواب الشافي والكافي ... وهذا القول منه 3.

ص: 45


1- الاحزاب - 10.
2- الاحزاب - 11.
3- الاحزاب - 19.
4- الاحزاب - 12.
5- الاحزاب - 25.
6- الاحزاب - 25.
7- الاحزاب - 23.

اشارة الى فضيلة علمه وإنه يعلم بطرق السماء والأرض وما بينهما ... وهذا مما لم يحصل من غيره (علیه السلام) ...

قال الشارح المعتزلي روى صاحب كتاب الاستيعاب وهو أبو عمر محمّد بن عبد البر عن جماعة من الرّواة والمحدثين قالوا لم يقل أحد من الصحابة «سلوني» إلا علي بن أبي طالب إلا علي بن أبي طالب، وروى شيخنا أبو جعفر الاسكافي في كتاب نقض العثمانية عن علي بن الجعد عن ابن شبرمة قال: ليس لأحد من النّاس أن يقول على المنبر سلوني إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

أقول: وذلك لأن انواع الأسئلة غير محصورة ولا محصاة، وأصناف الطلبات غير معدودة ولا مستقصاة فبعضها يتعلق بالمعقول وبعضها بالمنقول، وبعضها بعالم الشهود وبعضها بعالم الغيب، وبعضها بما كان وبعضها بما يكون وبعضها بما هو كائن، وهكذا فلا يمكن الجواب عن هذا كله ولا يقدر على مثل ذلك إلّا من تأيّد بقوّة ربانيّة، واقتدر بقدرة إلهيّة، ونفث في روعه الروّح الأمين، وتعلّم علوم الأولين والآخرين، وصار منبع العلم والحكمة، وينبوع الكمال والمعرفة، وهو أمير المؤمنين ويعسوب الدين، ووارث علم النبيين وبغية الطّالبين وحلّال مشكلات السائلين فلا ينصب نفسه في هذا المنصب إلا جاهل ولا يدعي لنفسه هذا المقام إلا تائه غافل.

وروي ان ابن الجوزي قال يوماً على منبره: سلوني قبل أن تفقدوني فسألته امرأة عمّا روي أن علّيّاً سار في ليلة إلى سلمان فجهزه ورجع فقال: رُويَ ذلك: قالت فعثمان بقي ثلاثة أيّام منبوذاً في المزابل وعليّ عليه السلام حاضر، قال: نعم، فقالت: فقد لزم الخطأ لأحدهما: فقال: إنْ كنتِ خرجت من بيتك بغير اذن زوجك فعليك لعنة الله وإلّا فعليه، فقالت: خرجت عائشة إلى حرب عليّ بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لا؟ فانقطع ولم يحرِ جواباً.

ص: 46

ورووا أيضاً أن قتادة دخل الكوفة فالتفت إليه الناس فقال: اسألوني عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضراً وهو إذ ذاك غلام حدث السن فقال: إسألوه عن نملة سليمان أكان ذكراً أم أنثى، فسألوه فأنقطع، فقال أبو حنيفة كانت انثى فقيل له بِمَ عرفت ذلك؟ قال من كتاب الله وهو قوله تعالى قالت نملة ولو كان ذكراً لقال: قال نملة وذلك لأن لفظ النملة يقع على الذكر والانثى كلفظ الحمامة والشاة وإنما يميز بينهما بعلامة التأنيث.

فأنظر إلى هذين المغرورين المعجبين كيف عيبا عن جواب أدنى مسألة فكيف بهما إذا سئلا عن حجب الأسرار، وسرادق الأنوار، والغيب المكنون، والسرّ المكتوم، وعجائب الملكوت، وبدائع الجبروت، فأشهد ان عريف ذلك والخبير بكل ذلك لم يكن إلّا أمير المؤمنين، ووصي رسول ربّ العالمين، وعنده علم الكتاب كله، وفيه خبر السّماء وخبر الأرض وخبر ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة كما قال عز من قائل:

(وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (1)

أي: في إمام مبين. وقد سئل عليه السلام في مقامات شتى عن مسائل مشكلة متفرقة فأجاب عنها بأجوبة شافية تاهت فيها العقول و دهشت بها القلوب حسبما نشير إلى بعضها بعد الفراغ عن شرح الفصل.

(فوالذي نفسي بيده) قسم، والمقصود ب «نفسي بيده»: هو الله سبحانه وتعالى مالك الملك، وهذا قسم بار (لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة) الجملة مقسم عليه، أي انه (علیه السلام) قسم بقسم عظيم انه عالم بما هم عليه وما هو كائن لهم من يومهم ذاك الى قيام الساعة إلا أنبأهم به ...9.

ص: 47


1- الانعام - 59.

فما رواه في البحار من بصائر الدرجات بأسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سئل عليّ عليه السلام عن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علم جميع النبييّن وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام السّاعة ثم قال عليه السلام: والذي نفسي بيده إنّي لأعلم علم النبي وعلم ما كان وعلم ما هو كائن فيما بيني وبين قيام السّاعة (ولا عن فئة تهدى مائة وتضل مائة) تخصيص هذا العدد بالبيان ليس لقصد الاختصاص وإنما هو جارٍ على سبيل المثل وإشارة إلى الكثرة إذ ما دون مائة حقير لا يعتدّ به قال الأعشى:

الواهبُ المائةِ الهجان وعبدِها *** عوذاً يُزجي خَلفُها أطفالُها

وقال أيضاً:

هو الواهبُ المائةِ المصطفاةِ *** إمّا مخاضاً وإمّا عشاراً

وقد كثر في الأخبار ذكر السبعين على سبيل المثل، وقيل في قوله سبحانه:

(إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ (1).

إنّ المقصود به نفي الغفران جملة وإنّما جاء السّبعون مجرى المثل للتكثير وكيف كان فمفهوم العدد ليس بحجة كما قُرر في الأصول والغرض أنّه لا تسألوني عن جماعة هادية لطائفة كثيرة ومضلّة لطائفة كثيرة اخرى (إلا أنبأتكم بناعقها) يقال: نعق بغنمه من باب ضرب، ومعناها: صاح بها لتعود اليه وزجرها، ونعق الغراب: صاح ... ومراده (علیه السلام) انني اعلم 0.

ص: 48


1- التوبة - 80.

الداعي اليها وزاجرها (وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها)

و (مناخ) الابل بضم الميم موضعٍ اناختها أي مبركها، وفي شرح المعتزلي يجوز جعله مصدراً كالمقام بالضّم بمعنى الإقامة و (الركاب) بالكسر المُطي أي الابل التي يسار عليها واحدها راحلة من غير لفظها والجمع الرّكب ككتب و (المحط) بفتح الميم قال الشارح المعتزلي: يجوز كونه مصدراً كالمرد في قوله تعالى: ﴿وإنّ مردّنا إلى الله) وكونه موضعاً كالمقتل (والرّحال) كأرحل جمع الرّحل وهو مركب للبعير ويقال له راحول أيضاً.

قال الشارح البحراني: استعار عليه السلام أوصاف الابل ورعاتها وأصحابها من الناعق والقائد والسائق والمناخ والرّكاب والرّحال للفئة المهدية والضالة ومن يهديم ويضلّهم ملاحظة لشبههم بالأبل في الاجتماع والانقياد لقائد وراع (ومن يقتل من أهلها) أي أهل الفئة المذكورة (قتلا ويموت منهم موتًا).

وهاتان الجملتان معطوفتان على قوله «بناعقها» ف «من» اسم موصول بمعنى الذي وهو مجرور بالباء المحذوفة ... ومراده (علیه السلام) اي: انني أنبأكم ايضاً بمن يقتل من أهل تلك الفئة بواسطة شخص آخر و أنبأكم بمن يموت ختف أنفسه ...

ثم نبه عليه السلام على أنّه أعظم نعمة أنعم الله سبحانه بوجوده عليهم وأن قدره مجهول عندهم وهم غافلون عن فوائد مقامه بين أظهرهم وأنهم سوف يعلمون إذا نزلت الدواهي وحلت بهم الرزايا فقال:

(ولو قد فقدتموني) وهي: إما جملة إستئنافية، أو جملة قسمية بحذف المقسم به بدلالة السياق ... و (لو) شرطية بمعنى «إنْ» مفيدة للتعليق في الاستقبال، إلا انه جيء بالشرط والجزاء بصيغة الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعهما لا محالة وهو من المحسنات البيانية ...

ص: 49

(ونزلت بكم كرائه الأمور) فكرائه جمع كريهة وهي مصيبة ... ومراده (علیه السلام) اذا فقدتموني حلّت بكم المصائب التي تكرهها النفوس (وحوازب الخطوب) الواو للعطف، والجملة معطوفة على ما قبلها اي ونزلت بكم حوازب الأمور و (الحوازب) جمع الحازب من «حزبه الأمر» اذا اشتد عليه أو ضغطه، و (الخطوب) جمع الخطب، وهو معظم الأمر، ومراده (علیه السلام): إذا نزلت بكم شدائد الاحوال (لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين). و (الإطراق) السّكوت والاقبال بالبصر إلى الصدّر و (فشل) فشلًا فهو فشل من باب تعب وهو الجبان الضّعيف القلب.

أرخوا أعينهم ينظرون إلى الأرض، وذلك لصعوبة الأمر وشدته حتی انه يبهته عن السؤال ويتحير كيف يسأل. وفشل كثير من المسؤولين أي جبنوا عن ردّ الجواب لجهلهم بعواقب تلك الخطوب وما يسألون عنه منها.

(إذا قلصت حربكم) بتخفيف اللام من باب ضرب أي: كثرت وتزايدت، وفي المصباح قلصت شفته انزوت وقلص الثوب انزوى بعد غسله، وفي بعض النسخ عن حربكم، وفي بعض النسخ بالتشديد أي: انضمّت واجتمعت.

وقوله (إذا قلت حربكم) أي: إطراق السائلين وفشل المسؤولين إذا تزايدت حربكم وكثرت أو انضمّت واجتمعت، وهو كناية عن شدّتها وصعوبتها، لأن الجيوش اذا اجتمعت كلها واصطدم الفيلقان كان الأمر أصعب وأشدّ من ان تتفرّق ويحارب كل كتيبة كتيبة اخرى في بلاد متباعدة، ومن روى قلصت عن حربكم فالمراد إذا انكشفت كرائه الأمور وحوازب الخطوب عن حربكم.

(وشمّرت عن ساق) أي شمّرت الحرب ورفعت السّاتر عن ساقها وهو كناية عن اشتدادها والتحامها على سبيل الاستعارة، والغرض

ص: 50

تشبيه الحرب بالمجد في أمر الساعي فيه، فإنّ الأنسان أذا جد في السّعي شمّر عن ساقه ودفع ثوبه لئلا يعوقه ويمنعه، وربما قيل بأنه جارٍ على الحقيقة، ومعنى السّاق الشدّة، أي كشفت عن شدة ومشقة وبه فسّر قوله سبحانه:

(يَومَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (1).

(وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً) بطروق الخطوب وابتلاء المصائب حال كونكم (تستطيلون ايام البلاء عليكم) وذلك لأنّ أيام البلاء تكون في نظر الانسان طويلة وأيام السعة والرّخاء قصيرة قال الشاعر:

فأيّام الهموم مقصّصات *** وأيام السّرور تطير طيراً

(حتى يفتح الله لبقيّة الأبرار منكم) يحتمل ان يكون المراد ببقية الأبرار أولادهم وإن لم يكونوا أبراراً في أنفسهم إن كان إشارة إلى ظهور دولة بني العباس، إلّا أن الأظهر ان المراد هو ظهور الدّولة الحقّة القائمية عجل الله له الفرج وأقر الله عيون مواليه بظهوره عليه السلام. (إن الفتن إذا أقبلت شبهّت) و (شبهت) بالبناء على المعلوم أي: جعلت انفسها شبيهة بالحق أو على المجهول أي اشكل أمرها والتبس على الناس.

(إن الفتن إذا أقبلت شبّهت) أي: جعلت نفسها، أي الأمور الباطنة شبيهة بالحق، أو اشكل امرها والتبس على الناس (وإذا أدبرت نبهت) أي: ايقظت القوم من نوم الجهالة وظهرت بطلانها عليهم، ألا ترى أن الناس كانوا في بدو فتنة الجمل والنهروان في حيرة واشتباه لا 2.

ص: 51


1- القلم - 42.

يدرون الحق في أي الجانبين، فلمّا انقضت الحرب ووضعت أوزارها ارتفع الاشتباه وتميّز الحق من الباطل وانتبه القوم من جهالتهم.

(وإذا أدبرت نبهت) الواو للعطف والجملة معطوفة على قوله «إن الفتن» ويقال: نبهته من النوم: إذا أيقظته ...

(يُنكرن مقبلات ويُعرفن مدبرات) بدل كل من جملة «إذا أقبلت شبهت، وإذا ادبرت نبهت» كما في قوله تعالى:

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) (1)

وأكد عليه السلام هذا المعنى بقوله (ينكرن مقبلات) أي: لا يعرف حالهنّ في حالة اقبالها (ويعرفن مدبرات) ثمّ وصفها بأنها (يحمن حوم الرّياح) أي: يطفن مثل طواف الرّياح (يصبن بلداً و يخطبن بلداً).

ويقال: حام الطائر حول الماء اذا دار وطاف لينزل عليه وجملة (يحمن) منصوب المحل على الحال (ويخطين) من الخطو وهو المشي ...

اي: ان الفتن يحومن كالرياح حول البلد فإذا كانت نفوس اهالي البلدة ضعيفة تستقبل الفتنة بسهولة وإما اذا كانت مؤمنة وتسمع لقائدها فإن الفتنة سوف تتخطى تلك البلدة ...

* * *

قد قلنا إن قوله عليه السلام: سلوني قبل ان تفقدوني كلام ما زال عليه السلام يقوله حتى انه عليه السلام كان يقوله بعد ما ضربه ابن ملجم لعنه الله وقبل وفاته بيوم، ونكتة ذلك ان اللّازم على امام الزّمان أن يبذل فيوضاته للمواد القابلة بقدر الامكان

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (2) .

ص: 52


1- الفرقان: 68 - 69.
2- الانفال - 42.

روى الصدوق في التّوحيد قال: حدثنا أحمد بن الحسن القطان وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان قال: حدّثنا محمد بن العبّاس قال: حدّثني محمد بن أبي السّري قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس عن سعد الكناني عن أصبغ بن نباتة قال: لما جلس علي عليه السلام على الخلافة وبايعه الناس خرج الى المسجد متعمماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابساً بردة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتعلاً نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متقلّداً سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصعد الى المنبر فجلس عليه متمكناً ثم شبّك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه.

ثم قال: يا معشر النّاس سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط (1) العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زقّاً زقّاً، سلوني فإن عندي علم الأوّلين والآخرين، أم والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لافتيت أهل التوراة بتوراتهم حتّى تنطق التّوراة فتقول: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ؛ وأفتيت أهل الأنجيل بأنجيلهم حتى ينطق الانجيل فيقول: صدق علىّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً فهل فيكم أحد يعلم ما أُنزل فيه، ولولا آية في كتاب الله لاخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية:

(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (2)

ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة 9.

ص: 53


1- السفط بالطاء ما يخبى فيه الطيب ونحوه (مصباح).
2- الرعد - 39.

لو سألتموني عن أيّة آيةٍ في ليلٍ نزلت أو في نهار نزلت، مكّيها ومدنيّها، سفريها، وحضريها، ناسخها، ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها، وتنزيلها، لأخبرتكم.

فقام إليه رجل يقال له: ذعلب وكان ذرب (1) اللّسان بليغاً في الخطب شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلته اليوم لكم في مسألتي إيّاه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟ قال: ويلك يا ذعلب لم اكن بالّذي أعبد رباً لم أره، قال: كيف رأيته صفه لنا، قال عليه السلام: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لا يُوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسّكون ولا بقيامٍ قيام انتصاب ولا بمجيء ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمحسّة، قائل لا بلفظ هو في الأشياء على غير ممازجة خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء فلا يقال شيء فوقه، وأمام كل شيء فلا يقال له أمام، داخل في الاشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج، فخرّ ذعلب مغشياً عليه ثمّ قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب والله لا عُدتُ الى مثلها.

ثمّ قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث اليهم نبي؟ قال عليه السلام: بلى يا أشعث قد انزل الله عليهم كتاباً وبعث اليهم رسولاً حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بأبنته إلى فراشه فأرتكبها فلما أصبح تسامع به قومه ة.

ص: 54


1- لسان ذريب أي فيه حدة.

فأجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنّست علينا ديننا وأهلكته فأخرج نطهّرك ونقيم عليك الحدّ، وقال لهم وقال لهم: اجتمعوا واسمعوا كلامي فإن يكن لي مخرج ممّا ارتكبت وإلّا فشأنكم، فأجتمعوا فقال لهم: هل علمتم ان الله لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم وأمّنا حوّاء؟ قالوا: صدقت أيها الملك، قال: أفليس قد زوّج بنيه بناته وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدّين فتعاقدوا على ذلك فمحا الله تعالى ما في صدورهم من العلم ورفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النّار بلا حساب، والمنافقون اشد حالا منهم قال الأشعث: والله ما سمعت بمثل هذا الجواب والله لا عدت إلى مثلها أبداً.

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني: فقامٍ رجل من أقصى المسجد متوكّئاً على عصاه فلم يزل يتخطى النّاس حتّى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين دلّني على عمل إذا أنا عملته نجاني الله من النّار.

قال له: اسمع يا هذا ثمّ افهم، ثمّ استيقن، قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين وبفقير صابر، فاذا كتم العالم علمه وبخل الغني بماله ولم يصبر الفقير فعندها الويل والثبور، وعندها يعرف العارفون أنّ الدّار قد رجعت إلى بدوها أي الكفر بعد الإيمان.

أيّها السائل فلا تغترن بكثرة المساجد وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم شتى إنما النّاس ثلاثة: زاهد، وراغب، وصابر، فأما الزاهد فلا يفرح بشيء من الدّنيا أتاه ولا يحزن منها على شيء فاته، فأما الصابر فيتمناها بقلبه فإن أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها، وأما الراغب فلا يبالي من حلّ أصابها أم من حرام، قال له: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزّمان؟ قال ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حق فيتولّاه وينظر إلى ما خالفه فيتبرّج منه وإن كان حميماً قريباً: قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ثمّ غاب الرّجل

ص: 55

فلم نره فطلبه الناس فلم يجدوه فتبسم عليّ عليه السلام على المنبر ثم قال: ما لكم هذا أخي الخضر عليه السلام.

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فلم يقم إليه أحد فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمّ قال عليه السلام للحسن: يا حسن قم فأصعد المنبر فتكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون إن الحسن بن عليّ لا يحسن شيئاً، قال الحسن عليه السلام: يا أبه كيف أصعد وأتكلّم وأنت في النّاس تسمع وترى؟ قال له: بأبي وأمي أواري نفسي عنك واسمع وأرى ولا تراني! فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلاة موجزة ثمّ قال: أيّها النّاس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا مدينة العلم وعليّ بابها وهل تدخل المدينة إلّا من بابها ثمّ نزل، فوثب إليه علي عليه السلام فحمله وضمّه إلى صدره.

ثمّ قال للحسين: يا بني قم فأصعد المنبر وتكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون إن الحسين بن عليّ لا يبصر شيئاً وليكن كلامك تبعاً لكلام أخيك، فصعد الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاة موجزة ثمّ قال: معاشر النّاس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: إن عليّاً هو مدينة هدى فمن دخلها نجى ومن تخلف عنها هلك، فوثب إليه عليّ عليه السلام فضمه إلى صدره وقبله.

ثمّ قال: معاشر النّاس اشهدوا أنهما فرخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووديعته التي استودعنيها وأنا استودعكموها، معاشر الناس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سائلكم عنهما.

ص: 56

فصل في اخباره (علیه السلام) عن الغيب

اعلم ان هذا الفصل من كلامه عليه السلام متضمّن للتنبيه على علمه بالاخبار الغيبية والوقائع الآتية وما يكون بعده إلى يوم القيامة.

قال الشارح المعتزلي في شرح هذا الفصل: إعلم أنّه قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده أنّهم لا يسألون عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلّا أخبرهم به وأنّه ما من طائفة الناس تهتدي بها مائة وتضل مائة إلّا وهو مخبر لهم إن سألوه برعاتها وقوادها وسواقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل منها قتلًا ومن يموت منها موتاً، وهذه الدعوى منه عليه السلام ليست ادعاء الربّوبية ولا إدعاء النبوة ولكنه كان يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك.

ولقد امتحنا اخباره فوجدناه موافقاً فأستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.

كاخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده، وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمر، وما اخبره من أمر الخوارج بالنهروان، وما قدّمه الى اصحابه من اخباره بقَتْل من يقتل منهم وصَلْب من يصلب وإخباره بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين، واخباره بعدد الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن عبد الله بن الزّبير وقوله عليه السلام فيه: خبّ ضبّ (1)

ص: 57


1- خب الرجل منع ما عنده ونزل المنهبط من الأرض ليجهل موضعه بخلا (ق) يقال فلان خب ضب أي خداع خبيث مراوغ وقيل خب ضب اذا كان فاسداً مفسداً مراً (منه).

يروم أمراً (1) ولا يدركه ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قریش.

وكاخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة اخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا بالرّيح، وكاخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر (2) والداعي وغيرهما في قوله عليه السلام: وإن لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالطالقان لكنزاً سيظهره الله إذا شاء دعاة حتى تقوم بأذن الله فتدعو إلى دين الله.

وكإخباره عن ظهور الرّايات السود من خراسان وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق بتقديم المهملة وهم آل مصعب منهم طاهر بن الحسين وإسحاق ابن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدّولة العباسيّة، وكإخباره عن مقتل النّفس الزّكية (3) بالمدينة وقوله عليه السلام: انه يقتل عند أحجار الزيت، وكقوله عن أخيه ابراهيم المقتول يقتل بعد ان يظهر ويقهر بعد ان يقهر، وقوله عليه السلام فيه أيضاً يأتيه سهم عزب (4) يكون فيه منيته فيابؤس للرامي شلّت یده ووهن عضده.

وكاخباره عن قتلى فخّ وقوله عليه السلام فيهم: هم خير أهل الأرض أو من خير أهل الأرض وكإخباره عن المملكة العلويّة (5) بالغرب وتصريحه بذكر كتائته (6) وهم الذين نصروا أبا عبد الله الدّاعي المعلّم، وكقوله يشير إلى عبيد .

ص: 58


1- أي الخلافة.
2- هو حسن بن علي الملقب بالناصر الكبير وناصر الحق وحسن بن زيد الملقب بالداعي الكبير ومحمد بن زيد الملقب بالداعي الصغير وكان ابتداء إمارتهم في طبرستان في سنة مائتين وخمسين.
3- هو محمد بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى ابن الحسن (علیه السلام) (منه).
4- أي لا يدري راميه.
5- هم ادريس بن عبد الله المحض وعشرة من ولده.
6- الكتائت في نسخة الشارح المعتزلي بالتائين والظاهر انه من الكتيت وهو كما في القاموس صوت في صدر الرجل كصوت البكر في شدة الغيظ والبخيل ويحتمل التحريف في النسخة ويكون الأصل كتائبه بدله وهي جمع الكتيبة (منه).

الله المهدي، وهو أوّلهم: ثمّ يظهر صاحب القيروان (1) الغض البض(2) ذو النسب المحض المنتجب من سلالة ذي البداء المسجى بالرّداءة، وكان عبيد الله المهدي مترفاً مشرباً رخص البدن تار الاطراف (3) وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمّد عليهما السلام لأن أباه أبا عبد الله جعفراً عليه السلام سجّاه برداه لمّا مات وادخل اليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة (4) في أمره.

وكاخباره عن بني بويه وقوله عليه السلام فيهم: ويخرج من ديلمان بنو الصياد، وكقوله فيهم: ثم يستشري أمرهم حتّى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء إشارة إليهم وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو وعياله بثمنه فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة (5) ونشر ذريتهم حتّى ضربت الأمثال بملكهم وكقوله عليه السلام فيهم: والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة، وهو إشارة إلى عز الدّولة بختيار بن معزّ الدولة أبي الحسين وكان معزّ الدّولة أقطع اليد قطعت يده في الحرب وكان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وشرب، قتله عضد الدّولة وابن عمه بقصر الجصّ على دجلة في الحرب وسلبه ملكه، فأمّا خلعهم للخلفاء فإن معزّ الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع وبهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدّولة خلع الطائع ورتّب عوضه القادر وكانت ملة ملكهم كما اخبر به عليه السلام.

وكاخباره لعبد الله بن العباس (رحمه الله) عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن عليّ بن عبد الله لمّا ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى عليّ عليه السلام فأخذه وتفل في ).

ص: 59


1- امراء مصر وقيروان من الاسماعيلية.
2- الطري: القوي.
3- التار: المسترخي.
4- أي: شبهة الامامة.
5- وهم عماد الدولة علي بن بويه، وركن الدولة حسن بن بويه، ومعز الدولة أحمد بن بويه وولدهم (منه).

فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الأَملاك وهكذا الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في الكامل وليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحه ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.

وكم له عليه السلام من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ممّا لو أردنا استقصاءها لكسرنا لها كراريس كثيرة وكتب السيّر تشتمل عليها مشروحة.

ص: 60

ذكر بعض مفاخره (علیه السلام)

الأولى: ما أشار اليه بقوله (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة) لأن أبويهما عبد الله وأبا طالب أخوين لأب وأم، دون غيرهما من بني عبد المطلب فهما أبنا عمّ مضافاً إلى علاقة المصاهرة وكونه عليه السلام زوج ابنته فاطمة سلام الله عليها.

والى هذه القرابة اشار في قوله سبحانه: (هو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً) (1).

روي في غاية المرام عن المالكي في الفصول المهمّة عن محمّد بن سيرين في هذه الآية أنّها نزلت في النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله وزوج ابنته فاطمة فكان نسباً وصهراً.

وفيه عن الشيخ في أماليه بسنده عن انس بن مالك قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بغلته فأنطلق الى جبل آل فلان وقال: يا أنس خذ البغلة وانطلق الى موضع كذا وكذا تجد عليّاً جالس يسبّح بالحصى فأقرأه مني السلام واحمله على البغلة وائت به اليَّ.

قال أنس: فذهبت فوجدت عليّاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيت به عليه، فلمّا أن نظر عليه السلام برسول الله قال: السلام عليك يا رسول الله، قال: وعليك السلام يا أبا الحسن اجلس، فإنّ هذا موضع قد جلس فيه سبعون نبيّاً مرسلاً ما جلس فيه احد من الأنبياء إلّا وأنا خير منه، وقد جلس كلّ نبي مع أخ له ما جلس فيه من الأخوة واحد إلا وأنت خير منه.

ص: 61


1- الفرقان - 54.

قال انس: فنظرت إلى سحابة قد أظلّتهما ودنت من رأسيهما، فمدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى السحابة فتناول عنقود عنب فجعله بينه وبين عليّ وقال: كل يا أخي.

قلت: يا رسول الله: صف كيف علىٌّ اخوك؟ قال: إنّ الله عزّ وجل خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام، واسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه إلى ان خلق آدم، فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة فأجراه في صلب آدم إلى ان قبضه الله، ثمّ نقله في صلب شيث فلم يزل ذلك الماء ينتقل من ظهر إلى ظهر حتّى صار في عبد المطّلب، ثمّ شقّه الله عزّ وجل نصفين نصف في أبي عبد الله بن عبد المطّلب ونصف في أبي طالب فأنا من نصف الماء وعليّ من النصف الآخر، فعليّ أخي في الدّنيا والآخرة، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربّك قديراً).

وفي كشف الغمة عن جابر بن عبد الله قال: سمعت علّياً ينشد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمع:

أنا أخو المصطفى لا شكَّ في نسبي *** معه رُبيتُ وسبطاه هما وُلْدي

جَدّي وجدّ رسول الله منفردٌ *** وفاطمةُ زوجتي لاقول ذي فندِ

فالحمدُ لله شكراً لا شريكَ له *** البرُ بالعبدِ والباقي بلا أمدِ

قال فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: صدقت يا عليّ

الثانية: ما أشار اليه بقوله (والمنزلة الخصيصة) أي الخاصة والمخصوصة بي وشرحها بقوله (وضعني في حجره) وربّاني (وأنا وليد) طفل صغير (يضمني الى صدره ويكنفني) أي يضمّني الى كنفه وحضنه (في فراشه ويمسّني جسده ويشمّني عرفه) أي ريحه الطّيب (وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه) وهذا كلّه إشارة الى شدّة تربيته صلى الله عليه وآله وسلم له وقيامه بأمره.

ص: 62

ويوضحه ما رواه الشارح المعتزلي عن الطّبري في تاريخه قال: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمّد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد قال:

كان من نعمة الله عزّ وجلّ على عليّ بن أبي طالب وما صنع الله له وأراد به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمة (1) شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبّاس وكان من أيسر بني هاشم: إنّ اخاك أبا طالب كثير العيال وقد ترى ما أصاب النّاس من هذه الأزمة فأنطلق بنا فنخفّف عنه من عياله آخذ من بنيه واحداً وتأخذ واحداً فنكفيهما عنه، فقال العبّاس: نعم، فأنطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتها لي عقيلاً فأصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً فضمّه اليه، وأخذ العبّاس جعفراً فضمّه اليه، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بعثه الله نبيّاً، فأتبعه عليّ عليه السلام فأقرّ به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه

و رواه كاشف الغمّة عن الخطيب الخوارزمي عن محمّد بن إسحاق نحوه.

وروى الشّارح المعتزلي عن الفضل بن عباس قال: سألت أبي عن وُلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذّكور أيّهم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشدّ حبّاً له فقال: علي بن أبي طالب، فقلت: سألت لك عن بنيه، فقال: إنّه كان أحبّ اليه من بنيه جميعاً وأرأف وما رأيناه زايله يوماً من الدّهر منذ كان طفلاً إلّا أن يكون في سفر لخديجة وما رأينا أباً أبر منه لعلي ولا أبناً أطوع لأب من عليّ له. .

ص: 63


1- وهي السنة المجدبة (منه).

قال الشّارح: وروى جبير بن مطعم قال: قال ابي مطعم بن عدي لنا ونحن صبيان بمكّة: ألا ترون حبّ هذا الغلام يعني علّياً لمحمّد واتباعه له دون أبيه واللات والعزّى لوددت أنّه ابني بفتيان بني نوفل جميعاً.

قال الشّارح: وروى الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: سمعت زيداً أبي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمضغ اللّحمة والتمرة حتّى تلين ويجعلهما في فم عليّ وهو صغير في حجره.

الثالثة: ما أشار اليه بقوله (وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل) أي لم يجد منّي كذباً وخطأ أبداً ولو مرّة واحدة، لوجود العصمة المانعة فيه، وفي زوجته والطيّبين من أولاده سلام الله عليهم أجمعين من الإقدام على الذّنوب صغيرها وكبيرها بأتفاق الامامية وحكم آية التَّطهير وغيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلا لا عمداً ولا نسياناً ولا خطأ.

روي في البحار من الخصال قال: قوله تعالى: ﴿لا ينال عهدي الظالمين) (1) عني به ان الإمامة لا تصلح لمن قد عبد صنماً أو وثناً أو أشرك بالله طرفة عين وإن اسلم بعد ذلك، والظلم وضع الشيءِ في غير موضعه وأعظم الظلم الشرّك قال الله عزّ وجلّ: (إنّ الشرك لظلم عظيم) (2) وكذلك لا تصلح لمن قد ارتكب من المحارم شيئاً صغيراً كان أو كبيراً وإن تاب منه بعد ذلك، وكذلك لا يقيم الحدّ من في جانبه حدّ.

فإذاً لا يكون الامام إلا معصوماً، ولا تعلم عصمته إلّا بنصّ الله عزّ وجلّ عليه على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ العصمة ليست في ظاهر الخلقة فتُرى كالسّواد والبياض وما أشبه ذلك وهي مغيبة لا تعرف إلّا بتعريف علام الغيوب.

ثمّ نبّه على منقبة عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون 3.

ص: 64


1- البقرة - 124.
2- لقمان - 13.

تمهيداً وتوطئة لمنقبته عليه السلام الرابعة فقال:

(ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره).

قال الشّارح المعتزلي: روي أنّ بعض أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام سأله عن قول الله عزّ وجلّ: (إلا من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً) (1) فقال عليه السلام يوكّل الله بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدون اليه تبليغهم الرسالة، ووكّل بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضّاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ويسدّه عن الشرّ ومساوىء الأخلاق، وهو الذي كان يناديه السّلام عليك يا محمّد يا رسول الله وهو شابّ لم يبلغ درجة الرّسالة بعد فيظن أن ذلك من الحجر والأرض فيتأمل فلا يرى شيئاً.

أقول: والظّاهر على ما يستفاد من الأخبار واشير إليه في غير واحدة من الآيات: إنّ المراد بهذا الملك هو روح القدس المخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الأطهار الأخيار.

فقد روی المحدّث العلامة المجلسي «ره» في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله: (ويسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي) (2) حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه و هو مع الأئمة، وفي خبر آخر هو من الملكوت.

وفيه منه في قوله تعالى: ﴿اولئك كتب في قلوبهم الايمان) (3) هم الأئمة: ﴿وأيدهم بروح منه) (3). قال: ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل وكان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأئمة عليهم السلام. 2.

ص: 65


1- الجن - 27.
2- الاسراء - 85.
3- المجادلة - 22.

وفيه من كتاب الاختصاص وبصائر الدرجات بسندهما عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك اوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) (1). قال: خلق من خلق الله أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدّده وهو مع الأئمة من بعده.

وفيه من البصائر عن البرقي عن أبي الجهم عن ابن اسباط قال: سأل أبا عبد الله عليه السلام رجلُ وأنا حاضر عن قول الله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) فقال: منذ أنزل الله ذلك الروّح على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لم يصعد إلى السماء وأنه لفينا.

وفيه من الاختصاص والبصائر عن ابن يزيد عن ابن ابي عمير عن هشام ابن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «يسألونك عن الروح قل الروّح من أمر ربي» قال: خلق اعظم من خلق جبرائيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الأئمة يوفقهم ويسدّدهم، وليس كلما طلب وجد.

والأخبار في هذا المعنى كثيرة ولا حاجة إلى الاكثار والاطالة، والمستفاد من الروّاية الأخيرة اختصاصه بالنبيّ والأئمة عليهم السلام وقوله عليه السلام فيها: وليس كلما طلب وجد معناه أنّ حصول تلك المرتبة الجليلة والمنقبة العظيمة لا يتيسر بالطلب بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الرابعة: ما أشار اليه بقوله (ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل) وهو لد الناقة (أثر أمه) وهو اشارة إلى فرط ملازمته له وعدم مفارقته إياه ليله ونهاره سفراً وحضراً في خلواته وجلواته.

ولمّا عرفت آنفاً أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مؤيداً مسدّداً بروح القدس من حين الطفولة إلى آخر عمره الشريف ملهما إلى الخيرات موفقاً 1.

ص: 66


1- الشورى - 51.

بتأييد الرّوح الى سلوك طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم.

تعرف من ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السلام إذا كان ملازماً له غير مفارق منه يكون تالياً له صلى الله عليه وآله وسلم في سلوك مسالك مكارم الخصال ومحامد الأفعال مقتبساً من انواره مقتفياً لآثاره كما أوضحه بقوله:

(يرفع لي في كلّ يوم علماً) وراية (من اخلاقه) الفاضلة (ويأمرني بالاقتداء به) والمتابعة له.

الخامسة: ما أشار اليه بقوله (ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء) ويعتزل عن الخلق ويتخلى للعبادة (فأراه ولا يراه) أحد (غيري).

قال الشارح المعتزلي: حديث مجاورته بحراء مشهور، وقد ورد في الكتب الصحاح انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجاور في حراء من كلّ سنة شهراً، وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين، فاذا قضى جواره من حراء كان أوّل ما يبدأ به اذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك ثمّ يرجع الى بيته حتى جاءت السنة التي اكرمه الله فيها بالرسالة، فجاور في حراء شهر رمضان ومعه أهله خديجة وعليّ ابن أبي طالب وخادم لهم، فجاءه جبرائيل بالرسالة قال صلى الله عليه وآله وسلم: جاءني وأنا نائم بنمط فيه كتاب فقال: إقرأ، قلت: ما أقرأ؟ فغشني حتّى ظننت أنّه الموت، ثمّ أرسلني فقال (إقرأ باسم ربّك الّذي خلق) (1) إلى قوله: (علّم الانسان ما لم يعلم) (2) فقرأته ثمّ انصرف عنّي، فنبّهت من نومي وكأنّما كتب في قلبي كتاب الحديث.

وفي كتاب حياة القلوب للمحدّث العلامة المجلسي عن عليّ بن ابراهيم وابن شهر آشوب والطبرسي والراوندي وغيرهم من المحدّثين والمفسّرين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل مبعثه يعتزل عن قومه ويجاور 5.

ص: 67


1- العلق - 1.
2- العلق - 5.

الحراء ويفرغ لعبادة ربّه سبحانه، وكان عزّ وجلّ يسدده ويهديه ويرشده بالروح القدس والرؤيا الصّادقة وأصوات الملائكة والالهامات الغيبية، فيدرج في مدارج المحبّة والمعرفة، ويعرج الى معارج القرب والزّلفي، وكان سبحانه يزيّنه بالفضل والعلم ومحامد الأخلاق ومحاسن الخصال ولا يراه أحد في أيّام مجاورته به وخلال تلك الأحوال غير أمير المؤمنين عليه السلام وخديجة.

السادسة: ما أشار إليه بقوله (ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما).

هذا الكلام صريح في سبقه على جميع من سواه من الرّجال بالاسلام ونظيره قوله: اللهم إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب لم يسبقني إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصّلاة.

وسيأتي تحقيق تقدّمه بالصّلاة والاسلام كما هو مذهب الامامية تفصيلاً وما روي في هذا الشأن نختار اثنين:

احداهما: عن كشف الغمّة عن عفيف الكندي قال: كنت إمرءاً تاجراً فقدمت الحج فأتيت العبّاس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التّجارة، وكان إمرءاً تاجراً فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلمّا رآها قد مالت قام يصلّي.

قال: ثمّ خرجت إمرأة من الخباء الذي خرج منه ذلك الرّجل فقامت خلفه فصلّت، ثمّ خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه فصلّى.

قال: فقلت للعباس: من هذا يا عبّاس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن أخي قال: فقلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة بنت خويلد قال: فقلت: من هذا الفتى؟ قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمه فقلت له: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلّي وهو يزعم أنّه نبيّ ولم يتبعه على أمره إلّا أمرأته وابن عمَّه هذا الفتى وهو يزعم أنّه سيفتح علیه کنوز کسری

ص: 68

وقيصر، وكان عفيف وهو ابن عمّ الأشعث بن قيس يقول بعد ذلك وهو أسلم وحسن أسلامه: لو كان رزقني الله الاسلام يومئذٍ فأكون ثانياً مع عليّ عليه السلام.

قال في كشف الغمة: وقد رواه بطوله احمد بن حنبل في مسنده، نقلته من الذي اختاره وجمعه عزّ الدّين المحدّث، وتمامه من الخصائص بعد قوله ثم استقبل الرّكن ورفع يديه فكبّر، وقام الغلام ورفع يديه وكبّر، ورفعت المرأة يديها فكبّرت وركع وركعا وسجد وسجدا وقنت وقنتا، فرأينا شيئاً لم نعرفه أو شيئاً حدث بمكةً فأنكرنا ذلك وأقبلنا على العبّاس فقلنا له يا أبا الفضل الحديث بتمامه.

والرواية الثانية من البحار من مناقب ابن شهر آشوب من كتاب محمد ابن اسحاق من شرح المعتزلي رواها عن الطّبري عن ابن حميد عن سلمة عن محمّد بن إسحاق، ورواها أيضاً في تاسع المختار من باب الكتب من كتاب السّيرة والمغازي لمحمدّ بن إسحاق قال الشارح المعتزلي: فإنّه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث والمؤرّخين، ومصنّفه شيخ النّاس كلهم وقال:

قال محمّد بن إسحاق: لم يسبق عليّاً عليه السلام إلى الايمان بالله ورسالة محمّد أحد من النّاس، اللهم إلّا أن تكون خديجة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يخرج ومعه عليّ عليه السلام مستخفياً من النّاس فيصليان الصّلاة في بعض شعاب مكة، فاذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء الله ان يمكثا لا ثالث لهما.

ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان فقال لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم يا ابن أخي ما هذا الذي تفعله؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم: أي عمّ هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أنبيائه أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم بعثني الله به رسولاً إلى العباد «الى ان قال» فزعموا أنّه قال: لعليَّ عليه السلام أي بنّيّ ما هذا الذي تصنع قال: يا أبتاه آمنت بالله ورسوله

ص: 69

وصدقته فيما جاء به وصليت اليه واتبعت قول نبيّه فزعموا أنّه قال له أما أنّه لا يدعوك أو لن يدعوك إلّا إلى خير فالزمه.

قال ابن إسحاق: ثمّ اسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أوّل من أسلم وصلّى معه صلى الله عليه وآله وسلم بعد عليّ بن أبي طالب، ثمّ أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثاً لهما، ثمّ أسلم عثمان بن عفّان وطلحة والزّبير وعبد الرّحمن وسعد بن أبي وقاص فصاروا ثمانية، فهم الثّمانية الذين سبقوا النّاس الى الاسلام بمكة.

السابعة: ما أشار اليه بقوله (أرى نور الوحي والرّسالة وأشمّ ريح النّبوة) قال الشارح البحراني وهذه أعلى مراتب الأولياء، واستعار لفظ لما. يشاهد بعين بصيرته من أسرار الوحي والرّسالة وعلوم التنزيل ودقائق التّأويل واشراقها على لوح نفسه القدسيّة، ووجه الاستعارة كون هذه العلوم والأسرار هادية في سبيل الله إليه من ظلمات الجهل كما يهدي النور من الطّرق المحسوسة، ورشح تلك الاستعارة بذكر الرؤية لأنّ النور خط البصر وكذلك استعار لفظ الرّيح لما أدركه من مقام النّبوة وأسرارها ورشح بذكر الشمّ لأن الرّيح خطّ القوّة الشامة، انتهى.

أقول: ولقائل أن يقول: لا مانع من ظهور نور محسوس عند نزول الوحي أو في سائر الأوقات أيضاً، وكذلك عرف طيب يدركه أمير المؤمنين عليه السلام بقوة حاستيه الباصرة والشّامة وإن لم يكن يحسّ به غيره ولا حاجة على ذلك إلى التّأويل الذي ذكره.

ويشهد بما ذكرته ما رواه في البحار من أمالي الشيخ عن المفيد عن عليّ بن محمّد البزّاز عن زكريا بن يحيى الكشحي عن أبي هاشم الجعفري قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: لنا أعين لا تشبه أعين النّاس، وفيها نور ليس للشّيطان لها نصيب.

وفي شرح المعتزلي روي عن جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام

ص: 70

قال: كان عليّ عليه السلام يرى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الرسالة الضوء ويسمع الصّوت، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنتَ شريكاً في النّبوة فإن لا تكن نبياً فإنك وصيّ نبيّ ووارثه بل أنت سيّد الأوصياء.

الثامنة: ما أشار اليه بقوله (ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله ما هذه الرّنة) والصّوت فقال هذا الشيطان قد آيس من عبادته) أي من أن يعبد له.

وهذه المنقبة له عليه السلام تدلّ على كمال قوّته السامعة أيضاً وسماعه ما لا يسمعه غيره.

وأما رنين هذا اللعين فقد روي عليّ بن إبراهيم القميّ عن أبيه عن الحسن بن عليّ بن فضال عن عليّ بن عقبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان ابليس رنّ رنيناً لما بعث الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرّسل وحين انزلت أم الكتاب.

وروى المحدّث العلامة المجلسي في كتاب حياة القلوب عن الصّدوق عن الصّادق عليه السلام أنّ ابليس رنّ أربع رنات: يوم لعن، ويوم أهبط الى الأرض، وحين بعث محمّد على حين فترة من الرسل، وحين نزلت أمّ الكتاب.

وفي شرح المعتزلي من مسند احمد بن حنبل عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة الليلة التي اسري به فيها وهو بالحجرة يصلي فلمّا قضى صلاته وقضيت صلاتي سمعت رنّة شديدة فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ قال: ألا تعلم هذه رنّة الشيطان علم انّي أسري في الليل الى السماء فآيس من أن يعبد في هذه الأرض.

التاسعة: ما أشار اليه بقوله (أنّك تسمع ما اسمع وترى ما أرى) ظاهر هذا الكلام يفيد أنّ الامام يسمع صوت الملك ويعانيه كالرّسول.

ص: 71

أمّا سماع الصوت فلا غبار عليه ويشهد به أخبار كثيرة.

وأمّا المعاينة فيدلّ عليه بعض الأخبار.

مثل ما في البحار من أمالي الشيخ بأسناده عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ منا لمن ينكت في قلبه وإنّ منا لمن يؤتي في منامه وإنّ منّا لمن الصّوت مثل صوت السلسلة في الطّشت وإنَّ منّا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرائيل وميكائيل وقال أبو عبد الله عليه السلام: منا من ينكت في قلبه، ومناً من يخاطب، وقال عليه السلام: إنّ منا لمن يعاين معاينة وإنّ منا لمن ينقر في قلبه كيت وكيت، وإنّ منّا لمن يسمع كوقع السّلسلة في الطشت، قال: قلت: والذي يعاينون ما هو؟ قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل.

ولكن الظاهر من الأخبار الكثيرة أنّ الأمام يسمع الصّوت ولا يعاين، ومن ذلك اضطّر المحدّث العلامة المجلسي (رحمه الله) بعد رواية هذه الرّواية إلى تأويلها بقوله: والمراد بالمعاينة معاينة روح القدس وهو ليس من الملائكة مع أنّه يحتمل ان يكون المعاينة في غير وقت المخاطبة، انتهى.

وتمام الكلام إن شاء الله في التّنبيه الثاني من التنبيهات الآتية، هذا.

ولما كان ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم انّك تسمع ما اسمع وترى ما أرى موهماً للمساواة بينه عليه السلام وبينه صلى الله عليه وآله وسلم استدرك ذلك بقوله (إلّا أنك لست بنبيّ) ونظير هذا الاستدراك قد وقع في كلام الصادق عليه السلام وهو:

ما رواه في البحار عن البصائر بسنده عن عليّ السائي قال: سألت الصادق عليه السلام عن مبلغ علمهم، فقال: مبلغ علمنا ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمفّسّر، وأمّا الغابر فمزبور، وأما الحادث فقدف في القلوب ونقر في الاسماع وهو أفضل علمنا ولا نبيّ بعد نبيّنا.

ص: 72

فإنّ النّكث والنفر لما كانا مظنة لأن يتوهمّ السائل فيهم النّبوة قال عليه السلام: ولا نبيّ بعد نبينا، ويتضح لك معنى هذا الحديث مما نورده في التنبيه الثاني إن شاء الله.

ثمّ إنّه لما نفى عنه النّبوة أثبت له الوزارة وهي عاشر المناقب فقال (ولكنّك لوزير وإنّك لعلى خير) بشّره بالوزارة ونبّه به على أنّه الصّالح لتدبير امور الرّسالة والمعاون له صلى الله عليه وآله وسلم في نظم امور الدين وتأسيس قواعد شرح المبين وأصلاح امور الاسلام والمسلمين، ثمّ شهد به أنّه على خير وأشار به على استقراره وثباته على ما هو خير الدّنيا والآخرة، وأنّه مجانب لما هو شرّ الدّنيا والآخرة.

وهذا معنى عام تضمن لكونه عليه السلام جامعاً لجميع الكمالات والمكارم الدّنيوية والأخرويّة والمحامد الصّوريّة والمعنويّة وكونه راسخاً فيها غير متزلزل ولا متكلف، هذا.

وأعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة الشريفة لمّا كان متضمنّاً لجلّ مسائل الرّسالة والأمامة حسبما عرفته أتيت في شرحه من الرّوايات الشّريفة والتحقيقات اللطيفة بما هو مقتضي مذهب الفرقة النّاجية الاماميّة، وأضربت عن روايات عامّة ضعيفة أوردها الشّارح المعتزلي في بيان عصمة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة.

والعجب من مبالغة الشّارح البحراني له في ايراد بعض هذه الأخبار مع أنّها مضافة الى أنّها خلاف أصول الاماميّة ممّا تشمئز عنها الطباع وتنفر عنها الاسماع كما هو غير خفيّ على من لاحظ الشر حين ينظر الدّقة والاعتبار.

ص: 73

ذكر انه أول من آمن وأسلم وأنه أسبق الناس الى الصلاة

وأما كونه عليه السلام أوّل من أناب وأجاب إلى الايمان والاسلام فهو المتّفق عليه بين الشّيعة والمشهور بين الجمهور لم يخالف في ذلك إلّا شرذمة منهم لا يعتد بخلافهم وستعرف تفصيل ذلك في التنبيه الآتي.

وامّا أنّه سبق النّاس بالصّلاة ولم يسبقه غيره فيدلّ على ذلك ما رواه في المجلّد التّاسع من البحار من كتاب المناقب للشّيخ الفقيه رشيد بن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني تغمده الله برحمته، قال ما هذا لفظه:

أبو عبد الله المرزباني وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما فيما نزل من القرآن في عليّ عليه السلام والنطنزي في الخصائص عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروی اصحابنا عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: ﴿واركعوا مع الرّاكعين) (1)، نزلت في رسول الله وعليّ بن أبي طالب وهما أوّل من صلّى وركع.

المرزباني عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا الى ربهم أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون) (2) نزلت في عليّ خاصّة وهو أول مؤمن وأوّل مصلٍّ بعد النبيّ.

تفسير السّدي عن قتادة عن عطاء عن ابن عبّاس في قوله تعالى: (إنّ ربّك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك) (3) فأوّل من صلّى مع رسول الله علي بن أبي طالب.

ص: 74


1- البقرة - 43.
2- هود - 23.
3- المزمل - 20.

تفسير القطان عن وكيع عن سفين عن السّدي عن أبي صالح عن ابن - عباس في قوله تعالى: (يا أيّها المدّثر) (1)، يعني محمّداً أدّثر بثيابه، (قم فأنذر) (1)، أي فصلّ وادع عليّ بن أبي طالب إلى الصّلاة معك، (وربّك فكبّر) (1) ممّا تقول عبدة الأوثان.

تفسير يعقوب بن سفين قال: حدثنا أبو بكر الحميدي عن سفين بن عيينة عن أبن أبي النجيح عن مجاهد عن ابن عباس في خبر يذكر فيه كيفية بعثة النبيّ ثمّ قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلّي مع خديجة إذ طلع عليه عليّ بن أبي طالب فقال له: ما هذا يا محمد، قال: هذا دين الله فآمن به وصدقه، ثمّ كانا يصلّيان ويركعان ويسجدان فأبصرهما أهل مكّة ففشا الخبر فيهم أنّ محمداً قد أنّ محمداً قد جنّ، فنزل: ﴿ن والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربّك بمجنون) (2).

شرف النبيّ عن الخركوشي قال: وجاء جبرائيل بأعلى مكّة وعلّمه الصّلاة فأنفجرت من الوادي عين حتى توضّأ جبرائيل بين يدي رسول الله وتعلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه الطّهارة ثمّ أمر به عليّاً عليه السلام.

تاريخي الطبري والبلاذري، وجامع الترّمذي، وأبانة العكبري وفردوس الديلمي، وأحاديث أبي بكر بن مالك، وفضائل الصّحابة، عن الزّعفراني عن يزيد بن هارون عن شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم، ومسند أحمد عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قالا: قال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوّل من صلى معي عليّ.

تاريخ النّسوي قال زيد بن أرقم: أوّل من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي. 1.

ص: 75


1- المدثر - 1 - 2 - 3.
2- القلم - 1.

جامع الترمذي ومسند أبي يعلي الموصلي عن أنس وتاريخ الطّبري عن جابر قالا: بعث النبيّ يوم الاثنين وصلى عليّ يوم الثلاثاء.

أبو يوسف النسّوي في المعرفة وأبو القسم عبد العزيز بن إسحاق في أخبار أبي رافع عن عشرين طريقاً عن أبي رافعٍ قال: صلى النّبي أوّل يوم الاثنين، وصلت خديجة آخر يوم الاثنين، وصلّى عليّ يوم الثلاثاء من الغد.

أحمد بن حنبل في مسند العشرة وفي الفضائل أيضاً، والنسّوي في المعرفة، والتّرمذي في الجامع، وابن بطّة في الابانة روى عليّ بن الجعد عن شعبة عن سلمة ابن كهيل عن حبّة العربي قال: سمعت عليّاً عليه السلام يقول: أنا أوّل من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ابن حنبل في مسند العشرة وفي فضائل الصحّابة أيضاً عن سلمة بن كهيل عن حبّة العربي في خبر طويل أنّه قال علّي عليه السلام: اللّهم لا أعرف أنّ عبدا من هذه الأمّة عَبَدَك قبلي غير نبيك ثلاث مرّات، الخبر.

وفي مسند أبي يعلي ما أعلم أحداً من هذه الأمّة بعد نبيّها عَبَدَ الله غيري، الخبر.

الحسين بن عليّ عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿تراهم ركعاً سجداً) (1) نزلت في عليّ بن أبي طالب.

وروى جماعة أنّه نزل فيه: (الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2).

تفسير القطّان قال ابن مسعود: قال عليّ عليه السلام: يا رسول الله ما أقول في السجود في الصّلاة؟ فنزل: (سبّح اسم ربّك الأعلى) (3) قال: 1.

ص: 76


1- الفتح - 29.
2- المائدة - 55.
3- الاعلى - 1.

فما أقول في الرّكوع فنزل: (فسبّح باسم ربّك العظيم) (1) فكان أوّل من قال ذلك وأنّه صلى قبل النّاس كلّهم سبع سنين واشهراً مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى مع المسلمين أربع عشرة سنة وبعد النّبي ثلاثين سنة.

ابن فيّاض في شرح الأخبار عن أبي أيّوب الأنصاري قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لقد صلّت الملائكة عليَّ وعلى عليَّ بن أبي طالب سبع سنين، وذلك أنّه لم يؤمن بي ذكر قبله، وذلك قول الله سبحانه:

(والملائكة يسبحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض) (2).

وفي رواية زياد بن المنذر عن محمّد بن عليّ عن أمير المؤمنين عليه السلام لقد مكثت الملائكة سنين لا تستغفر إلّا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولي وفينا نزلت: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا) (3) إلى قوله: الحكيم (4)

وروى جماعة عن أنس وأبي أيّوب، وروى شيرويه في الفردوس عن جابر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لقد صلّت الملائكة عليَّ وعلى عليّ بن أبي طالب سبع سنين قبل النّاس، وذلك أنّه كان يصلي ولا يصلي معنا غيرنا، وفي رواية لم يصلِ فيها غيري وغيره، وفي رواية لم يصلْ معي رجل غیره.

سنن ابن ماجة وتفسير الثعلبي عن عبد الله ابن أبي رافع عن أبيه أنّ علياً عليه السلام صلى مستخفياً مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبع سنين وأشهراً.

تاريخ الطبري وابن ماجة قال عباد بن عبد الله: سمعت علياً عليه السلام يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا 8.

ص: 77


1- الواقعة - 74.
2- الشورى - 5.
3- غافر - 7 - 8.
4- غافر - 8.

الصّدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفترٍ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع سنين.

مسنديْ أحمد وأبي يعلي قال حبة العرنيَ: قال عليّ عليه السلام صليت قبل أن يصلّي النّاس سبعاً.

قال الشاعر الحميري:

الم يصلِّ عليّ قبلَهُ حججاً *** ووحّدَ اللهُ ربُّ الشَّمسِ والقمرِ

وهؤلاءِ وَمَنْ في حزبِ دِينهم *** قومٌ صلاتُهُم للعودِ والحجرِ

وله:

وكَفاهُ بأَنَّهُ سَبَق النّاسَ *** بَفضَلِ الصَّلاةِ والتوحيدِ

حججاً قبلَهم كواملَ سبعاً *** بركوعٍ لديه أو بسجودِ

وله:

اليس علىٌّ كانَ أوّلَ مُؤْمنٍ *** وأوَّلَ من صلى غُلاماً وَوَحَّدا

فما زال في سرٍّ يروحُ ويَغْتدي *** فيرقى بثيراء أو بحراء مصعدا

يُصلّيِ ويدعو ربَّه فيهما مع *** المصطفى مثنى وإنْ كانَ أوحدا

سنينَ ثلاثاً بعد خمسٍ وأشهرٍ *** كواملَ سبعاً قبلَ أنْ يتمردا

وهو أوّل من صلى القبلتين صلى إلى بيت المقدس أربع عشرة سنة والمحراب الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ومعه عليّ وخديجة معروف، وهو على باب مولد النبي في شعب بني هاشم، وقد روينا عن الشيرازي ما رواه عن ابن عباس في قوله سبحانه: (والسابقون الأوّلون) (1)، نزلت في أمير المؤمنين سبق النّاس كلّهم بالايمان وصلّى القبلتين وبايع البيعتين.0.

ص: 78


1- التوبة - 100.

وقال الحميري:

وصلى القبلتين وآلْ تيمٍ *** واخوتها عَديّ جاحدونا

وصلى إلى الكعبة تسعاً وثلاثين سنة.

تاريخ الطّبري بثلاثة طرق، وابانة العكبري من أربعة طرق، وكتاب المبعث عن محمّد بن إسحاق، والتاريخ النّسوي، وكتاب الثعلبي، وكتاب المادري ومسند أبي يعلي الموصلي، ويحيى بن معين، وكتاب أبي عبد الله محمد بن زياد النيسابوري عن عبد الله بن احمد بن حنبل بأسانيدهم عن ابن مسعود، وعلقمة البجلي وإسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جدّه أنّ كلّ واحد منهم قال: رأى عفيف أخو الأشعث بن قيس الكندي شابّاً يصلي، ثمّ جاء غلام فقام عن يمينه، ثمّ جاءت إمرأة فقامت خلفهما، فقال للعبّاس: هذا أمر عظيم، قال: ويحك هذا محمّد، وهذا عليّ، وهذه خديجة إنّ أبن أخي هذا حدثني أنّ ربّه ربّ السّماوات والأرض أمر بهذا الدّين، والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

وفي كتاب النسّوي أنّه كان يقول بعد اسلامه: لو كنت أسلمتُ يومئذٍ كنت ثانياً مع علي بن أبي طالب.

وفي رواية محمّد بن اسحاق عن عفيف قال: فلمّا خرجت من مكة إذا أنا بشاب جميل على فرسٍ فقال يا عفيف ما رأيت في سفرك هذا؟ فقصصت عليه، فقال لقد صدقك العبّاس والله إن دينه لخير الأديان وإنّ أمّته أفضل الأمم، قلت: فلمن الأمر من بعده؟ قال: لابن عمّه وختنه على بنته، يا عفيف الويل كل الويل لمن يمنعه حقّه.

ابن فيّاض في شرح الأخبار عن ابن أبي الحجّاف عن رجل أنّ امير المؤمنين عليه السلام هجم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني أبا طالب ونحن ساجدان قال: أفعلتماها ثمّ أخذ بيدي فقال: انظر كيف تنصره وجعل يرغّبني في ذلك ويحضّني عليه الخبر.

ص: 79

وفي كتاب الشّيرازي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزل الوحي عليه أتى المسجد الحرام وقام يصلّي فيه، فاجتاز به عليّ عليه السلام وكان ابن تسع سنين فناداه يا عليّ اليَّ اقبل، فأقبل إليه ملبيّاً، قال: أتى رسول الله إليك خاصّة وإلى الخلق عامّة، فقال: يا علي فقف عن يميني وصلّ معي، فقال: يا رسول الله حتّى امضي وأستأذن أبا طالب والدي قال: اذهب فإنه سيأذن لك، فأنطلق يستأذن في اتباعه فقال: يا ولدي تعلم أنّ محمّداً والله أمين منذ كان، إمضِ واتبعه ترشد وتفلح وتشهد فأتى علىّ عليه السلام ورسول الله قائم يصلي في المسجد، فقام عن يمينه يصلّي معه، فاجتاز بهما أبو طالب وهما يصليان فقال: يا محمّد ما تصنع؟ قال: اعبد إله السّماوات والأرض ومعي عليّ يعبد ما اعبد؛ وأنا ادعوك الى عبادة الله الواحد القهار، فضحك أبوطالب حتى بدت نواجذه وانشأ يقول:

والله لن يصلوا اليك بجمعهم *** حتّى أغيّب في التراب دفيناً

تاريخ الطّبري، وكتاب محمّد بن إسحاق أنّ النبيّ كان اذا حضرت الصلّاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من قومه فيصليان صلّاة فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك زماناً.

ثمّ روى الثعلبي معهما أن أبا طالب رأى النّبيّ وعليّاً يصلّيان فسأل عن ذلك فأخبره النّبي أنّ هذا دين الله ودین ملائكته ودین رسله ودين أبينا إبراهيم في كلام له، فقال عليّ: يا أبه آمنت بالله ورسوله وصدقته بما جاء به وصليت معه الله فقال: له: أما إنّه لا يدعو إلّا إلى خير فألزمه.

ثمّ أنه عليه السلام لما نبه على أن طلبه للخلافة انما كان لله سبحانه وتعالى لا تنافساً في زخارف الدّنيا والتماساً لحطامها وعقبه بالاشارة الى سبقه في الاسلام والصلاة مع النبيّ المقتضي لتقدمه على غيره أردفه بالاشارة الى موانع الأمامة تنبيها على أنّه هو الامام دون غيره لوجود المقتضي وانتفاء الموانع فيه مع عدمه ووجودها في غيره فقال:

ص: 80

(وقد علمتم) وحصول ذلك العلم لهما إمّا من الكتاب كقوله تعالى: ﴿لا ينالي عهدي الظّالمين) (1)، وقوله: (أفمن يهدي إلى الحقّ أن يتّبع أمن لا يهدّي إلا أن يُهدي) (2) وقوله: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (3) وما يضاهي ذلك ممّا يستنبط منه شروط الولاية وأحكامها، وإمّا بنص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو باعلام سابق منه عليه السلام.

وعلى أيّ تقدير فالمقصود به الاشارة إلى استحقاقهم للتوبيخ والتقريع لكون تقصيرهم في حق الأمام عن علم منهم لا عن جهل فيعذرون ويعتذرون.

وقوله (انّه لا ينبغي) أي لا يجوز (ان يكون الوالي على الفروج والدّماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل) الشّحيح وهو في لسان الشرّع من يمنع الواجب (فتكون في اموالهم نهمته) أي حرصه وجشعه أو فرط شهوته (ولا الجاهل فيضلهم بجهله) إضلاله معلوم (ولا الجافي) سيء الخلق (فيقطعهم بجفائه) وانقباضه عن الوصول إليه أو عن حاجاتهم أو بعضهم عن بعض لتفرّقهم (ولا الحائف للدول) أي الجائر للأموال والظالم في تقسيمها بأن لا يقسّمها بالسّوية بل يرجح بعضهم على بعض (فيتخذ قوماً) ويخصّهم بالعطاء (دون قوم) وعلى رواية الخائف للدّول بالخاء المعجمة وكسر الدّال فالمراد به من يخاف دول الأيّام وتقلّبات الدّهور وغلبة الاعداء فيتّخذ قوماً يرجو نفعهم ونصرهم في دنياه، ويقويهم على غيرهم ويفضّلهم في العطاء وسائر وجهات الاكرام على الآخرين.

(ولا المرتشي في الحكم) أي أخذ الرّشوة وهو بالكسر ما يعطيه الشّخص الحاكم وغيره ليحكم أو يحمله على ما يريد، وفي الحديث لعن رسول 9.

ص: 81


1- البقرة - 124.
2- یونس - 35.
3- الزمر - 9.

الله صلى الله عليه وآله وسلم الرّاشي والمرتشي والرايش يعني المعطي للرّشوة والآخذ لها والسّاعي بينهما يزيد لهذا وينقص لهذا، والحاصل أنّه لا يجوز أن يكون آخذ الرّشوة حاكماً (فيذهب بالحقوق) أي حقوق النّاس ويبطلها ويخرجها من يد صاحبها (ويقف بها دون المقاطع) أي يقف عند مقطعٍ الحكم فلا يقطعه، بأن يحكم بالحق بل يحكم بالجور أو يسوف الحكم حتّى يضطر المحقّ ويرضي بالصّلح ويذهب بعض حقّه.

قال العلامة المجلسيّ (قد): ويحتمل ان يكون دون بمعنى غير أي يقف في غير مقطعه (ولا المعطل للسنّة) والطريقة الشّرعيّة (فيهلك الأمّة) في الدّنيا أو الآخرة أو كليهما.

قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا الكلام له عليه السلام في ابداء المناسبة والارتباط بين ما ذكره من سبقه عليه السلام إلى التّوحيد والمعرفة والصّلاة وما عقبّه به من تقرير قاعدة الامامة والتعرّض لموانعها وما محصلّة:

انّه عليه السلام إذا كان أوّل السّابقين وجب ان يكون أقرب المقرّبين، لأنه تعالى قال: (والسّابقون السابقون، أولئك المقرّبون) (1)، وإذا كان أقرب المقربين وجب أن ينتفي عنه الموانع الستّة التي جعل كلّ واحد منها صادراً عن الامامة وقاطعاً عن استحقاقها وهي البخل، والجهل، والجفاء، والعصبيّة في دولته، أي تقديم قوم على قوم، والارتشاء في الحكم والتعطيل للسّنة، وإذا انتفت عنه هذه الموانع الستّة تعينّ أن يكون هو الامام، لأنّ شروط الامامة موجودة فيه بالأتّفاق، فاذا كانت موانعها عنه منتفية ولم يحصل لغيره اجتماع الشّروط، وارتفاع الموانع وجب ان يكون هو الامام لأنّه لا يجوز خلو العصر من أمام سواء كانت هذه القضيّة عقليّة أو سمعيّة.

أقول: بعد هذا التحقيق هل بقي للشارح عذر في اعتقاده بأمامة الثّلاثة وخلافتهم وجعل عليه السلام رابعهم؟ والعجب كلّ العجب أنّه ينطق بالحقّ 1.

ص: 82


1- الواقعة - 10 - 11.

ولا يذعن به كمثل المنافقين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، ثمّ قال الشّارح:

فإن قلت: أفتراه عني بهذا قوماً بأعيانهم؟

قلت: الامامية تزعم أنّه رمز بالجفاء والعصبية لقوم دون قوم إلى عمر ورمز بالجهل إلى من كان قبله، ورمز بتعطيل السنّة إلى عثمان ومعاوية، وهذا هو اللائق بشرفه، وقول الامامية دعوى لا دليل عليها ولا يعدم كلّ أحد أن يستنبط من كلّ كلام ما يوافق غرضه وإن غمض، ولا يجوز ان تبنى العقائد على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة.

أقول: أمّا أنّ في كلامه رمزاً واشارة إلى من ذكر فهو ممّا لا غبار عليه، وأمّا أنّ فيه دلالة عليه فلم تدّعه الاماميّة حتّى يناقش فيه أو يعترض عليهم والاشارة غير الدلالة، وأمّا استبعاد ذلك بعدم لياقته بشرفه عليه السلام ومنافاته لسؤدده ففيه ان شرافته مقتضية للارشاد على الهدى والتّنبيه على ضلال قادة الردى وهفوة من أتّبعهم واذعن بخلافتهم من أهل العصبيّة والهوى، لأنّه من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر المناسب لشأن الامام ووظيفته.

لا خلاف بين المسلمين إلا شرذمة من العامة العثمانيّة في أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سبق النّاس كلّا إلى الاسلام والتّوحيد، كما صرّح به عليه السلام في هذا الكلام بقوله: «اللّهم إنّي أوّل من أناب وسمع و أجاب» وقوله: «فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الايمان والهجرة» ونحو ذلك في كلماته واحتجاجاته كثير، والاخبار في هذا المعنى من طرق العامّة والخاصّة بالغة حدّ التّواتر، واستقصاؤها غير ممكن ولا حاجة إلى إيرادها مع وضوح المطلب وظهوره ظهور الشّمس الضّحى.

وإنّما نورد على وجه التأييد وعلى رغم انوف المخالفين ما أورده شيخ المحدّثين العلامة المجلسي قدس الله روحه وشيخ الأمة الشيخ المفيد نور الله ضريحه، ومن المخالفين الشارح المعتزلي.

ص: 83

فأما العلامة المجلسي

فقد قال في المجلد التاسع من بحار الأنوار بعد ما أورد في هذا الباب كثيراً من الاخبار ما لفظه:

لا يخفى على من شمّ رائحة الانسانية وترقّى عن دركات البهيميّة والعصبية أنّ سبق إسلامه صلوات الله عليه مع ورود تلك الأخبار المتواترة من طرق الخاصّة والعامّة من أوضح الواضحات، والشاك فيه كالمنكر لأجلى البديهيات، وأنّ من تمسّك بأن أيمانه كان في طفوليّته، ولم يكن معتراً فقد نسب الجهل إلى سيّد المرسلين، حيث كلّفه ذلك ومدحه به في كلّ موطن وبه أظهر فضله على العالمين، وإلى اشرف الوصييّن حيث تمدّح وافتخر واحتج به في مجامع المسلمين وإلى الصّحابة والتّابعين حيث لم ينكروا عليه ذلك مع کون اكثرهم من المنافقين والمعاندين.

ثمّ أعلم إنّا قد تركنا كثيراً من الرّوايات وما يمكن ذكره من التأييدات في هذا المطلب حذراً من التكرار والاسهاب والاطالة والاطناب.

فقد روى ابن بطريق رحمه الله في كتاب العمدة في سبق اسلامه وصلاته من مسند احمد بن حنبل ثلاثة عشر حديثاً، ومن تفسير الثعلبي أربعة، ومن مناقب ابن المغازلي سبعة، وروى في المستدرك أيضاً اخباراً كثيرة في ذلك، ورواه صاحب الصراط المستقيم بأسانيد من طرقهم، والعلامة في كشف الحقّ وكشف اليقين وغيرهما بأسانيد من كتبهم، وقد تركنا إيرادها مع كثير ممّا أورده المفيد في الارشاد، والنيسابوري في روضة الواعظين، والطّبرسي في اعلام الورى، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة، وغيرها من الأصول والكتب التي عندنا، انتهى كلامه رفع مقامه.

وأما الشيخ المفيد قدس الله روحه:

فقد قال في محكّي كلامه من كتاب الفصول:

ص: 84

اجمعت الأمّة على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أول ذكر أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يختلف في ذلك أحد، من أهل العلم إلّا أنّ العثمانية طعنت في أيمان أمير المؤمنين عليه السلام بصغر سنَه في حال الاجابة، قالوا: إنّه عليه السلام لم يكُ في تلك الحال بالغاً فيقع ايمانه على وجه المعرفة، وإن ايمان أبي بكر حصل منه مع الكمال فكان على اليقين، والمعرفة والاقرار من جهة التقليد والتلقين غير مساوٍ للأقرار بالمعلوم المعروف بالدّلالة فلم يحصل خلاف من القوم في تقدّم الاقرار من أمير المؤمنين للجماعة والاجابة منه للرّسول عليه وآله السلام وانّما خالفوا فيما ذكرناه.

وأنا أبين غلطهم فيما ذهبوا إليه من توهين اقرار أمير المؤمنين وحملهم إيّاه على وجه التلقين دون المعرفة واليقين بعد أن أذكر خلافاً حدث بعد الاجماع من بعض المتكلّمين والناصبة من أصحاب الحديث، وذلك أنّ ههنا طائفة تنسب إلى العثمانيّة تزعم أنّ أبا بكر سبق أمير المؤمنين الى الاقرار وتعتل في ذلك بأحاديث مولّدة باضعاف.

منها أنّهم رووا عن أبي نضرة «نضيرة خ» قال: أبطأ عليّ والزّبير عن بيعة ابي بكر قال. فلقي أبو بكر علياً فقال له: ابطأت عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك ولقي الزبير فقال له: أبطأت عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك.

ومنها حديث أبي أمامة عن عمرو بن عنبسة قال: اتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوّل ما بعث وهو بمكة وهو حينئذٍ مستخفّ فقلت: من أنت؟ فقال: أنا نبيّ، قلت: وما النبيّ؟ قال: رسول الله، قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم، قلت: بما أرسلك؟ قال: بأن نعبد الله عزّ وجلّ ونكسر الاصنام ونوصل الارحام، قلت: نِعَم ما أرسلك به من تبعك على هذا الأمر؟ قال: حرّ وعبد يعني أبا بكر وبلالًا وكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا رابع الاسلام، قال:

ص: 85

فأسلمت وقلت: ابايعك يا رسول الله.

ومنها حديث الشّعبي قال: سألت ابن عبّاس عن أوّل من أسلم فقال: أبو بكر ثمّ قال: أما سمعت قول حسّان:

إذا تذكّرتُ شجواً من أخي ثِقَةٍ *** فأذكر أخاكَ أبا بكرٍ بما فعلا

خيرُ البريّةِ أعطاها وأعدَلها *** بعد النّبيّ وأرقاها بما حملا

الثّاني التّالي المحمودُ مشهده *** وأوّلُ النّاس منهم صَدَّق الرُّسلا

ومنها حديث رووه عن منصور عن مجاهد أنّ أوّل من أظهر الاسلام سبعة رسول الله وابو بكر وخباب وصُهّيب وبلال وعمار وسميّة.

ومنها حديث رووه عن عمر بن مرّة قال: ذكرت لإبراهيم النخعي حديثاً فأنكره وقال أبو بكر أوّل من اسلم.

قال الشيخ قدس الله روحه فيقال لهم:

أما الحديث الأول فإنّه رواه أبو نضرة وهذا أبو نضرة مشهور بعداوة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد ضمنه ما ينقض اضلالهم في الامامة، ولو ثبت لكان أرجح من تقدّم اسلام أبي بكر وهو أنّ أمير المؤمنين والزّبير أبطأ عن بيعة أبي بكر، وإذا ثبت أنّهما أبطأ عن بيعته وتأخّرا نقض ذلك قولهم أنّ الأمّة اجتمعت عليه ولم يكن من امير المؤمنين عليه السلام كراهيّة لأمره، وإذا ثبت أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد كان متأخّراً عن بيعته على وجه الكراهة لها بدلالة ما رووه من قول أبي بكر له أبطأت عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك على وجه الحجّة عليه في كونه اولى بالأمامة منه، ثبت بطلان امامة أبي بكر، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز ان يكره الحق ولا أن يتأخر عن الهدى، وقد اجمعت الأمّة على انه عليه السلام لم يوقع خطأ بعد الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم يعثر عليه طول مدة أبي بكر وعمر وعثمان، وإنّما

ص: 86

أدّعت الخوارج الخطأ منه في آخر أيّامه بالتحكيم وذهبت عن وجه الحقّ في ذلك وإذا لم يجز من أمير المؤمنين التّأخر عن الهدى والكراهة للحق والجهل بموضع الأفضل، بطل هذا الحديث، وما زلنا نجتهد في اثبات الخلاف لأمره والنّاصبة تحيد عن قبول ذلك وتدفعه أشدّ دفع حتى صاروا يسلمونه طوعاً واختياراً، وينظمونه في احتجاجهم بفضل صاحبهم، وهكذا يفعل الله تعالى بأهل الباطل لحينهم، ويسلبهم التوفيق حتّى يدخلوا فيما يكرهون من حيث لا يشعرون.

على أنّ بازاءِ هذا الحديث عن أبي بكر حديثاً ينقضه من طريق أوضح من طريق أبي نضرة، وهو ما رواه عليّ بن مسلم الطوسي عن زافر بن سليمان عن الصلت بن بهرام عن الشّعبي قال: مرّ عليّ بن أبي طالب ومعه أصحابه على أبي بكر فسلّم ومضى، فقال أبو بكر: من سرّه أن ينظر إلى أوّل النّاس في الاسلام سبقاً، وأقرب النّاس من نبيّنا رحماً، وأعظمهم دلالة عليه وأفضلهم فداء عنه بنفسه فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب.

وهذا يبطل ما ادّعوه على ابي بكر وأضافه أبو نضرة إليه.

وأما حديث عمرو بن عنبسة فإنّه من طريق أبي امامة ولا خلاف أن أبا امامة كان من المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السلام والمتحرين عنه، وأنّه كان في جيش معاوية ثمّ فيه عن عمرو بأنه شهد لنفسه أنّه كان رابع الاسلام، وشهادة المرء لنفسه غير مقبولة إلّا أن يكون معصوماً أو يدّل دليل على صدقه، وإذا لم يثبت شهادته لنفسه بطل الحديث بأسره.

مع أنّ الرّواية قد اختلفت عن عمرو من طريق أبي أمامة، فروي عنه في حديث آخر أنّه قال: أتيت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بماء يقال له عکاظ، فقلت له: يا رسول الله من تابعك على هذا الأمر: فقال: من بين حرّ وعبد، فأقيمت الصّلاة فصلّيت خلفه أنا وأبو بكر

ص: 87

وبلال، وأنا يومئذٍ رابع الاسلام.

فاختلف اللفظ والمعنى في هذين الحديثين والواسطة واحد فتارة يذكر مكة وت ...ة يذكر عكاظاً، وتارة يذكر أنّه وجده مستخفياً بمكّة، وتارة يذكر أنّه كان ظاهراً يقيم الصّلاة ويصلي بالنّاس معه، والحديث واحد من طريق واحد، وهذا أدّل دليل على فساده.

وأما حديث الشعبي فقد قابله الحديث عنه من طريق الصّلت بن بهرام المتضمّن لضدّه وفي ذلك اسقاطه، مع أنّه قد عزاه الى إبن عبّاس والمشهور عن ابن عبّاس ضد ذلك وخلافه، ألا ترى إلى ما رواه أبو صالح عن عكرمة عن ابن عبّاس وهذان أصدق على ابن عبّاس من الشعبي لأنّ أبا صالح معروف بعكرمة وعكرمة معروف بابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلت الملائكة عليَّ وعلى عليّ بن أبي طالب سبع سنين، قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: لم يكن من الرّجال غيره ومن طريق عمرو بن میمون عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوّل من أسلم بعد خديجة بنت خويلد عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه.

وأما قول حسان فإنّه ليس بحجّة من قبل أن حسّان كان شاعراً وقصّد الدّولة والسّلطان، وقد كان منه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انحراف شديد عن أمير المؤمنين، وكان عثمانياً وحرض النّاس على عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وكان يدعو إلى نصرة معاوية وذلك مشهور عنه في نظمه، ألا ترى إلى قوله:

يا ليت شعري وليتَ الطَّيِّرَ يُخبرُني *** ما كانَ بينَ علىٌّ وابن عَفَّاناً

ضجوا بأشمط عنوانِ السّجودِ بهِ *** يقطعُ اللّيل تسبيحاً وفرقاناً

لتسمعنّ وَشَيكاً في ديارهم *** الله أكبر یا ثاراتِ عُثمانا

فإن جعلت النّاصبة شعر حسّان حجّة في تقديم ايمان أبي بكر

ص: 88

فلتجعله حجّة في قتل أمير المؤمنين عليه السلام والقطع على أنّه أخصّ النّاس بقتله، وإنّ ثاراته يجب ان يطلب منه، فإن قالوا: إنّ حسّان غلط في ذلك قلنا لهم وكذلك غلط في قوله في أبي بكر، وان قالوا لا يجوز غلطه في باب أبي بكر لأنّه شهد به بحضرة الصّحابة فلم يردوا عليه، قيل لهم ليس عدم إظهارهم الرد عليه دليلاً على رضاهم به لأنّ الجمهور كانوا شيعة أبي بكر وكان المخالفون له في تقيّة من الجهر بالتنكير عليه في ذلك مخافة الفرقة والفتنة.

مع أنّ قول حسان يحتمل ان يكون أبو بكر من المتقدمين في الاسلام والاولين دون ان يكون أوّل الأولين، ولسنا ندفع أن أبا بكر ممّن يعدّ في المظهرين للاسلام أوّ لا، وإنّما ننكر ان يكون أوّل الأولين فلمّا احتمل قول حسّان ما وصفناه لم ينكر المسلمون عليه ذلك.

مع أنّ حسّان قد حرض على أمير المؤمنين ظاهراً ودعا إلى مطالبته بثارات عثمان جهراً فلم ينكر عليه في الحال، فيجب ان يكون مصيباً في ذلك، فإن قالوا: هذا شيء قاله في مكان دون مكان فلما ظهر عنه أنكره جماعة من الصّحابة، قيل لهم: فإن قنعتم بذلك، واقترحتم في الدّعوى فاقنعوا منّا بمثله فيما اعتقدتموه في شعره في أبي بكر، وهذا ما لا فضل فيه على أنّ حسان بن ثابت قد شهد في شعره بأمامة أمير المؤمنين عليه السلام نصّاً وذكر ذلك بحضرة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم خيراً في قوله:

يُنَادیهُمُ يومَ الغَديرِ نَبيّهُمُ *** بخمٍّ وأسمعْ بالرسولِ مُنادياً

وشهد أيضاً لأمير المؤمنين عليه السلام بسبق قريش إلى الإيمان حيث يقول:

جزى الله خيراً أو الجزاءُ بكفِّهِ *** أبا حسن عنّا وَمَنْ كأبي حسن!

سَبقتَ قُريشاً بالذي أنتَ أهلُهُ *** فصدرُكُ مشروحٌ وقلبكُ مُمتحن

ص: 89

فشهد بتقديم إيمان أمير المؤمنين عليه السلام الجماعة وهذا مقابل لما تقدّم ومسقط له فإن زعموا أن هذا محتمل فكذلك ما ذكرتموه عنه أيضاً محتمل.

وأما روايتهم عن مجاهد فإنّها مقصورة على مذهبه ورأيه ومقاله، وبازاء مجاهد عالم من التّابعين ينكرون عليه ويذهبون إلى خلافه في ذلك وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام أول النّاس أيماناً، وهذا القدر كافٍ في ابطال قول مجاهد، على أن الثابت عن مجاهد خلاف ما ادعاه هؤلاء القوم وأضافوه اليه، وضده ونقيضه روى ذلك منهم من لا يتهم عليه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد واثره عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السبّاق اربعة: يوشع بن نون إلى موسى بن عمران. وصاحب يس إلى عيسى بن مريم، وسبق علي بن أبي طالب عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسي النّاقل عن سفيان الآخر، وقد ذكرت في حديث غير هذا أنّه مؤمن آل فرعون وهذا يسقط تعلّقهم بما ادعوه من مجاهد.

وأما حديث عمرو بن مرة عن إبراهيم فهو أيضاً نظير قول مجاهد، وإنما اخبر عمرو عن مذهب إبراهيم، والغلط جائز على إبراهيم ومن فوقه، وبازاء إبراهيم من هو فوقه واجلً قدراً منه يدفع قوله ويكذّبه في دعواه كأبي جعفر وابي عبد الله الصّادق عليهما السلام ومن غير أهل البيت قتادة والحسن وغيرهما مما لا يحصى كثرة وفي هذا غنى عن غيره.

قال الشيخ قدس الله روحه فهذه جملة ما اعتمد القوم فيما ادعوه من خلافنا في تقديم إيمان أمير المؤمنين عليه السلام وتعلّقوا به، وقد بيّنت عوارها واوضحت حالها، وأنا أذكر طرفاً من أسماء من روى أنّ أمير المؤمنين كان اسبق الخلق إلى رسول الله وأوّل من الذكور اجابة له وايمانا به.

ص: 90

فمن ذلك الرّواية عن أمير المؤمنين عليه السلام نفسه من طريق سلمة بن كهيل عن حبّة العربي قال: سمعت علياً يقول: اللهم لا أعرف عبداً لك عَبَدك من هذه الأمّة قبلي غير نبيّها عليه وآله السّلام، قال ذلك ثلاث مرّات، ثمّ قال: لقد صلّيت قبل أن يصلّي أحد سبعاً.

ومن طريق المنهال عن عباية الأسدي عن امير المؤمنين عليه السلام قال: لقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين.

ومن طريق جابر عن عبد الله بن يحيى الحضرمي عن عليّ عليه السلام قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنين ولم يصلِّ أحد غيري.

ومن طريق نوح بن قيس الطّاخي عن سليمان أبي فاطمة عن معاذة العدوية قال: سمعت علياً يخطب على منبر البصرة فسمعته يقول: أنا الصّديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم.

ومن طريق عمرو بن مرّة عن أبي البختري عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: صلّيت قبل النّاس سبع سنين.

ومن طريق نوح بن دراج عن خالد الخفاف قال: أدركت النّاس وهم يقولون: وقع بين عليّ وعثمان كلام فقال عثمان والله أبو بكر وعمر خير منك فقال عليّ عليه السلام كذبت والله لأنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدت الله بعدهما.

فأما الرواية: عن آل أبي طالب في ذلك فإنّها أكثر من أن، تحصى وقد اجمع بنو هاشم وخاصّة آل عليّ لا تنازع بينهم على أنّ أوّل من أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الذّكور عليّ بن أبي طالب ونحن أغنياء بشهرة ذلك عن ذكر طرقه ووجوهه.

ص: 91

فأما الأشعار التي تؤثر عن الصحابة في الشهادة له عليه السلام بتقديم الايمان وأنّه أسبق الخلق إليه فقد وردت عن جماعة منهم وظهرت عنهم على وجه يوجب العلم ويزيل الارتياب ولم يختلف فيها من أهل العلم بالنقل والارتياب اثنان.

فمن ذلك قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين رحمة الله عليه: (1)

إذا نحنُ بايعنَا عَلَيّاً فحسبُنَا *** أبو حسنٍ مما يُخافُ الفِتَنِ

وجَدَناهُ أولى النّاس بالنّاس أنّه *** أطبّ قريش بالكتاب وبالسُننِ

وإنَّ قريشاً لا يُشَقُّ غبارَهُ *** إذا ما جرى يوماً على الضُمَّر البدنِ

ففيه الذي فيه من الخير كلِّهِ *** وما فيهمْ مثلُ الذي فيه من حُسْنِ

وَصيُّ رسول الله من دونِ أَهلِهِ *** وفارسُهُ قد كانَ في سالفِ الزَمنِ

وأوّل مَنْ صلّى من النّاسِ كلِهِم *** سوى خيرة النسوان والله ذو منِنِ

وصاحب كبش القوم في كلِ وقعةٍ *** يكونُ لها نفسُ الشَّجَاعِ لدى الذقنِ

فَذاكَ الذي تثني الخناصرُ باسمِهِ *** إمامهُمُ حتّى أغيَبُ في الكَفَنِ

ومنه قول كعب بن زهير:

صهرُ النّبيّ وخيرُ الناس كلّهم *** فكلُّ مَنْ رامَهُ بالفَخْرِ مفخورُ

صَلى الصّلاة مع الأميّ أولهُمُ *** قبلَ العِبادِ وربّ النّاسِ مَكَفورُ ».

ص: 92


1- هو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن غيان الانصاري الأوسي. وأمه: كبشة بنت آوس من بني ساعدة. يكنى: أبا عمارة. وهو ذو الشهادتين، جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) شهادته بشهادة رجلين. وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلها مع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو وعمير بن عدي كسر أصنام بني خطمة، وكانت رايتهم بيده يوم الفتح. وشهد مع الامام علي (علیه السلام) الجمل وصفين ولم يقاتل فيهما، فلما قتل عمار بن ياسر بصفين، قال خذيمة: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «تقتل عمار الفئة الباغية» ثم قاتل حتى قتل سنة سبعٍ وثلاثين. قال رسول الله فيه: «من شهد له خزيمة أو عليه فحسبه».

ومنه قول ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب حيث يقول عند بيعة أبي بكر: ما كنتُ أحسبُ أَنَّ الأمرَ مُنتقلٌ *** عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حَسنِ

اليَسَ أَولُ مَنْ صَلَّى لقبلتِكمْ *** وأَعلمُ النّاس بالآثارِ والسُنّنِ

وأخرُ النّاس عهداً بالنّبي ومَنْ *** جبريل عونٌ له في الغُسْل والكفنِ

مَنْ فيه ما فيهمْ لا يمترُونَ بِهِ *** وليسَ في القومِ ما فيه من الحُسْنِ

ما ذا الذي ردّكُم عنه فنعلمُهُ *** ها إن بيعتَكُمْ من أوّلِ الفِتَنِ

وفي هذا الشّعر قطع من قائله على إبطال امامة أبي بكر واثبات الامامة لأمير المؤمنين عليه السلام.

ومنه قول فضل بن عتبة بن أبي لهب فيما رد به على الوليد بن عقبة في مديحه لعثمان ومرثيته له وتحريضه على أمير المؤمنين (علیه السلام) في قصيدته التي يقول في أولها:

أَلَا إِنَّ خيرَ النّاسِ بعدَ ثلاثةٍ *** قتيلُ التجوبي الذي جَاءَ من مُضرِ

فقال الفضل رحمة الله عليه:

أَلَا إِنَّ خيرَ النّاسِ بعدَ محمدٍ *** مهيمنُهُ التاليه في العُرْفِ والنُّكَرِ

وخيرتُهُ في خيبرَ ورسولُهُ *** بنبذِ عهود الشّركِ فوق أبي بكرِ

وأوّلُ من صلى وصنوُ نبيّهِ *** وأوّلُ من أردى الغواةَ لدى بدرِ

فذاك علىُّ الخيرِ مَنْ ذا يفوقُهُ *** أبو حسنٍ حِلْفُ القرابةِ والصِهْرِ

وفي هذا الشعر دليل على تقدّم أيمان امير المؤمنين عليه السلام وعلى أنّه كان الامير في سنة تسعٍ على الجماعة وكان في جملة رعيّته ابو بكر على خلاف ما ادّعته النّاصبة من قولهم إنّ أبا بكر كان الأمير على الجماعة وانّ امير المؤمنين كان تابعا له.

ص: 93

ومنه قول مالك بن عبادة الغافقي حليف حمزة بن عبد المطلب رحمة الله عليه:

رأيتُ عليّاً لا يُلَبُثُ قِرْنُهُ *** إذا ما دعاهُ حاسراً أو مسربلا

فهذا وفي الاسلامِ أوّلْ مسلمٍ *** وأوّلُ مَنْ صلّى وصامَ وهللا

ومنه قول عبد الله بن ابي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

وكان وليُّ الأمرِ بعد محمّدٍ *** عليٌّ وفي كلِّ المواطن صاحبُهْ

وصيُّ رسولِ الله حقاً وجارُهُ *** واوّل مَنْ صلّى ومَنْ لانَ جانبُهْ

وفي هذا الشعر أيضاً دليل على اعتقاد هذا الرجل في أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل.

ومنه قول النجاشي بن الحارث بن كعب:

فقُلْ للمضلّلِ من وائلِ *** ومَنْ جَعَلَ الغِثَ يوماً سميناً

جعلتَ ابنَ هندٍ وأشياعَهُ *** نظيرَ علىّ أما تَستحونا

إلى أوّلِ الناسِ بعدَ الرّسولِ *** أجابَ الرّسول من العالمينا

ومنه قول جرير بن عبد الله البجلي:

فصلّى الألهُ على أحمدَ *** رسولِ المليكِ تمامِ النِعَمِ

وصلّى على الطُّهرِ من بعدِهِ *** خليفتنا القائمِ المدّعمِ

عليّاً عنيتُ وصيَّ النّبيّ *** يجالدُ عنهَ غواةَ الأمَمِ

له الفضلُ والسَبقُ والمكرمات *** وبيتُ النبوّةِ لا المُهتَضَمِ

وفي هذا الشّعر ايضاً تصريح من قائله بأمامة امير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه كان الخليفة على من تقدّم.

ص: 94

ومنه قول عبد الله بن حكيم التميمي:

ودعانا الزبيرُ إلى بيعةٍ *** وطلحةُ بعد ما أثقلا

فقُلْنا صفقَنَا بأيمانِنَا *** وإِنْ شئْتُما فخذا الأشملا

نكَثتُمْ عليّاً على بيعتِهِ *** وإسلامُهُ فَيْكُمْ أَوّلا

ومنه قول عبد الله بن جبل حليف بني جمح:

لَعمري لَئِنْ بايعتُمُ ذا حفيظةٍ *** على الدّين معروفَ العِفافِ مُوفْقا

عفيفاً عن الفحشاءِ أبيضَ ماجدٍ *** صدوقاً وللجَبّار قدْماً مُصدِّقا

أبا حسنٍ فأَرضوا بهِ وتبايعوا *** فليسَ كَمَنْ فيه لذي العَيبِ منطقا

علي وصيّ المصطفى ووزيره *** وأوّلُ مَنْ صلّى لذي العرش واتقى

ومنه قول ابي الاسود الدؤلي:

وإنَّ عليّاً لكم مفخرٌ *** يُشَبّهُ بالأسدِ الأسودِ

أما إنّه سيّدُ العابدينَ *** بمكّةَ والله لم يُعُبِدَ

ومنه قول زفر بن زيد بن حذيفة الاسدي:

فَحوطُوا علياً واحفظوه فإنَّهُ *** وصيٌّ وفي الإسلامِ أوّلُ أَوّلِ

ومنه قول قيس بن سعد بن عبادة بصفين:

هذا علىٌ وابنُ عمِّ المصطفى *** أوّلُ من أَجابَهُ مِمَنْ دَعَا

هذا إمامُ لا نبالي من غوى

ومنه قول هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بصفين:

اشلَّهم بذي الكعوبِ شلا *** مع أبنِ عمّ أحمدَ تجلا

أوّلُ من صدَّقَهُ وصلّى

ص: 95

قال الشيخ قدس الله روحه: وأمّا قولُ النّاصبة إِنَّ إيمانَ أمير المؤمنين صلوات الله عليه لم يقع على وجه المعرفة وإنّما كان على وجه التقليد والتلقين وما كان بهذه المنزلة لم يستحق صاحبه المدحة ولم يجب به الثّواب. وأدعاؤهم أنّ امير المؤمنين صلوات الله عليه كان في تلك الحال ابن سبع سنين ومن كان هذه سنّه لم يكن كامل العقل ولا مكلف. فإنه يقال لهم: إنكم قد جهلتم في ادّعائكم إنّه كان وقت مبعث النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن سبع سنين وقلتم قولاً لا برهان عليه يخالف المشهور ويضادّ المعروف، و وذلك أنّ جمهور الروّايات جاءت بأنّه عليه السلام قبض وله خمس وستّون سنة وجاء في بعضها إنّ سنه كانت عند وفاته ثلاثاً وستين فأمّا ما سوى هاتين الرّوايتين فشاذ مطروح وقد يعرف في صحيح النّقل ولا يقبله أحد من أهل الرّواية والعقل.

وقد علمنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وعشرين سنة منها ثلاث عشرة قبل الهجرة، وعشر بعدها، وعاش بعده ثلاثين سنة، وكانت وفاته في أربعين من الهجرة، فإذا حكمنا في سنّه على خمس وستّين كما تواترت به الأخبار كانت سنّه عند مبعث النّبي صلى الله عليه وآله وسلم اثنتي عشرة سنة، وإن حكمنا على ثلاث وستين كانت سنّه عند المبعث عشر سنين، وكيف يخرج من هذا الحساب أن يكون سُنّه عند المبعث سبع سنين.

اللهمّ إلّا أن يقول قائل إن سنّه كانت عند وفاته ستّين سنة فيصح ذلك له إلّا أنه يكون دافعاً للمتواتر من الأخبار، منكراً للمشهور من الآثار، معتمدا على الشّاذ من الروايات، ومن صار إلى ذلك كان الأولى في مناظرته البيان له على وجه الكلام في الأخبار، والتّوقيف على طرق الفاسد من الصّحيح فيها دون المجازفة في المقالة، وكيف يمكن عاقلاً سمع الأخبار أو نظر في شيء من الآثار أن يدعي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام توفّيّ وله ستّون سنة مع قوله عليه السلام الشائع عنه الذائع في

ص: 96

الخاص والعام عندما بلغه من ارجاف أعدائه في التدبير والرّأي:

بلغني أنّ قوماً يقولون إنّ علي بن أبي طالب شجاع لكن لا بصيرة له بالحرب لله أبوهم وهل فيهم أحد أبصر بها منّي لقد قمت فيها وما بلغت العشرين وها أنذا قد ذرفت على الستّين ولكن لا رأي لَمَنْ لا يُطاع.

فخبر عليه السلام بأنّه نيف على الستّين في وقت عاش بعده دهراً طويلاً، وذلك في أيّام صفين وهكذا يكذب قول من زعم أنه صلوات الله عليه توفي وله ستّون سنة مع أنّ الرّوايات قد جاءت مستفيضة ظاهرة بأنّ سنّه كانت عند وفاته بضعاً وستين سنة وفي مجيئها بذلك على الانتشار دليل على بطلان مقال من أنكر ذلك.

فمن ذلك ما ذكره عليّ بن عمرو بن أبي سيرة عن عبد الله بن محمّد بن عقيل قال: سمعت محمّد بن الحنفية يقول في سنة الجحاف حين دخلت سنة إحدى وثمانين هذه لي خمسٌ وستّون سنة وقد جاوزت من أبي قلت: وكم كان سنّه يوم قتل؟ قال: ثلاثاً وستين سنة.

ومنهم أبو القاسم نعيم قال: حدثنا شريك عن أبي إسحاق قال توفّي عليّ صلوات الله عليه وهو ابن ثلاث وستين سنة.

ومنهم يحيى بن أبي كثير عن سلمة قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: وقد سئل عن سنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه يوم قبض قال: قد كان نيف على الستّين.

ومنهم ابن عائشة من طريق أحمد بن زكريّا قال: سمعته يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ ابن عشر سنين وقتل عليّ وله ثلاث وستون سنة

ومنهم الوليد بن هاشم الفخذي «الفحدمي خ» من طريق أبي عبد الله الكواسجي «شحى خ» قال: أخبرنا الوليد بأسانيد مختلفة أنّ عليّاً

ص: 97

صلوات الله عليه قتل بالكوفة يوم الجمعة لتسعة عشر ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين وهو ابن خمس وستّين سنة.

فأما من روى أنّ سنه كانت عند البعثة أكثر من عشر سنين فغير واحد.

منهم عبد الله بن مسعود من طريق عثمان بن المغيرة عن وهب عنه قال: إنّ أوّل شيء علمته من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّى قدمت مكّة فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطّلب فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم فبينا نحن جلوس إذ أقبل رجل من باب الصّفا عليه ثوبان ابيضان على يمينه غلام مراهق أو محتلم تتبعه امرأة قد سترت محاسنها حتّى قصدوا الحجر، فأستلمه والغلام والمرأة ثمّ طاف بالبيت سبعاً والغلام والمرأة يطوفان معه، ثمّ استقبل الكعبة فقام فرفع يديه وكبّر فقام الغلام عن يمينه وكبّر وقامت المرأة خلفهما فرفعت يديها فكبّرت؛ فأطال القنوت ثم ركع فركع الغلام والمرأة معه، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثمّ سجد ويصنعان ما صنع فلمّا رأينا شيئاً ننكره ولا نعرفه بمكّة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل إنَّ هذا الدّين ما كنّا نعرفه، قال: أجل والله ما تعرفون هذا، قلنا: ما تعرفه قال: هذا ابن أخي محمّد بن عبد الله، وهذا علىّ بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد، والله ما على وجه الأرض أحد يعبد الله بهذا الدّين إلا هؤلاء الثلاثة.

وروى قتادة عن الحسن وغيره قال: كان أوّل من آمن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أبن خمسة عشرة سنة أو ستة عشر سنة.

وروی شدّاد بن أوس قال: سألت خباب بن الأرتّ عن اسلام عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: أسلم وهو ابن خمسة عشر سنة، ولقد رأيته يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو مستحكم البلوغ.

ص: 98

وروى علي بن زيد عن ابي نضرة قال: اسلم عليّ وهو ابن اربعة عشر سنة، وكان له يومئذٍ ذؤ ابة يختلف إلى الكتاف.

وروی عبد الله بن زياد عن محمّد بن عليّ، قال: أوّل من آمن بالله عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن احدى عشر سنة.

وروى الحسن بن زيد قال: أوّل من أسلم عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن خمسة عشرة، وقد قال عبد الله بن الحارث بن أبي سفيان بن عبد المطلب.

وصلى عليٌّ مخلصاً بصلاتِهِ *** لخمسٍ وعشرٍ من سنيه كواملِ

وخلّى أناساً بعده يتبعونَهُ *** له عملٌ أفضلُ به صنع حاملِ

وروى سلمة بن كهيل عن أبيه عن حبة بن جوين العرني قال: أسلم عليّ صلوات الله عليه وآله وكان له ذؤ ابه يختلف إلى الاكتاف.

على أنّا لو سلمنا الخصومنا ما أدّعوه من أنه كان له عند المبعث سبع سنين لم يدل ذلك على صحّة ما ذهبوا إليه من أنّ ايمانه كان على وجه التلّقين دون المعرفة واليقين، وذلك ان صغر السنّ لا ينافي كمال العقل وليس دليل وجوب التكليف بلوغ الحلم فيراعى ذلك هذا باتّفاق أهل النّظر والعقول، وإنّما يُراعى بلوغ الحلم في الأحكام الشّرعية دون العقلية، فقد قال سبحانه في قصة يحيى: ﴿ وآتيناه الحكم صبيّاً) (1) وقال في قصةَ عيسى: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً، قال اني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبّياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصّلوة والزّكاة ما دمت حيّاً) (2) فلم ينفِ صغر سنّ هذين النبييّن عليهما السلام كمال عقلهما أو الحكمة التي أتاهما الله سبحانه، ولو كانت العقول تحيل ذلك لأحالته في كل أحد وعلى كلّ حال.

وقد أجمع أهل التفسير إلّا من شذ عنهم في قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ 9.

ص: 99


1- مريم - 12.
2- مريم - 29.

دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (1) إنّه كان طفلاً صغيراً في المهد أَنطقه الله عزّ وجلّ حتّى برّأ يوسف من الفحشاء وأزال عنه التهمة.

والنّاصبة إذا سمعت هذا الاحتجاج قالت: إنّ هذا الذي ذكرتموه فيمن عددتموه كان معجزاً لخرق العادة ودلالة لنبيّ من انبياء الله، فلو كان أمير المؤمنين مشاركاً لمن وصفتموه في خرق العادة لكان معجزاً له أو للنبيّ وليس يجوز أن يكون معجزاً له ولو كان معجزاً للنّبيّ لجعله في معجزاته واحتج به في جملة بيناته و لجعله المسلمون في آياته، فلمّا لم يجعله رسول الله لنفسه علماً ولا عدّه المسلمون في معجزاته علمنا أنّه لم يجرِ فيه الأمر على ما ذكرتموه.

فيقال لهم: ليس كل ما خرق الله به العادة وجب ان يكون علماً ولا لزم أن يكون معجزاً ولا شاع علمه في العام ولا عرف من جهة الأضطرار، وإنّما المعجز العلم هو خرق العادة عند دعوة داعٍ أوبراءة معروف تجري براءته مجرى التّصديق له في مقالة، بل هي تصديق في المعنى وأن لم يكُن تصديقاً بنفس اللّفظ والقول، وكلام عيسى إنّما كان معجزاً لتصديقه له في قوله: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً) (2). مع كونه خرقاً للعادة وشاهداً لبراءة أمّه من الفاحشة ولصدقها فيما أدعته من الطهارة. وكانت حكمة يحيى في حال صغره تصديقاً له في دعوته في الحال ولدعوة أبيه زكريّا فصارت مع كونها خرق العادة دليلاً ومعجزاً، وكلام الطفلٌ في براءة يوسف إنّما كان معجزاً الخرق العادة بشهادته ليوسف عليه السلام للصّدق في براءة ساحته ويوسف نبيّ مرسل فثبت أنّ الأمر ما ذكرنا ولم يكن كمال عقل أمير المؤمنين شاهداً في شيء ممّن أدّعاه ولا استشهد هو عليه السلام به فيكون مع كونه خرقاً للعادة معجزاً ولو استشهد به أو شهد على حدّ ما شهد الطفل ليوسف وكلام عيسى له ولأمّه بأن يذكر ذلك في المعجزات لكن لا وجه له على ما بيّناه.

على أنّ كمال عقل أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن ظاهراً للحواس، ولا معلوماً بالاضطرار فيجري مجرى كلام المسيح، وحكمة يحيى، وكلام شاهد 0.

ص: 100


1- يوسف - 26.
2- مريم - 30.

يوسف، فيمكن الاعتماد عليه في المعجزات، وإنما كان طريق العلم مقال الرّسول والاستدلال الشّاق بالنظر الثاقب والسّر لحاله عليه السلام وعلى مرور الاوقات بسماع كلامه والتأمل لاستدلالاته والنظر فيما تؤدّي الى معرفته وفطنته ثمّ لا يحصل ذلك إلّا للخواص من النّاس ومن عرف وجوه الاستناباطات وماجرى هذا المجرى فارق حكمه حكم ما سلف للأنبياء من المعجزات وما كان لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الاعلام إذا تلك بظواهرها فقدح في القلوب أسباب اليقين وتشرك الجميع في الحال الظاهرة منها المنبئة عن خرق العادات دون أن تكون مقصورة على ما ذكرناه من البحث الطويل والاستقرار للأحوال على مرور الأوقات أو الرّجوع فيه إلى نفس قول الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحتاج في العلم به إلى النّظر في معجز غيره والاعتماد على ما سواه من البّينات فلا ينكر أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنّما عدل عن ذكر ذلك واحتجاجه به في جملة آياته لما وصفناه

ص: 101

مؤاخاة النبي له ... ومبيته على فراشه ...

إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما آخى بين الصحابة وقرن كلّ شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة رأى عليّاً عليه السلام متكدراً (متفكراً خ ل) فسأله عن سبب ذلك فقال: انك آخيت بين الصحابة وجعلتني متفرداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا ترضى أن تكون اخي ووصييّ وخليفتي من بعدي؟ فقال: بلى يا رسول الله، فواخاه من دون الصحابة فيكون افضل منهم.

روى عمرو بن القئاد عن محمد بن فضيل عن أشعث بن سوار قال: سبّ عدي بن أرطاة عليّاً عليه السلام على المنبر فبكى الحسن البصري وقال لقد سبّ هذا اليوم رجل انه لأخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدّنيا والآخرة.

وروى عبد السلم بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما زوج فاطمة دخل النساء عليها فقلن يا بنت رسول الله خطبك فلان وفلان فردّهم عنك وزوّجك فقيراً لا مال له، فلما دخل عليها أبوها صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك في وجهها فسألها فذكرت له ذلك، فقال: يا فاطمة إنّ الله امرني فأنكحتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً، وما زوّجتك إلا بأمر من السماء أما علمت أنّه أخي في الدّنيا والآخرة؟

المنقبة العظمى للامام (علیه السلام)

لا يخفى على ذي دراية أن مبيته عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث وهب نفسه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة لا يقاس اليها بذل المال ونعم ما قيل:

جَادُوا بأنفسِهِمْ في حبّ سيّدهِمِ *** والجُودُ بالنفس أقصى غَايةِ الجودِ

ص: 102

و لله درّ قائله:

مبيتُ عليٍّ بالفراشِ فضيلةٌ *** كبدرٍ لهُ كُلّ الكواكبِ تَخْضَعُ

ومَنْ أعرض عن ذلك واعترض فيه فهو مكابر نفسه، وليلة المبيت متواتر لا يريبه عاقل وبذل علىٍّ عليه السلام نفسه دون نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الليلة مسلم عند الكلّ وبلغ مبلغ الضرورة.

وللمغفلين في بذل ابي بكر طائفة من ماله ومصاحبته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعسفات استدلوا على ذلك من آية الغار واستنبطوا منها صوراً مشوّهات واستمسكوا بتلك العرى الواهية على تفضيل من قال: اقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم، على من كلّت فيه ألسن العالمين.

وآية الغار عندهم من أشهر الدلائل على فضل أبي بكر بستّة أوجه:

الأوّل: ان الله تعالى جعله ثاني رسوله بقوله «ثاني اثنين»، الثاني: وصف اجتماعهم في مكان واحد بقوله «اذ هما في الغار» الثالث: جعله مصاحباً له صلى الله عليه وآله وسلم بقوله «لصاحبه» الرابع: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له رحمة ومحبة بقوله «لا تحزن» الخامس: ان الله كان لهما في التصرف والاعانة على نسبة واحدة بقوله «انّ الله معنا» السادس: نزول السكينة عليه بأرجاع الضمير اليه دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وللإمامية رضوان الله عليهم في ردّ هذه الوجوه الستّة عليهم بل استدلالهم على نقيض ما ذهبوا اليه مباحث رأينا الأعراض عنها ههنا اجدر، ولكن نكتفي بذكر بعض ما أورده الشارح المعتزلي في المقام في ضمن بعض الخطب ناقلا عن الجاحظ ما تشمئز منها النفوس وتأبى عنها الفطرة السليمة وعن شيخه أبي جعفر في جوابها ما لا يخلو عن الانصاف والاعتدال ونذكر بعض ما خطر ببالي في المقام والله وليّ التوفيق والهادي إلى خير السبيل.

قال الشارح المعتزلي: قال الجاحظ: فإن احتج محتج لعليّ عليه السلام بالمبيت على الفراش فبين الغار والفراش فرق واضح، لأن الغار وصحبة ابي بكر

ص: 103

للنّبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نطق به القرآن فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما ممّا نطق به الكتاب وأمر عليّ عليه السلام ونومه على الفراش وإن كان ثابتاً صحيحاً إلّا أنه لم يذكر في القرآن وإنّما جاء مجيء الروايات والسير وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله.

ثمّ قال: قال شيخنا أبو جعفر: هذا فرق غير مؤثر لأنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش فلا فرق بينه وبين ما ذكر في نص الكتاب ولا يجحده إلّا مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة، أرأيت كون الصلوات خمساً وكون زكاة الذهب ربع العشروكون خروج الريح ناقضاً للطهارة وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما نصّ في الكتاب عليه من الأحكام؟ هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل.

على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب وانما قال: (إذ يقول لصاحبه) وإنما علمنا أنه ابو بكر بالخبر وما ورد في السيرة وقد قال أهل التفسير أن قوله تعالى كناية عن عليّ عليه السلام لأنه مكر بهم: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (1) انزلت في ليلة الهجرة ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش ومكر الله تعالى هو منام عليّ عليه السلام على الفراش فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كنايةً لا تصريحاً، وقد روى المفسّرون كلّهم أن قول الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) (2) انزلت في عليّ عليه السلام ليلة المبيت على الفراش فهذه مثل قوله تعالى: ﴿ إذ يقول لصاحبه) لا فرق بينهما.

وقال: وقال الجاحظ: وفرق آخر وهو أنّه لو كان مبيت عليّ عليه السلام على الفراش جاء مجيء كون ابي بكر في الغار لم يكن له في ذلك كبير طاعة لأن الناقلين نقلوا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: نم فلن يخلص إليك شيء تكرهه. ولم ينقل ناقل أنّه قال لأبي بكر في صحبته إيّاه وكونه معه في الغار مثل ذلك ولا قال له أنفق وأعتق فإنك لن تفتقر ولن يصل إليك مكروه. 7.

ص: 104


1- الأنفال - 30.
2- البقرة - 207.

ثمّ قال: وقال شيخنا أبو جعفر: هذا هو الكذب الصراح والتحريف والادخال في الرّواية ما ليس منها والمعروف المنقول أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: اذهب فأضطجع في مضجعي وتغشَ ببردي الحضرمي فإن القوم سيفقدونني ولا يشهدون مضجعي فلعلّهم اذا رأوك يسكنّهم ذلك حتى يصبحوا فاذا أصبحت فاغدُ في أداء أمانتي. ولم ينقل ما ذكره الجاحظ وإنما ولّده أبو بكر الأصمّ وأخذه الجاحظ ولا أصل له.

ولو كان هذه صحيحاً لم يصل إليه منهم مكروه وقد وقع الاتفاق على أنّه ضرب ورمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور، وأنهم قالواله: رأينا تضورك فإنا كنا نرمي محمّداً ولا يتضور، ولأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل فهب أنه أمِنَ القتل كيف يأمن من الضرب والهوان ومن أن ينقطع بعض أعضائه وبأن سلمت نفسه أليس الله تعالى قال لنبيّه: (بلّغ ما انزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس) (1) ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشجّ وجهه وادميت ساقه وذلك لأنها عصمة من القتل خاصّة، وكذلك المكروه الذي آمَنَّ عليّ عليه السلام منه إن كان صحّ ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل.

ثمّ يقال له: وأبو بكر لا فضيلة له أيضاً في كونه في الغار لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له «لا تحزن إنّ الله معنا» ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كلّ سوء فكيف قلت ولم ينقل ناقل انه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك، فكل ما يجب به عن هذا فهو جوابنا عمّا أورده فنقول له: هذا ينقلب عليك في النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله تعالى وعده بظهور دينه وعاقبة أمره فيجب على قولك أن لا يكون مثاباً عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه و لا ما يصيبه من الاذى إذا كان قد أيقن بالسلامة والفتح في عدته.

وقال: قال الجاحظ: ومن جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر، لأنّه جحد نصّ الكتاب ثمّ أنظر إلى قوله تعالى: (ان الله معنا) من الفضيلة لأبي بكر لأنه شريك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كون 7.

ص: 105


1- المائدة - 67.

الله تعالى معه، وأنزل السكينة قال كثير من النّاس أنّه في الآية مخصوص بأبي بكر لأنّه كان محتاجاً إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان غير محتاج إليها لأنّه يعلم أنّه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه وهذه فضيلة ثالثة لأبي بكر.

ثمّ قال: قال شيخنا أبو جعفر: ان أبا عثمان يجرّ على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة ولقد كان في غنىً عن التعلق بما تعلق به لأنّ الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعناً وعيباً على أبي بكر أولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له لأنه لما قال له: «لا تحزن» دل على أنه كان قد حزن وقنط وأشفق على نفسه وليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين ولا يجوز أن يكون حزنه طاعة، لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة فلو لم يكن ذنباً لم ينه عنه.

وقوله: «ان الله معنا» أي ان الله عالم بحالنا وما نضمره من اليقين أو الشكّ كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرّن سوءاً ولا تنوينّ قبيحاً فإن الله يعلم ما نسرّه وما نعلنه، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) (1) أي هو عالم بهم.

وأمّا السكينة فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها قوله «وأيّده بجنود لم تروها» اترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وقوله: إنّه مستغنٍ عنها ليس بصحيح ولا يستغنى احد عن ألطاف الله وتوفيقه وتأييده وتثبيت قلبه وقد قال الله تعالى في قصة حنين: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ وليّتم مدبرين * ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله) (2).

وأمّا الصحبة فلا تدلّ إلّا على المرافقة والاصطحاب لا غير. وقد يكون حيث لا ايمان كما قال تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك) (3).7.

ص: 106


1- المجادلة - 7.
2- التوبة - 25 - 26.
3- الكهف - 37.

أقول: أن القول بجواز رجوع الضمير في عليه (فأنزل الله سكينته عليه) إلى أبي بكر بعيد جّداً. بل ليس بصحيح قطعاً، لأن الضمائر قبله وبعده كلّها راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا خلاف فيه فكيف يتخلل تلك الضمائر ضمير عائد إلى غيره في البين وهل هذا إلا الخروج عن اسلوب الفصاحة والبلاغة؟ فذلك القول تهافت بتّاً، ولا يجنح إليه إلّا من ليس بعارف في أساليب الكلام أو يحرفه لتحصيل المرام وإن أفضى إلى الطعن في النّبوة والاسلام، ونسأل الله نور الايمان والعرفان، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نُور.

ص: 107

ترجمة السيد الشريف الرضى (رحمه الله)

نسبه:

هو أبو الحسن محمّد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى بن جعفر الصّادق عليهما السّلام هكذا في شرحي المعتزلي والبحراني وغيرهما.

وفي مجالس المؤمنين، ولؤلؤة البحرين، ومشتركات الرّجال للمقدّس الأمين الكاظمي (ره)، الحسين بن موسى بن ابراهيم، بأسقاط محمد بن موسى من البين، والله العالم.

قال الشّارح المعتزلي: مولده سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة، كان أبوه النّقيب أبو أحمد جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العبّاس، ودولة بني بويه ولقب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدَّولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد، ووليَ نقابة الطالبييّن خمس دفعات، ومات وهو يتقلدها وسنه سبع وتسعون سنة.

وفي مجالس المؤمنين عن مؤلف تاريخ مصر والقاهرة قال: كان الشّريف أبو أحمد سيّداً عظيماً مطاعاً، وكانت هيبته أشدّ هيبة، ومنزلته عند بهاء الدّولة أرفع المنازل ولقّبه بالطاهر الأوحدي ذوي المناقب، وكان فيه كلّ الخصال الحسنة، إلّا أنّه كان رافضيّاً هو وأولاده على مذهب القوم.

أقول: وفي الحقيقة هذا الاستثنآء من قبيل تعقيب المدح بما يشعر الذّم، ورفضه (رضي الله عنه) أعظم أوصاف كماله.

قال الشّارح المعتزلي: وأمّ الرضي فاطمة بنت الحسين بن الحسن النّاصر الأصمّ، صاحب الدّيلم، وهو أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر ابن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، شيخ الطالبييّن، وعالمهم وزاهدهم، وأديبهم، وشاعرهم، ملك بلاد الدّيلم والجبل ويلقب بالنّاصر

ص: 108

للحق، وجرت له حروب عظيمة مع السّامانية، وتوفّي بطبرستان، سنة أربع وثلاثمائة وسنه تسعٍ وسبعون سنة.

وفي لؤلؤة البحرين، من كتاب الدّرجات الرفيعة قال: أبو الحسن أخو الشّريف المرتضى، كان يلقب بالرّضي ذي الحسبين، لقّبه بذلك بهاء الدّولة وكان يخاطبه بالشّريف الأجل، مولده سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة ببغداد، وكان فاضلاً عالماً، شاعراً، مُبَّرزاً، ذكره التّعالبي في اليتيمة، فقال: ابتدأ يقول الشّعر بعد أن جاوز العشر سنين، وهو اليوم أبدع أبناء الزّمان وأنجب سادات العراق، يتحلّى مع محتده الشّريف، ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبييّن؛ من مضى منهم ومن غبر؛ على كثرة شعرائهم المفلقين ولو قلت: إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصّدق؛ وكان أبوه يتولى نقابة الطالبييّن والحكم فيهم أجمعين؛ والنّظر في المظالم والحج والنّاس ثم ردّت هذه الأعمال كلها إليه في سنة ثمانين وثلاثمائة وأبوه حيّ.

مؤلفاته:

وله من التّصانيف كتاب المتشابه في القرآن وكتاب حقائق التّنزيل وكتاب تفسير القرآن وكتاب المحازات النّبوية وكتاب تعليق خلاف الفقهاء وكتاب تعليقة الايضاح لأبي علي وكتاب خصائص وكتاب نهج البلاغة وكتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن وكتاب الزيّادات في شعر أبي تمام وكتاب سيرة والده الطاهر وكتاب انتخاب شعر ابن الحجاج وكتاب مختار شعر أبي اسحاق الصّابي وكتاب ما دار بينه وبين ابي اسحق ثلاثة مجلدات وكتاب ديوان شعره، يدخل في اربعة مجلدات، قال أبو الحسن العمري: رأيت تفسيره للقرآن، فرأيته احسن التّفاسير، يكون في كبر تفسير أبي جعفر الطوسي أو أكبر، وكانت له هيبة وجلالة وفيه ورع وعصمة، وفيه مراعاة الأهل والعشيرة، وهو أوّل طالبي جعل عليه السّواد، عالي الهمة، شريف النّفس، لم يقبل من أحد صلة، ولا جائزة، حتى أنّه ردّ صلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس، وشدّة ظلف.

ص: 109

علمه:

قال الشّارح المعتزلي: حفظ القرآن بعد أن جاوز ثلاثين في مدة يسيرة وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قوياً، وكان عالماً، أديباً، وشاعراً مفلقاً: فصيح النظم، ضخم الألفاظ، قادراً على القريض، متصرّفاً في فنونه إن قصد الرّقة في النّسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى فيه بما لا يشقّ فيه غباره، وإن قصد في المراثي جاء سابقاً والشّعراء منقطع انفاسها على أثره، وكان مع هذا مترسّلاً ذا كتابة قويّة، وكان عفيفاً، شريف النّفس عالي الهمة، مستلزماً بالدّين وقوانينه.

قال صاحب اللّؤلؤة، ذكر ابو الفتوح ابن جنّي في بعض مجامعه قال: احضر الرّضي الى السّيرافي النّحوي وهو طفل جداً لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنّه النّحو، وقعد معه يوماً في الحلقة، فذاكره بشيء من الاعراب على عادة التعلّيم فقال: اذا قلنا رأيت عمر فما علامة نصب عمر؟ فقال له الرّضي رضي الله عنه: بغض علي عليه السلام فتعجب السيّرافي والحاضرون من حدّة نظره.

وحكى أبو الحسن العامري قال: دخلت على الشّريف المرتضى (رضوان الله تعالی علیه) فأراني بيتين قد علمهما وهما:

سري طيفُ سَعْدي طارقاً فأستفَزني *** هويناً وصَحْبي بالفلاةِ رقودُ

فقلتُ لعينيِ عاودِ النّومَ وأهجعي *** لعلَّ خيالاً طارقاً سيعودُ

فخرجت من عنده ودخلت على أخيه الرضي (رضوان الله علیه) فعرضت عليه البيتين فقال بديها:

ردَدَتُ جواباً والدّموعُ بوادرُ *** وقد آنَ للشّملِ المشتِّ ورودُ

فهيهاتِ من لُقيا حبيبٍ تعرضَتْ *** لنا دونَ لقياهُ مهامُهُ بيدُ

فعدت إلى المرتضى بالخبر، فقال يعزّ علي أخي قتله الذّكاء، فما كان إلّا يسيراً حتّى مضى الرّضي لسبيله، رضي الله عنه وارضاه.

ص: 110

ترفعه عن قبول هدايا:

قال الشّارح المعتزلي ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة، حتّى أنّه ردّ صلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس وظلف، فأمّا بنو بويه فأنّهم اجتهدوا على قبول صلاتهم؛ فلم يقبل، وكان يرضى بالاكرام وصيانة الجانب، وإعزاز الأتباع، والأصحاب، وكان الطائع اكثر ميلاً إليه من القادر، وكان هو أشدّ حبّاً، وأكثر ولاءاً للطائع منه للقادر، وهو القائل في قصيدته التي مدحه بها:

عطفاً أميرَ المؤمنين فإنّنا *** في دوحةِ العَليآء لا نتفرقُ

ما بيّنَنا يومَ الفَخارِ تفاوتُ *** أبداً كلانا في العَلاءِ مُعرّقُ

إلّا الخلافةَ شرّفتكَ فإنّني *** أنا عَاطلٌ منها وأنتَ مُطوقُ

و في رجال أبي علي عن تاريخ اتحاف الورى باخبار أمّ القرى، في حوادث سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، قال فيها: حج الشّريفان: المرتضى والرّضي فأعتقلهم في اثناء الطريق ابن الجراح الطائي؛ فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما.

وقال الشّارح المعتزلي: وقرأت بخط محمّد بن أدريس الحلّي الفقيه الامامي؛ قال: حكي أبو حامد أحمد بن محمد الاسفرائيني الفقيه الشافعي؛ قال: كنت يوماً عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدّولة، وابنه سلطان الدّولة، فدخل اليه الرّضي أبو الحسن فأعظمه وأجلّه، و رفع من منزلته، وخلى ما كان بيده من القصص والرّقاع، وأقبل عليه يحادثه إلى ان انصرف، ثم دخل بعد ذلك اخوه المرتضى أبو القاسم (رحمه الله)، فلم يعظمه ذلك التعظيم، ولا أكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها، وتوقيعات يوقع بها، فجلس قليلاً، وسأله امراً فقضاه ثم انصرف قال أبو حامد: فتقدّمت إليه وقلت له: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم، صاحب الفنون، وهو الأمثل، والأفضل منهما، وإنما أبو الحسن شاعر، قال: فقال لي: إذا انصرف النّاس وخلي المجلس اجيبك عن هذه المسألة، قال: وكنت مجمعاً على

ص: 111

الانصراف، فجاء أمر لم يكن في الحساب، فدعت الضّرورة، إلى ملازمة المجلس إلى ان تقوّض النّاس واحداً فواحداً، فلما لم يبق إلّا غلمانه وحجابه، دعا بالطعام، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه اكثر غلمانه، ولم يبق عنده غيري، قال الخادم له: هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيّام، وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني، فأحضرهما، فقال: هذا كتاب الرّضي أتصل بي أنّه قد وُلد له ولد؛ فأنفذت إليه ألف دينار وقلت: هذه للقابلة، فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودّتهم، مثل هذا في مثل هذه الحال، فردّها وكتب إليّ هذا الكتاب، فأقرأه، قال: فقرأته وهو اعتذار عن الرّد في جملة: أننا أهل بيت لا تطلع على احوالنا قابلة غريبة، وإنّما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا، ولسن ممّن يأخذن اجرة، ولا يقبلن صلة، قال: فهذا هذا، وأمّا المرتضى، فإنّنا كنا وزّعنا وقسّطنا على الأملاك ببادرويا تقسيطاً نصرفه في حفر فوّهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكاً للّشّريف المرتضى بالنّاحية المعروفة بالداهرية من التّقسيط عشرون درهماً، ثمنها دينار واحد، قد كتب إليّ منذ أيّام هذا الكتاب فأقرأه، فقرأته، وهو من أكثر من مائة سطر، يتضمّن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهزّ والطلب والسّؤال في اسقاط هذه الدّراهم المذكورة ما يطول شرحه، قال فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل؟ هذا العالم المتكلّم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النّفس، أم ذلك الذي لم يشتهر إلّا بالشّعر خاصّة، ونفسه تلك النفس فقلت: وفّق الله سيّدنا الوزير، فما زال موفّقاً، والله ما وضع سيّدنا الوزير الأمر إلا في موضعه، ولا أحله إلّا في محله، وقمت وانصرفت.

وقال الشّارح المعتزلي حدّثني فخار بن معد العلوي الموسوي، قال رأى المفيد أبو عبد الله محمّد بن النّعمان الفقيه الامامي في منامه: كأنَّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلت إليه وهو في مسجده بالكرخ، ومعها ولداها الحسن والحسين عليهما السّلام صغيرين، فسلمتهما إليه، وقالت له: علمهم الفقه، فأنتبه متعجّباً من ذلك، فلما تعالى النّهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرّؤ يا دخلت إليه المسجد، فاطمة بنت النّاصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها

ص: 112

محمد الرّضي وعلىّ المرتضى صغيرين فقام اليها، وسلم عليها، فقالت أيّها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه، فبكى أبو عبد الله، وقصَّ عليها المنام، وتولى تعليمهما، وأنعم الله عليها. وفتح لهما أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدّنيا، وهو باقٍ ما بقي الدّهر.

وفاته:

وكانت وفاة الرّضي على ما في اللؤلؤة بكرة يوم الأحد، لستٍ خلون من المحرم، سنة ستّ وأربعمائة وفي شرح المعتزلي أربع وأربعمائة وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة، ودفن في داره بمسجد الأنبارييّن بالكرخ، ومضى اخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد مولانا الكاظم عليه السلام، لأنّه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته، ودفنه، وصلى عليه فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النّهار إلى اخيه المرتضى إلى المشهد الشّريف الكاظمي، فألزمه بالعود إلى داره، ثم نقل الرضّي رضي الله عنه إلى مشهد الحسين بكربلاء فدفن عند أبيه.

و في مجالس المؤمنين: ففوض المناصب التي كانت له من النّقابة وامارة الحاج وغير ذلك بعده إلى اخيه المرتضى، قال: ورثاه اخوه المرتضى وأبو العلاء المعرّي وكثير من أفاضل الشّعراء.

ما قيل في رثائه:

وممّا رثاه به أخوه المرتضى: الأبيات المشهورة التي من جملتها:

يَا للرّجالِ لفجعةٍ جَذمتَ يدَي *** ووددتُ لو ذهبتْ عليَّ برأْسي

ص: 113

ما زلتُ أحذرْ ورِدَها حتى أتَتْ *** فحسوتُها (1) في بعضِ ما أنا حاسي

ومطلتُها زمناً فَلمّا صمّمتْ *** لم يثنها مُطلى وطولُ مكاسى

للهِ عمرُك من قصيرٍ طاهرٍ *** ولرُبَّ عمُرٍ طال بالأدناس

ورثاه أيضاً تلميذه مهيار بن مردويه الكاتب بقصيدة لم يسمع في باب المراثي أبلغ منها أوّلها:

من جَبِّ (2) غاربٍ (3) هاشمٌ وسنامُها *** ولوى (4) لويّاً واستزلَ مَقَامَها

وغَزا قريشاً بالبطاحِ (5) فلفَّها *** بيدَ (عجلاخ) وقوَّضَ (6) عزّها وخيامَها

وأنَاخَ (7) في مضِرَ (8) بكلكلٍ حتفَهُ *** يسُتامُ فاحتملتْ له ما سامَها

مَنْ حَلَّ مكةَ فأستباحَ حَرَيْمها *** والبيتُ يشهدُ واستحلَّ حرامَها

ومضى بيثربَ مُزُعجاً ما شاءَ من *** تلك القبورِ والطاهراتِ عِظامَها

يَبكي النبيَ ويَستهيجُ لفاطمَ *** بالطفِّ في أبنائِها أيّامَها

الدّين ممنوعُ الحمى من راسه (راعه خ) *** والدَّارُ عاليةُ البناء مَنْ رامَهَا

أَتناكَرتْ أيدي الرِّجالِ سيوفَها *** فأستسلَمَتْ أَمْ أَنَكْرَتْ إسلامَها

أم غالَ (9) ذا الحسبينِ حامي ذودَها (10) *** قدر اراح على العدوّ سهامها .

ص: 114


1- الحسوة الجرعة وشرب الماء مرة بعد أخرى (منه)
2- أي: قطع.
3- الغارب ما بين السنام والعنق.
4- ولوى لوياً من لواه يلويه لياً فتله ولويت الحبل فتلته.
5- جمع الابطح على غير قياس والقياس اباطح.
6- قوضت البناء أي أنقضته من غير هدم وفي القاموس التقويض نقض من غير هدم أو هو نزع الأعواد والاطناب وتقوض انهدم (منه).
7- انخت الابل أبركته (م)
8- مضر بفتح الميم وفتح المعجمة قبيلة منسوبة الى مضر بن نزار بن معد بن عدنان (مجمع)
9- أي: أهلك.
10- ذودها الذود من الابل ما بين الثلاث الى العشرة واكثر ما يستعمل الذود في الابل والغنم (مجمع).

وما احسن قوله منها:

بَكْرَ (1) النَّعِيُ (2) من الرَّضي بمالكٍ *** غاياتِهَا (3) متعوّدٍ (4) إقدامَها

كلحَ (5) الصّباحُ بموتِهِ عن ليلةٍ *** نَقّضتْ على وجهِ الصبّاحِ ظلامها

صدعَ الحِمامُ صفاةَ آلِ محمدٍ *** صَدْعَ الرّداءِ بهِ وحلّ نِظامَهَا

بالفارس العَلويِّ شَقَّ (6) غبارها *** والنّاطِقِ العربي شَقَّ (7) كلامَها

سَلَبَ العشيرةَ يومُهُ مِصباحَها *** مصلاحَها عَمّا لها عَلّامَها

برهانُ حجّتها التي بُهرتْ بهِ *** أعداءَها وتقدّمَتْ أعمامَها

مَنْ حَلَّ مكةَ فأستباحَ حريمَها *** والبيتُ يَشهدُ واستحلَّ حرامَها

ومنها:

أبكيكَ للدّنيا التي طَلْقتها *** وقد اصطفتَكَ شبابها وغَرامَها

ورميتَ غاربْها بفضلِكِ حبلَها *** زُهْداً وقد ألقَتْ اليك زِمامَها

قال السّيد علي صدّر الدّين:

وشقت هذه المرثية على جماعة ممّن يحسد الرضي رضي الله عنه على الفضل في حياته أن يرثى بمثلها بعد وفاته فرثاه بقصيدة اخرى ومطلعها في براعة الاستهلال كالأولى وهو:

أقريشُ لا لفمٍ أراكِ ولا يدِ *** فتواكلي (8) غاضَ النِدَى وخلا النديّ م.

ص: 115


1- أي: اتى في البكرة أي الغداة.
2- النعي وزان فعيل الذي يأتي بخبر الموت.
3- مفعول مالك.
4- متعود إقدامها صفة مالك وأقدامها مفعولة.
5- أي: عبس وحزن.
6- إنكشف.
7- شق كلامها: يقال شق الكلام أي اخرجه أحسن مَخَرج.
8- يقال تواكلوا مواكلة اتكل بعضهم بعضاً وغاض الندى أي قل ونضب المطر دائم وخلا الندى وزان فعيل مجلس القوم.

وما زلت متعجّباً بقوله منها:

بكرَّ النّعيُ فقال أودي (اروي خ) خيرَها *** إنْ كانَ يصدقُ فالرّضي هو الرِّديّ

ومرثية أبي العلاء المعَرّي تنيف على ستّين بيتاً، وتخلّص في أواخرها إلى مدیح أجداد الرّضي وشرف بيتهم، ووصفهم بالجود والسّخاء، ويعجبني إيرادها هنا بأسقاط ما تخلّص به قال:

أودى فليتَ الحادثاتِ كفاف *** مالِ المسيفِ وعَنْبر المُستافِ

الطاهرُ الآباء والأبناء و *** الآرابِ والأَثوابِ والآلافِ

رغَتْ الرّعودُ وتلك هدّة واجبٍ *** جبلٌ هوى من آلِ عبدِ مُنافِ

بَخُلَتْ فلما كانَ ليلةُ فَقْدِهِ *** سمحَ الغَمامُ بدمعةِ الزرّافِ

ويُقالُ إنّ البحَرَ غاضَ وإنَّها *** ستعودُ سيفاً لجّةُ الرَّجافِ

ويَحقُ في رزءِ الحُسينِ (1) تغيرُّ *** الحَرسين (2) بله الدّرّ والأصدافِ

ذهبَ الذي غدتْ الذَوابلُ بعدَهُ *** رعشَ المتونَ كليلةَ الأطرافِ

وتعطفَتْ لعبُ الضَّلالِ من الأسى *** فالزّجُ عندَ اللهذم الرَّعافِ

وتيقنّتْ إبطالَها ممّاراتٍ *** إلّا تقوُّمها بِغُمْزِ ثِقافِ

شغلَ الفوارسَ بثُّها وسيوفُها *** تحتَ القوائمِ جمّةَ التّرجافِ

ولو أنّهم نكبوا الغمودَ لهالهم *** كمدُ الظبي وتفلَل الأسيافِ

طارَ النّواعبُ يوماً فادنوا عياً *** فندبنه لموافقٍ ومنافِ

أَسفٌ أسفٌ بها وأثقلْ نهضها *** بالحُزنِ وهي على الترابِ هوافِ

ونعيبُها كنحيبهَا وحدادها *** أبداً سوادُ قوادمَ وخوافي

لا خابَ سعيكَ مِنَ خِفافِ أَسحَمٍ *** كسحيم الأسدي أو كخفافِ

من شاعرِ للبَيْن قال قصيدةً *** يَرثي الشريفَ على رويِّ القافِ

جونٌ كنَبْتِ الجونٍ يصرخُ دائماً *** ويميسُ في بردِ الحزين الضّافِ ر.

ص: 116


1- الظاهر ان مراده بالحسين أبو الرضى والمرتضى (منه).
2- الحرسين الليل والنهار.

عقرت ركائبك ابن داية عادياً *** أي أمرىء نطق وأيُّ قوافِ

بنيتَ على الإيطاء سالمةً من الأ *** قواءِ والأكفاء والأصرافِ

حسدتْهُ ملبسهُ البزاةِ ومَنْ لها *** لما نعاهُ لها بلبسِ غدافِ

والطيرُ أعزِبةٌ عليه بأسرِها *** فتخُ الشّراءِ وساكناتِ الصّافِ

هلّا استعاض من السريرِ جواده *** وثابَ كلُّ قرارةِ ونيافِ

هيهاتِ صادفَ للمنايا عسكراً *** لا ينثني بالكرِّ والإيجافِ

هلّا دفنتمُ سيفَه في قبرهِ *** معه فذاكَ له خليلٌ وافِ

إنّ زاره الموتى كساهُم في البلي *** اكفانُ أبلجَ مُكرِّمِ الأضيافِ

والله إنْ يخلعْ عليهم حلةً *** يبعثْ اليه بمثِلها أضعافِ

نبذتْ مفاتيحُ الجنانِ وإنّما *** رضوانٌ بين يديهِ للاتحافِ

يا لابسَ الدّرع الذي هو تحتَها *** بحرٌ تلقعُ في غديرٍ صافِ

بيضآءُ زرقُ السّمر واردةٌ لها *** وردُ الصّوادي والورق زرق نطافِ

والنّبلُ يسقطُ فوقَهَا ونصالُها *** كالريشِ فهو على رجاها طافِ

يزهى إذا حرباؤها صلى الوغا *** حربآءَ كلِّ هجيرةٍ مهيافِ

فلذاك تبصرُه لكبرِ عادة *** يوفي على جذلٍ بكلِّ قذافِ

الرّكبُ آثرك آجمون لزادهِمْ *** واللهّجُ صادفةٌ عن الإخلافِ

الآن القى المجدُ أخمص رجلِهِ *** لم يقتنعْ جزعاً بمشيةِ حافِ

تكبيرتانِ حيالَ قبرِكَ للفتى *** محسوبتانِ بعُمْرةٍ وطَوافِ

لو تُقدِّرُ الخيلُ زاينتها *** أنخَتْ بأيديها على الأعرافِ

فارقْتَ دهرَكَ ساخطاً أفعالهَ *** وهو الجدُّير بقلةِ الإنصافِ

ولقيتَ رَبكَ فأستردّ لك الهُدى *** ما نالتِ الأيّامُ بالأتلافِ

وسقاكَ أمواهُ الحياةِ مُخلداً *** وكَساكَ شرخُ شبابكِ الأفوافِ

متأنّقين وفي المكارم إرتقيا *** متألقين بسؤددٍ ففِ

قدرَينِ في الأرداءِ بل مطرَيْنِ في الأ *** جداءِ بل قمريَن في الأسدافِ

رُزِقاً العلاءَ فأهَلُ نجدٍ كلما *** نطقا الفصاحَة مثلُ أَهلِ ريافِ

ساوى الرّضي المرتضى وتقاسما *** خططَ العُلى بتناصُفٍ وتصافِ

ص: 117

حَلفا ندى سبقا وصلى الأطهر ال *** مرضيّ (1) فيالثلاثةِ أحلافِ

انتم ذوو النّسبِ القصير فطولُكُمْ *** بادٍ على الكُبَرَاء والأشرافِ

والرّاحُ إِنْ قيلَ ابنةَ العنب اكتفَتْ *** بأبِ من الأسماءِ والأوصافِ

ما زاغَ بيتُكُم الشّريفُ وإنّما *** بالوجهِ ادركَهُ خفىَّ زُحافِ

والشَّمسُ دائمةُ البَقاءِ وإنْ تنلْ *** بالشكرِ فهي سريعةُ الأَخطافِ

ويَخَالُ موسى جدُّكم لجلالِهِ *** في النّفسِ صاحبِ سورةِ الأعرافِ

الموقدي نارِ القرى الآصالِ والا *** شجارِ بالأهضامِ والأشعافِ

يا مالكي سرحِ القريض أتتكما *** مني حمولةُ مستين عِجافِ

لا تعرف الورقُ اللّجينُ وإنْ تسَلْ *** تَخبرُ عن القلّامِ والخذرافِ

وأنا الذي أهدى أقلُّ بهارة *** حسناً لأحسن روضة منياف

أوضعتْ في طرق التّشرفِ سامياً *** بكما ولم أسلُكْ طريقَ العافِ .

ص: 118


1- الظاهر أنه اراد بالاطهر المرضي أبا احمد عدنان بن الشريف الرضي قال في مجالس المؤمنين كان عظيم الشأن معظماً عند آل بويه فوضت اليه نقابة العلويين بعد موت عمه المرتضى ومدحه شعراء عصره كمهيار وابن الحجاج وغيرهما (منه).

ما قيل في الثناء على نهج البلاغة

كتب أبو يوسف يعقوب بن احمد في آخر نسخة من كتاب نهج البلاغة:

نهجُ البلاغةِ نهجٌ مهيعٌ جدد *** لمن يريدُ عُلوّاً ما لَهُ أمدُ

يا عادلاً عنه تبغي بالهوى رُشداً *** أعدلّ اليه ففيه الخيرُ والرشدُ

واللهِ واللهِ إنّ التّاركيه عُمُوا *** عن شافياتٍ عظاتٍ كلها سُددُ

كأنّها العقدُ منظوماً جواهرهُا *** صلّى على ناظميها ربّنا الصّمدُ

ما حالُهم دونَها إن كنتَ تنصفنيُ *** إلّا العنودُ وإلّا البغيُ والحسدُ

و اقتدی به ابنه الحسن حين افتتح من نسخته فقال:

نهجُ البلاغةِ درجٌ ضمنُه دُرَرٌ *** نهجُ البلاغةِ روضٌ جادهَ دررُ

نهجُ البلاغة وشىً حاكَهُ صُبغٌ *** من دونِ موشيةِ الدّيباجِ والحبرُ

أو جونةٌ مُلِئَتْ عطراً اذا فتحتْ *** خيشومُنا فغمَتْ ريحٌ لها ذفرُ

صدقتُكُمْ سادتي والصدقُ من خلقي *** وإنّهُ خصلةٌ ما عابهَا بَشرُ

صلّى الإلهُ على بحرِ غواربِهِ *** رمَتْ به نحونا ما لألأ القمرُ

فأقتدى بهما الأديب عبد الرحمن حين وقع له الفراغ:

فقال:

نهجُ البلاغة نهجُ الزّخرِ والسَّندِ *** وفيه للمؤمنين الخيرُ والرَشدُ

عين الحياةِ لِمَن أضحى تأمّلُها *** يا حبّذا معشرٌ في مائِها وَرَدُوا

ما إنْ رأتْ مثلَّها عينٌ ولا سمعت *** أذنٌ ولا كتبت في العالمين يدُ

شرّبت روحي حياةً عند كتبتَها *** وكانَ للرّيح من آثارِهَا مَدَدُ

ص: 119

فأقتدى بهم غيرهم لما فرغ من نسخه وتحريره فقال:

نهجُ البلاغةِ هذا سيدُ الكُتُبِ *** تاجُ الرّسآئلِ والأحكامِ والخُطَبِ

كم فيه من حكمةٍ غرّآءٍ بالغةٍ *** ومن علومٍ إلهيٍّ ومن أدَبِ

ومن دواء لذي دآءِ وعافيةٍ *** لذي بلاءٍ ومن روحٍ لذي تَعَبِ

فيه كلام ولّيُ الله حيدرٌ مَنْ *** يمينُهُ في عطآءِ المالِ كالسِّحُبِ

وصيُّ خمير عبادِ الله كلِهم *** مختارُ ربِّ البرايا سيّدُ العَربِ

علىُّ المُرتَضى مَنْ في مودتِهِ *** يُرجى النّجاةُ ليومِ الحشرِ والرُّعبِ

فمن يواليه من صِدْق الجنان ففي *** الجنانِ طنّبُ فوقَ السّبعِ والشَّهُبِ

ومن يعاديه في نار الجحيمِ هوى *** وعاشَ ما عاشَ في ويلٍ وفي خَربِ

قد امتزجَتْ بقلبي حبّه فجرى *** في النّفس مجرى دَمي في اللحم والعصبِ

صلى عليه إلهُ الخَلْقِ خالقُنا *** ربُّ الورى وعلى ابنائِهِ النُّجُبِ

وزاده في جنانِ الخُلدِ منزلةً *** ورتبةً وعلىٌ يعلو على الرُتَبِ

واقتدى بهم قطب الدین تاج الاسلام محمد بن الحسين بن الحسن الكيدري وقال:

نهجُ البلاغةِ نهجُ كلِّ مسددٍ *** نهجُ المُرام لكلِ قومٍ أمجدِ

يا مَنْ يبيتُ وهمُّه دركُ العُلى *** فاسلكه تحظَ بما ترومُ وتَقصِدِ

ينبوعُ مجموعِ العلومِ رمي به *** نحوَ الأنامِ ليقتفيه المُهتدي

فيه لطلابِ النِّهايةِ مُقْنعٌ *** فليلزمنه النَّاظِرُ المُسترشدِ

صلى الإله عَلى مُنظمِهِ الذي *** فاقَ الورى بكمالِهِ والمُحتدِ

واحتذى بهم غيرهم وسلك مسلكهم فقال:

نهجُ البلاغةِ منهجُ البلغآءِ *** وملاذُ ذِي حصرٍ وذي أعيآءِ

فيها معانٍ في قوالبَ أحكمَتْ *** لهدايةٍ كالنَّجمِ في الظُلمآء

وتضمِّنَ الكلماتُ في إيجازِها *** بذواتِها بجوامعَ العَلْيآءِ

صلى الإلهُ على النبيِّ محمدٍ *** وعلى عليٍّ ذي عُلىً وإخآءِ

ص: 120

وللسيد الامام عز الدين سيد الائمة المرتضى بن السيد الامام العلامة ضياء الدين علم الهدى قدس الله روحهما:

نهجُ البلاغةِ نهجةٌ لذوي البلاغةِ واضحُ *** وكلامُهُ لكلام أربابِ الفصاحةِ فاضحُ

العلمُ فيه زاخرٌ والفضلَ فيه راجحُ *** وغوامضُ التّوحيد فيه جميعُها لك لائحُ

ووعيدُه مع وَعدِهِ للناس طُرّاً ناصحُ *** تحظى به هَذي البريّةُ صالحٌ أو طالحُ

لا كالعريبِ وما لَها فالمال غادٍ رائحُ *** هيهاتِ لا يعلوُ على مرقى ذراهُ مادحُ

إن الرّضي الموسويّ لمآئه هو مائح *** لاقت به وبجمعه عدد القطاء مدائحُ

وقال آخر وهو احسن ما قيل في مدحه واحلى:

نهجُ البلاغةِ نهجُ العلمِ والعملِ *** فأسلكْهُ يا صاحِ تبلغْ غايةَ الأملِ

کَمْ فيهِ من حكمٍ بالحقِّ مُحكَّمة *** تُحيي القلوبَ ومن حكم ومن مَثَلِ

ألفاظُهُ دررٌ أغنب بحليتِها *** أهلَ الفضآئلِ عن حلىّ وعن حُلَلِ

ومن معانيه انوارُ الهُدى سطعَتْ *** فأنجابَ عنها ظلامُ الزيِّغِ والزَللِ

وكيف لا وهو نهجٌ طابَ منهجهُ *** هَدَى اليه أميرُ المؤمنين عليّ

ولعلي بن أبي سعد الطبيب اسعده الله في الدارين:

نهجُ البلاغةِ مشرعُ الفُصحاءِ *** ومعششُ البُلغآء والعُلمآءِ

درجَ عقودَ عقولِ ارباب التُّقى *** في دِرْجِهِ من غير إستثنآء

في طيّهِ كلُّ العلومِ كأنّهُ *** الجَفْرُ المشارُ اليه في الأنبآءِ

مَنْ كان يَسلُكُ نهجَهُ متشمّراً *** أمِنَ العِثَار وفازَ بالعليآءِ

غررٌ من العِلمِ الإلهي أنجلْت *** منظومةً فيها ضيآءُ ذِكآءِ

ويفوحُ منها عبقةٌ نبويّةٌ *** لا غرو قداً من أديمِ سَنآءِ

روضٌ من الحِكَمِ الأنيقةِ جادهَ *** جودٌ من الأنوار لا الأنواءِ

انوارُ علمِ خليفة الله الذي *** هو عصمةُ الأمواتِ والأحياءِ

وجذيلُها وغديقها مترجبّاً *** ومحككاً جدّاً بغير مِرآءِ

ص: 121

مشکاةُ نور الله خازنُ علمه *** مختارهُ من سْرّة البَطْحاء

وهو ابنُ نجدتِهِ وعليه تهدلّتَ *** أغصانُهُ من جملةِ الأُمراءِ

ووصيّ خير الأنبيآء اختارَهُ *** رَغْماً لتَيْمٍ ارذلِ الأعداءِ

صلى الإلهُ عَليهما ما ينطوي *** بردُ الظلامِ بنشرِ كفِ ضياءِ

وعلى سلالتِهِ الرّضيُ محمّد *** قصبَ السّباقِ حوى من الفصحاء

وقال آخر:

نهجُ البلاغةِ يَهدي السّالكينَ إلى *** مَواطنِ الحقّ من قولٍ ومن عملِ

فاسلكْهُ تهدى الى دارِ السّلامِ غداً *** وتحظ فيها بما ترجوهُ من أمْلِ

وقال آخر:

كتابٌ كانَّ الله رصَّعَ لفظَهُ *** بجوهرِ آياتِ الكتابِ المُنزّلِ

حوى حِكماً كالدرِ تنطقُ صادقاً *** فلا فَرقَ إِلّا أَنَّهُ غَيْرُ مُنزَّلِ

ولعبد الباقي افندي البغدادي:

ألا إن هذا النهجَ نهجُ بلاغةٍ *** لمُنتهجِ مسلكه جليّ

على قممٍ من آلِ صخرٍ ترفعتْ *** كجْلَمُودِ صخرٍ حَطَّهُ السّيلُ من عَلِ

وقال الفاضل الأديب النواب المستطاب عبد الحسين ميرزا اعزه الله في مدح الشرح:

أيا طالباً منهاجَ رُشْدٍ وحِكْمَةٍ *** يرومُ اقتنآء الذُخْرِ من رحمةِ الباري

ويا تائِهاً ظمآن في قفرِ حيرةٍ *** يريدُ ارتوآء العقلِ بالمَنْهلِ الجاري

عليك بمنهاجِ البراعةِ إنّهُ *** لمنهاجِ فضلٍ للهُدى ثمِ تِذْكارِ

غدا شارحاً نهج البلاغةِ حاذياً *** حذاهُ علياً قدرهُ فوق أقدارِ

ص: 122

أتدري وما نهجُ البلاغة؟ إنّهُ *** كلامُ إمامٍ قاسمِ الخُلْدِ والنَّارِ

عليٌّ اميرُ المؤمنين فكم حوي *** له خطبة غرّآء كالكوكب السّاري

وقد شرحتْ هذا الكتاب جماعةٌ *** ولم يرفعوا عن وجهِهِ حُجُب أستارِ

فقيّضَ مولانا عليٌّ لشرحِهِ *** مجلّى حازَ السِّبقَ في كلِّ مضمارِ

مُحدّثَ أهلِ البيتِ ثم فقيههم *** ملاذَ محبيهم ومحزنَ أسرارِ

إمامٌ تقيٌ هاشميّ مهذّبٌ *** يُسمّى حبيبُ اللهِ من نجل أخيارِ

فشمّرَ ذيلَ الجدِّ في ذلك المنى *** ولم يألِ جهداً بالعشيّ وأبكارِ

فكَمْ من علومٍ فيه منها وديعةً *** ومِن حِكمٍ للمهتدين وأنوارِ

وقد جُمَعْت فيها المحاسُن كلُها *** ويُعَرَفُ صدقُ القولِ حرّيت اخبارِ

ولا غرو إنْ فاقَ التّصانيفَ فضلُهُ *** ضرورةُ أهلِ البيت أعلمُ بالدّارِ

ولمّا رأى هذا الكتابَ مليكُنا *** مظفّرُ دينِ الله سلطانُ قاجارِ

أراد عمومَ النّفعِ وأصدرتْ *** أوامرهُ العُليا بطبع وإكثارِ

أدامَ إلهُ العالمين بقاءه *** ولا زَالَ منصوراً بنصر من الباري

وصحّحَة عبدُ الحسين مقابلاً *** لدى صاحب التّصنيف حفظاً من الطار

عسى ينظرُ المولى علىٌّ بعبده *** ويقضي من افضالِهِ كلّ أوتاري

وينجيني من كربِ موتٍ وبرزخٍ *** ومن تبعاتٍ قد كُسَيتْ واوزار

ص: 123

ذكر الخطبة الشقشقية ومصادرها

الخطبة

وتعرف بالشقشقية لقول الإمام (عليه السلام) بعدها: تلك شقشقة هدرت ثم قرّت ...

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ (1) وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ (2) بَعْدَهُ:

شَتّانَ ما يَوْمِي عَلى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا.

فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ ...

ص: 124


1- وفي بعض النسخ «ابن أبي قحافة» مكان، فلان ...
2- وفي بعض النسخ «ابن الخطاب» مكان، فلان ...

حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ. إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ ...

فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا. أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ ...

ص: 125

تُسمى هذه الخطبة ب (الشّقشقية) أو (الشّقشقية العلوية) كما في القاموس، وربما تعرف ب (المقمّصَة) أيضاً من حيث اشْتمالها على لفظ التقمص في أولها نظير التعبير عن السورة بأشهر الفاظها كالبقرة، وآل عمران والرحمن والواقعة وغير ذلك، وهي من خطب أمير المؤمنين المشهورة حتى قال المفيد رحمه الله: هي اشهر من أن ندل عليها لشهرتها (1) وقد روتها العامة والخاصّة، وشرحوها، وضبطوا ألفاظها من دون غمزٍ في متنها ولا طعن في أسانيدها.

وتكاد أن تكون هذه الخطبة هي الباعث الأول، والسبب الأكبر لمحاولة تزييف (نهج البلاغة) بأثارة الشبهات الواهية حوله، وتوجيه الاتهامات الباطلة الجامعه حتى أدى ببعضهم الجهل أو التجاهل، وإن شئت فقل العناد والمكابرة إلى إتهامه بوضعها وما علموا أن هذه الخطبة بالخصوص مثبتة في مصنفات العلماء المشهورة، وخطوطهم المعروفة قبل أن تلد الرضي أمَّه وإليك طائفة منها:

1 - من المتقدمين على الرضي برواية الخطبة الشقشقية أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة الرّازي من متكلمي الشيعة وحذّاقهم (2) وكان قديماً من المعتزلة (3) ومن تلامذة أبي القاسم البلخي شيخ المعتزلة المعروف، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية وجرَّد قلمه في الرد على خصوصمهم، فألف كتاب (الرد على الزيدية) و (الرد على أبي علي الجبائي) (4) و (المسألة المفردة في الامامة) و (الانصاف في الامامة) وفي هذا الأخير روى الخطبة الشقشقية كما سيجيء. .

ص: 126


1- الجمل: ص 62.
2- فهرست ابن النديم: 224.
3- فهرست النجاشي: 92.
4- هو محمد بن بشر الحمدوني من غلمان أبي سهل النوبختي من متكلمي الأمامية له كتب في الأمامة منها (الأنفاذ) و (المقنع) والقصة في المتن تدل على جهاده في سبيل العقيدة.

ومن لطيف ما يُروى ما نقله النجاشي قال: سمعت أبا الحسن بن المهلوس العلوي الموسوي رحمه الله يقول في مجلس الرضي أبو الحسن وهناك شيخنا أبو عبد الله محمد بن النعمان (المفيد) رحمهم الله اجمعين: سمعت أبا الحسن السوسنجردي (1) رحمه الله وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلمين، وله كتاب في الإمامة معروف، وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجة يقول: مضيت الى ابي القاسيم البلخي إلى بلخ - بعد زيارة الرضا عليه السلام بطوس - فسلمت عليه وكان عارفاً بي، ومعي كتاب جعفر بن قبّة في الامامة المعروف ب (الانصاف) فوقف عليه ونقضه ب (المسترشد في الامامة) فعدت إلى الري، ودفعت الكتاب إلى ابن قبّة فنقضه بكتاب (المستثبت في الامامة) فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب (نقض المستثبت) فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات رحمه الله. وبذلك تعرف تقدم كتاب (الانصاف) على (نهج البلاغة) وقد شهد لنا جماعة من العلماء على أنهم رأوا (الأنصاف) متضمناً للخطبة الشقشقية منهم شارحو (النهج) الثلاثة قطب الدين الراوندي وابن ابي الحديد المعتزلي، والشيخ ميثم البحراني. كما ستری.

2 - وسبق الرضي برواية الشقشقية أبو القاسم عبد الله بن محمد بن محمود البلخي الكعبي المتوفى سنة (317). رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم: الكعبيّة، وكان من متكلمي المعتزلة وله تصانيف تضمن بعضها كثيراً من الخطبة الشقشقية كما شهد لنا بذلك ابن أبي الحديد المعتزلي (2)

3 - أبو احمد الحسن بن عبد الله العسكري، نقل عنه الصدوق شرح الخطبة في (معاني الأخبار) قال: سألت الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري عن تفسير هذا الخبر ففسره لي ... الخ (3).. 4.

ص: 127


1- فهرست النجاشي.
2- انظر (شرح نهج البلاغة) م 1 ص 69.
3- انظر (معاني الأخبار) ص 344.

4 - الصّدوق في كتابيه (معاني الأخبار) (1): و (علل الشرائع) في باب العلّة التي من أجلها ترك امير المؤمنين عليه السلام مجاهدة أهل الخلاف. بطريقين ينتهيان إلى ابن عباس

5 - كانت هذه الخطبة مثبتة في (العقد الفريد) (2). كما نقل ذلك المجلسي (3) فقد عدد رواة الخطبة من الامامية ونقل سندها المتصل بعبد الله بن العباس عن (شرح نهج البلاغة) للقطب الرواندي ثم عدّدرواتها من غيرهم فقال: رواها ابن الجوزي في مناقبه وابن عبد ربه في الجزء الرابع من (العقد الفريد) وأبو علي الجبائي في كتابه، و ابن الخشاب في درسه - على ما حكاه بعض الأصحاب - ، والحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري - على ما حكاه صاحب الطرائف - .

أنظر أولاً إلى احتياطه حينما ينقل بالواسطة بقوله: على ما حكاه بعض الأصحاب، وعلى ما حكاه صاحب الطرائف ثم أنظر كيف ينصّ على أنّها في (العقد الفريد).

ويؤيد ما نقله المجلسي أن القطيفي في كتاب (الفرقة الناجية) نصّ على أنها في الجزء الرابع من العقد الفريد (4).

ثم جاءت الأيدي الأمينة على ودائع العلم! فحذفتها عند النسخ أو عند الطبع وكم لهم من امثالها.

هؤلاء كلهم توفوا قبل صدور (نهج البلاغة). ثم جاء من بعدهم فنقلوا الخطبة عن غير (النهج) ومن غير طريق الرضي. كما تدل عليه أسانيدهم المسلسلة، وطرقهم المختلفة، ورواياتهم المتفاوتة. واليك طائفة منهم: 4.

ص: 128


1- ص 343.
2- لابن عبد ربه المالكي المتوفى سنة (328).
3- المجلد الثامن من (البحار) ص 160 ط الكمباني.
4- أنظر (ما هو نهج البلاغة؟) للسيد الشهرستاني: ص 34.

6 - أبو عبد الله المفيد المتوفى سنة (412) استاذ الشريف الرضي رواها في (الارشاد) (1)، قال: روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال: كنت عند امير المؤمنين عليه السلام بالرحبة فذكرت الخلافة وتقديم من تقدم عليه فتنفس الصعداء ثم قال: أم والله لقد تقمصها ... الخ، ولا يجوز اقتباس الشيخ المفيد هذه الخطبة من (نهج البلاغة(ونقلها إلى كتابه، لأن الرضي لا يمهد للخطبة إسناداً بل يقول: ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية، أم والله لقد تقمصها ... إلى آخر الخطبة في حين أن شيخه المفيد يمهد لها قصة وإسناداً، زد على ذلك أن العادة تقتضي بنقل التلاميذ عن شيوخهم لا الشيوخ عن تلاميذهم، ويدلك على أن الشقشقية عند المفيد غير منقولة عن (نهج البلاغة) الاختلاف بينهما في الجمل والألفاظ والنتيجة: أنفرد الشريف الرضي في نقله عن مصدر له وانفرد شيخه المفيد في نقله عن مصدر آخر (2).

7 - القاضي عبد الجبار المعتزلي (3) ذكر في كتابه (المغني) تأويل بعض جمل الخطبة، ومنع دلالتها على الطّعن في خلافة من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام (4) بقوله: المراد بذلك أنه - أي الامام - أهل لها، وأصلح منه للقيام بها يبيّن ذلك القطب من الرحى لا يستقل بنفسه، ولا بدَّ في تمامه من الرحى فنبه بذلك أنه أحق، وإن كان قد تقمصها.

وقال في تأويل قول امير المؤمنين عليه السلام: «ابن ابي قحافة» وقد كانت العادة أن يسمى صاحبه أو يكنيه، أو يضيفه إلى ابيه حتى كانوا ربما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد فليس بذلك استخفاف (5)..

ص: 129


1- ص 135.
2- راجع في هذا «ما هو نهج البلاغة» للسيد الشهرستاني قدس سره.
3- هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني شيخ المعتزلة استدعاه الصاحب بن عباد إلى الري من بغداد بعد سنة 360 وبقي فيها مواظباً على التدريس إلى ان وافاه الأجل سنة 415.
4- الغدير: ج 7 / 83.
5- الشافي للمرتضى: ص 212.

8 - الوزير أبو سعيد الآبي في كتابيه (نثر الدرر) و (نزهة الأديب) (1).

9 - الشريف المرتضى ذكر شيئاً منها في (الشافي) (2) وله كتاب مستقل في شرحها سيأتي ذكره.

10 - الشيخ أبو علي محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة (460) رواها في (الأمالي) (3) قال: اخبرنا الحفّار (4) قال: حدثنا أبو القاسم الدعبلي. قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أخي دعبل (الخزاعي) قال:حدثنا محمد ین سلامة الشامي، عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر محمد بن علي عن ابن عباس، وعن محمد (يعني الباقر عليه السلام) عن أبيه عن جده قال: ذُكِّرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب عليه السلام فقال: والله لقد تقمصها ... إلى آخر الخطبة مع تفاوت قليل. ة.

ص: 130


1- نثر الدرر للوزير أبي سعيد الآبي منصور بن الحسين الآبي - نسبة إلى آبة قرية من توابع قم - وزير مجد الدولة البويهي اختصره من كتابه (نزهة الأديب) وكتاب (نثر الدرر) كما يقول عنه السيد في (الأعيان): ج 8 / 107. كتاب لم يجمع مثله مرتب على أربعة فصول والفصل الأول فيه خمسة أبواب، ثم ذكر ان الباب الثالث منه في كلام أمير المؤمنين عليه السلام وفيه الخطبة الشقشقية وغيرها، قال: وكان المجلد الأول من (نثر الدرر) عند آل كاشف الغطاء أخذه منهم محمد بن الخانجي على أن يطبعه ثم لم يفِ والله يعلم أين مقره الآن، ثم قال رحمه الله: والجزء الخامس منه - وهو المشتمل على كلام سادة بني هاشم - وهو آخر الأجزاء موجود في المكتبة المباركة الرضوية وفي آخره: تم الجزء الخامس وهو آخر كتاب (نثر الدرر) كتبه أحمد بن علي البغدادي في شهور سنة (565)، ثم قال رحمه الله: وهو كتاب بمنزلة الكشكول لكنه مرتب على أبواب ينقل عنه في (البحار) وينقل عنه في (الجواهر) في مسألة استحباب التحنك في الصلاة، والواقع أنه لم يجمع مثله ... الخ. وكانت وفاته سنة (422)
2- ص 203 و 204.
3- ص 1 - 392.
4- هو أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار عالم فاضل عظيم القدر والشأن له كتاب «الأمالي» ينقل عنه ابن شهراشوب في (المناقب) وقد عده علماء الرجال من مشايخ شيخ الطائفة الطوسي وفي أمالي الطوسي أحاديث كثيرة مروية بواسطته منها الخطبة الشقشقية.

11 - قطب الدين الراوندي المتوفى (573) رواها في «شرح نهج البلاغة» من طريق الحافظين ابن مردويه والطبراني وقال: أقول: وجدتها في موضعين، تاريخهما قبل مولد الرضي بمدة، (احدهما) انها مضمنة كتاب «الانصاف» لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبي، أحد شيوخ المعتزلة، وكانت وفاته قبل مولد الرضي. (الثاني) وجدتها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات وكان وزير المقتدر بالله، وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستيف سنة، والذي يغلب على ظني ان تلك النسخة كانت قد كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدة (1).

12 - ورواها أبو منصور الطبرسي في (الاحتجاج) (2) قال: روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس ... الخ.

13 - قال ابن ابي الحديد: حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله ابن احمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع (يعني قول ابن عباس: ما أسفت ... الخ) قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟ والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت أتقول أنها منحولة؟ فقال: لا والله وإني لأعلم انها كلامه كما أعلم انك مُصدّق، فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرّضي رحمه الله تعالى؟ فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب، فقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع في هذا الكلام في خل ولا خمر، ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب 5.

ص: 131


1- الغدير: 7 ص 74.
2- ج 1 ص 95.

صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي (1).

14 - قال ابن أبي الحديد: معقباً على كلام ابن الخشاب المذكور قلت: وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر، قبل أن يخلق الرَّضي بمدة طويلة (2).

15 - وقال أيضاً: ووجدت كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة أحد متكلمي الامامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الأنصاف) وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل ان يكون الرّضي (رحمه الله) موجوداً (3).

16 - قال الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني بعد أن نقل کلام ابن الخشاب المتقدم بتفاوت بسيط جداً: اقول: وقد وجدتها في موضعين تاريخهما قبل مولد الرّضي بمدة وذكر نحواً مما ذكر القطب الراوندي بأنه رآها في (الانصاف) كما رآها بنسخة عليها خط المقتدر العباسي (4).

17 - أبو المظفر يوسف بن قزغلي الحنفي الشهير بسبط ابن الجوزي المتوفى سنة (654) في (تذكرة الخواص) (5) قال ما هذا نصّه بالحرف: «خطبة أخرى، وتعرف بالشقشقية ذكر صاحب (نهج البلاغة) بعضها وأخل بالبعض وقد اتيت بها مستوفاة، اخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيس الأنباري بأسناده عن ابن عباس» ثم ذكر الخطبة.

ولا تخلو كتب الأدب ومعاجم اللغة من ذكر الخطبة الشقشقية: .

ص: 132


1- شرح نهج البلاغة: م 1 ص 69.
2- شرح نهج البلاغة: م 1 ص 69.
3- شرح نهج البلاغة: م 1 ص 69.
4- انظر (شرح نهج البلاغة) لابن میثم ج 1 ص 252.
5- ص 133.

أ - في (مجمع الأمثال) للميداني (1): «شقشقة هدرت ثم قرّت» قال: الشقشقة شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه وإذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل، ولأمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) خطبة تعرف بالشقشقية، لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال له حين قطع كلامه: لو أطردت مقالتك من حيث افضیت، فقال: «هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت».

ب - وفسر ابن الأثير في (النهاية) غريب هذه الخطبة في مواضع عديدة، في مادة «جذذ» قال: ومنه حديث علي (رضي الله عنه) «أصول بيدٍ جذّاء» أي مقطوعة كنى عن قصور أصحابه، وتقاعدهم عن الغزو فإنّ الجند للأمير كاليد وتُروى بالحاء المهملة (ا ه) فأنظر كيف حرّف الكلم عن مواضعه، وفسّر في مادة «حلا» «حليت الدّنيا في أعينهم» وفي مادة «خضم» «وقام بنو أميّة إليه يخضمون مال الله ...» الخ لاحظ التفاوت بين روايته ورواية الرضي فإنه روى «إليه» مكان «معه» و «بنو أمّيّة» مكان «بنو أبيه» لتعلم أن له مصدراً غير (نهج البلاغة)، وفسّر غريبها في المواد التالية: «ربض» و «زبرج» و «شنق» و «عفط».

وقال في مادة «شقشق» (2) قال: ومنه حديث عليّ في خطبة له: «تلك شقشقة هدرت ثم قرّت».

ج - وقال ابن منظور في (لسان العرب) في مادة «شقشق» وفي حديث علي (رضوان الله عليه) في خطبة له «تلك شقشقة هدرت ثم قرّت».

د - وفي «القاموس» للفيروز آبادي (3) قال: والخطبة الشقشقية العلوية لقوله لابن عباس لما قال له: لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت «يا ابن عباس هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرّت». 1.

ص: 133


1- ج 1 ص 369
2- ج 2 - 294.
3- ج 3 - 251.

وفي نهاية البحث عن مصادر الشقشقية، وتحقيق نسبتها لأمير المؤمنين عليه السلام أرى من الجدير بالذكر أن أقول: إن المعركة حول «نهج البلاغة» منذ أن نشبت إلى يوم الناس هذا وإن أصطبغت بصبغة أدبية في ظاهرها ولكنها مذهبية في باطنها، ونستطيع ان نقطع ان هذه الخطبة هي من أعظم الأسباب التي دعت لاثارة تلك الشكوك في (نهج البلاغة) - كما ذكرنا آنفاً - وبسبب اشتماله عليها وعلى مثيلاتها حمي وطيس تلك المعركة، واستعر أوارها، وعلا لهيبها، فهل بالامكان أن نثبت ورود شيء عن الامام عليه السلام في معنى ما تضمنته هذه الخطبة بشرط أن يكون ذلك منقولاً عن مصادر معتبرة عند أهل البحث وأرباب النظر؟

فالامام في هذه الخطبة يرى نفسه أنه أحق بمقام رسول الله من منافسيه وأنهم يعلمون ذلك، وأنه حين لم يجد من يناصره على المطالبة بحقه صبر على مضض. واعرض عن غير رضى، وان عمر إنما ساند صاحبه ليكون له نصيب في الأمر إلى آخر ما جاء في الخطبة.

فنقول: أما أنه يرى أنه أحق بالأمر من غيره فهذا شيء مستفيض عنه فمن ذلك قوله لأبي بكر لما أرادوه على البيعة: (أنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي) (1) وقوله لأبي عبيدة لما طلب اليه ان يبايع لأبي بكر: (الله الله يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وعقر بيته - إلى أن يقول - ولا تدفعوا أهله عن مقامه فوالله لنحن أحق الناس به (1) وقوله عليه السلام: (اللهم فأجزِ قريشاً عني الجوازي فقد قطعتْ رحمي وتظاهرتْ عليَّ، ودفعتني عن حقي، وسلبتني سلطان ابن أُمي، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في الاسلام إلا أن يدعي مدعٍ ما لا أعرفه) (2) وقوله عليه السلام في جواب كتاب كتبه إلى .

ص: 134


1- الامامة والسياسة 1 / 11.
2- جاء في ذلك كتاب له عليه السلام إلى أخيه عقيل نقله الثقفي في كتاب «الغارات» على ما حكاه ابن ابي الحديد في الشرح: م 1 / 150 وابو الفرج في «الأغاني» 15 - 44 وابن قتيبة في «تاريخ الخلفاء»: 1 / 53.

معاوية: (وذكرت حسدي للخلفاء، وابطائي عنهم، والكراهية لأمرهم فلست أعتذر إلى الناس من ذلك - إلى ان يقول - بل عرفت ان حقي هو المأخوذ وقد تركته لهم) (1). إلى كثير من امثال ذلك مما يطول المقام بأستيعابه.

وهناك شق الأمة من أنصاره وشيعته بما فيهم أعدال القرآن من أهل بيته، متفقون على ذلك، مجمعون على صحته، ويوافقهم عليه من الشق الثاني من لا يحصيهم عدد وفيهم من منافسيه. فعن ابن عباس قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل. وأنا على فرس فقال: أما واللهِ يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر فقلت في نفسي لا أقالني الله إن أقلته فقلت: انت تقول ذلك يا امير المؤمنين وانت وصاحبك وثبتما عليه، وافترعتما الأمر منه دون الناس؟ فقال: إليكم يا بني عبد المطلب أما إنكم أصحاب! عمر بن الخطاب! فتأخرت عنه وتقدم هنيهة فقال: سر لاسرت وقال: أعد عليّ كلامك فقلت: إنما ذكرّت شيئاً فرددتُ عليك جوابه، ولو سكتَّ سكتناً، فقال: إنا والله ما فعلنا ما فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وتر مما، قال: فأردت أن أقول كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه فينطح كبشها أفتستصغره أنت وصاحبك؟ فقال: لا جرم فكيف ترى؟ والله لا نقطع أمراً دونه، ولا نعمل شيئاً نستأذنه (2)

وقال عمر لابن عباس أيضاً: يا أبن عباس أما والله إن كان صاحبك - يعني علياً عليه السلام - أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنا خفناه على اثنتين قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بداً من مسألته عنه فقلت يا أمير المؤمنين ما هما؟ قال: حداثة سنه، وحبه بني عبد المطلب (3) ي.

ص: 135


1- انظر «جمهرة رسائل العرب» ج 1.
2- محاضرات الراغب 2 / 213.
3- نقله ابن ابي الحديد في الشرح: م 1 ص 134 عن كتاب «السقيفة» للجوهري.

وفي بعض ما نقلناه كفاية.

أما ما ذكر في الشقشقية من كونه إنما سانده ليكون له من الأمر نصيب. فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المعنى شيء كثير نكتفي بذكر واحد منه. فقد روى البلاذري قال: بعث ابو بكر عمر بن الخطاب الى علي (رضي الله عنهم) حين قعد عن بيعته وقال: له: ائتني به بأعنف العنف فلما أتاه جرى بينهما كلام، فقال: (إحلب حلباً لك شطره والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً) (1).

والواقع يؤيد هذا ويصدقه. وكيفية إدلائه بالأمر إليه معلومة لدى الخاص والعام، وفي أيامه كان هو المتنفذ فعلاً فلا يقطع أمراً دونه، ولا يعمل عملاً إلا بإذنه، روى ابن حجر العسقلاني في «الاصابة» (2) في ترجمة عيينة بن حصن عن «التاريخ الصغير» للبخاري بأسناده عن عبيدة بن عمرو قال: جاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن إلى ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها فأجابهما وكتب لهما وأشهد القوم وعمر ليس فيهم، فأنطلقا إلى عمر ليشهداه، فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه، فتذمرا له، وقالا له مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ قليل، وإنّ الله قد اعز الإسلام إذهبا فأجهدا على جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما، فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران، فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر؟ فقال لا بل هو لو شاء، فجاء عمر وهو مغضب حتى وقف على أبي بكر، فقال: أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما الأرض هي لك خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة، قال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال: استشرت الذين حولي، .

ص: 136


1- انساب الاشراف: 1 / 587 ورواه ابن قتيبة ايضاً في «تاريخ الخلفاء» 12/1 والجوهري في «السقيفة» على ما حكي عنه
2- ج 3 ص 56.

فأشاروا علىَّ بذلك، وقد قلت لك: إنك أقوى على هذا مني فغلبتني (1).

أما بقية ما جاء في الخطبة من وصف الحوزة الخشناء والعثار والاعتذار وقضية الشورى، وقيام ثالث القوم وما فعله بنو أبيه في أيامه ونهاية أمره وانثيال الناس على الامام ثم نكث بعضهم لبيعته. ومروق الخوارج. وخروج القاسطين فأمور ثابتة لا محل للريب فيها.

وبعد هذا فالخطبة عربية صرفة، فالقطب والرحى، والكور والضرع، والإبل والربيع، والنثيل والمعتلف، والحبل والغارب، وعرف الضبع وعفطة العنز كلمات لا أثر للدخيل فيها، ولا يمكن أن تقال إلا في ذلك الزمن.

وقد أخذ كل من ابن المعتز (2) وصفي الدين الحلي(3) بعض معاني هذه الخطبة فنظمها الأول في قصيدته البائية التي افتخر بها على العلويين، فقال:

كقطبِ الرحى وافَقَتْ أختها *** دعونا لها فعملْنا بها

وأُقسمُ أنكّم تعلمون *** إنَّا لها خيرُ أربابِها

وقال الثاني راداً عليه:

فهلّا تقمصَّها جدُّكُمُ *** إذا كان إذ ذاك أَحرى بَها

وما أنتَ والفحصُ عن شأنِها *** وما قمَّصوكَ بأثوابِها

فَدَعْ ذِكرَ قومٍ رضوا بالكفافِ *** وجاؤ وا الخلافةَ من بابِها

هُم قطُبُ مِلَةِ دينِ الإلِهِ *** ودورُ الرحاءِ بأقطابِها ه.

ص: 137


1- ونقل الحكاية أيضاً ابن أبي الحديد: م 3 ص 108.
2- هو عبد الله بن المعتز بن المتوكل العباسي، كان شاعراً ناثراً أديباً (على انحراف فيه عن عني عليه السلام) له شعر في غاية الرقة، اشتهر بالتشبيهات البالغة حد الاتقان، وُلي الخلافة يوماً واحداً بعدما خلع المقتدر، ولقب بالمرتضى بالله ثم لم يتم له لتغلب أنصار المقتدر على أنصاره، فخلع وسلم إلى مؤنس الخادم فخنقه وسلمه إلى أهله، فدفن في خربة إلى جنب داره سنة 296 ه.
3- هو عبد العزيز بن السرايا الحلي الشاعر الأديب المنشىء، من تلامذة المحقق الحلي، رحل الى مصر سنة 736 واجتمع بفضلائها فأعترفوا بفضله ثم عاد الى ماردين، وتوفي ببغداد سنة 750 ه.

شروح الشقشقية:

ولأهمية الشقشقية أهتم بها العلماء والأدباء إهتماماً خاصاً وشرحوها بشروح مستقلة وإليك بعضها:

1 - شرح الخطبة الشقشقية:

للسيد المرتضى علم الهدى أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي المتوفى عام (436) (1) والظاهر أن هذا الشرح أوّل شروحها المستقلة، ويحتمل أنه الف قبل صدور (نهج البلاغة).

2 - شرح الخطبة الشقشقية:

للسيد علاء الدين كلستانة محمد بن أبي تراب الحسيني الأصبهاني (2) من شرّاح (نهج البلاغة) وصاحب كتاب (نهج اليقين) وهو شرح لرسالة الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام التي كتبها إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها، والنظر فيها، وتعاهدها، والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فاذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها، والرسالة مذكورة في (روضة الكافي) ونقل مختارها الحرّاني في (تحف العقول) (3): وله (شرح خطبة همّام) التي وصف أمير المؤمنين عليه السلام بها المتقين (4).

3 - شرح الخطبة الشقشقية:

للمولى إبراهيم الجيلاني من أعاظم العلماء، يروي بالإجازة عن المجلسي، وله (شرح نهج البلاغة) في ثماني مجلدات، (وشرح الصحيفة السجادية) وحواشٍ على الكتب الأربعة، توجد هذه الكتب عند العلامة السيد شهاب الدين الحسيني النجفي نزيل قم بخط المؤلف، وقبر المولى

ص: 138


1- أعيان الشيعة: ج 41 / 195.
2- الذريعة: ج 13 ص 225. توفي السيد علاء الدين في 13 شوال سنة 1100.
3- ص 313.
4- الكنى والألقاب: ج 1 ص 477.

إبراهيم الجيلاني في مقبرة تخت فولاذ بأصفهان (1).

4 - شرح الخطبة الشقشقية:

لأبي المعالي محمد إبراهيم الكلباسي المتوفى سنة 1315 وصفه المحدث القميّ: عالم، فاضل، متبحر، دقيق، حسن التحرير، كثير التصنيف، كثير الاحتياط، شديد الورع، له مصنفات في الفقه والأصول والرجال، وله (رسالة في أصوات النساء) و (رسالة في حكم التداوي بالمسكر) و (رسالة في زيارة عاشوراء) وله (شرح الخطبة الشقشقية) وغير ذلك من الرسائل الكثيرة، توفي في صفر سنة 1315 وقبره بأصبهان مزار مشهور (2).

5 - شرح الخطبة الشقشقية:

فارسي للسيد محمد عباس التستري اللكنهوي المتوفى سنة 1306 ه ألفه بأستدعاء معتمد الدولة، مختار الملك، السيد محمد خان بهادر ضيغم جنك.

6 - شرح الخطبة الشقشقية:

لتاج العلماء السيد علي بن دلدار علي اللكهنوي المتوفى سنة 1312 ه.

7 - شرح الخطبة الشقشقية:

للشيخ هادي الساني صاحب كتاب (شرح الخطبة الزينبية).

8 - شرح الخطبة الشقشقية:

مجهول المؤلف موجود عند الاستاذ علي الخاقاني صاحب (مجلة البيان).

9 - شرح الخطبة الشقشقية:

للسيد علي الهاشمي الخطيب المعروف، والمؤلف المشهور. مخطوط 9

ص: 139


1- أعيان الشيعة: ج 6 ص 19 و ج 9 ص 339.
2- الكنى والألقاب: ج 1 ص 159 وج 3 ص 109

10 - شرح الخطبة الشقشقية:

للشاعر الأديب السيد جعفر السيد صادق العابد، نقل لي منه فصولاً جيدة.

بحث في الاشارة الى بعض طرق الخطبة ورفع الاختلاف بينها فأقول:

اعلم أنّ المستفاد من مضمون هذه الخطبة الشريفة كما هو المستفاذ من بعض طرقها الآتية أيضاً أنّه عليه السلام خطب بها في أواخر عمره الشريف وذلك بعد ما انقضى أيام خلافة المتخلفين الثلاثة وبعدما أبتلي به من قتال الناكثين والقاسطين والمارقين وهذا مما لا خفاء فيه، وأما المقام الذي خطب عليه السلام بها فيه فقد اختلفت فيه الروايات.

منها ما هي ساكتة عن تعيين المكان، مثل ما رواه العلامة الحلي طاب ثراه في كتاب كشف الحقّ ونهج الصّدق عن الحسن بن عبد الله بن عبد بن مسعود العسكري من أهل السّنة في كتاب معاني الأخبار بأسناده إلى ابن عبّاس، قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال: والله لقد تقمصّها أخوتَيْمٍ وأنّه يعلم إلى آخر ما ذكره الرّضي بتغيير يسير.

ومثلها ما رواه المحدث المجلسي في المجلد الثامن من البحار من معاني الأخبار وعلل الشّرائع للصّدوق عن ماجيلويه عن عمّه عن البرقي عن أبيه عن أبن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ذكرت الخلافة عند امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: والله لقد تقمّصها أخوتيم اه، ومن الكتابين أيضاً عن الطالقاني عن الجلودي عن أحمد بن عمّار بن خالد عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عيسى بن راشد عن عليّ بن حذيفة عن عكرمة عن ابن عبّاس مثله، ومن أمالي الشّيخ عن الحفّار عن أبي القاسم الدّعبلي عن أبيه عن أخي دعبل عن محمد بن سلامة الشّامي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام، والباقر، عن ابن عبّاس، قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال: والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وذكر نحوه بأدنى تغيير.

ص: 140

ومنها ما هي دالة على أنّه عليه السلام خطب بها في منبر مسجد الكوفة وهو ما رواه المحدث المجلسي طاب ثراه في المجلد الرّابع عشر من البحار من بعض مؤلفات القدماء عن القاضي أبي الحسن الطبري عن سعيد بن يونس المقدسي عن المبارك عن خالص بن أبي سعيد عن وهب الجمال عن عبد المنعم ابن سلمة عن وهب الرائدي عن يونس بن ميسرة عن الشّيخ المعتمر الرّقي رفعه إلى أبي جعفر ميثم التمار، قال: كنت بين يدي مولاي أمير المؤمنين عليه السلام إذ دخل غلام وجلس في وسط المسلمين، فلما فرغ عليه السلام من الأحكام نهض إليه الغلام، وقال يا أبا تراب: أنا إليك رسول جئتك برسالة تزعزع الجبال، من رجل حفظ كتاب الله من أوله إلى آخره وعلم علم القضايا والأحكام وهو أبلغ منك في الكلام وأحقّ منك بهذا المقام، فأستعدّ للجواب ولا تزخرف (1) المقال، فلاح الغضب في وجه امير المؤمنين عليه السلام، وقال لعمار: اركب جملك وطف في قبائل الكوفة وقل لهم اجيبوا عليّاً ليعرفوا الحقّ من الباطل والحلال والحرام والصّحة والسّقم، فركب عمّار فما كان إلا هنيئة حتى رأيت العرب كما قال الله تعالى:

(إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (2) فضاق جامع الكوفة وتكاثف النّاس تكاثف الجراد على الزّرع الغض(3) في أوانه، فنهض العالم الأردع (4) والبطل الأنزع ورقى في المنبر وراقى ثم تنحنح فسکت جميع من في الجامع، فقال عليه السلام: رحم الله من سمع فوعى، أيّها النّاس يزعم أنّه أمير المؤمنين والله لا يكون الإمام إماماً حتى يحيي الموتى أو ينزل من السّماء مطراً أو يأتي بما يشاكل ذلك ممّا يعجز عنه غيره وفيكم من يعلم أنّي الآية الباقية والكلمة التامّة والحجّة البالغة ولقد أرسل إليَّ معاوية جاهلاً من جاهليّة ).

ص: 141


1- أي: لا تكذب المقال (منه)
2- يس - 53.
3- أي الطري الأخضر (منه).
4- الأردع من الرجال من يعجبك حسنه (منه).

العرب عجرف (1) في مقاله وأنتم تعلمون لو شئت لطحنت عظامه طحناً ونسفت (2) الأرض من تحته نسفاً، وخسفتها عليه خسفاً إلّا أنّ احتمال الجاهل صدقة.

ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشار بيده إلى الجوّ فدمدم (3)، وأقبلت غمامة وعلت سحابة وسمعنا منها إذاً يقول: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ويا سيّد الوصييّن، ويا إمام المتّقين ويا غياث المستغيثين، ويا كنز المساكين ومعدن الرّاغبين، وأشار إلى السّحابة فدنت، قال ميثم: فرأيت الناس كلهم قد أخذتهم السّكرة، فرفع رجله وركب السّحابة، وقال لعمّار: اركب معي وقل: بسم الله مجريها ومرسيها، فركب عمّار وغابا عن أعيننا، فلما كان بعد ساعة أقبلت السّحابة حتى أظلت جامع الكوفة، فاذا مولاي جالس على دكة القضاء وعمّار بين يديه والنّاس حافّون به، ثم قام وصعد المنبر وأخذ الخطبة المعروفة بالشّقشقية، فلما فرغ اضطرب النّاس، وقالوا فيه أقاويل مختلفة، فمنهم من زاده الله ايماناً ويقيناً، ومنهم من زاده كفرا وطغياناً.

قال عمار: وقد طارت بنا السّحابة في الجوّ فما كانت هنيئة حتّى أشرفنا إلى بلد كبير حواليه أشجار وأنهار، فنزلت بنا السّحابة وإذا نحن في مدينة كبيرة والنّاس يتكلمون بكلام غير العربيّة فاجتمعوا عليه ولاذوا به فوعظهم وأنذرهم بمثل كلامهم، ثم قال: يا عمّار اركب ففعلت ما امرني فأدركنا جامع الكوفة، ثم قال عليه السلام لي: يا عمّار، تعرف البلدة التي كنت فيها؟ قلت: الله اعلم ورسوله ووليّه قال عليه السلام كنّا في الجزيرة السّابعة من الصّين أخطب كما رأيتني إنّ الله تبارك وتعالى أرسل رسوله إلى كافّة النّاسِ وعليه أن يدعوهم ويهدي المؤمنين منهم إلى الصّراط المستقيم، وأشكر ما .

ص: 142


1- العجرفة الخرق وقلة المبالاة (بحار).
2- أي قلعت (م).
3- يقال دمدم عليه اي كلمه غاضباً، (بحار).

أوليتك من نعمة، واكتم من غير أهله فإنّ الله تعالى ألطافاً خفيّة في خلقه لا يعلمها إلّا وهو من ارتضى من رسول.

ثم قالوا: أعطاك الله هذه القدرة وأنت تستنهض الناس لقتال معاوية، فقال عليه السلام: إنّ الله تعبّدهم بمجاهدة الكفار والمنافقين والنّاكثين والقاسطين والمارقين، والله لو شئت لمددت يدي هذه القصيرة في ارضكم هذه الطويلة وضربت بها صدر معاوية بالشّام، وأخذت بها من شاربه أو قال من لحيته، فمدّ يده وردّها وفيها شعرات كثيرة، فتعجبوا من ذلك، ثم وصل الخبر بعد مدّة إن معاوية سقط من سريره في اليوم الذي كان عليه السلام مدّ يده وغشي عليه ثم أفاق وافتقد من شاربه ولحيته شعرات.

وقد ذكرت الرّواية بتمامها إذ فيها قرّة عين للشّيعة فهنيئاً لهم ثم هنيئاً بما خصّهم الله به من موالاة صاحب المناقب الفاخرة والمعجزات القاهرة.

ومنها ما هي مفيدة لكونه عليه السلام خاطباً بها في الرّحبة، مثل ما رواه الطبرسي في الاحتجاج قال: وروى جماعة من أهل النّقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال: كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام بالرّحبة فذكرت الخلافة وتقدّم من تقدّم عليه، فتنفس الصّعداء ثم قال: أما والله لقد تقمصّها وذكر قريباً ممّا رواه الرّضي، ومثله ما رواه في البحار من إرشاد المفيد قال روى جماعة إلى آخر ما ذكره في الاحتجاج إلّا أن فيه وتقديم من تقدّم، وأم والله بدل أما. وفي البحار أيضاً عن الشيخ قطب الدّين الرّاوندي قدّس سرّه في شرحه على نهج البلاغة بهذا السّند، أخبرني الشيخ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم عن الحاجب أبي الوفاء محمد بن بديع والحسين أبن احمد بن عبد الرّحمن عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الاصفهاني عن سليمان بن أحمد الطبراني عن أحمد بن علي الابار عن إسحاق بن سعيد أبي سلمة الدّمشقي عن خليد بن دعلج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: كنا مع علي (علیه السلام) بالرحبة فجرى ذكر الخلافة ومن تقدم عليه فيها، فقال أما والله لقد تقمصها فلان إلى آخر الخطبة.

ص: 143

هذه جملة ما عثرت عليها من طرق الخطبة وإسنادها ويمكن الجمع بين مختلفها بأن يكون عليه السلام قد خطب بها تارة بالرّحبُة واخرى بمنبر الكوفة والله العالم.

ص: 144

شرح الخطبة

واذا تمهّدت لك هذه المقدمات فلنشرع في شرح كلامه عليه السلام بتوفيق من الله سبحانه فأقول: وشرحها في ضمن فصول.

الفصل الأول

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً.

(أما والله لقد تقمصها ابن ابي قحافة) يقال قمّصه قميصاً البسه فتقمّص هو و (قحافة) بضمّ القاف وتخفيف الحاء. (أما) حرف تنبيه تدل على تحقيق ما بعدها مثل ألا، ولكونها مفيدة للتحقيق لا تقع الجملة بعدها إلّا مصدّرة بالقسم قال الشّاعر:

أما والذي أبكى وأضحك والذي *** أمات وأحيا والذي امرّه الأمرُ

والضّمير في تقمّصها راجع الى الخلافة المستفادة بقرينة المقام كما في قوله تعالى: (حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (1)

ص: 145


1- سورة «ص» 32.

أي الشمس أو المصرح بها ... ومثله الضمائر الثلاثة بعدها ...

والمعنى: انه لبس الخلافة مثل القميص أبن أبي قحافة، وأشار به إلى ابي بكر (1) الذي كان أول مغتصب للخلافة من الامام (علیه السلام) ...ر.

ص: 146


1- واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن کعب بن سلام بن تيم بن مرة، وامّه سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، وفي بعض الكتب أنّ أسمه في الجاهليّة عبد العزّى فغيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى عبد الله قال في القاموس: اسمه عتيق سمتّه به أمّه أو لقب له، وفي التعبير عنه بهذا اللفظ دون الألقاب المادحة دلالة على الاستخفاف، كتعبيره عن الثاني فيما سيأتي بابن الخطاب. وما تكلفه قاضي القضاة في دفع دلالته عليه بأنّه قد كانت العادة في ذلك الزّمان أن يسمّى أحدهم صاحبه ويكنيه ويضيفه إلى ابيه حتّى كانوا ربّما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا محمّد فليس في ذلك دلالة على الاستخفاف ولا على الوضع. فقد أجاب عنه السيّد (رحمه الله) في محكي الشّافي بأنّه ليس ذلك صنع من يريد التعظيم والتبجيل، وقد كانت لأبي بكر عندهم من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه، وقوله: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينادي بأسمه فمعاذ الله ما كان ينادي باسمه إلّا شاكّ أو جاهل من ظعام «طعان ظن» العرب، وقوله: إنّ ذلك عادة العرب فلا شك أن ذلك عادتهم فيمن لا يكون له من الألقاب أفخمها وأعظمها كالصّديق ونحوه. وقال المحدث (المجلسي (قده) في ترجمة أبي بكر: اعلم أنّه لم يكن له نسب شريف ولا حَسَبٌ منيف، وكان في الاسلام خيّاطاً وفي الجاهليّة معلّم الصّبيان ونعم ما قيل: كفى المرءُ نقصاً أنْ يُقال لهُ *** معلّمُ صبيانٍ وإنْ كان فاضلاً وكان أبوه سيىء الحال ضعيفاً وكان كسبه أكثر عمره من ... القماري والدباسي لا يقدر على غيره، فلمّا عمي وعجز أبنه عن القيام به التجأ إلى عبد الله بن جذعان من رؤساء مكة فنصبه ينادي على ما ئدته كلّ يوم لاحضار الأضياف وجعل له على ذلك ما يعونه من الطعام وذكر ذلك جماعة منهم الكلبي في كتاب المثالب على ما أورده في الصّراط المستقيم، ولذا قال أبو سفيان لعلي عليه السلام بعد ما غصب الخلافة أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيميّ رذل. روى ابن حجر في صواعقه فقال: وأخرج الحاكم أنّ أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه، قال: هل رضي بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: اللهمّ لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت، قالت فاطمة عليها السلام في بعض كلماتها: إنّه من اعجاز قريش وأذنابها، وقال بعض الظرفاء: بل من ذوي أذنابها، وقال صاحب إلزام النّواصب: اجمع النسابون أنّ أبا قحافة كان جرّاً لليهود، والعجب أنّهم مع ذلك يدّعون أن الله اغنى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمال أبي بكر.

ومن طريف ما يذكر في المقام ما ذكره صاحب الاحتجاج: روي ان أبا قحافة كان بالطائف لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبويع لأبي بكر، فكتب إلى أبيه كتاباً عنوانه من خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبيه أبي قحافة أمّا بعد فإنّ النّاس قد تراضوا بي فأنّي اليوم خليفة الله فلو قدمت علينا كان أحسن بك، قال: فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرّسول: ما منعكم من علي عليه السلام؟ قال الرّسول: هو حدث السّن وقد أكثر القتل في قريش وغيرها وأبو بكر أسنّ منه، قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسّن فأنا أحقّ من أبي بكر، لقد ظلموا عليّاً حقّه وقد بايع له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمرنا ببيعته ثم كتب إليه: من أبي قحافة الى أبي بكر أمّا بعد، فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضاً، مرّة تقول: خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومرّة تقول: تراضى بي النّاس، وهو امر ملتبس فلا تدخلنّ في امر يصعب عليك الخروج منه غداً ويكون عقباك منه إلى النّدامة وملامة النّفس اللوامة لدى الحساب يوم القيامة، فإنّ للأمور مداخل ومخارج وأنت تعرف من هو أولى بها منك، فراقب الله كأنّك تراه ولا تدعنّ صاحبها، فإنّ تركها اليوم اخف عليك وأسلم لك. (وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى) قطب الرحى، مثلثة وكعنق: الحديدة التي تدور عليها الرحى وجملة «انه ليعلم» جملة حالية اي حالة كونه عالماً باني منها كقطب الرحى.

ثمّ إنّه عليه السلام لمّا ذكّر تلبّسه بالخلافة أراد التّنبيه على عدم استحقاقه بذلك اللّباس، ونبّه على بطلان خلافة المتقمّص بذكر مراتب كماله الدّالة على أفضليّته المشيرة إلى قبح تفضيل المفضول والعدول عن

ص: 147

الأفضل، فقال: (وإنّه ليعلم أن محلّي منها) أي من الخلافة (محل القطب من الرّحى) شبّه عليه السلام نفسه بالقطب والخلافة بالرّحى ومحلّه الخلافة بمحل القطب من الرّحى، والأوّل من قبيل تشبيه المحسوس بالمحسوس، والثاني من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، والثّالث من قبيل تشبيه المعقول بالمعقول، والمقصود أن الأثر المطلوب من الرّحى كما لا يحصل إلّا بالقطب ولولاه لم يحصل لها ثمر قط كذلك الثمرة المطلوبة من الولاية والخلافة أعني هداية الأنام وتبليغ الأحكام ونظام امور المسلمين وانتظام أمر الدّنيا والدّين، لا تحصل إلّا بوجوده عليه السلام فتكون الخلافة دائرة مدار وجوده كما أنّ الرّحى دائرة مدار القطب، ففيه أشارة إلى عدم إمكان قيام غيره مقامه، وإغنائه غناه كما لا يقوم غير القطب مقامه ولا يغني عنه.

وإنّما أنا قطب الرّحى تدور عليّ وأنا بمكاني فاذا فارقته استدار مدارها واضطرب ثقالها، ومنه يظهر أنّ ما ذكره ابن ابي الحديد من أنّ مراده عليه السلام بهذا الكلام هو أنّه من الخلافة في الصّميم وفي وسطها وبحبوحتها كما أنّ القطب وسط دائرة الرّحى مع كونه خلاف الظاهر ليس على ما ينبغي هذا.

وفي إتيان قوله: (وإنّه ليعلم) مؤكداً بأن واللام، دلالة على منتهى المبالغة في الطعن عليه لدلالته على أنّ تقمّصه بالخلافة لم يكن ناشئاً عن الجهالة والغفلة عن مرتبته عليه السلام حتى يكون جاهلاً قاصراً معذوراً فيه ومعفواً عنه، بل قد تقمّص بها مع علمه بأنّ مدارها عليه وانتظامها به فيكون تقمّصه بها مع وجود ذلك العلم ظلماً فاحشاً وغصباً بيّناً. (ينحدر مني السيل) والجملة استئنافية. ثم إنّه عليه السلام أشار إلى علوّ مقامه وسموّ مكانه بقوله (ينحدر عني السيل) تشبيهاً لنفسه بذروة الجبل المرتفع فأستعار له ما هو من أوصاف الجبل وهو السيل المنحدر عنه الى الغيظان، ولعل المراد بالسّيل المنحدر عنه عليه السلام هو علومه وحكمه الواصلة الى العباد والفيوضات الجارية منه عليه السلام على المواد

ص: 148

القابلة وتشبيه العلم بالماء والسّيل من الطف التشبيهات ووجه الشبه هو اشتراكهما في كون احدهما سبب حياة الجسم والآخر سبب حياة الرّوح، وقد ورد مثل ذلك التّشبيه في الكتاب العزيز قال تعالى:

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (1). ث

م إنه عليه السلام ترقى في الوصف بالعلو واكد علو شأنه ورفعة مقامه بقوله: (ولا يرقى إليَّ الطير) فإن مرقى الطير أعلى من منحدر السّيل فكيف ما لا يرقى إليه كأنه قال: انّي لعلوّ منزلتي كَمن في السّمآء التي يستحيل أن يرقى الطير اليها قال الشاعر:

مكارمٌ لجّتْ في علوٍّ كأنّما *** تحاولُ ثأراً عندَ بعضِ الكَواكبِ

ولعلّه عليه السلام أراد بعدم رقي الطير إليه عجز طائر الأوهام عن الوصول إلى مقاماته الجليلة، وقصور العقول عن الأحاطة بمناقبه الجميلة من حيث عدم انتهائها بعدّ وعدم وقوفها إلى حدّ، قال تعالى:

(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2).

(فسدلت دونها ثوباً) يقال: سدل الثوب ويسدله: أرسله وأرخاه فكنى عليه السلام بعد ان بيّن ان الخلافة اغتصبت منه، بأعراضه عنها ويأسه منها بانه ضرب بينه وبينها حجاباً، فكنى بأسدال الثواب عن الحجاب الذي فرضه على نفسه وذلك فعل الزاهد فيها والراغب عنها ...

(طويت عنها كشحاً) الكشح: ما بين الخاصرة الى اقصر الاضلاع، يقال: طوى فلان كشحه، أي: أعرض كشحاً، ومراده (علیه السلام): انه اعرض عن الخلافة ويئس منها مهاجرا عنها، وقيل: إن المراد، إني 7.

ص: 149


1- الملك - 30.
2- لقمان - 27.

أجعت نفسي عنها ولم ألقمها لأن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل وشبع فقد ملأ كشحه ... (و) لما رأيت الخلافة. في يد مَنْ لم يكن أهلاً لها (طفقت أرتأي) يقال: طفق في كذا أي: شرع وأخذ (وارتأى) في الأمر اذا فكر طلباً للرأي الاصلح وافتعل من روية القلب، ومراده (علیه السلام): اني اخذت وشرعت ارتأي في الأمر وافكر في طلب الأصلح وأجيل الفكر في تدبير امر الخلافة واردده (بين) امرين احدهما (أن أصول) صال يصول صولة، وهي الوثبة والحملة، اي احمل عليهم وأقاتلهم (بيد جذّاء) بالجيم والذال المعجمة، أي مقطوعة مكسورة حملته عليهم واعلان الحرب بلا معاون ولا ناصر، واستعار وصف الجذاء لعدمهما المشابهة أن قطع اليد كما أنّه مستلزم لعدم القدرة على التّصرف بها والصّيال، فكذلك عدم المعين والناصر مستلزم لذلك قال في النّهاية في حديث علي عليه السلام (أصول بيد جذّاء) كنّى به عن قصور أصحابه وتقاعدَهم عن الغزو، فإنّ الجند للأمير كاليد ويروى بالحاء المهملة وفسّره في موضعه باليد القصيرة التي لا تمدّ إلى ما يراد، قال وكأنّها بالجيم أشبهه.

وثانيهما: الصبر على معاينة الخلق على شدة وجهالة وضلالة وهو المراد بقوله: (أو أصبر على طخية عمياء) و «أو» في قوله (أو أصبر) بمعنى الواو، لاقتضاء كلمة بين ذلك لأن العطف بعدها لا تقع إلا بواو الجمع، يقال: جلست بين زيد وعمرو ولا يقال أو عمرو، وفي بعض النسخ وأصبر، مكان أو أصبر.

الطخية بالضم، على ما في اكثر النسخ أو بالفتح الظلمة أو الغيم وفي القاموس الطخية الظلمة ويثلث (العمياء) تأنيث الأعمى يقال مفازة عميآء أي لا يهتدي فيها الدّليل، اي على ظلمة والتباس الأمور بمعنى أنّه لا يهتدي فيه السالك إلى سلوك طريق الحقّ بل يأخذ يميناً وشمالاً، وإلى هذه الظلمة اشيرت في قوله تعالى:

(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ

ص: 150

سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (1).

وقد فُسِّرَتِ الظلمات في الأخبار بخلافات الثلاثة، ثم أشار عليه السلام إلى طول مدة هذه الطخية بأنه (يهرم فيها الكبير) و (هرم) كفرح أي بلغ أقصى الكبر. والمراد: إن من ويلات هذه الفتنة وشدتها وظلمتها وما تجري فيها من احداث سوف يبلغ الكبير أقصى الكبر (و) عطف على الجملة السابقة، (يشيب فيها الصغير) والشيب بياض الشعر، والمقصود من قوله: يبيض رأسه ويحتمل أن يراد بهما المجاز والتوسع بمعنى أن أيام اغتصاب الخلافة لشدّة صعوبتها وكثرة أهوالها يكاد أن يهرم الكبير فيها ويشيب الصغّير قال تعالى:

(يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) (2).

(ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه) والكدح: السعي، يقال: كدح في العمل كمنح سعى وعمل لنفسه خيراً وشراً ... ومراده (علیه السلام): يسعى المؤمن المجتهد في الذب عن الحق والأمر بالمعروف ويكدّ ويقاسي الأحزان والشدائد حتى يموت ويلقى ربه ... ثم إنه عليه السلام لما ذكر تردده بين القتال والصبر أشار الى ترجيحه الصبر على القتال بقوله (علیه السلام): (فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى). والحجى بمعنى أجدر وأولى وأحق من قولهم: حجى بالمكان إذا قام. أو أقرب بالحجى وهو العقل، أي أليق بالعاقل أو أقرب الى العقل بأن أصبر، لا أن أقاتل وذلك لأن ترك الخلق على الضلالة والجهالة وإبقاءهم على الغي والغفلة إنّما يقبح مع الاستطاعة والقدرة ويلزم معهما ردعهم عن الباطل ونهيهم عن المنكر وإرجاعهم إلى الصّراط المستقيم والنّهج القويم ولو بالقتال والصيّال، وأمّا مع عدم التمكن والقدرة من حيث عدم المعاون والنّاصر فلا يلزم شيء من 7.

ص: 151


1- النور - 40.
2- المزمل - 17.

ذلك، بل يجب التّحمل والصّبر حذراً من إلقاء النّفس في التهلكة وتعريضها على العطب واستئصال آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيّما وأنّ مقصوده عليه السلام من الخلافة لم يكن إلّا هداية الأنام وإعلاء كلمة الاسلام. وإثارة الحرب والجدال إذا كانت موجبة لاضطراب نظام المسلمين، بل مؤدّية إلى رجوع النّاس إلى أعقابهم القهقرى واضمحلال كلمة الاسلام لغلبة الأعداء فلا يحكم العقل حينئذٍ إلّا بالكفّ عن الجهاد والصّبر على البلاء والتحمل على الاذى كيلا يلزم ضدّ المقصود ولانقض الغرض (فصبرت) والحال إنّ (في العين قذى) والقذى: ما يقع في العين وفي الشراب ايضاً من نتن أو تراب أو وسخ. أي: انني اصبر ولو أن في العين قذى يوجب أذيتها كما يصبر الرجل الأرمد ... (وفي الحلق شجى) والشجى: ما اعترض في الحلق ونشب من عظم ونحوه، والمعنى وأصبر كما يصبر المكابد للخنق، والجملتان كنايتان عن شدّة تأذيه بسبب اغتصاب ما يرى أنّه أولى به من غيره.

(أرى تراثي) وفي بعض الروايات (تراث محمد وآله)، والتراث هو: ما يخلفه الرجل لورثته، والتاء فيه بدل من الواو (نهبا) السلب والغارة والغنيمة، والمراد بتراثه المنهوب المسلوب إما فدك الذي خلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إرثاً الى سيدة نساء العالمين فاطمة، وإما الخلافة التي أوصى بها (صلی الله علیه و آله و سلم) له ... وهنا سؤال يطرح نفسه هل الامام (علیه السلام) على علم بحصول الفتن والاضطرابات وكل ما أنبأ به في هذا الفصل، وهل هو قادر على ذلك حقاً؟ والجواب نتركه لأبي بكر الصديق الخليفة الأول ماذا سيقول؟!

ويدل على علمه بذلك ما رواه في الاحتجاج عن عامر الشعبي عن عروة بن الزّبير عن الزّبير بن العوام قال: لمّا قال المنافقون: إن أبا بكر تقدّم عليّاً وهو يقول أنا أولى بالمكان منه، قام أبو بكر خطيباً فقال: صبراً على من ليس يؤول الى دين ولا يحتجب برعاية ولا يرعوي لولاية، أظهر الايمان ذلة واسر النّفاق غلة هؤلاء عصبة الشّيطان وجمع الطغيان

ص: 152

يزعمون أنّي أقول إنّي أفضل من علىّ وكيف أقول ذلك وما لي سابقته ولا قرابته ولا خصوصيته، وَوَحَّدَ الله وَأَنَا مُلْحدُهُ وَعَبَدَ الله قبل أن أعبده وَوَالَى الرّسولَ وأنا عدوّه، و سابقني بساعات لم ألحق شأوه ولم أقطع غباره، إنّ أبن أبي طالب فاز والله من الله بمحبة، ومن الرّسول بقربة ومن الايمان برتبة. لو جهد الأوّلون والآخرون إلّا النّبيون لم يبلغوا درجته ولم يسلكوا منهجه.

بذل في الله مهجته ولابن عمّه مودّته، كاشف الكرب ودامغ الرّيب وقاطع السّبب إلّا سبب الرّشاد وقامع الشّرك، ومطهر ما تحت سويداء حبّة النّفاق محنة لهذا العالم، لحق قبل أن يلاحق وبرز قبل أن يسابق، جمع العلم والحلم والفهم فكان جميع الخيرات لقلبه كنوزاً لا يدّخر منها مثقال ذرة إلّا انفقه في بابه فمن ذا يؤمّل أن ينال درجته، وقد جعله الله ورسوله للمؤمنين وليّاً وللنبيّ وصيّاً وللخلافة راعياً وبالامامة قائماً، أفيعثر الجاهل بمقام قمته إذا أقامني وأطعته اذا امرني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ من أطاع عليّاً رشد ومن عصى عليّاً فسد، ومن أحبّه سعد، ومن أبغضه شقي، والله لو لم يُحبّ ابن أبي طالب إلّا لأجل أنّه لم يواقع لله محرّماً ولا عبد من دونه صنماً ولحاجة الناس اليه بعد نبيهم، لكان في ذلك ما «مماخ» يجب، فكيف لأسباب أقلها موجب وأهونها مرغب، للرّحم الماسة بالرّسول والعلم بالدقيق والجليل والرّضا بالصبر الجميل والمواساة في الكثير والقليل. و خلال لا يبلغ عدّها ولا يدرك مجدها ود المتمنون أن لو كانوا تراب أقدام ابن أبي طالب، أليس هو صاحب لواء الحمد والسّاقي يوم الورود وجامع كل كريم وعالم كل علم والوسيلة إلى الله وإلى رسوله.

وقد تسأل: اذا كان ابو بكر يعترف بأفضلية علي بالخلافة من حيث سبقه للاسلام وقرابته لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويقر بأنه الوصي والولي والراعي والامام، وبأنه أعلم وأتقى وأورع أهل العصر، فإذا كان كذلك

ص: 153

فلماذا نصّب نفسه خليفة بوجود الامام؟

والجواب سهل وبسيط: وهو حب الدنيا وحب الرئاسة ذلك الحب الذي يعمي البصيرة، فيحيد محبها عن جادة الحق وينحرف، طمعاً بالدنيا، وانجراراً وراء زخارفها، تلك التي لا تساوي عفطة عنزٍ عند إمامنا امير المؤمنين علي (علیه السلام) ...

أما كيف حصل ذلك؟ فإليك القصة:

فنقول: روى الشّيخ أبو منصور احمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن ابي المفضّل محمد بن علي الشيباني باسناده الصّحيح عن رجال ثقة عن ثقة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في مرضه الذي توفّي فيه إلى الصّلاة متوكئاً على الفضل بن عبّاس وغلام له يقال له: ثوبان، وهي الصّلاة التي أراد التّخلف عنها لثقله ثم حمل على نفسه صلى الله عليه واله وسلم وخرج، فلما صلّى عاد الى منزله فقال لغلامه: اجلس على الباب ولا تحجب أحداً من الأنصار وتجلاه الغشي فجاء الأنصار فأحدقوا بالباب وقالوا: إئذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هو مغشيّ عليه وعنده نساؤه، فجعلوا يبكون، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البكاء فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأنصار، فقال: من ههنا من أهل بيتي؟ قالوا: عليّ والعباس فدعاهما، وخرج متوكئاً عليهما فأستند الى جذع (1) من أساطين مسجده وكان الجذع جريد نخل فأجتمع الناس وخطب صلى الله عليه وآله وسلم وقال في كلامه: أنّه لم يمت نبي قط إلّا خلّف تركة وقد خلّفت فيكم الثّقلين: كتاب الله وأهل بيتي، ألا فمن ضيّعهم ضيّعه الله، ألا وإنّ الأنصار كرشي (2) وعيبتي التي آوي إليها، وإنّي أوصيكم بتقوى الله والاحسان إليهم، فأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم..

ص: 154


1- بالكسر ساق النخلة (ق).
2- كرش الرجل عياله وصغار ولده والعيبة من الرجل موضع سره (لغة).

ثمّ دعا أسامة (1) بن زيد وقال: على بركة الله والنّصر والعافية حيث أمرتك بمن أمّرتك عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمّره على جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وجماعة من المهاجرين الأولين، وأمره أن يعبروا «يغبروا خ ل» على مؤتة (2) وادٍ من فلسطين، فقال اسامة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله اتأذن لي في المقام أيّاماً حتى يشفيك الله، فإنّي متى خرجت وانت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي منك قرحة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنفذ يا أسامة لما أمرتك، فإن القعود عن الجهاد لا نحب في حال من الأحوال، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ النّاس طعنوا في عمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بلغني انكم طعنتم في عمل اسامة وفي عمل أبيه من قبل، وأيم الله إنّه لخليق للامارة وإنّ أباه كان خليقاً لها وإنّه لمن أحبّ النّاس إليّ، فأوصيكم به خيراً فلئن قلتم في امارته فقد قال قائلكم في امارة أبيه.

ثمّ دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته وخرج اسامة من يومه حتى عسكر على رأس فرسخ من المدينة ونادى منادٍ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن لا يتخلف عن اسامة أحد ممّن أمّرته عليه، فلحق النّاس به، وكان أول من سارع إليه أبو بكر وعمرو أبو عبيدة بن الجرّاح، فنزلوا في زقاق (3) واحد مع جملة أهل العسكر.

قال: وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل النّاس ممّن لم .

ص: 155


1- اسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى الكلبي. وأمه: أم أيمن حاضنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان يكنى: أبا محمد، وكان يسمى حب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) واستعمله النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو ابن ثماني عشرة سنة. ولم يبايع أسامة الأمام علياً (علیه السلام) ولا شهد معه شيئاً من حروبه. وكان أسامة أسود أفطس. وتوفي في آخر أيام معاوية سنة ثمانٍ أو تسع وخمسين.
2- موضع قتل فيه جعفر بن أبي طالب، (منه).
3- الزقاق كغراب السكة من الطريق المنسد (ق).

يكن في بعث اسامة يدخلون عليه إرسالاً (1) وسعد بن عبادة شاك (2) فكان لا يدخل أحد من الأنصار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلّا انصرف الى سعد يعوده.

قال: وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقت الضّحى من يوم الاثنين بعد خروج اسامة إلى معسكره بيومين، فرجع أهل العسكر والمدينة قد رجفت بأهلها، فأقبل أبو بكر على ناقة له حتّى وقف على باب المسجد: فقال: أيّها النّاس ما لكم تموجون إن كان محمّد قد مات فربّ محمد لم يمت.

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) (3)

ثم اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة (4) وجاذبه إلى سقيفة بني .

ص: 156


1- اي جماعات متتابعين (منه).
2- الشوكة داء معروف وحمرة تعلو الجسد (ق).
3- آل عمران - 144.
4- سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الانصاري الساعدي. يكنى أبا قيس. وكان نقيب بني ساعدة عند جميعهم وشهد بدراً. وكان سيداً جواداً. وهو صاحب راية الانصار في المشاهد كلها. وكان وجيهاً فيهم وذا رياسة وسيادة يعترف قومه له بها، وكان يحمل إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كل يوم جفنة مملوءة ثريداً ولحماً تدور معه حيث دار وفي سعد بن عبادة وسعد بن معاذ جاء الخبر أن قريشاً سمعوا صائحاً يصيح ليلًا على أبي قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد *** بمكة لا يخشى خلاف مخالف قال: فظنت قريش انه يعني سعد بن زيد مناة وسعد بن هذيم. فسمعوا الليلة الثانية قائلا: أيا سعد سعد الأوس كن ناصراً *** ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا *** على الله في الفردوس منية عارف وإن ثواب الله للطالب الهدى *** جنان من الفردوس ذات زخارف ولم يبايع سعداً أبا بكر ولا عمر وسار الى الشام فأقام بحوران إلى أن قتل سنة خمس عشرة وقيل قتله خالد بن الوليد غدرا.

ساعدة فلما سمع بذلك عمر بذلك عمر أخبر به أبا بكر ومضيا مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجرّاح وفي السّقيفة خلق كثير من الأنصار وسعد بن عبادة بينهم مريض، فتنازعوا الأمر بينهم فآل الأمر إلى ان قال أبو بكر في آخر كلامه للأنصار: إنّما أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجرّاح أو عمر وكلاهما قد رضيت لهذا الأمر وكلاهما أراه له أهلاً، فقال أبو عبيدة، وعمر: ما ينبغي لنا أن نتقدمك يا أبا بكر أنت أقدمنا اسلاماً وأنت صاحب الغار وثاني اثنين فأنت احقّ بهذا الأمر وأولانا به، فقالت الأنصار نحذر ان يغلب على هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم فنجعل منّا أميراً ومنكم أميراً ونرضى به على أنّه إن هلك اخترنا آخر من الأنصار، فقال أبو بكر بعد أن مدح المهاجرين: وأنتم يا معاشر الأنصار ممّن لا ينكر فضلهم ولا نعمتهم العظيمة في الاسلام، رضيكم الله انصاراً لدينه ولرسوله وجعل اليكم مهاجرته وفيكم محلّ أزواجه، فليس أحد من النّاس بعد المهاجرين الأوّلين بمنزلتكم فهم الأمراء وانتم الوزراء.

فقال الحباب بن المنذر الأنصاري: يا معشر الأنصار املكوا (1) على ايديكم فإنّما النّاس في فيئكم وظلالكم ولن يجترى مجترىء على خلافكم ولن تصدر النّاس إلّا عن رأيكم، وأثنى على الأنصار، ثم قال: فإن أبى هؤلاء تأميركم عليهم فلسنا نرضى بتأميرهم علينا ولا نقنع بدون أن يكون منّا أمير ومنهم أمير.

فقام عمر بن الخطاب فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد (2) واحد أنّه لا ترضى العرب أن تأمركم ونبيها من غيركم لكنّ العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النّبوة فيهم وأولو الأمر منهم، وكنا بذلك ).

ص: 157


1- يقال املك عليك لسانك أي لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك (نهاية).
2- الغمد بالكسر جفن السيف وهي غلافه (لغة).

على من خالفنا الحجّة الظاهرة والسّلطان البيّن فما ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته إلّا مدلٍّ بباطل أو متجانف (1) بإثم أو متورّط في الهلكة محبّ للفتنة.

فقام الحباب بن المنذر ثانية فقال: يا معشر الأنصار امسكوا على ايديكم لا تسمعوا مقال هذا الجاهل وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، وإن أبوا أن يكون امير وأمير فأجلوهم عن بلادكم وتولوا هذا الأمر عليهم فأنتم والله أحقّ به منهم فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها وأنا جذيلها (2) المحكّك وعذيقها المرجب (3) والله لئن ردّ أحد قولي لأحطمنّ أنفه بالسّيف.

قال عمر بن الخطاب: فلما كان حباب هو الذي يجيبني لم يكن لي معه جواب «في كلام خ م» فإنه جرت بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مهاترته (4) فحلفت أن لا أكلمه أبداً.

ثم قال عمر: لأبي عبيدة: تكلم؛ فقام أبو عبيدة بن الجراح وتكلم بكلام كثير وذكر فيه فضائل الأنصار وكان بشير بن سعد سيّداً من سادات ً.

ص: 158


1- الجنف محركة كالجنوف بالضم الميل عن الحق والجانف المايل (ق).
2- الجذل واحد الأجذال وهو اصول الحطب العظام ومنه قول حباب بن المنذر أنا جذيلها المحكك والمجاذل المنتصب مكانه لا يبرح شبه بالجذل الذي ينصب في المعاطن لتحتك به الابل الجربي أراد أنه يستغني برأيه وتدبيره (صحاح).
3- في حديث السقيفة أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الرجبة ان تعمد النخلة الكريمة ببناء من حجارة أو خشب اذا خيف عليها لطولها وكثرة حملها ان تقع ورجبتها فهي مرجبة والعذيق تصغير العذق بالفتح وهي النخلة وهو تصغير تعظيم وقد يكون ترجيبها بأن يجعل حولها شوك لئلا يرتقي اليها «النهاية» وترجيبها ضم اعذاقها الى سعفاتها وشدها بالخوص لئلا تنفضها الريح أو وضع الشوك حولها لئلا يصل إليها آكل ومنه انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب (ق).
4- تهاتر الرجلان اذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه باطلاً.

الأنصار لما رأى اجتماع الأنصار على سعد بن عبادة لتأميره حسده وسعى في أفساد الأمر عليه وتكلم في ذلك ورضي بتأمير قريش وحثّ النّاس كلهم ولا سيّما الأنصار على الرّضا بما يفعله المهاجرون.

فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة شيخا قريش فبايعوا أيّهما شئتم.

فقال عمر وأبو عبيدة: ما نتولى هذا الأمر امدد يدك نبايعك.

فقال بشير بن سعد: وأنا ثالثكما وأنا ثالثكما، وكان سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، فلما رأت الأوس صنيع بشير وما دعت إليه الخزرج من تأمير سعد، أكبّوا على أبي بكر بالبيعة وتكاثروا على ذلك وتزاحموا فجعلوا يطأون سعداً من شدة الزّحمة وهو بينهم على فراشه مريض فقال: قتلتموني، قال عمر: اقتلوا سعداً قتله الله.

فوثب قيس بن سعد فأخذ بلحية عمر وقال: والله يا ابن صهّاك الجبان في الحروب الفرّار اللّيث في الملأ والأمن لو حركت منه شعرة ما رجعت في وجهك واضحة (1) فقال أبو بكر مهلّا يا عمر فإنّ الرّفق أبلغ وأفضل: فقال سعد: با ابن صهاك (وكانت جدّة عمر حبشية): أما والله لو أنّ لي قوّة على النهوض لسمعتها منّي في سككها زئيراً (2) ازعجك (3) وأصحابك منها ولا لحقنكما بقوم كنتما فيهم أذناباً أذلاء، تابعين غير متبوعين، لقد اجترأتما، ثم قال للخزرج احملوني من مكان الفتنة فحملوه فأدخلوه منزله، فلما كان بعد ذلك بعث اليه أبو بكر أن قد بايَعَ النّاس فبايعْ فقال: لا والله حتّى أرميكم لكلِّ سهم في كنانتي (4) واخضب منكم سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما أقلّت يدي فأقاتلكم بمن تبعني من ).

ص: 159


1- الواضحة الاسنان التي تبدوعند الضحك (ق).
2- زئير صوت الاسد في صدره (ص).
3- يزعجك زعجة قلعه من مكانه كازعجه (ق).
4- كنانة السهام بالكسر جعبة من جلد لا خشب فيها أو بالعكس (ق).

أهل بيتي وعشيرتي ثم وأيم الله لو اجتمع الجن والأنس علىَّ لما بايعتكما ايها الغاصبان حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي، فما جاءهم كلامه قال عمر: لا بد من بيعته، فقال بشير بن سعد أنّه قد أبي ولجّ وليس بمبايع أو يقتل وليس بمقتول حتّى يقتل معه الخزرج والأوس فأتركوه، فليس تركه بضائر فقبلوا قوله وتركوا سعداً.

فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يقضي بقضائهم ولو وجد اعواناً لصال بهم ولقاتلهم فلم يزل كذلك مدة ولاية ابي بكر حتّى هلك أبو بهم بكر، ثم وُليَ عمر وكان كذلك فخشي سعد غائلة (1) عمر فخرج إلى الشّام فمات بحوران (2) في ولاية عمر لم يبايع أحداً وكان سبب موته أن رمى بسهم في الليل فقتل وزعم أنّ الجن رموه، وقيل أيضاً إنّ محمد بن سلمة الانصاري تولى ذلك بجعلٍ جُعَلْتَ له وروي أنّه تولى ذلك المغيرة ابن شعبة وقيل خالد بن الوليد.

قال: وبايع جماعة الأنصار ومن حضر من غيرهم وعليّ بن أبي طالب مشغول بجهاز رسول الله صلى الله اليه وآله وسلم، فلما فرغ من ذلك وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنّاس يصلون عليه مَنْ بايع أبي بكر ومن لم يبايع وجلس في المسجد فاجتمع اليه بنو هاشم ومعهم الزّبير بن العوام، واجتمعت بنو أميّة إلى عثمان بن عفان وبنو زهرة إلى عبد الرحمن بن عوف فكانوا في المسجد مجتمعين إذ أقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح، فقالوا: ما لنا نراكم خلقاً شتى؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار والنّاس، فقام عثمان وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما فبايعوا وانصرف علي عليه السلام وبنو هاشم إلى منزل علي ومعهم الزبير.

قال: فذهب اليهم عمر في جماعة ممّن بايع فيهم اسيد بن حصين .

ص: 160


1- الغائلة صفة لخصلة مهلكة (نهاية).
2- كورة بدمشق (ق).

وسلمة بن سلامة فألفوهم مجتمعين، فقالوا لهم بايعوا أبا بكر فقد بايعه النّاس فوثب الزّبير إلى سيفه فقال عمر عليكم بالكلب العقور فأكفونا شرّه فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السّيف من يديه فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره واحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر فلما حضروا، قالوا: بايعوا أبا بكر وقد بايعه النّاس وأيم الله لئن ابيتم من ذلك لنحاكمنّكم بالسيف، فلما رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع حتّى لم يبق ممّن حضر إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

فقالوا له: بايع أبا بكر فقال عليّ عليه السلام: أنا أحقّ بهذا الأمر منه وانتم أولى بالبيعة لي اخذتم هذا الأمر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من الرّسول وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطوكم المقادة وسلّموا لكم الأمارة. وأنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججنم على الانصار، أنا أولى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيّاً وميّتاً وأنا وصيّه ووزيره ومستودع سرّه، وعلمه وأنا الصّديق الأكبر أول من آمن به وصدّقه وأحسنكم بلاء في جهاد المشركين وأعرفكم بالكتاب والسّنة وأذربكم (1) لساناً وأثبتكم جناناً، فعلام تنازعونا هذا الأمر، انصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته لكم الانصار وإلّا فبؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون.

فقال عمر: أمالك بأهل بيتك اسوة؟ فقال عليّ عليه السلام سلوهم عن ذلك، فأبتدر القوم الذين بايعوا من بني هاشم فقالوا: ما بيعتنا بحجّة على عليّ عليه السلام ومعاذ الله ان نقول: إنّا نوازيه في الهجرة وحسن الجهاد والمحلّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عمر: إنك لست متروكاً حتّى تبايع طوعاً أو كرهاً فقال على عليه ).

ص: 161


1- الذرب حديد اللسان (ق).

السلام: احلب حلباً لك شطره اشدد له اليوم ليردّ عليك غداً إذا والله لا أقبل قولك ولا أحفل بمقامكم ولا أبايع، فقال أبو بكر: مهلًا يا أبا الحسن ما نشد فيك ولا نكرهك.

فقام أبو عبيدة إلى علي عليه السلام فقال: يا ابن عمّ لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك، ولكنك حدث السّن؛ «وكان لعليّ عليه السلام يومئذٍ ثلاث وثلاثون سنة» وأبوبكر شيخ من مشايخ قومك وهو أحمل لثقل هذا الأمر وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له، فإن عمّرك الله يسلموا هذا الأمر إليك ولا يختلف فيك إثنان بعد هذا إلّا وأنت به خليق وله حقيق ولا تبعث الفتنة في أوان الفتنة فقد عرفت بما في قلوب العرب وغيرهم عليك.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيّكم اليكم في امري ولا تخرجوا سلطان محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في النّاس فوالله يا معاشر الناس «الجمع خ» إن الله قضى وحُكْم ونبيّه أعلم وانتم تعلمون بأنّا أهل البيت أحق لهذا الأمر منكم ما كان «فكان خ» القارىء منكم لكتاب الله الفقيه في دين الله المضطلع (1) بامر الرعّية والله إنّه لفينا لا فيكم فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعداً وتفسدوا قديمكم بشرٍّ من حديثكم.

فقال بشير بن سعد الانصاري الذي وطأ الأمر لأبي بكر وقالت جماعة من الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته منك الانصار قبل بيعتها «الانتظام خ» لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان.

فقال علي عليه السلام: يا هؤلاء كنت أَدَعُ الرّسول وهو مسجّى (2) لا أواريه واخرج أنازع في سلطانه، والله ما خفت «خلت ظ» أحداً يسمو (3) له وينازعنا .

ص: 162


1- ومضطلع أي قوي عليه (ق)
2- سجيت الميت تسجية اذا مددت عليه ثوباً. (ق)
3- يقال فلان يسمو الى المعالي اذا تطاول اليها، نهاية.

أهل البيت فيه ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك يوم غدير خمّ لأحد حجةً ولا لقائل مقالاً، فأنشد الله رجلاً سمع يوم غدير خم يقول صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، أن يشهد الآن بما سمع.

قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك وكنت ممّن سمع القول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكتمت الشّهادة فذهب بصري، قال: وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصّوت وخشي عمر أن يصغي «الناسخ خ» إلى قول علي عليه السلام ففسخ المجلس وقال: إنَّ الله يقلّب القلوب والأبصار ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة فأنصرفوا يومهم ذلك.

وفي الاحتجاج أيضاً عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام: جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وماله وسلم أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عليه السلام: نعم كان الذي انكر على ابي بكر اثني عشر رجُلًا، من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني امية، وسلمان الفارسي (1)، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمّار بن ياسر، وبرقدة .

ص: 163


1- سلمان الفارسي أبو عبد الله، ويعرف بسلمان الخير. مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسئل عن نسبه فقال: انا سلمان بن الاسلام. وأصله من فارس من رام هرمز، وكان اسمه قبل الاسلام: ما به بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فیروز بن سهرك من ولد آب الملك. وكان ببلاد فارس مجوسياً، سادن النار. وكان سبب إسلامه انه خرج يوماً لضيعة لهم فمّر بكنيسة النصارى وهم يصلون فقال: هذا والله خير من ديننا فأقام عندهم وسألهم أين أصل هذا الدين فقيل له: بالشام. فذهب الى الشام حتى أتى الاسقف وهو عالمهم، ومكث معه يخدمه ويصلي وكان سيء السيرة يأخذ المال من الناس كصدقة ويجمعها لنفسه فأرشد سلمان عليه الناس فصلبوه. وأتى برجل آخر فاضل فأقام معه حتى وافته المنية فقال له: أوصني فقال: اعرف رجلا بالموصل على امرنا، فذهب سلمان لعنده حتى مات فقال له أوصني: فقال اعرف رجلاً واحداً على أمرنا الذي نحن فيه في معمورية، فذهب سلمان لعنده فأقام حتى حضرته الوفاة فقال سلمان له: الى مَن توصي بي، فقال: لا اعلم أحداً اليوم على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك نبي يبعث بدين ابراهيم الحنيفية مهاجرة بأرضٍ ذات نخل وبه آيات وعلامات لا تخفى بين منكبيه خاتم النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإ استطعت فتخلص اليه. وروي عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: تشتاق الجنة الى ثلاثة علي وعمار وسلمان. وكان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم وذوي القرب من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وكان عطاؤه خمسة آلاف فاذا خرج عطاؤه فرقه وأكل من كسب يده. وهو الذي أشار على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بحفر الخندق لما جاءت الأحزاب، فلما أمر الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بحفر احتج المهاجرون والانصار بسلمان فقال المهاجرون سلمان منا، وقال الانصار: سلمان منا، فقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) سلمان منا أهل البيت. وتوفي سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة عثمان. قال العباس بن يزيد: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيه، يقال انه ادرك عيسى بن مريم وقرأ الكتابين، وكان له ثلاث بنات، بنت باصبهان وابنتان بمصر.

الأسلمي، ومن الأنصار أبو الهيثم بن التيهان، وسهل، وعثمان ابنا حنيف وخزيمة بن ثابت ذو الشّهادتين، وابيّ بن كعب، وأبو ايوب الأنصاري، قال: فلمّا صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم فقال بعضهم لبعض: والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال آخرون منهم والله لئن فعلتم ذلك إذاً لاعنتم (1) على انفسكم، فقد قال الله تعالى:

(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (2)

فأنطلقوا بنا الى امير المؤمنين عليه السلام لنستشيره ونستطلعه على الأمر ونستطلع رأيه، فأنطلق القوم إلى امير المؤمنين عليه السلام بأجمعهم فقالوا يا أمير المؤمنين: تركت حقّاً أنت أحق به وأولى منه، وإنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي يميل مع الحقِّ كيف مال، ولقد هممنا أن نصير اليه فننزله عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فيما تأمرنا.5.

ص: 164


1- في بعض النسخ اعنتم.
2- البقرة - 195.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلّا حرباً، ولكنكم كالملح في الزّاد، وكالكحل في العين، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين أسيافكم مستعدّين للحرب والقتال وإذاً لأتوني فقالوالي: بايع وإلّا قتلناك، فلا بدّ من أن أدفع القوم عن نفسي وذلك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوعز (1) إليَّ قبل وفاته، وقال لي يا أبا الحسن: إنّ الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقض فيك عهدي وإنّك مني بمنزلة هارون من موسى وإنّ الأمة من بعدي بمنزلة هارون «كهرون خ» ومن اتبعه والسّامري ومن اتبعه، فقلت يا رسول الله فما تعهد إليّ إذاً كان كذلك؟ فقال إن «اذاخ»، وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً، فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه، ثم آليت يميناً أن لا أرتدي إلّا للصلاة حتى أجمع القرآن، ففعلت ثم اخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السّابقة فناشدتهم (2) الله إلى حقّي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلّا أربعة رهط: سلمان، وعمّار، والمقداد. وأبوذر، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي، فأبوا عليّ إلّا السكوت لما علموا من وغارة (3) صدور القوم وبغضهم الله ولرسوله ولأهل بيت نبيّه، فأنطلقوا بأجمعكم إلى هذا الرّجل فعرّفوه ما سمعتم من قول نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ليكون ذلك أوكد للحجّة وأبلغ للعذر وأبعد لهم من رسول الله إذا وردوا عليه، فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يوم الجمعة، فلمّا صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدّموا فتكلموا، فقال الأنصار للمهاجرين: بل تكلموا أنتم فإنّ الله عزّ وجلّ أدناكم في الكتاب إذا قال الله عزّ وجلّ:

(لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) (4) 7.

ص: 165


1- وعز اليه في كذا أن يفعل أو يترك وأوعزو وعر تقدم وامر (ق).
2- ناشده مناشدة ونشاداً احلفه (ق).
3- الوغرو يحرك الحقد والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ (ق).
4- التوبة - 117.

فقال أبان: فقلت: يا ابن رسول الله إنّ الأمة لا تقرأ كما عندك، قال وكيف تقرأ يا أبان؟ قال: قلت: إنّها تقرأ لقد تاب الله على النّبي والمهاجرين والأنصار فقال عليه السلام: ويلهم وأي ذنب كان لرسول الله حتى تاب الله عليه منه إنما تاب الله به على امتّه، فأوّل من تكلم به خالد بن سعيد بن العاص ثمّ باقي المهاجرين ثمّ من بعدهم الانصار. وروي أنّهم كانوا غيّباً عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقدموا وقد تولى أبو بكر وهم يومئذٍ أعلام مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقام خالد بن سعيد بن العاص وقال: أتّق الله يا أبا بكر فقد علمت ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال، ونحن محتوشوه (1) يوم بني قريظة حين فتح الله له وقد قتل علىّ يومئذٍ عدّة من صناديد (2) رجالهم وأولي البأس والنجدة (3) منهم: یا معاشر المهاجرين والأنصار إنّي أوصيكم بوصيّة فأحفظوها ومودعكم أمراً فأحفظوه، ألا إنّ عليّ ابن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربّي، ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيّتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في احكامكم و ضطرب عليكم امر دينكم وولاكم شراركم، ألا إن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعاملون «لمون خ» بأمر أمّتي من بعدي، اللهم من أطاعهم من امّتي وحفظ فيهم وصيّتي فأحشرهم في زهرتي واجعل لهم نصيباً من مرافقتي يدركون به نور الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنّة التي عرضها كعرض السماء والأرض.

فقال له عمر بن الخطاب: اسکت یا خالد فلست من أهل المشورة ولا من يقتدى برأيه، فقال خالد: اسكت انت يا ابن الخطاب فإنّك تنطق على لسان غيرك وأيم الله لقد علمت قريش أنك من الأمها حسباً وأدناها منصباً وأخسّها قدراً وأخملها ذكراً وأقلهم غناء عن الله ورسوله وأنك لجبان في الحروب وبخيل في المال لئيم .

ص: 166


1- احتوش القوم على كذا جعلوه وسطهم واحاطوا عليه وقد يعدي بنفسه يقال احتوشوه (منه).
2- الصندد كزبرج السيد الشجاع أو الجواد أو الشريف (ق).
3- النجدة القتال والشجاعة والشدة والهول والفزع (ق).

العنصر مالك في قريش من فخر، ولا في الحروب من ذكر وأنّك في هذا الأمر بمنزلة الشّيطان:

(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ (1). فأبلس (2) عمر وجلس خالد بن سعيد.(3)

ثم قام سلمان الفارسي (رضوان الله علیه) وقال: كرديد و نكرديد أي فعلتم ولم تفعلوا وامتنع من البيعة قبل ذلك حتّى وجي عنقه فقال يا أبا بكر: إلى من تستند امرك إذا نزل بك ما لا تعرفه وإلى من تفزع اذا سئلت عمّا لا تعلمه فما عذرك في تقدم من هو أعلم منك وأقرب إلى رسول الله وأعلم بتأويل كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ومن قدّمه النّبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وأوصاكم به عند وفاته، فنبذتم قوله وتناسيتم وصيّته واخلفتم الوعد ونقضتم العهد وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النّفوذ تحت راية أسامة بن زيد حذراً من مثل ما اتيتموه وتنبيهاً للأُمة على عظيم ما اجترمتموه «حتموه خ» من مخالفة أمره فعن قليل يصفو لك الأمر وقد أنقلك الوزر ونقلت إلى قبرك وحملت معك ما كسبت يداك فلوراجعت الحقّ من قرب وتلافيت نفسك وتبت الى الله من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى نجاتك يوم تفرد في حفرتك ويسلّمك ذوو نصرتك، فقد سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا، فلم يردعك (4)، ذلك عمّا أنت متشبّث به من هذا الأمر الذي لا عذر لك في تقلّده ولاحظ للدين ولا للمسلمين في قيامك به، فالله الله في نفسك فقد أعذر من أنذر، ولا تكن أنت كمن أدبر واستكبر.

ثمّ قام أبو ذر الغفاري فقال: يا معشر قريش أصبتم قباحة «قناعة .

ص: 167


1- الحشر - 16.
2- وابلس حتى ما اوضحوا لضاحكة وابلسوا اي سكتوا والمبلس الساكت من الخوف والحزن (نهاية)
3- ردعه كمنعه كفه ورده فأرتدع (ق).
4- وقنعت به قناعة من باب تعب رضيت به، (لغة).

خ» «قباعة خ» (1) و تركتم قرابة والله ليرتدن جماعة من العرب وليشكنّ في هذا الدّين ولو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم ما اختلف عليكم سيفان، والله لقد صارت لمن غلب ولتطمّحن إليها عين من ليس من أهلها، وليسفكنّ فيها دماء كثيرة (فكان كما قال أبو ذر) ثم قال: لقد علمتم وعلم خياركم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الأمر بعدي لعلي ثمّ لابنيّ الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذرّيتي، فأطرحتم قول نبيّكم وتناسيتم ما عهد به إليكم فأطعتم الدّنيا الفانية ونسيتم «بعتم شريتم خ» الآخرة الباقية التي لا يهرَم شبابها ولا يزول نعيمها ولا يحزن أهلها ولا يموت سكانها بالحقير التّافه (2) الفاني الزائل وكذلك الأمم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها ونكصت على أعقابها وغيّرت وبدلت واختلفت فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، وعمّا قليل يذوقون وبال أمركم وتجزون بما قدّمت أيديكم وما الله بظلام للعبيد.

ثمّ قام المقداد بن الأسود (3) فقال: يا أبا بكر ارجع عن ظلمك وتب إلى ربّك والزم بيتك وابك على خطيئتك وسلم الأمر إلى صاحبه الذي هو اولى به منك، فقد ً.

ص: 168


1- قبع القنفذ كمنع قبوعاً ادخل رأسه في جلده والرجل في قميصه ودخل وتخلف عن أصحابه (قاموس)
2- شيء تافه يفه حقير خسيس وقد تفه تفهاً من باب لبس (مغرب).
3- المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن تمامة بن مطرود بن لؤي المعروف بالمقداد بن الاسود الكندي. وهو قديم الاسلام من السابقين، وهاجر الى ارض الحبشة ثم عاد الى مكة، فلم يقدر على الهجرة الى المدينة لما هاجر اليها الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم لحقه. وشهد بدراً وله فيها مقام مشهور، قيل لم يكن ببدر صاحب فرس إلا المقداد. وكان المقداد أول من اظهر الاسلام بمكة. وشهد أحداً وكل المشاهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومناقبه كثيرة. وروي عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة واخبرني انه يحبهم، قيل يا رسول الله سمهم لنا، قال: علي منهم، يقول ذلك ثلاثاً، وابو ذر والمقداد وسلمان. وشهد المقداد فتح مصر. وكانت وفاته في خلافة عثمان، ومات بأرض له بالجرف وحمل الى المدينة وكان عمره سبعين سنة، وكان رجلاً ضخماً.

علمت ما عقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عنقك من بيعته والزمك من النّفوذ تحت راية أسامة بن زيد وهو مولاه، ونبّه على بطلان وجوب هذا الأمر لك ولمن عضدك (1) عليه بضمه لكما إلى علم النّفاق ومعدن الشنئآن والشّقاق عمر و بن العاص الذي أنزل الله فيه على نبيّه:

(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (2).

فلا اختلاف بين أهل العلم أنّها نزلت في عمر و وهو كان اميراً عليكما وعلى سائر المنافقين في الوقت الذي انفذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة ذات السّلاسل وأنّ عمر أقلدكما حرس عسكره فأين الحرس إلى الخلافة اتق الله وبادر إلى الاستقالة قبل فوتها فإن ذلك أسلم لك في حياتك وبعد وفاتك ولا تركننَّ إلى الدّنيا «دنياك خ» ولا تغرَّنك قريش وغيرها فعن قليل تضمحل عنك دنياك ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك وقد علمت وتيقنت أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام صاحب الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمه إليه بما جعله الله له فإنّه أتم لسترك وأخف لوزرك فقد والله نصحت لك إن قبلت نصحي وإلى الله ترجع الأمور.

ثمّ قام بريدة الأسلمي فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ماذا لقي الحق من الباطل يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت وخدعت أم خدعتك نفسك وسوّلت تلك الأباطيل أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تسمية عليّ بإمرة (3) المؤمنين والنبيّ بين أظهرنا وقوله له في عدّة أوقات هذا عليّ أمير المؤمنين وقاتل القاسطين اتّق الله وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها وانقذها ما يهلكها وأردد الأمر إلى من هو أحقّ به منك ولا تتمارى (4) في اغتصابه وراجع وانت تستطيع ان ه.

ص: 169


1- عضده يعضده قطعه و ينصره اعانه ونصره
2- الكوثر - 3.
3- والامرة على وزن فاعلة مصدر امر علينا مثلثة اذ أولى والاسم الأمر بالكسر وقول الجوهري مصدر واسم (ق).
4- اي لا تجادل، منه.

تراجع فقد محضتك النّصح ودللتك على طريق النّجاة فلا تكوننَّ ظهيراً للمجرمين.

ثمّ قام عمّار بن ياسر (1) فقال: يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم وإلّا فأعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به وأحقّ بارثه وأقوم بأمور الدّين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملته وأنصح لامته فمروا صاحبكم فليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شنآنكم وتعظم الفتنة بكم وتختلفوا فيما بينكم ويطمع فيكم عدوّكم، فقد علمتم أنّ بني هاشم بهذا الأمر منكم وعليّ من بينهم وليّكم بعهد الله ورسوله، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سدّ ن.

ص: 170


1- عمار بن ياسر بن عامر مالك كنانة بن قيس بن الحصين المذحجي ثم العنسي ابو اليقظان وهو وأمه سمية وأبوه ياسر من السابقين الى الاسلام، وهو حليف بني مخزوم، وياسر وسمية ابواه أول شهيدين في الاسلام. وعذَّب عمار في الله عذاباً شديداً. وهو من السبعة الأوائل الذين أظهروا اسلامهم في مكة. وعذب بنو المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ياسراً وعماراً وأمه على الاسلام وهم يأبون غيره حتى قتلوا ياسراً وسمية، ومر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهم يعذبون بالابطح في رمضاء مكة فيقول: صبراً آل ياسر مودعكم الجنة، أما عمار فلم يتركوه حتى نال من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وذكر آلهتهم بخير فنزلت الآية الكريمة (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) نزلت بعمار بن ياسر. فقال له النبي كيف نجد قلبك، قال: مطمئناً بالايمان، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم) إن عاد ذلك فعد لهم. وهاجر عمار الى المدينة وشهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان. قال خالد بن الوليد: كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت له في القول، فأنطلق الى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) يشكوني فجئت وهو يشكوني فقال الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من عادى عماراً عاداه الله، ومن ابغض عماراً ابغضه الله. قال خالد: فخرجت فما كان شيء أحب اليّ َمن رضى عمار قالت عائشة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ما خُيّر عمار بين أمرين إلا اختار ارشدهما. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أبشر عمار تقتلك الفئة الباغية. وروي نحو هذا عن أم سلمة وعبد الله بن عمر وعمرو بن العاص، وحذيفة بن ثابت. ومن مناقبه إنه أول مَن بنى مسجداً في الاسلام. ومناقبه كثيرة لا تسع هذه العجالة، واستعمله عمر بن الخطاب على الكوفة وكتب إلى أهلها أما بعد فإني قد بعثت إليكم عماراً أميراً وعبد الله بن مسعود معلماً وهما من نجباء اصحاب محمداً فاقتدوا بهما. وصحب الامام علي (علیه السلام) وشهد معه صفين والجمل فأبلى فيهما بلاء حسناً. وقتل في صفين وكان عمره أربعاً وتسعين سنة. وكان عمار آدم طويلاً مضطرباً أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلها غير بابه وإيثاره أياه بكريمته فاطمة الزّهراء دون سائر من خطبها إليه منكم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها، وإنكم جميعاً مضطرون فيما أشكل عليكم من امور دينكم إليه، وهو مستغن عن كلّ أحد منكم إلى ماله من السّوابق التي لأفضلكم عند نفسه فما بالكم تحيدون (1) عنه وتبتزون (2) عليّاً حقّه «وتغيرون على حقه خ» (3) وتؤثرون الحياة الدّنيا على الآخرة؟ بئس للظالمين بدلاً اعطوه ما جعله الله ولا تولوا مدبرين ولا ترتدَّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين.

ثمّ قام ابيّ بن كعب فقال: يا ابا بكر لا تجحد حقّاً جعله الله لغيرك ولا تكن أوّل من عصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّه «وصفيه خ» وصدف عن أمره، اردد الحقّ إلى أهله تسلم ولا تتمادَ في غيّك فتندم وبادر إلى الأنابة يخف وزرك ولا تخصصّن بهذا الأمر الذي لم يحله «يججعله خ» الله لك نفسك فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارقُ ما أنت فيه وتصير الى ربّك فيسألك عمّا جنيت، وماربّك بظلام للعبيد.

ثمّ قام خزيمة بن ثابت فقال: أيّها النّاس الستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟ قالوا: بلى، قال: فأشهد أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أهل بيتي يفرقون بين الحقّ والباطل، وهم الأئمة الذين يُقتدى بهم وقد قلتُ ما علمتُ وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين.

ثمّ قام أبو الهيثم بن التّيهان فقال: وأنا أشهد على نبّينا صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أقام عليّاً عليه السلام (يعني في يوم غدير خم) فقالت الأنصار: ما أقامه إلّا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلّا ليعلم الناس أنّه مولى من كان رسول الله ة.

ص: 171


1- أي تميلون، منه.
2- ابتزت الشيء استلبته، (صلی الله علیه و آله و سلم)
3- فيه من دخل الى طعام لم يدع اليه دخل سارقاً وخرج مغيراً اسم فاعل من اغار يغير اذا نهب شبه دخوله عليهم بدخول السارق وخروجه بمن أغار على قوم، نهاية.

مولاه، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالاً منا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن ذلك فقال لهم قولوا: عليّ وليّ المؤمنين بعدي وأنصح النّاس لأمتي وقد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً.

ثمّ قام سهل بن حنيف (1) فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النّبي محمد وآله ثم قال: يا معاشر قريش اشهدوا على أنّي أشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأيته في هذا المكان (يعني الروضة) (2) وقد أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول: أيّها النّاس هذا علىّ إمامكم من بعدي ووصيّي في حياتي وبعد وفاتي وقاضي ديني ومنجز وعدي وأوّل من يصافحني على حوضي فطوبى لمن أتّبعه ونصره والويل لمن تخلف عنه وخذله.

ثمّ قام من بعده أخوه عثمان بن حنيف (3) فقال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم وقدموهم، فهم الولاة بعدي. فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله وأيّ أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم علي والطاهرين من ولده، وقد بيّن عليه السلام فلا تكن يا أبا بكر أوّل كافر به فلا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون.

ثمّ قام أبو أيّوب الأنصاري فقال: أتّقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيّكم وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام ة.

ص: 172


1- سهل بن حنيف بن وأهب بن العكيم بن ثعلبة بن الحارث بن عمرو بن فِناس، ويُقال: ابن الخنساء، وهو أنصاري أوسي. شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وثبت يوم اَحد معه (صلی الله علیه و آله و سلم) لما انهزم الناس عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) وكان بايعه يومئذٍ على الموت. وصحب الأمام علياً (علیه السلام) ولما سار الامام الى البصرة استخلفه على المدينة، وشهد معه صفين، وولاه بلاد فارس، ومات سهل بالكوفة سنة ثمانٍ وثلاثين وصلى عليه الأمام عليه السلام.
2- من كلام الراوي (منه).
3- عثمان بن حنيف أخو سهل. يكنى أبا عمرو. شهد أحداً والمشاهد بعدها. واستعمله عمر ابن الخطاب على مساحة سواد العراق. ثم استعمله الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) على البصرة. فبقي فيها إلى ان قدم طلحة والزبير وعائشة فقاتلهم قتالاً شديداً فأخرجوه ثم قدم على الامام (علیه السلام)، فكانت وقعت الجمل. ولما ظفر الامام (علیه السلام) سكن عثمان بن حنيف الكوفة وبقي الى زمن معاوية. روى عنه عدة رواة.

بعد مقام لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، ومجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي و يومىء إلى عليّ عليه السلام يقول: هذا أمير البررة وقاتل الكفرة مخذول من خذله منصور من نصره فتوبوا إلى الله من ظلمكم إنّ الله تواب رحيم، ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين.

قال الصّادق عليه السلام فأفحم (1) أبو بكر على المنبر حتّى لم يحرِ (2) جواباً، ثم، قال وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني.

فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لكع (3) إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لِمَ أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن اخلعك وأجعلها في سالم مولى ابي حذيفة، قال فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله وبقيا ثلاثة أيّام لا يدخلان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فلما كان في اليوم الرّابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل فقال لهم: ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم، وجاء هم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل فما زال يجتمع رجل رجل حتّى اجتمع أربعة آلاف رجل فخرجوا شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتّى وقفوا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عمر والله يا اصحاب عليّ لئن ذهب الرّجل منكم يتكلم بالذي تكلم به بالأمس لنأخذنّ الذي فيه عيناه.

فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص (4) وقال يا ابن صهّاك الحبشية أفبأسيافكم تهدّدونا أم بجمعكم تفزعونا؟ والله إنّ أسيافنا أحدّ من أسيافكم وإنّا ة.

ص: 173


1- افحمها اسكتها (نهاية).
2- ما أحار جواباً ماردً (ق).
3- اللكع كصرد اللئيم والعبد والأحمق (ق).
4- خالد بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي. يكنى: ابا سعيد. امه: ام خالد بن حباب بن عبد يا ليل. اسلم قديماً، قال ضمرة بن ربيعة كان إسلام خالد مع إسلام أبي بكر. وكان سبب إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به، وكان ابوه يدفعه فيها، ورأى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) آخذاً بحقويه لا يقع فيها. فأتى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال: يا محمد مَن تدعو. قال: أدعو الى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجرلا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ولا يدري مَن عبده ممن لم يعبده. قال خالد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد انك رسول الله. ولما علم والده بذلك سبه وضربه بعصا في يده حتى كسرها على رأسه، وقال له: اذهب يا لكع والله لأمنعك القوت. فقال خالد: إن منعتني فإنّ الله يرزقني ما أعيش به. فانصرف خالد الى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وكان يعيش معه ويلزمه. وهاجر خالد الى الحبشة هو وامرأته وأخوه عمرو ثم قدما على الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) مع جعفر بن أبي طالب بخيبر. وشهد حنيناً وتبوك والطائف. وبعثه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) عاملاً على صدقات اليمن، حتى توفي الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ولما توفي (صلی الله علیه و آله و سلم) رجع فقال له ابو بكر: مالك رجعت، قال: نحن بنو ابي أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). وتأخر عن بيعة ابي بكر وقال لبني هاشم: انكم لطوال الشجر طيبو الثمر ونحن تبع لكم، ثم بعثه ابو بكر على جيش الى الشام فقتل بمرج الصفر، سنة أربع عشرة.

لأكثر منكم وإن كنا قليلين لأن حجّة الله فينا والله لولا أنّي أعلم أنّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلى(1) عذري، فقال «له خ» أمير المؤمنين عليه السلام: اجلس يا خالد فقد عرف لك مقامك وشكر لك سعيك، فجلس.

وقام إليه سلمان الفارسي فقال الله اكبر الله اکبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلّا صمّتا (2) يقول: بينا أخي وابن عمّي جالس في مسجدي ومعه نفر من أصحابه إذ تكبسه (3) جماعة من كلاب أهل النّار يريدون قتله وقتل من معه، ولست أشك إلّا وانكم هم، فهمّ به عمر بن الخطاب، فوثب إليه امير المؤمنين عليه السلام وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد (4) به الأرض ثم قال: يا ابن صهّاك الحبشيّة لولا (4) كتاب من الله سبق وعهد من الله تقدّم لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً، ثم التفت إلى اصحابه فقال: انصرفوا رحمكم الله فوالله لا دخلت المسجد إلّا كما دخل .

ص: 174


1- وبلاه عذراً أواه اليه قبله (ق).
2- أي صمت اذناي ان كذبت (منه).
3- كبس داره هجم عليه (ق).
4- جلد به أي رمى به الأرض (نهاية).

أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه:

(فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (1).

والله لا دخلته إلّا لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لقضيّة أقضيها، فإنّه لا يجوز لحجة أقامه رسول الله ان يترك النّاس في حيرة

وفي الاحتجاج ايضا عن عبد الله بن عبد الرّحمان قال: إنّ عمر احتزم (2) بازاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي ألّا إنَّ أبا بكر قد بويع فهلموا إلى البيعة فينثال (3) النّاس يبايعون فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون فكان يقصدهم في جمع كثير فيكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون حتّى إذا مضت أيّام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب ونار، وقال والذي نفس عمر بيده ليخرجنّ أو لأحرقنّه على ما فيه، فقيل له: إنّ فاطمة بنت رسول الله وولد رسول الله وآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، وأنكر النّاس ذلك من قوله فلما عرف انكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنّما أردت التّهويل فراسلهم علي عليه السلام أن ليس إلى خروجي حيلة، لأني في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكُم (4) الدنيا عنه، وقد حلفت أن لا أخرج من بيتي ولا أدع ردائي على عاتقي حتى اجمع القرآن، قال: وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فوقفت على الباب، ثم قالت لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم تركتم رسول الله جنازة (5) بين أيدينا وقطعتم أمركم فيما بينكم ولِمَ تؤامرونا ولم تروا لنا حقّاً كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذٍ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرّجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب والله حسيب بيننا وبينكم في الدّنيا والآخرة. .

ص: 175


1- المائدة - 24.
2- ومنه الحديث نهى ان يصلي الرجل حتى أن يتلبب ويشد وسطه (نهاية).
3- انثال عليه الناس من كل وجه أي انصبوا (صلی الله علیه و آله و سلم).
4- الهتكم الدنيا أي شغلتكم قال تعالى (الهيكم التكاثر) (منه).
5- الجنازة بالكسر والفتح الميت بسريره وقيل بالكسر السرير وبالفتح الميت. (نهاية).

و في غاية المرام من كتاب سليم بن قيس الهلالي وهو كتاب مشهور معتمد نقل منه المصنّفون في كتبهم وهو من التّابعين رأى عليّاً وسلمان وأبا ذر وفي مطلع كتابه ما هذه صورته: فهذه نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي رفعه إلى أبان بن أبي عيّاش وقرأه عليّ عليه السلام وذكر أبان أنّه قرأ على علي بن الحسين عليه السلام فقال صدق سليم هذا حديثنا نعرفه، قال سلیم: سمعت سلمان الفارسي أنّه قال: فلما أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنع النّاس ما صنعوا جالهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح وخاصموا الأنصار بحجةّ عليّ عليه السلام فخصموهم فقالوا يا معاشر الأنصار قريش أحقّ بالأمر منكم، لأنّ رسول الله من قريش، والمهاجرون خير منكم لأن الله سبحانه بدأ بهم في كتابه وفضلهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأئمة من قريش.

قال سلمان: فأتيت وهو يغسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أوصى عليّاً أن لا يلي غسله إلّا هو، فقال: يا رسول الله ومن يعينني عليك؟ فقال: جبرائيل عليه السلام، وكان عليّ عليه السلام لا يريد عضواً إلّا انقلب له فلما غسّله وكفّنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فتقدم عليّ عليه السلام وصفّنا خلفه وصلّى عليه وعائشة في الحجرة لا تعلم، ثم ادخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار يدخلون فيدعون ثم يخرجون «فيصلون ويخرجون خ» حتّى لم يبقَ أحد من المهاجرين والأنصار الّأ صلّى عليه.

قال سلمان: فأتيت عليّاً وهو يغسل «قلت لعلي عليه السلام حين يغسل خ» رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما صنّع النّاس فقلت: إنّ أبا بكر السّاعة قدرقي منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرضوا أن يبايعوه بيد واحدة وأنّهم ليبايعونه بيديه جميعاً بيمينه وشماله، فقال عليه السلام: يا سلمان وهل تدري أوّل من بايعه على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: لا إلّا أنّي رأيت «رأيته خ» في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار فكان «وكان خ» أوّل من بايعه المغيرة بن شعبة، ثم بشير بن سعد، ثم أبو عبيدة بن الجرّاح ثم عمر

ص: 176

ابن الخطاب، ثم سالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، قال: لست أسألك عن هؤلاء ولكن هل تدري أوّل من بايعه حين صعد المنبر؟ قال «قلت خ»: لا ولكن رأيت شيخاً كبيراً متوكئاً على عصا بين عينيه سجّادة شديد التشمير صعد المنبر «اول من صعدخ» وهو يبكي و «هوخ» يقول: الحمد لله الذي لم يمتني حتّى رأيتك في هذا المكان ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، ثم نزل فخرج من المسجد.

فقال علي عليه السلام: وهل تدري يا سلمان من هو؟ قلت: وقد ساءتني مقالته كأنّه شامت بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال علي عليه السلام: فإنّ ذلك إبليس لعنة الله عليه «اخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خ» إنّ أبليس وأصحابه شهدوا نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيّاي بغدير خم لمّا أمره الله تعالى وأخبرهم أنّي أولى بهم من انفسهم وأمرهم أن يبلغ الشّاهد الغائب، فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه، فقالوا: هذه الأمة مرحومة معصومة لا لك ولا لنا عليهم سبيل قد اعلموا مقرّهم وإمامهم «علموا امامهم ومصرعهم خ» بعد نبيّهم فأنطلق إبليس آيساً حزيناً.

قال فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك (1) وقال تبايع الناس أبا بكر في ظلة بني ساعدة حتّى ما يخاصمهم (2) بحقّنا وحجّتنا، ثم يأتون المسجد فيكون أوّل من يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخ كبير مستبشر يقول له: كذا وكذا ثم يخرج فيجمع أصحابه وشياطينه وأبالسته فيخرّون سجاعلیها السلام داً فينخر ويسكع، ثم يقول: كلّا زعمتم ان ليس لي عليهم سلطان ولا سبيل فكيف رأيتموني صنعت بهم حتّى تركوا ما أمرهم الله به من طاعته وامرهم به رسول الله وذلك قول الله تعالى:

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (3).0.

ص: 177


1- الظاهر انه غلط وليس في نسخة الاحتجاج ولا في البحار، منه.
2- الظاهر ان المراد به ما يخاصمهم احد لحقنا وفي البحار هكذا في ظلة بني ساعدة بعد تخاصمهم بحقنا وحجتنا وفي الاحتجاج بعد تخاصمهم بحقك وحجتك وهو الأصح والأنسب منه.
3- سبأ - 20.

قال سلمان: فلمّا كان الليل حمل فاطمة على حمار واخذ بيد الحسن والحسين عليهما السّلام فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتاه في منزله وذكره حقّه ودعاه الى نصرته فما استجاب له إلّا أربعة وأربعون رجلاً فأمرهم أن يصبحوا محلقين رؤوسهم ومعهم سلاحهم على أن يبايعوه على الموت وأصبحوا لم يوافقه منهم إلّا أربعة فقلت لسلمان: من الأربعة؟ قال: أنا وأبو ذر والمقداد والزّبير ابن العوام، ثم عاودهم ليلّا يناشدهم، فقالوا: نصحبك بكرة فما أتاه منهم أحد غيرنا، فلمّا رأى علي عليه السلام غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان المصحف في القرطاس والاسيار (1) والرّقاع.

فلما جمعه كله وكتبه على تنزيله والنّاسخ والمنسوخ، وبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع فبعث إليه علي عليه السلام إنّي مشغول، ولقد آليت على نفسي يميناً أن لا ارتدي برداء إلّا للصّلاة حتّى أؤ لف القرآن وأجمعه، فجمعه في ثوب واحد وختمه ثم خرج إلى النّاس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنادى بأعلى صوته: يا أيّها النّاس إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشغولاً بغسله، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثّوب الواحد فلم ينزل الله على رسوله آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلّا وقد أقرأني «اقرئنيهاخ» إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلمني تأويلها.

«ثم قال على عليه السلام لئلا تقولوا غداً إنا كنا عن هذا غافلين خ» ثم قال علي عليه السلام لا تقولوا يوم القيامة إنّى لم ادعكم إلى نصرتي ولم اذكركم حقي فأدعوكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فقال عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، ثم دخل على عليه السلام بيته، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى عليّ فلسنا في شيء حتّى يبايع ولو قد بايع آمنّا، فأرسل إليه أبو بكر أجب خليفة رسول الله، فأتاه الرّسول فقال له ذلك، فقال له عليّ عليه السلام: ما أسرع ما )

ص: 178


1- والسير بالفتح الذي يقد من الجلد والجمع سيور (قاموس)

كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه ليعلم ويعلم الذين حوله أنّ الله ورسوله لم يستخلف غيري، فذهب الرّسول فأخبره بما قال له، فقال: أذهب فقل له اجب امير المؤمنين أبا بكر، فأتاه فأخبره بذلك، فقال له علي عليه السلام: سبحان الله والله ما طال العهد فينسى، والله إنّه ليعلم أنّ هذا الاسم لا يصلح إلّا لي، وقد امره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سابع سبعة فسلّموا عليه «عليّ خ» بامرة المؤمنين فاستفهمه هو وصاحبه من بين السّبعة إنّه أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وصاحب لواء «الغرخ» المحجّلين يقعده الله عزّ وجلّ يوم القيامة على الصّراط فيدخل أولياءه الجنّة واعداءه النّار، فأنطلق الرّسول فأخبره بما قال فسكتوا عنه يومهم ذلك.

فلمّا كان الليل حمل عليّ فاطمة واخذ بيد ابنيه الحسن والحسين عليهم السّلام فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا أتاه في منزله فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم أحد غير الأربعة فإنّا حلقنا رؤوسنا وبذلنا نصرتنا، وكان الزّبير أشد نصرة فلما رأى عليّ عليه السلام خذلان النّاس له وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم له لزم بيته.

وقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع فإنّه لم يبقَ أحد إلّا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة، وكان أبو بكر أرقّ الرّجلين وأرفقهما وأدها هما وأبعدهما غوراً، والآخر أفظهما وأجفاهما، فقال له أبو بكر: من ترسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذاً وكان رجلاً فظاً غليظاً جافاً من الطلقاء أحد بني عدّي بن كعب فأرسله إليه وأرسل معه أعواناً فأنطلق فأستأذن على عليّ عليه السلام، فأبى أن يأذن لهم فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمرو وهما في المسجد والنّاس حولهما فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا فإن اذن لكم وإلا فأدخلوا عليه من غير اذن، فأنطلقوا فأستأذنوا فقالت فاطمة عليها السّلام أحَرِّجْ (1) عليكم ان تدخلوا على بيتي بغير اذني؟ فرجعوا فثبت القنفذ الملعون، فقالوا: إن فاطمة قالت لنا كذا ق.

ص: 179


1- التحريج التضييق، ق.

وكذا فحرّ جتنا أن ندخل بيتها من غير اذن، فغضب عمر فقال: مالنا وللنّساء.

ثم أمر أناساً حوله يحملون حطباً فحملوا الحطب وحمل عمر معهم فجعلوه حول بيت عليّ عليه السلام وفيه علي وفاطمة وابناهما. صلوات الله عليهم، ثم نادى عمر حتّى أسمع عليّاً وفاطمة: والله لتخرجن يا علي ولتبايعنّ خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلا أضرمت عليك بيتك ناراً، ثم رجع قنفذ الى ابي بكر وهو متخوّف ان يخرج علي إليه بسيفه لما يعرف من بأسه وشدّته، فقال أبو بكر لقنفذ أرجع: فإن خرج وإلّا فأهجم «فاقتحم خ» عليه بيته، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم نارا.

فأنطلق القنفذ الملعون فأقتحم هو وأصحابه بغير اذن وسار «ثارخ» عليّ عليه السلام إلى سيفه وسبقوه إليه وهم كثيرون فتناول بعضهم سيفه وكاثروه (1) فألقوا في عنقه حبلاً وحالت بينهم وبينه فاطمة عليها السلام عند باب البيت فضربها قنفذ لعنه الله بسوط كان معه (فماتت صلوات الله عليها وأن في عضدها مثل الدماليج «الدملج خ» (2) من ضربته) ثم أنطلق به يعتل (3) عتلًا حتى انتهى إلى ابي بكر، وعمر قائم بالسّيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة واسيد بن حصين وبشير بن سعد وسائر النّاس حول أبي بكر عليهم السّلاح.

قال: قلت لسلمان: ادخلوا على فاطمة بغير إذن؟ قال: اي والله ما عليها خمار فنادت وا أبتاه وا رسول الله يا أبتاه لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر وعيناك لم تنفقيا في قبرك تنادي بأعلى صوتها، فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون وينتحبون وما فيهم إلّا باكٍ غير عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وعمر يقول: إنّا لسنا من النساء ورأيهن في شيء.ق.

ص: 180


1- وكاثروهم فكثروهم غالبهم في الكثرة فغلبوهم ق.
2- الدملج هو المعضد، ق.
3- عتلة يعتل فأنعتل جره عنيفاً، ق.

قال فأنتهوا به إلى ابي بكر وهو يقول: أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لن تصلوا الى هذا أبداً والله لم أُلم نفسي في جهادكم لو كنت استمكنت من الأربعين لفرقت جماعتكم ولكن لعن الله أقواماً بايعوني ثم خذلوني. وقد كان قنفذ لعنه الله حين ضرب فاطمة بالسّوط حين حالت بينه وبين زوجها أرسل إليه عمر إن حالت بينك وبينه فاطمة فأضربها، فألجأها قنفذ لعنه الله إلى عضادة باب بيتها ودفعها فكسر لها ضلعاً من جنبها وألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتّى ماتت صلوات الله عليها من ذلك شهيدة.

قال: فلما انتهى بعليّ إلى ابي بكر انتهره عمر وقال له: بايع، فقال له علي عليه السلام إن أنا لم أبايع فما أنتم صانعون؟ قالوا نقتلك ذلاً وصغاراً، فقال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله، فقال أبو بكر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فما نعرفك «نقر لك خ» بهذا، قال عليه السلام: اتجحد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخا بيني وبينه؟ قال: نعم، فأعاد ذلك عليه ثلاث مرات.

ثم أقبل عليهم علي عليه السلام، فقال: يا معاشر المسلمين والمهاجرين والأنصار انشدكم الله أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خمّ: كذا وكذا وفي غزوة تبوك كذا وكذا فلم يدع شيئاً قال «قاله فيه خ» له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علانية للعامة إلّا ذكرهم إياه «إياهاخ» قالوا: اللهم نعم: فلمّا أن تخوف أن ينصره النّاس وأن يمنعوه منه بادرهم، فقال له: كلما قلت حقّ قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بعد هذا: إنّا أهل بيت اصطفانا الله تعالى واختار لنا الآخرة على الدّنيا فإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النّبوة والخلافة، فقال علي عليه السلام: هل أحد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد هذا معك؟ فقال عمر: صدق خليفة رسول الله قد سمعته منه كما قال.

قال: وقال ابو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: قد سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال علي عليه السلام لقد وفيتم بصحيفتكم

ص: 181

الملعونة التي تعاهدتم «قد تعاقدتم خ» عليها في الكعبة إن قتل الله محمداً أو مات لتزوون (1) هذا الأمر عنّا أهل البيت، فقال أبو بكر: فما عليك بذلك أطلعناك عليها، فقال عليّ عليه السلام يا زبير وأنت يا سلمان وأنت يا أبا ذر وأنت يا مقداد أسألكم بالله وبالاسلام أسمعتم رسول الله يقول ذلك وأنتم تسمعون إنّ فلاناً وفلاناً حتى عدّ هؤلاء الأربعة «الخمسة» قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا فيه وتعاقدوا ايماناً على ما أن قتلت أو متّ أن يتظاهر وا عليك وأن يزووا عنك هذا الأمر يا عليّ؟ فقلت: بأبي انت يا رسول الله فما تأمرني اذا كان ذلك، فقال ان وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن لم تجد أعواناً فبايع واحقن دمك.

فقال عليه السلام: اما والله لو أن أولئك الأربعين رجلًا الذين بايعوني وفوا اليّ لجاهدتكم في الله، فقال عمر: أما والله لا ينالها أحد من أعقابكم إلى يوم القيامة ثم نادي علي عليه السلام قبل ان يبايع والحبل في عنقه: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) (2). ثم تناول يد أبي بكر فبايع، وقيل للزّبير بايع فأبى فوثب إليه عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأناس معهم فأنتزعوا سيفه فضربوا به الأرض حتى كسروه ثم لبّبوه (3) فقال الزّبير وعمر على صدره: يا أبن صهّاك أما والله لو أن سيفي في يدي لحدتَ (4) عني ثم بايع.

قال سلمان ثم اخذوني فوجؤ وا عنقي حتّى تركوه كالسّلعة ثم اخذوا يدي فبايعت مكرهاً. ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين وما من أحد بايع مكرهاً غير عليّ وأربعتنا ولم يكن أحد منّا أشدّ قولاً من الزّبير، فإنّه لما بايع قال: يا أبن صهّاك وأما والله لولا هؤلاء الطغاة الذين اعانوك لما كنت تقدم عليّ ومعي سيفي لما اعرف من جبنك ولؤ مك، ولكن وجدت طغاة تقوى بهم و تصول بهم، فغضب عمر فقال: ).

ص: 182


1- زواه زياً وزويا نحاه، (ق)
2- الأعراف - 150.
3- لبيه تلبيسا جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره (ق).
4- حاد عنه مال (ق).

أتذكر صهّاك؟ فقال: ومن صهّاك ومن «ماخ» يمنعني من ذكرها وقد كانت صهّاك زانية وتنكر ذلك أوليس كانت أمة لجدّي عبد المطلب فزنى بها جدك نفيل فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب لجدّك بعد ما ولدته وأنّه لعبد جدي ولد زنا، فأصلح أبو بكر بينهما وكفّ كلّ واحد منهما عن صاحبه.

قال سليم: فقلت لسلمان: فبايعت أبا بكر ولم تقل شيئاً؟ قال: بلى قد قلت بعد ما بايعت: تبّاً لكم سائر الدّهر لو تدرون ما صنعتم بأنفسكم أصبتم وأخطأتم أصبتم سنّة الأولين «من كان قبلكم من الفرقة والاختلاف خ» واخطأتم سنّة نبيّكم حين اخرجتموها من معدنها وأهلها فقال عمر: أمّا إذا قد بايعت يا سلمان فقل ما شئت وافعل ما بدالك وليقل صاحبك ما بداله، قال سلمان: قلت إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب امته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم جميعا، فقال عمر قل ما شئت أليس قد بايعت ولم يقر الله عينك بأن يلبسها صاحبك، فقلت اشهد أنّي قرأت في بعض كتب الله إنّه باسمك وصفتك باب من أبواب جهنم، فقال: قل ما شئت أليس قد أزالها الله عن أهل البيت الذين اتّخذتموهم أرباباً؟ فقلت: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وقد سألته عن هذه الآية: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) (1) فأخبرني بأنّك أنت هو، فقال لي عمر اسكت اسكت الله نأمتك (2) أيّها العبد ابن اللّخناء، فقال لي علي عليه. السلام: اسکت یا سلمان فوالله لو لم يأمرني عليّ بالسّكوت لخّبرته بكل شيء نزل فيه وكلّ شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي صاحبه، فلمّا رآني عمر قد سكتّ قال لي: إنّك له المطيع مسلّم فلمّا أن بايع أبو ذر والمقداد ولم يقولا شيئاً قال عمر: ألا كففت كما كفّ صاحباك والله ما أنت أشدّ حبّاً بأهل هذا البيت منهما ولا أشدّ تعظيماً لحقّهم منهما وقد كفّا كما ترى وقد بايعا.

فقال أبوذر: أفتعيرنا يا عمر بحبّ آل محمد عليهم السّلام وتعظيمهم وقد .

ص: 183


1- الفجر - 26.
2- النأمة النغمة أو الصوت واسكن الله نأمته ويقال نأمته مشددة اماته (ق).

فعل من أبغضهم وأفترى عليهم وظلمهم حقّهم وحمل النّاس على رقابهم وردّ هذه الأمة القهقرى على أدبارهم، فقال عمر: آمين لعن الله من ظلمهم حقّهم لا والله ما لهم فيها من حقّ وما هم فيها وعرض النّاس الاسواء، قال: لِمَ خاصمت الأنصار بحقّها؟ فقال عليّ عليه السلام لعمّر: يا أبن صهاك فليس لنا فيها حقّ وهي لك ولا بن آكلة الذّبان، فقال عمر كفّ يا ابا الحسن إذ قد بايعت، فإن العامة رضوا بصاحبي ولم يرضوا بك فما ذنبي، فقال علي عليه السلام: لكن والله رسوله لم يرضيا إلّا بي فأبشر انت وصاحبك ومن اتبّعكما ووازركما بسخط الله وعذابه وخزيه ويلك يا ابن الخطاب لوترى ماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك؟ فقال أبو بكريا عمر: أما اذا بايع وامنّا شرّه وفتكه وغائلته فدعه يقول ما يشاء.

فقال علي عليه السلام: لست قائلاً غير شيء واحد أذكركم بالله أيّها الأربعة قال لسلمان والزّبير وأبي ذر والمقداد، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن تابوتاً من نار فيه اثني عشر ستّة من الأولين وستّة من الآخرين في قعر جهنّم في جبّ في تابوت مقفلّ على ذلك الجبّ صخرة فإذا أراد الله أن يسعر جهنّم كشفت تلك الصّخرة عن ذلك الجبّ فأسعرت جهنّم من وهج ذلك الجبّ ومن حرّه، قال عليّ عليه السلام فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم شهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما الأوّلون فابن آدم الذي قتل أخاه وفرعون ذو الفراعنة، والذي حاجّ ابراهيم في ربّه، ورجلان من بني اسرائيل بدّلا كتابهم وغيّرا سنتهم، أما أحدهما فهوّد اليهود والآخر نصّر النصارى وعاقر الناقة، وقالت يحيى بن زكرّيا، والدّجال في الآخرين وهؤلاء الأربعة اصحاب الكتاب (1) وجبتهم وطاغوتهم الذي تعاهدوا عليه وتعاقدوا على عداوتك يا أخي ويتظاهرون عليك هذا وهذا حتى عدّهم وسمّاهم.

قال: فقلنا: صدقت نشهد أنّه قد سمعنا ذلك من رسول الله، فقال عثمان: يا أبا الحسن أما عندك فيّ حديث، فقال علي عليه السلام: بلى لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلعنك ثمّ لم يستغفر لك بعد «منذخ» .

ص: 184


1- أي الصحيفة الملعونة (منه).

لعنك، فغضب عثمان ثم قال: ما لي ومالك لا تدعني على حال كنت على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بعده، فقال له علي عليه السلام: فأرغم انفك ثم قال له عثمان لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إنّ الزّبير يقتل مرتداً.

قال سلمان: فقال لي علي عليه السلام فيما بيني وبينه: صدق عثمان، وذلك انه يبايعني بعد قتل عثمان ثم ينكث بيعتي فيقتل مرتداً. قال سلمان: فقال علي عليه السلام إن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير أربعة، إنّ النّاس صاروا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون ومن تبعه ومنزلة العجل ومن تبعه فعلي عليه السلام في شبه هارون، وعتيق (1) في شبه العجل، وعمر في شبه السّامري وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليجيء قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة منّي ليمّروا على الصّراط فاذا رأيتهم ورأوني وعرفتهم وعرفوني اختلجوا دوني فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم حيث فارقتهم، فأقول بُعداً وسحقاً.

وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لتركبن أمّتي سنّة بني إسرائيل حذو النعل بالنّعل والقذّة بالقذّة شبراً بشبر باعاً بباع وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحراً لدخلوا فيه معهم وأنّه كتب في التوراة والقرآن ملك واحد في رقّ واحد وجرت الأمثال والسّنن.

أقول: هذه الرّواية رواها الطبرسي أيضاً في الاحتجاج والمحدث المجلسي (رحمه الله) في المجلّد الثامن من بحار الأنوار بنقصان في الأوّل وزيادة في الثّاني وتغيير يسير في غير الزائد والنّاقص، وكانت نسخة غاية المرام التي عندنا غير خالية من الغلط والتّحريف يسيراً في متن الرّواية فأصلحناها من نسختي الاحتجاج والبحار بما رأيناه أصلح وأنسب، فلو وجدت فيما رويناه شيئاً غير مطابق لما في الأصل (2) فسرّه ما ).

ص: 185


1- وهو ابو بكر، (منه).
2- أي كما في غاية المرام، (منه).

ذكرناه ولا تحملنّه على التقصير في الضّبط والنّقل والله الهادي.

وفي البحار من رجال الكشي عن علي بن الحكم عن ابن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ارتدّ الناس إلّا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذر والمقداد، قال: قلت فعمّار، قال: قد كان حاص (1) حيصة ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشكّ ولم يدخله شكّ فالمقداد، فأمّا سلمان فإنّه عرض في قلبه عارض إنّ عند أمير المؤمنين عليه السلام اسم الله الأعظم لو تكلم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا فلبّب ووجيت حتّى تركت كالسّلعة، فمرّ به امير المؤمنين عليه السلام فقال له، يا أبا عبد الله هذا من ذلك بايع فبايع، وأما أبو ذر فأمره امير المؤمنين عليه السلام بالسكوت ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم فأبى إلا ان يتكلم فمرّ به عثمان فأمر به، ثم أناب النّاس بعد وكان أوّل من أناب أبو ساسان الأنصاري وابو عمرة وشتيرة (2) وكان نواظره سبعة فلم يكن يعرف حقّ أمير المؤمنين عليه السلام إلّا هؤلاء السّبعة.

ومن كتاب الاختصاص للمفيد بأسناده عن عمرو بن ثابت قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قبض ارتدّ النّاس على أعقابهم كفّاراً إلّا ثلاثة: سلمان والمقداد وأبو ذر الغفاري وإنّه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعة بعدك أبداً، قال: ولِمَ؟ قالوا: سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك يوم غدير، قال: وتفعلون؟ قالوا: ة.

ص: 186


1- في اكثر النسخ بالمهملتين يقال حاص عليه حيصة أي عدل وحادو في بعض النسخ بالجيم والصاد المهملة بهذا المعنى وفي بعضها بالمعجمتين بهذا المعنى ايضاً وقال الفيروز آبادي السلعة بالكسر كالغدة في الجسد ويفتح ويحرك كعنبة أو جراح العنق أو غدة فيما حوله فمر به عثمان فأمر به أي فتكلم أو هو يتكلم في شأنه فأمر به فاخرج من المدينة، (بحار الأنوار).
2- أبو ساسان أسمه الحصين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة والصاد المهملة، وأبو عمرة من الانصار ايضاً اسمه ثعلبة بن عمرو، وشتيرة يقال له سمير ايضاً صاحب راية علي عليه السلام بصفين وقتل هناك مع اخوته قاله في الخلاصة.

نعم، قال فأتوني غداً محلّقين، قال: فما أتاه إلّا هؤلاء الثلاثة، قال: وجاءه عمّار ابن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال: ما آن لك ان تستيقظ من نومة الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم أنتم لم تطيعوني في حلق الرّؤوس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم.

وفي الاحتجاج عن الباقر عليه السلام أنّ عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب إلى اسامة ابن زيد يقدم عليك فإن في قدومه قطع الشّنعة فكتب أبو بكر اليه: من ابي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى اسامة بن زيد، أمّا بعد، فأنظر إذا أتاك كتابي فأقبل إليَّ أنت ومن معك فإن المسلمين قد اجتمعوا عليَّ وولوني امرهم، فلا تتخلفّن فتعصني ويأتيك مني ما تكره والسّلام.

قال فكتب اليه اسامة جواب كتابه: من اسامة بن زيد عامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غزوة الشّام إلى ابي بكر بن أبي قحافة، أمّا بعد فقد أتاني منك کتاب ينقض أوّله آخره، ذكرت في أوّله أنك خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت في آخره أن المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك امرهم ورضوا بك فأعلم أنّي ومن معي من جماعة المسلمين فلا والله ما رضينا بك ولا وليناك امرنا، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله وتخلّيهم وإيّاه فإنّهم أحقّ به منك فقد علمت ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام يوم الغدير، فما طال العهد فتنسى فأنظر مركزك ولا تخالف فتعصى الله ورسوله وتعصى مَنْ استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليك وعلى صاحبك، ولم يعزلني حتّى قبض رسول الله وانّك وصاحبك رجعتما وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير اذني.

قال: فاراد «فهم خ» أبو بكر ان يخلعها من عنقه قال: فقال له عمر: لا تفعل قميص قمصّك الله لا تخلعه فتندم ولكن ألح عليه بالكتب ومر فلاناً وفلاناً يكتبون إلى أسامة أن لا يُفرِّق جماعة المسلمين وأن يدخل معهم فيما صنعوا، قال: فكتب اليه ابو بكر وكتب اليه ناس من المنافقين: ان إرض بما اجتمعنا عليه وإيّاك أن تشمل المسلمين فتنة فإنّهم حديثو عهد بالكفر، قال: فلما وردت الكتب على اسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى

ص: 187

علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: ما هذا؟ قال له علي عليه السلام: هذا ما ترى، قال له اسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم يا أسامة، فقال: أطائعاً أو كارها؟ قال: لا بل كارها؟ قال: فأنطلق اسامة فدخل على أبي بكر وقال له: السّلام عليك يا خليفة المسلمين، قال: فرّد عليه أبوبكر، وقال: السّلام عليك أيّها الأمير.

ص: 188

الفصل الثاني

حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلى بِها إلى أبنِ الْخَطَّابِ بَعْدَهُ، ثم تَمثل عليه السلام بقول الاعشى:

شَتّان مَا يَوْمِي عَلَى كُورِها *** وَيَوْمَ حَيْانَ أخي جابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا. فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ.

(حتى مضى الأول لسبيله) يقال: فلان مضى لسبيله أي: مات. واللام في قوله «لسبيله» بمعنى (على) كما في قول الشاعر:

*فخر صريعاً لليدين وللفم*

أي على اليدين وعلى الفم ... والمقصود بالأول هو: ابو بكر، أي فعندما مات الأول ومضى على سبيله الذي يسلكه كل انسان وهو سبيل الآخرة، وذلك بعدما قضى في الخلافة سنتان وثلاثة اشهر إلا خمس ليالٍ، على اختلاف في الأقوال.

ص: 189

(فأدلى بها إلى ابن الخطاب) (1) يقال أدلى بها لفلان أي: القاها اليه ء.

ص: 190


1- والمراد بابن الخطاب هو عمر وهو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بالمثنّاة التّحتانية وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم. وينبغي لنا تحقيق الكلام في هذا النسب الشّريف من طريقنا ومن طريق العامّة فأقول: قال العلامة في كشف الحق: وروى الكلبي وهو من رجال السنّة في كتاب المثالب قال: كانت صهّاك أُمةً حبشية لهاشم بن عبد مناف فوقع عليها نفيل بن هاشم ثم وقع عليها عبدالعزىّ بن رياح وجاءت بنفيل جد عمر بن الخطاب، وقال الفضل أبن روزبهان في الشرّح بعد القدح في صحةً النقّل: إن انكحة الجاهلية على ما ذكره أرباب التواريخ على اربعة أوجه، منها أن يقع جماعة على أمرأة ثم ولد منها يحكم فيه القايف أو تصدّق المرأة وربما كان هذا من أنكحة الجاهلية، وأورد عليه شارح الشرح بأنّه لوصحٌ ما ذكره لما تحقق زنا في الجاهلية ولما سمّي مثل ذلك في المثالب ولكان كلّ من وقع على امرأة كان ذلك نكاحاً منه عليها ولم يسمع عن أحد أنّ من نكاح أهل الجاهلية كون امرأة واحدة في يوم واحد أو شهر واحد في نكاح جماعة من الناس. وقال المحدث المجلسي في البحار: وحكى بعض اصحابنا عن محمّد بن شهر آشوب وغيره أن صهّاك كانت امةً لعبد المطلب وكانت ترعى له الابل، فوقع عليها نفيل فجاءت بالخطاب، ثم إن الخطاب لما بلغ الحلم رغب في صهّاك فوقع عليها فجاءت بابنة فلفّتها في خرقة من صوف ورمتها خوفاً من مولاها في الطريق فرآها هاشم بن المغيرة مرميّة في الطريق فأخذها وربّاها وسمّاها حنتمة فلما بلغت رآها خطاب يوم فرغب فيها وخطبها من هاشم فأنكحها إياه فجاءت بعمر بن الخطاب فكان الخطاب أباً وجداً وخالاً لعمر، وكانت حنتمة أمّاً واختاً وعمّة له فتأمل. ثم قال المجلسي (رحمه الله) فأقول: وجدت في كتاب عقد الدرّر لبعض الأصحاب روي بأسناده عن علي بن ابراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن الزيّات عن الصّادق عليه السلام أنّه قال: كانت صهّاك جارية لعبد المطلب وكانت ذات عجز وكانت ترعى الابل وكانت من الحبشة وكانت تميل إلى النكاح، فنظر إليها نفيل جدّ عمر فهواها وعشقها من مرعى الابل، فوقع عليها فحملت منه بالخطاب، فلما أدرك البلوغ نظر الى امّه صهّاك فأعجبه عجيزها فوثب عليها فحملت منه بحنتمة فلما ولدتها خافت من أهلها فجعلتها في صوف والقتها بين أحشام مكة، فوجدها هشام بن المغيرة بن الوليد، فحملها إلى منزله ورباها وسماها بالحنتمة، وكانت شيمة العرب من ربى يتيماً يتخّذه ولداً، فلمّا بلغت حنتمة نظر إليها الخطاب فمال اليها وخطبها من هشام فتزوجها فأولد منها عمر، فكان الخطاب أباه وجده وخاله، وكانت حنتمة امّه واخته وعمتّه، وينسب الى الصادق عليه السلام في هذا المعنى شعر: مَنْ جدُّهُ خالَهُ ووالدُهُ *** وأُمُّهُ أُخُتُهُ وعَمْتُهُ أجدُرُ أنْ يبغضَ الوصيَ وأَنْ *** يَنْكُرَ يومَ الغديرِ بيعتُهُ أقول: هذا النّسب وأمّا الحسب فقد حكي العلامة في كشف الحقّ عن ابن عبد ربّه في كتاب العقد الحديث استعمال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص في بعض ولايته، فقال: عمرو بن العاص: قبح الله زمانا عمل فيه عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب، والله إنّي لأعرف الخطاب على رأسه حزمة من حطب وعلى ابنه مثلها وما ثمنها إلّا تمرة لا تبلغ مضغته، وروي نحو ذلك ابن أبي الحديد عن زبير بن بكار في حديث طويل وفيه فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر والله لقد رأيت عمراً وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا يجاوز مأبض ركبتيه وعلى عنقه حزمة حطب والعاص بن وائل في مزررات الدّيباج. وفي البحار عن النهاية في تفسير المبرطش كان عمر في الجاهليّة مبرطشاً وهو السّاعي بين البائع والمشتري شبه الدّلال، ويروي بالسيّن المهملة بمعناه وفي القاموس المبرطس الذي يكتري للنّاس الابل والحمير ويأخذ عليه جَعْلاً. وقال المحدث الجزائري: ومن عجيب ما رووه عن الخطاب والد عمر بن الخطاب أنّه كان سرّاقاً وقطع في السرّقة ما ذكره ابو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب الشهّاب في تسمية من قطع من قريش في الجاهلية في السرق ما هذا لفظه: قال: والخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عدي بن كعب أبو عمر بن الخطاب قطعت يده في سرقة قدر ومحاه ولاية عمر ورضي الناس عنه، قال بعض المسلمين: ألا تعجب من قوم رووا أن عمر كان ولد زنا وأنه كان في الجاهليّة نخاس (1) الحمير وأنّه كان أبوه سراقاً وأنه ما كان يعرف إلّا بعمير لرذالته ثم مع هذا جعلوه خليفة قائماً مقام نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ونائباً عن الله تعالى في عبادة وقدّموه على من لا طعن عليه في حسب ولا نسب ولا أدب ولا سبب، ويا ليتهم حيث ولوه وفضحوا انفسهم بذلك كانوا قد سكتوا عن نقل هذه الأحاديث التي قد شمتت بها الأعداء، وجعلوها طريقاً الى جهلهم بمقام الأنبياء وخلافة الخلفاء.

ودفعها.

ص: 191

قال تعالى:

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) (1) أي تدفعوها إليهم رشوة وأصله من أدليت الحبل في البئر أدلاء أي أرسلتها ليستقي بها، ومراده (علیه السلام): ان ابا بكر دفع الخلافة الى ابن الخطاب (بعده) بطريق النص والوصية من دون ان يكون له استحقاق لها كما يشير اليه لفظ الادلاء على ما نبّه به ابن ابي الحديد حيث قال بعدما فسّر الادلاء بالدفع على وجه الرشوة:

فإن قلت: فإن أبا بكر إنّما دفعها إلى عمر حين مات ولا معنى للرّشوة عند الموت.

قلت: لما كان عليه السلام يرى أنّ العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبّه ذلك بإدلاء الانسان بماله إلى الحاكم، فإنّه إخراج للمال إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة.

(ثم تمثل): يقال: تمثل بالبيت انشده للمثل (بقول الاعشى) (2): في قوله:

(شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابرِ)

و (شتّان) مبني على الفتح لتضمّنه معنى افترق، مع تعجب، أي ما أشدّ الأفتراق فيطلب فاعلين كأفترق نحوشتّان زيد وعمرو، وقد يزاد بعده ما كما في البيت:

و (يومي ويوم) مرفوعان على الفاعلية ... وهذا البيت التي تمثل به الامام (علیه السلام) هو من قصيدة طويلة له قالها في منافرة علقمة بن علانة بن عوف وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر وتفصيل قصة نفارهما ذكره أبو الفرج في ل.

ص: 192


1- البقرة (188).
2- اعشی قیس، وهو: أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل.

الأغاني وقبل ذلك البيت الذي تمثل عليه السلام به قوله:

وقد أسلي (1) الهمِّ إذ يعتري *** بحسرةٍ دوسرةِ عاقرِ

زيافة بالوحل خطارة *** تلوي بشرخي ميسةٍ فاترِ

ارمي بها البيداء إذ هجرت *** وأنت بين القرد والعاصرِ

في مجدلٍ شُيّدَ بنيانُه *** يزل عنه ظفر الطائِرِ

ومعنى البيت بعد (ما بين يومي) على رحل هذه النّاقة الموصوفة، وبين (يوم حيّان) وهو في سكرة الشّراب ناعم البال مرفه من الأكدار والمشاق، و (حيان وجابر) ابنا السّمين الحنفيان وكان حيان صاحب حصن باليمامة وكان من سادات بني حنيفة مطاعاً في قوله يصله كسرى في كل سنة وكان في رفاهيّة ونعمة مصوناً من وعثاء السفر، لم يكن يسافر أبداً، وكان الأعشى ينادمه وكان أخوه جابر أصغر سِنّاً مِنْهُ، حكي ان حيان قال للأعشى نسبتني إلى اخي وهو أصغر سنّاً مني فقال: إنّ الرّوي اضطرني إلى ذلك، فقال: والله لا نازعتك كأساً أبداً ما عشت.

ومعنى البيت على ما ذكرناه هو الذي أفاده المرتضى (قده) وهو الظاهر المطابق للبيت الذي بعده أعني قوله: أرمي بها البيداء. وهو أيضاً مما تمثل عليه السلام به على ما حكي عن بعض النسخ، فيكون غرضه عليه السلام من التمثل على ذلك بيان البعد بين يومه صابراً على القذى والسّجى وبين يومهم .

ص: 193


1- قوله اسلى من التسلية وسلاه سلوا انساه واسلاه عنه فتسلى، والناقة الحسرة التي اعياها السفر، والدوسرة مؤنس الدوسر وهو الجمل الضخم العظيم الهيكل، وعقرت الناقة انقطع حملها فهي عاقر، وزاف الرجل وكذا الابل تبختر في مشيه، والناقة الخطارة التي ضرب بذنبها يميناً وشمالاً، وشرخاً الرحل مقدمه ومؤخره، والميس شجر يتخذ منه الرحال، وزحل فاتر جيد الوقوع على ظهر البعير، والهاجرة نصف النهار وعند زوال الشمس مع الظهر وهجرت تهجيراً سارت في المهاجرة، والقرد الاجانة للشرب وقدح أو اناء صغير، والعاصر الذي يعصر الخمر، والمجدل كمنبر القصر والجمع مجادل ووصفه بقوله يزل عنه أه اشارة الى ارتفاعه، (منه).

فائزين بما طلبوا من الدّنيا، وقريب منه ما قال الشّارح المعتزلي حيث قال: يقول امير المؤمنين عليه السلام: شتّان بين يومي في الخلافة مع ما انتقص عليَّ من الأمر ومنيت به من انتشار الحبل واضطراب أركان الخلافة، وبين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهّدة وأركان ثابتة وسكون شامل، فأنتظم أمره واطرد حاله.

وقال بعض الشّارحين: المعنى ما أبعد ما بين يومي على كور النّاقة أدأب و انصب وبين يومي منادماً حيّان أخي جابر في خفض ودعة، فالغرض من التّمثل إظهار البعد بين يومه عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقهوراً ممنوعاً عن حقّه، وبين يومه في صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارغ البال مرفّه الحال كاسباً للفيوضات الظاهريّة والباطنية، وهذا المعنى هو الأقرب إلى النّظر والأنسب إلى السّياق، وبه فسّره المحدث الجزائري حيث قال: وقوله عليه السلام: شتّان البيت وهو الأعشى يقول: تفرق ما بين يوميّ يوم سروري وهو منادمتي لأخي حيّان، ويوم شدّتي وركوبي على متن ناقتي في البراري والقفار، وهو عليه السلام قد استعار هذا ليوميه يوم فرحة لما كان نديمه النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ويوم تعبه، ويوم ركوبه المشاق والحروب وحده بلا معاون ولا نصير. (فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته) و «يا عجباً» منصوب بالنداء، وأصله يا عجبي ثم قلبت الياء ألفاً، كأن المتكلم ينادي عجبه ويقول له: احضر هذا أوان حضورك، و «بينا» هي بين الظرفية، أشبعت فتحها فصارت ألفاً، وتقع بعدها «إذا» الفجائية غالباً ... ومعنى «الأقالة» فك عقد البيع ونحوه والاستقالة: طلب ذلك ... ثم إنّه أظهر التعجب من ادلائه بالخلافة اليه مع استقالته منها بقوله: (فيا عجباً بينا هو) يعني ابا بكر (يستقيلها) أي يطلب الاقالة منها (في حياته) ويقول: أقيلوني أقيلوني (إذ عقدها لآخر) أراد به عمر أي جعلها معقودة له لتكون له (بعد وفاته) ووجه التّعجب أنّ استقالته منها في حياته دليل على رغبته عنها وزهده فيها وعقدها لغيره دليل على رغبته فيها وميله اليها، وهو يضادّ الاستقالة الحقيقية فيكون دليلاً على كون الاستقالة

ص: 194

منه صوريّة ناشئة عن وجه الخدعة، والتدليس، ونعم ما قيل:

حَملُوها يومَ السّقيفةِ وِزْراً *** تخفُّ الجبالُ وهي ثِقالُ

ثمّ جاؤوا من بعدِها يستقيلون *** وهيهاتِ عشرةٌ لا تُقالُ

هذا وخبر الاقالة ممّا رواه الجمهور، وهو قوله: اقيلوني أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم، ورواه في البحار عن الطبري في تاريخه والبلاذري في أنساب الأشراف والسّمعاني في الفضائل وأبي عبيدة في بعض مصنّفاته، قال: ولم يقدح الفخر الرّازي في صحّته وإن اجاب عنه بوجوه ضعيفة، وكفى كلامه عليه السلام شاهداً على صحته انتهى.

وقال بعض المحقّقين من اصحابنا: معنى اصحابنا: معنى استقالته الأمر بقتل علي بن أبي طالب عليه السلام يعني ما دام عليّ فيكم موجوداً فأنا لست بخيركم فأقتلوه حتّى اكون خليفة بلا منازع.

(لشدِّ ما تشطرا ضرعيها) و «شدّ» و إذا صار شديداً - مثل حب إذ صار حبيباً (تشطر) إما مأخوذاً من الشّطر بمعنى النّصف يقال: فلان شطر ماله أي نصفه، أو من الشطر بمعنى خلف الناقة بالكسر، قال الشّارح المعتزلي: وللنّاقة أربعة أخلاف خلفان قادمان (1) وخلفان آخران، وكلّ اثنين منهما شطر وتشطرا ضرعيها اقتسما فائدتها، والضّمير للخلافة وسمّي القادمين معاً ضرعاً وسمّي الآخرين معاً ضرعاً لتجاورهما ولكونهما لا يحلبان إلا معاً كالشّيء الواحد انتهى. ولفظ التشطر على وزن التّفعل غير موجود في كتب اللغة.

قال العلامة المجلسي: وفي رواية المفيد وغيره شاطرا على صيغة المفاعلة يقال: شاطرت ناقتي إذا احتلبت شطراً وتركت الآخر، وشاطرت فلاناً مالي إذا ناصفته، واللام في قوله (لشد) جواب للقسم المقدر، والتقدير، والله لصار شديداً. و (ما). مصدرية، والمصدر المؤول في محل رفع فاعل .

ص: 195


1- وهما اللذان يليان السرة (منه).

وهذا الفعل لا يستعمل إلا في التعجب.

فكنى عليه السلام بالناقة عن الخلافة وبضرعيها عن امرها وتحمل مسؤولياتها، والاستفادة من تولية امرها.

والمعنى: ان ابا بكر وعمر قد اقتسمها الفائدة المرجوة من تولي زمام المسلمين وقد تقاسما الخلافة كالشريكين اللذين يقتسمان ضرع ناقة لأجل حليبها. وفي بعض روايات السقيفة إنه عليه السلام قال لعمر بن الخطاب عندما دعا الى خلافة أبي بكر، قال (علیه السلام) له: «إحلب حلباً لك شطره، إشدد له اليوم يرده عليك غداً»

(فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كُلامُها ويخشن مسها).

و (الحوزة) الطبيعة والنّاحية و (الغلظ) ضدّ الرّقة و (الكَلْم) بفتح الكاف وسكون اللّام يقال: كلمته كلماً من باب قتل جرحته من باب ضرب لغة، ثم اطلق المصدر على الجرح ويجمع على كلوم وكلام مثل بحر وبحور وبحار. (فصيرها في حوزة) أي في طبيعة أو ناحية (خشناء) متصفاً بالخشونة لا ينال ما عندها، ولا يرام ولا يفوز بالنجاح من قصدها.

قال بعض الأفاضل: الظاهر أن المفاد على تقدير إرادة الناحية تشبيه المتولي للخلافة بالأرض الخشناء، في ناحية الطريق المستوي، وتشبيه الخلافة بالرّاكب السّائر فيها أو بالنّاقة أي اخرجها عن مسيرها المستوي وهو من يستحقها الى تلك النّاحية الحزنة هذا: والأظهر إرادة معنى الطبيعة.

ثم وصف عليه السلام الحوزة ثانياً بأنّها (يغلظ كُلامُها) أي جرحها وفي الاسناد توسّع، قال الشّارح البحراني: غلظ الكلم كناية عن غلظ المواجهة بالكلام والجرح به، فإنّ الضّرب باللّسان اعظم من وخز السّنان أقول: ومن هنا قيل:

جراحاتُ السِّنانِ لها التئام *** ولا يلتئمُ ما جَرَحَ اللّسانُ

ص: 196

(و) وصفها ثالثاً بأنّها (يخشن مسّها) أي تؤذي وتضر من يمسها قال البحراني: وهي كناية عن خشونة طباعه المانعة من ميل الطباع إليه المستلزمة للأذى كما يستلزم من الأجسام الخشنة.

(ويكثر العُثار فيها والإعتذار منها).

و (العثار) بالكسر؛ مصدر من عثر الرجل والفرس أيضاً، يعثر، من باب قتل وضرب (ويكثر):فعل مبني للمجهول والعثار نائب الفاعل، و (الاعتذار) معطوفة على و (العثار)، وهي بمعنى كثرة الوقوع ثم الاعتراف بذلك الخطأ والاعتذار لما حصل. والضمير في قوله (فيها ومنها) راجع الى الحوزة، ويحتمل رجوع الثاني الى العثرات المستفادة من كثرة العثار، و (من) في قوله (منها) صلة للاعتذار أو للصفة المقدرة صفة للأعتذار، أو حالا عن يكثر أي الناشيء أو ناشئاً منها. ويمكن ان يكون (من) للتعليل والسببية، أي: ويكثر اعتذار الناس عن أفعالهم وحركاتهم لأجلها ...

(و) وصف عليه السلام الحوزة رابعاً بأنها (يكثر العِثار فيها والاعتذار منها) ومعناه على جعل الحوزة بمعنى الطبيعة واضح أي: يكثر العثار في تلك الطبيعة والاعتذار من هذه الطبيعة أو اعتذار صاحبها منها أو الاعتذار من عثراتها وقد مضى في بيان الاعراب احتمال كون من إنشائية وتعليليّة، وأمّا على تقدير جعلها بمعنى النّاحية فالمعنى ما ذكره بعض الأفاضل عقيب كلامه الذي حكيناه في شرح قوله عليه السلام: فصيرها في حوزة خشناء، بما لفظه: فيكثر عثارها أو عثار مطيتها فاحتاجت إلى الاعتذار من عثراتها النّاشئة من خشونة النّاحية وهو في الحقيقة اعتذار من النّاحية، فالعاثر والمعتذر حينئذٍ هي الخلافة توسعا.

وكيف كان فالغرض من هذه الجملة الاشارة إلى كثرة خطأ عمر في القضايا والأحكام، وجهالته بالفتاوي وشرائع الاسلام، ولا بأس بالاشارة إلى بعض عثراته ونبذ من جهالاته ويسير من هفواته وزلاته.

ص: 197

(فصاحبها كراكب الصعبة إن اشتق لها خَرَمَ وإن اسلس لها تقحَّم).

و (الصعبة) من النوق غير المنقادة لم تذلل بالمحمل ولا بالركوب.

و (أشنق) يقال: أشنق بعيره: أي جذب رأسه بالزمام ليمسكه عن الحركة العنيفة، كما يفعل الفارس بفرسه وهو راكب، وأشنق هو بالألف أيضاً، كشنق، رفع رأسه: فيستعمل الرباعي لازماً ومتعدياً كالثلاثي.

قال الرضي بعد إيراد تمام الخطبة قوله عليه السلام (إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحَّم) يريد أنَّه إذا شدّد عليها في جذب الزّمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال: اشنق النّاقة إذا جذب رأسها بالزّمام فرفعه وشنقها أيضاً، ذكر ذلك ابن السّكيت في أصلاح المنطق وإنما قال: اشنق لها ولم يقل: أشنقها، لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه عليه السلام قال: إن رفع لها رأسها بالزّمام بمعنى امسكه عليها انتهى.

و (الخرم) الشّق يقال خرم فلاناً كضرب أي شق وترة انفه (1) وهي ما بين منخريه فخرم هو كفرحٍ و (أسلس لها) أرخى زمامها و (تقحم) فلان رمى نفسه في المهلكة وتقحَّم الانسان في الأمر ألقى نفسه فيه من غير روية وتقحم الفرس راكبه رماه على وجهه.

(فصاحبها) أي: صاحب تلك الحوزة والطبيعة (كراكب) النّاقة (الصّعبة) الغير المنقادة (إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم) قال الرّضي (رحمه الله) بعد تمام الخطبة: يريد عليه السلام أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزّمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها.

أقول: وقد أرخى زمامها ولم يمسكها فرمت به في أودية الضّلالة )

ص: 198


1- وترة الأنف حاجزها، (ق)

وتقحمت به في ورطات الهلاكة فلم يمكنه التخلص منها والخروج عنها، وعلى هذا المعنى فالمراد بصاحب الحوزة هو عمر وهذا أظهر وقد ذكروا في المقام وجوهاً أخر.

منها أنّ الضّمير في صاحبها يعود الى الحوزة المكنّى بها عن الخليفة أو أخلاقه، والمراد بصاحبها من يصاحبها كالمستشار وغيره، والمعنى أنّ المصاحب للرّجل المنعوت حاله في صعوبة الحال كراكب النّاقة الصّعبة فلو تسرع إلى إنكار القبائح من أعماله أدّى إلى الشقاق بينهما وفساد الحال، ولو سكت وخلاه وما يصنع أدّى الى خسران المآل.

ومنها أنّ الضّمير راجع إلى الخلافة أو الى الحوزة، والمراد بصاحبها نفسه عليه السلام، والمعنى أنّ قيامي في طلب الأمر يوجب مقاتلة ذلك الرّجل وفساد أمر الخلافة رأساً وتفرق نظام المسلمين، وسكوتي عنه يورث التقّحم في موارد الذل والصّغار.

ومنها أن الضّمير راجع إلى الخلافة وصاحبها من تولى امرها مراعياً للحقّ وما يجب عليه، والمعنى أن المتولي لأمر الخلافة إن أفرط في إحقاق الحقّ وزجر النّاس عمّا يريدونه بأهوائهم اوجب ذلك نفار طباعهم وتفرّقهم عنه، لشدة الميل إلى الباطل، وإن فرّط في المحافظة على شرائطها القاه التّفريط في موارد الهلكة وضعف هذا الوجه وبُعْده واضح.

(فمنَّي الناس لعمر الله بخبطٍ وشماسٍ وتلونٍ واعتراضٍ).

و (مني) للبناء على المجهول، أي: ابتلى: و (لعمر) بالضم والفتح مصدر عمر الرّجل، وبالكسر إذا عاش زماناً طويلاً ولا يستعمل في القسم إلّا لعمر بالفتح فاذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء، واللّام لتوكيد الابتداء والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي، وإن لم تأتِ باللّام نصبت نصب المصادر. و (الخبط) بالفتح السير على غير معرفة وفي غير جادة و (الشّماس) بكسر الشّين النّفار يقال: شمس الفرس شموساً وشماساً أي منع ظهره فهو فرس شموس بالفتح و (التّلون) في الانسان أن لا يثبت في خلق واحد، و

ص: 199

(الاعتراض) السّير على غير إستقامة كأنه يسير عرضاً.

ولما ذكر عليه السلام أوصاف الرجل الذميمة وأخلاقه الخبيثة الخسيسة أشار إلى شدّة ابتلاء النّاس في أيّام خلافته بقوله: (فمني النّاس) أي ابتلوا (لعمر الله بخبط) أي بالسير على غير معرفة وفي غير جادّة (وشماس) ونفار (وتلوّن) مزاج (واعتراض) أي بالسّير على غير خط مستقيم كأنّه عرضاً، قال الشّارح المعتزلي: وإنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط وبعير عرضي يعترض في سيره لأنّه لم يتمّ رياضته وفي فلان عرضية أي عجز فيه وصعوبة، وقال البحراني في شرح تلك الجملة: إنّها إشارة إلى ما ابتلوا به من اضطراب الرّجل وحركاته التي كان ينقمها عليه، فكني بالخبط عنها وبالشّماس عن جفاوة طباعه وخشونتها، وبالتّلون والاعتراض عن انتقاله من حالة إلى اخرى في اخلاقه، وهي استعارات وجه المشابهة فيها أنّ خبط البعير، وشماس الفرس واعتراضها في الطريق حركات غير منظومة، فأشبهها ما لم يكن منظوماً من حركات الرّجل التي ابتلى النّاس بها.

أقول: وعلى ذلك فالأربعة أوصاف للرّجل والمقصود كما ذكره الاشارة الى ابتلاء النّاس في خلافته بالقضايا الباطلة لجهله واستبداده برأيه مع تسرعه إلى الحكم مع ايذائهم بحدته وبالخشونة في الأقوال والأفعال الموجبة لِنَفَارِهِمْ عنه، وبالنّفار عن النّاس كالفرس الشّموس والتلوّن في الآرا والأحكام لعدم ابتنائها على أساس قويّ، وبالخروج عن الشرع السّواء والجادة المستقيمة أو بالحمل على الأمور الصعبة والتكاليف الشّاقة.

ويحتمل كونها صفات للنّاس، فإن خروج الوالي عن الجادّة يستلزم خروج النّاس احياناً وكذا تلوّنه واعتراضه يوجب تلوّن الرّعية واعتراضهم على بعض الوجوه وخشونته يستلزم نفارهم وهو ظاهر.

(فصبرت على طول المدة وشدة المحنة).

الفاء في قوله (فصبرت) واقعة في جواب القسم السابق في قوله (لعمر الله) ... و (المحنة) البلية التي يمتحن بها الانسان، يقال: امتحنه فلان،

ص: 200

اي: ابتلاه ليعرف مقدرته أو مدى تحمله.

والمعنى: إنه عليه السلام لما ذكر البلاء والامتحان الذي ابتلى الناس به ووصفه بوصف دقيق، وما كان الناس عليه عندئذٍ، أردف ذلك كله بتكرير ذكر صبره (علیه السلام) على ما صبر عليه مع عمر بن الخطاب، كما صبر مع الخليفة الأول ابي بكر، وقال: (فصبرت على طول المدة) أي: طول مدة تخلف الأمر عنه عليه السلام، وعندما اغتصب الخلافة الأول والثاني. (و) كما إنه صبر على ذلك صبر أيضاً على (شدة المحنة) أي: شدة الابتلاء بسبب فوات حقه، وما يستتبع ذلک من اختلال قواعد الدين وانهدام اركان اليقين ...

وبقي الكلام في كيفية عقد أبي بكر الخلافة لعمر وإدلائه بها إليه فأقول: قال الشّارح المعتزلي وروى كثير من النّاس أنّ أبا بكر لما نزل به دعا عبد الرحمن ابن عوف فقال: أخبرني عن عمر فقال: إنّه أفضل من رأيت إلّا أن فيه غلظة، فقال أبو بكر ذاك لأنّه يراني رقيقاً ولو قد افضى الأمر اليه لترك كثيراً ممّا هو عليه وقد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرّضى عنه، وإذا لنت له أراني الشدّة عليه، ثم دعا عثمان بن عفّان فقال: اخبرني عن عمر، فقال: سريرته خير من علانيته وليس فينا مثله، فقال لهما لا تذكرا ممّا قلت لكما شيئاً ولو تركت عمر لما عدوتك لما عدوتك يا عثمان والخيرة لك أن لا تلي من امورهم شيئاً ولوددت اني كنت من اموركم خلواً وكنت فيمن مضى من سلفكم.

ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: إنّه بلغني أنّك يا خليفة استخلفت على النّاس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه فكيف به اذا خلا بهم وأنت غداً ملاقٍ ربّك فسألك عن رعيتك، فقال أبو بكر اجلسوني ثم قال: أبالله تخوّفني إذا لقيت ربّي فسألني قلت: استخلفت عليهم خير أهلك، فقال طلحة: أعمر خير النّاس يا خليفة؟ فأشتد غضبه فقال: أي والله هو خيرهم وأنت شرّهم أم والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها، أتيتني وقد دلكت عينيك تريد أن تفتنني عن ديني وتزيلني عن رأيي، قم لا أقام الله رجليك، أما والله

ص: 201

لئن عشت فواق ناقة وبلغني انّك غمضته فيها أو ذكرته بسوء لالحقتّك بخمصات (1) قنة (2) حيث كنتم تسقون ولا تروون وترعون ولا تشبعون وانتم بذلك متبجحون (3)، راضون، فقام راضون، فقام طلحة فخرج.

ثم قال الشّارح: احضر أبو بكر عثمان وهو يجود بنفسه فأمره ان يكتب عهده وقال: أكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أمّا بعد، ثم أغمي عليه وكتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب، وأفاق أبو بكر فقال: اقرأ، فقرأه فكبر أبو بكر وسرَّ، وقال: أراك خفت أن تختلف النّاس إن مت في غشيتي؟ قال: نعم، قال: جزاك الله خيراً عن الاسلام وأهله، ثم أتمّ العهد، وامر أن يُقرأ على النّاس فقرأ عليهم، ثم أوصى عمر بوصايا وتوفي ليلة الثلاثاء، لثمانٍ بقينَ من جمادي الآخرة من سنة ثلاث عشر.

أقول: أنظروا يا أهل البصيرة والانصاف والدّقة والاعتبار إلى الخلافة العظمى والرّياسة الكبرى كيف صارت لعبة للجهال ودولة بين أهل الغيّ والضّلال وانظروا رئيس الضّالين والمضلين كيف اجترى على ربّ العالمين في تلك الحالة التي كان يفارق الدّنيا وينتقل إلى نزاعة للشّوى، فحكم بكون عمر أفضل الصّحابة مع كون امير المؤمنين عليه السلام بينهم، وقد قال فيه نبّيهم صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ائتني بأحب الخلق اليك، وسائر أحاديث الفضل التي لا تحصى حسبما عرفت بعضها في مقدمات هذه الخطبة وغيرها ثم انظر إلى ابن الخطاب عليه النّكال والعذاب كيف لم يقل لأبي بكر في هذه الحالة التي يغمى عليه فيها مرّة ويفيق أخرى إنّه ليهجر (4) كما قال للنّبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أراد ان يكتب كتاباً أن لا يضلّوا بعده: إنّه ليهجر ).

ص: 202


1- الخمصة الجوعة (ق).
2- اسم موضع (ق).
3- البجح بتقديم الجيم على الحاء الفرح (ق).
4- الهجر الهذيان (منه).

ولنعم ما قيل:

أوصى النّبيُ فقالَ قائلُهُمْ *** قدخلَّ يَهَجُرُ سيدُ البشَرِ

ورأى أبا بكرٍ أصابَ ولم *** يهْجُرْ فقد أوصى الى عُمرِ

ثم العجب من النعثل الفاجر عثمان بن عفان عليه سخط الرّحمن حيث كتبها برأيه بدون مصلحة الخليفة الخوّان، والعجب كل العجب من هذا الشّقي كيف مدحه وشكره وجزاه خيراً عن الاسلام وأهله ولم يقل له: لِمَ اجترأت على هذا الأمر العظيم والخطب الجسيم الذي هو مقام الأنبياء وميراث الأوصياء يترتب عليه أمر الدّين والدّنيا بمحض رأيك ورضاك وطبعك وهواك، مع أن سيد الورى صلى الله عليه وآله وسلم لا يجترىء أن يخبر بأدنى حكم إلّا بوحي يوحى ويلزم على زعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد أن يكون أبو بكر وعثمان أشفق على أهل الاسلام والأيمان من سيد الانس والجان لأنه بزعمهم أهمل أمر الأمة ولم يوص لهم بشيء، وهما أشفقا على الأمة حذراً من ضلالتهم فنصبا لهم جاهلاً شقياً وفظاً غليظاً.

يا ناعيَ الإسلامِ قُمْ فانعِهِ *** قد ماتَ عُرْفٌ وبَدا المُنْكَرُ

وغير خفي على العاقل اللبيب والكامل الأريب أنّ تلك الأمور الفاضحة والحيل الواضحة لم تكن إلّا لتأسيس أساس الكفر والنفاق وهدم بنيان الاسلام والاتفاق، وإرجاع الناس إلى اعقابهم القهقرى وترويج عبودية اللّات والعزى فجزاهم الله عن الاسلام و أهله شر الجزاء؛ وغضب عليهم ملء الأرض والسماء.

أقول: والمقصود من هذه الأوصاف الاشارة إلى فظاظة عمر وغلظته وجفاوته وقبح لقائه وكراهة منظره، ورغبة الناس عن مواجهته ومكالمته، ويدلّ على ذلك ما روي أنّ ابن عباس لمّا اظهر بطلان مسألة العول بعد موت عمر قيل له: من أول من أعال الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطاب، قيل

ص: 203

له: هلّا أشرت عليه؟ قال هيبته، وما رواه الشّارح المعتزلي في شرح هذا الفصل أنّ عمر هو الذي غلّظ على جبلة (1) بن الأيهم حتّى اضطره الى مفارقة .

ص: 204


1- قصة جبلة بن الايهم الغساني على ما ذكره ابو الفرج الاصفهاني في كتاب الأغاني؟ هو أنّه لما اسلم جبلة بن الايهم وكان من ملوك آل جفنة كتب الى عمر يستأذنه في القدوم عليه فاذن له عمر فخرج اليه في خمسمائة من أهل بيته من عك وغسان حتى اذا كان على مرحلتين كتب الى عمر ليعلمه بقدومه فسر عمر وأمر الناس باستقباله وبعث اليه بانزال وامر جبلة مائتي رجل من اصحابه فلبسوا السلاح والحرير وركبوا الخيل معقودة اذنابها والبسوها قلائد الذهب والفضة ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية وهي جدته ودخل المدينة فلم يبقَ بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر اليه والى زيه فلما انتهى الى عمر رحب به والطفه وادنى مجلسه ثم ادار عمر الحج فخرج معه جبلة فبينا هو يطوف بالبيت وكان مشهوراً بالموسم اذ وطى ازاره رجل من بني فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم انف الفزاري فاستعدى عليه عمر فبعث الى جبلة فأتاه فقال ما هذا؟ قال نعم يا امير المؤمنين انه تعمد حل ازاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر قد اقررت فأما ان رضي الرجل واما ان اقيده منك قال جبلة ماذا تصنع بي قال آمر بهشم انفك كما فعلت قال وكيف ذاك يا امير المؤمنين وهو سوقة وانا ملك قال ان الاسلام جمعك واياه وليس تفضل بشيء إلا بالتقى والعافية قال جبلة قد ظننت اني اكون في الاسلام اعز مني في الجاهلية قال عمر دع عنك هذا فانك ان لم تُرضِ الرجل اقدته منك قال اذا اتنصر قال ان تنصرت ضربت عنقك لأنك قد اسلمت فإن ارتددت قتلتك فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال انا ناظر في هذا ليلي هذه وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة فلما أمسوا اذن لهم عمر في الانصراف حتى اذا نام الناس وهدوا فحمل جبلة بخيله ورواحله الى الشام فاصبحت مكة وهي منهم بلاقع فلما انتهى الى الشام تجمل في خمسمائة من قومه حتى اتى الى القسطنطنية فدخل الى هرقل فتنصر هو واصحابه فسر هرقل بذلك جداً وظن انه فتح من الفتوح عظيم واقطعه حيث شاء، واجرى عليه من المنزل ما شاؤ وا وجعله من محدثيه هكذا ذكر أبو عمر وذكر ابن الكلبي ان الفزاري لما وطىء ازار جبلة لطم جبلة كما لطمه فوثب غسان وهشموا انفه واتوا به عمر ثم ذكر ما في الخبر نحو ما ذكرناه وشعر جبلة على ما رواه ابو الفرج هكذا: تنصرت الاشراف من عار لطمة *** وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني فيها لجاج ونخوة *** وبعت بها العين الصحيحة بالعور فيا ليت امي لم تلدني وليتني *** رجعت الى القول الذي قال لي عمر ويا ليتني ارعى المخاض بدمنة *** وكنت اسيراً في ربيعة أو مضر ويا ليت لي بالشام أولى معيشة *** اجالس قومي ذاهب السمع والبصر. انتهى (منه).

دار الهجرة بل مفارقة بلاد الاسلام كلها حتّى عاد مرتداً داخلا في دين النّصرانيّة لأجل لطمة لطمها، وقال جبلة بعد ارتداده متندّماً على ما فعل:

تَنصرتِ الأشرافُ من أجلِ لطمةٍ *** وما كَانَ فيها لو صَبَرَتْ لها ضَرَرُ

فيا ليتَ أمّي لم تلدْني وليتني *** رجعتُ الى القولِ الذي قالهُ عمرُ

أقول: هذه الرّواية كافية في فضل هذا الرّجل ومنقبته، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعثه الله إلّا لهداية الأنام والأرشاد الى دعائم الإسلام. فعاشر معهم بمحاسن الأخلاق ومكارم الآداب حتّى نزل فيه: ﴿ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1). وكان صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يتحمل الأذى ويصبر على شدائد البلوى، لهداية نفس واحدة وانجائها من الضّلالة، وهذا الرّجل الجلف الذي يزعم أنّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصرف النّاس عن الاسلام إلى النّصرانية بمقتضى خبث طينته وسوء سريرته وغلظ كلمته وفوق كلّ ذلك فظاظة جسارته على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات يكره اللّسان بيانها ويأبى القلم عن كتبها وإظهارها، مثل قوله له صلى الله عليه وآلهوسلم في صلح الحديبيّة لم تقل لنا ستدخلونها في ألفاظ نكره حكايتها. ومثل الكلمة التي قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الشّارح المعتزلي: ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها ولكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزيةً ولم يتحفّظ منها، وكان الأحسن أن يقول: مغمور أو مغلوب. بالمرض وحاشاه ان يعني بها غير ذلك.

أقول: وشهد الله أنّ قصده ما كان إلا ظاهرها وحاشاه أن يقصد بها إلّا ذلك.

وقال الشّارح ايضاً في شرح الخطبة الخامسة والعشرين عند الكلام على حديث الفلتة: «واعلم أنّ هذه اللّفظة من عمر مناسبة لالفاظ كثيرة كان 4.

ص: 205


1- القلم - 4.

يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة ولا حيلة له فيها، لأنّه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها، ولا ريب عندنا أنّه كان يريد ان يتلطف وأن يخرج الفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع الجاسي

والغريزة الغليظة إلى امثال هذه الالفاظ، ولا يقصد بها سوء ولا يريد بها

ذمّاً ولا تخطئة كما قدّمنا قبل ذلك في اللّفظة التي قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكالالفاظ التي قالها عام الحديبية وغير ذلك، والله لا يجازي المكلف إلّا بما نواه، ولقد كانت نيّته من أطهر النيّات وأخلصها لله سبحانه.»

وفيه انّ اقتضاء الطبيعة واستدعاء الغريزة التي جعله معذرة له إن أراد به أنه بلغ إلى حيث لم يبقَ لعمر معه قدرة على إمساك لسانه عن التكلّم بخلاف ما في ضميره، بل كان يصدر عنه الذّم في مقام يريد به المدح، والشّتم في موضع يريد الاكرام ويخرج بذلك عن حدّ التكليف فلا مناقشة في ذلك، ولكن مثل هذا الرّجل يعده العقلاء في زمرة المجانين، ولا خلاف في أنّ العقل من شروط الامامة، وإن أراد أنّه يبقى مع ذلك ما هو مناط التّكليف فذلك ممّا لا يسمن ولا يغني من جوع، فإنّ أبليس استكبر على آدم بمقتضى الجبلة النّارية، ومع ذلك استحقّ النّار وشملته اللعنة إلى يوم الدّين، والزّاني إنما يزني بمقتضى شهوته التي جبله الله تعالى عليها ومع ذلك يرجم ولا يرحم.

فمنها ما ذكره الشّارح المعتزلي حيث قال: وكان عمر يفتي كثيراً بالحكم ثم ينقضه ويفتي بضده وخلافه، قضى في الجدّ مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجدّ برأيه.

ومنها ما ذكره أيضاً وهو أنّه لمّا مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشاع بين النّاس موته طاف عمر على النّاس قائلاً إنّه لم يمت ولكنّه غاب عنّا كما غاب موسى عن قومه، فليرجعن وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ويزعمون أنّه مات فجعل لا يمرّ بأحد يقول: إنّه مات إلّا ويخبطه ويتوعده حتى جاء أبو بكر فقال: أيّها النّاس من كان يعبد محمّداً فإن

ص: 206

محمداً قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لم يمت ثم تلا قوله تعالى: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) (1). قالوا: فوالله لكأنَّ النّاس ما سمعوا هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، وقال عمر لمّا سمعته يتلوها هويت إلى الأرض وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مات.

أقول: من بلغ من قلة المعرفة إلى مقام ينكر موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحكم مع ذلك من تلقاء نفسه بأنّه يرجع ويقطع أيدي رجال وأرجلهم كيف يكون إماماً واجب الطاعة على جميع الخلق؟

ومنها ما رواه أيضاً كغيره من أنّه قال مرّة لا يبلغنى أنّ امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النّبي صلى الله عليه وآله وسلم إلّا ارتجعت ذلك منها فقالت امرأة ما جعل الله لك ذلك إنّه قال تعالى: ﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (2). فقال: كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال، ألا تعجبون من إمام أخطأ وإمرأة أصابت فاضلت إمامكم ففضّلته. واعتذار قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك التجاوز (3) والتواضع في قوله: كلّ النّاس أفقه من عمر، خطأ، فإنّه لا يجوز ارتكاب المحرم وهو ارتجاع المهر، لأجل فعل المستحب، وأمّا التواضع فإنّه لو كان الأمر كما قال عمر لاقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ، ولو كان العذر صحيحاً لكان هو المصيب والمرأة مخطئة أنّه مخالف لصريح قوله ألا تعجبون من إمام أخطأ.

ومنها ما رواه هو وغيره من أنّه كان يعس بالليل فسمع صوت رجل وامرأة في بيت فارتاب فتسور الحائط فوجد امرأة ورجلاً وعندهما زقّ خمر فقال: يا عدوّ الله كنت ترى أنّ الله يسترك وأنت على معصيته؟ قال: .

ص: 207


1- آل عمران - 144.
2- النساء - 20.
3- أي تجاوز الصداق عن صداق نساء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (منه).

إن كنتُ اخطأت في واحدة فقد اخطأتَ في ثلاثٍ، قال الله تعالى: ولا تجسّسوا، وقد تجسّست وقد تجسّست، وقال: وأتوا البيوت من أبوابها، وقد تسورت، وقال: إذا دخلتم بيوتاً فسلموا، وما سلمتَ.

ومنها ما رواه أيضاً وجماعة من الخاصّة والعامة من أنّه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرّمهما ومعاقب عليهما: متعة النّساء ومتعة الحجّ، قال الشّارح المعتزلي وهذا الكلام وإن كان ظاهره منكراً فله عندنا مخرج وتأويل أقول: بل هو باقٍ على منكريّته والتّأويل الذي ارتكبوه ممّا لا يسمن ولا يغني من جوع.

ومنها ما رواه أيضاً من أنّه مرّ يوماً بشابّ من فتيان الأنصار وهو ظمآن فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه، وقال: إن الله تعالى يقول: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) (1). فقال له الفتى: إنّها ليست لك ولا لأحد من أهل هذه القبلة، إقرأ ما قبلها: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا). فقال عمر كلّ: الناس أفقه من عمر.

ومنها أنّه أمر برجم امرأة حامل فقال له امير المؤمنين عليه السلام: إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فقال: لولا عليّ لهلك عمر.

ومنها أنّه امر برجم مجنونة فنبّهه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق فقال: لولا عليّ لهلك عمر.

ومنها ما رواه في الفقيه عن إبراهيم بن محمّد الثقفي قال: استودع رجلان امرأة وديعة وقالا لها لا تدفعي إلى واحد منّا حتى نجتمع عندك ثم انطلقا فغابا، فجاء أحدهما إليها وقال: اعطيني وديعتي فإنّ صاحبي قد مات فأبت حتى كثر اختلافه إليها ثم اعطته، ثم جاء الآخر فقال هاتي 0.

ص: 208


1- الاحقاف - 20.

وديعتي، فقال «فقالت ظ»: اخذها صاحبك وذكر أنّك قَدْمُت فارتفعا الى عمر، فقال لها: عمر: ما أراك إلّا وقد ضمنت، فقالت المرأة اجعل علياً عليه السلام بيني وبينه، فقال له: أقضِ بينهما، فقال عليّ عليه السلام: هذه الوديعة عندها وقد أمرتماها ان لا تدفعها إلى واحد منكما حتى تجتمعا عندها فأتني بصاحبك، ولم يضمنها، وقال عليّ عليه السلام إنما أرادا أن يذهبا بمال المرأة.

ومنها ما في الفقيه أيضاً عن عمرو بن ثابت عن أبيه عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة، قال: أتيَ عمر بامرأة زوجها شيخ، فلما أن واقعها مات على بطنها، فادّعى بنوه أنها فجرت وشاهدوا «تشاهدوا خ» عليها فأمر بها عمر أن ترجم، فمروا بها على عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقالت: يا ابن عم رسول الله إني مظلومة وهذه حجتي فقال عليه السلام: هاتي حجتك، فدفعت اليه كتاباً فقرأه فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها وكيف كان جماعه لها ردّوا المرأة، فلما كان من الغد دعا عليّ عليه السلام بصبيان يلعبون أتراب (1) وفيهم ابنها فقال لهم: العبوا، فلعبوا حتى إذا لهاهم اللعب ثم صاح عليه السلام بهم فقاموا وقام الغلام الذي هو ابن المرأة متكئاً على راحتيه فدعا به علىّ عليه السلام فورثّه من أبيه وجلد اخوته المفترين حداً، فقال عمر كيف صنعت؟ قال: قد عرفت ضعف الشيخ في اتكأة الغلام على راحتيه.

ومنها ما رواه الصّدوق ايضاً عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: أُتَي عمر بن الخطاب بجارية فشهد عليها شهود أنّها بغت وكان من قصّتها أنّها كانت يتيمة عند رجل وكان للرّجل امرأة وكان الرّجل كثيراً ما يغيب عن أهله، فشبّت اليتيمة وكانت جميلة فتخوّفت المرأة ان يتزوّجها زوجها إذا رجع إلى منزله، فدعت بنسوة من جيرانها فأمسكتها ثم افتضّتها بأصبعها، فلما قدم زوجها سأل امرأته عن اليتيمة فرمتها ).

ص: 209


1- الترب بالكسر السن ومن ولد معك (ق).

بالفاحشة، وأقامت البيّنة من جيرانها على ذلك، قال: فرفع ذلك الى عمر فلم يدرِ كيف يقضي في ذلك، فقال: للرّجل اذهب بها إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأتوا عليّاً وقصّوا عليه قصتّها «القصة خ» فقال لأمرأة الرّجل ألك بيّنة؟ قالت: نعم، هؤلاء جيراني يشهدون عليها بما أقول، فأخرج عليّ عليه السلام السّيف من غمده وطرحه بين يديه، ثم أمر عليه السلام بكلّ واحدة من الشّهود فأدخلت بيتاً، ثم دعا بامرأة الرّجل فأدارها لكل وجه فأبت أن تزول عن قولها، فردّها إلى البيت الذي كانت فيه.

ثمّ دعا بأحدى الشهود وجثا على ركبتيه، فقال لها: أتعرفيني أنا عليّ ابن أبي طالب وهذا سيفي وقد قالت امرأة الرّجل ما قالت ورجعت (1) إلى الحق واعطيتها الأمان فأصدقيني وإلّا ملأت سيفي منك، فالتفتت المرأة إلى عليّ عليه السلام فقالت: يا أمير المؤمنين الأمان على الصّدق، قال لها عليّ عليه السلام فأصدقي فقالت: لا والله ما زنت اليتيمة ولكن امرأة الرّجل لما رأت حسنها وجمالها وهيئتها خافت فساد زوجها بها فسقتها المُسَكّرَ وَدَعْتَنا فأمسكناها فأفتضّتها بأصبعها، فقال عليّ عليه السلام: الله اكبر الله اكبر أنا أوّل من فرّق بين الشّهود إلّا دانيال ثمّ حدّ المرأة حدّ القاذف والزمها ومن ساعدها على افتضاض اليتيمة المهر لها أربعمائة درهم، وفرّق بين المرأة وزوجها وزوّجه اليتيمة، وساق عنه المهر إليها من ماله.

فقال عمر بن الخطاب: فحدثنا يا أبا الحسن بحديث دانيال النّبي فقال: إن دانيال كان غلاماً يتيماً لا أب له ولا أم، وإنّ امرأة من بني إسرائيل عجوزاً ضمّته اليها وربته وإن ملكاً من ملوك من بني إسرائيل كان .

ص: 210


1- قوله ورجعت الى الحق قيل يدل على انه يجوز الكذب لهذه المصالح وقيل اراد بالحق البيت الذي يستحقها المرأة ان يدخلها وقد اعطيتها الامان أي في الذهاب الى محلها السابق (منه).

له قاضيان وكان له صديق وكان رجلاً صالحاً وكان له أمرأة جميلة وكان يأتي الملك فيحدثه فأحتاج الملك الى رجل يبعثه في بعض اموره، فقال للقاضيين: اختارا لي رجلا ابعثه في بعض اموري فقالا: فلان، فوجّهه الملك وكان القاضيان يأتيان باب الصّديق فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما فقالا لها، إن لم تفعلي شهدنا عليك عند الملك بالزّنا ليرجمك فقالت: افعلا ما شئتها، فأتيا الملك فشهدا عليها أنّها بغت وكان لها ذكر حسن جميل فدخل الملك من ذلك امر عظيم واشتدّ غمّه وكان بها معجباً، فقال لهما: إنّ قولكما مقبول فاجلدوها ثلاثة أيّام ثم ارجموها ونادى في مدينته: احضروا قتل فلانة العابدة فأنّها قد بغت، وقد شهد عليها القاضيان بذلك، فأكثر النّاس القول في ذلك فقال الملك لوزیره: ما عندك في هذا حيلة؟ فقال: لا والله ما عندي في هذا شي.

فلما كان اليوم الثالث ركب الوزير وهو آخر أيّامها وإذا هو بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال، فقال دانیال: يا معشر الصّبيان حتى أكون انا الملك وتكون أنت يا فلان العابدة ويكون فلان وفلان القاضيين الشّاهدين عليها، ثم جمع تراباً (1) وجعل سيفاً من قصب ثم قال: للغلمان خذوا بيد هذا فنحوه إلى موضع كذا والوزير واقف وخذوا هذا فنحوه إلى كذا ثم دعا بأحدهما فقال: قل حقّاً فإنك إن لم تقل حقّاً قتلتك، قال: نعم بم والوزير يسمع فقال: بم تشهد على هذه المرأة قال اشهد انّها زنت قال في أي يوم قال: في يوم كذا وكذا، قال في أي وقت؟ قال: في وقت كذا وكذا، قال: في أيّ موضع؟ قال: في موضع كذا وكذا قال: مع من؟ قال: مع فلان بن فلان، قال: فردّوه إلى مكانه وهاتوا الآخر، فردّوه وجاؤ وا بالآخر فسأله عن ذلك، فخالف صاحبه في القول، فقال دانيال: الله اكبر الله اكبر شهدا عليها بزور ثم نادى في الغلمان إنّ القاضيين شهدا على فلانة العابدة بزور فاحذروا قتلها، فذهب الوزير إلى الملك مبادراً .

ص: 211


1- الترب همزاد (منه).

فأخبره الخبر فبعث الملك إلى القاضيين فأحضرهما ثم فرّق بينهما وفعل كما فعل دانيال بالغلامين فاختلفا كما اختلفا فنادى في النّاس وأمر بقتلهما.

ومنها ما رواه الشّارح البحراني وهو انّ عمر أمر أن يؤتى بامرأة لحال اقتضت ذلك وكانت حاملا فانزعجت من هيبته فاجهزت «فاجهضت به خ» جنيناً فجمع جمعاً من الصحّابة وسألهم ماذا يجب عليه، فقالوا: انت مجتهد «مؤدب خ» ولا نرى أنّه يجب عليك شيء، فراجع علياً عليه السلام في ذلك واعلمه بما قال بعض الصّحابة، فأنكر ذلك وقال: إن كان ذلك عن اجتهاد منهم فقد اخطأوا، وإن لم يكن عن اجتهاد فقد غشّوك، أرى عليك الغرّة (1) فعندها قال: لا عشت لمعضلة لا تكون لها يا ابا الحسن.

ورواه الشّارح المعتزلي بتغيير في متنه، إلى غير ذلك من موارد خطأه وخبطه وجهالته التي لو أردنا استقصاءها لطالت، وكثيراً ما كان امير المؤمنين عليه السلام ينبّه على خطأه فيها ويبين له معضلات المسائل التي كان يعجز عنها، وقد روي أنّه قال في سبعين موضعاً: لولا عليّ لهلك عمر، والعجب أنّه مع اعترافه بذلك يدّعي التّقدّم عليه، ومع جهله بكل ذلك يرى نفسه قابلة للخلافة ومستحقّة لها مع أنّ قابلية الخلافة واستحقاق الولاية لا يكون إلّا بالعلم بجميع الأحكام والاحاطة بشرائع الاسلام ولا يكون ذلك إلا بالهام إلهي وتعليم ربّاني وإرشاد نبويّ، وذلك مختصّ بالأئمة ومخصوص بسراج الأمة، إذ هم الذين أتّبعوا آثار النّبوة واقتبسوا انوار الرّسالة، وعندهم معاقل العلم وأبواب الحكمة وضياء الأمر وفصل ما بين الناس، وهم المحدثون المفهومون المسدّدون المؤيّدون بروح القدس.

كما يدّل عليه ما رواه في البحار من كتاب بصائر الدّرجات بأسناده .

ص: 212


1- يعني عتق رقبة.

عن جعيد الهمداني قال: سألت عليّ بن الحسين عليهما السلام بأيّ حكم تحكمون؟ قال: نحكم بحكم آل داود (1) فإن عيينا شيئاً تلقانا به روح القدس.

وعن السّاباطي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: بما تحكمون إذا حكمتم؟ فقال: بحكم الله وحكم داود، فاذا ورد علينا شيء ليس عندنا تلقّانا به روح القدس وعن عبد العزيز عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام؛ جعلت فداك إنّ النّاس يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجه عليّاً عليه السلام إلى اليمن ليقضي بينهم قالوا: فما أورد الله عليه قضية إلا حكم بحكم الله وحكم رسوله، فقال عليه السلام: صدقوا، قلت: وكيف ذلك؟ ولم يكن انزل القرآن كله، وقد كان رسول الله غائباً عنه؟ فقال: تلقّاه به روح القدس.

وقد ظهر ممّا ذكرنا كله أنّ الحكم الصّواب وفصل الخطاب مختصّ بالمعصومين من آل الرّسول سلام الله عليه وعليهم وأن احكام عمر إنّما كانت عن هوى نفس وبدعة وضلالة وجهالة، ولذلك كان يفتي كثيراً ثم يرجع عن فتياه ويعتذر، وربّما كان يحكم بشيء ثم ينقضه ويحكم بخلافه لقلّة المعرفة وكثرة الجهالة واختلاف دواعي نفسه الأمارة التي تارة تحكم بذلك واخرى بخلافه، هذا كله مضافاً إلى قوّة إفراط القوة الغضبيّة فيه وخشونة الحوزة وغلظة الطبيعة.).

ص: 213


1- اي نحكم لعلمنا ولا نسأل بيئة كما كان داود احياناً يفعله (بحار).

الفصل الثالث

حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ.

(حتى اذا مضى لسببله، جعلها في ستةٍ زعم أني أحدهم).

(الزّعم) مثلثة الفاء الفتح للحجاز والضمّ للأسد والكسر لبعض قيس وهو قريب من الظن، وقال المرزوقي: اكثره يستعمل فيما كان باطلاً أو فيه ارتياب، وقال ابن الأثير: إنّما يقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وقال الزّمخشري: هي ما لا يوثق به من الأحاديث.

(حتى إذا مضى لسبيله) أي: حتى اذا مات الثاني وهو عمر بن الخطاب وذهب في سبيله، فقبل موته فتح حياته بان (جعلها) أي جعل الخلافة (في ستة زعم أني احدهم) وفي تلخيص الشّافي زعم أنّي سادسهم وهؤلاء الجماعة هم: أمير المؤمنين عليه السلام، وعثمان وطلحة والزّبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرّحمن بن عوف هذا هو المعروف وقيل: إنهم خمسة، قال الطبري: لم يكن طلحة ممّن ذكر في الشّورى ولا كان يومئذٍ بالمدينة، وعن أحمدْ بن أعثم لم يكن بالمدينة، فقال عمر: انتظروا لطلحة ثلاثة أيّام فإن جاء وإلّا اختاروا رجلاً من الخمسة.

(فيا لله وللشورى) و «الشورى» اسم من تشاور القوم واشتوروا، وقيل: إنه مصدر كبشرى بمعنى المشورة، والاول اظهر.

اللّام في لله مفتوحة لدخولها على المستغاث ادخلت للدّلالة على

ص: 214

الاختصاص بالنّداء للاستغاثة، وفي قوله للشّورى مكسورة لدخولها على المستغاث لأجله قال الشّاعر:

يُبكيك ناءٍ بعيدُ الدّارِ مغتربُ *** يا لَلكهول وللشَّبانِ لِلعجب

بفتح لام الكهول وكسر لام العجب وكسرها في للشبان لكونه معطوفاً على المستغاث من غير اعادة حرف النداء ولو اعيدت فتحت قال الشّاعر:

يا لقومي و لأمثال قَوْمِي *** لإناسٍ عتوّهم في أزديادِ

والواو في قوله: وللشّورى إمّا زائدة أو عاطفة على محذوف مستغاث له ايضاً كما ستعرفه في بيان المعنى.

(فيا لله) أنت النّاصر والمعين والمغيث استغيث بك لما أصابني منه أو لنوائب الدّهر عامة (وللشّورى) خاصّة والاستغاثة للتألم، من الاقتران بمن لا يدانيه في الفضائل ولا يقارنه في الفواضل ولا يستأهل للخلافة ولا يليق بالولاية، ولذلك أتبعه عليه السلام بالاستفهام على سبيل الانكار والتعجب بقوله:

(متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم) و (اعترض) الشيء: إذا صار عارضاً كالخشبة المعترضة في النهر. و (الريب) أي: الشك، يقال ارتاب فلان بفلان: إذا شك فيه أو ظن التهمة.

يعني: متى صار الشك عارضاً لأذهانهم في مساواة الأول منهم وهو ابي بكر (حتى صرت أقرن)، و (اقرن) للبناء على المجهول، أي: اجعل قريناً لهم ويجمع بيني وبينهم على طاولة واحدة، وهل بعد هذه من إهانة حتى اجمع واجعل قرينا (الى هذه النظائر) الخمسة أو الأربعة فكيف يجمع عمر بيني وبينهم ويجعلهم نظائر لي مع كونهم أدنى من الأول رتبة وأخس منزلة، فكيف بقياسهم إليَّ وتناظرهم بي.

ص: 215

(ولكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا).

يُقال: أسف الطائر: إذا دنا من الأرض في طيرانه، وأسف الرجل للأمر إذا قاربه. و (طرت) أي: ارتفعت، استعمالاً للكلي في أكمل الأفراد.

يعني: أني تابعتهم تقية، وجريت معهم على ما جروا، ودخلت معهم في الشورى مع انهم لم يكونوا نظراء لي، وتركت المنازعة من حيث اقتضاء المصلحة العامة، وعدم اهراق دم المسلمين. (فصغى رجلُ منهم لضغنه) يُقال: صغى إلى كذا: مال اليه، وصغت النجوم: مالت الى الغروب. و (الضغن) الحقد والبغض.

يعني مال ان رجلًا منهم من الحق الى الباطل لحقده وبغضه الذي كان في صدره.

والمراد بذلك الرّجل على ما ذكره القطب الرّاوندي والشّارح البحراني والمحدث الجزائري وغيرهم هو سعد بن أبي وقاص (1) اللّعين، وسبب .

ص: 216


1- وهو سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن النضر بن كنانة القرشي الزهري. يكنى: أبا اسحاق وامه: حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس. اسلم بعد سنة، وكان عمره سبع عشرة سنة. شهد بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد كلها. واستعمله عمر بن الخطاب على الكوفة، فشكى ناس منهم عليه فعزله. وكان سعد امير الجيوش التي هزمت الفرس في القادسية. وهو الذي فتح المدائن، وهو الذي بنى الكوفة، وولي العراق ثم عزله. فولاه عثمان الكوفة ثم عزله. ولما قتل عثمان لزم بيته، ولم يكن مع أحد من الطوائف المتحاربة وكتب اليه معاوية على ان يعينه على الطلب بدم عثمان، فأجابه سعد: معاوي داؤك الداء العياء *** وليس لما تجيء به دواء أيدعوني أبو حسن علي *** فلم اردد عليه ما يشاء وقلت له اعطني سيفاً قصيراً *** تميز به العداواة والولاء أتطمع في الذي أعيا علياً *** على ما قد طمعت به العفاء ليوم منه خير منك حياً *** وميتاً انت للمرء الفداء وتوفي سعد سنة خمس وخمسين. وكان آدم طويلاً أفطس. وتوفي بالعقيق على سبعة اميال من المدينة فحمل على اعناق الرجال الى المدينة. قال ابنه: كان سعد آخر المهاجرين موتاً.

ضغنه على ما ذكره الرّاوندي هو انه عليه السلام قتل أباه يوم بدر، وكان سعد أحد تخلف من عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام عند رجوع الأمر اليه، إلا أن الشّارح المعتزلي أورد عليه بأنّ أبا وقاص واسمه مالك بن اهيب مات في الجاهلية حتف أنفه، وقال: إنّ المراد به طلحة وعلّل ميله عنه عليه السلام بقوله: وإنّما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي عليه السلام بأعتبار انه تيمّي وابن عمّ ابي بكر، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم، وهذا أمر مركوز في طباع البشر والتّجربة إلى الآن تحقق ذلك.

قال: وأمّا الرّواية التي جاءت بأنّ طلحة لم يكن حاضراً يوم الشّورى فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقّاص لأنّ أمّه حمنة بنت سفیان بن أميّة بن عبد شمس، والضّغنة التي كانت عنده على عليّ عليه السلام من قبل اخواله الذين قتل صناديدهم وتقلد دماءهم ولم يعرف أنّ عليّاً عليه السلام قتل احداً من بني زهرة لينسب الضغن اليه.

(ومال الآخر لصهره مع هنٍ ووهنٍ).

و (الصّهر) قال الخليل: هو أهل بيت المرأة، قال: ومن العرب من يجعل الأحماء والاختان جميعاً اصهاراً، وقال الأزهري: الصّهر يشتمل على قرابات النّساء ذوي المحارم وذوات المحارم كالأبوين والأخوة واولادهم والأعمام والأخوال والخالات، فهؤلاء أصهار زوج المرأة، ومن كان من قبل الزّوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة ايضاً، وقال ابن السّكيت كلّ من كان من قبل الزّوج من أبيه أو اخته أو عمّه فهم الأحماء،

ص: 217

ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصّنفين الأصهار و (هنٍ) خفيف النون كناية عن كلّ اسم جنس ومعناه شيء ولامها محذوفة فالمعروف أنّها واو بدليل جمعها على هنوات، وقيل: هي هاء لتصغيره على هنيهة، وقيل: نون والأصل هنّ بالتّثقيل والتّصغير هنين، وقال نجم الأئمة الرّضي: الهن: الشيء المنكر الذي يستهجن ذكره من العورة والفعل القبيح وغير ذلك.

(ومال الآخر) يعني: عبد الرحمن بن عوف (1) (لصهره) وهو عثمان، والمصاهرة بينهما من جهة ان ام كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط كانت تحته، وهي أخت عثمان من أمه، اروى بنت كريز، وهذا الميل لم يكن لهذا فقط (مع هن وهن) أي: مع شيء وشيء قبيح يستهجن ذكره، وهو البغض والحسد منه لأمير المؤمنين (علیه السلام)، أو منافسته عليه، أو رجاؤه وصول الخلافة بعد عثمان اليه، أو انتفاع بخلافته بالانتساب واكتساب الاموال والترفع على الناس والاستطالة، أو غير ذلك مما هو عليه السلام أعلم به وكنّى عنه. .

ص: 218


1- عبد الرحمن بن عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي - الزهري. يكنى: ابا محمد. وامه الشغاء بنت عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة. ولد بعد الفيل بعشر سنين. وكان احد الثمانية الذين سبقوا إلى الاسلام. وكان من المهاجرين الأولين، هاجر الى الحبشة والى المدينة. وشهد بدرا واُحدا والمشاهد كلها مع الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). وبعثه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) الى دومة الجندل و فتح الله على يديه فتزوج بنت شريفهم تماضر بنت الأصبغ. وجرح يوم أحد احدى وعشرين جراحة وجرح في رجله فكان يعرج منها، وسقطت ثنيتاه فكان أهتم. وكان كثير الانفاق اعتق في يوم واحد ثلاثين عبداً. وكان كثير التجارة مجدوداً فيها، كثير المال. وروى عنه كثير من المحدثين. وتوفي سنة احدى وثلاثين بالمدينة وهو ابن خمسٍ وخمسين سنة. وخلف مالا عظيما من ذهب قطع بالفؤوس، وترك الف بعير، ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع. وكان له اربع نسوة وصالح إمرأة بثمانين الفاً. وكان ابيض مشرباً بحمرة حسن الوجه. رقيق البشرة أعين أهدب الاشفار، ضخم الكفين غليظ الاصابع.

مقتل عمر بن الخطاب

روى المحدث المجلسي (ره) في البحار من مؤلف العداد القوية نقلاً من كتب المخالفين والجزائري في الأنوار من كتاب الاستيعاب لابن عبد البرّ من رجال العامة قال: ذكر الواقدي قال: اخبرني نافع عن أبي نعيم عن عامر بن عبد الله بن الزّبير عن أبيه قال: غدوت مع عمر بن الخطاب الى السّوق وهو متكّىء على يدي فلقاه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة فقال له: ألا تكلم مولاي يضع عنّي من خراجي؟ قال: كم خراجك؟ قال: دينار فقال عمر: ما أرى أن أفعل أنّك لعامل محسن وما هذا بكثير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحى؟ قال: أبو لؤلؤة: لأعملن لك رحى يتحدث بها ما بين المشرق والمغرب، قال ابن الزّبير: فوقع في نفسي قوله، قال: فلما كان في النّداء لصلاة الصّبح وخرج عمر إلى الناس قال ابن الزّبير: وأنا في مصلاي وقد اضطجع له أبو لؤلؤة فضربه بالسّكين ستّ طعنات إحداهنّ تحت سرّته وهي قتلته قال في البحار: وجاء بسكين له طرفان فلمّا خرج عمر خرج معه ثلاثة عشر رجلا في المسجد، ثمّ أُخِذ، فلما أُخذ قتل نفسه.

ومن كتاب الاستيعاب أيضاً أنّ عمر لما ضربه أبو لؤلؤة بالسّكين في بطنه قال: ادعوا لي الطبيب، فدُعي الطبيب، فقال: أيّ الشّراب أحبّ إليك؟ فقال: النبيذ فسقي نبيذاً فخرج من بعض طعناته فقال النّاس هذا دم هذا صديد، فقال: اسقوني لبنا فسقوه لبنا فخرج من الطعنة فقال له الطبيب: لا أرى أن تُمسي، فما كنت فاعلاً فأفعل، وتمام الخبر مذكور في الشّورى، قال بعض أصحابنا: ولقد كان يجبّ أن يلاقي الله سبحانه وبطنه الممزوق ممتلىء من الشّراب فأنظروا يا أُولي الألباب.

ص: 219

والمشهور بين العلماء أن قتله كان في ذي الحجة وهو المتفق عليه بين العامة، ولكن المشهور بين العوام في الاقطار والأمصار هو أنّه في شهر ربیع الأول قال الكفعمي في المصباح في سياق أعمال شهر ربيع الأول: إنّه روي صاحب مسار الشّيعة أنّه من أنفق في اليوم التّاسع منه شيئاً غفر له ويستحب فيه إطعام الأخوان وتطييبهم والتّوسعة والنّفقة ولبس الجديد والشكر والعبادة وهو يوم نفي الغموم وروي أنّه ليس فيه صوم وجمهور الشّيعة يزعمون أنّ فيه قتل عمر بن الخطاب وليس بصحيح.

قال محمد بن ادريس في سرائره من زعم أنّ عمر قتل فيه فقد اخطأ باجماع أهل التّواريخ والسّير، وكذلك قال المفيد (رحمه الله) في كتاب التّواريخ وإنّما قتل يوم الاثنين لأربع بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة نصّ على ذلك صاحب الغرة وصاحب المعجم وصاحب الطبقات وصاحب كتاب مسار الشّيعة وابن طاووس بل الاجماع حاصل من الشّيعة وأهل السّنة على ذلك.

أقول: قد عرفت أن المشهور بين جمهور الشّيعة هو أنّه في شهر الرّبيع فدعوى الاجماع على كونه في ذي الحجّة ممنوعة ويدل على ذلك ما رواه في الأنوار من كتاب محمّد بن جرير الطبري قال: مقتل الثّاني يوم التاسع من شهر ربيع الأول.

أخبرنا الأمين السّيد أبو المبارك أحمد محمّد بن بن اردشير الدّستاني قال: اخبرنا السّيد أبو البركات محمّد الجرجاني، قال: أخبرنا هبة الله القمي واسمه يحيى، قال: حدّثنا أحمد بن إسحاق البغدادي، قال: حدّثنا الفقيه الحسن بن الحسن السّامري أنّه قال: كنت أنا ويحيى بن احمد بن جريح، فقصدنا أحمد ابن إسحاق القمي وهو صاحب الامام العسكري عليه السلام بمدينة قم، فقرعنا عليه الباب فخرجت علينا من داره صبيّة عراقيّة فسألناها عنه، فقالت: هو مشغول وعياله فإنه يوم عيد، قلنا: سبحان الله الأعياد عندنا أربعة: عيد الفطر وعيد الضّحى

ص: 220

النّحر والغدير والجمعة، قالت: رَوى سيّدي احمد بن اسحاق عن سيّده العسكري عن ابيه علي بن محمّد عليهم السلام أنّ هذا يوم عيد وهو خيار الأعياد عند أهل البيت عليهم السلام وعند مواليهم، قلنا: فاستأذني بالدخول عليه وعرّفيه بمكاننا، قال: فخرج علينا وهو متزر بمئزر له ومحتبي بكسائه يمسح وجهه، فأنكرنا عليه ذلك، فقال: لا عليكما إنّني كنت أغتسل للعيد فإنّ هذا اليوم «عيد ظ» وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الأوّل فَأَدخَلَنا داره وأجْلَسَنَا على سرير له.

ثم قال: إنّي قصدت مولاي ابا الحسن العسكري عليه السلام مع جماعة من إخواني في مثل هذا اليوم وهو اليوم التّاسع من ربيع الأوّل فرأينا سيّدنا قد امر جميع خدمه أن يلبس ما يمكنه من الثياب الجدد وكان بين يديه مجمرة يحرق فيها العود، قلنا يا أبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تجد في هذا اليوم لأهل البيت عليهم السّلام فرحاً؟ فقال عليه السلام: وأيّ يوم أعظم حرمة من هذا اليوم عند أهل البيت وأفرح؟

وقد حدّثني أبي عليه السلام أنّ حذيفة (رضوان الله علیه) دخل في مثل هذا اليوم وهو اليوم التّاسع من ربيع الأول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال حذيفة: فرأيت امير المؤمنين مع ولديه الحسن والحسين مع رسول الله صلوات الله عليه وعليهم يأكلون والرّسول يتبسم في وجوههما ويقول كلا هنيئاً مريئاً لكما ببركة هذا اليوم وسعادته فإنّه اليوم الذي يقبض الله فيه عدوّه وعدوّكما وعدوّ جدّكما، ويستجيب فيه دعاء امّكما، فإنّه اليوم الذي يكسر فيه شوكة مبغض جدّكما وناصر عدوّكما، كُلا فإنّه اليوم الذي يفقد فيه فرعون أهل بيتي وهامانهم وظالمهم وغاصب حقّهم، كُلا فإنه اليوم الذي يفرح الله فيه قلبيكما وقلب أمّكما.

قال حذيفة: فقلت يا رسول الله في امتّك وأصحابك من يهتك هذا الحرم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جبت من المنافقين يظلم أهل بيتي ويستعمل في امتي الرّياء ويدعوهم الى نفسه ويتطاول على

ص: 221

الأمّة من بعدي ويستجلب اموال الله من غير حلّه وينفقها في غير طاعته ويحمل على كتفه درّة الخزي ويضلّ النّاس عن سبيل الله ويحرّف كتابه ويغيّر سنتي ويغصب ارث ولدي وينصب نفسه علماً ويكذّبني ويكذّب أخي ووزيري ووصيّي وزوج ابنتي ويتغلّب على ابنتي ويمنعها حقّها وتدعو فيستجاب الله لها الدّعاء في مثل هذا اليوم.

قال حذيفة (رضوان الله علیه): قلت: يا رسول الله أُدع الله ليهلكنّه في حياتك قال: يا حذيفة لا أحب ان اجترىء على الله عزّ وجلّ لما قد سبق في علمه لكنّي سألت الله تعالى أن يجعل اليوم الذي يقبضه فيه إليه فضيلة على سائر الأيام ويكون ذلك سُنَّة يستنّ بها أحبّائي وشيعة أهل بيتي ومحبيهم، فأوحى الله عزّ وجل إليّ:

فقال: يا محمّد إنّه قد سبق في علمي أن يمسك وأهل بيتك محن الدّنيا وبلائها وظلم المنافقين والمعاندين من عبادي ممّن نصحتهم وخانوك ومحضّتهم وغشوك وصافيتهم وكاشحوك وأوصلتهم وخالفوك وأعودتهم وكذّبوك، فإنّي بحولي وقوّتي وسلطاني لأفتحنّ على روح من يغضب «يغصب خ» بعدك عليّاً حقّه وصيك ووليّ خلقي «من العذاب الأليم خ» ألف باب من النيران من سفال الفيلوق، ولأوصلنّه وأصحابه قعراً يشرف عليه إبليس لعنه الله فيلعنه، ولأجعلنَّ ذلك المنافق عبرة في القيامة مع فراعنة الأنبياء وأعداء الدين في المحشر، ولا حشرنّهم وأولياءهم وجميع الظلمة والمنافقين في جهنم ولأدخلنَّهم «ولا خلدنهم خ ك» فيها أبد الآبدين.

يا محمّد أنا أنتقم من الذي يجترىء عليّ ويبدل كلامي وبشرك بي ويصد النّاس عن سبيلي وينصب نفسه عجلاً لأمتك ويكفر بي، إنّي قد أمرت سبع سماوات من شيعتكم ومحبيّكم أن يتعيدوا في هذا اليوم (1) )

ص: 222


1- هكذا في النسخة والظاهر سقوط لفظ «ملائكة» قبل قوله: سبع سماوات ومع ذلك لا يفهم المقصود ولعل في لفظ الحديث تقديماً وتأخيراً والمراد: اني امرت ملائكة سبع سماوات ان يجعلوا هذا اليوم عيداً لشيعتكم ومحبيكم. (المصحح)

الذي أقبضه إليّ فيه وأمرتهم أن ينصبوا كراسي كرامتي بازاء البيت المعمور ويثنوا عليّ ويستغفروا لشيعتكم من ولد آدم.

يا محمد وامرت الكرام الكاتبين ان يرفعوا القلم عن الخلق «كلهم خ» ثلاثة أيام من أجل ذلك اليوم ولا أكتب عليهم شيئاً من خطاياهم كرامة لك ولوصيّك.

يا محمد إنّي قد جعلت ذلك عيداً لك ولأهل بيتك وللمؤمنين من شيعتك وآليت على نفسي بعزّتي وجلالي وعلوّي في رفيع مكاني إنّ من وسع في ذلك اليوم على عياله وأقاربه لأزيدنَّ في ماله وعمره ولأعتنقّنّه من النّار ولأجعلنّ سعيه مشكوراً وذنبه مغفوراً، وأعماله مقبولة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل بيت أم سلمة فرجعت عنه صلى الله عليه وآله وسلم وأنا غير شاكٍ في أمر الشيخ الثّاني حتّى رأيته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فتح الشرّ وأعاد الكفر والارتداد عن الدين وحرّف القرآن.

وفي البحار من كتاب الاقبال لابن طاووس بعد ذكر اليوم التاسع من ربيع الأول: اعلم ان هذا اليوم وجدنا فيه رواية عظيم الشّأن ووجدنا جماعة من العجم والاخوان يعظمون السّر ورفيه ويذكرون أنّه يوم هلاك من كان يهون بالله جلّ جلاله ورسوله ويعاديه، ولم اجد فيها تصفحت من الكتب إلى الآن موافقة اعتمد عليها للرّواية التي رويناها عن ابن بابويه تغمّده الله رضوانه، فإن أراد أحد تعظيمه مطلقاً لسرّ يكون في مطاويه غير الوجه الذي يظهر فيه احتياطاً للرّواية فهكذا عادة ذوي الدّراية، وإن كان يمكن تأويل ما رواه أبو جعفر بن بابويه في أنّ قتل من ذكر كان في تاسع ربيع الأوّل لعلّ معناه أن السبّب الذي اقتضى قتل المقاتل على قتله كان في ذلك اليوم، ويمكن ان يسمى مجازاً سبب القتل بالقتل، أو يكون توجه القاتل من بلده في ذلك اليوم، أو وصول القاتل إلى مدينة القتل فيه، وأمّا تأويل من تأوّل أنّ الخبر وصل الى بلد ابن بابويه فيه فلا يصحّ، لأنّ الحديث الذي رواه ابن بابويه عن الصّادق عليه السلام تضمّن أن القتل في ذلك اليوم فكيف يصح هذا التّأويل.

ص: 223

قال: في البحار بعد حكايته ذلك: ويظهر منه ورود رواية أخرى عن الصادق عليه السلام بهذا المضمون رواها الصّدوق، ويظهر من كلام خلفه (1) الجليل ورود عدة روايات دالة على كون قتله في ذلك، فأستبعاد ابن إدريس وغيره رحمة الله عليهم ليس في محلّه، إذ اعتبار تلك الرّوايات مع الشهرة بين أكثر الشيعة سلفاً وخلفاً لا يقصر عمّا ذكره المؤرخون من المخالفين، ويحتمل ان يكونوا غيروا هذا اليوم ليشتبه الأمر على الشيعة فلا يتخذوه يوم عيد وسرور.

فإن قيل: كيف اشتبه هذا الأمر العظيم بين الفريقين مع كثرة الدواعي على ضبطه ونقله.

قلنا: نقلب الكلام عليكم مع أنّ هذا الأمر ليس بأعظم من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنّه وقع الخلاف فيه بين الفريقين بل بين كلّ منهما مع شدّة تلك المصيبة العظمى وما استتبعه من الدّواهي الأخرى مع أنّهم اختلفوا في يوم القتل وإن اتّفقوا في كونه ذي الحجّة، ومن نظر في اختلاف الشّيعة وأهل الخلاف في أكثر الأمور التي توفرت الدواعي على نقلها مع كثرة حاجة النّاس اليها كالأذان والوضوء والصّلاة والحج وتأمل فيها لا يستبعد أمثال ذلك، والله أعلم بحقائق الأمور.

روي في البحار عن ابن الأثير في الكامل والطبري عن شيوخه بطرق متعدّدة أنّه لما طعن أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب وعلم أنّه قد انقضت أيّامه واقترب أجله، قال له بعض أصحابه: لو استخلفت يا أمير المؤمنين، فقال: لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته وقلت لربيّ إن سألني: سمعت نبيّك يقول: أبو عبيدة امين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً استخلفته وقلت لربيّ إن سألني: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالماً شديد الحبّ لله فقال رجل: ول عبد الله بن عمرٍ، فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا ويحك كيف استخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته.س

ص: 224


1- خلف ابن طاوس

وفي شرح المعتزلي أنّ لما طعنه أبو لؤلؤة وعلم أنّه ميّت استشار فيمن يوليه الأمر بعده فأشير إليه بابنه عبد الله فقال لاها الله (1)، لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل حسب عمر حمل حسب عمر ما احتقب (2) لاها الله، لا أتحملها حيّاً وميّتاً، ثم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو راضٍ عن هذه السّتة من قريش: عليّ وعثمان وطلحة والزّبير وسعد وعبد الرّحمن بن عوف، وقد رأيت أن اجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم، ثم قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي يعني رسول الله، ثم قال: ادعوهم لي، فدعوهم فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه، وهو يجود بنفسه، فنظر إليهم فقال: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي؟ فوجموا (3) فقال لهم: ثانية فأجابه الزّبير وقال: وما الذي يبعدنا منها وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ولا في السّابقة والقرابة.

قال الشّارح قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ: والله لولا علمه أنّ عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة ولا أن ينبس (4) منه لفظة. فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم: قالوا: قل فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا، فقال: أمّا أنت يا زبير فوعقة(5) لقس (6) مؤمن الرّضى كافر الغضب، يوماً إنسان ويوماً شيطان، ولعلها لو أفضت اليك ظلت قومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير، أفرأيت إن أفضت اليك فليت شعري من ).

ص: 225


1- قال في القاموس ها تكون للتنبيه وتدخل على اربعة الى ان قال الرابع اسم الله في القسم عند حذف الحرف يقال ها الله بقطع الهمزة ووصلها وكلاهما مع اثبات الفها وحذفها.
2- واحتقبه واستحقبه ادخره (ق).
3- وجم وجماً ووجوماً سكت على غيظ والشيء كرهه.
4- نبس ينبس نبساً تكلم فأسرع (ق).
5- رجل وعق كعدل ووعقة كصخرة شرس سييء الخلق ضجر متبرم و به وعقة شراسة ووعقت على بارجل عجلت ما اوعقك اعجلك (قاموس).
6- لقست نفسه الى الشيء إذا نازعت اليه وحرصت عليه والرجل لقس وقيل لقست خبثت وعن ابي زيد اللقس هو الذي يلقب الناس ويسخر منهم (اللغة).

يكون للناس يوم تكون شيطاناً ومن يكون يوم تغضب إماماً، وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة وأنت على هذه الصّفة.

ثم أقبل على طلحة وكان له مبغضاً منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر، فقال له: أقول أم اسكت؟ قال: قل فإنّك لا تقول من الخير شيئاً. قال: أما أني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أُحد والباد (1) الذي حدث لك، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساخطاً عليك للكلمة (2) التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب (3).

ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال: أمّا انت صاحب مقنب (4) من هذه المُقانب تقاتل به وصاحب قنص (5) وقوس وأسهم وما زهرة والخلافة وامور الناس.

ثم أقبل على عبد الرّحمن بن عوف فقال: وأما انت يا عبد الرّحمن فلو وزن نصف ایمان المسلمين بايمانك لرجح ايمانك به ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك وما زهرة وهذا الأمر..

ص: 226


1- الباد العجب والكبر وقد كانت اصيبت يده مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ووقاه بها يوم أُحد.
2- روى المفسرون عن مقاتل قال قال طلحة بن عبد الله لئن قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأنكحن عائشة بنت ابي بكر فنزلت وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابداً وفي رواية علي بن ابراهيم ان طلحة قال لئن امات الله محمداً لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاجيل نسائنا (منه).
3- قال الشّارح: قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ: الكلمة المذكورة أنّ طلحة لما انزلت آية الحجاب قال بمحضر ممّن نقل عنه الى رسول الله صلى الله عليه و وآله وسلم: ما الذي يغنيه حجابهن اليوم سيموت غداً فننكحهنّ، قال: قال ابو عثمان أيضاً: لو قال لعمر قائل أنت قلت: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مات وهو راضٍ عن الستّة فكيف تقول الآن لطلحة انه (صلی الله علیه و آله و سلم) مات ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها، لكان قد رماه بمشاقصة (المشقص كمنبر تصل عريض او سهم فيه ذلك أو نصل طويل أو سهم فيه ذلك (ق) ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له: ما دون هذا فكيف هذا؟
4- المقنب من الخيل الأربعون والخمسون. وفي كتاب الفين زهاء ثلاثمئة يعني انه صاحب جيوش وليس يصلح لهذا الأمر.
5- القنص محركة الصيد (ق).

ثم أقبل على علي عليه السلام فقال: لله أنت لولا دعابة (1) فيك أما والله لئن وليتهم لتحملنَّهم على الحقّ الواضح والمحجة البيضاء.

ثم أقبل على عثمان فقال هيها (2) إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بني أميّة وبني أبي معيط على رقاب النّاس وآثرتهم بالفيء فسارت «فثارت ظ» اليك عصابة من رابان (3) «ذوبان خ» العرف فذبحوك على فراشك ذبحاً والله لئن فعلوا لتفعلنّ ولئن فعلت ليفعلنّ، ثم اخذ بناصيته فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن.

ثم قال: ادعوا لي أبا طلحة الأنصاري فدعوه له فقال: انظر يا أبا طلحة اذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلًا من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النّفر بامضاء الأمر وتعجيله واجمعهم في بيت وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فأضرب عنقه، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فأضرب أعناقهما، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فأنظر الثلاثة التي فيها عبد الرّحمن فأرجع الى ما قد اتفقت عليه فإن أصرَّت الثلاثة الأخرى على خلافها فأضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيّام ولم يتفقوا على امر فأضرب اعناق الستّة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم.

فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسّيف في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم ثم تكلم القوم وتنازعوا، فأوّل ما عمل طلحة أنّه اشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشّورى لعثمان، وذلك لعلمه أنّ النّاس لا يعدلون به عليّاً وعثمان وأنّ الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام بهبة أمر لا انتفاع ولا تمكن له منه، فقال الزّبير في معارضته وأنا أشهدكم على نفسي أنّي قد وهبت حقّي من الشّورى لعلي عليه السلام، وإنّما فعل ذلك لأنّه لما رأى عليّاً عليه .

ص: 227


1- الدعابة كمزاحة دعب يدعب كمزح يمزح ورجل دعب (فائق اللغة).
2- الهية من ينحى لدنس ثيابه ويقال لشيء يطرد هيه هيه بالكسر (قاموس).
3- الراب سبعون بين الأبل والسيد الضخم (قاموس).

السلام قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقّه لعثمان دخلته حميّة النّسب، لأنّه ابن عمّة أمير المؤمنين عليه السلام وهي صفّية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله، فبقي من السّتة أربعة، فقال سعد بن أبي وقّاص. وأنا قد وهبت حقّي من الشّورى لابن عمّي عبد الرّحمن، وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلم سعد أنّ الأمر لا يتمّ له.

فلما لم يبقَ إلّا الثلاثة قال عبد الرّحمن لعلي وعثمان: أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد فقال عبد الرّحمن: إنّي اشهدكم قد اخرجت نفسي من الخلافة على ان اختار احدهما، فأمسكا، فبدأ بعلي عليه السلام وقال له: أبايعك على كتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الشّيخين ابي بكر وعمر، فقال: بل على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي، فعدل عنه الى عثمان فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى علي عليه السلام فأعاد قوله، فعل ذلك عبد الرّحمن ثلاثاً، فلما رأى أنّ عليّاً غير راجع عمّا قاله وأنّ عثمان ينعم له بالاجابة صفق على يد عثمان، وقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال: إنَّ علياً عليه السلام قال له: والله ما فعلتها إلّا لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دقّ الله بينكما عطر منشم (1) قيل: ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن فلم يكلم احدهما صاحبه حتّى مات عبد الرّحمن.

وقال الشارح ايضاً: لما بنى عثمان قصره طمارد الزوراء وصنع طعاماً كثيرا ودعا الناس اليه كان فيهم عبد الرّحمن، فلما نظر إلى البناء والطعام قال: یا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك وإني استعيذ بالله من بيعتك، فغضب عثمان وقال: اخرجه عني يا غلام، فأخرجوه وأمر الناس أن لا يجالسوه فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض، ومرض عبد الرّحمن فعاده عثمان، فكلمه ولم يكلمه حتى مات. .

ص: 228


1- منشم كمقعد عطر شاق الدق أو قرون السنبل سم ساعة ونبت الوجيه العطارة بمكة وكانوا اذا ارادوا القتال وتطيبوا بطيبها كثرت القتلى فقالوا اشأم من عطر منشم (قاموس).

أقول: هذا ما رواه الشّارح المعتزلي في قضيّة الشّورى وأتبعه بروايات اخرى لامهم في إطالة الكلام بذكرها، وإنّما المهمّ الاشارة الى بعض ما يطعن به على عمر في هذه القضّية من إبداعه في الدين وخروجه عن نهج الحقّ المبين وغير ذلك ممّا لا يخفى على أهل البصيرة واليقين.

منها مخاطبته القوم ومواجهتهم بمثل تلك الكلمات الكاشفة غلظ عن طبيعته وخشونة مسه وجفوته، وذلك شاهد صدق على ما ذكره عليه السلام سابقاً بقوله: «فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها ويخشن مسها».

ومنها خروجه في هذا الأمر عن النّص والاختيار جميعاً.

ومنها حصر الشّورى في ستّة وذمّ كلّ واحد منهم بأن ذكر فيه طعناً لا يصلح معه الامامة ثم أهّله بعد أن طعن فيه.

ومنها نسبة الامام عليه السلام الى الدعابة والمزاحة وهو افتراء عليه وظلم في حقّه، ومثل ذلك زعم عمرو بن العاص وكذَّبه كما يشير عليه السلام بذلك في بعض خطبه بقوله: «عجباً لابن النّابغة يزعمّ أنّ في دعابة أو انّي أمرؤ ملعابة ... الخ»

ومنها جعل الأمر إلى ستّة ثم إلى أربعة ثم إلى واحد وصفهَ بالضّعف والقصور.

ومنها ترجيح قول الذين فيهم عبد الرّحمن لعلمه بأنّه لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمّه.

ومنها ادخاله عثمان في الشّورى مع دعواه العلم بظهور الفساد والقتل من خلافته وصرف مال الله في غير أهله كما يدلّ عليه قوله: والله لئن فعلوا لتفعلنَّ.

ومنها امره بقتل الثّلاثة الذين ليس فيهم عبد الرّحمن لو أصرّوا على المخالفة ومن المعلوم أنّ مخالفته لا يوجب استحقاق القتل.

ص: 229

ومنها أمره بقتل الستة وضرب أعناقهم إن مضت ثلاثة أيّام ولم يتّفقوا ومن الواضحٍ ان تكليفهم إذا كان الاجتهاد في اختيار الامام فربّما طال زمان الاجتهاد وربّما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض، وكيف يسوغ الأمر بالقتل إذا تجاوزت الثلاثة إلى غير هذه ممّا هي غير خفيّة على أهل البصيرة والمعرفة.

بیان

في ذكر طائفة من الاحتجاجات التي احتج بها الامام عليه السلام في مجلس الشورى ومناشداته معهم وتعداد فضائله وذكر خصائصه، وهي كثيرة روتها الخاصّة والعامة في كتبهم ونحن نقتصر على رواية واحدة.

وهو ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: إنّ عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة واجمع على الشورى بعث الى ستّة نفر من قريش: إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وإلى عثمان بن عفان وإلى الزبير بن العوام وإلى طلحة بن عبيد الله وعبد الرّحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص، وأمرهم أن يدخلوا الى بيت ولا يخرجوا منه حتّى يبايعوا لأحدهم فإن اجتمع أربعة على واحد وأبى واحد ان يبايعهم قتل، وإن امتنع اثنان وبايع ثلاثة قتلا فأجمع رأيهم في عثمان.

فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ما همّ القوم به من البيعة لعثمان قام فيهم ليتّخذ عليهم الحجة، فقال عليه السلام لهم: اسمعوا منّي فإن يك ما أقول حقاً فأقبلوا، وإن يك باطلاً فأنكروه ثم قال عليه السلام: انشدكم «نشدتكم خ» بالله الذي يعلم صدقكم إن صدقتم ويعلم كذبكم إن كذبتم هل فيكم أحد صلّى القبلتين كلتيهما غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم من بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان غيري؟ قالوا: لا، قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخوه المزين بالجناحين «يطير بهما في الجنة خ» غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد اخوه المزين

ص: 230

بالجناحين «يطير بهما في الجنة خ» غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد عمّه سيّد الشهداء غيري؟ قالوا لا: قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد زوجته سيّدة نساء أهل الجنّة غيري؟ قالوا: لا.

قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد ابناه ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهما سيّدا شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد عرف النّاسخ من المنسوخ في القرآن غيري؟ قالوا: لا.

قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد أذهب الله عنه الرّجس وطهره تطهيراً غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد عاين جبرائيل في مثال دحية الكلبي غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد أدّى الزّكاة وهو راكع غيري؟ قالوا: لا، قال فانشدتكم بالله هل فيكم احد مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عينيه وأعطاه الرّاية يوم خيبر فلم يجد حرّاً ولا برداً غيري؟ قالوا: لا.

قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم بأمر الله فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد اخو رسول الله في الحضر ورفيقه في السّفر غيري؟ قالوا: لا.

قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد بارز عمرو بن الودِّ العامري يوم الخندق وقتله غيري؟ قالوا: لا، قال فانشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلوات الله عليه وآله: انت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي غيري؟ قالوا: لا.

قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد سمّاه الله تعالى في عشر آيات من القرآن مؤمناً غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد ناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه الكفار فأنهزموا غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد وقفت الملائكة يوم احد حتى ذهب النّاس عنه غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم

ص: 231

بالله هل فيكم احد قضى دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد اشتاقت الجنّة إلى رؤيته غيري؟ قالوا: لا.

قال: فانشدتكم بالله هل فيكم احد شهد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكفّنه غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد ورث سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورايته وخاتمه غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلاق نسائه بيده غيري؟ قالوا: لا، قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ظهره حتّى كسر الأصنام على باب الكعبة غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نودي باسمه يوم بدر من السماء لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علىّ غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أكل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الطائر المشويّ الذي أُهدي إليه غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انت صاحب رايتي في الدّنيا وصاحب لوائي في الآخرة غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد قدّم بين يدي نجواه صدقة غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد خصف (1) نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، انا اخوك، وأنت أخي غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم إنتني بأحب )

ص: 232


1- خصف النعل يخصفها خرزها (ق)

خلقك «الخلق خ» إليّ وأقواهم بالحق غيري؟ قالوا «اللهم خ» لا قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد استقى مائة دلو بمائة تمر وجاء بالتّمر فأطعمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جائع غيري؟ قالوا: «اللهم خ» لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد سلم عليه جبرائيل وميكائيل وإسرافيل في ثلاثة آلاف من الملائكة «كلّ واحد منهم في ألف من الملائكة خ» يوم بدر غيري؟ قالوا: «اللهم خ» لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد غمض عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد وحّد الله قبلي غيري؟ (1) قالوا:؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد كان أوّل داخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآخر خارج من عنده غيري؟ قالوا: لا، قال: فانشدتكم بالله هل فيكم أحد مشى مع رسول الله فمرّ على حديقة فقال «فقلت خ» ما احسن هذه الحديقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحديقتك في الجنّة احسن من هذه الحديقة حتّى اذا مرّ «مررت خ» على ثلاثة حدائق كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديقتك في الجنّة أحسن من هذه غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أوّل من آمن بي وأوّل من يصافحني يوم القيامة غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بیده ويد امرأته وابنيه حين أراد أن يباهل نصارى نجران غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوّل طالع يطلع عليكم من هذا الباب يا أنس فإنّه امير المؤمنين وسيّد المسلمين وخير الوصيين وأولى النّاس بالناس فقال أنس: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار فكنت أنا الطالع فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنس: ما انت بأوّل رجل أحب قومه غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل ه.

ص: 233


1- هكذا في النسخة والظاهر زيادته منه.

فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية:

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1).

غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد انزل الله فيه وفي ولده: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) (2). إلى آخر السّورة غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد انزل الله فيه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) (3). غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف كلمة كلّ كلمة مفتاح ألف كلمة غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد ناجاه رسول الله الطائف فقال أبو بكر وعمر: ناجيت عليّاً دوننا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا ناجيته بل الله امرني بذلك غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد سقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهراس (4) غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله: انت أقرب الخلق مني يوم القيامة يدخل بشفاعتك الجنّة أكثر من عدد ربيعة ومضر غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انت تكسى حين اكسى غيري؟ قالوا: لا..

ص: 234


1- المائدة - 55.
2- الانسان - 5.
3- التوبة - 19.
4- المهراس حجر منقور يدق فيه ويتوضأ منه (ق). (مكرر) المهراس صخرة منقورة تسع كثيراً من الماء، وقد يعمل منه حياض للماء، نهاية.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت وشيعتك هم الفائزون يوم القيامة غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذب من زعم أنّه يحبني ويبغض هذا غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحبّ شعراتي «هذه خ» فقد احبّني ومن أحبّني فقد احب الله فقيل له: وما شعراتك يا رسول الله؟ قال: عليّ والحسن والحسين وفاطمة غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انت خير البشر بعد النبييّن غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الفاروق تفرق بين الحقّ والباطل غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أفضل الخلائق عملاً يوم القيامة بعد النبيِّين غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كساه عليه وعلى زوجته وعلى ابنيه ثم قال: اللهم أنا وأهل بيتي إليك لا إلى النّار غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد كان يبعث الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطعام وهو في الغار ويخبره بالأخبار غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا سرَّ لله دونك غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انت اخي ووزيري وصاحبي من أهلي غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت

ص: 235

أقدمهم سلماً (1) وأفضلهم علماً وأكثرهم حلماً غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قتل مرحباً اليهودي مبارزة فارس اليهود غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاسلام فقال له: انظرني حتّى ألقى والدي، فقال له رسول الله: يا عليّ فإنّها أمانة عندك، فقلت: فإن كانت أمانة عندي فقد أسلمت غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد احتمل باب خیبر حتى فتحه فمشی به مائة ذراع ثم عالجه بعده أربعون رجلاً فلم يطيقونه غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد (2) نزلت فيه هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) (3). فكنت أنا الذي قدّم الصّدقة غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزلي مواجه منزلك في الجنّة غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد اضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أراد أن يسير إلى المدينة ووقاه بنفسه من المشركين حين أرادوا قتله غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله: انت أولى النّاس بأمّتي من بعدي غيري؟ قالوا: لا قال: نشدتكم بالله 2.

ص: 236


1- السلم بفتح السين وكسرها وهما لغة الصلح والسلم بفتح السين واللام الاستسلام والانقياد كقوله تعالى (القوا اليكم السلم) (نهاية).
2- هكذا في النسخة والظاهر انه غلط (منه). (مكرر) الظاهر ان قبل نزلت لما ساقطة من النسخة (منه).
3- المجادلة - 12.

هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت يومك القيامة عن يمين العرش والله يكسوك ثوبين أحدهما أخضر و الآخر ورديّ غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد صلّى قبل النّاس «مع رسول الله خ» بسبع سنين وأشهر غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا يوم القيامة آخذ بحجزة ربي والحجزة النّور وأنت آخذ بحجزتي (1) وأهل بيتي أخذون بحجزتك غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انت كنفسي وحبك حبي وبغضك بغضي غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ولايتك كولايتي عهد عهده إلىَّ ربّي وامرني أن ابلغكموه غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمّ اجعله لي عوناً وعضداً وناصراً غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المال يعسوب الظلمة وأنت يعسوب (2) المؤمنين غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبعثنّ اليكم رجلاً امتحن الله قلبه للايمان غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد أطعمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمّانة وقال: هذه من رمّان الجنّة لا ينبغي أن يأكل منه إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله )

ص: 237


1- بالحاء المهملة، والجيم والزاء حجزة الازار معقده وحجزة السراويل مجمع شده والجمع حجز مثل غرفة وغرف (نهاية).
2- يعسوب امير النحل ومنه قيل للسيد يعسوب قومه (صلی الله علیه و آله و سلم)

وسلم ما سألت ربّي شيئاً إلّا أعطانيه ولم أسأل ربّي شيئاً إلّا سألت لك مثله غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أقومهم بأمر الله وأوفاهم بعهد الله واعلمهم بالقضيّة وأقسمهم بالسّوية وأعظمهم عند الله مزيّة غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فضلك على هذه الأمّة كفضل الشّمس على القمر وكفضل القمر على النّجوم غيري؟ قالوا: لا، قال نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يُدْخِلُ اللهُ وليَّك الجنّة وعدوّك النّار غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: النّاس من أشجار شتّى وأنا وأنت من شجرة واحدة غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيّد ولد آدم وأنت سيّد العرب «والعجم خ» ولا فخر غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد رضى الله عنه في الآيتين من القرآن غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، موعدك وموعدي وموعد شيعتك الحوض إذا خافت الأمم ووضعت الموازين غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم إني احبّه فأحبّه اللهم إنّي استودعكه غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت تحاجّ الناس فتحجهم باقام الصّلاة وايتاء الزّكاة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإقامة الحدود والقسم بالسّوية غيري؟ قالوا: لا.

قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده يوم بدر (1) «غدير خم» فرفعها حتّى نظر النّاس إلى بياض ابطيه ه.

ص: 238


1- و الظاهر يوم غدير ويحتمل وقوع ذلك يوم بدر ايضاً منه.

وهو يقول: ألا إنّ هذا عليّ بن أبي طالب اخي وابن عمّي ووزيري فوازروه وناصحوه وصدقوه فهو وليّكم غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد نزلت فيه هذه الآية: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1). غيري؟ قالوا: لا، قال: فهل فيكم احد كان جبرائيل احد ضيفانه غيري؟ قالوا: لا قال: فهل فيكم احد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حنوطاً من حنوط الجنّة، ثم قال: اقسمه أثلاثاً ثلثاً لي تحنّطني به وثلثاً لابنتي وثلثاً لك غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم احد كان إذا دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيّاه وأدناه ورحب به وتهلل له وجهه غيري؟ قالوا: لا، قال: فهل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وماله وسلم أنا أفتخر بك يوم القيامة إذا افتخرت الأنبياء بأوصيائها غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم احد سرحه (2) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسورة براءة الى المشركين من أهل مكة بأمر الله غيري؟ قالوا: لا، قال: فهل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأرحمك من ضغائن في صدور أقوام عليك لا يظهرونها حتّى يفقدونني فاذا فقدوني خالفوا فيها غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أدّى الله (3) عن أمانتك أدّى الله عن ذمتك غيري؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم بالله هل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انت قسيم النّار تخرج منها من زّكّى وتذر فيها كل كافر غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم احد فتح حصن خيبر وسبى بنت مرحب فأدّاها إلى .

ص: 239


1- الحشر - 9.
2- سرحت فلاناً الى موضع كذا أرسلته، (صلی الله علیه و آله و سلم).
3- قال تعالى: (ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى اهلها) منه.

رسول الله غيري، قالوا: لا: قال: فهل فيكم احد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ترد على الحوض أنت وشيعتك روّاء مروّيين مبيضة وجوههم ويرد علي عدوك ظمأ مظمئين مقمحين (1) مسودّة وجوههم غيري؟ قالوا: لا.

ثم قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: أما إذا أقررتم على أنفسكم واستبان لكم ذلك من قول نبيّكم فعليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأنهاكم من سخطه وغضبه ولا تعصوا أمره، وردّوا إلى أهله وأتّبعوا سنّة نبيّكم فإنكم إن خالفتم خالفتم الله، فأدفعوها الى من هو أهله وهي له قال: فتغامزوا فيما بينهم وتشاوروا وقالوا: قد عرفنا فضله وعلمنا أنّه أحقّ النّاس بها، ولكنّه رجل لا يفضل أحداً على أحد، فإن وليتموها إيّاه جعلكم وجميع النّاس فيها شرعاً سواء ولكن ولوها عثمان فإنّه يهوى الذين تهوون فدفعوها إليه.ة.

ص: 240


1- في حديث علي (علیه السلام) قال له النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ستقدم على الله انت وشيعتك راضين ومرضيين ويقدم عليك عدوك غضاباً مقمحين ثم جمع يده الى عنقه يراهم كيف الاقماح. الاقماح رفع الرأس وغض البصر يقال اقمحه الغل اذا ترك رأسه مرفوعاً من سيفه ومسه قوله تعالى: (انا جعلنا في اعناقهم اغلالاً فهي الى الاذقان فهم مقمحون) نهاية.

الفصل الرابع

إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ [خَضْمَ] خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ ...

(إلى أن قام ثالث القوم) أي: صار عثمان بن عفان (1) خليفة بعد عمر (نافخاً) حال من ثالث القوم، أي رافعاً، (حضنيه) اي جنبيه. يعني قام بالأمر منتفخاً جنبيه (بين نثيله) اي روثه (ومعتلفه) والمعتلف من العلق يعني: رفعهما من الحسد والبغض أو من الأكل والشرب، والمراد: ان غرض عثمان وحاجته الأكل والروث، يعني: لا يعرف شيئاً غير أن يأكل ويروث (و) لكنه لم يقم بهذا الأمر لوحده بل (قام معه بنو أبيه) اي: إتفق مع عثمان بنو أمية بن عبد شمس (يخضمون مال الله) اي يأكلون مال الله من غير مبالاة مثل (خضمة الإبل نبتة الربيع) فشبه أكلهم المال الحرام بنهم وشره كما ان الأبل تأكل نبات الربيع: إذ كان يصرف مال الله على نفسه وأقاربه حتى أعطى أصهاره أربع مأته ألف درهم حتى قال له المهاجرون والأنصار: إما أن تخلع نفسك من الخلافة أو نقتلك، ولكنه لم يأبه لقولهم ونصائحهم (إلى أن انتكث فثله) يُقال: فثل الحبل: إذا لواه، و (النكث) هو النقض، أي انتقض امره ولوى الحبل الذي كان متعلقا به (واجهز عليه عمله) أي قتله عمله الغير اسلامي، لأنه كان سائراً على هواه غير مبالٍ بالاسلام والمسلمين. (وكبت به

ص: 241


1- عثمان بن عفان بن ابي العاص بن ابي العاص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الاموي. يجتمع ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في عبد مناف. اسلم أول الأسلام، وهو ذو النورين وتزوج بنت الرسول رقية، وهاجرا كلاهما الى ارض الحبشة الهجرتين، ثم عادا الى مكة، وهاجر الى المدينة. ثم تزوج بعد رقية أم كلثوم أختها، ولم يشهد عثمان بدراً.

بطنيه) والبطنة بالكسر: التخمة اذا كان همه كثرة الأكل فقط حتى اصيب بالتخمة والمتخوم عادة يقل تفكره وتعقله إذ يصبح تفكيره فقط منحصراً في جهة واحدة وهي اشباع بطنه.

وقد بويع عثمان وتقلّد الخلافة على اساس السير على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين ... ولكنه لم يفقه شيئاً من كتاب الله فكيف يسير على مقتضاه ... أما سنّة الرسول الكريم فكان معناها الالتزام بخط الاسلام ولا يسير على هدى الإسلام إلا مَنْ آمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر وكان الايمان قد دخل الى قلبه حقاً، أما عثمان فلم يكن له حظ من الايمان فكيف يسير على سنة الرسول، وفاقد الشيء لا يعطيه. أما سيرة الشيخين ففسرها كما يحلو له فما كانا يعملانه قربة لوجه الله خالفهما فيه وناقض عملهما بحجة القربة لوجه الله ... واذا اردنا ان نعرف كيف كانت خلافته، فلا بد لنا من أن نطلع على اعتراض السيد الشريف المرتضى علم الهدى على القاضي عبد الجبار صاحب المغني. فإن في اعتراضه - رحمه الله - غنى عن تصفح مجلدات. فلنر ما عند علم الهدى قدس سره:

قال في الشّافي: فأمّا قوله في «جواب ما يسأل عنه من ايثاره أهل بيته بالأموال أنّه لا يمتنع أن يكون إنّما أعطاهم من ماله» فالرواية بخلاف ذلك وقد صرّح الرّجل أنّه كان يعطي من بيت المال صلة لرحمه ولما وقف على ذلك لم يعتذر منه بهذا الضرب من العذر ولا قال إنّ هذه العطايا من مالي ولا اعترض لأحد فيه.

وقد روى الواقدي بأسناده عن الميسور بن عتبة أنّه قال: سمعت عثمان يقول إن أبا بكر وعمر كانا يتناولان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما وإنّي ناولت فيه صلة رحمي.

وروى عنه أنّه كان بحضرته زياد بن عبيد الله الحارثي مولى الحارث بن كلدة الثقفي وقد بعث أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين أهله وولده بالصحاف ففاضت عينا زياد دموعاً لما رأى من صنيعه بالمال

ص: 242

فقال: لا تبكِ فإنّ عمر كان يمنع أهله وذوي أرحامه ابتغاء وجه الله وأنا أعطي أهلي وقرابتي ابتغاء وجه الله. وقد روي هذا المعنى عنه من عدةً طرق بألفاظ مختلفة.

وروى الواقدي بأسناده قال: قدمت إبل من أهل الصدقة على عثمان فوهبها لعمه الحرث بن الحكم بن أبي العاص.

قال: وروي أيضاً أنّه ولي الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها.

وروى أبو مخنف والواقدي جميعاً أنّ النّاس أنكروا على عثمان إعطاءه سعيد بن أبي العاص مائة الف فكلّمه عليّ عليه السلام والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك فقال: إن لي قرابة ورحماً. فقالوا: أما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذوو رحم؟ فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا احتسب في عطاء قرابتي. قالوا: فهديهما والله أحبّ الينا من هديك.

وقد روى أبو مخنف أنّه لمّا قدم على عثمان عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص من مكة وأناس مكة وأناس معه أمر لعبد الله بثلاثمائة ألف ولكلّ واحد من القوم مائة ألف فصلّ بذلك على عبد الله بن الأرقم وكان خازن بيت المال فاستكثره وردّ الصكّ به ويقال: إنّه سأل عثمان أن يكتب بذلك كتاب دين فأبى ذلك وامتنع ابن الأرقم ان يدفع المال الى القوم، فقال له عثمان: إنّما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازناً للمسلمين وإنّما خازنك وغلامك والله لا ألي لك بيت المال أبداً فجاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر ويقال: بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى نائل مولاه.

وروى الواقدي: أن عثمان أمر زيد بن ثابت ان يحمل من بيت المال إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم فلمّا دخل بها عليه قال له: يا أبا محمّد إنّ أمير المؤمنين ارسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن التجارة ولك ذو رحم ذات حاجة ففرّق هذا المال فيهم واستعنّ به على عيالك، فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه حاجة وما عملت لأن يثيبني

ص: 243

عثمان والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف درهم. ولئن كان مال عثمان ما أُحبّ أن أزراه من ماله شيئاً وما في من هذه الأمور اوضح من أن يشار إليه وينبّه عليه.

وأمّا قوله «لو صحّ أنّه اعطاهم من بيت المال لجاز ان يكون ذلك على طريق الفرض» فليس بشيء لأن الروايات أولاً تخالف ما ذكروه وقد كان يحب «يجب ظ» لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم: هذا على سبيل القرض وأنا أردّ عوضه ولا يقول ما تقدم ذكره من انني أصل به رحمي.

على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت المال إلّا ما ينصرف في مصلحة للمسلمين مهمة يعود عليهم نفعها أو في سدّ خلّة وفاقة لا يتمكّنون من القيام بالأمر معها فأمّا أن يقترض المال لينتدح ويمرح فيه مترفي بني أميّة وفسّاقهم فلا أحد يجيز ذلك.

فأمّا قوله حاكياً عن أبي عليّ «أن دفعه خُمْس أفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ ولا منقول» فتعلل منه بالباطل لأنّ العلم بذلك يجري مجرى الضروري ومجرى ما تقدّم بسائره، ومن قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شكّ كما يعلم نظائره.

وقد روى الواقدي عن أُسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله ابن الزبير قال: أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين افريقية فأصاب عبد الله سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمانُ مروانَ بن الحكم تلك الغنائم وهذا كما ترى يتضمن الزيادة على الخُمْس ويتجاوز إلى إعطاء الكل.

وروى الواقدي عن عبد الله بن جعفر، عن أُم بكر بنت الميسور قالت: لمّا بنى مروان داره بالمدينة دعا النّاس إلى طعامه وكان الميسور ممن دعاه فقال مروان وهو يحدّثهم: والله ما انفقت في داري هذه من مال المسلمين درهماً فما فوقه، فقال الميسور: لو أكلت طعامك وسكتَّ كان خيراً لك لقد غزوت معنا افريقية وإنك لأقلّنا مالاً ورقيقاً وأعواناً وأخفّنا ثقلاً فأعطاك ابن عمّك

ص: 244

خمس افريقية وعملت على الصدقات فأخذت اموال المسلمين.

وروى الكلبي عن ابيه عن أبي مخنف أنّ مروان ابتاع خمس افريقية بمائتي ألف أو بمائة ألف دينار وكلم عثمان فوهبها له فأنكر النّاس ذلك على عثمان، وهذا بعينه هو الّذي اعترف به أبو الحسين الخيّاط واعتذر بأن قلوب المسلمين تعلّقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لمّا جاءه بشيراً بالفتح على سبيل الترغيب، وهذا الاعتذار ليس بشيء لأنَّ الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خالٍ من البشارة وإنّما يقتضي أنّه سأله ترك ذلك عليه فتركه أو ابتدأ هو بصلته ولو اتى بشيراً بالفتح كما ادّعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائدة على المسلمين وتلك البشارة لا تستحق أن يبلغ البشير بها مائتي ألف دينار ولا اجتهاد في مثل هذا ولا فرق بين من جوزّ أن يؤدي الاجتهاد الى مثله ومن جوّز أن يؤدي الاجتهاد الى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها، ومن ارتكب ذلك الزم جواز ان يؤدي الاجتهاد إلى جواز إعطاء هذا البشير جميع اموال المسلمين في الشرق والغرب.

فأمّا قوله: «إنّه وصل بني عمّه لحاجتهم ورأى في ذلك صلاحاً» فقد بيّنا أن صلاته لهم كانت أكثر ممّا يقتضيه الحاجة والخلّة وأنّه كان يصل منهم المياسير وذوي الأحوال الواسعة والضّيّاع الكثيرة، ثمّ الصلاح الّذي زعم أنّه رآه لا يخلو من أن يكون عائداً على المسلمين أو على أقاربه، فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنّه لا صلاح لأحد من المسلمين في اعطاء مروان مائتي ألف دينار والحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم وابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ذلك ممن هو مذكور، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر، وإن أراد الصلاح العائد على الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين وينفعهم بما يضرّ به المسلمين.

فأما قوله «ان القطائع التي اقطعها بني أُمية إنّما اقطعهم إياها لمصلحة يعود على المسلمين لأنّها كانت خراباً لا عامر لها فسلّمها إلى من يعمرها ويؤدي الحقّ فيها» فأوّل ما فيه أنّه لو كان الأمر على ما ذكره ولم تكن هذه القطائع على

ص: 245

سبيل الصلة والمعونة لأقاربه لما خفي ذلك على الحاضرين ولكانوا لا يعدّون ذلك من مثالبه ولا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه. ثمّ كان يجب لو فعلوا ذلك ان يكون جوابه لهم بخلاف ما روي من جوابه، لأنه كان يجب أن يقول لهم: وأي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتّى يعدّوا ذلك من جملة صِلاتي لهم وإيصال المنافع اليهم؟ وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الّذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم وما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في اعطاء قرابتي وأن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك ممّا هو خالٍ من المعنى الذي ذكروه. انتهى.

أقول: ومن قوادحه ما فعل بعبد الله بن سعد قبل خلافته بعد ما هدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه. تفصيله أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكنى أبا يحيى وهو أخو عثمان عفان من الرضاعة (أرضعت أُمه عثمان) أسلم قبل الفتح وهاجر الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ ارتدّ مشركاً وصار إلى قريش بمكّة فقال لهم: إني كنت أُصرّف محمّداً حيث أُريد كان يملي عليّ عزيز حكيم فأقول أو عليم حكيم فيقول نعم كلّ صواب فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله وقتل عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة ففرّ عبد الله بن سعد إلى عثمان بن عفان فغيبه عثمان حتى أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما أطمأن أهل مكّة فأستأمنه له فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً ثمّ قال: نعم فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله: ما صمت إلّا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إليَّ يا رسول الله؟ فقال: إنّ النّبي لا ينبغي ان يكون له خائنة الأعين؛ قاله في أسد الغابة.

وفي الصّافي للفيض في تفسير القرآن في ضمن قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ

ص: 246

مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) (1). وفي الكافي والعيّاشي عن أحدهما عليهما السلام نزلت الآية في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر وهو ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة هدر دمه وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا انزل الله عزّ وجلّ إنّ الله عزيز حكيم كتب إن الله عليم حكيم فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعها فإن الله عليم حكيم وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر علي فأنزل الله تبارك وتعالى فيه الذي انزل.

والقمي عن الصّادق عليه السلام قال: إنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة أسلم وقدم المدينة وكان له خطّ حسن وكان اذا انزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاه فكتب ما يمليه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سميع بصير يكتب سميع عليم وإذا قال: والله بما يعملون خبير يكتب بصير، ويفرق بين التاء والياء، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو واحد فارتد كافراً ورجع إلى مكّة وقال لقريش: والله ما يدري محمد ما يقول أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ ذلك فأنا أُنزل مثل ما ينزل فأنزل الله على نبيّه في ذلك (ومن أظلم ممن افترى) الى قوله: مثل ما انزل الله - فلما فتح رسول الله مكة أمر بقتله فجاء به عثمان وقد أخذ بيده ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال يا رسول الله اعفُ عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ أعاد فسكت ثمّ أعاد فقال هو لك فلما مرّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليّ فأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الأنبياء لا يقتلون بالاشارة فكان من الطلقاء.

قال ابن هشام: ثمّ أسلم بعد فولّاه عمر بن الخطّاب بعض أعماله ثمّ ولاه عثمان بن عفان بعد عمر.4.

ص: 247


1- الانعام - 94.

وقال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير القرآن ضمن الآية المذكورة وقيل: المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ - إلى قوله تعالى - ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) (1) فجرى على لسان ابن ابي سرح فتبارك الله احسن الخالقين فأملأه عليه وقال هكذا انزل فارتدّ عدو الله وقال: لئن كان محمّد صادقاً فلقد أوحى إليّ كما أوحى إليه ولئن كان كاذباً فلقد قلت كما قال وارتدّ عن الاسلام وهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه فلما كان يوم الفتح جاء به عثمان وقد اخذ بيده ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال: يا رسول الله اعفُ عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ أعاد فسكت ثمّ أعاد فسكت فقال هو لك فلما مرّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال عباد بن بشر: كانت عيني إليك يا رسول الله ان تشير إلىّ فأقتله فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: الأنبياء لا يقتلون بالاشارة.

أقول: لا كلام في ارتداد ابن أبي سرح وإنّما الاختلاف في سبب ارتداده وجملته انه نبذ كتاب الله وراء ظهره واتخذه سخرّياً.

ولكن ما أتى به الفيض في الصافي من الرواية «في ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال: سميع بصير يكتب ابن ابي سرح سميع عليم وإذا قال: والله بما يعملون خبير يكتب بصير ويفرق بين التاء والياء وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هو واحد» ليست بصحيحة جداً لأنّ شدّة عناية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واهتمامه بحفظ القرآن وحراسته عن التحريف والتغيير يمنعنا عن قبول ذلك وسيأتي التحقيق الأنيق بعيد هذا في ان هذا المصحف المكتوب بين الدّفتين المتداول الآن بين الناس جميع ما نزل عليه صلى الله عليه وآلهه وسلم في نيف وعشرين سنة من غير زيادة ونقصان وتصحيف وتحريف وإنّ تركيب السور من الآيات وترتيب السور على ما هو في 2.

ص: 248


1- المؤمنون - 12.

المصحف توقيفي كان بأمر الله تعالى وأمر أمين الوحي عليه السلام وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

على أنّ صدر كل آية يدل على انه يناسب ويقتضي كلمات خاصّة في ختامها ولا يوافق غيرها كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام وفنون الأدب سيما كتاب الله الذي اعجز العالمين عن ان يتفوّهوا بأتيان مثله وإن كان سورة منها نحو الكوثر ثلاث آيات.

مثلاً أن قوله تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (1) لا يناسب إنّه حكيم بذات الصدور، أو وهو السميع الخبير مثلاً فإن في الجمع بين يعلم وبين اللّطيف لطيفة حكميّة يدركها ذوق التألّه بخلاف الجمع بين يعلم والسميع.

وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2) يناسب التوبة الغفور الرحيم دون أنّه عزيز ذو انتقام، أو حكيم عليم وامثالها وكذا في الآيات الأُخر فتدبّر فيها بعين العلم والمعرفة.

على إنّا نرى الحجج الإلهية يمنعون النّاس عن التّصرف في الأدعيّة وتحريفها. روى محمّد بن بابويه عليه الرحمة في كتاب الغيبة بأسناده عن عبد الله بن اسنان قال: قال ابو عبد الله عليه السلام: سيصيبكم شبهة فتبقون بلا علم ولا إمام هدى ولا ينجو فيها إلّا من دعا بدعاء الغريق؛ قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال عليه السلام: تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك؛ فقلت: يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبي على 5.

ص: 249


1- الملك - 13 و 14.
2- النور - 4 و 5.

دينك، فقال عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ مقلّب القلوب والأبصار ولكن قل كما أقول: ثبت قلبي على دينك.

فاذا كان الدعاء توقيفياً ويردع الامام عليه السلام عن التحريف فكيف ظنك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع القرآن.

و قدم على عثمان عمّه الحكم بن أبي العاص و ابن عمّه مروان وغيرهما من بني أُميّة ومروان هو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله الّذي غربه عن المدينة ونفاه عن جواره.

أقول: إنّ الحكم وابنه مروان كليهما كانا طريدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصواب أن يقال: ان الحكم هو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ابنه مروان كان طفلاً حين طرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسبب في ذلك انّ الحكم بن ابي العاص عمّ عثمان كان يحاكي مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينقصه وكان يفعل ذلك استهزاءً به وسخرية فرآه النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يفعل ذلك فقال له النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد غضب لذلك: أتحكيني؟ اخرج من المدينة فلا جاورتني فيها حيّاً ولا ميّتاً فطرده وابنه مروان ونفاهما إلى بلاد اليمن ونُفيا بها مطرودين مدّة حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا مات وولي أبو بكر طمع عثمان أن يردّهما فكلم أبا بكر في ذلك فزبره وأغلظ عليه وقال: أتريدني يا عثمان أن آوي طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلا؟ لا يكون ذلك، فسكت عثمان، حتّى ولي عمر فكلّمه أيضاً في ردّهما فأبى عليه وقال: لا يكون منّي أن أوي طريد رسول الله وطريد أبي بكر اعزب عن هذا الكلام فسكت عثمان فلمّا ولي واستتمً له الأمر كتب اليهما بأن أقدما المدينة فأقدمهما المدينة على رؤوس الأشهاد مكرمين.

وقال ابن الأثير الجزري في اسد الغابة: الحكم بن أبي العاص بن اميّة الأموي ابو مروان بن الحكم يعدّ في أهل الحجاز عمّ عثمان بن عفّان أسلم يوم الفتح. وروي بأسناده الى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا مع النبيّ

ص: 250

صلى الله عليه وآله وسلم فمرّ الحكم بن أبي العاص فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ويل لأمتيّ مما في صلب هذا وهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفاه من المدينة إلى الطائف وخرج معه ابنه مروان.

وقد اختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه فقيل: كان يتسمع سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطلع عليه من باب بيته وأنّه الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفقأ عينه بمدري في يده لما اطلع عليه من الباب. وقيل: كان يحكي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مشيته فالتفت يوماً فرآه وهو يتخلج في مشيته فقال: كن كذلك، فلم يزل يرتعش في مشيته من يومئذٍ، فذكره عبد الرحمن بن حسان ابن ثابت في هجائه لعبد الرحمن بن الحمم:

إن اللعين أباك فارم عظامه *** إن ترم ترم مخلجاً مجنوناً

يمسي خميص البطن من عمل التقى *** ويظل من عمل الخبيث بطيناً

ومعنى قول عبد الرحمن إن اللعين أبوك فروي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة أنّها قالت لمروان بن الحكم حين قال لأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لمّا امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد ما قال: والقصّة مشهورة أمّا أنت يا مروان فأشهد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن أباك وأنت في صلبه وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها إلّا أن الأمر المقطوع به أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع حلمه وإغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلّا لأمر عظيم ولم يزل منفيّاً مدة حياة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا وليّ أبو بكر الخلافة قيل له في الحكم ليرّده الى المدينة فقال: ماكنت لأُحلّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك عمر فلمّا وليّ عثمان الخلافة ردّه وقال: كنت قد شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوعدني بردّه وتوفي في خلافة عثمان.

وفيه أيضاً: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة الأُموي ابن عمّ عثمان بن عفّان بن أبي العاص ولم ير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خرج

ص: 251

إلى الطائف طفلاً لا يعقل لما نفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباه الحكم وكان مع أبيه بالطائف حتّى استخلف عثمان فردّهما واستكتب عثمان مروان وضمّه إليه ونظر إليه علىَّ يوماً فقال: ويلك وويل أمّة محمد منك ومن بنيك. وكان يقال لمروان: خيط باطل وضرب يوم الدار على قفاه فقطع أحد علياويه فعاش بعد ذلك أوقض والأوقص الذي قصرت عنقه، ولمّا بویع مروان بالخلافة بالشام قال أخوه عبد الرحمن بن الحكم وكان ماجناً حسن الشعر لا يرى رأي مروان:

فوالله ما أَدري وإنّي لسائلٌ *** حليلةُ مضروبِ القَفَا كَيْفَ تَصنَعُ؟

لَحا اللهُ قوماً أمّروا خيط باطلٍ *** على النَّاسِ يُعطي مَا يَشَاءُ وَيَمنعُ.

أقول: قول علىّ عليه السلام لمروان: ويلك وويل أمّة محمد منك ومن بنيك، إشارة إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبيه الحكم: ويل لأُمّتي ممّا في صلب هذا.

«جواب القاضي عبد الجبار عن ذلك واعتذاره منه»

نقل الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي جوابه عن ذلك عن كتابه المغني إنّه قال: فأما ردّه الحكم بن أبي العاص فقد روي عنه إنّه لمّا عوتب في ذلك ذكر أنّه كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله لأنّه شاهد واحد وكذلك روي عنهما فكأنّما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التّي تخص فلم يقبلا فيه خبر وأجرياه مجرى الشهادة فلمّا صار الأمر إلى عثمان حكم بعلمه لأنّ للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخينا ولا يفصلان بين حدّ وحقّ ولا أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية ويقولون إنّه أقوى في الحكم من البينة والاقرار.

ثم ذكر عن أبي علي أنّه يقطع به على كذب روايته في إذن الرسول

ص: 252

صلى الله عليه وآله وسلم في ردّه، فلا بد من تجويز كونه معذوراً.

ثمّ سأل نفسه في أن الحاكم إنّما يحكم بعلمه مع زوال التهمة وأن التهمة كانت في ردّ الحكم قوية لقرابته، وأجاب بأن الواجب على غيره أن لا يتّهمه إذا كان لفعله وجه يصحّ عليه لأنّه قد نصب منصباً يقتضي زوال التهمة عنه وحمل أفعاله على الصحة ولو جوّزنا امتناعه للتهمة لأدّى إلى بطلان كثير من الأحكام.

وحكي عن أبي الحسن الخيّاط أنّه لو لم يكن في ردّه إذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجاز أن يكون طريقه الإجتهاد لأنّ النفي إذا كان صلاحاً في الحال لا يمتنع أن يتغيّر حكمه بأختلاف الأوقات وتغير حال المنفي وإذا جاز لأبي بكر أن يستردّ عمر من جيش أُسامة للحاجة إليه وإن كان قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفوذه من حيث تغيّرت الحال فغير ممتنع في الحكم.

إبطال جوابه

اعترض عليه علم الهدى في الشافي فقال: يقال له: أمّا ما أدعيته وبنيت الأمر في قصّة الحكم من أن عثمان لما عوتب في ردّه ادّعى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أذن له في ذلك. فهو شي ما سمع إلا منك ولا يدري من أين نقلته وفي أي كتاب وجدته وما رواه النّاس كلّهم بخلاف ذلك.

وقد روى الواقدي من طرق مختلفة وغيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الطائف وقال: لا تساكنني في بلد أبداً فجاءه عثمان فكلّمه فأبى، ثمّ كان من أبي بكر مثل ذلك، ثمّ كان من عمر مثل ذلك فلمّا قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه فمشى في ذلك عليّ عليه السلام والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر حتّى دخلوا على عثمان فقالوا له: إنّك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم ومن معه وقد كان النبيّ صلى الله

ص: 253

عليه وآله وسلم أخرجه وأبو بكر وعمر، وإنا نذكرك الله والاسلام ومعادك فإن لك معاداً ومنقلباً وقد أَبَتْ ذلك الولاة من قبلك، ولم يطمع أحد أن يكلّمهم فيه وهذا سبب نخاف الله تعالى عليك فيه.

فقال: إن قرابتهم مني حيث تعلمون وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث كلمته أطمعني في أن يأذن له وإنّما اخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم ولن يضرّكم مكانهم شيئاً وفي النّاس من هو شرّ منهم.

فقال عليّ عليه السلام: لا أحد شراً منه ولا منهم. ثمّ قال عليّ عليه السلام: هل تعلم أن عمر قال: والله ليحملن بني أبي معيط على رقاب النّاس والله لئن فعل ليقتلنّه؟ قال: فقال عثمان: ما كان منكم أحد يكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه وينال من المقدرة ما أنال إلّا أدخله وفي النّاس من هو شرّ منه. قال: فغضب عليّ عليه السلام قال: والله لتأتينا بشرّ من هذا إن سلمتَ وسترى يا عثمان غبّ ما تفعل، ثمّ خرجوا من عنده.

وهذا كما ترى خلاف ما أدّعاه صاحب الكتاب لأن الرجل لمّا احتفل أدّعى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان أطمعه في ردّه، ثمّ صرّح بأن رعايته فيه من القرابة هي الموجبة لردّه ومخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد روي من طرق مختلفة أن عثمان لمّا كلم أبا بكر وعمر في ردّ الحكم أغلظا له وزبراه وقال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأمرني أن أدخله والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غيّر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لئن اشق باثنين كما تنشق الأبلمة أحبّ إليَّ من أن أُخالف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امراً، وإياك يا ابن عفّان أن تعاودني فيه بعد اليوم. وما رأينا عثمان قال في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبي بكر وعمر: إنَّ عندي عهداً من الرسول صلى

ص: 254

الله عليه وآله وسلم فيه لا استحق معه عتاباً ولا تهجيناً وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معظم له بأنّ يأتي الى عدّو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصرّح بعداوته والوقيعة فيه حتّى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكي مشيته فطرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبعده ولعنه حتى صار مشهوراً بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيؤ ويه ويكرمه ويردّه إلى حيث أُخرج منه ويصله بالمال العظيم ويصله إما من مال المسلمين أو ماله إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح والتأمل والتعلل بالتأويل الباطل.

فأمّا قول صاحب الكتاب «إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لأنّه شاهد واحد وجعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخصّ» فأوّل ما فيه أنّه لم يشهد عندهما بشيء في باب الحكم على ما رواه جميع النّاس. ثمّ ليس هذا من الباب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كلّ ما يقبل فيه اخبار الآحاد وكيف يجوز أن يجري أبو بكر وعمر مجرى الحقوق ما ليس فيها.

وقوله: لا بدّ من تجويز كونه صادقاً في روايته لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه، ليس بشيء لأنا قد بيّنا أنّه لم يروِ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذناً وإنّما أدّعى إنّه اطمعه في ذلك وإذا جوزّنا كونه صادقاً في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذوراً.

فأما قوله: «الواجب على غيره أن لا يتهّمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصباً يفضي إلى زوال التهمة» فأوّل ما فيه ان الحاكم لا يجوز ان يحكم بعلمه مع التهمة والتهمة قد يكون لها أمارات وعلامات فما وقع فيها من أمارات وأسباب تتهم في العادة كان مؤثراً وما لم يكن كذلك وكان مبتدئاً فلا تأثير له، والحَكَم هو عمّ عثمان وقريبه ونسيبه ومن قد تكلم فيه وفي ردّه مرةً بعد أُخرى، ولوالٍ بعد وال. وهذه كلّها أسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنّب الحُكْم بعلمه في هذا الباب خاصّة لتطرق التهمة فيه.

ص: 255

فأمّا ما حكاه عن الخيّاط من «ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو لم يأذن في ردّه الجاز أن يردّه إذا رآه اجتهاد إلى ذلك لأن الأحوال قد تتغيّر» فظاهر البطلان لأن الرسول إذا حظر شيئاً أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح ومن جوّز الإجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنّه إنّما يجوز عندهم فيما لا نصّ فيه ولو جوّزنا الإجتهاد في مخالفة ما تناوله النّصّ لم نأمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد الى تحليل الخمر واسقاط الصلاة بأن يتغير الحال وهذا هدم للشريعة. فأما استشهاده بأسترداد عمر من جيش اسامة فالكلام في الأمرين واحد.

ثمّ قال المسعودي: وكان عُمّاله جماعة منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة وهو ممن أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه من أهل النّار. وعبد الله بن أبي سرح على مصر ومعاوية بن أبي سفيان على الشام وعبد الله بن عامر على البصرة، وصرف عن الكوفة الوليد بن عقبة وولاها سعيد بن العاص وكان السبب في صرف الوليد وولاية سعيد على ما روي أن الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنيّه من أول الليل الى الصباح فلمّا آذنه المؤذنون بالصلاة خرج منفصلًا في غلائله فتقدم إلى المحراب في صلاة الصبح فصلّى أربعاً وقال: تريدون أن أزيدكم بهم وقيل: إنّه قال في سجوده وقد أطال: اشرب واسقني، فقال له بعض من كان خلفه في الصف الأوّل: ما تريد؟ لا زادك الله مزيد الخير والله لا اعجب إلّا ممن بعثك إلينا والياً وعلينا أميراً وكان هذا القائل: عتاب بن غيلان الثقفي.

قال: وخطب النّاس الوليد فحصبه النّاس بحصباء المسجد فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات لتأبط شراً:

ولستُ بعيداً عن مُدامٍ وقَيْنةٍ *** ولا بصفا صلدٍ عن الخير مُعَزَلِ

ولكنني أروي من الخمرِ هامتي *** وأمشي الملا بالساحب المُتسلْسِلِ

ص: 256

وفي ذلك يقول الحطيئة كما في الشافي والمروج:

شَهِد الحطيئةُ يومَ يلقى ربَّة *** إِنَّ الوليدَ أحقُّ بالعُذْرِ

نادى وقد تَمتْ صلاتهم *** أأزيدُكم ثَمِلاً وما يدري

ليُزيدَهم أخرى ولو قبلوا *** منه لزادهم على عَشْرِ

فأبوا أبا وهبٍ ولو فعلوا *** لقرنت بين الشَفْع والوتْرِ

حبسوا عنانَك في الصلاة ولو *** خلّوا عنانك لم تَزَلْ تَجري

وأشاعوا بالكوفة فعله وظهر فسقه ومداومته شرب الخمر فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وأبو جندب بن زهير الأزدي وغيرهما فوجدوه سكراناً مضطجعاً على سريره لا يَعقِل فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ثمّ تقيأ عليهم ما شرب من الخمر فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة فأتوا عثمان بن عفّان فشهدوا عنده على الوليد أنّه شرب الخمر فقال عثمان: وما يدريكما أنّه شرب خمراً؟ فقالا: هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه فرزأهما ودفع في صدورهما وقال: تنحيّا عنّي فخرجا وأتيا عليّ بن أبي طالب عليه السلام واخبراه بالقصّة فأتى عثمان وهو يقول: دفعت الشهود وأبطلت الحدود فقال له عثمان: فما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إلى صاحبك فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدلِ بحجّة أقمت عليه الحدّ فلمّا حضر الوليد دعاهما عثمان فأقاما الشهادة عليه ولم يدِلِ بحجة فألقى عثمان السوط إلى عليّ عليه السلام فقال علي لابنه الحسن: قم يا بنيِ فأقم عليه ما أوجب الله عليه فقال: يكفيه بعض ما ترى فلمّا نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحدّ عليه توقّى لغضب عثمان لقرابته منه واخذ عليّ السوط ودنا منه فلما أقبل نحوه سبّه الوليد وقال يا صاحب مكس، فقال عقيل بن أبي طالب وكان ممن حضر: إنّك لتتكلّم يا أبن أبي معيط كأنك لا تدري من أنت وأنت علج من أهل صفورية - وهي قرية بين عكا واللجون من أعمال الأردن من بلاد طبرية كان ذكر

ص: 257

أن أباه كان يهودياً منها - فأقبل الوليد يزوغ من عليّ فأجتذبه فضرب به الأرض وعلاه بالسوط فقال عثمان: ليس لك أن تفعل به هذا قال: بلى وشرّ من هذا إذا فسق، ومنع حق الله تعالى أن يؤخذ منه.

أقول: ان الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان أخا عثمان لأُمه.

و ولي عثمان الكوفة بعد الوليد بن عقبة سعيد بن العاص فلمّا دخل سعيد الكوفة والياً أبى أن يصعد المنبر حتّى يغسل وأمر بغسله وقال: إنّ الوليد كان نجساً رجساً فلمّا أتصّلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه امور منكرة واشتبه بالاموال وقال في بعض الأيام وكتب به إلى عثمان إنما هذا السواد فطير لقريش فقال له الأشتر وهو مالك الحرث النخعي: أتجعل ما أفاء الله علينا بظلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستاناً لك ولقومك ثمّ خرج إلى عثمان في سبعين راكباً من أهل الكوفة فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص وسألوا عزله عنهم فمكث الأشتر وأصحابه أياماً لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شيء وأمتدت أيّامهم بالمدينة وقدم على عثمان أُمراؤه من الأمصار منهم عبد الله بن سرح من مصر ومعاوية من الشام وعبد الله بن عامر من البصرة وسعيد بن العاص من الكوفة فأقاموا بالمدينة أيّاماً لا يردهم إلى امصارهم كراهة أن يرد سعيداً إلى الكوفة وكره أن يعزله حتى كتب إليه من بأمصارهم يشكون كثرة الخراج وتعطيل الثغور فجمعهم عثمان وقال: ما ترون؟

فقال معاوية: أمّا أنا فراضٍ بي جندي. وقال عبد الله بن عامر بن كريز ليكفك إمرؤ ما قبله أكفك ماقبلي. وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح ليس بكثير عزل عامل للعامة وتولية غيره. وقال سعيد بن العاص إنّك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولّون ويعزلون وقد صاروا حلقاً في المسجد ليس لهم غير الأحاديث والخوض فجهزهم في البعوث حتى يكون همّ أحدهم أن يموت على ظهر دابته فسمع مقالته عمرو ابن العاص فخرج إلى المسجد فإذا طلحة والزبير جالسان في ناحية منه فقالا

ص: 258

له: الينا فصار إليهما فقالا: فما وراءك؟ قال ابشرا ما ترك شيئاً من المنكر إلا أتى به وأمر به، وجاء الأشتر فقالا له إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد ردّ عليكم وامر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وكذا.

فقال الأشتر: والله قد كنا نشكو سوء سيرته وما قمنا به خطباء فكيف وقد قمنا وأيم الله على ذلك لولا اني انفذت النفقة وانضيت الظهر لسبقته الى الكوفة حتى امنعه دخولها.

فقالا له: فعندنا حاجتك التي تفوتك في سفرك. قال: فاسلفاني إذاً مائة ألف درهم فأسلفه كلّ واحد منهما خمسين ألف درهم فقسمها بين أصحابه وخرج إلى الكوفة فسبق سعيد وصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعدُ. ثم قال: أمّا بعد فإن عاملكم الذي انكرتم تعديه وسوء سيرته قد ردّ عليكم وامر بتجهيزكم في البعوث فبايعوني على أن لا يدخلها فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة وخرج راكباً متخفيّاً يريد المدينة أو مكّة فلقي سعيداً بواقصة فأخبره بالخبر فانصرف إلى المدينة وكتب الأشتر إلى عثمان إنّا والله ما منعنا عاملك إلّا ليفسد عليك عملك ولِّ من أحببت فكتب إليهم انظروا من كان عاملكم أيّام عمر بن الخطّاب فولّوه فنظروا فاذا هو أبو موسى الأشعري فولّوه.

أقول: هذا ما نقله المسعودي في مروج الذّهب وغيره من المؤرخين بلا خلاف ومن تأمل فيه يجد أن عثمان اضطر حينئذٍ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى ولم يصرف سعيداً مختاراً بل ما صرفه جملة وأنما صرفه أهل الكوفة عنهم.

وكان سعيد هذا أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفّان ولمّا قتل عثمان لزم بيته فلم يشهد الجمل ولا صفين فلما استقر الأمر لمعاوية أتاه وعاتبه معاوية على تخلفه عنه في حروبه فأعتذر هو فقبل معاوية عذره ثمّ ولّاه المدينة فكان يوليه إذا عزل مروان عن المدينة ويولي مروان إذا عزله. وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً قتله علىّ بن أبي طالب عليه السلام.

ص: 259

وفي أُسد الغابة: استعمله عثمان على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط وغزا طبرستان فأفتتحها وغزا جرجان فأفتتحها سنة تسعٍ وعشرين أو سنة ثلاثين وانتقضت آذربيجان فغزاها فافتتحها في قولٍ.

في الشافي للشريف المرتضى علم الهدى: ومن أحداث عثمان أنّه ولي امور المسلمين من لا يصلح لذلك ولا يؤتمن عليه ومن ظهر منه الفسق والفساد ومن لا علم له، مراعاة لحرمة القرابة وعدولاً عن مراعاة حرمة الدّين والنظر للمسلمين حتى ظهر ذلك منه وتكرّر وقد كان عمر حذّر من ذلك فيه من حيث وصفه بأنه كلّف بأقاربه وقال له إذا وليّت هذا الأمر لا تسلّط بني أبي معيط على رقاب النّاس فوجد منه ما حذّره وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب فيه، وذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة وتقليده إياه حتى ظهر منه شرب الخمر واستعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأُمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة، وتوليته عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وعبد الله بن عامر بن كريز حتى يروى عنه في أمر ابن أبي سرح أنّه لما تظلّم منه أهل مصر وصرفه عنهم لمحمّد بن أبي بكر وغيره ممّن يرد عليه وظفر بذلك الكتاب ولذلك عظم التظلم من بعد وكثر الجمع وكان سبب الحصار والقتل وحتّى كان من أمر مروان وتسلّطه عليه وعلى أموره ما قتل بسببه وذلك ظاهر لا يمكن دفعه.

اعتذار القاضي والجواب عليه

نقل عنه علم الهدى في الشافي انّه قال: أمّا ما ذكروه من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنّه لا يمكن أن يدّعي أنّه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر والصلاح لأنّ الذي ثبت عنهم من الأمور حدث من بعدُ ولا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده وإنّما يجب تخطئته لو استعملهم وهم في الحال لا يصلحون لذلك. فإن قيل لما علم بحالهم كان يجب ان يعزلهم، قيل له: كذلك فعل، لأنّه

ص: 260

استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر منه فلما شهدوا بذلك جلده الحدّ وصرفه وقد روى مثله عن عمر لأنّه وليّ قدامة بن مظعون بعض اعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر فأشخصه وجلده الحد فإذا عدّ ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعدّ ما ذكروه في الوليد من معائب عثمان؛ ويقال: إنّه لمّا أشخصه أُقيم عليه الحدّ بمشهد امير المؤمنين عليه السلام واعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد بأن سعداً شكاه أهل الكوفة فأدّاه اجتهاده الى عزله بالوليد.

ثمّ قال: فأمّا سعيد بن العاص فإنّه عزله عن الكوفة وولى مكانه أبا موسى الأشعري وكذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح عزله وولىّ مكانه محمّد بن أبي بكر ولم يظهر له في باب مروان ما يوجب أن يصرفه عمّا كان مستعملاً فيه ولو كان ذلك طعناً لوجب مثله في كلّ من وليّ وقد علمنا أنّه عليه السلام ولي الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث وحدث من بعض عمّال أمير المؤمنين الخيانة كالقعقاع بن شور فإنه ولاه على ميسان (خراسان - ل خ) فأخذ مالها ولحق بمعاوية وكذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربايجان. وولى أبا موسى الحكم وكان منه ما كان. ولا يجب ان يعاب أحد بفعل غيره.

فأمّا إذا لم يلحقه عيب في ابتداء الولاية فقد زال العيب فيما عداه، فقولهم: أنّه قسم الولايات في أقاربه وزال عن طريقة الاحتياط للمسلمين وقد كان عمر حذّر من ذلك فليس بعيب لأنَّ تولية الأقارب كتولية الأباعد وانّه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة.

ولو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع ذلك إذ كان المولى لهم أشد تمكنّاً من عزلهم والاستبدال بهم لمكان أقرب؛ وقد ولىّ امير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس البصرة وعبيد الله بن عباس وقثم بن العباس مكة حتى قال الأشتر عند ذلك: على ما ذا قتلنا الشّيخ أمسِ فيما يُروى ولم يكن ذلك يعيب إذا أدّى ما وجب عليه في اجتهاده.

ص: 261

اعترض عليه الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي أنّه يقال له: أمّا اعتذاره في ولاية عثمان من ولّاه من الفسقة بأنه لم يكن عالماً بذلك من حالهم قبل الولاية وإنّما تجدّد منهم ما تجدّد فعزلهم فليس بشيء يعول على مثله لأنه لم يولِّ هؤلاء النفر إلا وحالهم مشهورة في الخلاعة والمجانة والتحرم والتهتك ولم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر والاستخفاف بالدين على استقبال ولايته الكوفة بل هذه كانت سنته والعادة المعروفة منه وكيف يخفى على عثمان وهو قريبه ولصيقه وأخوه لأُمّه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد فلهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي وقد دخل الكوفة: يا أبا وهب أميراً أم زائراً؟ قال: بل أميراً، فقال: سعد: ما أدري أحمقتُ بعدك أم كسست بعدي؟ قال: ما حمقتَ بعدي ولا بعدك، ولكنَّ القوم ملكوا فأستأثروا فقال سعد: ما أراك إلّا صادقاً.

وفي رواية ابي مخنف لوط بن يحيى: إنّ الوليد لما دخل الكوفة مرّ على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف فقال عمرو: يا معشر بني اسد بئس ما استقبلنا به اخوكم ابن عفان من عدله ان ينزع عنا ابن ابي وقاص الهين اللين السهل القريب ويبعث علينا اخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر قديماً وحديثاً واستعظم النّاس مقدمة وعزل سعد به وقالوا: اراد عثمان كرامة اخيه بهوان أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية لا ريب فيها على احد، فكيف يقال إنه كان مستوراً حتّى ظهر منه ما ظهر.

وفي الوليد نزل قوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) (1) فالمؤمن ههنا عليّ بن أبي طالب عليه السلام والفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل.0.

ص: 262


1- السجدة - 20.

وفيه نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنّ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (1) والسبب في ذلك انه كذب على بني المصطلق عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدّعى أنّهم منعوه الصدقة، ولو قصصنا مخازيه المتقدمة ومساوئه لطال الشرح.

وأمّا شربه الخمر بالكوفة وسكره حتى دخل عليه من دخل وأخذ خاتمه من أصبعه وهو لا يعلم فظاهر قد سارت به الركبان وكذلك كلامه في الصلاة والتفاته إلى من يقتدي به فيها وهو سكران وقوله أزيدكم فقالوا لا قد قضينا صلاتنا حتّى قال الحطيئة في ذلك شعرا: شهد الخطيئة يوم يلقى ربه - الأبيات المذكورة آنفاً وقال أيضاً فيه:

تكلّمَ في الصلاةِ وزادَ فيها *** عَلانيةً وجاهرَ بالنِفاقِ

ومجَّ الخمَر في سُنَنِ المُصلّى *** ونادي الجميعُ إلى افتراقِ

أ أزيدُكم على أنْ تحمدوّني *** فما لَكُمْ وما لي من خَلاقِ

فأما قوله: «إنّه جلده وعزله» فبعد أي شيء كان ذلك؟ ولم يعزله إلّا بعد أن دافع ومانع واحتجّ عنه وناضل، فلو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قهره على رأيه لما عزله ولأمكّن من جلده.

وقد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم وتهدّدهم. قال الراوي: ويقال: إنّه ضرب بعض الشهود أسواطاً فأتوا أمير المؤمنين عليه السلام فشكوا فأتى عثمان فقال: عطلت الحدود وضربت قوماً شهوداً على أخيك فقلبت الحكم وقد قال عمر: لا تحمل بني أُمية وآل أبي معيط على رقاب الناس، قال: فماترى؟ قال: أرى أن تعزله ولا تولّيه شيئاً من أُمور المسلمين، وأن 6.

ص: 263


1- الحجرات - 6.

تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنّة ولا عداوة أقمت على صاحبك الحدّ. وتكلم في مثل ذلك طلحة والزبير وعائشة، وقالوا أقوالًا شديدة وأخذته الألسن من كلّ جانب فحينئذٍ عزله ومكّن من إقامة الحدّ عليه.

وروى الواقدي أن الشهود لمّا شهدوا عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحدّه ألبسه جبّة خزّ وأدخله بيتاً فجعل إذا بعث اليه رجلًا من قريش ليضربه قال له الوليد انشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب امير المؤمنين فيكفّ، فلمّا رأى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك اخذ السوط ودخل عليه فجلده به فأيّ عذر له في عزله وجلده بعد هذه الممانعة الطويلة والمدافعة التامة.

وقصّة الوليد مع الساحر الذي يلعب بين يديه ويغرّ النّاس بمكره وخديعته وأن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك ودخل عليه فقتله وقال له: اخى نفسك إن كنت صادقاً وأن الوليد أراد أن يقتل جندباً بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه وطال حبسه حتّى هرب من السجن، معروفة مشهورة.

قال: فإن قيل: قد وليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة صدقة بني المصطلق وولىّ عمر الوليد أيضاً صدقة بني تغلب فكيف يدعون أنّ حاله في أنّه لا يصلح للولاية ظاهرة؟

قلنا: لا جرم أنّه غرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلك وكذّبِ على القوم حتّى نزلت الآية التي قدمنا ذكرها فعزله وليس خَطْب ولاية الصدقة خَطْب ولاية الكوفة. فأمّا عمر لمّا بلغه قوله:

إذا ما شَدَدْتُ الرأسَ مِنّي بمشْوَرٍ *** فويلُكِ منّي تغلبُ إبنةُ وائلِ

عزله، وأمّا عزل أمير المؤمنين عليه السلام بعض أمرائه لمّا ظهر منه الحدث كالقعقاع بن شور وغيره وكذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهدوا عليه بشرب الخمر وجَلْده له، فإنّه لا يشبه ما تقدّم لأن كلّ واحدٍ

ص: 264

ممن ذكرناه لم يولِّ الأمر إلّا من هو حسن الظن عند توليته فيه حسن الظاهر عنده، وعند النّاس غير معروف باللعب (باللّعنة - خ ل) ولا مشهور بالفساد، ثمّ لمّا ظهر منه ما ظهر لم يحامِ عنه ولا كذّب الشهود عليه وكابرهم بل عزله مختاراً غير مضطرّ وكلّ هذا لم يجر في أمراء عثمان، ولأنا قدّ بيّنا كيف كان عزل الوليد وإقامة الحدّ عليه.

فأمّا أبو موسى فإن امير المؤمنين عليه السلام لم يولِّهِ الحكم مختاراً لكنّه غلب على رأيه وقهر على أمره ولا رأي لمقهور.

فأمّا قوله «إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأباعد أجدر وأولى أن يقدم الأقارب عليهم من حيث كان التمكن من عزلهم أشدّ وذكر تولية امير المؤمنين عليه السلام عبد الله وعبيد الله وقثما بني العبّاس وغيرهم» فليس بشيء لأن عثمان لم تُنْقَم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث كانوا أهل بيت الظنّة والتهمة ولهذا حذّره عمر منهم وأشعر بأنّه يحملهم على رقاب النّاس، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يولِّ من أقاربه متهماً ولا ظنيناً وحين أحسّ من ابن عبّاس بعض الريبة لم يمهله ولا احتمله وكاتبه بما هو مشهور سائر ظاهر، ولو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلّا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النصّ عليه وشرط عليه يوم الشورى أن لا يحمل أقاربه على النّاس ولا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صادقاً قويّاً فضلاً عن أن ينضاف إلى ذلك ما أنضاف من خصالهم الذميمة وطرائفهم القبيحة.

فأمّا سعيد بن العاص فإنّه قال في الكوفة: إنّما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شاءت وتترك حتى قالوا له أتجعل ما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك ونابذوه وأفضى ذلك الأمر الى تسييره مَنْ سيَّرَ من الكوفة والقصّة مشهورة ثمّ انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيداً من دخولها وتكلموا فيه وفي عثمان كلاماً ظاهراً حتّى كادوا يخلعون عثمان فأضطرّ حينئذٍ إلى اجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيداً مختاراً بل ما صرفه جملة

ص: 265

وإنّما صرفه أهل الكوفة عنهم.

قال المسعودي: و في سنة خمسٍ وثلاثين كثر الطعن على عثمان وظهر عليه النكير لأشياء ذكروها من فعله منها ما كان بينه وبين عبد الله بن مسعود (1) وانحراف هذيل عن عثمان من أجله.

قال أبو طيبة مرض عبد الله فعاده عثمان بن عفان فقال: ما .

ص: 266


1- وفي اسد الغابة: عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي كان اسلامه قديماً أوّل الاسلام سادس ستة في الاسلام وكان أوّل من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهاجر الهجرتين جميعاً الى الحبشة والى المدينة وصلّى القبلتين وشهد بدراً واُحداً والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأُمّ عبد الله بن مسعود أُمّ عبد بنت عبد ود بن سوداء من هذيل أيضاً.. وفيه بإسناده إلى عبد الرحمن بن يزيد قال: أتينا حذيفة فقلنا حدِّثنا بأقرب النّاس من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هَدْيَاً ودلّاً فنأخذ عنه ونسمع منه قال: كان أقرب النّاس هَدْياً ودلّاً وسمتاً برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ابن مسعود ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمّد أن أبن أُمّ عبد هو من أقربهم إلى الله زُلّفى. وفيه عن عليّ عليه السلام قال: أمّر النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ابن مسعود فصعد على شجرة يأتيه منها بشيء فنظر أصحابه الى ساق عبد الله فضحكوا من حموشة ساقيه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أتضحكون لَرِجلٌ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحد. وفيه عن حبة بن جوين عن عليّ (علیه السلام) قال: كنا عنده جلوساً فقالوا: ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً ولا أرفق تعليماً ولا أحسن مجالسة ولا أشدّ ورعاً من ابن مسعود. قال عليّ (علیه السلام): انشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد أني أقول مثل ما قالوا وأفضل. وفيه في سبب اسلامه بإسناده الى عبد الله بن مسعود قال: كنت غلاماً يافعاً في غنم لعقبة ابن أبي معيط أرعاها فأتى النّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ومعه ابو بكر فقال: يا غلام هل معك من لبن؟ فقلت: نعم، ولكني مؤتمن فقال: ائتني بشاةٍ لم ينزُ عليها الفحل فأتيته بعناق أو جذعة فأعتقلها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فجعل يمسح الضرع ويدعو حتّى انزلت فأتاه أبو بكر بصحوة فاحتلب فيها ثمّ قال لأبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر ثمّ شرب النّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بعده ثمّ قال للضرع: اقلص فقلص فعاد كما كان. ثم أتيت فقلت: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علّمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن فمسح رأسي وقال: إنّك غلام معلم فلقد اخذت منه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر.

تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي: قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كلّ ليلة سورة الواقعة إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبداً. قال: وإنما قال له عثمان ألا آمر لك بعطائك لأنه كان قد حبسه عنه سنتين.

توفي ابن مسعود بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة ودُفن ليلاً أوصى بذلك ولم يعلم عثمان بدفنه فعاتب الزبير على ذلك وصلى عليه عمّار وقيل صلى عليه الزبير.

وفي الشافي لعلم الهدى الشريف المرتضى: وقد روى كلّ من روى سيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم ان ابن مسعود كان يقول: ليتني وعثمان برمل عالج يحثى عليّ واحثى عليه حتى يموت الأعجز مني ومنه.

وفيه: ورووا انه كان يطعن عليه فيقال له ألا أخرجت اليه لنخرج معك؟ فيقول: والله لئن از اول جبلاً راسياً أحبّ إليّ من أن أزاول ملكاً مؤجلاً. وكان يقول في كلّ يوم جمعة بالكوفة جاهراً معلناً: إنّ أصدق القول كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدث بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار وإنما يقول ذلك معرضاً بعثمان حتّى غضب الوليد من استمرار تعرّضه ونهاه عن خطبته هذه فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه.

وفيه: وروي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجاً عن الكوفة خرج النّاس معه يشيّعونه وقالوا: يا أبا عبد الرحمن ارجع فوالله لا يوصل إليك ابداً فإنّا لا نأمنه عليك، فقال: أمر سيكون ولا أحب ان أكون أوّل من فتحه.

ص: 267

أقول: الظاهر أنه يريد من قوله أمر سيكون قيام النّاس على عثمان وقتلهم إيّاه لمّا رأى الأمور المحدثة المنكرة منه وكلام النّاس وسخطهم في عثمان وأفعاله.

وفي الشّافي: وقد روى عنه من طرق لا تحصى كثرة انه كان يقول: ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب. وتعاطي شرح ما روي عنه في هذا الباب يطول وهو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه. وانه بلغ من اصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة ان قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصيّة أوصيه بها على ما فيها؟ فسكت القوم وعرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر: فأنا أقبلها. فقال ابن مسعود: لا يصلّي عليَّ عثمان. فقال: ذلك لك. فيقال: انه لما دفن جاء عثمان منكراً لذلك فقال له قائل: إن عماراً وليّ هذا الأمر. فقال لعمار: ما حملك على أن لم تؤذني؟ فقال له: إنه عهد إلىّ ألّا أوذنك فوقف على قبره واثنى عليه ثمّ أنصرف وهو يقول رفعتم والله بأيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر:

لأعرفنكَ بعدَ الموتِ تندبنُي *** وفي حَياتِي ما زوّدتني زادي

وفيه: لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه فأتاه عثمان عائداً فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي قال: ألا أدعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني. قال فلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه. قال: يكون لولدك، قال: رزقهم على الله، قال: استغفر لي يا أبا عبد الرحمن فقال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.

وفيه: ان كل من قرأ الأخبار علم أن عثمان أمر باخراجه من المسجد على أعنف الوجوه وبأمره جرى ما جرى عليه ولو لم يكن بأمره ورضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسره لضلعه ويعتذر إلى من عاتبه على فعله بأن يقول: انني لم آمر بذلك ولا رضيته من فاعله وقد انكرت على

ص: 268

من فعله وفي علمنا بأن ذلك لم يكن، فهذا دليل على ما قلناه. وقد روى الواقدي بأسناده وغيره ان عثمان لما استقدمه الى المدينة دخلها ليلة جمعة فلمّا علم عثمان بدخوله قال: أيها النّاس أنّه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقي ويسلح. فقال ابن مسعود: لستُ كذلك ولكنني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وصاحبه يوم بيعة الرضوان وصاحبه يوم الخندق وصاحبه يوم حنين، قال: فصاحت عائشة أيا عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عثمان: اسكتي.

ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن اسد بن عبد العزى ابن قصي: اخرجه إخراجاً عنيفاً فأخذه ابن زمعة فأحتمله حتّى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعاً من أضلاعه. فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.

وفي رواية اخرى ان ابن زمعة مولى لعثمان أسود كان مسدماً طوالاً.

وفي رواية اخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان.

وفي رواية انه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله انشدك الله أن تخرجني من مسجد خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لساقا ابن أمّ عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أُحد.

قال المسعودي في مروج الذهب وغيره: ومن ذلك ما نال عمار بن ياسر من الفتن والضرب وانحراف بني مخزوم عن عثمان من أجله.

وفي تلخيص الشافي للشيخ الطوسي: ومن ذلك إقدامه على عمّار حتى روى انّه صار به فتق وكان أحد من ظاهر المتظلمين على قتله وكان يقول: قتلناه کافرا.

قال ابن جمهور الاحسائي في المجلى: ومن قوادح عثمان ضربه لعمار

ص: 269

ابن ياسر حتّى أخذه الفتق على ما رواه الثقات من أهل السيرة ان عمّار بن ياسر قام في المسجد يوماً وعثمان يخطب على المنبر فوبّخه بأحداثه وافعاله فنزل عثمان فركضه برجله حتّى ألقاه على قفاه وداس في بطنه برجله وأمر أعوانه من بني امية فضربوه حتى غشي عليه وهو مع ذلك يشتم عماراً ويسبه وتركه ومضى إلى منزله فاحتمل عمّار إلى منزله وهو لما به فلما أفاق من غشوته دخل عليه النّاس فلامه بعض وقال وما لك والتعرض لعثمان وقد علمت أفعاله وأحداثه؟ فقال: إنما حملني على ذلك كلام سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه قال: أفضل الأعمال كلمة حق تقولها بين يدي إمام جائر فأردت أن أنال هذه الدرجة وأن لي ولعثمان موقفاً عند الله يوم القيامة.

ما أجاب به القاضي:

قال علم الهدى في الشافي: قال صاحب الكتاب «يعني القاضي عبد الجبار صاحب الكتاب المعروف بالمغني من الحجاج في الامامة»: فأما ما طعنوا به من ضربه عمّاراً حتى صار به فتق فقد قال شيخنا أبو على إن ذلك غير ثابت ولو ثبت انه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعناً لأن للامام تأديب من يستحق ذلك وممّا يبعَد صحة ذلك أن عماراً لا يجوز أن يكفره ولما يقع منه ما يستوجب الكفر لأن الذي يكفر به الكافر معلوم ولأنّه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك ولوجب أن يجتمعوا على خلعه ولوجب أن لا يكون قتله لهم مباحاً بل كان يجب أن يقيموا إماماً يقتله على ما قدمنا القول فيه وليس لأحد أن يقول انما كفره من حيث وثب على الخلافة ولم يكن لها أهلاً لأنّا قد بيّنا القول في ذلك، لأنه كان مصوباً لأبي بكر وعمر على ما قدمنا من قبل، وقد بيّنا ان صحة إمامتهما يقتضي صحة إمامة عثمان.

وروي إنّ عمّاراً نازع الحسن عليه السلام في امره فقال عمّار قتل عثمان كافراً وقال الحسن عليه السلام قتل مؤمناً وتعلق بعضهما ببعض فصارا الى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ماذا تريد من ابن اخيك؟ فقال: إنّي قلت كذا وقال الحسن عليه السلام كذا فقال امير المؤمنين عليه السلام أتكفر بربّ كان

ص: 270

يؤمن به عثمان؟ فسكت عمّار.

وحكي عن الخيّاط أن عثمان لمّا نقم عليه ضربه لعمار إحتجّ لنفسه فقال جاءني سعد وعمّار فأرسلا إلىّ ان ائتنا فإنّا نريد أن نذاكرك اشياء فعلتها فأرسلت إليهما أني مشغول فأنصرفا فموعد كما يوم كذا فأنصرف سعد وأبي عمار أن ينصرف فأعذت الرّسول إليه فأبى أن ينصرف فتناوله بعض غلماني بغير أمري ووالله ما امرت به ولا رضيت وها أنا فليقتصّ منّي قال: وهذا من أنصف قول وأعدله.

اعتراض الشريف:

قال علم الهدى في جوابه: إنّه يقال له: قد وجدناك في قصة عثمان وعمّار بين أمرين مختلفين: بين دفع لما روي من ضربه وبين اعتراف بذلك وتأوّل له واعتذار منه بأن التأديب المستحق لا حرج فيه ونحن نتكلّم على الأمرين:

أمّا الدّفع لضرب عمّار فهو كالانكار لوجود أحد يسمى عمّاراً أو لطلوع الشمس ظهوراً وانتشاراً وكلّ من قرأ الأخبار وتصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة وهذا الفعل يعني ضرب عمّار لم يختلف الرواة فيه وإنّما اختلفوا في سببه:

فروى عبّاس عن هشام الكلبي عن أبي مخنف في اسناده قال: كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليّ وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله فأظهر النّاس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلّ كلام شديد حتّى أغضبوه فخطب فقال: لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام فقال عليّ عليه السلام: إذا تمنع ذلك ويحال بينك وبينه! فقال عمّار: اشهد الله ان انفي أول راغم من ذلك؛ فقال عثمان: أعليَّ يا ابن ياسر وسمية تجتريء؟ خذوه فأخذوه فدخل عثمان فدعا به فضر به حتى غشي عليه ثمّ أخرج فحمل إلى منزل أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة الله عليها فلم يصلِّ الظهر والعصر والمغرب فلما أفاق توضّأ وصلّى وقال: الحمد لله ليس هذا

ص: 271

أوّل يوم أوذينا فيه في الله فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان عمار حليفاً لبني مخزوم، يا عثمان أمّا عليّ فأتّقيته وأمّا نحن فأجترأت علينا وضربت أخانا حتى اشفيت به على التلف أمّا والله لئن مات لأقتلن به رجلًا من بني أميّة عظيم السيرة وإنّك لها أنا أبن القسرية، قال: فإنّهما قسريتان وكانت أُمّه وجدّته قسريتين من بجيلة فشتمه عثمان وأمر به فأُخرج فأتى به أمّ سلمة فاذا هي قد غضبت بعمّار وبلغ عائشة ما صنع بعمّار فغضبت واخرجت شعراً من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونعلًا من نعاله وثوباً من ثيابه وقالت: ما أسرع ما تركتم سنة رسولكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يُبلَ بعدُ.

وروى آخرون أن السبب في ذلك ان عثمان مرّ بقبر جديد فسأل عنه فقيل: عبد الله بن مسعود فغضب على عمّار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه والقيام بشأنه فعندها وطىء عثمان عماراً حتى أصابه الفتق.

وروی آخرون ان المقداد وطلحة والزبير وعماراً وعدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتبوا كتاباً عدّدوا فيه أحداث عثمان وخوّفوه ربّه وأعلموه أنّهم مواثبوه ان لم يقلع. فأخذ عمّار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدراً. فقال عثمان: أعليَّ تقدم من بينهم؟ فقال: لأنّي أنصحهم لك. فقال: كذبت يا ابن سميّة. فقال: أنا والله ابن سميّة وأنا ابن ياسر فأمر غلمانه فمدّوا بيديه ورجليه فضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق وكان ضعيفاً كبيراً فغشي عليه.

فضرب عمّار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة وإنّما اختلفوا في سببه، والخبر الذي رواه صاحب الكتاب وحكاه عن الخيّاط ما نعرفه وكتب السير المعروفة خالية منه ومن نظيره وقد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذه منه، فإنّ قوله وقول من اسند إليه ليسا بحجة. ولو كان صحيحاً لكان يجب أن يقول بدل قوله ها أنا فليقتصّ مني وإذا كان ما أمر بذلك ولا رضيه وإنما ضربه الغلام: هذا الغلام الجاني فليقتص منه فإنّه أولى وأعدل وبعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفاً لأنّه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال

ص: 272

أخرى والروايات إذا لم تتعارض لم يَجزُ اسقاط شيء منها.

فأمّا قوله: إن عماراً لا يجوز أن يكفره ولم يقع منه ما يوجب الكفر، فإن تكفير عمّار له معروف قد جاءت به الروايات.

وقد روى من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة ان عماراً كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع: وأنا شرّ الأربعة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وأنا أشهد أنّه قد حكم بغير ما أنزل الله.

وروى عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنّه قيل: بأي شيء أكفرتم عثمان؟ قال: بثلاث: جعل المال دولة بين الاغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة من حارب الله ورسوله، وعمل بغير كتاب الله.

وروى عن حذيفة أنّه كان يقول: ما في عثمان بحمد الله اشك لكنّني أشكّ في قاتله أكافر قتل كافراً أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله وهو أفضل المؤمنين إيماناً.

فأمّا ما رواه من منازعة الحسن عليه السلام عماراً في ذلك وترافعهما فهر أولاً غير رافع لكون عمّار مكفراً له بل هو شاهد عن قوله بذلك، وإن كان الخبر صحيحاً فالوجه فيه أن عمارا علم من لحن كلام امير المؤمنين عليه السلام وعدوله عن أن يقضي بينهما بصريح القول: أنّه متمسك بالتقيّة فأمسك عمّار لما فهم من غرضه.

فأمّا قوله لا يجوز ان يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنّه كان مصوباً لأبي بكر وعمر ولما تقدّم من كلامه في ذلك فلا بد إذاً حملنا تكفير عمّار للرجل على الصحة من هذا الوجه أن يكون عمّار غير مصوِّب للرجلين على ما ادّعى.

فأمّا قوله عن أبي على أنّه لو ثبت انّه ضربه للقول العظيم الذي كان يقول فيه لم يكن طعناً لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك، فقد كان يجب أن يستوحش صاحب الكتاب أو من حكي كلامه من أبي علي وغيره من أن يعتذر

ص: 273

من ضرب عمّار وقذه حتى لحقه من الغشي وترك الصلاة ووطيه بالاقدام إمتهاناً واستخفافاً بشيء من العذر فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: عمّار جلدة ما بين العين والأنف ومتى تنك الجلد تدم الأنف.

وروى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار.

وروى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من عاد عماراً عاداه الله ومن أبغض عماراً أبغضه الله.

وأيّ كلام غليظ سمعه من عمّار يستحق به ذلك المكروه العظيم الّذي يتجاوز المقدار الّذي فرضه الله تعالى في الحدود وإنّما كان عمّار وغيره ينثوا عليه احداثه ومعايبه احياناً على ما يظهر من سيء أفعاله وقد كان يجب عليه أحد الأمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو ان يبين عذره فيها أو براءته منها ما يظهر وينتشر ويشتهر فإنْ أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه وتفسيقه زجره عن ذلك بوعظٍ أو غيره ولا يقدم على ما تفعله الجبابرة والأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى وحكم به.

وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ذكروا أنّه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فكتبوا كتاباً وذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنة صاحبيه - وبعد ما أتى بكثير من أحداثه قال: ثمّ تعاهد القوم ليدفعنّ الكتاب في يد عثمان وكان ممن حضر الكتابّ عمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة فلمّا خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمّار جعلوا يتسلّلون عن عمّار حتى بقي وحده فمضى حتى جاء دار عثمان فأستأذن عليه فأذن له في يوم شاتِ فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أُمية فدفع عليه الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: ومن كان معك؟

ص: 274

قال: كان معي نفر تفرقوا فرقاً منك، قال: من هم؟ قال: لا أُخبرك بهم، قال: فلِمَ اجترأتَ عليَّ من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين إنّ هذا العبد الأسود (يعني عماراً) قد جرّأ عليك النّاس وإنّك إنّ قتلته نكلت به من ورائه، قال عثمان: اضربوه فضربوه و ضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه فجرّوه حتى طرحوه على باب الدار - إلى آخر ما قال.

قال المسعودي في مروج الذهب: ومن ذلك فعل الوليد بن عقبة في مسجد الكوفة وذلك أنّه بلغه عن رجل من اليهود من ساكني قرية من قرى الكوفة مما يلي جسر بابل يقال له: زُرارة يعمل أنواعاً من الشعبذة والسحر يُعرف بمطروي فأُحضر فأراه في المسجد ضرباً من التخاييل وهو أن أظهر له في الليل فيلاً عظيماً على فرس في صحن المسجد ثمّ صار اليهودي ناقة يمشي على جبل ثمّ أراه صورة حمار دخل من فيه ثمّ خرج من دبره ثمّ ضرب عنق رجل ففرق بين جسده ورأسه ثمّ أمّر السيف عليه فقام الرّجل وكان جماعة من أهل الكوفة حضوراً منهم جندب بن كعب الأزدي فجعل يستعيذ بالله من فعل الشيطان ومن عملٍ يُبْعِد من الرحمن وعلم أن ذلك هو ضرب من التخييل والسحر فأخترط سيفه وضرب به اليهودي ضربة أدار رأسه ناحية من بدنه وقال: جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً.

وقد قيل ان ذلك كان نهاراً وأن جندباً خرج إلى السوق ودنا من بعض الصياقلة وأخذ سيفاً ودخل فضرب به عنق اليهودي وقال: إن كنت صادقاً فأحِ نفسك فأنكر عليه الوليد ذلك وأراد أن يقيده فمنعه الأزد فحبسه وأراد قتله غيلة ونظر السجّان الى قيامه ليله الى الصبح فقال له: أنجُ بنفسك فقال له جندب: تقتل بي. قال: ليس ذلك بكثير في مرضاة الله والدفع عن وليٍّ من أولياء الله، فلما اصبح الوليد دعابه وقد استعدّ لقتله فلم يجده فسأل السجّان فأخبره بهر به فضرب عنق السجان وصلبه بالكناس.

قال ابن الأثير الجزري في أُسد الغابة: جندب بن كعب بن عبد الله الأزدي أحد جنادب الأزد وهو قاتل الساحر عند الأكثر وممن قاله الكلبي

ص: 275

والبخاري روى عنه الحسن

قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن مهران الفقيه وغيره قالوا بأسنادهم عن محمد بن عيسى أخبرنا أحمد اخبرنا أحمد بن منيع اخبرنا أبو معاوية عن اسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حدّ الساحر ضربة بالسيف. قد اختلف في رفع هذا الحديث فمنهم من رفعه بهذا الاسناد ومنهم من وقفه على جندب.

وكان سبب قتله الساحر أن الوليد بن عقبة أبي معيط لما كان أميراً على الكوفة حضر عنده ساحر فكان يلعب بين يدي الوليد يربه أنّه يقتل رجلاً ثم يحييه ويدخل في فم ناقة ثمّ يخرج من حيائها فأخذ سيفاً من صيقل واشتمل عليه وجاء إلى الساحر فضربه ضربة فقتله ثم قال له: أحِ نفسك ثم قرأ: (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) (1) فرفع إلى الوليد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: حدّ الساحر ضربة بالسيف فحبسه الوليد فلمّا رأى السجّان صلاته وصومه خلّى سبيله.

وفي الشّافي وتلخيصه: أنّ الوليد أراد أن يقتل جندباً بالساحر حتّى أنكر الأزد ذلك فحبسه وأطال حبسه حتّى هرب من السجن.

وقال في اسد الغابة: فأخذ الوليد السجّان فقتله: وقيل: بل سجنه فأتاه كتاب عثمان باطلاقه وقيل: بل حبس الوليد جندباً فأتى ابن أخيه إلى السجّان فقتله وأخرج جندبا فذلك قوله:

افي مضرب السحّارِ يُحبس جندبٌ *** ويُقتل أصحابُ النبي الأوائلُ

فإن يكُ ظني بأبنِ سلمى ورهطهِ *** هو الحقُ يُطلق جُندبٌ ويُقاتلُ

وانطلق إلى ارض الروم فلم يزل يقاتل بها المشركين حتى مات لعشر سنوات مضين من خلافة معاوية.3.

ص: 276


1- الأنبياء - 3.

و من ذلك قصّة قتل الهرمزان و جملته ان عثمان عطّل الحدّ الواجب في عبيد الله بن عمر فإنه قتل الهرمزان بعد اسلامه فلم يقده به وقد كان امير المؤمنين عليّ عليه السلام يطلبه لذلك. وتلك القصّة على الاجمال أنّ الهرمزان كان من عظماء فارس وكان قد أُسر في بعض الغزوات وجيء به إلى المدينة فأخذه علىّ عليه السلام فأسلم على يديه فأعتقه عليّ عليه السلام فلما ضرب عمر في غلس الصبح واشتبه الأمر في ضاربه سمع ابنه عبيد الله قوم يقولون: قتله العلج فظن أنهم يعنون الهرمزان فبادر عبيد الله إليه فقتله قبل أن يموت عمر فسمع عمر بما فعله ابنه فقال: قد اخطأ عبيد الله إنّ الذي ضربني أبو لؤلؤة وإن عشت لأقيدنّه به فإن عليّاً لا يقبل منه الدية وهو مولاه فلما مات عمر وتولى عثمان طالب عليّ عليه السلام بقود عبيد الله وقال: إنّه قتل مولاي ظلماً وأنا وليّه فقال عثمان: قتل بالأمس عمر واليوم يقتل ابنه حسب آل عمر مصابهم به وامتنع من تسليمه إلى عليّ عليه السلام ومنع عليّاً حقه ولهذا قال عليّ عليه السلام لأن امكنني الدهر منه يوماً لأقتلنّه به فلما ولّي عليّ عليه السلام هرب عبيد الله منه إلى الشام والتجأ إلى معاوية وخرج معه الى حرب صفين فقتله عليّ عليه السلام في حرب صفين قال الأحسائي في المجلى: فانظر إلى عثمان كيف عطل حقّ عليّ عليه السلام وخالف الكتاب والسنة برأيه والله تعالى يقول: ﴿ومن قتل مظلوماً قد جعلنا لوليه سلطاناً) (1).

وقال أبو جعفر الطبري في التاريخ: بعد ما بايع النّاس عثمان جلس في جانب المسجد ودعا عبيد الله بن عمر وكان محبوساً في دار سعد بن أبي وقاص وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وابنة ابي لؤلؤة وكان يقول: والله لأقتلنّ رجالاً ممّن شرك في دم أبي يُعرض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده وجذب شعره حتّى أضجعه الى الأرض وحبسه في داره حتّى اخرجه عثمان إليه فقال عثمان الجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الاسلام ما فتق، فقال عليّ أرى أن تقتله فقال 3.

ص: 277


1- الاعراف - 33.

بعض المهاجرين: قُتِل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إنّ الله قد اعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان إنّما كان هذا الحدث ولا سلطان لك قال عثمان: أنا وليهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.

قال: وكان رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال:

ألا يا عبيدَ اللهِ ما لك مهربٌ *** ولا ملجأٌ من ابن أروى ولا خفرْ

أصبتَ دماً واللهِ في غير حلِّهِ *** حراماً وقتلَ الهرمزان له خطرْ

على غير شيء غير أنْ قال قائلٌ *** أتتهّمون الهرمزان على عُمرْ

فقال سفيهٌ والحوادثُ جمةٌ *** نعم أتّهمه قد أشارَ وقد أمرْ

وكان سلاحُ العبد في جوفِ بيته *** يقلّبها والأمر بالأمر يعتبرْ

فشکی عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره فدعا عثمان زیاد ابن لبيد فنهاه قال: فأنشأ زياد يقول في عثمان:

أبا عمرو عبيد الله رهنٌ *** فلا تُشكِّكْ بقتل الهرمزان

فإنك إن غفرَتَ الجرمَ عنه *** فأسبابُ الخطأ فرسا رهانِ

أتعفو إذ عفوتَ بغيرِ حقٍّ *** فما لكَ بالذي تَحكي يدانِ

فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذبه.

تبرير القاضي لتعطيل عثمان الحد:

نقل علم الهدى في الشافي عن عبد الجبار بقوله: ثمّ ذكر ما نسب اليه من تعطيل الحدّ في الهرمزان وحكي عن أبي علي أنه لم يكن للهرمزان وليّ يطلب بدمه والإمام وليّ من لا وليّ له وللوليّ أن يعفو كما له أن يقتل. وقد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا إلى ذلك.

ص: 278

قال القاضي: وإنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدّين لأنه خاف أن يبلغ العدوّ قتله فيقال: قتلوا إمامهم وقتلوا ولده ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون شماتة.

وحكي عن الخيّاط أن عامة المهاجرين أجمعوا على الإيقاد بالهرمزان وقالوا: هو دم سفك في غير ولايتك فليس له وليّ يطلب به وأمره الى الإمام فأقبل منه الدّية فذلك صلاح المسلمين.

قال: و لم يثبت أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يطلبه ليقتله بالهرمزان لأنّه لا يجوز قتل من عفى عنه وليّ المقتول وإنّما كان يطلبه ليضع من قدره ويصغر من شأنه.

قال: ويجوز ان يكون ما روي عن عليّ عليه السلام انهُ قال: لو كنت بدل عثمان لقتلته، يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد وأقرب إلى التشدّد في دين الله.

واعترض عليه الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي بقوله: فأمّا الكلام في قتل الهرمزان وفي العدول عن قتل قاتله واعتذاره، من ذلك بما اعتذر به من انه لم يكن له وليّ لأنّ الإمام وليّ من لا وليّ له، وله ان يعفو كما له ان يستوفي القود، فليس بشيء لأنّ الهرمزان رجل من أهل فارس ولم يكن له وليّ حاضر يطالب بدمه وقد كان يجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه ويؤمنوا متى حضروا حتى ان كان له وليّ يطالب وحضر وطالب.

ثمّ لو لم يكن له وليّ لم يكن عثمان وليّ دمه لأنه قتل في أيّام عمر فصار عمر وليّ دمه وقد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم يُقمِ البينة العادلة على الهرمزان وجفينة أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة ابن شعبة بقتله وكانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى فقال: أيكم وليّ هذا الأمر فليفعل كذا وكذا ممّا ذكرناه، فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء الوصيّة في عبيد الله بن عمر فدافع عنها وعللها فلو كان هو وليّ الدّم على ما ذكره لم يكن له أن يعفو وأن يبطل حدًّا من حدود الله تعالى وأيّ شماتة للعدوّ

ص: 279

في إقامة حدود الله تعالى؟ وإنّما الشماتة كلّها من اعداء الاسلام في تعطيل الحدود؛ وأيّ حرج في الجمع بين قتل الأب والإبن حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأنّ الإمام وابنه قتلا وإنما قتل أحدهما ظلماً بغير امر الله والآخر بأمر الله تعالى.

وقد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن اسحاق اسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين عليه السلام أتى عثمان بعد ما استخلف فكلّمه في عبيد الله ولم يكلّمه أحد غيره فقال: اقتل هذا الفاسق الخبيث الّذي قتل امرءاً مسلماً، فقال عثمان: قتلوا أباه بالأمس وأقتله اليوم وإنّما هو رجل من أهل الأرض فلما أبي عليه مرّ عبيد الله على عليّ عليه السلام فقال ل يا فاسق إيه أما والله لئن ظفرتُ بك يوماً من الدّهر لأضربّن عنقك فلذلك خرج مع معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام.

وروى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أنّ المسلمين قالوا لما قال عثمان إنّي قد عفوت عن عبيد الله بن عمر: ليس لك أن تعفوا عنه. قال: بلى إنّه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الاسلام وأنا أولى بهما لأني وليّ أمر المسلمين وقد عفوت. فقال عليّ عليه السلام انه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة اقصى المسلمين وإنما قتلهما في إمرة غيرك وقد حكم الوالي الذي قبلك الذي قتلا في امارته بقتله ولو كان قتلهما في امارتك لم يكن لك العفو عنه فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا. فلمّا رأى عثمان إنّ المسلمين قد أبوا إلّا قتل عبيد الله أمره فارتحل الى الكوفة وابتنى واقطعه بها داراً وارضاً وهي التي يقال لها كويفة ابن عمر فعظم ذلك عند المسلمين واكبروه وكثر كلامهم فيه.

وروى عن عبد عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام أنّه قال: ما أمسى عثمان يوم ولي حتّى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر حيث لم يقتله بالهرمزان.

ص: 280

فأمّا قوله: إنّ امير المؤمنين عليه السلام لم يطلبه ليقتله بل ليضع من قدره فهو بخلاف ما صرّح به عليه السلام من أنّه لم يكن إلّا لضرب عنقه.

وبعدُ فإنّ وليّ الدم إذا عفى عنه على ما ادّعوا لم يكن لأحد أن يستخفّ به ويضع من قدره كما ليس له أن يقتله.

وقوله: أنّ امير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يتوعّده مع عفو الإمام عنه فإنما يكون صحيحاً لو كان ذلك العفو مؤثراً وقد بيّنا انه غير مؤثر.

وقوله: يجوز ان يكون عليه السلام ممّن يرى قتله أقوى في الاجتهاد وأقرب إلى التشدّد في دين الله فلا شك أنه كذلك وهذا بناء منه عل أنّ كل مجتهد مصيب وقد بيّنا أن الأمر بخلاف ذلك، وإذا كان اجتهاد أمير المؤمنين عليه السلام يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه.

قال في المجلي: ومن قوادحه عملُه بالتكبّر وإظهاره لاعماله الجبابرة وتزيينه بزيّ الجاهليّة والملوك خلافاً لما كان عليه النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من التواضع والزهد وطريقة الصلحاء فأستعمل الحُجّاب والغلمان ولبس الحرير وتزَّين بالمذهب وضرب البوقات على بابه وكلّ هذه اعمال مخالفة للشريعة الأحمديّة وما كان عليه الصحابة والخلفاء المتقدمين عليه ولهذا نقموا عليه وظهر بين المهاجرين والأنصار فسقه وطلبوا منه الاعتزال عن إمرتهم فأبى فقتلوه لعلمهم بأستحقاقه لذلك وأن الخلافة لا يجوز لمن هو معلن بالفسق.

وفيه: ومن قوادحه عيبهم إياه بأنّه لم يحضر غزاة بدر التّي كانت أوّل حرب امتحن به المؤمنون فجلس في بيته وتعلّل بمرض زوجته وكذلك بيعة الرضوان لم يحضرها وتخلف عنها متعلّلاً بموت زوجته مع انّ الله تعالى يقول في أهلها: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك

ص: 281

تحت الشجرة) فكان محروماً من ذلك الرضا ويوم أُحد انهزم وفرّ من الزحف أقبح فرار حتى أنّه بقي في هزيمته مدّة ثلاثة أيام لا يلتفت إلى وراءه حتّى وصل الى قرية قريب مكة يقال لها: السوارقية ولما رجع الى المدينة بعد ان علم بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد ذهبت فيها عريضة يا عثمان ولم يرد جواباً خجلاً مما فعله.

وفيه: ومن قوادحه أن الصّحابة بأجمعهم اجمعوا على حربه لأجل احداثه التي نقموها عليه وكانوا يومئذٍ بين خاذل وقاتل حتّى قتلوه في بيته بين ولده ونسائه في المدينة ودار الهجرة ومنعوه من الماء ثلاثة أيام وهو بين ظهراني المسلمين مع أنّه خليفتهم وإمامهم لم يحمِ عنه منهم محامٍ ولا له منهم قائم وذلك دليل على اجماعهم على قتله واستحلالهم لدمه كما اجمعوا على خلافته حتّى قال بعض العلماء: إن المجمعين على قتل عثمان كانوا أكثر من المجمعين على بيعته وما ذاك إلّا لعظم أحداثه حتّى بقي ثلاثة أيّام مرمياً على الكُناسة بعد قتله لم يجسر أحد أن يدفنه حتی قام ثلاثة نفر من بني اميّة فأخذوه بالليل بعد انتصافه سرقة ودفنوه لكيلا يعلم بهم أحد وذلك دليل على عظم احداثه وكبر معاصيه في الإسلام وأهله فلولا أنّه كان مستحقاً لما فعلوه به

ومنها - كما في الامامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري - : تركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم.

وفيه ايضاً: إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام ثمّ لا يغزون ولا يذبون.

وفيه ايضاً: وما كان من مجاوزته الخيزران الى السوط وإنّه أوّل من ضرب بالسياط ظهور النّاس وإنما كان ضرب الخليفتين قبله

ص: 282

بالدرّة والخيزران. وفي الشافي وتلخيصه: أنّه جلد بالسوط ومن كان قبله يضرب بالدرّة.

قال في المجلي: ومن قوادحه احراقه المصاحف التّي هي كلام الله العزيز الواجب على أهل الاسلام تعظيمه والقيام بحرمته وأنهم اجمعوا على أنّ استخفَّ بحرمته كان مرتداً خارجاً من الاسلام ولا شيء في الاستخفاف أبلغ من الحرق بالنّار، فقد نقل أهل السيرة أنّه لمّا أراد اجتماع النّاس على مصحفه طلب المصاحف التي كانت في أيدي النّاس حتّى جمعها كلّها ثمّ أنّه أحرقها. وفي رواية أخرى أنّه وضعها في قدر وطبخها بالنّار حتى تمزّقت وتفرّقت ولم يبقَ منها غير مصحف عبد الله ابن مسعود فإنه طلبه منه فمنعه ولم يسلمه إليه فضربه على ذلك حتى كسر بعض أضلاعه ومنعه عطاؤه وبقي عبد الله مريضاً حتى مات ودخل عليه عثمان في مرضه وطلب منه أن يحلّه فلم يرض أن يحلّه، وكيف صحّ له التهجم على الكتاب العزيز بهذه الأفعال الشنيعة وكيف صحّ له أن يضرب رجلاً من أكابر الصحابة وفضلائهم وعلمائهم على منعه ملكه لا يسلمه اليه حتى مات بسبب ذلك الضرب، ومن المعلوم للكل أن كلّ ذلك الفعل مخالف للشريعة محرّم بالكتاب والسنة.

قال في الشافي: ثُمّ من عظيم ما أقدم عليه جمعه النّاس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وإبطاله ما شك أنّه منزل من القرآن وأنّه مأخوذ عن الرسول ولو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولفعله أبو بكر وعمر.

إعتذار واعتراض:

قال الشريف علم الهدى في الشافي نقلاً عن القاضي أنّه حكي عن أبي عليّ في قصّة ابن مسعود وضربه أنّه قال: لم يثبت عندنا ضربه إياه ولا صحّ عندنا طعن عبد الله عليه ولا إكفاره له والذي يصحّ في ذلك انه كره منه جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وثقل

ص: 283

ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه وذكر ان الوجه في جمع الناس على قراءة واحدة تحصين القرآن وضبطه وقطع المنازعة فيه والاختلاف. قال القاضي: وليس لأحد أن يقول لو كان واجباً لفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن الامام إذا فعله صار كأنه فعله ولأن الأحوال في ذلك تختلف. وقد روى عن عمر انه كان قد عزم على ذلك فمات دونه، وليس لأحد أن يقول إنّ احراقه المصاحف إنّما كان استخفافاً بالدين وذلك لأنه إذا جاز من الرّسول صلوات الله عليه أن يخرب المسجد الذي بني ضراراً وكفراً فغير ممتنع إحراق المصاحف.

ثم قال - بعد ما اثبت ضرب عثمان ابن مسعود وطعنه عثمان - فأمّا قوله: إن ابن مسعود سخط جمعه الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف واعتذاره من جمع النّاس على قراءة واحدة بأن فيه تحصين القرآن وقطع المنازعة والاختلاف فيه، ليس بصحيح ولا شك في أن ابن مسعود كره إحراق المصاحف كما كرهه جماعة من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا فيه وذكر الرواة كلام كلّ واحد منهم في ذلك مفصّلاً وما كره عبد الله من تحريم قراءته وقصر النّاس على قراءة غيره إلّا مكروهاً وهو الذي يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما انزل فليقرأ على قراءة ابن أُم عبد.

وروي عن ابن عبّاس انّه قال: قراءة ابن أُم عبد هي القراءة الأخيرة إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض عليه القرآن في كلّ سنة في شهر رمضان فلمّا كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه. وآله وسلم عرض عليه دفعتين وشهد عبد الله ما نسخ منه وما صحّ فهي القراءة الأخيرة.

وروى شريك عن الأعمش قال: قال ابن مسعود: لقد اخذت من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة وأن زيد بن ثابت لَغُلامٌ يهودي في الكتاب له ذؤابة.

ص: 284

أقول: قال في اسد الغابة: قال أبو وائل: لما شق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: لقد علم اصحاب محمّد أني اعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ولو إنّي اعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الأبل لأتيته، فقال أبو وائل: فقمت إلى الخلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه. انتهى.

قال الشريف علم الهدى: فأمّا اختلاف النّاس في القراءة والأحرف فليس بمَوجب لما صنعه عثمان لأنّهم يروون ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شافٍ كافٍ فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأصل إلّا القراءة الواحدة لأنّه أعلم بوجوه المصالح من جميع امته من حيث كان مؤيداً بالوحي موقِفَاً في كلّ ما يأتي ويذر وليس له أن يقول: حدث من الاختلاف في أيّامه ما لم يكن في أيّام الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا من جملة ما أباحه وذلك أن الأمر لو كان على هذا لوجب أن ينهي عن القراءة الحادثة والأمر المبتدع ولا يحمله ما حدث من القراءة على تحريم المتقدم المباح بلا شبهة.

وقول صاحب الكتاب: إن الامام إذا فعل ذلك فكأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فعله. فتعلّل بالباطل منه وكيف يكون ما ادّعى وهذا الاختلاف بعينه قد كان موجوداً في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما نهى عنه فلو كان سبباً لانتشار الزيادة في القرآن وفي قطعه تحصين له لكان عليه السلام بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره، اللهم إلّا أن يقال: أنّه حدث اختلاف لم يكن فقد قلنا أن الأمر لو كان على هذا - الخ ...

وأما قوله: إن عمر كان قد عزم على ذلك فمات دونه، فما

ص: 285

سمعناه إلا منه (1) فلو فعل ذلك أيّ فاعل كان لكان منكراً

فأما اعتذاره من ان إحراق المصاحف لا يكون استخفافاً بالدين بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار والكفر، فبين الأمرين بون بعيد لأن البنيان إنّما يكون مسجداً وبيتاً لله تعالى بنيّة الباني وقصده ولولا ذلك لم يكن بعض البنيانُ بأن يكون مسجداً أولى من بعض ولما كان قصده في الموضع الذي ذكره غير القربة والعبادة بل خلافها وضدّها من الفساد والمكيدة لم يكن في الحقيقة مسجداً وان سُميَ بذلك مجازاً وعلى ظاهر الأمر، فهدمه لا حرج فيه وليس كذلك ما بين الدّفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة والاستخفاف فأيّ نسبة بين الأمرين.

ثمّ قال علم الهدى: قال صاحب الكتاب «يعني القاضي عبد الجبار صاحب المغني» فأمّا جمعه النّاس على قراءة واحدة فقد بيّنا أن ذلك من عظيم ما حّصن به القرآن لأنه مع هذا الصنيع قد وقع فيه من الاختلاف ما وقع فكيف لو لم يفعل ذلك ولو لم يكن فيه إلا إطباق الجميع على ما أتاه من أيّام الصحابة إلى وقتنا هذا لكان كافياً.

واعترض عليه علم الهدى حيث قال: أمّا ما اعتذر به من جمع الناس على قراءة واحدة فقد مضى الكلام عليه مستقصى وبيّنا أن ذلك ليس تحصيناً للقرآن، ولو كان تحصيناً لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيح القراءات المختلفة. وقوله: لو لم يكن فيه إلّا إطباق .

ص: 286


1- رواه السيوطي في الاتقان وابن النديم في الفهرست قال: قال محمد بن اسحاق: حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف الناقط - إلا ان قال مسندا: ان زيد بن ثابت قال: ارسلت الى ابي بكر فأتيته فاذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر ان عمر أتاني فقال لي أن القتل قدا استحر بالقراء يوم اليمامة واني أخشى ان يستحر القتل في القراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن فأرى أن يجمع القرآن بحال - إلى آخر ما قال فراجع (ص 36 طبع مصر) ولكن الحق كما قال علم الهدى: أي فاعل فعل ذلك كان منكراً (منه).

الجميع على ما أتاه من أيام الصحابة إلى وقتنا هذا، ليس بشيء لانا نجد الاختلاف في القرءات الرجوع فيها إلى الحروف مستمراً في جميع الأوقات التي ذكرها إلى وقتنا هذا وليس نجد المسلمين يوجبون على أحد التمسك بحرف واحد؛ فكيف يدّعي إجماع الجميع على ما أتاه عثمان؟

فإن قال: لم أعنِ بجمعه النّاس على قراءة واحدة إلّا أنّه جمعهم على مصحف زيد (1) لأن ما عداه من المصاحف كان يتضمن من الزيادة والنقصان مما عداه ما هو منكر.ة.

ص: 287


1- أقول: زيد بن ثابت هو أحد كتّاب الوحي كان يكتب لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الوحي وغيره. قال في أسد الغابة وكانت ترد على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كتب بالسريانيّة فأمر زيداً فتعلمها. قال: وكان زيد عثمانياً ولم يشهد مع عليّ شيئاً من حروبه وكان يُظهر فضل عليّ وتعظيمه. وهو الذي كتب القرآن في عهد ابي بكر وعثمان كما في الفهرست لابن النديم ايضاً. وهو الذي ذكر المسعودي في مروج الذهب عن سعيد بن المسيّب أن زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار اقتناها من عثمانه لأنه كان عثمانياً. وفي الشافي لعلم الهدى أنّه روى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار وهو يدعوهم الى نصر عثمان فوقف عليه جبلة ابن عمرو بن حيّة المازني فقال له جبلة: ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه اعطاك عشرة ألف دينار وأعطاك حدائق من نخل ما لم ترث من أبيك مثل حديقة منها. أنظر أيها القارىء الكريم في أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) زيداً بتعلّم السريانيّة نظر دقّة أنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) كان في نشر العلوم وتوسعة المعارف على ذلك الحدّ من الاهتمام ولم يكن دأبه العصبيّة والجمود على لسان واحد ولغة واحدة ولا ريب أن لسان كلّ قوم سلّم للوصول إلى معارفهم ونيل علومهم ودرك فنونهم ولم يمنع الناس نبيّ عن الإرتقاء ولم يحرم عليهم ما فيه سعادتهم بل الأنبياء بعثوا لترويج العلوم وتهذيب النفوس وتشحيد العقول قال عزّ من قائل: (هو الذي بعث في الأمييّن رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة) (الجمعة - 2) إلّا أنّ الأوباش وعبيد الدنيا المأسورين في قيود الوساوس الشيطانية والمحرومين من اللّذات الروحانية والمحجوبين عن جناب الرّب جلّ جلاله والمغفلين عن معنى التمدّن والتكامل لمّا تعوّدوا بما لا يزدادهم من الحق إلا بعداً وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون اشمأزوا عمّا جاء من الشارع الحكيم فيما لم يوافق غرضاً من أغراضهم الدنية.

قيل له: هذا بخلاف ما تضمّنه ظاهر كلامك أوّلاً ولا تخلو تلك المصاحف التي تعدّ مصاحف زيد من أن تتضمن من الخلاف في الألفاظ والكلم ما أقرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه وأباح قراءته فإن كان كذلك فالكلام في الزيادة والنقصان يجري مجرى الكلام في الحروف المختلفة وأن الخلاف إذا كان مباحاً ومرويا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنقولاً فليس لأحد أن يحظره. وان كانت هذه الزيادة والنقصان بخلاف ما أنزله الله تعالى وما لم يَبح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلاوته فهو أسوة ثناء على القوم الذين يقرون بهذه المصاحف كأبن مسعود وغيره، وقد علمنا أنّه لم يكن منهم إلّا من كان علماً في القراءة والثقة والأمانة والنزاهة عن أن يقرأ بخلاف ما أنزله الله وقد كان يجب ان يتقدم هذا الانكار منه من غيره لأنّ انكار الزيادة في القرآن والنقصان لا يجوز تأخيره عن ولي الأمر قبله.

ومن ذلك أنّه اعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة وغيرها وذلك ممّا لا يحلّ في الدين.

وأعتذر القاضي في المغني بقوله: فأمّا ما ذكروه من إعطائه من بيت مال الصدقة المقاتلة فلو صحّ فإنّما فعل ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء أهل الصدقات على طريق الاقتراض وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يفعل مثل ذلك سراً وللامام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة، ربما يجوز له أن يقترض من النّاس فبأن يجوز أن يتناول من مالٍ في يده ليردّه من المال الآخر أولى.

واعترض عليه علم الهدى في الشّافي بقوله: فأمّا اعتذاره من اعطائه المقاتلة من بيت مال الصدقة بأنّ ذلك إنّما جاز لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء أهل الصدقة عنه وأنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم فعل مثله فليس بشيء لأنّ المال الذي جعل الله له جهة

ص: 288

مخصوصة لا يجوز أن يعدل عن جهته بالاجتهاد ولو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم، لأنّه تعالى أعلم بالمصالح واختلافها منّا ولكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقاً.

فأمّا قوله: إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فعله فهو دعوى مجرّدة من غير برهان وقد كان يجب أن يروى ما ذكر في ذلك.

فأمّا ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما وقف عليه؟

ومن ذلك ما فعل بأبي ذر (1) رحمه الله تعالى. وأعلم أنّ جلالة شأن أبي ذر وفخامة أمره وعلو درجته ومكانته في الاسلام فوق أن يحوم حوله العبارة أو أن يحتاج الى بيان وكلام فقد روى الفريقان في سمو رتبته وحسن اسلامه ما لا يسع هذه العجالة.

أبو ذر وعثمان:

في الشافي للشريف المرتضى علم الهدى: قد روى جميع أهل السيرة على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن

ص: 289


1- هو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ابو ذر الغفاري، أسلم بمكة أول الاسلام وكان رابع أربعة، وهو أول من حيّ رسول الله بتحية الاسلام. ولما أسلم رجع الى بلاد قومه، فأقام بها حتى هاجر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فأتاه بالمدينة، بعدما ذهبت بدر وأُحد والخندق وصحبه الى ان مات، وكان يعبد الله قبل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بثلاث سنوات. وبايع النبي على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، على ان يقول الحق وإن كان مراً. وروى عنه وروى عنه عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابن عباس وغيرهم من الصحابة وقال الرسول عنه: «ابوذر يمشي على الأرض في زهد عيسى». وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر ... وفي عبارة أخرى «على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» وسئل الامام الصادق (علیه السلام) عن هذا الخبر فصدّقه. وكان أبو ذر آدم طويلاً ابيض الرأس واللحية.

الحكم ما أعطاه واعطى الحرث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف در هم وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم؛ جعل أبو ذر يقول: بشرّ الكافرين بعذاب أليم ويتلو قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (1) فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلاً مولاه أن إنته عمّا يبلغني عنك فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب من ترك أمر الله فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير من أن أُرضي عثمان بسخط الله؛ فأغضب عثمان ذلك وحفظه وتصابر.

وفيه: وفي مروج الذهب: أنّ أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان: أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب الأحبار: لا يا أمير المؤمنين فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي ثمّ تلا: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (2) الآية. فقال عثمان: ايجوز للإمام أن يأخذ مالًا من بيت مال المسلمين فينفقه فيما ينوبه من اموره فاذا أيسر قضاه؟ فقال كعب الاحبار: لا بأس بذلك فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي وتولعك بأصحابي غيّب وجهك عني فقد آذيتني؛ الحق بالشام، فأخرجه اليها. وكان معاوية يومئذٍ عامل عثمان بالشام وكان أبو ذر ينكر على معاوية اشياء يفعلها فبعث اليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها وردّها عليه.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها وإن كان من مالك فهي الأسراف.7.

ص: 290


1- التوبة - 34.
2- البقرة - 177.

وكان أبو ذر رحمه الله يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه والله إنّي لأرى حقاً يطفأ وباطلاً يُحيَ وصادقاً مكذباً وإثرةً بغير تقىَّ وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب ابن مسلمة القهري لمعاوية: ان أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم فيه حاجة فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك فإن كان لك في القوم حاجة فأحمله اليك.

فكتب اليه عثمان: أما بعد فاحمل جندباً إلىّ على أغلظ مركب وأوعره.

فوجة به مع مَنْ سار به الليل والنهار وحمل على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد. وقال المسعودي: فحمّله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف فقيل له: إنّك تموت من ذلك، فقال: هيهات لن أموت حتّى أُنفى وذكر جوامع ما نزل به بعدُ ومَنْ يتولى دفنه.

وذكر في الشافي: فلمّا قدم أبو ذر المدينة بعث اليه عثمان بأن الحق بأيّ أرضٍ شئت فقال: بمكّة قال: لا؛ قال: فببيت المقدس؛ قال: لا، قال: فبأحد المصرين. قال: لا ولكني مسيرك الى الرّبذة فسيّره إليها: فلم يزل بها حتى مات رحمه الله تعالى.

وفي رواية الواقدي أنّ أبا ذر لما دخل على عثمان فقال له: لا أنعم الله عيناً يا جنيدب فقال أبو ذر: أنا جندب وسمّاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم إنّا نقول إنّ يد الله مغلولة إنّ الله فقير ونحن أغنياء؟ فقال أبو ذر: ولو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال الله على عباده ولكني اشهد لسمعت رسول الله صلى الله

ص: 291

عليه وآله وسلم يقول: إذا بلغ بنو ابي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ودين الله دخلاً ثم يريح الله العباد منهم. فقال عثمان لمن حضره: أسمعتموها من نبي الله؟ فقالوا: ما سمعناه؛ فقال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال أبو ذر لمن حضره: أما تظنون أني صدقت؟ فقال عثمان: ادعوا لي عليّاً عليه السلام؛ فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدّثه فقال عثمان لعلىّ عليه السلام: هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عليّ عليه السلام لا، وقد صدق أبو ذر، فقال عثمان: كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر. فقال من حضر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً: صدق أبو ذر. فقال أبو ذر: أحدثكم اني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ تتهموني ما كنت أظن أني أعيش حتى اسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى الواقدي في خبر آخر بأسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت. قال أبو ذر: إنّي نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشني. فقال عثمان: كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبّها قد قلبت الشام علينا. فقال أبو ذر: أتبع سنة صاحبيك لا يكون لاحد عليك كلام فقال له عثمان: مالك ولذلك لا أُم لك؟ فقال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فغضب عثمان فقال: أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذاب: إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنّه قد فرّق جماعة المسلمين أو أنفيه من الأرض، فتكلم عليّ عليه السلام وكان حاضراً فقال: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ

ص: 292

اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (1) فأجابه عثمان بجواب غليظ لم أحبَ أن أذكره واجابه علي عليه السلام بمثله.

ثم أمر أن يؤّتى به فلما أُتي به وقف بين يديه قال: ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأيت أبا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم (هل هديك كهديهم؟ خ ل) إنّك تبطش بي بطش جبّار فقال: اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر: فما أبغض إليّ جوارك قال: فالى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال: أفأخرج إلى الشام أرض الجهاد؟ فقال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها؛ أفأردك إليها؟ قال: أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: تقدم على قوم أهل شبهة وطعن على الأئمة. قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال؟ لا. قال: أين أخرج؟ قال: حيث شئت. فقال أبو ذر: هو أيضاً التعرب بعد الهجرة أخرج إلى نجد؟ فقال عثمان: الشرف الشرف الأبعد أقصى فأقصى. فقال أبو ذر: قد أبيت ذلك عليّ. قال: امضِ على وجهك هذا ولا تعدون الربذة فخرج إليها.

قال المسعودي - بعد ذكر جلوسه لدى عثمان وذكر الخبر في ولد أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين؛ الخبر - قال: وكان في ذلك اليوم قد اتى. عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال فنضت البدر حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم فقال عثمان: إني لأرجو لعبد الرّحمن خيراً لأنّه كان يتصدق ويقري الضيف وترك ما ترون؛ فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين؛ فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم وقال: يا ابن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال إنّ الله اعطاه خير الدنيا وخير الآخرة وتقطع على الله بذلك؟ وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما يسرّني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً، فقال له عثمان: 8.

ص: 293


1- غافر - 28.

وارِعنّي وجهك؛ فقال: أسير إلى مكة؟ قال: لا والله. قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟ قال: إي والله قال: فإلى الشام، قال: لا والله، قال: البصرة قال: لا والله؛ فأخترْ غير هذه البلدان، قال: لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال: فإني مسيّرك إلى الرّبذة. قال: الله اكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرني بكل ما أنا لاقٍ. قال عثمان: وما قال لك؟ قال: اخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة ويتولّى مواراتي نفر ممّن يردون من العراق نحو الحجاز.

وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه إمرأته وقيل ابنته وأمر عثمان أن يتجافاه النّاس حتى يسير إلى الرّبذة.

وداع الامام علي (علیه السلام) لأبي ذر:

قال الشارح المعتزلي: وقريباً وقريباً منه المسعودي في مروج الذهب: واقعة ابي ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان.

وقد روى أبو بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرّزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: لمّا اخرج أبو ذر إلى الرّبذة أمر عثمان فنودي في النّاس أن لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به وتحاماه النّاس إلّا علي بن أبي طالب عليه السلام وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً وعمّاراً فإنهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسن عليه السلام يكلّم أبا ذر فقال له مروان: إيّها يا حسن! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرّجل فإن كنت لا تعلم فأعلم ذلك فحمل عليّ عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال: تنّح نحاك الله إلى النّار فرجع مروان غاضباً الى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على عليّ عليه

ص: 294

السلام ووقف أبو ذر فودّعه القوم ومعه ذكوان مولى أمّ هاني بنت أبي طالب.

قال ذكوان: فحفظت كلام القوم وكان حافظاً فقال عليّ عليه السلام:

يا أبا ذر: إنّك غضبت لله إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى الفلا والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقاً ثمّ أتقى الله لجعل له منها مخرجاً: يا أبا ذر! لا يؤنسنّك إلا الحقّ ولا يوحشنّك إلّا الباطل.

ثمّ قال عليه السلام للحسنين: ودِّعا عمّكما وقال لعقيل: ودّع أخاك فتكلّم عقيل فقال: ما عسى أن نقول يا أبا ذر أنت تعلم إنّا نحبّك وأنت تحبّنا فأتقِ الله فإنّ التقوى نجاة واصبر فإن الصّبر كرم وأعلم أن استثقالك الصبر من الجزع واستبطاءك العافية من اليأس فدع اليأس والجزع.

ثمّ تكلّم الحسن عليه السلام فقال: يا عمّاه لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف وقد أتى القوم إليك ما ترى فضع عَنَك الدنيا بتذكر فراقها وشدة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها واصبر حتى تلقى نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنك راضٍ.

ثم تكلّم الحسين عليه السلام فقال: يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى والله كلّ يوم هو في شأن وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك فما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم فأسأل الله الصبر والنصر واستعذبه من الجشع والجزع فإن الصبر من الدّين والكرم وإن الجشع لا يقدم رزقاً والجزع لا يؤخر أجلاً.

ثمّ تكلّم عمّار رحمه الله غاضباً فقال: لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك أما والله لو أردت دنياهم لآمنوك ولو رضيت أعمالهم

ص: 295

لأحبّوك وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلّا بالرضا والجزع من الموت ومالوا إلى ما مال سلطان جماعتهم عليه والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين. فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخاً كبيراً وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله، والله ما أُريد إلّا الله صاحباً وما اخشى مع الله وحشة.

فشكى مروان إلى عثمان ما فعل به عليّ بن أبي طالب فقال عثمان: يا معشر المسلمين من يعذرني من علّي ردّ رسولي عما وجهته له وفعل كذا والله لنعطينه حقّه.

فلمّا رجع عليّ عليه السلام استقبله النّاس فقالوا: إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر. فقال عليّ: غضب الخيل على اللجم؛ فلما كان بالعشيّ جاء إلى عثمان فقال له: ما حملك على ما صنعت بمروان واجترأت عليَّ ورددت رسولي وامري؟ قال: أما مروان فإنه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي وأما أمرك فلم أصغره.

قال: أوما بلغك نهي عن كلام أبي ذر؟ قال: أو ما كلمّا أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان: أقِدْ مروان من نفسك؛ قال: وما أقيده؟ قال: ضربت بين اذني راحلته؛ قال علي: أما راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، وأمّا شتمه إياي فوالله لا يشتمني شتمة إلّا شتمتك مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلّا حقاً، فغضب عثمان، وقال: ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته؟ فوالله ما أنت عندي بأفضل منه. فغضب عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال: ألي تقول هذا القول وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك وأبي أفضل من أبيك وأمي أفضل من امّك وهذه نبلي قد نسلتها

ص: 296

وهلَّمَّ فأقبل بنبلك فغضب عثمان واحمّرّ وجهه فقام ودخل داره وانصرف عليّ عليه السلام فأجتمع إليه أهل بيته ورجال من المهاجرين والأنصار.

فلمّا كان من الغد أرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أمية يشكو اليهم عليا عليه السلام وقال: انه يعيبني ويظاهر من يعيبني - يريد بذلك أبا ذر وعمار بن ياسر وغيرهما - فقال القوم: انت الوالي عليه واصلاحه أجمل؛ قال: وددت ذاك. فأتوا عليّاً عليه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته؛ فقال: كلاً أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ولكن إن أحبّ عثمان آتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم فتكلّم عليّ عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا ما وجدتَ عليَّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه فوالله ما أردت اساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقّه؛ وأما مروان فإنّه اعترض يريد ردّي عن قضاء حقّ الله عزّ وجلّ فرددته ردّ مثلي مثله؛ وأما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده.

فتكلّم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا ما كان منك إلىَّ فقد وهبته لك، وأما ما كان منك إلى مروان فقد عفى الله عنك، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق فأدنُ يدك فأخذ يده فضمّها إلى صدره. فلمّا نهض قالت قريش وبنو أُمية لمروان: أأنت رجل جبهك علىّ وضرب راحلتك وقد تفانت وائل في ضرع ناقة وذبيان وعبس في لطمة فرس والأوس والخزرج في نسعة؟ أفتحمل لعليّ ما أتاه إليك؟ فقال مروان: والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.

ثم قال الشارح المعتزلي: وأعلم أن الذي عليه اكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار والنقل أن عثمان نفى أبا ذر أولاً إلى الشام ثمّ استقدمه إلى المدينة لما شكى منه معاوية ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام وأصل هذه الواقعة أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختص زيد بن ثابت بشيء منها جعل أبو ذر يقول بين

ص: 297

النّاس والطرقات والشوارع بشّر الكافرين بعذاب أليم ويرفع بذلك صوته، فأتى بما نقلنا من الشافي بحذافيرها.

وروى الواقدي - كما في الشافي - عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدّؤ لي قال: كنت أُحبّ لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت به الرّبذة فقلت له: ألا تخبرني خرجت من المدينة طائعاً أو أُخرجت؟

قال: أما إنّي كنت في ثغر من الثغور أغنى عنهم فأُخرجت إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقلت دار هجرتي وأصحابي فأخرجت منها إلى ما ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضربني برجليه فقال: لا أراك نائماً؛ فقلت: بأبي أنت وامّي غلبتني عيني فنمت فيه؛ فقال: كيف تصنع إذا اخرجوك منه؟ فقلت: إذا ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة وأرض بقيّة الإسلام وأرض الجهاد؛ فقال: كيف بك إذا أخرجوك منها؟ قال: فقلت: أرجع إلى المسجد؛ قال: كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضرب به؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أدلّك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي. وكان يقول بالرّبذة: ما ترك الحقّ لي صديقاً وكان يقول فيها: ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابياً (1) .

ص: 298


1- أقول: في الصحّاح للجوهري: تعرّب بعد هجرته أي صار اعرابيّاً. وفي النهاية الأثيرية: التعرّب بعد الهجرة هو أن يعود الى البادية ويقيم مع الاعراب بعد أن كان مهاجراً وكان من رجع بعد الهجرة الى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتدّ. وفي باب علل تحريم الكبائر من الوافي للفيض (ره) (م 3 ص 176) نقلّا عن من لا يحضره الفقيه: كتب عليّ بن موسى الرّضا (علیه السلام) الى محمد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله - إلى ان قال (علیه السلام): وحرّم الله التعرّب بعد الهجرة للرجوع عن الدين وترك الموازرة للأنبياء والحجج عليهم أفضل الصلوات وما في ذلك من الفساد وإبطال حقّ كلّ ذي حق لا لعلّة سكنى البدو ولذلك لو عرف الرجل الدين كاملاً لم يجزله مساكنة أهل الجهل، والخوف عليه لأنه لا يؤمن ان وقع منه ترك العلم والدّخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك. قال الفيض في بيانه: وفي بعض النسخ: لعله سكنى البدو بدون لا وهو أوضح وأوثق بما بعده؛ والخوف عليه عطف على الفساد والإبطال. انتهى، فتأمّل.

تبرير القاضي لفعل عثمان والجواب عليه

قال في الشافي: حكى القاضي عن شيخه أبي علي في نفي أبي ذر الى الربذة أنّ الناس اختلفوا في أمره فروي عنه أنّه قيل لأبي ذر: أعثمان انزلك الربذة؟ فقال: لا، بل اخترت لنفسي ذلك وروي أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام فكتب إليه عثمان أن صيّره إلى المدينة فلما صار إليه قال: ما أخرجك إلى الشام؟ قال: لأنيّ سمعت الرّسول صلى الله عليه و وآله وسلم يقول: إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فأخرج عنها فلذلك خرجت؛ قال: فأي البلاد أحب اليك بعد الشام؟ فقال: الرّبذة؛ فقال: سر اليها وإذا تكافأت الأخبار لم يكن في ذلك لهم حجّة ولو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرج إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدّين فلا يكون ظلماً لأبي ذر بل ربما يكون إشفاقاً عليه وخوفاً من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه.

فقد رويَ أنه كان يغلظ في القول ويخشن في الكلام ويقول: لم يبقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على عهد وينفر بهذا القول فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليهم وإليه من المصلحة وإلى الدين. وقد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن حجاج لما خاف ناحيته. قال: وندب الله تعالى إلى خفض الجناح للمؤمنين وإلى القول اللين للكافرين وبينّ للرسول صلى الله عليه واله وسلم أنّه لو استعمل الفظاظة لانفضّوا من حولك فلمّا رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر وما كان يورده مما يخشى منه التنفير فعل ما فعل.

وقد روي عن زيد بن وهب قال: قلت لأبي ذر وهو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال اخبرك أنّي كنت بالشام في أيام معاوية وقد ذكرت هذه الآية: (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (1) فقال معاوية هذه في أصل الكتاب فقلت فيهم وفينا فكتب معاوية إلى

ص: 299


1- التوبة - 34.

عثمان في ذلك فكتب إليّ أن أقدم عليّ فقدمت عليه فأنثال الناس إليّ كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك الى عثمان فخيّرني وقال: إن أحببت أنزل حيث شئت فنزلت الرّبذة وحكي عن الخياط قريباً مما تقدم من أنّ خروج أبي ذر إلى الرّبذة كان بأختياره قال: وأقلّ ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح ونرجع إلى الأمر الأوّل في صحة إمامة عثمان وسلامة أحواله.

اعترض في الشافي عليه وردّ كلامه بقوله: فأمّا قوله: «إن الأخبار متكافئة في أمر أبي ذر وإخراجه إلى الرّبذة وهل كان ذلك باختياره أو بغير اختیاره» فمعاذ الله ان تتكافيء في ذلك بل المعروف الظاهر أنه نفاه من المدينة إلى الرّبذة، ثمّ أتى بالروايات الثلاث عن الواقدي وقوله قد روي جميع أهل السيرة على اختلاف الطرق إلى آخر ما نقلناه عنه من الشافي المذكورة آنفاً ثمّ قال: والأخبار في هذا الباب أكثر من أن نحصرها وأوسع من أن نذكرها أو ما تحمل نفسه على إدّعاء أن أبا ذر خرج مختاراً إلى الربذة.

قال: ولسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب الكتاب من أنّه خرج مختاراً قد روي إلّا أنّه في الشاذّ النادر وبازاء هذه الرواية الفذة كلّ الروايات التي تتضمن خلافها ومن تصفحّ الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب الكتاب - يعني به القاضي صاحب كتاب المغني - وكيف يجوز خروجه عن تخيير وإنما اشخص من الشام على الوجه الذي اشخص عليه من خشونة المركب وقبح السير به للموجدة عليه. ثمّ لما قدم منع الناس من كلامه وأغلظ له في القول وكلّ هذا لا يشبه أن يكون أخرجه إلى الرّبذة باختياره. وكيف يظن عاقل أن أبا ذر يحبّ أن يختار الرّبذة منزلاً مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات ولم يكن بمنزل مثله.

فأما قوله «إنّه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ له القول» فليس بشيء يعوّل عليه لأنه لم يكن في أهل المدينة إلّا من كان راضياً بقوله عاتباً بمثل عتبه إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه ومخفٍ ما عنده وما في أهل المدينة إلّا من رثى مما حدث على أبي ذر واستفظعه

ص: 300

ومن رجع إلى كتب السير عرف ما ذكرناه.

فأما قوله: «إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج» فيا بعد ما بين الأمرين وما كنا نظن أن أحداً يسوّي بين أبي ذر وهو وجه الصحابة وعينهم ومن أجمع المسلمون على توقيره وتعظيمه وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحداً وبين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء به وبشبابه ولا حظَّ له في فضل ولا دين. على أن عمر قد ذُمَّ باخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه وإذا كان من أخرج نصر بن الحجّاج مذموماً فكيف بمن أخرج مثل أبي ذر رحمه الله؟

فأمّا قوله: «إنّ الله تعالى والرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ندبا إلى خفض الجناح ولين القول للمؤمن والكافر» فهو كما قال إلّا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر ولا يقابله بالتكذيب وقد قطع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على صدقه ولا يسمعه مكروه الكلام وهو إنما نصح له وأهدى عليه عيوبه وعاتبه على ما لو نوزع عنه لكان خيراً له في الدنيا والآخرة وهذه جملة كافية.

في تأريخ أبي جعفر الطبري: لما حضرت الوفاة أبا ذر في الربذة وذلك في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة في السنة الثامنة في ذي الحجة من امارة عثمان قال لابنته: استشر في يا بنيّة فانظري هل ترين أحداً؟ قالت: لا؛ قال: فما جاءت ساعتي بعدُ، ثم أمرها فذبحت شاة ثمّ طبختها. ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنوني فقولي لهم: ان ابا ذر يقسم عليكم أن لا تركبوا حتّى تأكلوا فلمّا نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم؛ هؤلاء ركب مقبلون؛ قال: استقبلي بي الكعبة؛ ففعلت وقال: بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثمّ خرجت ابنته فتلقتهم وقالت رحمكم الله اشهدوا أبا ذر. قالوا: وأين هو؟ فأشارت لهم إليه وقد مات فأدفنوه قالوا: نعم، ونعمت عَينْ لقد أكرمنا الله بذلك وإذا ركبُ من أهل الكوفة فيهم أبن مسعود فمالوا إليه وابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى

ص: 301

الله عليه وآله وسلم يموت وحده ويبعث وحده فغسلوه وكفنوه وصلّوا عليه ودفنوه فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم: إنّ أبا ذر يقرؤكم السلام وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا ففعلوا.

وفيه: في رواية اخرى بأسناده عن الخلحال بن ذرى قال: خرجنا مع ابن مسعود سنة 31 - ونحن أربعة عشر راكباً حتى أتينا على الرّبذة فإذا امرأة قد تلقتنا فقالت: اشهدوا ابا ذر وما شعرنا بأمره ولا بلغنا، فقال: وأين أبو ذر؟ فأشارت إلى خباء فمال ابن مسعود إليه وهو يبكي فغسلناه وكفناه وإذا خباؤ خباء منضوح بمسك فقلنا للمرأة ما هذا؟ فقالت كانت مسكة فلما حضر قال: إنّ الميت يحضره شهود يجدون الريح ولا يأكلون فدو في تلك المسكة بماء ثمّ رشى بها الخباء فأقريهم ريحها واطبخي هذا اللحم فإنه سيشهدني قوم صالحون يلون دفني فأقريهم فلما دفنّاه دعتنا إلى الطعام فأكلنا. والأحاديث في فضائل أبي ذر و اسلامه وترجمته ومقامه في الرّبذة وموته وصلاة عبد الله بن مسعود عليه ومن كان معه في موته كثيرة لا نطول بذكرها.

استنكار الناس لأعمال عثمان:

قال أبو جعفر الطبري في تاريخه: ذكر محمد بن عمر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أمّ بكر بنت المسور بن مخرمة عن أبيها قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأرسل إلى المسور بن مخرمة وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فأخذاها فقسمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار.

قال: قال محمّد بن عمر و حدثني محمّد بن صالح عن عبيد الله بن رافع ابن نقاحة عن عثمان بن الشريد قال: مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة فقال: يا نعثل والله لأقتلنّك ولأحملنّك على قلوص جرباء ولأُخر جنّك إلى حرة النّار، ثمّ جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.

قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيء جبلة بن عمرو

ص: 302

الساعدي مرّ به عثمان وهو جالس في ندى قومه وفي يد جبلة بن عمرو جامعة فلما مرّ عثمان سلّم فرّد القوم فقال جبلة: لّمَ تردّون على رجل فعل كذا وكذا؟ ثمّ أقبل على عثمان فقال: والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنَّ بطانتك هذه. قال عثمان: أيّ بطانة؟ فوالله إني لأتخيّر النّاس. فقال: مروان تخيّرته، ومعاوية تخيّرته وعبد الله بن عامر بن كريز تخيّرته، وعبد الله ابن سعد تخيّرته، منهم من نزل القرآن بذمّه وأباح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه. قال: فأنصرف عثمان فما زال النّاس مجترئين عليه.

قال: وخطب في بعض أيامه فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب نتب - إلى أن قال: ثم لما كان بعد ذلك خطب عثمان الناس فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح ياعثمان: ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة قم يا نعثل فأنزل عن هذا المنبر فلندرعك العباءة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان، فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: لم يكن ذلك إلّا ملأ من النّاس وقام إلى عثمان خيرته وشيعته من بني أمية فحملوه وأدخلوه الدار.

قال: بعد ما غزا المسلمون غزوة الصواري ونصرهم الله على الأعداء فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهزم القوم جعل محمد بن أبي حذيفة يقول: أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقّاً، فقيل له: وأيّ جهاد؟ فقال: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا وفعل كذا وكذا أتى أفسد النّاس فقدموا بلدهم وقد أفسدهم وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به.

قال بإسناده عن الزهري قال: خرج محمّد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر عام خرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح - يعني عام 31 - وخرج عبد الله بن سعد بأمر عثمان لغزوة الرّوم التي يقال لها غزوة الصواري، فأظهر اعيب عثمان وما غيّر وما خالف به أبا بكر وعمرو وأنّ عثمان حلال و يقولان استعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أباح

ص: 303

دمه ونزل القرآن بكفره وأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوماً وأدخلهم - يعني حكم بن العاص وابنه مروان الطريدي وغيرهما - ونزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستعمل سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين - إلى ان قال: وعابا عثمان أشدّ العيب.

وروي بإسناده عن عبد الرحمن بن يسار أنّه قال: لما رأى النّاس ما صنع عثمان كتب مَنْ بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى من بالآفاق منهم وكانوا قد تفرقوا في الثغور: إنكم انما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك فهلمُّوا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وماله وسلم فأقبلوا من كلّ أفق حتى قتلوه.

«نصح امير المؤمنين علي (عليه السلام) عثمان»

قال: وأما الواقدي فإنّه زعم أن عبد الله بن محمد حدّثه عن أبيه قال: لمّا كانت سنة - 34 - كتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضهم إلى بعض أن أقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكَثُر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهي ولا يذبّ إلّا نفير زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فأجتمع النّاس وكلّموا عليّ بن أبي طالب عليه السلام فدخل على عثمان فقال: النّاس ورائي وقد كلّموني فيك والله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئاً تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه إنّك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونلت صهره وما أبن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحماً ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما

ص: 304

لم ينالا ولا سبقاك إلى شيء فالله الله في نفسك فإنّك والله ما تبصر من عمّى ولا تعلم من جهل وإنّ الطريق الواضح بين وإنّ أعلام الدّين لقائمة تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادلٌ هُديَ وهَدى فأقام سنّة معلومة وأمات بدعة متروكة فوالله إن كلالبينّ وان السنن لقائمة لها أعلام وأنّ البدع لقائمة لها اعلام وأنّ شر الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلّ به فأمات سنة معلومة واحيا بدعة متروكة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنّم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثمّ يرتطم في غمرة جهنم وإنّي أحذّرك الله وأحذّرك سطواته ونقماته فإن عذابه شديد اليم وأحذّرك ان تكون إمام هذه الأُمّة المقتول فإنّه يقال: يقتل في هذه الامّة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتلبس امورها عليها ويتركها شيعاً فلا يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون فيها موجا ويمرجون فيها مرجا.

فقال عثمان: قد والله علمت ليقولن الذي قلت أما والله لو كنت مكاني ما عتقتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ولا جئت منكراً إنّ وصلت رحماً وسددت خلّة وآويت ضائعاً ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي؛ انشدك الله يا علي هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم؛ قال: فتعلم أنّ عمر ولاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلوموني ان وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟

قال عليّ عليه السلام: سأُخبرك أنّ عمر بن الخطّاب كان كل من ولّي فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثمّ بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك.

قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً، فقال عليّ عليه السلام: لعمري إن رحمهم مني لقريبة ولكنّ الفضل في غيرهم.

قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها فقد وليته؟

فقال عليّ عليه السلام: انشدك الله هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من

ص: 305

عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم، قال عليّ عليه السلام: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها فيقول النّاس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغير على معاوية ثمّ خرج عليّ عليه السلام من عنده.

وخرج عثمان على اثره فجلس على المنبر فأستمال قلوب النّاس إليه بما قال واعتذر من أفعاله واشتكى من الناس بما قالوا في مطاعنه وقوادحه فلما انتهى من کلامه قام مروان بن الحكم فقال مخاطباً للناس: إن شئتم حكمنا والله بيننا وبينكم السيف نحن والله وأنتم كما قال الشاعر:

فَرَشْنَا لَكُمْ اعراضَنَا فنبتْ بِكُمْ *** مَعارِسِكُم تبنَوَنَ فِي دُمَنِ الثّرى

فقال عثمان: اسكت لاسكتّ دعني وأصحابي ما منطقك في هذا ألم أتقدم إليك ألّا تنطق؟! فسكت مروان ونزل عثمان (1).

ومن كلام له عليه السلام لما اجتمع النّاس عليه وشكوه مما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبتهم عنهم واستعتابه لهم فدخل عليه السلام عليه فقال: إنّ النّاس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم ووالله ما أدري ما اقول لك، الخ وبين النسخ الثلاث اختلاف يسير.

وروى الطبري بإسناده عن عبد الله بن زيد العنبري أنه قال: اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فأجتمع رأيهم على أن يبعثوا اليه رجلاً يكلّمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا اليه عامر بن عبد الله التميمي فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً فأتقِ الله عزّ وجلّ وتب إليه وانزع عنها.

قال له عثمان: انظر إلى هذا فإنّ النّاس يزعمون أنّه قارىء ثمّ هو ي.

ص: 306


1- أقول: أتى بما رواه الطبري من نصح أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) عثمان الشيخ الأجل المفيد قدس سره في كتاب الجمل أيضاً - ص 84 طبع النجف - وكذا نقله الشريف الرضي رضوان الله عليه في النهج وهو الكلام - 163 - من المختار من باب الخطب معنوناً بقول الرضي.

يجيء فيكلّمني في المحقرات فوالله ما يدري أين الله.

قال عامر: إنّا لا ندري أين الله، قال: نعم والله ما تدري أين الله، قال عامر: بلى والله إنّي لأدري أنَّ الله بالمرصاد لك.

فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإلى سعيد بن العاص وإلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي وإلى عبد الله بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إنَّ لكلّ امرىء وزراء ونصحاء وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليّ.

فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه.

ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد رأينا فأحسم عنك الداء واقطع عنك الذي تخاف وأعمل برأيي تصب، قال: وما هو؟ قال: إن لكلّ قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إن هذا الرأي لولا ما فيه.

ثمّ أقبل على معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم وأنا ضامن لك قبلي.

ثمّ أقبل على عبد الله بن سعد فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أن النّاس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.

ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى انك قدر كبت النّاس بما يكرهون فأعتزم أن تعتدل فإن أبيت فأعتزم أن تعتزل فإن أبيت فأعتزم عزماً وامضِ قدماً.

فقال عثمان: مالك قمل فروك أهذا الجدّ منك فأسكت عنه دهراً حتى

ص: 307

إذا تفرق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين لأنت أعزّ علي من ذلك ولكن قد علمت أن سيبلغ النّاس قول كلّ رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً أو أدفع عنك شرّاً. فردّ عثمان عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهم بتجمير النّاس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا اليه، وردّ سعيد بن العاص أميراً على الكوفة فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح فتلقوه فردّوه وقالوا: لا والله لا يلي علينا حَكَما ما حملنا سيوفنا.

قال المسعودي والواقدي والطبري وغيرهما من أصحاب السير: لما كان سنة خمس وثلاثين سار مالك بن الحرث النخعي من الكوفة في مائتي رجل وحكيم بن جبلة العبدي في مائة رجل من أهل البصرة، ومن أهل مصر ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رؤوس أربعة مع كلّ رجل منهم لواء وفيهم محمّد بن أبي بكر وكان جماع أمرهم جميعاً إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى عبد الرحمن بن عديس التجيبي فكان فيما كتبوا إليه:

بسم الله الرّحمن الرّحيم اما بعد فأعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فالله الله ثم الله الله فإنّك على دنيا فأستتم إليها معها آخرة ولا تنس نصيبك من الآخرة فلا تسوغ لك الدّنيا واعلم أنا والله الله نغضب وفي الله نرضى وإنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة أو ضلالة مجلحة مبلجة فهذه مقالتنا لك وقضيتنا اليك والله عذيرنا منك والسلام.

وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ويحتجون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله.

فلمّا خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فيطلب إليه أن يردّهم عنه ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتی

ص: 308

يأتيه أمداد.

فقال عثمان: إن القوم لن يقبلوا التعليل وهم محمليَّ عهداً وقد كان مني في قدمتهم الأولى ما كان فمتى أعطهِم ذلك يسألوني الوفاء به.

فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين مقاربتهم حتّى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب فأعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك فإنّما هم بغوا عليك فلا عهد لهم.

فأرسل إلى عليّ عليه السلام فدعاهٍ فلمّا جاءه قال: يا أبا حسن إنّه قد كان من النّاس ما قد رأيت وكان مني ما قد علمت ولست آمنهم على قتلي فأرددهم عنّي فإنّ لهم الله عزّ وجلّ أن أعتبهم من كلّ ما يكرهون وأن أعطيهم الحقّ من نفسي ومن غيري وإن كان في ذلك سفك دمي.

فقال له عليّ عليه السلام: النّاس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك وإنّي لأرى قوماً لا يرضون إلّا بالرضى وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهداً من الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك ثمّ لم تفِ لهم بشيء من ذلك فلا تغرّني هذه المرة من شيء فإني معطيهم عليك الحق.

قال: نعم، فأعطهم فوالله لأفينَ لهم. فخرج عليّ عليه السلام إلى النّاس فقال: أيّها الناس إنّكم إنّما طلبتم الحقّ فقد أعطيتموه إن عثمان قد زعم أنّه منصفكم من نفسه ومن غيره وراجع عن جميع ما تكرهون فأقبلوا منه ووكدوا عليه.

قال النّاس: قد قبلنا فأستوثق منه لنا فإنّا والله ما نرضى بقول دون فعل. فقال لهم عليّ عليه السلام: ذلك لكم. ثمّ دخل عليه فأخبره الخبر فقال عثمان: اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون لي فيه مهلة فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد.

قال له عليّ عليه السلام: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب

ص: 309

فأجله وصول أمرك. قال: نعم، ولكن أجلني فيهما بالمدينة ثلاثة أيام. قال علي عليه السلام: نعم، فخرج إلى النّاس فأخبرهم بذلك وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجلّه فيه ثلاثاً على أن يردّ كلّ مظلمة ويعزل كلّ عامل كرهوه. ثمّ أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق وأشهد عليه ناساً عهد وميثاق وأشهد عليه ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار. فكفّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه.

فجعل عثمان يتأهب للقتال ويستعد بالسلاح وقد كان اتخذ جنداً عظيماً من رقيق الحمس فمضت الأيّام الثلاثة وهو على حاله ولم يغير شيئاً مما کرهوه ولم يعزل عاملاً.

محمد بن أبي بكر وعثمان:

فلمّا جاء أهل مصر وشكوا ابن أبي سرح عاملهم فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقيت الصّلاة ما صنع بهم أبن أبي سرح فقام طلحة فتكلم بكلام شديد وأرسلت عائشة إلى عثمان فقالت له: قد تقدّم إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألوك عزل هذا الرجل، وكذا دخل عليه عليّ عليه السلام فقال له: إنّما يسألونك رجلاً مكان رجل وقد ادعوا قبله دماً فأعزله عنه وأقضِ بينهم فإن وجب لهم عليه حق فأنصفهم منه.

فقال: اختاروا رجلاً أُوليه عليهم. فقالوا: استعمل محمّد بن أبي بكر فكتب عثمان عهده وولّاه وخرج معه عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين ابن أبي سرح وأهل مصر.

فخرج محمّد ومن معه حتّى إذا كانوا على مسيرة ثلاث ليالٍ من المدينة في الموضع المعروف بحمس إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير كأنه طالب أو هارب يتعرّض لهم ثمّ يفارقهم ثمّ يرجع إليهم ثمّ يفارقهم ويسيئهم وهو مقبل من المدينة، فتأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان على جمل

ص: 310

عثمان فقال له أصحاب محمد بن أبي بكر: ما قصتك وما شأنك إن لك لأمراً؟

فقال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر. فقال له رجل: هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا أُريد، فأخبر محمد بأمره فبعث في طلبه رجلاً فجاء به إليه فقال له: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام مروان، ومرة يقول: أنا غلام عثمان حتى عرفه رجل أنّه لعثمان فقال له محمد: إلى من أرسلك؟ قال: إلى عامل مصر قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: أما معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتاباً وكانت معه إدارة قد يبست فيها شيء يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا إداوته فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح عامل مصر فجمع محمّد من كان معه من المهاجرين والأنصار ثمّ فكّ الكتاب بمحضر منهم فقرأه فإذا فيه: إذا أتاك محمّد بن أبي بكر وفلان وفلان أصلبهم وأقتلهم وأقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأبطل كتابهم وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي.

فلما رأوا الكتاب فزعوا منه ورجعوا الى المدينة وختم محمد الكتاب بخواتم النفر الذين كانوا معه ودفعه إلى رجلٍ منهم ثمّ قدموا المدينة فجمعوا عليّ عليه السلام وطلحة والزبير وسعداً ومن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبرهم بقصة الغلام وأقرأهم الكتاب فلم يبقَ أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وقام أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلحقوا بمنازلهم وحصر الناس عثمان وأحاطوا به ومنعوه الماء والخروج ومن كان معه وأجلب عليه محمد بن أبي بكر.

وفي تاريخ أبي جعفر الطبري: لما قدموا المدينة أتوا عليّاً عليه السلام فقالوا: ألم ترَ إلى عدوّ الله عثمان إنه كتب فينا بكذا وكذا وإن الله قد أحلّ دمه قم معنا إليه قال: والله لا أقوم معكم إلى أن قالوا: فلِمَ كتبت إلينا؟

ص: 311

فقال: والله ما كتبت اليكم كتاباً قطّ فنظر بعضهم إلى بعض ثمّ قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون أو لهذا تغضبون؟ فأنطلق عليّ عليه السلام فخرج من المدينة إلى قرية ثمّ إنهم انطلقوا حتى دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا.

فقال عثمان: إنما هما اثنتان أن تقيموا على رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلّا هو ما كتبت ولا أمللت ولا علمت وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرّجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم. فقالوا: فقد والله أحلّ الله دمك ونقضت العهد والميثاق فحاصروه.

وفيه أيضاً: لما قدموا المدينة أرسلوا إلى عثمان ألم تفارقك على انك زعمت أنك تائب من أحداثك وراجع عما كرهنا منك وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه؟ قال: بلى انا على ذلك. قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدناه مع رسولك وكتبت به إلى عاملك؟ قال: ما فعلت ولا لي علم بما تقولون. قالوا: بريدك على جملك وكتاب كاتبك عليه خاتمك، قال: أمّا الجمل فمسروق، وقد يشبه الخط الخط، وأما الخاتم فأنتقش عليه. قالوا: فإنّا لا نعجل عليك وإن كنّا قد أتهمناك أعزل عنّا عمالك الفساق واستعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا وأموالنا واردد علينا مظالمنا قال عثمان: ما أراني إذاً في شيء إن كنت أستعمل من هويتم وأعزل من كرهتم الأمر إذا امركم. قالوا: والله لتفعلنّ أو لتعزلنّ أو لتقتلنّ فأنظر لنفسك أودَعْ، فأبي عثمان عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالاً سربلنيه الله فحاصروه أربعين.

حصار أهل الأمصار لعثمان:

وفي الإمامة والسياسة للدينوري: ذكروا أن أهل مصر أقبلوا إلى عليّ عليه السلام فقالوا: ألم تر عدوّ الله ماذا كتب فينا؟ قم معنا إليه فقد أحل الله دمه، فقال علي عليه السلام لا والله لا أقوم معكم قالوا: فلِمَ كتبت إلينا؟ قال عليّ عليه السلام: لا والله ما كتبت اليكم كتاباً قطّ فنظر

ص: 312

بعضهم إلى بعض. ثمّ أقبل الأشتر النخعي من الكوفة في ألف رجل وأقبل ابن أبي حذيفة من مصر في أربعمائة رجل فأقام أهل الكوفة وأهل مصر بباب عثمان ليلاً ونهاراً وطلحة يحرّض الفريقين جميعاً على عثمان إنّ طلحة قال لهم: إن عثمان لا يبالي ما حاصرتموه وهو يدخل إليه الطعام والشراب فأمنعوا الماء أن يدخل عليه.

وفي تاريخ الطبري: لما انكر عثمان أن يكون كتب الكتاب وقال هذا مفتعل قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك، قال: اجل ولكنه كتبه بغير أمري؛ قالوا: فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك. قال: اجل ولكنه خرج بغير اذني؟ قالوا فالجمل جملك. قال: اجل ولكنّه أُخذ بغير علمي؛ قالوا ما انت إلّا صادق أو كاذب فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما امرت به من سفك دمائنا بغير حقها وإن كنت صادقاً فقد استحققت ان تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته.

وقالوا له: إنك ضربت رجالاً من اصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عند من يستنكرون من اعمالك فأقِدْمن نفسك من ضربته وانت له ظالم.

فقال: الامام يخطىء ويصيب فلا أقيد من نفسي لأني لو أقدت كلّ من أصبته بخطأ أتى على نفسي.

قالوا: و إنّك قد أحدثت احداثاً عظاماً فاستحققت بها الخلع فإذا کلمت فيها اعطيت التوبة ثمّ عدت اليها وإلى مثلها ثمّ قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق ولا منافيك محمد بن مسلمة وضمن لنا ما حدث من أمر فأخفرته فتبرأ منك وقال: لا أدخل في أمره فرجعنا أوّل مرّة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الاعذار إليك نستظهر بالله عزّ وجلّ عليك فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب وزعمت أنّه كتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخط كاتبك

ص: 313

وعليه خاتمك فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم والأثرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من النّاس والأظهار للتوبة ثمّ الرّجوع إلى الخطيئة ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يحدث مثل ما جربنا منك ولم يقع عليه من التهمة ما وقع عليك فأردد خلافتنا واعتزل امرنا فإن ذلك اسلم لنا منك وأسلم لك منّا.

فقال عثمان: فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم. قال: أما بعد فإنّكم لم تعدلوا في المنطق ولم تنصفوا في القضاء أمّا قولكم تخلع نفسك فلا أنزع قميصاً قمصنيه الله ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون فإنّي والله الفقير إلى الله الخائف منه.

قالوا: إنّ هذا لو كان أوّل حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تقم عليه لكان علينا أن نقبل منك وأن ننصرف عنك، ولكنه قد كان منك من الأحداث قبل هذا ما قد علمت ولقد انصرفنا عنك في المرّة الأولى وما نخشى أن تكتب فينا ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك وكيف نقبل توبتك وقد بلونا منك أن لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلّا عدت عليه فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك فإن حال من معک من قومك وذوي رحمك وأهل الإنقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم حتّى نخلص اليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله. إلى ان قال: ثمّ انصرفوا عن عثمان وآذنوه بالحرب؛ وأرسل عثمان إلى محمد بن مسلمة فكلّمه أن يردّهم فقال: والله لا أكذب الله في سنة مرتين.

قال الطبري: إنّ عليّاً عليه السلام جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاماً يسمعه النّاس منك، ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة فإن البلاد قد تمخضت عليك فلا آمن ركباً آخرين يقدمون من الكوفة فتقول يا عليّ اركب اليهم ولا أقدر أن أركب اليهم ولا أسمع عذراً ويقدم ركب آخرون من البصرة

ص: 314

فتقول يا عليّ اركب إليهم فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستحققت «استخففت ظ»بحقك.

فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى النّاس من نفسه التوبة فقام فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال: أما بعد أيّها النّاس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله وما جئت شيئاً إلّا وأنا أعرفه ولكني منّنتني نفسي وكذّبتني وضلّ عن رشدي ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من زل فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة إن من تمادي في الجور كان أبعد من الطريق فأنا أوّل من أتعظ وأستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فمثلي نزع وتاب فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردّني الحق عبداً لأستننّ بسنة العبد ولأذلنّ ذل العبد ولأكوننّ كالمرقوق إن ملك صبر وإن عتق شكر وما عن الله مذهب إلّا إليه فلا يعجزن عنكم خياركم أن يدنوا إليّ أبت يميني لتتابعني شمالي.

فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيداً ونفراً من من بني أميّة ولم يكونوا شهدوا الخطبة فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين اتكلّم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبّية: لا بل أصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤتموه إنّه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها؛ فأقبل عليها مروان فقال: ما أنت وذاك فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت له: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه أما والله لولا أنّه عمّه وأنه يناله غمّة أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه؛ فأعرض عنها مروان ثمّ قال: يا أمير المؤمنين أتكلّم أم أصمت؟ قال: بل تكلّم.

فقال مروان: بأبي أنت وأميّ والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أوّل من رضي بها وأعان عليها ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطّبيين وخلف السبيل الزبى وحين أعطي الخطّة

ص: 315

الذليلة الذليل والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها وإنك إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقرب بالخطيئة وقد اجتمع اليك على الباب مثل الجبال من الناس.

فقال عثمان: فأخرج إليهم فكلّمهم فإني استحيي ان اكلمهم.

فخرج مروان إلى الباب والنّاس يركب بعضهم بعضاً فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم؟ كأنكّم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه إلا من اريد جئتم تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا امر لا يسركم ولا تحمدوا غبّ رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا.

فرجع النّاس وخرج بعضهم حتى أتى عليّاً عليه السلام فأخبره الخبر فجاء على عليه السلام غاضباً حتى دخل على عثمان فقال: اما رضيت من مروان ولا رضى منك إلّا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه وايم الله إنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك اذهلت شرفك وغلبت على امرك.

فلما خرج عليّ عليه السلام دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت: قد سمعت قول عليّ لك وإنّه ليس يعاودك وقد اطعت مروان يقودك حيث شاء.

قال عثمان: فما اصنع؟ قالت: تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك فإنك متى اطعت مروان قتلك ومروان ليس له عند النّاس قدر ولا هيبة ولا محبة وإنما تركك النّاس لمكان مروان فأرسل إلى عليّ عليه السلام فأستصلحه فإنّ له قرابة منك وهو لا وهو لا يعصي، فأرسل عثمان إلى عليّ عليه السلام فأبى أن يأتيه وقال: قد أعلمته له اني لست بعائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجاء الى عثمان فجلس بين يديه

ص: 316

فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلّم، فقال: إنَّ بنت الفرافصة، فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فأسوّي لك وجهك فهي والله انصح لي منك فكفّ مروان.

فلما رأى عثمان ما قد نزل به وما قد انبعث عليه من النّاس كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام: بسم الله الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فأبعث إلى من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كلّ صعب وذلول، ثمّ كتب الى يزيد بن أسد بن كرز وإلى أهل الشام: إن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإنّ القوم معاجليّ.

مناداة عثمان لطلحة:

في الامامة والسياسة: إنّ عثمان لما منع الماء صعد على القصر واستوى في أعلاه ثمّ نادى این طلحة؟ فأتاه فقال: يا طلحة أما تعلم أن بئر رومة كانت لفلان اليهودي لا يسقي أحدا من الناس منها قطرة إلّا بثمن فأشتريتها بأربعين ألفاً فجعلت رشائي فيها كرشاء رجلٍ من المسلمين، لم أستأثر عليهم؟ قال: نعم، قال: فهل تعلم أن أحداً يمنع أن يشرب منها اليوم غيري، لِمَ ذلك؟

قال: لأنّك بدّلت وغيّرت ...

قال: فهل تعلم: أنّ رسول الله قال: من اشترى هذا البيت وزاده في المسجد فله به الجنّة، فاشتريته بعشرين ألفاً وادخلته في المسجد.

قال طلحة: نعم. قال: فهل تعلم اليوم أحداً يمنع فيه من الصلاة غيري؟ قال: لا لا. قال قال: لِمَ؟

قال: لأنّك غيّرت وبدّلت.

ص: 317

کلام عثمان في طلحة

روى الطبري (1) بأسناده عن عبد الله بن عبّاس بن ربيعة قال: دخلت على عثمان فتحدثت عنده ساعة، فقال: يا ابن عباس تعال فخذ بيدي فأسمعني كلام من على باب عثمان فسمعنا كلاماً منهم من يقول: ما تنتظرون به، ومنهم من يقول: انظروا عسى أن يرجع فبينا أنا وهو واقفان إذ مرّ طلحة بن عبيد الله فوقف فقال اين أبن عديس؟ فقيل: هما هوذا. فجاءه ابن عديس فناجاه بشيء ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا احداً يدخل على هذا الرّجل ولا يخرج من عنده. قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله؛ ثمّ قال عثمان: اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنّه حمل على هؤلاء وألبهم والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً أو أن يسفك دمه إنّه انتهك منّي ما لا يحلّ له.

انكار طلحة والزبير على عثمان

في الجمل للمفيد: لما أبي عثمان أن يخلع نفسه تولّى طلحة والزبير حصاره والناس معهما على ذلك فحاصروه حصاراً شديداً ومنعوه الماء وأنفذ الى عليّ عليه السلام يقول: إنّ طلحة والزبير قد قتلاني من العطش والموت بالسلاح أحسن؛ فخرج عليه السلام معتمداً على يد المسود بن مخزمة الزهري حتى دخل على طلحة بن عبيد الله وهو جالس في داره يسوي نبلاً وعليه قميص هندي فلما رآه طلحة رحب به ووسع له على الوسادة؛ فقال له عليّ عليه السلام إنّ عثمان قد أرسل إليّ انك قد أهلكتموه عطشاً وأن ذلك ليس بالحسن والقتل بالسلاح أحسن وكنت قد آليت على نفسي أن لا أردّ عنه أحداً بعد أهل مصر وأنا أحب أن تدخلوا عليه الماء حتّى تروا رأيكم فيه، فقال طلحة: لا والله لا ننعمنه عيناً ولا

ص: 318


1- ص 411 ج 3 طبع مصر 1357 ه.

نتركه يأكل ولا يشرب؛ فقال عليّ عليه السلام: ما كنت أظن أن اكلم أحداً من قريش فيردّني، دع ما كنت فيه يا طلحة، فقال طلحة: ما كنت أنت يا عليّ في ذلك من شيء فقام عليّ عليه السلام غاضباً وقال: ستعلم يا ابن الحضرمية اكون في ذلك من شيء أم لا، ثمّ أنصرف.

قال: وروي أبو حذيفة بن إسحاق بن بشير القرشي أيضاً قال: حدثني يزيد بن ابي زياد عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال: والله إنّي لأنظر إلى طلحة وعثمان محصور وهو على فرس أدهم وبيده الرمح يجول حول الدار وكأنّي أنظر الى بياض ما وراء الدرع.

قال: وروى أبو إسحاق قال: لما اشتّد الحصار بعثمان عمد بنو أُميّة على اخراجه ليلاً إلى مكّة وعرف النّاس فجعلوا عليه حرساً وكان على الحرس طلحة بن عبيد الله وهو أوّل من رمى بسهمٍ في دار عثمان.

قال: قال: واطلع عثمان وقد اشتدّ به الحصار وظماً من العطش فنادى: أيّها النّاس اسقونا شربة من الماء وأطعمونا ممّا رزقكم الله فناداه الزبير بن العوام يا نعثل لا والله لا تذوقه.

قال: وروى أبو حذيفة القرشي عن الأعمش عن حبيب بن ثابت عن تَغَلبة بن يزيد الحماني قال: أتيت الزبير وهو عند أحجار الزيت فقلت له: يا أبا عبد الله قد حيل بين أهل الدار وبين الماء فنظر نحوهم وقال: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (1)

فهذه الأحاديث من جملة كثيرة في هذا المعنى.

تحريض عمرو بن العاص على عثمان:

روى أبو جعفر الطبري في التاريخ (2) أنّ عمرو بن العاص كان ممّن

ص: 319


1- سبأ: 54.
2- ص 395 ج 3 طبع مصر 1357.

يحرض على عثمان ويغري به ولقد خطب عثمان يوماً في أواخر خلافته فصاح به عمرو بن العاص أتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب إلى الله نتب فناداه عثمان وإنّك ههنا يا ابن النابغة قملت والله جبتّك منذ تركتك من العمل فنودي من ناحية اخرى تُب إلى الله ونودي من اخرى مثل ذلك وأظهر التوبة يكف النّاس عنك قال: فرفع عثمان يديه مداً واستقبل القبلة فقال: اللهم اني أول تائب إليك ورجع إلى منزله وخرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين فكان يقول: والله إن كنت لألقى الراعي فأُحرضّه عليه. وكذا نقل تأليبه على عثمان على التفصيل والتطويل (1).

وقال الطبري (2) كان عمرو بن العاص على مصر عاملاً لعثمان فعزله عن الخراج واستعمله على الصّلاة واستعمل عبد الله بن سعد على الخراج ثمّ جمعهما لعبد الله بن سعد فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان فأرسل اليه يوماً عثمان خالياً به فقال: يا ابن النابغة ما أسرع ما قمل جرّبان جبّتك إنّما عهدك بالعمل عاماً أوّل أتطعن عليّ؟ وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر والله لولا أكلة ما فعلت ذلك.

فقال عمرو: إنّ كثيراً ممّا يقول النّاس وينقلون إلى ولاتهم باطل فأتقِ الله يا أمير المؤمنين في رعيتك؛ فقال عثمان: والله استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك؛ فقال عمرو: قد كنت عاملاً لعمر بن الخطّاب ففارقني وهو عني راضٍ فقال عثمان: وأنا والله لو أخذتك بما أخذك به عمر لأستصمت ولكنّي لنت عليك فاجترأت عليّ أما والله لأنا أعز منك نفراً في الجاهلية وقبل أن ألي هذا السلطان فقال عمرو: دع عنك هذا فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدانا به قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك عفان فوالله للعاص كان أشرف من أبيك، فأنكسر عثمان وقال: ما لنا ولذكر الجاهلية؛ وخرج عمرو ودخله.

ص: 320


1- في ص 392 فراجع.
2- وفي ص 392 منه.

مروان فقال: يا امير المؤمنين وقد بلغت مبلغاً يذكر عمرو بن العاص أباك؟ فقال عثمان: دع هذا عنك مَنْ ذكر آباء الرجال ذكروا أباه.

فخرج عمرو من عند عثمان وهو حاقداً عليه يأتي عليّاً فيؤلّبه على عثمان ويأتي الزّبير مرة فيؤلبه على عثمان ويأتي طلحة مرة فيؤلبّه على عثمان ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلمّا كان حصار عثمان الأوّل خرج من المدينة حتّى انتهى إلى ارض له بفلسطين يقال له السبع فنزل في قصر له يقال له العجلان وهو يقول العجب ما يأتينا عن ابن عفان فبينا هو جالس في قصره ذلك ومعه أبناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي إذ مدر بهم راكب فناداه عمرو من أين قدّم الرجل؟ فقال: من المدينة قال: ما فعل الرّجل؟ يعني عثمان؛ قال: تركته محصوراً شدید الحصار، قال عمرو: أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النّار فلم يبرح مجلسه ذلك حتّى مرّ به راكب آخر فناداه عمر وما فعل الرجل؟ يعني عثمان، قال: قتل، قال: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها إني كنتُ لأُحرّض عليه حتّى أني لأحرّض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

فقال سلامة بن روح: يا معشر قريش إنّه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحق من حافرة الباطل وأن يكون النّاس في الحق شرعاً سواء.

كلامه الآخر المخالف للأول الصريح في انه كان من عبيد الدنيا.

قال المسعودي في مروج الذهب (1): وقد كان عمرو بن العاص انحرف عن عثمان لانحرافه وتولية مصر غيره فنزل الشام فلما أتصل به أمر عثمان وما كان من بيعة عليّ كتب إلى معاوية يهَزَه ويشير عليه بالمطالبة .

ص: 321


1- ص 4 ج 2 طبع مصر 1346 ه.

بدم عثمان وكان فيما كتب به إليه: ما كنت صانعاً إذا قشرت من كلّ شيء تملكه فأصنع ما أنت صانع، فبعث إليه معاوية فسارّ إليه فقال له معاوية: بايعني قال: والله لا اعينك من ديني حتّى أنال من دنياك، قال: سل، قال: مصر طعمة فأجابه إلى ذلك وكتب له به كتاباً وقال عمرو بن العاص في ذلك:

مُعاوية لا أُعطيكَ دِيني ولم أَنَلْ *** بِهِ منكَ دنياً فأنظَرن كيفَ تصنعُ

فإنْ تَعطِني مصراً فارَبحُ صِفقةً *** أَخذتَ بها شيخاً يضَرُّ وينفعُ

روى الطبري (1) أيضاً أنّه لما احيط بعثمان خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجهاً نحو الشام ومعه ابناه عبد الله ومحمد - إلى أن قال في كلام طويل - حتّى قدم على معاوية فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك؟ أنصرف إلى غيره، فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لأعجب لك إنّي أرفد ممّا أرفدك وأنت معرض عني أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية وعطف عليه انتهى.

أقول: لا يخفى على أُولي الدراية والفطانة أن عمرو بن العاص كان بمعزل عن الحقّ والصدق وما كان همّه إلّا الدنيا والتقرب إلى أهلها وأنّه كأضرابه ممن سمعت أسامي بعضهم لعبوا بالدين واتخذوا كتاب الله سخريّاً وكانوا أهل الختل والغدر وقاموا الى حرب وليّ الله الأعظم سيّد 3.

ص: 322


1- ص 560 ج 3.

الموحّدين عليّ أمير المؤمنين بالعداوة الواغرة في صدورهم والضغائن الكامنه في قلوبهم حبّاً للدنيا الدنيّة وبغضاً لأهل الله وهذا هو عمرو بن العاص قال مرّة لعثمان: فإنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك وقال تارة لشيعة عثمان: انتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم واخرى اظهر خبث سريرته فقال لمعاوية: نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته (يعني علياً عليه السلام) ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا.

إنكار عائشة لأعمال عثمان:

في الإمامة والسياسة وغيره من كتب السير: إنَّ عائشة كانت أوّل من طعن على عثمان واطمع النّاس فيه وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً فقد فجر. وتعني من نعثل عثمان. وقال عبيد بن أمّ كلاب مخاطباً إياها في أبيات له:

وأنتِ أمْرتِ بَقْتلِ الإمامِ *** وقُلْتِ لَنَا إِنَّه قَدْ فَجَرْ

وتجهّزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة واستتبعت أخاها.

في الجمل للمفيد (ره): وأمّا تأليب عائشة على عثمان فهي أظهر ممّا وردت به الأخبار من تأليب طلحة والزبير عليه فمن ذلك ما رواه محمّد ابن إسحاق صاحب السيرة عن مشايخه عن حكيم بن عبد الله قال: دخلت يوماً بالمدينة إلى المسجد فإذا كفّ مرتفعة وصاحب الكفّ يقول: أيّها النّاس العهد قريب هذان نعلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقميصه وكأنّي أرى ذلك القميص يلوح وأن فيكم فرعون هذه الأُمّة فإذا هي عائشة وعثمان يقول لها: اسكتي ثمّ يقول للناس: إنها امرأة وعقلها عقل النساء فلا تصغوا إلى قولها.

قال: وروى الحسن بن سعد قال: رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها وعثمان قائم ثمّ قالت: يا عثمان أقم ما في هذا الكتاب، فقال: لتنتهين عمّا أنت عليه أو لأدخلن عليك

ص: 323

حمر النار، فقالت له عائشة: أما والله لأن فعلت ذلك بنساء النبي يلعنك الله ورسوله وهذا قميص رسول الله لم يتغيّر وقد غيّرت سنته.

قال: وروى اللّيث بن أبي سليمان عن ثابت الأنصاري عن ابن أبي عامر مولى الأنصار قال: كنت في المسجد فمرّ عثمان فنادته عائشة يا غدر يا فجر أحقرت أمانتك وضيعت رعيتك ولولا الصلوات الخمس لمشي إليك الرّجال حتّى يذبحوك ذبح الشاة، فقال عثمان: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (1)

قال: وروى محمد بن إسحاق المدائني وحذيفة قال: لما عرفت عائشة أنّ الرّجل مقتول تجهزّت إلى مكّة، فجاءها مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فقالا لها: إنّا لنظن أنّ الرّجل مقتول وأنت قادرة على الدفع عنه وإن تقيمي يدفع الله بك عنه؛ قالت: ما أنا بقاعدة وقد قدمت ركابي وغريت غرائري واوجبت الحج على نفسي فخرج من عندها مروان يقول زخرف قيس على البلاد حتّى إذا اضطربت، فسمعت عائشة فقالت: أيّها المتمثل هلمّ قد سمعت ما تقول اتراني في شك من صاحبك والله لوددت أنّه في غرارة من غرائري حتى إذا مررت بالبحر قذفته فيه. فقال مروان: قل والله تبنيت قل والله تبنّيت.

قال: قال فسارت عائشة فأستقبلها ابن عبّاس بمنزل يقال له الصلعاء وابن عباس يريد المدينة فقالت يا ابن عبّاس انّك قد اوتيت عقلاً وبياناً وإيّاك ان تردّ الناس عن قتل الطاغية.

وسيأتي طائفة من الأخبار في أقوالها له وما فعلت بعد ذلك.1.

ص: 324


1- التحريم: - 11.

مقتل عثمان

لما حاصر الناس عثمان في داره منعوه الماء فأشرف على النّاس وقال: ألا أحد يسقينا؟ قال المسعودي: فبلغ عليّاً طلبه للماء فبعث إليه بثلاث قرب ماء فما وصل إليه ذلك حتى خرج جماعة من موالي بني هاشم وبني اميّة وارتفع الصوت وكثر الضجيج وأحدقوا بداره بالسلاح وطالبوه بمروان فأبى أن يخلي عنه وفي النّاس بنو زهرة لأجل عبد الله بن مسعود لأنه كان من أحلافها، وهذيل لأنّه كان منها وبنو مخزوم وأحلافها لعمار وغفار وأحلافها لأجل أبي ذر، وتيم بن مرّة مع محمّد ابن أبي بكر وغير هؤلاء من خلق كثير.

قال الطبري: كان الحصار أربعين ليلة والنزول سبعين فلمّا مضت من الأربعين ثمانية عشرة قدم ركبان من الوجوه فأخبروه خبر مَنْ تهيأ إليهم من الآفاق: معاوية من الشام وحبيب من مصر والقعقاع من الكوفة ومجاشع من البصرة فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كلّ شيء حتى الماء وقد كان يدخل عليّ عليه السلام بالشيء ممّا يريد وطلبوا العلل فلم تطلع عليهم علّة فعثروا في داره بالحجارة ليرموا فيقولوا قوتلنا وذلك ليلا.

فناداهم عثمان: ألا تتقون الله ألا تعلمون أنّ في الدار غيري؟ قالوا: لا والله ما رميناك قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله؛ قال: كذبتم إنَّ الله عزّ وجلّ لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئوننا وأشرف عثمان على آل حزم وهم جيرانه فسرح ابنا لعمرو إلى عليّ بأنهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئاً من الماء فأفعلوا وإلى طلحة والزبير وإلى عائشة وأزواج النّبيّ؛ فكان أوّلهم إنجاداً له عليّ وأُمّ حبيبة جاء علي عليه السلام في الغلس فقال: يا أيها الناس إنّ الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين لا تقطعوا عن هذا الرّجل المادّة فإن الرّوم وفارس لتأسر فتطعم وتسقى.

ص: 325

قال الدينوري في الامامة والسياسة والمسعودي والطبري: بعث عثمان إلى عليّ عليه السلام يخبره أنّه منع من الماء ويستغيث به فبعث إليه عليّ عليه السلام ثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه فقال طلحة: ما أنت وهذا؟ وكان بينهما في ذلك كلام شديد فبينما هم كذلك إذا أتاهم آتٍ فقال لهم: إنّ معاوية قد بعث من الشام يزيد بن أسيد ممدّاً لعثمان في أربعة آلاف من خيل الشام فأصنعوا ما أنتم صانعون وإلّا فأنصرفوا.

قال المسعودي: فلمّا بلغ عليّاً أنّهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن والحسين ومواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته وأمرهم أن يمنعوه منهم وبعث الزبير ابنه عبد الله على كره وبعث طلحة ابنه محمداً كذلك وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤ هم اقتداءً بهم فصدوهم عن الدار فأشتبك القوم وجرح الحسن وشج قنبر وجرح محمد بن طلحة فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم وبنو اميّة فتركوا القوم في القتال على الباب ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوروا عليها وكان ممّن وصل إليه محمد بن أبي بكر ورجلان آخران وعند عثمان زوجته نائلة وأهله ومواليه مشاغيل بالقتال فصرعه محمد وقعد على صدره وأخذ بلحيته وقال: يا نعثل ما أغنى عنك معاوية وما أغنى عنك ابن عامر وابن أبي سرح.

فقال له عثمان: يا ابن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك وما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك وخرج عنه إلى الدار وتركه فدعا عثمان بوضوء فتوضأ وأخذ مصحفاً فوضعه في حجره ليحترم به ودخل الرجلان فوجداه فقتلاه يقال لأحدهما الموت الأسود خنق عثمان ثمّ خفقه ثم خرج فقال والله ما رأيت شيئاً قط ألين من حلقة والله لقد خنقته حتى رأيت نفسه تتردّد في جسده كنفس الجان.

قال الطبري: فدخل عليه كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصاً فانتضح الدم على هذه الآية: ﴿فسيكفيكهم الله وهو السميع

ص: 326

العليم) (1).

قال الدّينوري: لمّا أخذ مصحفاً فوضعه في حجره ليحترم به دخل عليه رجل من أهل الكوفة بمشقص في يده فوجأ به منكبه ممّا يلي الترقوة فأدماه ونضح الدّم على ذلك المصحف وجاء آخر فضربه برجله وجاء آخر فوجأه بقائم سيفه فغُشي عليه ومحمد بن أبي بكر لم يدخل مع هؤلاء فتصایحت نساؤه ورش الماء على وجهه فأفاق، فدخل فدخل محمد بن أبي بكر وقد أفاق فقال له: أي نعثل غيّرت وبدّلت وفعلت ثم دخل رجل من أهل مصر فأخذ بلحيته فنتف منها خصلة وسلّ سيفه وقال: افرجوا لي فعلاه بالسيف فتلقاه عثمان بيده فقطعها ثم دخل رجل آخر وهو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي ومعه جرز آخر من حديد فمشي إليه فقال: على أي ملّة أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان وأنا على ملّة ابراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين؛ قال: كذبت وضربه بالجرز على صدفه الأيسر فغسله الدّم وخرّ على وجهه وقد قيل: ان عمرو بن الحمق طعنه بسهام تسع طعنات وكان فيمن مال عليه عمير بن ضابىء البرجمي التميمي وخضخض بسيفه بطنه.

وقال الطبري: رفع كنانة مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ثمّ علاه بالسيف حتى قتله وروى رواية اخرى أن كنانة ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخرّ لجبينه فضر به سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه فقتله.

فصرخت امرأته وقالت: قد قتل امير المؤمنين فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من بني أمية فوجدوه قد فاضت نفسه؛ قال المسعودي: فبلغ ذلك عليّاً وطلحة والزبير وسعداً وغيرهم من المهاجرين والأنصار فأسترجع القوم ودخل عليّ عليه السلام الدار وهو كالواله الحزين فقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ولطم الحسن 7.

ص: 327


1- البقرة - 137.

وضرب الحسين وشتم محمد بن طلحة ولعن عبد الله بن الزبير.

وقال عليّ عليه السلام لزوجته نائلة بنت الفرافصة: من قتله وأنت كنت معه؟ فقالت دخل اليه رجلان وقصت خبر محمد بن أبي بكر فلم ينكر ما قالت وقال: والله لقد دخلت عليه وأنا أريد قتله فلما خاطبني بما قال خرجت ولا أعلم بتخلّف الرجلين عني، والله ما كان لي في قتله سبب ولقد قتل وأنا لا أعلم بقتله، وكان مدّة حصار عثمان في داره تسعاً واربعين يوماً وقيل أكثر من ذلك.

مدفن عثمان:

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: لبث عثمان بعد ما قتل ثلاثة أيام لا يستطيعون دفنه ولم يشهد جنازته إلا مروان وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة فناحت ابنته وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل وكادت ترجم. وقال ابن قتيبة: احتملوه على باب وانطلقوا مسرعين ويسمع وقع رأسه على اللّوح وان رأسه ليقول: طق طق.

فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال بعض من حمل جنازته: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا: لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً فدفنوه في حائط يقال له: حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على النّاس أمر بهدم ذلك الحائط حتّى افضى به إلى البقيع فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين ولم يغسل عثمان وكفن في ثيابه ودمائه ودفنوه ليلاً لأنهم لا يقدرون أن يخرجوا به نهاراً.

وقال في نقل آخر: إن نائلة تبعتهم بسراج استسرجته بالبقيع وصلّى عليه جبير بن مطعم وفي نقل آخر صلّى عليه مروان وأرادت نائلة أن تتكلم فزبرها القوم وقالوا: إنا نخاف عليه من هؤلاء الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة الى منزلها.

ص: 328

وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: ثم دلوه في حفرته فدفنوه ولم يلحدوه بلبن، وحثوا عليه التراب حثواً.

وفي تاريخ أبي جعفر الطبري أن حكيم بن حزام القرشي وجبير بن مطعم كلّما عليّاً في دفنه وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك ففعل وأذن لهم عليّ عليه السلام فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له: حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلما خرج على النّاس رجموا سريره وهموا بطرحه فبلغ ذلك عليّاً فأرسل اليهم يعزم عليهم ليكفُنّ عنه ففعلوا فأنطلق حتى دفن في حش كوكب. وفي نقل آخر منه: وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل عليّ عليه السلام فمنع من رجم سريره وكفَّ الذين راموا منع الصّلاة عليه.

وكان الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان لأُمّه فسُمِعَ اللّيلة الثانية من مقتل عثمان يندبه وهو يقول:

بَني هاشمٍ إيهِ فما كَانَ بينا *** وَسيفُ أُبنِ أَروى عندَكُمُ وحراثبُه

بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ أبنِ أُختِكُمُ *** ولا تنهبوهُ ما تَحلُّ مَنَاهبُه

غَدَرتُمْ بِهِ كيما تكونوا مكانَهُ *** كما غَدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه

وهي أبيات، فأجابه عن هذا الشعر وفيما رمى به بني هاشم ونسب إليهم الفضلُ بن العباس بن أبي لهب فقال:

فلا تسأَلونا سيفَكُمُ إِنَّ سيفَكُم *** أَضيعُ وأَلقاهُ لدى الرَوع صاحِبُه

سلَوا أهلَ مِصَر عن سلاح إِبْنِ أُختِنا *** فهم سَلَبوه سيفه وحرائبه

وكان وليُّ العهدِ بعدَ محمدٍ *** عليُّ وفي كلّ المواطن صاحبُه

عليُّ وليُّ الله أظهرَ دينَه *** وأنتَ الأشقين فيما تُحاربُه

وأنت امرؤٌ من أَهلِ صيفورَ مارحٌ *** فما لَكَ فينا مِنْ حَمِيمٍ تُعاتبُه

وقد انزلَ الرّحمنُ أَنَّكَ فَاسِقٌ *** فما لك في الإسلامِ سهم تُطالبُه

ص: 329

وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط المذكور أيضاً يحرض أخاه عمارة بن عقبة:

ألا إِنَّ خيرَ النَّاسَ بعدَ ثلاثةٍ *** قتيلُ التَجيبي الذي جاءَ من مصر

فإن يكُ ظني بأبنِ أُمّي صادقاً *** عمارةٍ لا يطلبُ بذحلٍ ولا وِتْرِ

بيتُ وأَوتارُ ابنِ عفانَ عندَه *** محيَّمه بين الخورنَقِ والقَصرِ

فأجابه الفضل بن عباس أيضاً:

أتطلبُ ثأراً لستَ مِنه ولا لَهُ *** وأينَ ابْنُ ذِكوانَ الصفوريّ من عمرو

كما أتصلَتْ بنتُ الحمارِ بإِمِهَا *** وتنسى أباها إذ تَسامى أولي الفَخْرِ

ألا إِنَّ خيرَ النَّاسِ بعدَ مُحمدٍ *** وصيُّ النبيّ المصطفى عند ذي الذْكرِ

وأول من صلّى وصنوُ نبيِّهِ *** وأوّلُ من أردى الغواةَ لدى بدرِ

فلو رأتِ الأنصارُ ظُلْمَ ابن عَمِّكُمُ *** لكانوا لَهُ من ظلمِهِ حَاضري النَّصرِ

كفى ذاكَ عيباً أَنْ يَشيروا بقتلِهِ *** وأَنْ يُسلِّموه للأحابيش من مصرِ

أقول: ولو لم يكن كلّما نقلنا من احداث عثمان أو بعضه ممّا يوجب خلعه والبراءة منه لوجب ان يكون الصّحابة على من قصده من البلاد متظلماً ممّا فعلوه وقدموا عليه وقد علمنا أن بالمدينة المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة لم ينكروا ذلك وصدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث ولم يقبلوا ما جعله عذراً بل أسلموه ولم يدفعوا عنه بل أعانوا قاتليه ولم يمنعوا من قتله وحصره ومنع الماء منه أنّهم متمكنون من خلاف ذلك وذلك أقوى الدليل على ما قلناه.

تبرير القاضي لأعمال عثمان:

وقد تكلف القاضى عبد الجبّار في الجواب عن بعض هذه الأُمور على أن إمامه قتل مظلوماً.

ص: 330

قال القاضي: فأمّا قولهم إنّه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأن يقتله ويقتل أصحابه فقد أنكر أشدّ التنكير حتى حلف عليه وبيَّنَ أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه ولا الغلام غلامه ولا الراحلة راحلته وكان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقبل عذره وذلك بَينِّ لأنّ قول كلّ أحد مقبول في مثل ذلك وقد علم أنّ الكتاب قد يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب.

ثمّ اعتذر عن قول من يقول قد علم أن مروان هو الذي زوّر الكتاب لأنّه الذي كان يكتب عنه فهلا أقام الواجب فيه؟ بأن قال: ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أنّ مروان هو الذي فعل ذلك لأنّه وإن غلب ذلك في الظن فلا يجوز أن يحكم به وقد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم وذلك ظلم لأنّ الواجب على الإمام أن يقيم الحدّ على من يستحقه أو التأديب ولا يحلّ له تسليمه إلى غيره فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحدّ ليفعله به وكان إذا لم يفعل والحال هذه يستحق التعنف.

ثم ذكر أنّ الفقهاء ذكروا في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قوداً ولادية ولا حدّاً فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحقّ القتل وإن استحقّ التعزير لكنّه عدل عن تعزيره لأنّه عن تعزيره لأنّه لم يثبت قال: وقد يجوز أن يكون عثمان ظنّ أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحاً لأمره لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله ولا يعلم كيف كان اجتهاده وظنّه وبعد فإن هذا الحديث من أجل ما نقموه عليه فإن كان شيء من ذلك يوجد خلع عثمان وقتله فليس إلّا ذلك وقد علمنا ان هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل ولا سيما قبل وقوع القتل المأمور به.

قال: فيقال لهم لو ثبت ذلك على عثمان أكان يجب قتله؟ فلا يمكنهم إدّعاء ذلك لأنّه بخلاف الدين ولا بدّ أن يقولوا: إن قتله ظلم

ص: 331

فكذلك في حبسه في الدار ومنعه من الماء فقد كان يجب أن يدفعٍ القوم عن كل ذلك وأن يقال إن من لم يدفعهم وينكر عليهم يكون مخطئاً وفي ذلك تخطئة أصحاب الرسول.

ثمّ ذكر أن مستحق القتل والخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب وأن أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين وقد تمكّن من منعهم وأطنب في ذلك إلى أن قال: وكلّ ذلك يدّل على كونه مظلوماً وأن ذلك كان من صنيع الجّهّال وأعيان الصحابة كارهون لذلك، ثمّ ذكر أن قتله لو وجب لم يجز أن يتولّاه العوام من الناس وأنّ الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة وإذا صحّ أن قتله لم يكن لهم فمنعهم والنكير عليهم واجب.

ثم ذكر أنّه لم يكن منه ما يستحق القتل من ردِّةٍ أوزناً بعد إحصان أو قتل نفسِ وأنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولّاه الإمام فقتله على كلّ حال منكر وإنكار المنكر واجب؛ قال: وليس أحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم ونظر في حالهم ولأنّه لو لم يفعل ذلك لم يحلّ لهم قتله لأنه إنّما يحلّ قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع.

قال: والمروي أنّهم أحرقوا بابه وهجموا عليه في منزله وبعجوه بالسيف والمشاقص فضربوا يد زوجته لما وقعت عليه وانتهبوا متاع داره ومثل هذه القتلة لا يحلّ في الكافر والمرتد فكيف يظن أنّ الصحابة لم ينكر ذلك ولم يعدّه ظلماً حتّى يقال أنّه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه ثمّ قصَّ شيئاً من قصته في تجمع القوم عليه وتوسط أمير المؤمنين عليه السلام لأمرهم وأنه بذل لهم ما أرادوه وأعتبهم وأشهد على نفسه بذلك حرّفه ولم يأتّ به على وجهه وذكر قصّة الكتاب الذي وجدوه بعد ذلك المتضمن لقتل القوم وذكر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام واقفه على الكتاب فحلف أنه ما كتبه ولا أمر به فقال له: فمن تتّهم؟ قال: ما أتّهم أحداً وأنّ للناس

ص: 332

لحيلاً وذكر أنّ الرواية ظاهرة بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدّت فإني تائب مستغفر قال: فكيف يجوز والحال هذه أن تهتك فيه حرمة الإسلام وحرمة البلد الحرام.

قال: ولا شبهة أنّ القتل على وجه الغيلة حرام لا يحلّ فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه ولولا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظناً منه بأن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثرة أنصاره وحكي أنّ الأنصار بذلت معونته ونصرته؛ وأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام بعث إليه الحسن عليه السلام فقال له: قل لأبيك فليأتني وأراد أمير المؤمنين عليه السلام المسير اليه فمنعه من ذلك ابنه محمد واستغاث بالنساء عليه حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمدّ يده إلى القبلة وقال: اللهم إنّي أبرأ إليك من دم عثمان.

ثم قال: فإن قالوا إنّهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض وأنه داخل تحت آية المحاربين، قيل لهم فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل لأن ذلك يجري مجرى الحدّ؛ قال: وكيف يُدَّعى ذلك والمشهور أنّه کان يمنع من مقاتلتهم حتى روي أنّه قال لعبيده ومواليه وقد همّوا بالقتال: أغمد سيفه فهو حرّ وقد كان مؤثراً للنكير لذلك الأمر إلا أنّه بما لا يؤدي إلى إراقة الدّماء والفتنة فلذلك لم يستعِنْ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان لمّا اشتدّ الأمر أعانه من عانه لأن عند ذلك تجب النّصرة والمعونة لا بأمره فحيث وقفت النّصرة على أمره امتنعوا وتوقفوا، وحيث اشتدّ الأمر كانت إعانته ممّن أدركه دون من لم يقدر ويغلب ذلك في ظنّه.

اعتراض الشريف المرتضى على القاضي:

قال علم الهدى في الشافي بعد ما نقل قول القاضي من المغني: أمّا قوله «إنّه انكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر وأصحابه وحلف أنّ الكتاب ليس كتابه ولا الغلام غلامه ولا الراحلة راحلته وأنّ أمير

ص: 333

المؤمنين عليه السلام قبل عذره» فأوّل ما فيه أنّه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأنّ جميع من روى هذه القصة ذكر أنّه اعترف بالخاتم والغلام والراحلة وإنّما أنكر أن يكون امر بالكتاب لأنّه روی أنّ القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة فجمعوا امير المؤمنين عليه السلام وطلحة والزبير وسعداً وجماعة الأصحاب ثمّ فكّوا الكتاب بمحضر منهم واخبروهم بقصة الغلام فدخلوا على عثمان والكتاب مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أهذا الغلام غلامك؟ قال: نعم؛ قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم؟ قال: أفأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا وحلف بالله أنّه ما كتب الكتاب ولا أمر به؛ فقال له: فالخاتم خاتمك؟ فقال: نعم؛ قال: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به؟

وفي رواية أخرى أنّه لما واقفه قال له عثمان أمّا الخط فخط كاتبي وأما الخاتم فخاتمي، قال: فمن تتّهم؟ قال: أتّهمك وأتّهم كاتبي فخرج امير المؤمنين عليه السلام غاضباً وهو يقول: بل هو امرك ولزم داره وقعد عن توسط امره حتى جرى ما جرى في امره واعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين عليه السلام إنّي أتهمك وتظاهره بذلك وتلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بُعْد امير المؤمنين عليه السلام عن التّهمة والظنّة في كلّ شيء ثمّ في أمره خاصة فإنّ القوم في الدفعة الأُولى أرادوا أن يعجلوا له ما اخروه حتى قام امير المؤمنين عليه السلام بأمره وتوسطه واصلحه واشار إليه بأن يقاربهم ويعتبهم حتى انصرفوا عنه وهذا فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن ولو كان عليه السلام وحاشا من ذلك متهماً عليه لما كان للتهمة مجال عليه في امر الكتاب خاصّة لأنّ الكتاب بخطّ عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ امير المؤمنين عليه السلام مروان وفي يد غلام عثمان ومختوم بخاتمه ومحمول على بعيره فأي ظنّ تعلق بأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المكان لولا العداوة وقلة الشكر للنعمة. ولقد قال له المصريون لما جحد ان يكون الكتاب كتابه شيئاً لا زيادة عليه في باب الحجّة لأنهم قالوا: إذا كنت ما كتبته ولا امرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما

ص: 334

يختمه بخاتمك وينفذه بيد غلامك على بعيرك بغير أمرك ومن تمّ عليه مثل ذلك لا يصلح أن يكون والياً على امور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كلّ حال وقد كان يجب على صاحب الكتاب ان يستحي من قوله: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره وكيف يقبل عذر من يتهّمه ويشنعه وهو له ناصح وما قاله امير المؤمنين بعد سماع هذا القول منه معروف.

وقوله إنّ الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشيء لأنّه لا يجوز التزوير في الكتاب والغلام والبعير وهذه الأمور إذا أضيف بعضها إلى بعض بَعُدَ فيها التزوير وقد كان يجب على كلّ حال أن يبحث عن القصّة وعمّن زوّرّ الكتاب وأنفذ الرسول ولا ينام عن ذلك ولا يقيم حتّى يعرف من أين دهى وكيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها ولا يغضى عن ذلك إغضاء خائف له ساتر عليه مشفق من بحثه وكشفه.

فأمّا قوله «أنّه وإن غلب في الظن أن مروان كتب الكتاب فإنّ الحكم بالظن لا يجوز تسليمه إلى القوم على ما ساموه إيّاه ظلم لأنّ الحدّ والتأديب إذا وجب عليه فالأمام يقيمه دونهم» فتعلل منه بالباطل لأنّا لا نعمل إلّا على قوله في أنّه لم يعلم أنّ مروان هو الذي كتب الكتاب وإنّما غلب فى ظنّه أما كان يستحقّ بهذا الظنّ بعض التعنيف والزجر والتهديد أو ما كان يجب مع وقوع التهمة وقوة الأمارات في أنّه جالب للفتنة وسبب الفرقة أن يبعده عنه ويطرده عن داره ويسلبه نعمته وما كان يخصّه به من إكرامه وما في هذه الأمور أظهر من أن ينبّه عليه.

فأمّا قوله «إنّ الأمر بالقتل لا يوجب قوداً ولا دية ولا سيما قبل وقوع القتل المأمور به» فهب أن ذلك على ما قال أما يوجب على الأمر بالقتل وبيّنا أنّه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث والكشف وتهديد المتهم وطرده وإبعاده والتبرأ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها.

فأما قوله: «إنّ قتله ظلم وكذلك حبسه في الدار ومنعه من الماء وإنّ استحقّ القتل أو الخلع لا يحلّ أن يمنع الطعام والشراب واطنابه في ذلك،

ص: 335

وقوله إنّ من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئاً، وقوله إن قتله أيضاً لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من النّاس» فباطل لأنّ الذين قتلوه لا ينكر أن يكونوا ما تعمدوا قتله وإنّما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر من أحداثه ويعتزل الأمر اعتزالاً يتمكنون معه من إقامة غيره فلج وصمم على الامتناع وأقام على أمرٍ واحدٍ فقصد القوم بحصاره إلى أن يلجئوه إلى خلع نفسه فأعتصم بداره واجتمع إليه نفر من أوباش بني أُميّة يدفعون عنه ثم يرمون من دنى من الدار فأنتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثمّ إلى القتل ولم يكن القتال ولا القتل مقصوداً في الأصل وإنّما أفضى الأمر إليهما بتدريج وترتيب وجرى ذلك مجرى ظالم غلب إنسانا على رحله ومتاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه ويدافعه ليخلص ماله من يده ولا يقصد إلى إتلافه ولا قتله فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذوراً وإنما خاف القوم في التأني به والصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم ويستقدم الجيوش إليه ولم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدي ذلك الى الفتنة الكبرى والبلية العظمى.

وأمّا منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلّا تضييقاً عليه ليخرج ويضطر إلى الخلع الواجب عليه وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات فتعذر إقامة الحدّ عليه لمكان الحرم؛ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أنكر منع الماء والطعام وأنفذ مَنْ مكّن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدّار من النساء والحرم والصبيان من لا يحلّ منعه الطعام والشراب ولو كان حكم المطالبة بالخلع والتجمع عليه والتظاهر فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر لأنكره أمير المؤمنين عليه السلام ومنع منه كما منع من غيره فقد روي عنه عليه السلام أنّه لما بلغه أنّ القوم قد منعوا مَنْ في الدار من الماء قال عليه السلام لا أرى ذلك في الدّار صبيان وعيال ولا أرى أن يقتل هؤلاء عطشاً بجرم عثمان فصرّح بالمعنى الذي ذكرناه ومعلوم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعداً على ذلك مشاوراً فيه.

فأما قوله «إنّ قتل الظالم إنّما يحلّ على سبيل الدفع» فقد بيّنا أنّه لا ننكر أن يكون قتله وقع على هذا الوجه لأنّ في تمسكه بالولاية عليهم وهو لا يستحقها

ص: 336

في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة.

فأما ما قصّه من قصّة الكتاب الموجودة فقد حرّفها لأنّا قد ذكر شرحها الذي وردت به الرواية وهو بخلاف ما ذكروه.

وأما قوله: «إنّه قال: إن كنت أخطأت أو تعمدت فإنّي تائب إلى الله استغفر» فقد أجابه القوم عن هذا فقالوا: هكذا قلت في المرّة الأولى وخطبت على المنبر بالتوبة والإستغفار ثمّ وجدنا كتابك بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك واستغفارك.

فأمّا قوله «إنّ القتل على وجه الغيلة لا تحلّ فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه» فقد بيّنا أنّه لم يكن على سبيل الغيلة وأنّه لا يمتنع أن يكون إنّما وقع على سبيل المدافعة.

فأمّا إدعاؤه أنّه منع من نصرته وأقسم على عبيده في ترك القتال فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر طلباً للسّلامة وظنّاً منه بأنّ الأمر يصلح والقوم يرجعون عمّا هم عليه وما همّوا به؛ فلمّا اشتد الأمر ووقع اليأس من الرجوع والنزوع لم يمنع أحداً من نصرته والمحاربة عنه، وكيف يمنع من ذلك وقد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره ويستصرخه والذي يدلّ على ذلك أنّه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلّا للوجه الذي ذكرناه دون غيره أنّه لا خلاف بين أهل الرواية في ان كتبه تفرّقت في الآفاق يستنصر ويستدعي الجيوش، فكيف يرغب عن نصرة الحاضر مَن يستدعي نصرة الغائب.

فأمّا قوله: (إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه حتّى منعه ابنه محمد» فقول بعيد مما جاءت به الروّاية جدّاً لأنّه لا اشكال في أمير المؤمنين عليه السلام لما واجهه عثمان بأنّه يتهمه ويستغشه انصرف غاضباً عاملاً على أنّه لا يأتيه أبداً قائلاً فيه ما يستحقه من الأقوال.

فأمّا قوله في جواب سؤال من قال إنّهم اعتقدوا فيه أنّه من المفسدين في الأرض وآية المحاربين تتناوله «وقد كان يجب أن يتولّى الإمام ذلك الفعل بنفسه

ص: 337

لأنّ ذلك يجري مجرى الحدّ» فطريف لأنّ الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوباً ثابتاً ولم يكن على مذهب اكثر القوم هناك إمام يقوم بالدفع عن الدين والذّب عن الامة جاز أن يتولى ذلك بنفوسها وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا كارهين لما جرى عليه وأنّهم كانوا يعتقدونه مُنكراً وظُلماً وهذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورة قبل النظر في الأخبار وسماع ما ورد من شرح هذه القصة لأنّه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزّهم وبحيث ينفذ أمرهم ونهيهم لا يجوز أن يتم ومعلوم ان نفراً من أهل مصر أهل مصر لا يجوز ان يقدموا المدينة ومعلوم ان نفراً من أهل الكوفة لا يجوز ان يقدموا المدينة وان يغلبوا جميع المسلمين على آرائهم ويفعلوا ما يكرهونه بإمامهم بمرأىً منهم ومسمع وهذا معلوم بطلانه بالبداهة والضرورة قبل مجيء الآثار وتصفح الأخبار وتأملها.

وقد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القاري مولى بني مخزوم قال: كان المصريون الذين حاصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن ابن عدیس البلوي وكنانة بن بشير الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي؛ والذين قدموا من الكوفة مائتين عليهم مالك بن الحرث الأشتر النخعي والذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ بهم إلى القتل ولعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه اولئك لانصرفوا وهذه الرّواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب اكثر ممّا تضمّنه غيرها.

وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن أبراهيم بن عبد الرّحمن قال: قلت له: كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ قال: إنما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروى عن أبي سعيد الخدري انه سئل عن مقتل عثمان هل شهده واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم شهده ثمانمائة؛ وكيف يقال: إن القوم كانوا كارهين وهؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كلّ واحد

ص: 338

منهم ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه؛ وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد الأمر لعثمان وجالبه إليه ومصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي وقد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ عثمان ذلك فبعث إلى بئر كان يسقي منها نِعَمَ عبد الرّحمن فمنع منها. ووصى عبد الرحمن أن لا يصلّي عليه عثمان فصلّى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص وقد كان حلف لما تتابعت أحداثه ألا يكلم عثمان أبداً.

وروى الواقدي قال: لما توفي أبو ذر بالرّبذة تذاكر أمير المؤمنين عليه السلام وعبد الرّحمن فعل عثمان فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هذا عملك فقال له عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي إنه خالف ما أعطاني.

فأمّا محمد بن مسلمة فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية: أردد عنّي فقال: لا والله لا أكذب الله في سنة مرّتين؛ وإنّما عني بذلك إنّه كان أحد من كلّم المصريين في الدّفعة الأولى وضمن لهم عن عثمان الرضا.

وفي رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يُؤتى وعثمان محاصر فيقال له: عثمان مقتول فيقول: هو قتل نفسه فإمّا كلام أمير المؤمنين عليه لطلحة والزّبير وعائشة وجميع الصحابة واحداً واحداً فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح ومن أراد أن يقف على أقوالهم مفصّلة وما صرحوا به من خلعه والإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه في هذا الباب.

مطاعن القاضي والرد عليه:

نقل عنه الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي انه قال: ونحن نقدم قبل الجواب عن هذه المطاعن مقدمات تبين بطلانها على الجملة ثمّ تتكلم على تفصيلها. حكي عن أبي عليّ أن ذلك لو كان صحيحاً لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلبوا رجلًا ينصب للإمامة وأن يكون ظهور ذلك كموته

ص: 339

لأنه لا خلاف انه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أنّ الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه فلمّا علمنا أن طلبهم لإقامة إمام كان بعد قتله ولم يكن من قبل والتمكن قائم فذلك من أدّل الدلالة على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث.

قال: وليس لأحد أن يقول لم يتمكنّوا من ذلك لأن المعلوم من حالهم وقد حاصروه ومنعوه التمكن من ذلك خصوصاً وهم يدّعون أن الجميع كانوا على حول واحد في خلعه والبراءة منه. قال: ومعلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها وقتل بل كانت تحصل من قبل حالاً بعد حال فلو كان ذلك يوجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه ولكان كبار الصحابة المقيمين بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد لأنّ أهل العلم والفضل بالنكير في ذلك أحقّ من غيرهم. قال: فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة والخلع من أوّل يوم حدث فيه منه ما حدث ولا ينتظر حصول غيره من الاحداث لأنّه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلّا وينتظر غيره. ثم ذكر أن امساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الخطأ إلى جميعهم والضلال فلا يجوز ذلك. وقال: ولا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك حصل في الوقت الذي منع لأنّ في جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدّم هذه الحال بل كلّها أو جلّها تقدم هذا الوقت وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في الوقت بما يذكرون من حديث الكتاب النافذ إلى ابن سرح بالقتل وما أوجب كون ذلك حدثاً يوجب كون غيره حدثاً فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل واحتمال المتقدّم للتأويل كأحتمال المتأخر وبعد فليس يخلو من أن يدّعوا أن طلب الخلع وقع من كلّ الأُمة أو من بعضهم فإنّ أدّعوا ذلك في بعض الامّة فقد علمنا أنّ الامامة إذا ثبتت بالإجماع لم يَجُز إبطالها بالخلاف لأنّ الخطأ جائز على بعض الأُمّة وإن أدّعوا في ذلك الإجماع لم يصحّ لأن من جملة الإجماع عثمان ومن كان ينصره ولا يمكن إخراجه من الإجماع بأنه يقال إنّه كان على باطل لأنّ بالاجماع يتوصّل إلى ذلك ولما يثبت. قال: على أن الظاهر من حال الصحابة أنّها كانت بين فريقين أمّا من ينصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنّه قال لعثمان ومن معه من الأنصار ائذن لنا ننصرك. وروي مثل ذلك عن ابن

ص: 340

عمر وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة والباقون يمتنعون انتظار الزوال العارض لا لأنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما فعلوا المعلوم من حالهم ذلك.

ثم ذكر ما روي من إنفاذ امير المؤمنين الحسن والحسين إليه وأنه لما قتل لامهما على وصول القوم إليه ظنّاً منه بأنّهما قصرا. وذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ستكون فتنة واختلاف وأن عثمان وأصحابه يومئذٍ على الهدى وما روي عن عائشة من قوله قتل والله مظلوماً. قال ولا يمتنع أن يتعلق بأخبار آحاد في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم وإن كان فيه رواية فمن الآحاد واذا تعارضت الروايات سقطت ووجب الرجوع إلى أمر ثابت وهو ما ثبت من أحواله السليمة ووجوب توليّه.

قال: وليس يجوز أن يعدل عن تعظيمه وصحته إمامته بأمور محتملة فلا شيء مما ذكروه إلّا ويحتمل الوجه الذي هو صحيح.

ثمّ ذكر أن للإمام أن يجتهد رأيه في الأُمور المنوطة به ويعمل فيها على غالب ظنّه وقد يكون مصيباً وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة وأكّد ذلك وأطنب فيه.

اعترض عليه في الشافي بقوله: فأما ما حكاه عن أبي علي من قوله: «لو كان ما ذكروه من الأحداث قادحاً لوجب من الوقت الذي ظهرت فيه أن يطلبوا رجلاً ينصبونه في الامامة لأن ظهور الحدث كموته قال فلما رأيناهم طلبوا إماماً بعد قتله دلّ على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث» فليس ذلك بشيء معتمد لأن تلك الأحداث وإن كان مزيلة عندكم لامامته وفاسخة لها ومقتضية لأن يعقدوا لغيره الامامة فأنهم لم يقدموا على نصب غيره مع تشبثه خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب وأرادوا أن يخلع نفسه حتّى تزول الشبهة وينشط من يصلح للإمامة لقبول العقد والتكفل بالأمر وليس يجري ذلك مجرى موته لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته ولا يبقي شبهة في خلو الزمان من إمام وليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده ويبقى معه الشبعة في

ص: 341

استمرار أمره وليس نقول: إنّهم لم يتمكنّوا من ذلك كما سأل نفسه بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من ارادتهم لحسم المواد وإزالة الشبهة وقطع أسباب الفتنة.

فأمّا قوله: «إنّه معلوم من هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها وقتل بل كانت تقع حالاً بعد حال فلو كانت توجب الخلع والبراءة لما تأخّر من المسلمين الإنكار عليه ولكان المقيمون بالمدينة من الصحابة أولى بذلك من الواردين من البلاد» فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلّا أنّه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخرّ لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه حتى زاد الأمر وتفاقم وبعد التأويل وتعذر التخريج لم يبقَ للظن الجميل طريق فحينئذٍ انكروا وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره من أن العدالة والطريقة الجميلة تتأوّل في الفعل والأفعال القليلة بحسب ما تقدم حسن الظنّ به ثمّ ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل والعمل على الظاهر القبيح.

على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحقّ كانوا معتقدين لخلعه من أوّل حَدْثٍ بل معتقدين لأن إمامته لم تثبت وقتاً من الأوقات وإنما منعهم من اظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف والتقيّة ولأنّ الاغترار بالرّجل كان عاماً فلما تبينّ أمره حالاً بعد حال واعرضت الوجوه عنه وقلَّتْ العاذلة قويت الكلمة في عزله وهذا إنّما كان في آخر الأمر دون أوّله فليس يقتضي الامساك إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه نسبة الخطأ إلى الجميع ما ظنّه.

فأمّا دفعه أن تكون الأُمة اجمعت على خلعه بإخراجه نفسه وخروج من كان في حيّزه عن القوم» فليس بشيء لأنّه إذا ثبت أن من عداه وعدا عبيدة والرهط من فجّار أهله وفسّاقهم كمروان ومن جرى مجراه كانوا مجمعين على خلعه فلا شبهة أن الحق في غير حيزّه لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب وجميع الأمّة على باطل وإنما يدعى أنه على الحق من تنازع في اجماع من عداه فأما مع تسليم ذلك فليس يبقى شبهة وما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع الشذاذ عنه والنفر القليل الخارجين منه ألا ترى أنهم لا يحلفون بخلاف سعد وولده

ص: 342

وأهله في بيعة أبي بكر لقلتهم وكثرة من بازائهم وكذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ويجعلونه شاذاً لا تأثير له فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان وهل هذا إلا تقلَّب وتلّون.

فأمّا قوله «إنّ الصحابة بين فريقين أما من ينصره كزيد بن ثابت وابن عمر وفلان وفلان والباقون ممتنعون بأنتظار الزوال العارض ولأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه» فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار يقاتلون عنه ويدفعون الهاجمين عليه فقط؛ فأمّا من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلاً لا يعدّ ناصراً وكيف يجوز ممن أراد نصرته وكان معتقداً لصوابه وخطأ الطالبين لخلعه أن يتوقف عن النصرة طلباً لزوال العارض وهل يراد النصرة إلّا لدفع العارض وبعد زواله لا حاجة إليها وليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها بل من كان معتقداً لها لا يحتاج حمله إلى اذنه فيها ولا يحفل بنهيه عنها لأنّ المنكر ممّا قد تقدّم أمر الله تعالى فيه بالنهي عنه فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره.

فأمّا زيد بن ثابت فقد روى ميله إلى عثمان فما نعني ذلك وبأزائه جميع الأنصار والمهاجرين ولميله إليه سبب معروف قد روته الرواة فإنّ الواقدي قد روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حوصر عثمان الحصار الأخير جاء إلى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلّمها في هذا الأمر فمضيا إليها وهي عازمة إلى الحجّ فكلّماها في أن تقيم وتذّب عنه فأقبلت على زيد بن ثابت فقالت: وما منعك يا أبن ثابت ولك الأساويف قد قطعها لك عثمان ولك كذا وكذا وأعطاك من بيت المال زهاء عشرة ألف دينار؟ قال زيد: فلم أرجع عليها حرفاً واحداً.

قال: وأشارت إلى مروان بالقيام فقام مروان وهو يقول متمثلاً حرق قيس على البلاد حتى إذا اضطرمت أجد ما؛ فنادته عائشة وقد خرج من العتبة: يا ابن الحكم أعليَّ تمثل الأشعار؟ قد والله سمعت ما قلت: أتراني في

ص: 343

شك من صاحبك؟ والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيطة عليها فألقيها في البحر الأخضر، قال زيد: فخرجنا من عندها على النّاس.

فأمّا ابن عمر فإنّ الواقدي أيضاً روى عن ابن عمر أنّه قال: والله ما كان منا إلّا خاذل أو قاتل والأمر في هذا أوضح من أن يخفى.

فأمّا ذكره إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين، فإنما انفذهما إن كان انفذهما ليمنعان من انتهاك حريمه وتعمد قتله ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع كيف وهو مصرّح بأنه بأحداثه مستحق للخلع والقوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون ويروحون إليه ومعلوم منه ضرورة أنّه كان مساعداً على خلعه ونقض أمره لا سيّما في المرّة الأخيرة.

فأمّا إدعاؤه أنّه لعن قتلته فهو يعلم ما في هذا من الرّوايات المختلفة التي هي أظهر من هذه الرواية وإن صحّت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمداً لقتله قاصداً إليه فإن ذلك لم يكن لهم.

فأمّا إدعاؤه أن طلحة رجع لمّا ناشده عثمان يوم الدار فظاهر البطلان غير معروف في الرواية والظاهر والمعروف أنّه لم يكن على عثمان أشدّ من طلحة يوم الدار ولا أغلظ ولو حكينا من كلامه فيه ما قد روي لا فنينا قطعة كبيرة من هذا الكتاب.

وقد روي: أنّ عثمان كان يقول الدار: اللهمّ اكفني طلحة ويكرر ذلك علماً بأنه أشدّ القوم عليه.

وروي أن طلحة كان عليه يوم الدار درع وهو يرامي الناس ولم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل.

فأمّا إدعاؤه من الرواية «عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه ستكون فتنة وأن عثمان وأصحابه يومئذٍ على الهدى) فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا

ص: 344

تكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه وخذله وكلام وجوه المهاجرين والأنصار فيه وبازاء هذه الرواية ما يملأ الكراريس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره ممّا يتضمن ضدّ ما تضمنته ولو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدّار وقد احتجّ عليهم بكلّ غث وسمين؛ وقبل ذلك لما خوصم طولب بأن يخلع نفسه؛ ولأحتحّ عنه بعض أصحابه وأنصاره وفي علمنا بأن شيئاً من ذلك لم يكن دلالة على أنّها مصنوعة.

فأما ما رواه عن عائشة من قولها: «قتل والله مظلوماً» فأقوال عائشة فيه معروفة معلومة وإخراجها قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول: هذا قميصه لم يبل وقد بليت سنته وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

فأما مدحها وثناؤها عليه فإنما كان عقيب علمها بأنتقال الأمر إلى امير المؤمنين عليه السلام والسبب فيه معروف.

فأمّا قوله: «لا يمتنع أن يتعلّق بأخبار الآحاد في ذلك لأنها في مقابلة ما يدّعونه ممّا طريقه أيضاً الآحاد» فواضح البطلان لأن إطباق الصحابة وأهل المدينة إلّا من كان في الدّار معه على خلافه وأنهم كانوا بين مجاهد ومقاتل مبارز وبين خاذل متقاعد معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار وكيف يدّعي أنها من جملة الأحاد حتى يعارض بأخبار شاذّة نادرة وهل هذا إلا مكابرة ظاهرة؟

فأما قوله: «إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة» فقد مضى الكلام في هذا المعنى وقلنا ان المحتمل هو ما لا ظاهر له والذي يتجاذبه الأُمور المختلفة فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملاً وإن سماه بهذه التسمية فقد بيّناه أنّه ممّا يعدل من اجله عن الولاية وفصلنا ذلك تفصيلاً بيّناً.

فأمّا قوله «إن للأمام أن يجتهد رأيه في الأُمور المنوطة به ويكون مصيباً وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة» فأوّل ما فيه أنّه ليس للإمام ولا غيره أن يجتهد في الأحكام ولا يجوز العمل فيها إلّا على النصوص. ثمّ إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن ههنا اموراً لا يسوغ فيها الاجتهاد حتى يكون من خبرنا عنه بأنّه اجتهد

ص: 345

فيها غير مصدِّق وتفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الأعذار في احداثه.

أقول: من نظر في فعل كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار بعثمان انهم حاصروه أربعين ليلة ومنعوه من الماء وخذلوه حتى قتل وقد كان يمكنهم الدفع عنه على انهم أعانوا قاتليه بل شهد قتله ثمانمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركوه بعد القتل ثلاثة أيام ولم يدفنوه حتى قام ثلاثة نفر من بني أُمية فأخذوه بالليل سرقة ودفنوه لكيلا يعلم بهم أحد ودفنوه في «حش كوكب» مقبرة يهودية يدلّ على عظم أحداثه وكبر معاصيه والحق كما قال محمد بن مسلمة برواية الواقدي المتقدمة إن عثمان قتل نفسه، على أن خاذليه كانوا خيراً من ناصريه لأن الذين نصروه كان اكثرهم فساقاً كمروان بن الحكم وأضرابه وخذله المهاجرون والأنصار، وكفى في المقام إعراض أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عن نصرته آخر الأمر مع قدرته على ذلك وقوله عليه السلام الله قتله. على أنه عليه السلام نصحه ونصره غير مرة وما أراد عثمان منه عليه السلام نصحاً وإلّا لتاب من قوادحه حقيقة ولما خدع النّاس مرة بعد مرة. ومَنْ تتبع كتب السير والتواريخ وسمع مقالات كبار الصحابة وعظماء القوم في عثمان وتوبته ظاهراً من احداثه دفعة ثمّ نقضه التوبة وفعله ما فعل دفعة اخرى دري أنّ عثمان اتخذ دین الله لعباً وبيت المال طعماً له ولبني أُميّة وأتباعه وذوي رحمه ممّن سمعت شناعة حالهم وبشاعة أمرهم، وأنّ اجوبة القاضي عبد الجبار واشياعه الواهية ناشئة من التّعصب، وأنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كان معتزلاً للفتنة بقتل عثمان وأنّه بَعُد عن منزله في المدينة حتى لا تتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة بالأمر على النّاس وأنّ الصحابة لما كان من أمر عثمان ما كان التمسوه وبحثوا عن مكانه حتّى وجدوه فصاروا إليه وسألوه القيام بالأُمّة. ونص أبو جعفر الطبري في التاريخ انه لما حوصر عثمان كان علي عليه السلام بخيبر وأن معاوية وأهل البصرة أتهموا عليّاً عليه السلام بدم عثمان اتباعاً لتسويلات شيطانية وأن إسناد دم عثمان إليه عليه السلام تهمة وبهتان ليس إلّا وهذه التهمة كفران النعمة وقلّة الشكر لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام نصر

ص: 346

عثمان من بدوِّ الأمر لما استنصره غير مرة حتى قال (علیه السلام): والله لقد دفعت عنه (يعني عن عثمان) حتّى خشيت أن أكون آثماً؛ ولعمري أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث فلما رأى عليه السلام أفعاله وأقواله كما سمعت خرج من عنده غاضباً وتركه مخذولًا حتى ذاق ما ذاق.

ثمّ ليعلم أن طلحة والزبير وعائشة فيما صنعوه في أيام عثمان من أوكد أسباب ما تمّ عليه من الخلع والحصر وسفك الدّم والفساد وذلك ظاهر بيّن لذوي العقول السليمة من آفة التعصب والتقليد وسيتضح أشد أيضاح في شرح الكتب الآتية.

واعلم أنّه ليس غرضنا من ذكر أحداث عثمان وما نقم النّاس منه إبطالاً لامامته بعد ظهورها منه فإن هذا البحث انما يختص بمن قال بإمامته قبل أحداثه ورجع عنها عند وقوع أحداثه وهم الخوارج ومن وافقهم وأما عندنا معاشر الإماميّة لم يثبت إمامة الرّجل وأشباهه وقتاً من الأوقات لأن الامامة عندنا رئاسة إلهية والله تعالى أعلم حيث يجعلها وأنّ الإمام يجب ان يكون منصوباً ومنصوصاً من الله تعالى ومعصوماً من جميع الذنوب ومُنزّهاً من الغيوب مطلقاً وانها عهد من الله لا يناله الظالمون فالحريّ بنا أن نعود إلى الشرح.

ص: 347

الفصل الخامس

فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1)؛ بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا، أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ ...

(فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلىَّ ينثالون علىَّ من كل جانب حتى لقد وُطىء الحسنان. وشُقَّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم) فاعل راعني محذوف أي شيء أو رائع. والناس: الواو للحال. و (عُرف الضبع): ما كثر على عنقها من الشعر وهي حيوان مفترس. و (إلى) متعلق بمحذوف حال من الناس أي متزاحمين إليّ. (وينثالون): يتتابعون مزدحمين و (شقّ) يُقال: شُقِّ فلان، اي: جُرح وخدش. (مجتمعين) حال ثانية. (عطفاي): جانباي. (كربيضة الغنم): يُقال: ربضت الدابة: إذا برکت. وربيضة الغنم: القطعة الرابضة من الغنم.

ص: 348


1- القصص - 83.

غضب المسلمون على عثمان وأفعاله ورغبوا إليه أن يصلح ويعدل فلم يرتدع ولم يسمع لهم فقتلوه. وذهب الثائرون إلى الامام ليبايعوه فرفض، حتى لا تقول الناس: ما بايعه احد من المسلمين إلا قتلة عثمان. ثم جاء المهاجرون والانصار يرجون علياً (علیه السلام) ويلحون عليه ان يقبل الخلافة ليلم شعث المسلمين ولأنه الوحيد الذي يؤمن للناس الحياة الحرة الكريمة، وحاول يمتنع فلم يجد إلى الامتناع سبيلا. ثم جلس على منبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وبويع عليه السلام (فلما نهضت بالأمر نكن طائفة)، يقال: نهض بالأمر: إذا قام به وتسلمه. ويُقال: نكث عهده إذا نقضه ولم يفِ به. والناكثون: علم على طلحة والزبير وعائشة.

كان هوى طلحة والزبير مع الثائرين على عثمان طمعاً بولاية الأمر بعده. ولكن المهاجرين والأنصار أبوا إلا علياً وتبعهم الناس. وبايعا الامام (علیه السلام) لأنه لا مفر لهما من ذلك، وكانت عائشة من أشد نساء النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على عثمان، وكانت تعترض على الكثير من اعماله حتى ظن كثير من الناس أنها كانت من المحرضين على الثورة ضده، وكانت تنكر على الأمام (علیه السلام) لأنه أبو الذرية الباقية للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ولم يتح لها الولد من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). ثم إن طلحة والزبير ندما على مبايعتهما علياً (علیه السلام) وثارا مع عائشة أوثارت عائشة معهما. واليهم أشار (علیه السلام) بقوله (نكثت طائفة)

(ومرقت اخرى) الواو للعطف، والجملة معطوفة على قوله «نكثت طائفة» يُقال: مَرَق من الدين: اذا خرج منه ببدعة، فهو مارق والمارقون، علَم على الخوارج اصحاب النهروان.

والطائفة الثانية التي ابتلي فيها الامام علي (علیه السلام) هي الخوارج. وفي صحاح البخاري وصحيح مسلم، إنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: الخوارج يخرجون على خير فرقة من الناس.

(وقسط آخرون) الواو للعطف، والجملة معطوفة على ما قبلها. يُقال: قسط الوالي: إذا جار أو عدل، والقاسطون: بمعنى الفاسقين، علَم

ص: 349

على أصحاب صفين الذين حاربوا الأمام (علیه السلام) بقيادة عمرو بن العاص ومعاوية.

والقاسطون هم الطائفة الثالثة التي خرجت على الأمام (علیه السلام)، وهم الفئة الباغية وذلك انه روي عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في الصحيحين البخاري ومسلم، انه قال: إن عماراً «تقتله الفئة الباغية» ومن المعروف ان عمار بن یاسر ابن أول شهيدين في الاسلام ياسر وسمية، قد قتل في صفين وهو يحارب تحت راية الامام (علیه السلام) وقتله جيش معاوية وابن العاص.

(كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول - الى قوله (علیه السلام) - وراقهم زبرجها)

و (بلي) حرف جواب تبطل النفي، وقد أبطلت «لم يسمعوا» يُقال: حلي الشيء في عيني فلان: أعجبه. ويُقال: راق الشراب: إذا صفا. والزبرج - بالكسر - الزينة.

من أقواله (علیه السلام): «ما كل ذي لب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ذي نظر ببصير». وأي انسان لا ينتفع بالتجارب، ويؤمن ويعمل بما يوحي به العقل والبديهة، ولا يتعظ ويعتبر بما يسمع ويرى فهو كمن لا عقل له، ولا سمع وبصر. قال عز من قائل: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (1). أي ان الناكثين والمارقين والقاسطين لم يسمعوا إنَّ هذه الدار انما هي دار ممر وإن الآخرة دار مقر، فعلى الانسان أن يعمل في دنياه لأخرته. وأتى الجواب الحاسم، انهم سمعوا ذلك وفهموه ولكنهم أغتروا بالدنيا وزخارفها ومباهجها وزينتها، ولم يفكروا بالآخرة بحسابها وعقابها. لذلك هم نكثوا البيعة وآخرون خرجوا من الدين، وآخرون ظلموا وجاروا فهم أهل دنيا يعملون لأجل رئاسة وزعامة في هذه الدار الفانية.9.

ص: 350


1- الاعراف - 179.

(أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر) «اما» حرف استفتاح. (فلق الحبة) شقها. (برأ النسمة) خلقها. (لولا) حرف امتناع لوجود. قيل: المراد بحضور الحاضر مَن حضر لبيعة الامام بالخلافة من المهاجرين والانصار، وقيل: بل المراد حلول الوقت الذي وقّته رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لقتال الأمام من بعده. وفي رأينا ان المراد بها الوضع الحاضر، وهو الفساد الذي كان سائداً ومنتشراً آنذاك. (وقيام الحجة بوجود الناصر). أي لا حجة ولا عذر عند الله لمن يسكت عن الفساد والضلال إذا وجد مَن يناصره ويؤازره، والأمام (علیه السلام) بعد أن رأى الفساد في الأرض، وبعد أن، وبعد أن عرضت عليه الخلافة، اصبح من واجبه أن يقبل وينهض ويردع المفسدين، ويرعى مصالح المسلمين. (وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم). أن لا يقاروا: أن لا يقروا ويسكتوا. والمراد بكظة الظالم: اعتداؤه على حقوق الناس، وبسعب المظلوم: هضم حقوقه. بعد أن قال الامام (علیه السلام): إن انكار المنكر حتم وواجب، بخاصة إذا وجد المنكر المناصر والمؤازر، بعد هذا أشار الى الدليل القاطع على هذا الوجوب واللزوم وهو ان الله سبحانه قد اخذ على العلماء عهداً أن يكونوا للمظلوم عوناً، وعلى الظالم حرباً. ومعنى كظة الظالم تخمته وبشمه، وكنى عليه السلام بها عن تماديه في العتو والطغيان، ومعنى سغب المظلوم جوعه وبؤسه. (لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز) لألقيت: جواب الشرط. والهاء في حبلها وغاربها وآخرها وأولها تعود الى الخلافة. والغارب: العنق أو على الظهر مما يلى العنق، ويريد بعفطة العنز: المخاط الذي تنثره العنز من أنفها عند العطاس.

ومعنى هذا الكلام مع ما قبله: انه لولا ما أوجب الله على الأمام من إنكار المنكر بعد ما أوكلوا اليه أمر الخلافة لكان موقفه منها كما كان من قبل لأن الدنيا بكاملها لا تعدل المخاط الذي تنثره العنز من أنفها عند العطاس. فعلى الانسان أن يضحي بنفسه وجاهه، وأهله وماله في سبيل الآخرة، في سبيل الجنة وحدها، ومرضاة الله وحده. هذه هي السمة البارزة التي طبعت

ص: 351

جميع حركاته وسكناته، وفي ضوئها يجب أن تفسر أقواله وأفعاله منذ يومه الأول مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى النفس الأخير من حياته.

ص: 352

من وحي المناسبة:

واعلم ان النّاس بعد قتل عثمان أتوا أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام منزله فقالوا إنّ هذا الرّجل قد قُتل ولا بدّ للنّاس من إمامٍ ولا يصلح لامامة المسلمين سواك ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليه السلام: لا حاجة لي في أمركم أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيتُ به فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك. فلمّا انصرفوا عنه عليه السلام كلَّم بعضهم بعضاً فقالوا: يمضي قتل عثمان في البلاد فيسمعون بقتله ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده فيثور كل رجل منهم في ناحية فلا نأمن ان يكون في ذلك الفساد فلنرجع إلى علي عليه السلام فلا نتركه حتى يبايع فيطمئنّ النّاس ويسكنون.

فاختلفوا إليه عليه السلام مراراً ثمّ أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنّه لا يصدح الناس إلّا بأمرة وقد طال الأمر فوالله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك فقال عليه السلام: ففي المسجد فانّ بيعتي لا تكون خفيّة ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين، قال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة ان يشغب عليه وأبي هو إلّا المسجد فلمّا دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه.

وروي إنه قال عليه السلام للنّاس - لما أُريد على البيعة بعد قتل عثمان: دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أُصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعَكم وأطوعَكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً. ورواه أبو جعفر

ص: 353

الطبري في التاريخ (1) أيضاً مسنداً.

بيعة طلحة والزبير علياً (علیه السلام)

بيعة طلحة (2) والزبير (3) علياً (علیه السلام)

بيعة طلحة (2) والزبير (3) علياً (علیه السلام)

قال الشيخ المفيد في الجمل: روى أبو إسحاق بن إبراهيم بن محمد الثقفي عن عثمان بن أبي شيبة عن إدريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم قال: جاء طلحة والزبير إلى عليّ عليه السلام وهو متعوذ بحيطان المدينة فدخلا عليه وقالا أبسط يدك نبايعك فإنّ النّاس لا يرضون إلّا بك فقال لهما: لا حاجة لي في ذلك وأنْ أكونَ لكما وزيراً خير من أن أكون لكما أميراً فليبسط قرشي منكما يده أُبايعه. فقالا أنّ النّاس لا يؤثرون غيرك

ص: 354


1- ص 356 ج 3 طبع مصر 1357 ه.
2- هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، أبو محمد القرشي التيمي. أمه: الصعبة بنت عبد الله بن مالك الحضرمية. يعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض. وهو من السابقين الأولين الى الاسلام، ولم يشهد بدراً لأنه كان بالشام. وبايع بيعة الرضوان. وأبلى يوم أُحد بلاءً حسناً ووقى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفسه، واتقى عنه النبل بيده حتى شلت أصبعه. وكان آدم حسن الوجه كثير الشعر ليس بالجهد القطط ولا السبط، وكان مربوعاً الى القصر أقرب، رحب الصدر عريض المنكبين، إذا التفت جميعاً، ضخم القدمين. مات في البصرة في وقعة الجمل بعد انهزام جيشه، وقاتله: مروان بن الحكم ثأراً لعثمان بن عفان.
3- هو: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الاسدي، يكنى أبا عبد الله. أمه: صفية بنت عبد المطلب عمة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). وهو ابن اخي أُم المؤمنين خديجة الكبرى. واسلم وهو ابن خمس عشرة سنة. وهاجر الى الحبشة والى المدينة. وشهد بدراً وكان عليه عمامة صفراء معتجراً بها وشهد أُحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وشهد فتح مصر. وكان قد هيأ لمعركة الجمل ثم ناداه الامام (علیه السلام) بعد ان صفت الجيوش فذكره بقول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ستقاتل علياً وانت له ظالم، فخرج ونزل بوادي السباع فلاق به ابن جرموز فقتله وجاء بسيفه الى الامام (علیه السلام) فقال: إن هذا سيف طالما فرّج الكرب عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الأولى من سنة ست وثلاثين. وكان عمره سبعاً وستين سنة. وكان اسمر معتول اللحم خفيف الحركة.

ولا يعدلون عنك إلى سواك فأبسط يدك نبايعك أوّل النّاس فقال: إنّ بيعتي لا تكون سراً فأمهلا حتّى أخرج إلى المسجد فقالا: بل نبايعك ههنا ثمّ نبايعك في المسجد فبايعاه أوّل النّاس ثمّ بايعه الناس على المنبر أوّلهم طلحة بن عبيد الله وكانت يده شلّاء فصعد المنبر إليه فصفق على يده ورجل من بني أسد يزجر الطير قائم ينظر إليه فلما رأى أوّل يد صفقت على يد أمير المؤمنين عليه السلام يد طلحة وهي شلّاء قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون أوّل يد صفقت على يده شلّاء يوشك أن لا يتمّ هذا الأمر ثمّ نزل طلحة والزبير وبايعه النّاس بعدهما.

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: لما قتل عثمان خرج عليّ عليه السلام إلى السوق وذلك يوم السبت لثمانية عشر ليلة خلت من ذي الحجة فأتبعه النّاس وبهشوا في وجهه فدخل حائط بني عمرو بن مبذول وقال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن أغلق الباب فجاء النّاس فقرعوا الباب فدخلوا فيهم طلحة والزبير فقالا: يا عليّ أبسط يدك فبايعه طلحة والزبير فنظر حبیب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع فقال: أوّل من بدأ بالبيعة يد شلّاء لا يتمّ هذا الأمر وخرج عليّ إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئاً على قوس فبايعه الناس.

وقال الطبري في نقل آخر: لما اختلف النّاس إليه عليه السلام مراراً للبيعة فقال عليه السلام لهم: إنكم قد اختلفتم إليّ وأتيتم وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم وإلّا فلا حاجة لي فيه؟ قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله فجاء فصعد المنبر فأجتمع النّاس إليه فقال: إنّي كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلّا أنّ اكون عليكم ألا وإنه ليس لي أمر دونكم إلّا أن مفاتيح مالكم معي ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم أرضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك إلّا نفيراً يسيراً كانوا عثمانيين منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والنّعمان بن بشير وزيد بن

ص: 355

ثابت ورافع بن خديج وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة. قال: فقال رجل لعبد الله بن حسن كيف أبى هؤلاء بيعة عليّ عليه السلام وكانوا عثمانيين؟ قال: أمّا حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع وأمّا زيد بن ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال فلما حوصر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرتين فقال أبو أيّوب: ما تنصره إلّا أنّه أكثر لك من العضدان؛ فأمّا كعب بن مالك فأستعمله على صدقة مزنية وترك ما أخذ منهم له.

وفي نقل آخر فيه: بايع النّاس علياً عليه السلام بالمدينة وتربص سبعة نفر فلم يبايعوه منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وصهيب وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وسلمة بن وقش واسامة بن زيد ولم يتخلف أحد من الأنصار إلّا بايع.

وفي الامامة والسياسة أنّ عمّار بن ياسر أستأذن عليّاً عليه السلام أن يكلم عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وسعد بن وسعد بن أبي وقاص في بيعتهم علّياً عليه السلام فأبوا - وبعد نقل مكالمة عمّار لكلّ واحد منهم - قال: فانصرف عمار إلى عليّ عليه السلام فقال له عليّ عليه السلام: دع هؤلاء الرهط أمّا ابن عمر فضعيف. وأمّا سعد فحسود، وذنبي إلى محمّد بن مسلمة إنّي قتلت أخاه يوم خيبر: مرحب اليهودي.

ما تكلم به عند تخلف بعضهم عن مبايعته (علیه السلام):

في الارشاد للمفيد قدّس سره: ومن كلامه عليه السلام حين تخلّف عن بيعته ما رواه الشعبي قال: لما اعتزل سعد ومن سمّيناه امير المؤمنين عليه السلام وتوقفوا عن بيعته حمد الله واثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وإنّما الخيار للنّاس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم وإنّ على الإمام الاستقامة وعلى الرعية التسليم وهذه بيعة عامّة من رغب عنها رغب عن دين الاسلام واتبع غير سبيل أهله ولم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحد وإني

ص: 356

أريدكم لله وانتم تريدونني لأنفسكم وأيم الله لأنصحنَّ للخصم ولأنصفنَّ للمظلوم وقد بلغني عن سعد وابن مسلمة واسامة وعبد الله وحسان بن ثابت امور كرهتها والحق بيني وبينهم.

أقول: أتى بكلامه هذا الشريف الرضي في النهج. ولكن لم يفسر هو ولا أحد من الشرّاح الذين نعرفهم سببه كما فسره المفيد على أن بينهما تفاوتاً في الكيف والكم فإنّه نقل هكذا: ومن كلامه عليه السلام: لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحداً إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم أيها النّاس أعينوني على انفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً.

وفي كتاب الجمل للشيخ الأجل المفيد قدّس سرّه: انه روى أبو مخنف لوط بن يحيى عن محمد بن عبد الله بن سوادة وطلحة بن الأعلم وأبي عثمان اجمع قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الواقض بن حرب والنّاس يلتمسون من يجيبهم لهذا الأمر فلا يجدون فيأتون المصريون عليّاً عليه السلام فيختبىء عنهم ويلوذ بحيطان المدينة فاذا لقوه يأبى عليهم.

قال: وروى اسحاق بن راشد عن الحميد عبد الرّحمن عن أبن أثري قال: ألا أحدثك بما رأتْ عينايَ وسمعتْ أذنايَ لما التقى الناس عند بيت المال قال عليّ عليه السلام لطلحة: ابسط يدك أبايعك فقال طلحة: أنت أحق بهذا الأمر مني وقد اجتمع لك من هؤلاء النّاس ما لم يجتمع لي، فقال عليّ عليه السلام: ما خشيناك غيرك فقال طلحة: لا تخش فوالله لا تؤتى من قبلي، وقام عمّار بن ياسر والهيثم بن التيهان ورفاعة بن أبي رافع ومالك بن عجلان وأبو أيّوب خالد بن زيد فقالوا لعليّ عليه السلام إنّ هذا الأمر قد فَسُد وقد رأيت ما صنع عثمان وما أتاه من خلاف الكتاب والسّنة فأبسط يدك لنبايعك لتصلح من أمر الأمة ما قد فسد؛ فأستقال عليّ عليه السلام وقال: قد رأيتم ما صُنِعَ بي وعرفتم رأي

ص: 357

القوم فلا حاجة لي فيهم فأقبلوا على الأنصار وقالوا يا معشر الأنصار أنتم أنصار الله وأنصار رسوله وبرسوله اكرمكم الله وقد علمتم فضل عليّ وسابقته في الاسلام وقرابته ومكانته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ وَليَ ينالكم خيراً.

فقال القوم: نحن أرضى النّاس به ما نريد به بدلاً ثم اجتمعوا عليه وما يزالوا به حتّى بايعوه.

وبأسناده عن ابن أبي الهيثم بن التيهان قال: يا معشر الأنصار وقد عرفتم رأيي ونصيحتي ومكاني من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واختياره إيّاي فردّوا هذا الأمر إلى أقدمكم إسلاماً وأولاكم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلّ الله أن يجمع به إلْفَتكم ويحقن به دماءكم فأجابه القوم بالسمع والطاعة.

وروى سيف عن رجاله قال: اجتمع الناس إلى علي عليه السلام وسألوه أن ينظر في امورهم وبذلوا له البيعة فقال لهم: التمسوا غيري؛ فقالوا له: ننشدك الله أما ترى الفتنة ألا تخاف الله في ضياع هذه الأمّة فلما ألحوا عليه قال لهم: إنّي لو أجبتكم حملتكم على ما أعلم وإن تركتموني كنت لأحدكم «كأحدكم ظ».

قالوا: قد رضينا بحلمك «بحملك ط» وما فينا مخالف لك فأحملنا على ما تراه ثمّ بايعه الجماعة.

أقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كره إجابة القوم على الفور والبدار لعلمه بعاقبة الأُمور وإقدام القوم على الخلاف عليه وللظاهرة له والشنآن والقوم ألحّوا فيما دعوه إليه ولم يمنعهم إباؤه عليه السلام من الإجابة عن الإلحاح فيما أرادوا وذكرّوه بالله عزّ وجلّ وقالوا له إنّه لا يصلح لإمامة المسلمين سواك ولانجد أحداً يقوم بهذا الأمر غيرك يصلح أُمور الدّين ويقوم لحياطة الاسلام والمسلمين فبايعوه عليه السلام على السمع والطاعة.

ص: 358

التحقيق في أول خطبة قالها (علیه السلام):

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (1) بويع عليّ عليه السلام يوم الجمعة لخمسٍ بقين من ذي الحجة فأوّل خطبة خطبها عليّ عليه السلام حين استخلف فيما كتب به إلى السرى عن شعيب عن سيف عن سلیمان ابن أبي المغيرة عن عليّ بن الحسين: حمد الله واثنى عليه فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشر فخذوه بالخير ودعوا الشرّ والفرائض أدّوها إلى الله سبحانه يؤدّكم إلى الجنّة، إنّ الله حرم حرماً غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلّها وشدّ بالاخلاص والتوحيد للمسلمين والمسلم من سلم النّاس من لسانه ويده إلّا بالحقّ لا يحل أذى المسلم إلّا بما يجب بادروا أمر العامة، وخاصةّ أحدِكم الموتَ فإنّ النّاس أمامكم وإن ما من خلفكم إلا الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا فإنّما ينتظر النّاس آخرتهم اتقوا الله عباده في عباده وبلاده إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله عز وجلّ ولا تعصوه وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فدعوه واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.

ثمّ إنّ ابن قتيبة الدينوري قال في الامامة والسياسة: وذكروا أنّ البيعة لما تمت بالمدينة خرج عليّ عليه السلام إلى المسجد الشريف فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعد النّاس من نفسه خيراً وتألفهم جهده ثمّ قال عليه السلام: لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم والسنتهم هم أعظم النّاس حيطة من ورائه وإليهم سعيه وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّه يقبض عنهم يداً واحدة وتقبض عنه أيدٍ كثيرة ومن بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله تعالى يخلف الله له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته، واعلموا أن لسان صدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال فلا يزدادنّ أحدكم كبرياء ولا عظمة في نفسهولا يغفل

ص: 359


1- ص 457 ج 3 طبع مصر 1357 ه.

أحدكم عن القرابة أن يصلها بالذي لا يزيده إنْ أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه، وأعلموا أنّ الدنيا قد أدبرت والآخرة قد أقبلت ألا وإن المضمار اليوم والسبق غداً ألا وإن السبقة الجنّة والغاية النار ألّا إنّ الأمل يُسهي القلب ويكذب الوعدويأتي بغفلة ويورث حسرة فهو غرور وصاحبه في عناء فأفزعوا إلى قوام دينكم وإتمام صلاتكم وأداء زكاتكم والنّصيحة لامامكم وتعلّموا كتاب الله وأصدقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم وأدّوا الأمانات إذا ائتمنتم وارغبوا في ثواب الله وارهبوا عذابه واعملوا الخير تجزواخيراً يوم يفوز بالخير من قدم الخير.

ثمّ أنّ المفيد قدّس سره قال في الجمل (1): قوله عليه السلام في أوّل خطبة خطبها بعد قتل عثمان وبيعة النّاس له: قد مضت امور كنتم فيها غير محمودي الرأي أما لو أشاء لقلت ولكن عفى الله عما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه وفرجه يا ويله لو قصّ جناحه وقطع رأسه لكان خيراً له - حتّى انتهى إلى قوله - وقد أهلك الله فرعون وهامان وقارون، فما يتصل بهذه الخطبة إلى آخرها.

الناكثان

وأعلم أنّ ظاهر الفتنة بالبصرة إنما أحدثه طلحة والزبير من نكث البيعة التي بذلاها لأمير المؤمنين عليه السلام طوعاً واختياراً وإيثاراً. وخروجهما عن المدينة إلى مكة مظهران ابتغاء العمرة فلما وصلاها اجتمعا عائشة وعمّال عثمان الهاربين بأموال المسلمين إلى مكّة طمعاً فيها احتجبوا منها وخوفاً من أمير المؤمنين عليه السلام واتفاق رأيهم على الطلب بدم عثمان والتعلّق عليه في ذلك بانحياز قتلة عثمان ومحاصريه وخاذليه من المهاجرين والأنصار وأهل مصر والعراق وكونهم جنداً له وأنصاراً واختصاصهم به في حربهم منه ومظاهرته لهم بالجميل وقوله فيهم الحسن

ص: 360


1- ص 77 طبع النجف

من الكلام وترك إنكار ما منعوه بعثمان و الأعراض عنهم في ذلك، و شبهوا بذلك على الضعفاء واغتروا به السفهاء وأوهموهم بذلك لظلم عثمان والبراءة من شيء يستحق به ما صنع به القوم من حصاره وخلعه والمنازعة إلى دمه فأجابهم إلى مرادهم من الفتنة مَنْ استغووه بما وصفناه وقصدوا البصرة لعلمهم أن جمهور أهلها من شيعة عثمان وأصحاب عامله ابن عمه كان بها وهو عبد الله بن كريز بن عامر وكان ذلك منهم ظاهراً وباطناً بخلافه كما تدلّ عليه الأخبار ويوضح عن صحة الحكم به الاعتبار، ألا ترى أن طلحة والزبير وعائشة بأجماع العلماء بالسير والآثار هم الذين كانوا أوكد السبب لخلع عثمان وحصاره وقتله وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يزل يدفعهم عن ذلك ويلطف في منعهم عنه ويبذل الجهد في إصلاح حاله مع المنكرين عليه العائبين له بأفعاله والمحتجين عليه بأقواله فلنذكر طائفة من الأخبار في سبب نكث طلحة والزبير البيعة وإثارتهما فتنة الجمل.

في الامامة والسياسة للدينوري: ذكروا أنّ الزبير وطلحة أتيا علّياً عليه السلام بعد فراغ البيعة فقالا: هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟ قال عليّ عليه السلام: نعم على السمع والطاعة على ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان؛ فقالا: لا ولكنّا بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر. قال عليّ عليه السلام: لا، ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأولاد. قال: وكان الزبير لا يشكّ في ولاية العراق وطلحة في اليمن فلما استبان لهما أنّ عليّاً غير مولّيهما شيئاً أظهرا الشكاة فتكلم الزبير في ملأ من قريش، فقال: هذا جزاؤنا من عليّ، قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب وسببنا له القتل وهو جالس في بيته وكفى الأمر فلما نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا، فقال طلحة: ما اللوم إلّا أنا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا وبايعناه وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا. قال: فانتهى قولهما إلى عليّ عليه السلام فدعا عبد عبد الله بن عبّاس وكان قد استوزره، فقال له: بلغك قول

ص: 361

هذين الرجلين؟ قال: نعم، بلغني قولهما. قال: فما ترى؟ قال: أرى أنّهما أحبّا الولاية فولَّ البصرة الزبير وولَّ طلحة الكوفة فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان؛ فضحك عليّ عليه السلام ثمّ قال: ويحك إنّ العراقين بهما الرجال والأموال ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ويضربا الضعيف بالبلاء ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي. قال: ثمّ أتى طلحة والزبير إلى عليّ عليه السلام فقالا: يا أمير المؤمنين ائذن لنا إلى العمرة فإنْ تقم إلى انقضائها رجعنا إليك وإن تسر نتبعك؛ فنظر إليهما علي عليه السلام وقال: نعم، والله ما العمرة تريدان وإنّما تريدان أن تمضيا إلى شأنكما، فمضيا.

وقال المسعودي في مروج الذهب: أنهما أستأذنا عليّاً عليه السلام في العمرة فقال عليه السلام لعلّكما تريدان البصرة والشام فأقسما أنّهما لا يريدان غير مكة.

أقول: وسيأتي طائفة من الأقوال والأخبار فيهما بعد هذا وإنّ ما يستفيد المتتبع الخبير من سبب نكث الرجلين البيعة هو يأسهما ممّا كانا یرجوان به من قتل عثمان بن عفان من البيعة لأحدهما بالامامة وأتسّاق الأمر في البيعة لعليّ بن أبي طالب ثمّ أنّه عليه السلام ما وليهما شيئاً لأنّهما لم يكونا أهلاً لذلك لما قد سمعت، وتأكد سبب النكث بذلك.

في الجمل للمفيد: لما أيس الرجلان من نيل ما طمعا فيه من التآمر على الناس والتمّلك لأمرهم وبسط اليد عليهم ووجدا الأمة لا تعدل بأمير المؤمنين عليه السلام أحداً وعرفا رأي المهاجرين والأنصار ومن ذلك أرادا الحظوة عنده بالبدار إلى بيعته وظنا بذلك شركاءه في أمره وتحققه أنهما لا یلیان معه أمراً، واستقر الأمر على أمير المؤمنين عليه السلام ببيعة المهاجرين والأنصار وبني هاشم وكافة النّاس إلّا من شذّ من بطانة عثمان

ص: 362

وكانوا على خفاء لاشخاصهم مخافة على دمائهم من أهل الايمان، فصارا الى أمير المؤمنين عليه السلام فطلب منه طلحة ولاية العراق وطلب منه الزبير ولاية الشام فأمسك عليّ عليه السلام عن إجابتهما في شيء من ذلك فأنصرفا وهما ساخطان وقد عرفا ما كان غلبِ في ظنهما قبل من رأيه فتركاه يومين أو ثلاثة أيّام ثمّ صارا إليه وأستأذنا عليه فأذن لهما وكان في علية داره فصعدا إليه وجلسا عنده بين يديه وقالا يا امير المؤمنين قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدّة وما جئناك لتدفع الينا شيئاً نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.

فقال عليه السلام قد عرفتها ما لي بينبع فإنّ شئتما كتبت لكما منه ما تيسّر، فقالا: لا حاجة لنا في مالك بينبع فقال عليه السلام لهما: ما أصنع؟ فقالا له: أعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية. فقال عليه السلام: سبحان الله وأيّ يدٍ لي في بيت المال وذلك للمسلمين وأنا خازنهم وأمين لهم؛ فإن شئتما رقيتها المنبر وسألتها ذلك ما شئتها فإن أذنوا فيه فعلت، وأنّى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم ولكني أبدي لكما عذراً فقالا ما كنّا بالذي نكلفك ذلك ولو كلفناك لما أجابك المسلمون.

فقال لهما: فما أصنع؟ قالا: قد سمعنا ما عندك ثمّ نزلا من العليّة وكان في أرض الدار خادمة لأمير المؤمنين عليه السلام سمعتهما يقولان: والله ما بايعنا بقلوبنا وإنّ كنّا بايعنا بألسنتنا؛ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (1) فتركاه يومين آخرين وقد جاءهما الخبر بإظهار عائشة بمكّة ما أظهرته من كراهة أمره وكراهة قتل عثمان والدعاء إلى نصره والطلب بدمه وأنّ عمّال عثمان قد هربوا من الأمصار إلى مكة بما احتجبوه من أموال 0.

ص: 363


1- الفتح - 10.

المسلمين و لخوفهم من أمير المؤمنين عليه السلام ومن معه من المهاجرين والأنصار وأنّ مروان بن الحكم أبن عم عثمان ويعلى بن منبه خليفته وعامله كان باليمن وعبد الله بن عامر بن كريز ابن عمه وعامله وكان على البصرة وقد اجتمعوا مع عائشة وهم يديرون الأمر في الفتنة فسارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وتيممّا وقت خلوته فلما دخلا عليه قالا يا أمير المؤمنين قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة لبعد العهد بها إئذن لنا فيها.

فقال عليه السلام: والله ما تريدان العمرة ولكنّكما تريدان الغدرة وإنّما تريدان البصرة. فقالا: اللهم غفراً ما نريد إلّا العمرة. فقال عليه السلام إحلفا لي بالله العظيم إنكما لا تفسدان علىَّ أمر المسلمين ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة فبذلا ألسنتهما بالأيمان المؤكّدة فيما استحلفها عليه من ذلك.

فلما خرجا من عنده عليه السلام لقيهما ابن عباس (1) فقال لهما: اذن ر

ص: 364


1- هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابو العباس القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). وأمه: لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية وهو ابن خالة خالد بن الوليد. وكان يُسمى البحر لسعة علمه وغزارته ويُسمى حبر الأمة. ولد ابن عباس والنبي وأهل بيته بالشعب من مكة فأتى به النبي فحنكه بريقه وذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات. وروي انه رأى جبرائيل مرتين في منامه. نقل عن عبيد الله بن عتبة: كان ابن عباس قد فات الناس بخصالٍ: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج اليه من رأيه، وحلم ونسب، وتأويل، ما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا اعلم بشعر ولا عربية، ولا بتفسير القرآن، ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أثقب رأياً فيما احتيج اليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً ايام العرب، وما رأيت عالماً جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً. وكان ملازماً للامام علي (علیه السلام) واستعمله (علیه السلام) على البصرة، وحضر معه الجمل وصفين والنهروان. توفي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وكان له من العمر ثلاث عشرة سنة، ولما توفي ابن عباس كان له من العمر سبعين سنة وذلك سنة ثمانٍ وستين بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية، فأقبل طائر أبيض فدخل في أكفانه فما خرج منها حتى دفن معه فلما سوي التراب عليه، قال ابن الحنفية: مات والله اليوم حبر تبر الأمة. وكان جميلاً أبيض طويلاً مشرباً صفرة جسيماً وسيماً صبيح الوجه فصيحاً، وكان قد عمي في آخر حياته، فقال في ذلك: إن يأخذ الله من عينيّ نورهما *** ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكيّ وعقلي غير ذي دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور

لكما أمير المؤمنين؟ فقالا: نعم. فدخل على أمير المؤمنين فأبتدأه عليه السلام فقال: يا ابن عبّاس! أعندك الخبر؟ قال: قد رأيت طلحة والزبير فقال عليه السلام: أنهما استأذناني في العمرة فأذنت لهما بعد ان استوثقت منهما بالايمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً والله يا ابن عبّاس وإنّي أعلم أنّهما ما قصدا إلّا الفتنة فكأني بهما وقد سارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي فإنّ يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك وسيفسدان هذان الرجلان على أمريّ ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري.

قال عبد الله بن عبّاس: إذا كان ذلك يا أمير المؤمنين معلوم فلِمَ أذنت لهما وهلّا حبستهما وأوثقتهما بالحديد وكفيت المسلمين شرّهما؟

فقال عليه السلام: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم بدءا بالسيئة قبل الحسنة وأُعاقب على الظنة والتهمة ثم وآخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله لا عدلت عما أخذ الله عليّ من الحكم والعدل ولا ابتدأ بالفصل يا ابن عبّاس انني اذنت لهما وأعرف ما يكون منهما ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنّهما ولأخيبنّ ظنّهما ولا يلقيان من الأمر مناهما وأنّ الله يأخذهما بظلمهما لي ونكثهما بيعتي وبغيهما عليّ.

أقول: وقد علمت سابقاً ممّا نقلنا من الفريقين أنّ طلحة كان أوّل من رمى بسهم في دار عثمان وقال: لا ننعمنّه عيناً ولا نتركه يأكل ولا يشرب، ولما حيل بين أهل دار عثمان وبين الماء فنظر الزبير نحوهم وقال (وحيل بينهم وبين ما يشتهون﴾ الآية، وغير ذلك ممّا قالوا لعثمان

ص: 365

وفعلوا به ممّا لا حاجة إلى إعادته ثمّ دريت أنهما أوّل من بايع عليّاً عليه السلام على ما قد فصلّناه وبينا ثمّ نكثا بیعته بالسبب الذي ذكرناه والعجب وأنهما مع ما فعلا بعثمان جعلا دم عثمان مستمسكاً ونهضا إلى طلب دمه فحاربا أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته الموحدين المسلمين ومن تأمّل حق التأمل في جميع ما قدمنا علم أنّهما وأضرابهما لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدّين ولا نصيحة للمسلمين وأنّ الذي أظهروه من الطلب بدم عثمان إنّما كان تشبيهاً وتلبيساً على العامّة والمستضعفين. نعوذ بالله من همزات الشياطين ونسأله أن لا يجعل الدّنيا أكبر همّنا فإنها رأس كلّ خطيئة واسّها ...

الامام علي (علیه السلام) وعائشة:

قد علمت ممّا سبق أن عائشة كانت أوّل من طعن على عثمان وأطمع النّاس فيه وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً وصرّحت بأنه طاغية وامرت بقتل عثمان ونادته بقولها: يا غدر يا فجر وأخرجت له قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونعليه وقالت له أنها لم تَتَغيَّر وأنت غيرت سنته، ونهت ابن عباس عن أن یرد الناس عن قتل الطاغية تعني بالطاغية عثمان وغيرها ممّا نقلناها من الفريقين. هذا طور.

ثمّ لما قتل عثمان بن عفان خرج البغاة إلى الآفاق فلمّا وصل بعضهم إلى مكّة سمعت بذلك عائشة فأستبشرت بقتله وقالت قتلته عماله إنّه أحرق كتاب الله وأمات سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتله الله، فقالت للناعي: ومن بايع النّاس؟ فقال لها الناعي: لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبد الله نعاجاً لعثمان وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شكّ أن الناس قد بايعوه فقالت إيّ هذا لأصيبع وجدوك لها محسناً وبها كافياً، ثمّ قالت شدّوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجّه إلى منزلي.

فلما شدوا رحالها واستوت على مركبها سارت حتّى بلغت شرقاء (موضع معروف بهذا الاسم) لقيها إبراهيم بن عبيد بن أمّ كلاب فقالت: ما الخبر؟

ص: 366

فقال: قُتل عثمان، قالت: قُتل نعثل، فقالت: أخبرني عن قصتّه وكيف كان أمره؟ فقال لها: لمّا أحاط النّاس بالدار رأيت طلحة بن عبد الله قد غلب على الأمر واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن وتهيأ ليبايع له فلمّا قتل عثمان مال النّاس إلى عليّ بن أبي طالب ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره وخرجوا في طلب عليّ يتقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر حتّى أنا علياً وهو في بيت سكن فيه فقالوا له بايعنا على الطاعة لك فتفكر ساعة فقال الأشتر: يا علىّ إنّ النّاس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن يختلف الناس. قال وكان في الجماعة طلحة والزبير فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعليّ كلام قبل ذلك، فقال الأشتر لطلحة: قم يا طلحة فبايع ثمّ قم يا زبير فبايع فما تنتظران فقاما فبايعا وأنا أرى أهديهما على يد عليّ يصفقانهما ببيعته ثمّ صعد عليّ بن أبي طالب المنبر فتكلّم بكلام لا أحفظ إلّا أنّ النّاس بايعوه يومئذٍ على المنبر وبايعوه من الغد فلمّا كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي.

فقالت: يا أخا بني بكر أنت رأيت طلحة بايع عليّاً؟ فقلت: إيّ والله رأيته بايعه وما قلت إلّا رأيت طلحة والزبير أوّل من بايعه فقالت: إنّا الله أكره والله الرّجل وغصب عليّ بن أبي طالب أمرهم وقتل خليفة الله مظلوماً، ردّوا بغالي فرجعت إلى مكّة، قال: وسرت معها فجعلت تسألني في المسير وجعلت أخبرها ما كان فقالت لي هذا بعهدي وما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه یوم أُحد؛ قلت: فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع ذو بلاء وعناء. فقالت يا أخا بني بكر لا نسألك غير هذا، حتّى اذا دخلت مكّة فسألك الناس ما ردّ أُمّ المؤمنين فقل: القيام بدم عثمان والطلب به.

وجاءها يعلى بن منبه فقال لها: قد قتل خليفتك الذي تحرضين على قتله فقالت: برأت إلى الله ممّن قتله، قال: الآن، ثمّ قال لها: أظهري البراءة

ثانيا من قاتله.

فخرجت عائشة إلى المسجد فأبتدأت بالحجر فتسترت فيه ونادى مناديها باجتماع النّاس إليها فلمّا اجتمعوا تكلمت من وراء الستر وجعلت تتبرأ ممّن

ص: 367

قتل عثمان وتدعو إلى نصرة عثمان وتنعاه إلى النّاس وتبكيه وتشهد أنّه قتل مظلوماً.

وجاءها عبد الله بن الحضرمي عامل عثمان على مكّة فقال: قرّت عينك قتل عثمان وبلغت ما أردت من أمره؛ فقالت: سبحان الله أنا طلبت قتله إنّما كنت عاتبة عليه من شيء أرضاني فيه قتل والله من خير من عثمان بن عفان وأرضى عند الله وعند المسلمين والله ما زال قاتله (تعني أمير المؤمنين علياً عليه السلام) مؤخراً منذ بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن توفي عدل عنه الناس على خيرة من أصحاب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يرونه أهلاً للأمر ولكنه رجل يحب الإمرة والله لا تجتمع عليه ولا على أحد من ولده إلى قيام الساعة. ثمّ قالت: معاشر المسلمين أنّ عثمان قتل مظلوماً، ولقد قتل عثمان من اصبع عثمان خير منه وجعلت تحرّض الناس على خلاف أمير المؤمنين وتحثّهم على نقض عهده.

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: إنّ عائشة لما انتهت الى سرف راجعة في طريقها إلى مكّة لقيها عبد بن أمّ كلاب (1) وهو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى أمّه فقالت له مهيم (2)؟ قال قتلوا عثمان فمكثوا ثمانياً؛ قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز اجتمعوا على عليّ بن أبي طالب فقالت: والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تمَّ الأمر لصاحبك ردّوني ردّوني فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً والله لأطلبنَّ بدمه، فقال لها ابن أمّ كلاب: ولِمَ؟ فوالله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر قالت: إنهم استتابوه ثمّ قتلوه وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن ض.

ص: 368


1- هذا الرجل ذكر اسمه في الامامة والسياسة: عبيد، وفي الجمل للمفيد: ابراهيم بن عبد بن ام کلاب.
2- مهيم على وزان جعفر كلمة استفهام يستفهم بها معناها ما حالك، وما شأنك وما حدث، وما الخبر، وامثالها المناسبة للمقام. قولها: ليت أن هذه انطبقت على هذه. تعني أنّ السماء انطبقت علی الأرض.

أُمّ كلاب:

منكِ البِداءُ ومنكِ الغِيرَ *** ومنكِ الرّياحُ ومنكِ المَطرْ

وأنتِ أمرتِ بِقَتْلِ الإمامِ *** وقلت لنا إنّه قد كفرْ

فهبنا أطعناكِ في قتلِهِ *** وقاتلُهُ عندَنا مَنْ أَمرْ

ولم يسقط السقف من فوقنِا *** ولم تنكسفْ شمسُنا والقمرْ

وقد بايعَ النَّاسُ ذا تِدْرَإ *** يُزيلُ الشبا ويقيمُ الصَّعرْ

ويَلْبِسُ للحربِ أثوابها *** وما مَنْ وفَّى مثل مَنْ قد غَدرْ

فانصرفتْ إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر فسترت واجتمع اليها النّاس فقالت: يا أيها النّاس إن عثمان قتل مظلوماً ووالله لأطلببَّن بدمه.

خروج عائشة وطلحة والزبير واتباعهم واشياعهم من مكة الى البصرة

لمّا تمّ أمر البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام وأيس طلحة والزّبير ممّا كانا يرجوان به من قتل عثمان من البيعة لأحدهما بالإمامة وتحققت عائشة تمام الأمر الأمير المؤمنين عليه السلام وعرف عمال عثمان أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يقرّهم على ولاياتهم وانهم إن ثبتوا في أماكنهم أو صاروا إليه طالبهم الخروج ممّا في أيديهم من اموال الله تعالى وحذروا من عقابه على تورطهم في خيانة المسلمين عمل كلّ فريق منهم على التحرز منه واحتال في الكيد له واجتهد في تفريق النّاس عنه فسار القوم من كلّ مكان إلى مكّة استعاذة بها وسكنوا إلى ذلك المكان وعائشة بها وطمعوا في تمام كيدهم لأمير المؤمنين للتحيز إليها والتمويه على الناس بها وجعلت عائشة تحرّض الناس على خلاف أمير المؤمنين وتحثهم على نقض عهده ولحق إلى مكّة جماعة من منافقي قريش وصار إليها عمّال عثمان الذين هربوا من أمير المؤمنين عليه السلام ولحق بها عبد الله بن عمر بن الخطّاب وأخوه عبيد الله ومروان بن الحكم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أُميّة وانحازوا إليها وجعلوها الملجأ لهم فيما دبّروه من كيد أمير المؤمنين عليه السلام.

ص: 369

ولمّا عرف طلحة والزبير حال القوم عمدا على اللحاق بها، والتعاضد على شقاق أمير المؤمنين فأستاذنا أمير المؤمنين في العمرة كما نقلنا آنفاً وسارا إلى مكة خالعين الطاعة وناكثين البيعة وكان ظهورهما الى مكّة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر فلمّا وردا إليها فيمن تبعهما من أولادهما وخاصتهما طافا بالبيت طواف العمرة وسعيا بين الصفا والمروة وبعثا إلى عائشة عبد الله بن الزّبير بالخروج على أمير المؤمنين عليه السلام.

وفي الاحتجاج روى الشّعبي عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي قال: كنت بمكة مع عبد الله بن الزّبير وطلحة والزبير فأرسلا إلى عبد الله بن الزّبير وأنا معه فقالا له: إن عثمان قتل مظلوماً وإنّا نخاف أمر أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يختلّ بهم، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعلّ الله أن يرتق بها فتقاً ويشعب بها صدعاً.

قال: فخرجنا نمشي حتّى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير معها في سترِها وجلست على الباب فأبلغها ما أرسلا به إليها، فقالت: سبحان الله، والله ما أمرت بالخروج وما تحضرني من أمهات المؤمنين إلّا أمّ سلمة فإن خرجتْ خرجتُ معها فرجع إليهما فبلّغهما ذلك فقالا ارجع فلتأتها فهي أثقل عليها منّا فرجع إليها فبلغها فأقبلت حتّى دخلّت على أمّ سلمة فقالت أمّ سلمة: مرحباً بعائشة والله ما كنت لي بزوّارة فما بدا لكِ؟ قال: قدم طلحة والزّبير فخبرا أنّ أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً، فصرخت أمّ سلمة صرخة اسمعت من في الدّار، فقالت: يا عائشة أنتِ بالإمس تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أمير المؤمنين قبل مظلوماً فما تريدين؟ قالت: تخرجين معنا فلعلَّ الله أن يصلح بخروجنا أمر أُمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: يا عائشة أتخرجين وقد سمعتِ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعنا؟

نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت أتذكرين يوماً كان نوبتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمٍ فصنعت حريرة في بيتي فأتيت بها وهو يقول: والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تتنايح كلاب ماء بالعراق يقال

ص: 370

له: الحوأب أمرأة من نسائي في فئة باغية فسقط الاناء من يدي فرفع رأسه إليَّ وقال: ما لكِ يا أم سلمة؟ فقلت: يا رسول الله ألا يسقط الاناء من يدي وأنت تقول ما تقول؟ ما يؤمنني أن أكون أنا هي؟ فضحكتِ أنتِ فالتفتَ فقال: مِمَّ تضحكين يا حميراء السّاقين إني أحسبك هي.

ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسري بنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكان كذا وكذا وهو بيني وبين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يحدّثنا فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي فرفع مقرعة كانت معه فضرب بها وجه جملك وقال: أما والله ما يومه منك بواحد ولا بليته منك بواحدة إنّه لا يبغضه إلّا منافق كذّاب.

وأنشدك بالله أتذكرين مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قبض فيه فأتاه أبوك يعوده ومعه عمر وقد كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام يتعاهد ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونعله وخفّه ويصلح ما دهی (1) منها، فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي حضرمية وهو يخصفها خلف البيت فأستأذنا عليه فأذن لهما فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال: أحمد الله قالا: لا بدّ من الموت قال: صلى الله عليه وآله وسلم: أجل لا بدّ من الموت: قالا يا رسول الله فهل استخلفت أحداً؟ قال: ما خليفتي فيكم إلّا خاصف النّعل فمرّا على عليّ عليه السلام وهو يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّ ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه.

ثمّ قالت أمّ سلمة: يا عائشة أنا أخرج على عليّ عليه السلام بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فرجعت إلى منزلها وقالت: يا ابن الزّبير ابلغهما إنّي لست بخارجة من بعد الذي سمعته من أُمّ سلمة فرجع فبلغهما قال: فما انتصف الليل حتّى سمعنا رغاء أبلها ترتحل فأرتحلت معها. ه.

ص: 371


1- دهی كوعى وولي انخرق وانشق واسترخى أباطيه.

وجعل عبد الله بن أبي ربيعة يحرّض النّاس على الخروج وكان قد صحب مالاً جزيلاً فانفقه في جهاز النّاس إلى البصرة، وكان يعلى بن منبه التميمي عاملاً لعثمان على الجند فوافى الحج وذلك العام فلمّا بلغه قول ابن أبي ربيعة خرج من داره وقال: أيّها النّاس من خرج لطلب دم عثمان فعليَّ جهازه وحمل معه عشرة آلاف دينار فجعل يعطيها الناس واشترى أربعمائة بعير وأناخها بالبطحاء وحمل عليها الرّجال.

ولما اتصل أمير المؤمنين عليه السلام خبر ابن أبي ربيعة وابن منبه وما بذلاه من المال في شقاقه والإفساد عليه قال: والله إن ظفرت بابن منبه وابن أبي ربيعة لأجعلنّ أموالهما في سبيل الله، ثمّ قال: بلغني ان ابن منبّه بذل عشرة آلاف دينار في حربي من أين له عشرة آلاف دينار؟ سرقها من اليمن ثمّ جاء بها لئن وجدته لأخذته بما أقرّ به.

ولمّا رأت عائشة اجتماعهم بمكّة من مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام تأهبت للخروج ومناديها يقول: من كان يريد المسير فليسر فإنّ أُم المؤمنين سائرة إلى البصرة تطلب بدم عثمان فلمّا تحقق عزم القوم على المسير الى البصرة اجتمع طلحة والزبير وعائشة وخواصّهم وقالوا نحب أن نسرع النهضة إلى البصرة فإن بها شيعة عثمان وعامله عبد الله بن عامر، وقد عمل على استمداد الجنود من فارس وبلاد المشرق لمعاونتنا على الطلب بدم عثمان وقد كاتبنا معاوية بن أبي سفيان أن ينفذ لنا الجنود من الشام فإن أبطأنا من الخروج خفنا من أن يدهمنا علىٌّ بمكّة أو في بعض الطريق فيمن يرأى رأيه خوفاً من أن يفرّق كلمتنا وإذا اسرعنا المسير إلى البصرة وأخرجنا عامله منها وقتلنا شيعته بها واستعنا بأمواله منها كنّا على الثقة من الظفر بأبن أبي طالب وإن أقام بالمدينة سيّرنا إليه جنوداً حتّى نحاصره فيخلع نفسه أو نقتله كما قتل عثمان وإن سار فهو كاليء ونحن حامون وهو على ظاهر البصرة ونحن بها متحصنون فلا بد له إلّا أن يريح المسلمين من فتنته.

ص: 372

قتال عثمان بن حنيف مع الناكثين:

ثم لما تجهز القوم وعبوا العسكر وخرجوا إلى البصرة لاثارة الفتنة وإنارة الحرب وكانت عائشة معهم على الجمل الأدبّ انتهوا في اللّيل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب عليه ناس من بني كلاب فعوت كلابهم على الركب حتى نفرت صعاب ابلها فقالت: ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها: الحوأب فأسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك فأمسكت زمام بعيرها فقالت وإنها لكلاب الحوأب ردّوني ردّوني إلى حرم رسول الله لا حاجة لي في المسير فإنّي سمعت رسول الله يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبّ التي تنبحها كلاب الحوأب فيقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة.

فقال ابن الزبير: بالله ما هذا الحوأب ولقد غلط فيما أخبرك به وكان طلحة في ساقة النّاس فلحقها فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب فلفقوا لها خمسين أعرابياً جعلوا لهم جعلاً فحلفوا لها أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت لوجهها. قال المسعودي في مروج الذهب: شهد مع ابن الزبير وطلحة خمسون رجلاً ممّن كان معهم فكان ذلك أوّل شهادة زور أُقيمت في البصرة. انتهى كلامه.

وقال الدّينوري في الإمامة والسياسة: فقال لها محمّد بن طلحة: تقدّمي رحمك الله ودعي هذا القول. وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفته أوّل الليل وأتاها ببينّة زور من الأعراب فشهدوا بذلك فزعموا أنّها أوّل شهادة زور شهد بها في الاسلام.

قال الدينوريُّ في الإمامة والسياسة: لمّا نزل طلحة والزبير وعائشة البصرة اصطفَّ لها النّاس في الطريق - إلى أن قال: أتاهم رجل من أشراف البصرة بكتاب كان كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما ردّك على ما كنت عليه؟ وكنتَ أمسِ تكتب إلينا تؤلّبنا على قتل عثمان وأنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه، وقد زعمتها أنَّ علياً دعاكما إلى أن تكون البيعة لكما قبله إذ كنتما أسنَّ منه، فأبيتها إلّا أن تقدَّماه لقرابته وسابقته، فبايعتماه فكيف تنكثان بيعتكما بعد الذي

ص: 373

عرض عليكما؟

قال طلحة: دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها وبايعه الناس، فعلمنا حين عرض علينا أنّه غير فاعل، ولو فعل أبى ذلك المهاجرون والأنصار وخفنا أن نرّد بيعته فنقتل، فبايعناه كارهين.

قال: فما بدا لكما في عثمان؟ قال: ذكرنا ما كان من طعننا عليه وخذلاننا إيّاه فلم نجد من ذلك مخرجاً إلا الطلب بدمه. قال: ما تأمرانني به؟ قال: بايعنا على قتال عليّ ونقض بيعته. قال: أرأيتما إن أتانا بعدكما من يدعونا الى ما تدعوانا إليه ما نصنع؟ قالا: لا تبايعه. قال: ما أنصفتما، أتأمرانني أن أُقاتل علياً وانقض بيعته وهي في أعناقكما وتنهياني عن بيعة من لا بيعة له عليكما؟ أما إنّا قد بايعنا عليّاً فإن شئتما بايعنا كما بيسار أيدينا.

ونذكر ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وغيره من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام عن تاريخ أبي جعفر الطبري وجمل المفيد ومروج الذّهب للمسعوديّ وغيرها من كتب نقلة السير والآثار على الاختصار بما أتّفق عليه حاملو الأخبار.

قال المفيد في الجمل: روى الواقدي وأبو مخنف عن أصحابها والمدائني وابن دأب عن مشايخهما بالأسانيد التي اختصرنا القول بأسقاطها، واعتمدنا فيها على ثبوتها في مصنفات القوم وكتبهم فقالوا: إنَّ عائشة وطلحة والزبير لمّا ساروا من مكّة إلى البصرة أعدوا السير مع مَنْ اتّبعهم من بني أميّة وعمّال عثمان وغيرهم من قريش، حتّى صاروا إلى البصرة، فنزلوا حفر أبي موسى.

فبلغ عثمان بن حنيف وهو عامل البصرة يومئذٍ وخليفة أمير المؤمنين عليه السلام وكان عنده حكيم بن جبلة، فقال له حكيم: ما الذي بلغك؟ فقال: خبّرت أنَّ القوم قد نزلوا حفر أبي موسى، فقال له حكيم: ائذن لي أن أسير اليهم فإني رجل في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عثمان: توقف عن ذلك حتى أراسلهم.

ص: 374

فأرسل إلى عمران بن حصين وأبي الأسود الدؤلي فذكر لهما قدوم القوم وسألهما المسير إليهم وخطابهم على ما قصدوا به وكفّهم عن الفتنة فخرجا حتى دخلا على عائشة فقالا لها: يا أُمّ المؤمنين ما حملك على المسير؟ فقالت: غضبت لكما من سوط عثمان وعصاه ولا أغضب أن يُقتل، فقالا لها: وما أنتِ من سوط عثمان وعصاه إنّما أنت حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّا نذكرك الله أن تُهرق الدّماء في سبيلك، فقالت: وهل من أحد يقاتلني؟ فقال لها أبو الأسود الدؤليُّ: نعم والله قتالاً أهونه شديد.

ثمَّ خرجا من عندها فدخلا على الزبير وبعده على طلحة وجعلا يعدّدان لهما مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله، فقالا لهما: ننشدكما الله ان تهرق الدِّماء في سبيلكما، فأبيا النصح والاعراض عن الفتنة فآيسا منهما فخرجا من عندهما حتى صارا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه الخبر فأذن عثمان للنّاس بالحرب.

ولما بلغ عائشة رأي ابن حنيف في القتال، ركبت الجمل وأحاطتها القوم وسارت حتى وقفت بالمربِد واجتمع اليها الناس حتى امتلأ المربد بهم فتكلّمت وكانت جهوريّة يعلو صوتها كثرة كأنّه صوت امرأة جليلة فحمدت الله عزّ وجلَّ وأثنت عليه وقالت:

أمّا بعد فإنَّ عثمان بن عفان قد كان غيّر وبدّل فلم يزل يغسّله بالتوبة حتى صار كالذَّهب المصفىّ، فعدوا عليه وقتلوه في داره، وقتل ناس معه في داره ظلماً وعدواناً، ثمَّ آثروا عليّاً فبايعوه من غير ملأ من الناس ولا شوري ولا اختيار فابتزّوا الله أمرهم وكان المبايعون له يقولون: خذها إليك واحذرنّ أبا حسن، إنّا غضبنا لكم علي عثمان من السوط فكيف لا نغضب لعثمان من السيف إنَّ الأمر لا يصحُّ حتى يردُّ الأمر إلى ما صنع عمر من الشورى فلا يدخل فيه أحد سفك دم عثمان.

فقال بعض النّاس: صدقْتِ، وقال بعضهم: كذبْتِ، واضطربوا بالفعال وتركتهم وسارت حتّى أتت الدباغين، وقد تحيز الناس بعضهم مع

ص: 375

طلحة والزبير وعائشة، وبعضهم متمسّك ببيعة امير المؤمنين عليه السلام والرضا به.

فسارت من موضعها ومن معها وأتبّعها على رأيها ومعها طلحة والزبير ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير حتى أتوا دار الامارة، فسألوا عثمان بن حنيف الخروج عنها، فأبى عليهم ذلك، واجتمع إليه أنصاره وزمرة من أهل البصرة فأقتتلوا قتالاً شديداً حتى زالت الشمس، وأصيب يومئذٍ من عبد القيس خاصّة خمسمائة شيخ مخضوب من أصحاب عثمان بن حنيف وشيعة امير المؤمنين عليه السلام سوى من أُصيب من سائر الناس، وبلغ الحرب بينهم التزاحف إلى مقبرة بني مازن ثمَّ خرجوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة وهي سلعة دار الرزق، فاقتتلوا قتالاً شديداً كثر فيه القتلى والجرحى من الفريقين.

ثم أنّهم تداعوا إلى الصلح ودخل بينهم الناس لما رأوا من عظيم ما ابتلوا به فتصالحوا على أنَّ لعثمان بن حنيف دار الامارة والمسجد وبيت المال، وطلحة والزبير وعائشة ما شاؤ وا من البصرة ولا يحاجّوا حتى يقدم أمير المؤمنين عليه السلام فإن احبّوا فعند ذلك الدخول في طاعته، وإن أحبّوا أن يقاتلوا وكتبوا بذلك كتاباً بينهم وأوثقوا فيه العهود وأكدّوها وأشهدوا الناس على ذلك ووضع السلاح وأمن عثمان بن حنيف على نفسه وتفرَّق الناس عنه، ونقل الكتاب في تاريخ الطبري بتمامه.

ثمّ طلب طلحة والزبير أصحابهما في ليلة مظلمة باردة ذات رياح وندى حتّى أتوا دار الامارة وعثمان بن حنيف غافل عنهم، وعلى باب الدار السبابجة يحرسون بيوت الأموال، وكانوا قوماً من الزّط من أربع جوانبهم ووضعوا فيهم السيف فقتلوا أربعين رجلاً منهم صبراً، تولى منهم ذلك الزبير خاصّة.

ثمّ هجموا على عثمان فأوثقوه رباطاً وعمدوا إلى لحيته وكان شيخاً كثّ اللّحية فنتفوها حتّى لم يبقَ منها شيء ولا شعرة واحدة وقال طلحة: عذِّبوا الفاسق وانتفوا شعر حاجبيه وأشفار عينيه وأوثقوه بالحديد.

ص: 376

وفي الإمامة والسياسة للدينوري: أنَّ طلحة والزبير ومروان بن الحكم أتوه نصف اللّيل في جماعة معهم في ليلة مظلمة سوداء مطيرة، وعثمان نائم فقتلوا أربعين رجلاً من الحرس، فخرج عثمان فشدَّ عليه مروان فأسره وقتل أصحابه فأخذه مروان فنتف لحيته ورأسه وحاجبيه فنظر عثمان بن حنيف إلى مروان فقال: إِنْ فُتَّني بها في الدُّنيا لم تفتني بها في الآخرة.

نفسية طلحة والزبير من خلال موقف:

فلمّا أصبحوا اجتمع الناس إليهم وأذَّن مؤذِّن المسجد لصلاة الغد، فرام طلحة أن يتقدّم للصلاة بهم فدفعه الزبير وأراد أن يصلّي بهم فمنعه طلحة، فما زالا يتدافعان حتّى كادت الشمس أن تطلع، فنادى أهل البصرة: الله الله يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة نخاف فوتها، ثمَّ اتفّقوا على أن يصلّي بالناس عبد الله بن الزبير يوماً ومحمد بن طلحة يوما.

ثمّ بلغ حكيم بن جبلة العبدي رحمه الله ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وشيعة أمير المؤمنين عليه السلام، فنادى في قومه يا قوم انفروا إلى هؤلاء الضّالّين الظّالمين الذين سفكوا الدَّم الحرام، وفعلوا بالعبد الصالح واستحلّوا ما حرَّم الله عزّ وجلّ، فأجابه سبعمائة رجل من عبد قيس، وأقبل عليهم طلحة والزبير و من معهما واقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت بينهم الجرحى والقتلى.

ثمَّ إِنَّ القوم غلبوا على بيت المال فمانعهم الخزّان والموكّلون به، فقتل القوم سبعين رجلا منهم، وضربوا رقاب خمسين من السبعين صبراً من بعد الأسر وممّن قتلوه حكيم بن جبلة العبدي رحمه الله وكان من سادات عبد القيس وزهّاد ربيعة ونسّاكها ومن شيعة أمير المؤمنين عليه السلام.

وقال المسعودي في مروج الذهب: وهؤلاء أول من قتلوا ظلماً في الاسلام.

ص: 377

ثمَّ الظاهر من مراد المسعودي بقوله: وهؤلاء أول من قتلوا ظلماً في الاسلام أنّهم أوّل من قتلهم المسلمون ظلماً، وإلّا فإنَّ ياسراً أبا عمار رحمه الله وسميّة أُمّه هما أوَّل قتيلين في الاسلام قتلهما الكفّار.

ثمَّ لما أخذ القوم عثمان بن حنيف قال طلحة والزبير لعائشة: ما تأمرين في عثمان؟ فقالت: اقتلوه قتله الله، وكانت عندها أمرأة من أهل البصرة فقالت لها: يا أُمّاه أين يذهب بك؟ اتأمرين بقتل عثمان بن حنيف وأخوه سهل خليفة على المدينة وله مكانة من الأوس والخزرج ما قد علمت، والله لئن فعلت ذلك ليكونن له صولة بالمدينة يقتل فيها ذراري قريش، فآب إلى عائشة رأيها وقالت: لا تقتلوه ولكن احبسوه وضيّقوا عليه حتى أرى رأيي.

فحبس أيّاماً، ثمَّ بدا لهم في حبسه وخافوا من أخيه أن يحبس مشايخهم بالمدينة ويوقع بهم، فتركوا حبسه فخرج حتى جاء إلى امير المؤمنين عليه السلام وهو بذي قار فلمّا نظر إليه امير المؤمنين عليه السلام وقد نكل به القوم بكي. وقال: يا عثمان بعثتك شيخاً ملتحياً فرددت أمرد إليّ، اللهمَّ إنّك تعلم أنّهم اجترأوا عليك واستحلّوا حرماتك، اللهمَّ اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي وعجّل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي.

ولمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام قبيح ما ارتكب القوم من قتل من قتلوا من المسلمين صبراً وما صنعوا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن حنيف وتعبئتهم للقتال، عبأ عليه السلام الناس للقتال وسار من ذي قار وقدم صعصعة بن صوحان بكتاب إلى طلحة والزبير وعائشة يعظّم عليهم حرمة الإسلام ويخوفّهم فيما صنعوه وقبيح ما ارتكبوه.

قال صعصعة رحمه الله: فقدمت عليهم فبدأت بطلحة وأعطيته الكتاب وأدَّيت الرسالة فقال: الآن حين غضب ابن أبي طالب الحرب ترفق لنا، ثمَّ جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة، ثمَّ جئت إلى عائشة فوجدتها أسرع الناس إلى الشّر، فقالت: نعم، قد خرجت للطلب بدم عثمان والله لأفعلنَّ وأفعلن.

ص: 378

فعدت إلى امير المؤمنين عليه السلام فلقيته قبل أن يدخل البصرة فقال عليه السلام: ما وراءك يا صعصعة؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت قوماً ما يريدون إلّا قتالك، فقال عليه السلام: الله المستعان.

كتاب أمير المؤمنين «علیه السلام» الى طلحة والزبير وعائشة

أقول: ما نقلناه ههنا ذكره المفيد في الجمل ولم ينقل الكتاب الذي كتبه إلى طلحة والزبير وعائشة وأدّاه صعصعة اليهم والظاهر أنّ هذا الكتاب هو الذي نقله الدينوري في الامامة والسياسة (1) وإن لم يتعرَّض بأنَّ الكتاب الذي كتبه اليهم كان صعصعة حامله، ولكن يلوح للمتتبّع في الأخبار أنَّ الكتاب هو ما في الامامة والسياسة، قال الدِّينوري.

لمّا بلغ عليّاً عليه السلام تعبئة القوم عبّاً الناس للقتال ثمَّ كتب إلى طلحة والزبير.

أمّا بعد فقل علمتها أنّي لم أرد الناس حتّى أرادوني، ولم أُبايعهم حتى بايعوني وإنكما لممّن أراد وبايع، وإنَّ العامّة لم تبايعني لسلطان خاصّ، فإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتها لي عليكما السبيل بأظهاركم الطاعة وإسراركما المعصية، وإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا الى الله من قريب، إنك يا زبير لفارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحواريه، وإنك يا طلحة لشيخ المهاجرين وإنَّ دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه [بعد] إقراركما به وقد زعمتها أنّي قتلت عثمان فبيني وبينكما فيه بعض من تخلفٌ عني وعنكما من أهل المدينة، وزعمتها أنّي آويت قتلة عثمان فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ثمّ يخاصموا إلىَّ قتلة أبيهم وما أنتما وعثمان إنْ كان قتل ظالماً أو مظلوماً وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين: نكث بيعتكما، وإخراجكما أُمّكما.

وكتب إلى عائشة.ه.

ص: 379


1- ص - 70 - ج 1 طبع مصر 377 ه.

أمّا بعد فإنّك خرجت غاضبة لله ولرسوله تطلبين امراً كان عنك موضوعاً، ما بال النساء والحرب والاصلاح بين الناس، تطلبين بدم عثمان ولعمري لمن عرضّك للبلاء وحملك على المعصية أعظم إليك ذنباً قتلة من عثمان، وما غضبت حتى أغضبت وما هجت حتى هيجت، فأتقي الله وارجعي الى بيتك.

فأجابه طلحة والزبير: إنّك سرت مسيراً له ما بعده ولست راجعاً وفي نفسك منه حاجة، فأمّضِ لأمرك، أما أنت فلست راضياً دون دخولنا في طاعتك، ولسنا بداخلين فيها أبداً، فأقضِ ما أنت قاضٍ.

وكتبت عائشة: جلّ الأمر عن العتاب، والسلام.

ثمَّ دعا عليه السلام عبد الله بن عباس فقال له: انطلق اليهم فناشدهم وذكّرهم العهد الذي لي في رقابهم، فجاءهم ابن عباس فبدأ بطلحة فوقع بينهما كلام كثير فأبي طلحة إلّا إثارة الفتنة، قال ابن عباس: فخرجت إلى عليّ عليه السلام وقد دخل البيوت بالبصرة، فقال: ما وراءك؟ فأخبرته الخبر فقال عليه السلام: اللهمَّ افتح بيننا وبين قومنا بالحقِّ وأنت خير الفاتحين.

أقول: كذا نقله المفيد في الجمل والظاهر أنه عليه السلام بعث ابن عباس إلى الزبير وأمره أن لا يلقى طلحة وذلك قوله عليه السلام لابن عبّاس لما أنفذه إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل: لا تلقينَّ طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه يركب الصعب ويقول هو الذُّلول، ولكن إلقَ الزبير فإنه ألين عريكة فقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا ممّا بدا.

ولما نقله المفيد في الجمل (1) ايضاً ويوافق ما في النهج من أنّ أبن عباس قال: وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقَ الزبير كما ف.

ص: 380


1- ص 153 طبع النجف.

سنذكره؛ فعلى هذا مع فرض صحة الأولى وعدم سهو الراوي بأتيان طلحة مكان الزبير يمكن أن يقال: إنه عليه السلام بعثه إليهم غير مرّة.

قال ابن عباس: قد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقَ الزبير وإن قدرت أن أكلّمه وابنه ليس بحاضر، فجئت مرّة أو مرّتين كلّ ذلك أجده عنده ثمّ جئت مرّة أُخرى فلم أجده عنده فدخلت عليه وأمر الزبير مولاه شرحساً أن يجلس على الباب ويحبس عنّا النّاس؛ فجعلت أكلّمه فقال: عصيتم أن خولفتم والله لتعلمنَّ عاقبة ابن عمكّ، فعلمت أنَّ الرجل غاضب، فجعلت ألأينه فيلين مرّة ويشتدُ أُخرى، فلمّا سمع شرحس ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير وكان عند طلحة فدعاه، فأقبل سريعاً حتّى دخل علينا، ثمَّ جرى بينه وبين ابن الزبير كلام كثير فأبى ابن الزبير إلا القتال والجدال.

أقول: إنّ عبد الله بن الزبير كان أشدّ عداوةً من أبيه بأمير المؤمنين عليه السلام وقال عليه السلام: ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله (1).

وبالجملة أنه عليه السلام أكثر اليهم الرسل فعادوا منهم اليه عليه السلام بأصرارهم على خلافه واستحلال دمه ودم شيعته، فلمّا رأى عليه السلام أنّهم لا يتعظّون بوعظٍ ولا ينتهون عن الفساد وعبّوا للقتال كتب الكتائب ورتّب العساكر فنفر من ذي قار متوجّهاً إلى البصرة.

في الارشاد للمفيد قدس سرُّه؛ ومن كلامه عليه السلام وقد نفر من ذي قار متوجّهاً الى البصرة بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا بعد فإنَّ الله تعالى فرض الجهاد وعظمّه وجعله نصرة له، والله ما .

ص: 381


1- نقله الشارح المعتزلي في شرحه على النهج (ص 474 ج 2 طبع طهران 1302 ه). وذكر هذا الكلام ابن عبد البرِّ في الاستيعاب عن أمير المؤمنين عليه السلام في عبد الله بن الزبير إلّا أنّه لم يذكر لفظة المشؤوم.

صلحت دنیا قط ولا دين إلّا به، وإن الشيطان قد جمع حزبه واستجلب خيله وشبّه في ذلك وخدع، وقد بانت الأمور وتمحصّت، والله ما أنكروا علىَّ منكراً ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً، وأنّهم ليطلبون حقاً تركوه، ودماً سفكوه، ولئن كنت شركتهم فيه إنّ لهم لنصيبهم منه، وإن كانوا ولّوه دوني فما تبعته إلّا قبلهم، وإنَّ اعظم حجتهم لعلى أنفسهم، وإني لعلى بصيرتي ما لبست عليَّ، وإنّها للفئة الباغية فيه اللّحم «الحم خ» واللّحمة «الحمة خ» قد طالت جلبتها، وأمكنت درّتها، يرضعون ما فطمت، ويحيون بيعة تركت، ليعود الضلال إلى نصابه، ما أعتذر مما فعلتُ، ولا اتبرَّأ مما صنعتُ، فيا خيبة للدّاعي ومن دعي لو قيل له إلى من دعوتك، وإلى من أجبت ومن إمامك وما سنته إذاً لزاح الباطل عن مقامه، ولصمت لسانه فيما نطق، وأيم الله لأفرطنَّ لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه، ولا يلقون بعده ريّاً أبداً، وإنّي لراضٍ بحجةً الله عليهم، وعذره فيهم، إذ أنا داعيهم فمعذّر إليهم، فإن تابوا وأقبلوا فالتوبة مبذولة، والحقُّ مقبول، وليس على الله كفران، وإن أبوا أعطيتهم حدَّ السيف وكفى به شافياً من باطل، وناصراً لمؤمن.

ثم انتهى عليه السلام إلى البصرة وراسل القوم وناشدهم الله فأبوا إلّا قتاله. وقال المسعودي في مروج الذهب: ذكر عن المنذر بن الجارود فيما حدث به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي عن ابن عائشة عن معن بن عيسى عن المنذر بن جارود قال:

لما قدم عليٌّ عليه السلام البصرة دخل مما يلي الطفّ، فأتى الزاوية فخرجتُ أنظر اليه فورد موكب نحو ألف فارس يتقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوة وثياب بيض متقلّداً سيفاً معه راية، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة مدججّين في الحديد والسلاح فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو ايّوب الأنصاري (1) صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ً.

ص: 382


1- وهو: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار، ابو ايوب الانصاري الخزرجي النجاري. شهد العقبة وبدراً وأُحداً والمشاهد كلها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وكان مع الامام (علیه السلام) لا يفارقه وشهد معه صفين والجمل وكان على مقدمة جيشه (علیه السلام) في النهروان. ثم غزا أيام معاوية ارض الروم فتوفي في مدينة القسطنطينية سنة أحدى وخمسين ودفن فيها. وأمر يزيد بن معاوية بالخيل فجعلت تقبل وتدبر على قبر أبي ايوب حتى عفا اثر القبر، رواه مجاهد. وهو الذي نزل عنده الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لما قدم المدينة مهاجراً. وكان من اکابر اصحاب الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأقدمهم اسلاماً.

وسلم، وهؤلاء الأنصار وغيرهم.

ثمّ تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض متقلّداً سيفاً متنكّباً قوساً معه راية على فرس اشقر في نحو ألف فارس فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين.

ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت معتماً بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء وعليه قباء أبيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه شديد الأدمة عليه سكينة ووقار يرفع صوته بقراءة القرآن متقلّداً سيفاً متنكباً قوساً معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلف بالتيجان حوله مشيخة وكهول و شباب كان قد أوقفوا للحساب، أثر السجود قد أثّر السجود قد أثّر في جباههم، فقلت: من هذا؟ فقيل: عمّار بن ياسر في عدَّة من الصحابة والمهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثمَّ مرَّ بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء متنكّباً قوساً متقلّداً سيفاً تخطّ رجلاه في الأرض في ألف من الناس الغالب على تيجانهم الصّفرة والبياض معه راية صفراء قلت: من هذا؟ قيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة (1) في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من .

ص: 383


1- هو: قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، يكنى: أبا الفضل وأمه فكيهة بنت عبيد بن دليم ابن حارثة. وكان من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوي الرأي الصائب، والمكيدة في الحرب مع النجدة والشجاعة. وكان شريف قومه غير مدافع، ومن بيت سيادتهم. وكان من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، مما يلى من اموره. وكان قيس يحمل راية الانصار مع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وقيل كان على سرية فيها أبو بكر وعمر، فكان يستدين ويطعم الناس، فقال أبو بكر وعمر إن تركنا هذا الفتى اهلك مال ابيه فمشيا في الناس فلما سمع سعد ابو قيس قام خلف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: مَن يعذرني من ابن ابي قحافة وابن الخطاب يُبخلان عليّ ابني. قال قيس يوماً: لولا اني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول «المكر والخديعة في النار» لكنت من أمكر هذه الأمة. وأما جوده فله فيه اخبار كثيرة لا تسع هذه العُجالة. ثم أنه صحب الامام امير المؤمنين (علیه السلام) وشهد معه حروبه، واستعمله (علیه السلام) على مصر، ثم أرسل وراءه، لحاجته اليه بقربه في الكوفة، ولم يزل معه حتى قتل (علیه السلام) فصار مع الحسن عليه السلام وسار في مقدمة جيشه الى معاوية. فلما تم الصلح رجع الى المدينة. وتوفي سنة تسعٍ وخمسين، ولم يكن في وجهه لحية ولا شعرة ومع ذلك كان جميلا.

قحطان.

ثمَّ مرَّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سد لها بين يديها بلواء قلت: من هذا؟ قيل: هو عبد الله ابن العباس في عدَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمَّ أقبلت المواكب والرّايات يتقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح.

ثمَّ ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديث مختلفو الرايات في أوَّله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنما كسر وجبر (1)، كأنما على رؤوسهم الطير وعن ميسرتهم شابُّ حسن الوجه قلت: من هؤلاء؟ قيل: هذا عليُّ بن أبي طالب عليه السلام وهذان الحسن والحسين عن يمينه وشماله، وهذا محمد ابن الحنفيّة بن يديه معه الراية العظمى. وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار.

فساروا حتّى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية، فصلّى عليه السلام أربع ركعات وعفّر خدَّيه على التربة وقد خالط ذلك دموعه، ثمَّ رفع يديه يدعو:

اللَّهمَّ ربَّ السماوات وما أظلّت، والأرضين وما أقلّت، وربَّ العرش العظيم هذه البصرة أسألك من خيرها وأعوذ بك من شرِّها، اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين، اللهمَّ هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليَّ ونكثوا بيعتي اللهمَّ احقن دماء المسلمين..

ص: 384


1- قال ابن عائشة: وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر وجبر.

ولما تقرَّر أمر الكتائب في الفريقين فخرج كلُّ فريق بقومه وقام خطباؤ هم بالتحريض على القتال، فقام عبد الله بن الزبير في معسكرهم وحرَّض الناس على القتال ومن جملة ما قال:

أيّها الناس إنَّ هذا الرعث والوعث قتل عثمان بالمدينة ثمَّ جاءكم بنشر أموركم بالبصرة أترضون أن يتوردكم أهل الكوفة في بلادكم أغضبوا فقد غضبتم وقاتلوا فقد قوتلتم إنَّ علياً لا يرى أنَّ معه في هذا الأمر أحداً سواه، والله لئن أظفر بكم ليهلكنَّ دينكم ودنياكم.

وأكثر من نحو هذا القول وشبهه، فبلغ ذلك أمير المؤمنين علياً عليه السلام فقال لولده الحسن: عليه السلام: قم يا بنيّ فأخطب، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال:

أيّها الناس قد بلغتنا مقالة ابن الزبير وقد كان والله يتجنّى على عثمان الذنوب، وقد ضيّق عليه البلاد حتى قتل، وإنَّ طلحة راكز رايته على بيت ماله وهو حيّ، وأما قوله:. إنَّ علياً ابتزَّ الناس أمرهم فإنَّ أعظم الناس حجّة لأبيه زعم أنّه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه، فقد أقرَّ بالبيعة وادّعى الوليجة، فليأتِ على ما أدعاه ببرهان وأنّى له ذلك، وأمّا تعجبّه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة فما عجبه من أهل حقّ توردوا على أهل الباطل، ولعمري والله ليعلمنَّ أهل البصرة وميعادٍ ما بيننا وبينهم. اليوم نحاكمهم إلى الله تعالى فيقضي الله بالحقِّ وهو خير الفاصلين.

فلمّا فرغ الحسن عليه السلام من كلامه قام رجل يقال له عمر بن محمود وأنشد شعراً يمدح الحسن عليه السلام.

فلمّا بلغ طلحة والزبير خطبة الحسن عليه السلام ومدح المادح له قام طلحة خطيباً في أصحابه وحرّض الناس على إثارة الفتنة وألّب وأجلب على امير المؤمنين عليه السلام النّاسَ.

فقام إليه رجل يقال له: جبران بن عبد الله من أهل الحجاز كان قدم

ص: 385

البصرة وهو غلام واعترض على طلحة واحتجَّ عليه بنكث البيعة فهمّ القوم به فخرج منهم إشفاقاً على دمه، ثمَّ كثر اللغط والتنازع.

ولمّا بلغ أمير الؤممنين عليه السلام لغط القوم واجتماعهم على حربه قام في الناس خطيباً.

فحمد الله واثنى عليه وصلّى على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ قال:

أيّها النّاس إِنَّ طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي، فدعياهم إلى معصية الله تعالى وخلافي، فمن أطاعهما منهم فتنوه ومن عصاهما قتلوه، وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم، وقتلهم السبابجة وفعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخفَ عليكم، وقد كشفوا الآن القناع وأذنوا بالحرب، وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم، وقد أرعد وصاحبه وأبرقا، وهذان أمران معهما الفشل، ولسنا نريد منكم أن تلقونهم بظنون ما في نفوسكم عليهم، ولا ترون ما في أنفسكم لنا، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نسيل حتى نمطر، وقد خرجوا من هدى إلى ضلال، ودعوناكم إلى الرّضا، ودعونا إلى السخط فحلَّ لنا ولكم ردُّهم إلى الحقِّ والقتال، وحلَّ لهم بقصاصهم القتل، وقد والله مشوا إليكم ضراراً، وأذاقوكم أمس من الجمر فاذا لقيت القوم غداً فأعذروا في الدعاء وأحسنوا في التقيّة، واستعينوا بالله واصبروا إنَّ الله الصابرين.

قال المفيد رحمه الله في الجمل نقلاً عن الواقدي: ثمَّ أنَّ امير المؤمنين عليه السلام أنظرهم وأنذرهم ثلاثة أيّام ليكفّوا ويرعوا، فلما علم إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه وقال:

عباد الله انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم، فإنهم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي، ونكلوا بعاملي، وأخرجوه من البصرة بعد أن ألموه بالضرب المبرح والعقوبة الشديدة، وهو شيخ من وجوه الأنصار والفضلاء، ولم يرعوا له حرمة وقتلوا السبابجة رجالًاصالحين، وقتلوا حكيم بن جبلة ظلماً وعدواناً

ص: 386

لغضبه لله تعالى ثمَّ تتبّعوا شيعتي بعد أن ضربوهم وأخذوهم في كل عابية وتحت كلِّ رابية يضربون أعناقهم صبراً، ما لهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون، فانهدوا إليهم عباد الله وكونوا اسوداً عليهم فإنّهم شراراً، ومساعدهم على الباطل شرار، فالقوهم صابرين محتسبين موطنين أنفسكم أنكم منازلون ومقاتلون قد وطّنتم انفسكم على الضرب والطعن ومنازلة الأقران، فأيُّ أمرىءٍ أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند الفزع وشجاعة عند اللّقاء ورأى من أخيه فشلاً أو وهناً فليذبَّ عنه كما يذبُّ عن نفسه. فلو شاء الله لجعله مثله.

وفي جمل المفيد: ثمَّ إِنَّ أمير المؤمنين عليه السلام رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشرٍ مضْين من جمادي الأولى، وعلى ميمنته الأشتر، وعلى ميسرته عمّار بن ياسر، وأعطى الراية محمد بن الحنفيّة ابنه، وسار حتى وقف موقفاً ثم نادى في الناس لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم.

فدعا عليه السلام: عبد الله بن عباس فأعطاه المصحف وقال: أمضِ بهذا المصحف الى طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلى ما في وقل لطلحة والزبير: ألم تبايعاني مختارين؟ فما الذي دعاكما الى نكث بيعتي وهذا كتاب الله بيني وبينكما.

فذهب إليهم ابن عباس فبدأ بالزبير ثمَّ أنصرف عنه إلى طلحة، ثمَّ أنصرف عنه الى عائشة، وجرى بينه وبينهم كلام كثير فأبوا إلّا طغياناً وبغياً والقتال وسفك الدِّماء وإثارة الفتنة وإنارة الحرب، فرجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره الخبر. وقال له: ما تنتظر؟ والله لا يعطيك القوم إلّا السيف فأحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك؛ فقال عليه السلام: نستظهر بالله عليهم؛ قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نشابهم كأنه جرد منتشر فقلت: ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم مُرْنا ندفعهم، فقال عليه السلام: حتّى أعذر اليهم ثانية.

فأخذ عليه السلام مصحفاً كما نقله الطبري مسنداً في التاريخ والمفيد في الجمل عن الواقدي، فطاف به في أصحابه وقال: من يأخذ هذا المصحف

ص: 387

فيدعوهم إليه وهو مقتول وأنا ضامن له على الله الجنّة؟ فقام فتى من أهل الكوفة حدث السنِّ من عبد القيس يقال له: مسلم بن عبد الله عليه قباء أبيض محشو فقال: أنا أعرضه يا أمير المؤمنين عليهم وقد احتسبت نفسي عند الله فأعرض عليه السلام عنه إشفاقاً.

ونادى ثانية: من يأخذ هذا المصحف ويعرضه على القوم وليعلم أنّه مقتول وله الجنّة؟ فقال الفتى أنا أعرضه.

ونادى ثالثة: من يأخذ المصحف ويدعوهم إلى ما فيه؟ فقال الفتى: أنا فدفع المصحف اليه وقال: امضِ اليهم واعرضه عليهم وادعهم إلى ما فيه.

فأقبل الفتى حتى وقف بازاء الصفوف ونشر المصحف وقال: هذا كتاب الله وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه، فقالت عائشة: اشجروه بالرّماح فقبّحه الله، فتبادروا إليه بالرّماح فطعنوه من كلِّ جانب فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى فدعاهم فقطعوا يده اليسري، فأخذه بصدره والدِّماء تسيل على قبائه، فقتل رضوان الله عليه، وكانت أُمّه حاضرة فصاحت وطرحت نفسها عليه وجرتّه من موضعه ولحقها جماعة من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام أعانوها على حمله حتى طرحته بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام وهي تبكي وتقول:

لا همَّ إِنَّ مُسلماً دَعاهُمْ *** يتلو كتابَ اللهِ لا يَخْشَاهُمْ

فخضَّبوا من دِمِهِ قِناهُمْ *** وَأُمُّه قَائِمَةٌ تَراهُمْ

تَأْمُرُهُمْ بِالقَتْلِ لا تَنَهاهُمْ

فلمّا رأى أمير المؤمنين علیه السلام ما قدم عليه القوم من العناد واستحلّوه من سفك الدَّم الحرام رفع يديه إلى السماء وقال:

اللهمَّ اليك شخصت الأبصار وبسطت الأيدي وأقضت القلوب وتقرّبت إليك بالأعمال، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقِّ وأنت خير

ص: 388

الفاتحين (1)

قال الطبريُّ بعد نقل شهادة الفتى: فقال عليُّ عليه السلام: الآن حلَّ قتالهم.

وفي الإمامة والسياسة للدينوري: فلمّا توافقوا للقتال أمر عليُّ عليه السلام منادياً ينادي من أصحابه لا يرميَّنَّ أحد سهماً ولا حجراً ولا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم فأتخذ عليهم الحجة البالغة.

فكلّم عليه السلام طلحة والزبير قبل القتال فقال لهما: استحلفا عائشة بحقِّ الله وبحقِّ رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها: هل تعلم رجلاً من قريش أولى مني بالله ورسوله، وإسلامي قبل كافة الناس أجمعين، وكفايتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفّار العرب بسيفي ورمحي، وعلى براءتي من دم عثمان، وعلى أنّي لم أستكره أحداً على بيعة، وعلى أنّي لم أكن أحسن قولاً في عثمان منكما؟ فأجابه طلحة جواباً غليظاً، ورقَّ له الزبير.

ثمَّ رجع عليٌّ عليه السلام الى اصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين بم كلّمت الرَّجلين؟ فقال عليٌّ عليه السلام إنَّ شأنهما لمختلف أمّا الزبير فقاده اللّجاج ولن يقاتلكم، وأمّا طلحة فسألته عن الحقِّ فأجابني بالباطل، ولقيته باليقين ولقيني بالشكٍّ، فوالله ما نفعه حقّي ولا ضرَّني باطله، وهو مقتول غداً في الرَّعيل الأول.

وفي احتجاج الطبرسي عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت واقفاً مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلينا، فعَلامَ نقاتلهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: على ما أنزل الله في كتابه، فقال: يا أمير المؤمنين ليس كلُّ ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلّمنيه فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة؟ فقال: يا أمير المؤمنين ليس كلّما .

ص: 389


1- جمل المفيد ص 256 طبع طهران 1301 ه.

أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلّمنيه، فقال عليه السلام: هذه الآية: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (1) فنحن الّذين آمنّا، وهم الذين كفروا، فقال الرَّجل: كفر القوم وربِّ الكعبة، ثمَّ حمل وقاتل حتى قتل رحمه الله.

وقد تظافرت الأخبار أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر جنده أن لا يبدأوا القوم الناكثين بقتال، ولا يرموهم بسهم، ولا يضربوهم ولا يطعنوهم برمح، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخٍ له مقتول، وجاء قوم من الميسر برجل قد رمي بسهم فقتل، فقال عليٌّ عليه السلام: اللهمَّ اشهد.

وفي جمل المفيد: ثمّ دعا عليه السلام ابنه محمد بن الحنفيّة فأعطاه الراية وهي راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا بنيَّ هذه راية لا تردّ قط ولا تردّ أبداً، قال محمد: فأخذتها والريح تهبُّ عليها فلمّا تمكّنت من حملها صارت الريح على طلحة والزبير وأصحاب الجمل، فأردت أن امشي بها فقال امير المؤمنين عليه السلام: قف يا بنيَّ حتّى آمرك.

ثمَّ نادى أيّها الناس لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزّوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تهيجوا امرأة، ولا تمثلوا بقتيل.

بينا هو يوصي أصحابه إذ ظلّنا نبل القوم فقتل رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام، فلمّا رآه قتيلاً قال: اللهمَّ أشهد، ثمَّ رمي ابن عبد الله بن بديل فقتل، فحمله أبوه عبد الله ومعه عبد الله بن العباس حتى وضعاه بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عبد الله بن 3.

ص: 390


1- البقرة - 253.

بديل: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلاً رجلاً قد والله أعذرت إن كنت تريد الإعتذار.

أقول: قال اليعقوبي في تاريخه: ثمَّ رمي رجل آخر فأصاب عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقتله فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله فقال عليُّ عليه السلام اللهمَّ اشهد والله العالم.

وفي مروج الذهب للمسعودي: ثمَّ قام عمّار بن ياسر بين الصفين فقال: أيّها النّاس ما أنصفتم نبيّكم حيث كففتم عتقاء تلك الخدور، وأبرزتم عقيلته للسيوف، وعائشة على الجمل المسمى عسكراً في هودج من دفوف الخشب، قد ألبسوه المسوح وجلود البقر وجعلوا دونه اللبود قد غشى على ذلك بالدروع فدنا عمّار من موضعها، فنادى إلى ماذا تدعينني؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان، فقال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحقِّ، ثم قال: أيّها الناس إنكم لتعلمون أيّنا المماليء في قتل عثمان، ثمَّ أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبل:

فمِنْكِ البكاء ومِنْكِ العويلُ *** ومنكِ الرِّياحُ ومِنْكِ المَطَرْ

وأنتِ أمرْتِ بِقَتْلِ الإمامِ *** وقاتُلهُ عندَنا مَنْ أَمَرْ

وتواتر عليه الرَّمي وأتّصل فحرَّك فرسه وزال عن موضعه فقال: ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين وليس لك عند القوم إلّا الحرب فقال عليٌّ عليه السلام: أيّها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهّزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تتبّعوا مولّياً، ولا تطلبوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلّوا بقتيل، ولا تهتكوا ستراً، ولا تقربوا من أموالهم إلّا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله.

وقال المفيد في الجمل: روى عبد الله بن رياح مولى الأنصاري عن عبد الله بن زياد مولى عثمان بن عفان قال: خرج عمار بن ياسر يوم الجمل إلينا فقال: يا هؤلاء على أيِّ شيء تقاتلونا؟ فقلنا: على أنّ عثمان قتل مؤمناً

ص: 391

فقال عمّار: نحن نقاتلكم على أنّه قتل كافراً؛ قال: وسمعت عمّاراً يقول: والله لو ضربتمونا حتى نبلغ سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقِّ وأنّكم على الباطل، قال: وسمعته والله يقول: ما نزل تأويل هذه الآية إلا اليوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (1).

روى الواقديُّ قال: حدَّثني عبد الله بن الفضيل عن أبيه عن محمد ابن الحنفيّة قال: لمّا نزلنا البصرة وعسكرنا بها وصففنا صفوفنا دفع أبي عليُّ عليه السلام إليَّ باللّواء وقال: لا تحدّثنَ شيئاً ثمَّ نام فنالنا نبل القوم فأفزعته ففزع وهو يمسح عينيه من النوم وأصحاب الجمل يصيحون: يا لثارات عثمان، فبرز عليه السلام وليس عليه إلّا قميص واحد، ثمَّ قال: تقدَّم باللّواء، فتقدمَّت وقلت: يا أبتِ في مثل هذا اليوم بمقيص واحد، قال: أحرز امرىءٍ أجله والله قاتلت مع النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنا حاسر أكثر ممّا قاتلت وأنا دارع، ثمَّ دنا كل من طلحة والزبير فكلمهما ورجع وهو يقول: يأبى القوم إلّا القتال، فقاتلوهم فقد بغوا، ودعا بدرعه البتراء ولم يلبسها بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا يومئذٍ فكان بين كتفيه منها متوهياً.

قال: وجاء أمير المؤمنين عليه السلام وفي يده شسع نعل فقال له ابن عباس: ما تريد بهذا الشسّع يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أربط بها ما قد توهى من هذا الدِّرع من خلفي، فقال له ابن عباس: أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ فقال عليه السلام: لِمَ؟ قال: أخاف عليك، قال عليه السلام: لا تخف أن أوتي من ورائي والله يا ابن عبّاس ما ولّيت في زحف قطّ ثمّ قال له: إلبْس يا ابن عباس، فلبس درعاً سعدياً ثمَّ تقدَّم إلى الميمنة وقال: احملوا، ثمَّ إلى الميسرة وقال: وجعل يدفع في ظهري ويقول: تقدَّم يا بني فجعلت أتقدَّم حتى انهزموا من كلِّ وجه.4.

ص: 392


1- المائدة - 54.

وروى الواقديُّ عن هشام بن سعد عن شيخ من مشايخ أهل البصرة قال: لمّا صفَّ عليُّ بن أبي طالب عليه السلام صفوفه أطال الوقوف والناس ينتظرون أمره، فأشتدَّ عليهم ذلك، فصاحوا حتى متى، فصفق بإحدى يديه على الأُخرى ثمَّ قال: عباد الله لا تعجلوا فإني كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحبُّ أن يحمل إذا هبت الريح قال: فأمهل حتى زالت الشّمس وصلّى ركعتين ثمَّ قال: ادعوا ابني محمداً، فدعي له محمد ابن الحنفيّة فجاء وهو يومئذ ابن تسعة عشر سنة، فوقف بين يديه ودعا بالراية فنصبت فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما هذه الراية لم تردُّ قطُّ ولا تردُّ أبداً وإني واضعها اليوم في أهلها، ودفعها إلى ولده محمّد وقال: تقدَّم يا بنيَّ فلمّا رآه القوم قد أقبل والراية بين يديه فتضعضوا فما هو إلا أنَّ الناس التقوا ونظروا إلى غرة أمير المؤمنين عليه السلام ووجدوا مسَّ السلاح حتى انهزموا.

وروى محمد بن عبد الله بن عمر بن دينار قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لأبنه محمد: خذ الراية وامضِ، وعليٌّ عليه السلام خلفه فناداه يا أبا القاسم! فقال: لبّيك يا أبتِ فقال: يا بنيَّ لا يستنفزَّنك ما ترى قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استنفزني عدوِّي وذلك أنني لم أبارز أحداً إلّا حدَّثتني نفسي بقتله، فحدِّث نفسك بعون الله تعالى بظهورك عليهم ولا يخذلك ضعف النفس من اليقين فإنَّ ذلك أشدّ الخذلان، قال: قلت يا أبتِ أرجو أن اكون كما تحبُّ إن شاء الله، قال: فالزم رايتك فإن اختلفت الصفوف قف في مكانك وبين أصحابك فإن لم تبين من أصحابك فأعلم أنهم سيرونك.

قال: والله إنّي لفي وسط أصحابي فصاروا كلّهم خلفي وما بيني وبين القوم أحد يردُّهم عني وأنا أُريد أن أتقدَّم في وجوه القوم فما شعرت إلّا بأبي خلفي قد جرَّد بسيفه وهو يقول: لا تقدَّم حتى أكون أمامك، فتقدَّم بين يدي يهرول ومعه طائفة من أصحابه، فضرب الذين في وجهه حتى نهضوهم ولحقتهم بالراية فوقفوا وقفة واختلط الناس وركدت السيوف ساعة فنظرت إلى أبي يفرِّج الناس يميناً وشمالاً ويسوقهم أمامه فأردت أن اجول فكرهت خلافه ووصيّته لي - لا تفارق الراية - حتى انتهى إلى الجمل وحوله أربعة آلاف مقاتل

ص: 393

من بني ضبْة والأزد وتميم وغيرهم وصاح: اقطعوا البطان.

فأسرع محمّد بن أبي بكر (1) فقطعه وأطلع الهودج، فقالت عائشة: من أنت؟ قال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم ولم تكن دون أُمّهاتك قالت: لعمري بل هي شريفة دع عنك هذا الحمد لله الذي سلمك قال: قد كان ذلك ما تكرهين؛ قالت: يا أخي لو كرهته ما قلت ما قلت، قال: كنت تحبّين الظفر وإني قتلت، قالت: قد كنت أُحبُّ ذلك لكنه ما صرنا إلى ما صرنا أحببت سلامتك لقرابتي منك فأكفُفْ ولا تعقّبِ الأُمور وخذ الظاهر ولا تكن لومة ولا عذلة فإنَّ أباك لم يكن لومة ولا عذلة.

قال: وجاء عليٌّ عليه السلام فقرع الهودج برمحه وقال: يا شُقيراء بهذا وصّاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: يا أبن أبي طالب قد ملكت فأسمح، وفي تاريخ الطبري: فأسجح.

ثمَّ أمر عليه السلام ابنه محمداً أن يتولى امرها ويحملها إلى دار ابن خلف حتى ينظر عليه السلام في أمرها، فحملها إلى الموضع وأنّ لسانها لا يفتر من السبِّ له ولعليّ عليه السلام والترحّم على اصحاب الجمل.

وروي عن ابن الزبير قال: خرجت عائشة يوم البصرة وهي على جملها عسكر قد اتخّذت عليه خدراً ودقّته بالدّقوق خشية أن يخلص إليها النبل، وسار إليهم عليُّ بن أبي طالب عليه السلام حتى التقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً وأخذ بخطام الجمل يومئذٍ سبعون رجلاً من قريش كلّهم قتل، وخرج مروان ابن الحكم وعبد الله بن الزبير ورأيتهما جريحين، فلما قتلت تلك العصابة من ه.

ص: 394


1- محمد بن عبد الله بن عثمان، وهو محمد بن ابي بكر. وأُمه: اسماء بنت عميس. الخثعمية، ولد في حجة الوداع بذي الخليفة لخمسٍ بقين من ذي القعدة، خرجت امه حاجة فوضعته. وتزوج الامام (علیه السلام) بامه بعد وفاة ابي بكر، وكان الاخير قد تزوجها بعد وفاة جعفر بن أبي طالب. وشهد الجمل مع الامام، (علیه السلام) وكان على الرجالة، وشهد معه صفين، ثم ولاه (علیه السلام) مصر، فسار اليه عمرو بن العاص فاقتتلوا وقتله عمرو بن سبراً. وكان له فضل وعبادة وكان الامام (علیه السلام) يثني عليه. وهو أخو عبد الله بن جعفر لإمه، وأخو يحيى بن علي لأُمه.

قريش أخذ رجال كثير من بني ضبّة بخطام الجمل فقتلوا عن آخرهم، ولم يأخذ بخطامه أحد إلّا قتل حتى غرق الجمل بدماء القتلى، وتقدَّم محمد بن أبي بكر فقطع بطان الجمل واحتمل الخدر ومعه أصحاب له وفيه عائشة حتّى أنزلها بعض دور البصرة، وولّي الزبير منهزماً فأدركه ابن جرموز فقتله، ولما رأى مروان توجّه الأمر على أصحاب الجمل نظر إلى طلحة وهو يريد الهرب فقال: والله لا يفوتني ثأري من عثمان، فرماه بسهم فقطع أكحله فسقط بدمه وحمل من موضعه وهو يقول: إنّا لله هذا والله سهم لم يأتني من بعْد أراه إلّا من معسكرنا، والله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي ثم لم يلبث أن هلك.

روى الطبريُّ في التاريخ بإسناده عن أبي البختري الطائيِّ قال: أطافت ضبّة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه ويشمّونه ويقولون: بعر جمل أُمّنا ريحه ريح المسك، ورجل من أصحاب علىّ عليه السلام يقاتل ويقول:

جرَّدتُ سَيفي في رجال الأزِدِ *** أَضْربُ في كهولِهم والمُرْدِ

كلَّ طَويل الساعدينِ نَهّدِ

وماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل، فضربه بجير بن دلجة الصّبي فقيل له: لِمَ عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون فخفت أن يفنوا ورجوتُ إن عقْرته أن يبقى لهم بقيّة.

وروى بأسناده عن الصعب بن عطية عن أبيه قال: لمّا أمسى الناس وتقدَّم عليُّ عليه السلام حيط بالجمل ومن حوله وعقره بجير بن دلجة وقال: إنكم آمنون بكفَّ بعض الناس عن بعض، وقال في ذلك حين أمسى وانخنس عنهم القتال:

إليك أشكوُ عَجْرِي وبَجْرَي *** ومَعْشراً غشوُّا علىَّ بَصَري

ص: 395

قتلتُ منهم مضراً بمضرِي *** شفيتُ نَفْسي وقتلتُ مَعشَرِي (1)

ولكنَّ الصريح من كلام ابي العباس محمد بن يزيد المعروف بالميرد (2) أنه عليه السلام لم يقل كلامه على هيئة الشعر حيث قال:

حدَّثني التّوزيُّ قال: حدَّثني محمد بن عبّاد بن حبيب بن المهلّب أحسبه عن أبيه قال: لمّا انقضى يوم الجمل خرج عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في ليلة ذلك اليوم ومعه قنبر وفي يده مشعلة من نار يتصفّح القتلى حتى وقف على رجل، قال التّوزي، فقلت: أهو طلحة؟ قال: نعم؛ فلمّا وقف عليه قال: اعزز عليَّ أبا محمّد أن أراك معفّراً تحت تخوم السماء وفي بطون الأودية شفيت نفسي وقتلتُ معشري إلى الله اشكو عُجري ويُجري.

وقال المفيد في الجمل: روى ابراهيم بن نافع عن سعيد بن أبي هند قال: أخبرنا أصحابنا ممّن حضر القتال يوم البصرة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قاتل يومئذٍ أشدَّ القتال وسمعوه وهو يقول: تبارك الذي أذن لهذه السيوف تصنع ما تصنع.

وقال فيه: روي الواقديُّ قال: حدَّثني عبد الله بن عمر بن عليِّ بن أبي طالب قال: سمع أبي أصوات الناس يوم الجمل وقد ارتفعت فقال لابنه محمد: ما يقولون: قال: يقولون: يا ثارات عثمان، قال: فشدَّ عليهم وأصحابه يهشون في وجهه يقولون: ارتفعت الشمس وهو يقول: الصبر أبلغ حجة، ثمَّ قام خطيباً يتوكأ على قوس عربية فحمد الله واثنى عليه وذكر النبيَّ فصلى عليه وقال:

أمّا بعد فإنَّ الموت طالب حثيث لا يفوته الهارب ولا يعجزه، فأقدموا ر.

ص: 396


1- أقول: وقد ذكر البيتان في الديوان المنسوب اليه عليه السلام أيضاً وفيه «اعشوا» مكان «غشوا» و «إني قتلت مضري بمصري» مكان المصراع الثالث: «وجذعت أنفي» مكان «شفيت نفسي».
2- المتوفى سنة 285 ه في الكامل ص 126 ج 1 طبع مصر.

ولا تنكلوا، وهذه الأصوات التي تسمعوها من عدوِّكم فشل واختلاف، إنا كنّا نؤمر في الحرب بالصمّت، فعضّوا على الناجذ، واصبروا لوقع السيوف، فوالذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراشي، فقاتلوهم صابرون محتسبون فإنّ الكتاب معكم والسّنّة معكم، ومن كانا معه فهو القويُّ، أصدقوهم بالضرب فأيُّ أمريء أحسّ من نفسه شجاعة وإقداماً وصبراً عند اللّقاء فلا يبطرنّه، ولا يرى أنّ له فضلاً على من هو دونه، وإن رأى من أخيه فشلاً وضعفاً فليذبَّ عنه كما يذبُّ عن نفسه، فإن الله لو شاء لجعله مثله.

ثمَّ لمّا حمل أمير المؤمنين عليه السلام على الناكثين وحمل أعوانه معه فما كان القوم إلّا كرماد اشتدَّت به الريح في يوم عاصف، ولمّا رأت عائشة هزيمة القوم نادت يا بنيَّ الكرَّة الكرَّة أصبروا فإني ضامنة لكم الجنّة، فحفّوا بها من كلِّ جانب، واستقدموا حتى دنوا من عسكر امير المؤمنين عليه السلام، ولفتَ عائشة نفسها ببردة كانت معها وقلبت يمينها على منكبها الأيمن إلى الأيسر والأيسر، إلى الأيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل عند الإستسقاء ثمَّ قالت: ناولوني كفّاً من تراب، فناولوها فحثت به وجوه أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وقالت: شاهت الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهل بدر، ولمّا فعلت عائشة من السب المبرح وحصب أصحاب امير المؤمنين قال عليه السلام: ومارميت إذ رميت ولكنَّ الشيطان رمى وليعودن وبالك عليك إن شاء الله تعالى.

قال المفيد في الجمل: روى محمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: سمعت معاذ بن عبد الله التميمي وكان قد حضر الجمل يقول: لمّا التقينا واصطففنا نادى منادي عليِّ بن أبي طالب عليه السلام: يا معشر قريش اتّقوا الله على انفسكم فإنّي أعلم انكم قد خرجتم وظنتم أنّ الأمر لا يبلغ إلى هذا، فالله الله في أنفسكم فإنّ السيف ليس له بقيا، فإن احببتم فأنصرفوا حتى نحاكم هؤلاء القوم، وإن احببتم فإليَّ فإنّكم آمنون بأمان الله، قال:

ص: 397

فاستحينا أشدَّ الحياء وأبصرنا ما نحن فيه ولكنَّ الحفاظ حملنا على الصبر مع عائشة حتى قتل من قتل منّا، فوالله لقد رأيت أصحاب عليّ عليه السلام وقد وصلوا إلى الجمل وصاح منهم صائح. اعقروه، فعقروه ونادى عليٌّ عليه السلام: من طرح السلاح فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، فوالله ما رأيت اكرم عفوا منه.

وفي الامامة والسياسة للدينوري. قال حية بين جهين: نظرت إلى عليّ عليه السلام وهو يخفق نعالاً فقلت له: تالله ما رأيت كاليوم قطُّ، إنَّ بازائنا لمائة ألف سيف وقد هزمت ميمنتك وميسرتك وأنت تخفق نعالاً؟ فانتبه ورفع يديه وقال: الللهمَّ إنك تعلم ما كتبت في عثمان سواداً في بياض وأنَّ الزبير وطلحة ألّبا واجلبا عليَّ الناس، اللهمَّ أولانا بدم عثمان فخذه اليوم.

وفي مروج الذهب: قد كان أصحاب الجمل حملوا على ميمنة عليّ عليه السلام وميسرته فكشفوها فأتاه بعض ولد عقيل وعليُّ عليه السلام يخفق نعالاً على قربوس سرجه فقال له: يا عمّ قد بلغت ميمنتك وميسرتك حيث ترى وأنك تخفق نعالاً؟ قال: اسكت يا ابن اخي فإنَّ لعمكّ يوماً لا يعدوه، والله لا يبالي عمّك وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

ثمَّ بعث إلى ولده محمد ابن الحنفيّة وكان صاحب رايته: احمل على القوم فأبطأ محمد عليه وكان بإزائه قوم من الرُّماة ينتظر نفاذ سهامهم، فأتاه عليٌّ عليه السلام فقال: هلًا حملت، فقال: لا أجد متقدِّماً إلا على سهم أو سنان وإني لمنتظر نفاذ سهامهم وأحمل، فقال: أحمل بين الأسنة فإنَّ للموت عليك جنّة، فحمل محمد فسكن بين الرماح والنشاب فوقف فأتاه علىٌّ فضربه بقائم سيفه وقال: ادركك عرق أُمّك، وأخذ الراية وحمل وحمل الناس معه فما كان القوم إلّا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف وطافت بنو أُميّة بالجمل وقطع على خطام الجمل سبعون يدا من بني ضبّة ورمي الهودج بالنشاب وعرقب الجمل ووقع الهودج والناس مفترقون يقتتلون.

ولمّا سقط الجمل ووقع الهودج جاء محمد بن أبي بكر فأدخل يده فقالت:

ص: 398

من أنت؟ قال: أقرب الناس قرابة وأبغضهم إليك أنا محمد أخوك يقول لك امير المؤمنين هل أصابك شيء؟ قال: ما أصابني إلا سهم لم يضرّني.

فجاء عليٌّ عليه السلام حتّى وقف عليها فضرب الهودج بقضيب وقال: يا حميراء رسول الله امرك بهذا؟ ألم يأمرك أن تقرّي في بيتك، والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم وابرزوك، وأمر أخاها محمداً فأنزلها في دار صفيّة بنت الحارث بن أبي طلحة العبدي وهي أُمُّ طلحة الطلحات. ووقع الهودج والناس مفترقون يقتتلون، والتقى الأشتر بن مالك بن الحارث النخعيُّ وعبد الله بن الزبير فاعتركا وسقطا إلى الأرض عن فرسيهما والناس حولهما يجولون وابن الزبير ينادي: اقتلونا ومالكاً، واقتلوا مالكاً معي؛ فلا يسمعهما أحد لشدِّة الجلاد ووقع الحديد، ولا يراهما راءٍ لظلمة النقع وترادف العجاج وجاء ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين لا تنكس اليوم رأس محمد، وأردد اليه الراية فدعا به وَردَّ عليه الراية وقال:

إطعنَهْم طعنَ أبيكِ تُحْمَدِ *** لا خيرَ في حربٍ إذا لم تُوقَدِ

بالمشرفيِّ والقَنا المُشرَّدِ

ثمَّ استسقى فأتي بعسل وماء فحسا منه حسوة وقال: هذا الطائفيُّ وهو غريب البلد فقال له عبد الله بن جعفر: ما شغلك ما نحن فيه عن علم هذا؟ قال: إنه والله يا بنيَّ ما ملأ بصدر عمّك شيء قطُّ من أمر الدنيا، ثمَّ دخل عليه السلام البصرة وكانت الواقعة في الموضع المعروف بالخريبة يوم الخميس لعشرِ خلوْنَ من جمادي الآخرة سنة ستّ وثلاثين.

وقال الدينوريُّ: فشقّ عليُّ في عسكر القوم يطعن ويقتل ثمَّ خرج وهو يقول الماء الماء، فأتاه رجلٌ بأداوة فيها عسل فقال: يا أمير المؤمنين أمّا الماء فإنّه لا يصلح لك في هذا المقام ولكن أذوقك هذا العسل فقال: هاتِ، فحسا منه حسوة ثمَّ قال: إنَّ عسلك لطائفيٌّ، قال الرَّجل: لعجباً منك والله يا أمير المؤمنين لمعرفتك الطائفيَّ من غيره في هذا اليوم وقد بلغت القلوب الحناجر!

ص: 399

فقال له علىٌّ عليه السلام: إنه والله يا ابن أخي ما ملأ صدر عمّك شيء قطُّ ولا ها به شيء، ثمَّ اعطى الراية لابنه محمد وقال: هكذا فأصنع، فأقتتل الناس ذلك اليوم قتالاً شديداً وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيّام وإنّ علياً خرج إليهم بعد سبعة أيّام فهزمهم.

كان الزُّبير ممّن ولّى يوم الجمل مدبراً وعدَّه الطبريُّ في التاريخ ممّن انهزم يوم الجمل فاختفى ومضى في البلاد قال: كتب إلىَّ السريُّ عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالا: ومضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راجلًا نحو المدينة فقتله ابن جرموز، وممّن ولّى مدبراً مروان بن الحكم وأوى إلى أهل بيت من عنزة وعدَّ نفراً كثيراً منهم في تاريخه.

وقد تظافرت الأخبار عن الفريقين أنَّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام خرج بنفسه حاسراً على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشهباء بين الصفين، فنادى يا زبير اخرج إلىَّ فخرج شائكاً في سلاحه فدنا إليه حتى اختلفت أعناق دابّتيهما فقال له عليُّ: ويحك يا زبير ما الذي اخرجك؟ قال: دم عثمان. قال: قتل الله أولانا بدم عثمان أما تذكر يوماً لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني بياضة وهو راكب حماره فضحك إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضحكت أنت معه فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علىٌّ زهوه فقال لك: ليس به زهو، أتحبّه يا زبير؟ فقلت: إني والله لأحبّه فقال لك: إنّك والله ستقاتله وأنت له ظالم.

فقال الزبير: استغفر الله لو ذكرتها ما خرجت، فقال عليه السلام: يازبير ارجع فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان، هذا والله العار الذي لا يغسّل فقال: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار فأنصرف الزبير ودخل على عائشة فقال: يا أمّاه ما شهدت موطناً قطُّ في الشرك ولا في الإسلام إلّا ولي فيه رأي وبصيرة غير هذا الموطن، فإنّه لا رأي لي فيه ولا بصيرة، وعلى نقل الدينوري في الامامة والسياسة قال: وإني لعلى باطل، قالت له عائشة: يا أبا عبد الله خلفت سيوف بني عبد المطلب، فقال: أما

ص: 400

والله إنَّ سيوف بني عبد المطلب طوال حداد يحملها فتية أنجاد.

وقال المسعوديُّ في مروج الذهب: ولما رجع الزبير عن الحرب قال ابنه عبد الله: أين تدعنا؟ فقال: يا بنيّ ذكّرني أبو حسن بأمر كنت قد أنسيته قال: بل خفت سيوف بني عبد المطلب فإنها طوال حداد يحملها فتية أنجاد فقال: لا والله ولكني ذكرت ما أنسانيه الدَّهر فاخترت العار على النار أبالجبن تعيّرني لا أبا لك؟ ثمَّ أمال سنانه وشدَّ في الميمنة فقال عليُّ عليه السلام: افرجوا له فقد هاجوه ثمَّ رجع فشدَّ في الميسرة، ثمَّ رجع فشدَّ في القلب، ثمّ عاد الى إبنه فقال: أيفعل هذا جبان.

وقال الدينوري: إنَّ الزبير قال لابنه عبد الله حينئذٍ عليك بحربك، أمّا أنا فراجع إلى بيتي، فقال له ابنه عبد الله: الآن حين التقت حلقتا البطان واجتمعت الفئتان، والله لا نغسل رؤوسنا منها، فقال الزبير لابنه: لا تعد هذا منّي جبناً، فوالله ما فارقت أحداً في جاهلية ولا إسلام، قال: فما يردُّك؟ قال: يردُّني ما إن علمته كسرك.

ثم انصرف الزبير راجعاً الى المدينة حتى أتى وادي السباع والأحنف بن قيس معتزل في قومه من بني تميم، فأتاه آتٍ فقال له: هذا الزُّبير مارٌّ، فقال: ما أصنع بالزُّبير؟ وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضاً وهو مارُّ إلى منزله سالماً.

فلحقه نفر من بني تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز التميمي فقال للزبير: يا أبا عبد الله أحييت حرباً ظالماً أو مظلوماً ثمَّ تنصرف؟ أتائب أنت أم عاجز؟ فسكت عنه، ثمَّ عاوده فقال له: يا أبا عبد الله حدِّثني عن خصالٍ

خمسٍ أسألك عنها، فقال: هات، قال: خذلك عثمان، وبيعتك علياً وإخراجك أُمَّ المؤمنين، وصلاتك خلف ابنك، ورجوعك عن الحرب.

فقال الزبير: نعم أُخبرك أمّا خذلي عثمان فأمر قدَّر الله فيه الخطيئة وآخّر التوبة، وأمّا بيعتي عليّاً فوالله ما وجدت من ذلك بدّاً حيث بايعه المهاجرون والأنصار وخشيت القتل، وأمّا اخراجنا أُمنا عائشة فأردنا أمراً وأراد الله غيره،

ص: 401

وأمّا صلاتي خلف ابني فإنما قدَّمته عائشة أُمُّ المؤمنين ولم يكن لي دون صاحبي أمر وأمّا رجوعي عن هذا الحرب فظنَّ بي ما شئت غير الجبن.

فقال ابن جرموز: والهفاه على ابن صفيّة أضرم ناراً ثمَّ أراد أن يلحق بأهله قتلني الله إن لم أقتله وسار معه ابن جرموز وقد كفر على الدِّرع، فلمّا انتهى إلى وادي السباع استغفله فطعنه.

وقال المسعوديُّ في مروج الذهب: وقد نزل الزبير إلى الصلاة فقال لابن جرموز: أتؤمني أو أؤمّك؟ فأمّه الزّبير فقتله عمرو في الصلاة، وأتى عمرو علياً بسيف الزبير وخاتمه ورأسه وقيل: إنه لم يأتِ برأسه فقال عليُّ عليه السلام: سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الحين ومصارع السوء، وقاتل ابن صفيّة في النار، ففي ذلك يقول ابن جرموز:

أتيتُ علياً برأْسِ الزّبيرْ *** وكنتُ أرجو به الزُلْفة

فبشِّرَ بالنّارِ قبلَ العَيانِ *** وبِئْظس بشارةُ ذي التُحْفَةِ

فقلتُ إنَّ قتل الزّبير *** لولا رضاكَ الكُلْفَةِ

فإنْ ترضَ ذلك فمنك الرِّضا *** وإلّا فدونَك لي حُلْفَةِ

وربِّ المحلِّينْ والمحرمينْ *** وربِّ الجماعةِ والأُلْفَةِ

لسيّانِ عندي قَتل الزبير *** وضرطةُ عَنْزٍ بذي الجحفة

قتل طلحة

في الكافي: قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته يوم الجمل: واعجباً لطلحة ألّب الناس على ابن عفان حتّى قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً، ثمَّ نكث بيعتي اللهمَّ خذه ولا تمهله، وأنَّ الزبير نكث بيعتي وقطع رحمي وظاهر على عدوِّي فأكفنيه اليوم بما شئت.

وقال الدينوري في الإمامة والسياسة: إنَّ القوم اقتتلوا حول الجمل حتى

ص: 402

حال بينهم اللّيل وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيّام وأنَّ علياً خرج إليهم بعد سبعة أيّام فهزمهم، فلمّا رأى طلحة ذلك رفع يديه الى السماء وقال: إن كنّا قد داهنّا في أمر عثمان وظلمناه فخذله اليوم منّا حتى ترضى، فما مضى كلامه حتّى ضربه مروان ضربة أتى منها على نفسه فخرَّ.

قال الطبري في التاريخ (1): كتب إليَّ السري عن شعيب عن سيف عن اسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال: قال طلحة يومئذٍ - أي يوم حرب الجمل - اللّهمَّ أعطِ عثمان منّي حتّى يرضى، فجاء سهم غرب وهو واقف فخل ركبته بالسرج وثبت حتى امتلأ موزجه دماً، فلمّا ثقل قال لمولاه: اردفني وابغني مكاناً لا أُعرف فيه، فلم أرَ كاليوم شيخاً أضيع دماً، فركب مولاه وأمسكه وجعل يقول: قد لحقنا القوم حتى انتهى به إلى دار من دور البصرة خربة وانزله في فيئها، فمات في تلك الخربة ودفن في بني سعد.

وقال المفيد في الجمل: روى اسماعيل بن عبد الملك عن يحيى بن شبل عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: حدَّثني أبي عليُّ زين العابدين عليه السلام قال: قال لي مروان بن الحكم: لمّا رأيت الناس يوم الجمل قد كشفوا قلت والله لأدركن ثاري ولأفُزْن منه الآن، فرميت طلحة فأصبت نساه، فجعل الدَّم ينزف، فرميته ثانية فجاءت به فأخذوه حتى وضعوه تحت شجرة فبقي تحتها ينزف منه الدَّم حتى مات.

وفي مروج الذهب للمسعودي بعدما رجع الزبير عن الحرب نادى عليُّ عليه السلام طلحة حين رجع الزُّبير: يا أبا محمد ما الذي اخرجك؟ قال: الطلب بدم عثمان. قال عليُّ عليه السلام: قتل الله أولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول: اللّهمَّ وال من والاه وعادِ من عاداه؟ وأنت أوّل من بايعني ثمّ نكثت، وقد قال الله عزّ وجلّ: (و من نكث فإنما ينكث على نفسه) فقال: استغفر الله ثمَّ رجع، فقال مروان ابن الحكم: رجع الزبير ويرجع طلحة ما أبالي رميت ههنا أم ههنا فرماه في ه.

ص: 403


1- ص 534 ج 3 طبع مصر 1357 ه.

أكحله فقتله، فمرّ به علىُّ عليه السلام بعد الوقعة في موضعه في قنطرة قرة فوقف عليه فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون والله لكنت كارهاً لهذا أنت والله كما قال القائل:

فتىً كان يُدْنيهُ الغنى من صديقهِ *** إذا ما هو أستغنى ويُبْعدُهُ الفقرُ

كأنَّ الثريا عُلّقتْ في يمينهِ *** وفي خدِّه الشعري وفي الآخرِ البدرُ

وذكر أنّ طلحة لما ولّى سمع وهو يقول:

ندمتُ ندامةً وضِلَّ حِلْمي *** ولَهفِي ثمّ لهفَ أبي وأُمّي

ندمت ندامةَ الكُسعي(1) لمّا *** طلبتُ رضا بني حزمٍ بزعمي

وهو يمسح عن جبينه الغبار وهو يقول: ﴿ وكان أمر الله قدراً مقدوراً) (2) وقيل: إنه سمع وهو يقول هذا الشعر وقد جرحه في جبهته عبد الملك ورماه مروان في أكحله وقد وقع صريعاً يجود بنفسه.

ونقل الطبرسي في الاحتجاج عن نصر بن مزاح: أنّ قتل طلحة كان قبل قتل الزُّبير فإنه قال: روى نصر بن مزاحم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام حين وقع القتال وقتل طلحة تقدّم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشهباء بين الصفين فدعا الزبير فدنا إليه - الخ.

قال: وروي أيضاً أنّ مروان بن الحكم يوم الجمل كان يرمي بسهامه في العسكرين معاً ويقول: أصبت أيّاً منهما فهو فتح لقلة دينه وتهمته للجميع..

ص: 404


1- الكسع بالضم فالفتح هي من اليمن ومنه قولهم نوامة الكسعي. قال الميداني في مجمع الأمثال في بيان مثلهم: أندم من الكسعي ما هذا لفظه: قال حمزة هو رجل من كسعة واسمه محارب بن قيس، وقال غيره: هو من بني كسع ثم من بني محارب واسمه غامد بن الحارث.
2- الأحزاب (38).

أما قول الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) لعائشة لما سقط الجمل ووقع الهودج «يا حميراء رسول الله أمرك بهذا؟» فقوله هذا إشارة إلى أن الله قد نهاها عن الخروج وأمرها بالاستقرار في منزلها فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره بأسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الفاحشة الخروج بالسّيف، وقال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) (1) روى في الصّافي من روى في الصّافي من الاكمال عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت: أنا أحق منك بالأمر فقاتلها فقتل مقاتليها وأحسن أَسْرُها، وإنّ أبنة أبي بكر ستخرج على عليّ عليه السلام في كذا وكذا ألف من أمتّي فيقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها فيحسن أَسرها، وفيها أنزل الله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) يعني صفراء بنت شعيب، وروى القميّ عن الصّادق عن أبيه عليهما السلام في هذه الآية قال: أي سيكون جاهليّة اخرى، وفي البحار من الكافية من تفسير الكلبي عن ابن عبّاس لمّا علم الله أنّه سيجري حرب الجمل، قال لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) وقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) (2). اشارة إلى حربها مع علي عليه السلام.

حديث ابي الاسود الدؤلي:

لمّا دخل طلحة والزبير بيت المال تأمّلا إلى ما فيه من الذّهب والفضّة قالا: هذه الغنائم التي وعدنا الله بها وأخبرنا أنّه يعجّلها لنا، قال أبو الأسود الدؤلي: وقد سمعت هذا منهما ورأيت عليّاً عليه السلام بعد ذلك وقد دخل بيت مال البصرة فلمّا رأى ما فيه قال: صفراء بيضاء غرّي غيري المال يعسوب

ص: 405


1- الاحزاب - 33.
2- الاحزاب - 30.

الظلمة، وأنا يعسوب المؤمنين، فلا والله ما التفت إلى ما فيه ولا أفكر فيما رآه منه، وما وجدته عنده إلّا كالتراب وهواناً فتعجّبت من القوم ومنه عليه السلام.

هذا ما كان في يوم الجمل ومحاربة الناكثين ... أما محاربة القاسطين والتي كانت بين الامام (علیه السلام) وبين معاوية وعمرو بن العاص في جيش الشام فتسمى وقعة «صفين» واليك ملخصها:

إجتماع عمرو بن العاص ومعاوية

إجتماع عمرو بن العاص (1) ومعاوية (2)

كان عمرو بن العاص من كبار المحرضين على الثورة ضد عثمان وقتله

ص: 406


1- هو: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب السهمي، يكنى: ابا عبد الله ... وأُمه: النابغة بنت حرملة سبية من بني جلان ... واخوه لأمه: عمرو بن أثاثة العدوي، وعقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري. وهو الذي ارسلته قريش الى النجاشي ليسلم اليهم جعفر بن أبي طالب والمسلمين الذين معه، فلم يفعل النجاشي ذلك وقال له: كيف يغرب عنك أمر ابن عمك، فوالله انه لرسول الله حقاً، قال: انت تقول ذلك، قال: اي والله فأطعني فخرج من عنده مهاجراً الى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وقدم عليه هو وخالد بن الوليد. ثم بعثه الرسول اميراً على سرية الى ذات السلاسل. ثم سيّره أبو بكر اميراً على الشام فشهد فتوحه، وولي فلسطين لعمر بن الخطاب. ثم سيّره عمر في جيشه الى مصر فافتتحها ولم يزل والياً عليها إلى ان مات عمر، فأمّره عليها عثمان اربع سنين أو نحوها ثم عزله عنها. ثم سيّره معاوية بعد صفين الى مصر فقتل محمد أبن ابي بكر وهو عامل للأمام علي (علیه السلام)، واستعمله عليها معاوية الى ان مات سنة ثلاث واربعين. ولما حضرته الوفاة قال: «اللهم انك امرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم انزجر».
2- وهو: معاوية بن صخرة بن حرب بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الاموي، وهو معاوية بن أبي سفيان, وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فيجتمع أبوه وامه في عبد شمس ... وكنيته أبو عبد الرحمن. وأسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند في يوم الفتح، وكانوا من المؤلفة قلوبهم. ولما سيّر أبو بكر الجيوش الى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد فلما مات يزيد استخلفه على عمله بالشام، ولما دخل ولما دخل عمر الشام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب، وولاه عثمان الشام جميعه فلما قتل اظهر الطلب بدم عثمان. وتوفي سنة ستين في النصف من شعبان ابن ثمانٍ وسبعين سنة. ولما نزل به الموت قال: ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى، وإني لم آلِ من هذا الأمر شيئاً».

وذلك لأنه عزله من إمارة مصر ... فكان لا يترك نافذة إلا دخل فيها ليؤلب عليه الناس ويشجعهم على قتله ... ولكنه لما اشتد الأمر وأحيط بعثمان من كل جانب سار عن المدينة نحو فلسطين ... وعندما بلغه قتل عثمان قال: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع ... وكان عمرو من الذين يرغبون في تولية الأمر لطلحة وكان يسميه «فتى العرب» ... وكان يكره تولية الأمر لعلي ابن أبي طالب (علیه السلام) اشد كرهاً. فبلغه بيعة علي فاشتد عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنع الناس فأتاه مسیر عائشة وطلحة والزبير، فأقام ينتظر ما يصنعون فأتاه الخبر بوقعة الجمل فأُرتج عليه أمره، فسمع أن معاوية بالشام لا يبايع علياً، وانه يعظم امر عثمان. ومعاوية صاحب دنيا وعلي صاحب آخرة فلذلك كان الأول أحب اليه من الثاني، فدعا ابنيه عبد الله ومحمداً فاستشارهما وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده، وهو يُدلُّ بساقته، وهو غير مشركي في شيء من امره. فقال له ابنه عبد الله: توفي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون، فارى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال له ابنه محمد: أنت ناب من انياب العرب ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت. فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في آخرتي وأسلم لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي.

ثم خرج ومعه ابناه الى معاوية فقال عمر و الى معاوية: أما والله ان قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس ما فيها حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ولكّنا إنّما اردنا هذه الدنيا.

إجتماع عمرو بن العاص (1) ومعاوية (2) ذكر إبتداء وقعة صفين:

لما عاد الامام علي (علیه السلام) من البصرة قصد الكوفة وأرسل الى جرير بن عبد الله البجلي وكان عاملاً على همذان لعثمان، والى الاشعث بن قيس وكان على أذربيجان لعثمان يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده. وأرسل الى معاوية جرير ومعه كتاباً الى معاوية يعلمه بأجتماع المهاجرين والانصار على بيعته. فلما

ص: 407

قدم جرير عليه ماطله واستنظره واستشار عمراً، فأشار عليه ان يجمع أهل الشام ويُلزم علياً دم عثمان ويقاتله بهم ففعل معاوية ذلك. وأقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة، وأن لا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ومَنْ قام دونهم قتلوه. فلما عاد جرير الى امير المؤمنين علي (علیه السلام) أخبره الخبر. ثم كتب جرير إلى معاوية فكتب معاوية اليه يأمره بالقدوم عليه. ثم قدم شرحبيل بن السِّمط الكندي على معاوية فأخبره أمر علي (علیه السلام) فقال: كان امير المؤمنين عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا.

وخرج أمير المؤمنين علي (علیه السلام) فعسكر بالنُخيلة، وتخلف عنه نفر من أهل الكوفة، وقدم عليه عبد الله بن عباس فيمن معه من أهل البصرة. وبلغ ذلك معاوية فأستشار عمراً، فقال إذا سار علي فسر بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك، فتجهز معاوية وتجهز الناس وحضهم عمرو وضعّف علياً وأصحابه وقال: إن أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، ووهنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم، وأهل البصرة مخالفون لعلي بمن قُتل منهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما صار علي في شرذمة قليلة وقد قتل خليفتكم، والله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تطلبوه! وكتَّب معاوية أهل الشام وعقد لواء لعمرو ولواء لابنيه عبد الله ومحمد ولواء لغلامه وردان. وبعث الامام علي (علیه السلام) زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هانىء في أربعة آلاف، وسار الامام علي (علیه السلام) من النخيلة وأخذ معه منّ بالمدائن من المقاتلة، وكان معه نابغة بن جعدة فحدا به يوما فقال:

قد عَلِمَ المصرانِ والعراقُ *** أنّ علياً فحلُها العُتاقُ

أبيض جحجاحٌ له رُواقُ *** إنَّ الأولى جارَوْك لا أفاقوا

لكم سباقٌ ولهم سباقُ *** قد علمتْ ذلكُمُ الرِّفاقُ

ولما وصل أمير المؤمنين علي (علیه السلام) الى الرِّقة قال لأهلها ليعملوا له جَسراً

ص: 408

يعبر عليه الى الشام، فأبوا، وكانوا قد ضموا سفنهم إليهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج وخلفّ عليهم الأشتر (1)، فناداهم الاشتر وقال: أقسم بالله لئن لم تعملوا جسراً يعبر عليه امير المؤمنين لأجرِّدنّ فيكم السيف ولأقتلنّ الرجال ولآخذنّ الاموال، فلقي بعضهم بعضاً وقالوا: إنه الأشتر وإنه قمِنٌ أن يفي لكما بما حلف عليه أو يأتي بأكثر منه. فنصبوا له جسراً وعبر عليه امير المؤمنين وأصحابه. ولما بلغ عليه السلام الفرات دعا زياد بن النضر وشريح بن هانىء فسرحها أمامه، وكان قد أدركاه دون قرقيسيا فلما انتهيا الى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فأرسلا الى امير المؤمنين فأعلماه، فأرسل علي (علیه السلام) الى الأشتر وأمره بالسرعة وقال له: إذا قدمت فأنت عليهم، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك. حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم، ولا يحملك بُغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار اليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زياداً وعلى ميسرتك شُريحاً، ولا تدنُ منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعُد من يهاب البأس، حتى أقدم اليك. ه.

ص: 409


1- مالك الاشتر: هو مالك بن عامر بن هاني بن خفاف ... وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال شعراً يدل فيه على وفادته: أتيت النبي على نأيه *** فبايعته غیر مستنكر وكان من أشراف أهل الكوفة وسيداً مطاعاً في قومه كريماً شجاعاً مقداماً ... وهو أول من عبر نهر دجلة يوم المدائن وقال في ذلك مرتجزاً: امضوا فإن البحر بحر مأمور *** و الأوّل القاطع منكم مأجور قد خاب کسرى وأبوه سابور *** ما تصنعون والحديث مأثور وكان رضوان الله عليه أول الثائرين على ولاة عثمان وهو الذي عزل والي الكوفة آنذاك ... وكان من أشياع الامام امير المؤمنين علي عليه السلام وشهد معه الجمل وصفين ... وفي الجمل بارز مالك عبد الله بن الزبير ووقعا على الأرض يتغالبان فصار مالك فوق عبد الله فصاح باعلى صوته اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي ... وقد ابلى بلاءاً حسناً في الجمل وصفين لبأسه وإقدامه وجلادته.

فسار الأشتر حتى قدم عليهم واتبع ما أمره (علیه السلام) وكفّ عن القتال حتی اذا كان المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فثبتواله واضطربوا ساعة، ثم انصرف أهل الشام وخرج اليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال، وخرج اليه ابو الأعور فاقتتلوا يومين وصبر بعضهم على بعض ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر وقال: أروني أبا الأعور وتزاحفوا فوقفوا حتى حجز الليل بينهم، وعاد الشاميون من الليل وأصبح عليٌّ غدوة عند الأشتر، وتقدم الاشتر ومن معه فانتهى الى معاوية فواقفه، ولحق بهم علي (علیه السلام) فتوافقوا طويلاً.

وكان معاوية أسبق الى اخذ شريعة الفرات، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، فأتى أصحاب علي (علیه السلام) فأخبروه بفعل معاوية وبعطش الناس فأرسل عليه السلام صعصة بن صوحان الى معاوية يقول له: إنّا سرنا سيرنا هذا ونكره قتالكم قبل الأعذار اليكم، وقاتلتنا قبل أن نقاتلك، ونحن من رأينا الكفّ حتى نوعدك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها منعتم الناس عن الماء وهم غير منتهين فليخلِ اصحابك الماء وإلا نقتتل عليه حتى يكون الغالب هو الشارب.

فقال معاوية لأصحابه ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله! فقال عمرو ابن العاص: خلِّ بين القوم وبين الماء وأنهم لن يعطشوا وأنت ريّان، ولكن بغير الماء فانظر بينك وبين الله. وقال صعصة: إنما يمنعه الله الضجرة وشَرَبة الخمر، لعنك الله ولعن هذا الفاسق! يعني الوليد بن عقبة. فشتموه وتهدّدوه.

ثم شدد معاوية رجاله على المشرعة فأرسل الامام (علیه السلام) جيشاً كراراً فأصطدم الجيشان وقاتلا قتالاً شديداً، فقال عبد الله بن عوف الأزدي الأحمري:

خلّوا لنا ماء الفرات الجاري *** أو اثبتوا لجحفلٍ جرّارِ

ص: 410

لكل قوم مستميتٍ شاري *** مطاعنٍ برمحه كرّارِ

ضرّابِ هاماتِ العِدى معَوارِ *** لم يخشَ غيرَ الواحدِ القهّارِ

وقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي اصحاب علي (علیه السلام) فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام! فأرسل علي (علیه السلام) الى اصحابه: أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم، فإنّ الله نصركم ببغيهم وظلمهم.

ثم أرسل الامام علي (علیه السلام) جماعة الى معاوية يدعوه الى طاعة الله، فأبتدأ بشير بن عمرو الانصاري فحمد الله واثنى عليه وقال: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وان الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها ...» فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال ابو عمرو: إن صاحبي ليس مثلك إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الاسلام والقرابة بالرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، قال: فماذا يقول؟ قال: يأمرك بتقوى الله وأن تجيب ابن عمك الى ما يدعوك اليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك! قال معاوية: ونترك دم ابن عفان؟ لا والله لا أفعل ذلك ابداً.

ثم جرى كلام بينه وبينهم حتى قال: انصرفوا من عندي فليس بينكم وبيني إلا السيف. فقال له شَبَث بن ربعي: أتهوِّل بالسيف؟ أقسم بالله لنعجلنّها عليك. فأتوا علياً فأخبروه بذلك فأخذ علي (علیه السلام) يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من اصحابه، ويخرج اليه آخر من اصحاب معاوية ومعه جماعة فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان، فكان الامام علي (علیه السلام) يُخرج مرة الأشتر ومرة حجر بن عدي الكندي ومرة قيس بن سعد الأنصاري، وكان الأشتر اكثرهم خروجاً. واقتتلوا ذي الحجة بكامله ...

ثم دخلت سنة وثلاثين وفي اول شهر منها شهر محرم جرت موادعة بين الامام علي (علیه السلام) ومعاوية حتى ينقضي المحرم طمعاً بالصلح ... واستغل امير المؤمنين هذه الفرصة وابتدأ بارسال الوفود لمعاوية عسى أن يعود الى

ص: 411

رشده ويحقن دماء المسلمين التي تذهب هدراً، ولكنّ معاوية أبي وتكبر، ولم يسمع لغة السلام وبقي متسلحاً بحجته التي اخترعها عمرو بن العاص وهي المطالبة بدم عثمان ...

وبعث معاوية الى زياد بن خصفة فخلا به وقال له: يا أخا ربيعة، إن علياً قطع ارحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر عليه بعشيرتك ثم لك عهد الله وميثاقه أني أوليِّك اذا ظهرتُ أيَّ المصريين أحببتُ فقال زياد: أما بعد فإني على بينة من ربي وما أنعم الله عليّ فلن اكون ظهيراً للمجرمين! وقام. فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلم رجلاً منهم فيجيب الى خير، ما قلوبهم إلا كقلب واحد.

فلما انسلخ المحرم أمر أمير المؤمنين علي (علیه السلام) منادياً ينادي: يا أهل الشام! يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتُنيبوا اليه، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا الى الحق، وإني قد نبذت اليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتبان الكتائب يُعبِّيان الناس، وكذلك فعل امير المؤمنين (علیه السلام) قال للناس: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجة وترككم قتالهم حجة اخرى، فإذا هزمتموهم لا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، واذا وصلتم الى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا شيئاً من اموالهم، ولا تهيجوا إمرأة، وإن شتمن اعراضكن وسبين امراءكم وصُلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس، وجعل عليه السلام على خيل الكوفة الأشتر، وعلى جند البصرة سهل بن حنيف وعلى رجّالة الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجّالة البصرة قيس بن سعد، وهاشم بن عتبة المرقال معه الراية ... وجعل معاوية على الناس كلهم الضحاك بن قيس وبايع رجال من اهل الشام على الموت فعقلوا انفسهم بالعمائم وكانوا خمسة صفوف ... وخرجوا أول يوم من صفر فأقتتلوا قتالاً شديداً وبقي القتال سجالاً ستة أيام يوم يخرج عمار بن ياسر ويوم عبد الله بن عباس ويوم محمد بن الحنفية

ص: 412

ويوم قيس بن سعد ثم قال امير المؤمنين: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام خطيباً فحمد الله واثنى عليه ونصح اصحابه بالصلاة وتلاوة القرآن كثيراً و بالصبر ولقاء الجماعة بالجد والحزم. ثم عبّى الناس ليلته حتى الصباح وزحف بالناس وخرج اليه معاوية في أهل الشام. وزحف الاشتر نحو الميمنة وثاب اليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلا كشفها ولا جمعاً إلا جازه وردّه، ثم زحف بعلّء والأشعرين فأقتتلوا قتالاً شديداً، فأزال أهل الشام عن مواضعهم حتى الحقهم بالصفوف الخمسة المعقّلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقلين بالعمائم حتى انتهوا الى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرسه وركب وكان يقول: اردت ان انهزم فذكرت قول ابن الاطنابة الانصاري وكان جاهلياً:

أبت لي عفتي وأبى بلائي *** وأقدامي على البَطَل المشيح

وإعطائي على المكروه مالي *** وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وقولي كلما جشات و جاشت *** مكانك تُحمدي أو تستريحي

قال: منعني هذا القول من الفرار، ونظر إليّ عمرو وقال: اليوم صبر وغداً فخر فقلت صدقت. وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو اعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. اللهم انك تعلم أني لو اعلم ان رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته. وإني لا اعلم اليوم عملا هو ارضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو اعلم عملاً هو ارضى لك منه لفعلته. وأيم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر لعلمت أنّا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قال: من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع الى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة، فتقدم عمار وهو يقول: اليوم القى الاحبة، محمدا وحزبه. ثم قاتل حتى قُتل. قال حبّة بن جوين: قلت لحذيفة بن اليمان: حدثنا فإنا نخاف الفتن. فقال عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 413

قال: تقتله الفّئة الباغية الناكبة عن الطريق، وإن آخر رزقه ضياح من لبن وهو الممزوج بالماء من اللبن. قال حبّة: فشهدته يوم قُتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي في الدنيا، فأتي بضياح من لبن في قدح اروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حُذيفة مقياس شعرة.

فلما قُتل عمار قال امير المؤمنين (علیه السلام) لربيعة وهمدان: انتم درعي ورمحي فاندب له نحو من اثني عشر وتقدمهم عليه السلام على بغلة فحملوا معه حملة رجل واحد فلم يبقَ لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا اليه حتى بلغوا معاوية. ثم نادى معاوية فقال: علامَ يُقتل الناس بيننا؟ هلّم أحاكمك الى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: أنصفَك. فقال له معاوية: ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال له عمرو: ما يحسن بك ترك مبارزته. فقال له معاوية: طمعتَ فيها بعدي. وقاتل هاشم المرقال قتالاً شديداً حتى رأوا الظفر فأقبلت عليهم عند المغرب كتيبة لتنوخ فقاتلهم هاشم وقتل تسعة أو عشرة ثم طُعن فسقط.

ليلة الهرير:

واقتتل الناس تلك الليلة كلها الى الصباح، فتطاعنوا حتى تقصفت الرماح وتراموا حتى نفذ النبل وأخذوا السيوف، وامير المؤمنين (علیه السلام) يسير فيها بين الميمنة والميسرة ويأمر كل كتيبة أن تقدم على التي تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتى اصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والاشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة، والامام في القلب والناس يقتتلون في كل جانب، وذلك يوم الجمعة. واخذ الأشتر يزهق في الميمنة ويقاتل فيها، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ويقول لاصحابه: ازحفوا قيد هذا الرمح، ويزحف ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك بهم قال: ازحفوا قيد هذه القوس، فاذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى ملّ اكثرهم الأقدام. فلما رأى الأشتر ذلك قال: اعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم! ثم دعا بفرسه وركبه وترك رايته مع حيّان النخعي وخرج يسير في الكتائب ويقول:

ص: 414

مَن يشتري نفسه ويقاتل مع الاشتر، حتى يظهر أو يلحق الله؟ فاجتمع اليه ناس كثير. فحمل على القوم وحمل معهم فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم الى عسكرهم، ثم قاتلوه عن العسكر قتالاً شديداً. ولما رأى امير المؤمنين الظفر من ناحيته آمده بالرجال، فقال عمرو بن العاص لوردان مولاه: اتدري ما مثلي ومثلك ومثل الأشتر؟ قال: لا. قال: كالأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر عقر، لئن تأخرت الأضربنّ عنقك. قال: اما والله يا ابا عبد الله لأوردنك حياض الموت، ضع يدك على عاتقي ثم جعل يتقدم ويتقدم واشتد القتال.

خدعة رفع المصاحف:

فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد، وفاق الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال نعم: قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدتَ فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فُرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل.

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله، عز وجل، بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد اهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم امير المؤمنين (علیه السلام): عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإنّ معاوية وعمراً وابن ابي معيط وحبيباً وابن ابي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة، ووهناً ومكيدة. فقالوا له: لا يسعنا أن نُدعى الى كتاب الله فنأبى ان نقبله! قال (علیه السلام): فإني أنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما امرهم، ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حُصين الطائي، في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي أجب الى كتاب الله، عز وجل، اذا دُعيت

ص: 415

اليه وإلا دفعناك برمتك الى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفّان! قال: فاحفظوا عني نهي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وان تعصوني فأصنعوا ما بدا لكم. قالوا: إبعث الى الأشتر فليأتك، فبعث عليٌّ يزيد بن هانىء يستدعيه. فقال الأشتر: ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك ان تزيليني فيها عن موقفي، إني قد رجوت أن يفتح الله لي! فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت الأصوات، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال علي (علیه السلام) هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلمتّه على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟ قالوا: إبعث اليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك! فقال له: ويلك يا يزيد! قل له: أقبل إليّ فإن الفتنة قد وقعت. فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافاً وفُرقة! إنها مشورة ابن العاهرة! ألا ترى الى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء! وأنصرف عنهم. فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم الى عدوه أو يُقتل؟ قال: لا والله، سبحان الله! فأعلمه بقولهم، فأقبل اليهم الأشتر وقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم الى ما فيها وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنّة من أنزلت عليه؟ فأمهلوني فواقاً فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا. قال: أمهلوني عدو الفرس فإني طمعت في النصر. قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فخبروني عنكم متى كنتم محقين؟ أحين تقاتلون وخياركم يُقتلون؟ فأنتم الآن إن امسكتم عن القتال مبطلون أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار. قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله وندع قتالهم لله! فقال: خُدعتم فانخدعتم ودُعيتم الى وضع الحرب فأجبتهم، يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادة في الدين وشوقاً الى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا للدنيا ألا قبحاً يا أشباه النّيب الجلّالة! ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً فأبعدوا كما بَعُدَ القوم الظالمون! فسبوه وسبهم، فصاح به وبهم الامام (علیه السلام) فكفوا. وقال الناس: قد قبلنا

ص: 416

نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً ...

واتفقوا على أن يكون من كل فريق رجل يرضون به ويعمل الرجلان بكتاب الله. وقد رضي أهل الشام بعمرو بن العاص، وقال الأشعث بن قيس والخوارج: إنّا رضينا بأبي موسى الأشعري. فقال امير المؤمنين (علیه السلام): قد عصيتموني أول الأمر فلا تعصوني الآن، لا أرى أن أولي أبا موسى، انه ليس بثقة، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس ألا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء. قال (علیه السلام): فإني اجعل الأشتر. قالوا: وهل مسعّر الأرض غير الأشتر؟ فقال (علیه السلام): قد أبيتم إلا ابا موسى؟ قالوا: نعم. قالوا: فأصنعوا ما أردتم.

وحضر عمرو بن العاص عند امير المؤمنين (علیه السلام) وكتب القضية بحضوره وشهد على الكتاب ألا شعث وجماعة، وقيل للأشتر ليكتب فيها فقال: لا أخط اسم على صلح أو موادعة أولست على بينة من ربي من ضلال عدوي؟ أولستم قد رأيتم الظفر؟

وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين. واتفقوا على ان يوافي امير المؤمنين علي (علیه السلام) موضع الحكمين بدومة جندل أو بأذرح في شهر رمضان. وقيل له (علیه السلام): ان الأشتر لا يقرّ بما في الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم. قال (علیه السلام): يا ليت فيكم مثله اثنين! يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي ما أرى إذاً لخفَّت عليّ المؤونة ورجوتُ أن يستقيم لي بعض أودَكم وقد نهيتكم فعصيتموني، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:

وهل أنا إلا من غزيَّةَ إنّ غَوَتْ *** غويتُ وإن تَرْشُد غزيّة أرشُدِ

ص: 417

ذكر اجتماع الحكمين

فلما جاء وقت اجتماع الحكمين ارسل امير المؤمنين (علیه السلام) اربعمائة رجل عليهم شُريح بن هانىء الحارثي ومعهم عبد الله بن عباس ليصلي بهم ويلي امورهم، ومعهم ابو موسى.

وأرسل معاوية اربعمائة رجل عليهم عمرو بن العاص حتى في دومة الجندل بأذرح.

فلما اجتمع الحكمان قال عمرو: يا أبا موسى ألستَ تعلم أن عثمان قُتل مظلوماً؟ قال: أشهد، قال: ألستَ تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى. قال: فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمتَ؟ فإن خفتَ أن يقول الناس: ليست له سابقة، فقل وجدته وليَّ عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه الحسن السياسة والتدبير، وهو اخو أُم حبيبة زوج الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وكاتبه وقد صحبه. ثم عرض له بسلطان.

فقال ابو موسی: یا عمرو اتقِ الله! فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصبّاح، انما هو هو لأهل الدين والفضل، مع أني لو كنتُ معطيه أفضل قريش شرفاً اعطيته علي بن أبي طالب، وأما قولك: إن معاوية وليّ دم عثمان فولّه هذا الأمر، فلم أكن لأوليّه وأدع المهاجرين الأوّلين، وأما تعريضك لي بالسلطان، فوالله لو خرج معاوية لي سلطانه كله لما وليّته، وما كنت لأرتشي في حكم الله! ولكنك إن شئت احيينا اسم عمر بن الخطاب.

قال عمرو: فما يمنعك من ابني وانت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة. قال عمرو: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل يأكل ويطعم، فقال: يا ابن العاص إن العرب قد اسندت اليك امرها بعدما تقارعوا بالسيوف فلا ترونهم في فتنة.

وكان عمرو قد عوّد أبا موسى ان يقدمه في الكلام يقول له: انت

ص: 418

صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأسنّ مني فتكلم، وتعود ذلك ابو موسى. فلما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبي وأراد ابو موسى ابن عمر فأبي عمرو، قال له عمرو: خبرني ما رأيك؟ قال: أرى ان نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبّوا. فقال عمرو: الرأي ما رأيت. فأقبلا الى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى اعلمهم أن رأينا قد اتفق. فتكلم ابو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على امر نرجو أن يُصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبر، تقدّم يا أبا موسى فتكلّم. فتقدم ابو موسى، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما اتفقتها على أمر فقدمه فليتكلم به قبلك، ثم تكلم به بعده، فإنه رجل غادر ولا آمن أن يكون قد اعطاك الرضا بينكما فاذا قمت في الناس خالفك. قال أبو موسى: إنّا قد اتفقنا، وقال: ايها الناس إنّا قد نظرنا في امر هذه الأمة فلم نرَ أصلح لأمرها ولا أَلَّم لشعثها من أمر قد اجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية ويولّي الناس أمرهم مَن احبوا، وإني قد خلعت علياً ومعاوية فأستقبلوا امركم وولّوا عليكم من رأيتموه أهلاً. ثم تنحى.

وأقبل عمر و فقام وقال: إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، واثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.

فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايده! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ وافقني على امر ثم نزع عنه! فقال ابن عباس: لا ذنب لك يا أبا موسى، الذنب لمن قدّمك في هذا المقام. قال: غدر فما أصنع؟ فقال ابن عمر: انظروا الى ما صار أمر هذه الأمة! صار إلى رجل ما يبالي ما صنع والى آخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لومات الأشعري قبل هذا اليوم لكان خيراً له.

وقال أبو موسى لعمرو: لا وفقك الله، غدرت وفجرت إنما مثلك:

ص: 419

(كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (1) قال عمرو: إنما مثلك:

قال عمرو: إنما مثلك: (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) (2).

ثم انصرف عمرو وأهل الشام الى معاوية فسلموا عليه بالخلافة.

ورجع ابن عباس وشريح الى امير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام). 5.

ص: 420


1- سورة الاعراف - الآية 176.
2- سورة الجمعة - الآية 5.

حرب المارقين

لما أراد امير المؤمنين عليه السلام أن يبعث ابا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله! فقال امير المؤمنين (علیه السلام): لا حكم إلا لله. قال حرقوص: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا الى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال (علیه السلام): قد اردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً واعطينا عليها عهوداً، وقد قال الله تعالى: (و أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عَاهَدْتُمْ ﴾ (1) فقال حرقوص: ذلك ذَنب يجب ان تتوب منه. فقال (علیه السلام): ما هو ذنب ولكنه عجز عن الرأي وقد نهيتكم. فقال زُرعة: يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنّك أطلب وجه الله تعالى فقال (علیه السلام): بؤساً لك ما أشقاك! كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح! قال: وددت لو كان ذلك. فخرجا من عنده يحكّمان.

وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) يوماً: فقام رجل وقال: لا حكم إلا لله! ثم توالى عدة رجال يحكّمون، فقال (علیه السلام): الله اكبر، كلمة حق أُريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. فوثب يزيد بن عاصم فقال: يا علي أبالقتل تخوّفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مُصفحات، ثم خرج هو وأخوة له ثلاثة.

ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضاً واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب فزهدهم بالدنيا وامرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أمّروه عليهم. وقال زيد بن حصين: سيروا حتى ننزل جسر النهروان وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. ثم كتبوا لهم فأجابوا انهم على اللحاق بهم. ثم خرجت الخوارج من الكوفة، فأتى أصحاب وشيعة امير المؤمنين الى منزله فبايعوه وقالوا: نحن أولياء مَن واليتَ وأعداء من عاديتَ، فشرط لهم سنة الرسول

ص: 421


1- النحل - 128.

(صلی الله علیه و آله و سلم) وأما خوارج البصرة فاجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعرة بن فدكي. وساروا حتى لحقوا بعبد الله بن وهب في النهر.

أما الامام علي (علیه السلام) فأمر أهل الكوفة بالتأهب للمسير الى الشام. وكتب الى الخوارج بالنهر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين الى زيد بن حُصَين وعبد الله بن وهب ومَن معهما من الناس. أما بعدُ فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حَكَمَين قد خالفا كتاب الله واتبعا هواهما بغير هدىً من الله فلم يعملا بالسنة ولم يُنفذا القرآن حُكماً فبرأ الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا فأقلبوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه.

فكتبوا اليه: أما بعدُ فإنك لم تغضب لربك. وإنما غضبت لنفسك، فإن شهوت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.

فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى ان يدعهم ويمضي بالناس حتى يلقى أهل الشام فيناجزهم. وكتب الى ابن عباس: أما بعد، فإنا قد خرجنا الى معسكرنا بالنخيلة وقد اجمعنا على المسير الى عدّونا من أهل المغرب، فأشخص الى الناس حتى يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري، والسلام عليك. فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس وندبهم مع الأحنف بن قيس، فوافوا امير المؤمنين (علیه السلام) وهم ثلاثة آلاف ومائتان.

وكتب الى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال مَنْ عنده من المقاتلة.

قيل: لما أقبل الخوارج من البصرة حتى دنوا من النهروان رأى عصابة منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له: مَنْ أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خَبّاب صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقالوا: افزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن عن أبيك حديثاً سمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) تنفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه

ص: 422

قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يُمسي فيها مؤمناً ويُصبح كافراً، ويُصبح كافراً ويُمسي مؤمناً. قالوا: لهذا الحديث سألناك فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا: ما تقول في عثمان في أوّل خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهدى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحداً. فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبأمرأته، وهي حُبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل فذبحوه، ثم بقروا بطن امرأته وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أُم سنان الصيداوية.

فلما بلغ امير المؤمنين (علیه السلام) قتلهم عبد الله بن خبّاب واعتراضهم الناس، بعث اليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به إليه ولا يكتمه. فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه. وأتى امير المؤمنين (علیه السلام) الخبر والناس معه، فقالوا: يا امير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم فاذا فرغنا منهم سرنا الى عدونا من أهل الشام.

فأجمع امير المؤمنين (علیه السلام) على ذلك وخرج فعبر الجسر وسار اليهم وأرسل لهم (علیه السلام): أن أدفعوا الينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافٍ عنكم حتى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يُقبل بقلوبكم ويردكم الى خير مما أنتم عليه من أمركم، فقالوا: كلنا قتلهم وكلنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم. وخرج اليهم قيس بن سعد بن عُبادة، فقال لهم: عباد الله أخرجوا الينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا الى قتال عدّونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيماً من الأمر، تشهدون علينا بالكفر وتسفكون دماء المسلمين.

وأتاهم أمير المؤمنين علي (علیه السلام) فقال: أيتها العصابة التي اخرجها عداوة المراء واللجاجة! وصدّها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق،

ص: 423

وأصبحت في الخطب العظيم، إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً صرعی بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم إنها مكيدة وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني، فلما فعلتُ شرطتُ واستوثقتُ على الحكَمَينِ أن يجييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهم ونحن على الأمر الأول! فمن أين أُتيتم؟ فقالوا: إنّا حكّمنا فلما حكّمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبتُ فنحن معك ومنك، وإنْ أبيتَ فإنّا منابذوك على سواء. فقال (علیه السلام): أصابكم حاصب، ولا بقي منكم وابر، أبَعْدَ إيماني برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثم انصرف عنهم.

ثم إن الخوارج تنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله، الرواحَ الرواحَ الى الجنة. ثم قصدوا جسر النهروكان غربه ولم يعبروا.

وأعطى الأمام (علیه السلام) أبا أيوب الأنصاري راية الأمان، فناداهم أبو أيوب فقال: مَنْ جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومَنْ لم يقتل ولم يستعرض ومَن انصرف منكم إلى الكوفة أو المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نُصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.

فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه. فانصرف في خمسمائة فارس. وخرجت طائفة اخرى متفرقين فنزلوا الكوفة، وخرج الى امير المؤمنين نحو مائة وكانوا اربعة آلاف، بقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة فزحفوا الى امير المؤمنين (علیه السلام)، وكان قد قال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدأوكم. فتنادى الخوارج الرواحَ الرواحَ الى الجنة وزحفوا على الناس فافترقت خيل الأمام علي (علیه السلام) على فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة، واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من

ص: 424

الميمنة والميسرة. ونهض اليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبثوا أن أناموهم. فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه: أن أنزلوا! فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي وجاءتهم الخيل من نحو الامام علي (علیه السلام) فأهلكوا في ساعة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. قيل: وأخذ ما في عسكرهم، فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والإماء والعبيد فإنه ردّه على أهله حين قدم.

فلم يُقتل من أصحاب امير المؤمنين (علیه السلام) إلا سبعة. وقيل كانت الوقعة سنة ثمانٍ وثلاثين.

ص: 425

الفهرس

المقدمة ... 5

ميلاده عليه السلام ... 9

الاسماء التي سمي بها ... 12

نسبه (علیه السلام) ... 13

الكنى التي اطلقت عليه (علیه السلام) ... 15

ما نودي به من ألقاب ... 17

فصل في علمه ... 34

الشرح ... 43

فصل في مناقبه وفضائله (علیه السلام) ... 43

فصل في اخباره (علیه السلام) عن الغيب ... 57

ذكر بعض مفاخره ... 61

ذكر انه أول من آمن وأسلم ... 74

المنقبة العظمى للإمام (علیه السلام) ... 102

نسبه ... 108

ترجمة السيد الشريف الرضي (ره) ... 108

مؤلفاته ... 109

علمه ... 110

ترفعه عن قبول هدايا ... 11

وفاته ... 113

ما قيل في وفاته ... 113

ما قيل في الثناء على نهج البلاغة ... 119

ذكر الخطبة ... 124

ص: 426

شروح الخطبة ... 138

شرح الخطبة - الفصل الأول ... 145

الفصل الثاني ... 189

الفصل الثالث ... 214

مقتل عمر بن الخطاب ... 219

بیان ... 230

الفصل الرابع ... 241

جواب القاضي عبد الجبار واعتذاره ... 252

ابطال جوابه ... 252

اعتذار القاضي وجوابه ... 260

ما أجاب به القاضي ... 270

اعتراض الشريف ... 271

تبرير القاضي لتعطيل عثمان الحد ... 288

اعتذار واعتراض ... 283

ابو ذر وعثمان ... 289

وداع الإمام (علیه السلام) لأبي ذر ... 294

تبرير القاضي لفعل عثمان والجواب عليه ... 299

استنكار الناس لأعمال عثمان ... 302

محمد بن ابي بكر وعثمان ... 310

حصار أهل الأمصار لعثمان ... 312

مناداة عثمان لطلحة ... 317

انکار طلحة والزبير على عثمان ... 318

كلام عثمان في طلحة ... 318

تحريض عمرو بن العاص على عثمان ... 319

انکار عائشة لأعمال عثمان ... 323

مقتل عثمان ... 325

ص: 427

مدفن عثمان ... 328

تبرير القاضي لأعمال عثمان ... 330

اعتراض الشريف المرتضى على القاضي ... 333

مطاعن القاضي والرد عليه ... 339

الفصل الخامس ... 348

من وحي المناسبة ... 353

بيعة طلحة والزبير علياً (علیه السلام) ... 354

التحقيق في أول خطبة قالها (علیه السلام) ... 359

الناكثان ... 360

الإمام علي (علیه السلام) وعائشة ... 366

خروج عائشة وطلحة والزبير و اتباعهم واشياعهم من مكة الى البصرة ... 369

قتال عثمان بن حنيف مع الناكثين ... 373

نفسية طلحة والزبير ... 377

قتل طلحة ... 402

حديث أبي الأسود الدؤلي ... 405

اجتماع عمرو بن العاص ومعاوية ... 406

ذكر ابتداء وقعة صفين ... 407

ليلة الهرير ... 414

خدعة رفع المصاحف ... 415

ذكر اجتماع الحكمين ... 418

حرب المارقين ... 421

مؤسسة الوفاء - صندوق البريد: 1457 هاتف: 386868 - بيروت

ص: 428

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.